كمال الدين وتمام النعمة - الجزء الثاني

كمال الدين وتمام النعمة
الجزء الثاني

تأليف: الشيخ الجليل الأقدم أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الصدوق (رحمه الله)
المتوفى سنة (381هـ)
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
رقم الإصدار: 258
الطبعة: الأولى 1442هـ

الفهرس

الباب الثالث والثلاثون: ما روي عن الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) من النصِّ على القائم (عليه السلام) وذكر غيبته (وفيه 55 حديثاً)..................3
الباب الرابع والثلاثون: ما روي عن أبي الحسن موسى ابن جعفر [(عليهما السلام)] في النصِّ على القائم (عليه السلام) وغيبته (وفيه 6 أحاديث)..................43
ذكر كلام هشام بن الحَكَم (رضي الله عنه) في هذا المجلس وما آل إليه أمره..................49
الباب الخامس والثلاثون: ما روي عن الرضا عليِّ بن موسى (عليهما السلام) في النصِّ على القائم (عليه السلام) وفي غيبته (وفيه 7 أحاديث)..................59
الباب السادس والثلاثون: ما روي عن أبي جعفر الثاني محمّد بن عليٍّ [الجواد] (عليهما السلام) في [النصِّ على] القائم (عليه السلام) وغيبته (وفيه 3 أحاديث)..................71
الباب السابع والثلاثون: ما روي عن أبي الحسن عليِّ بن محمّد الهادي [(عليهما السلام)] في النصِّ على القائم (عليه السلام) وغيبته (وفيه 10 أحاديث)..................77
الباب الثامن والثلاثون: ما روي عن أبي محمّد الحسن ابن عليٍّ العسكري (عليهما السلام) من وقوع الغيبة بابنه القائم (عليه السلام) (وفيه 9 أحاديث)..................87
ما روي من حديث الخضر (عليه السلام)..................90
ما روي من حديث ذي القرنين..................97
الباب التاسع والثلاثون: في من أنكر القائم الثاني عشر من الأئمَّة (عليهم السلام) (وفيه 15 حديثاً)..................115
الباب الأربعون: ما روي في أنَّ الإمامة لا تجتمع في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام) (وفيه 10 أحاديث)..................123
الباب الحادي والأربعون: ما روي في نرجس أُمِّ القائم (عليه السلام) واسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر المَلِك (وفيه حديث واحد)..................129
الباب الثاني والأربعون: ما روي في ميلاد القائم صاحب الزمان حجَّة الله بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين ابن عليِّ بن أبي طالب (صلوات الله عليهم) (وفيه 17 حديثاً)..................139
ذكر من هنَّأ أبا محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) بولادة ابنه القائم (عليه السلام)..................153
الباب الثالث والأربعون: ذكر من شاهد القائم (عليه السلام) ورآه وكلَّمه (وفيه 25 حديثاً)..................155
الباب الرابع والأربعون: علَّة الغيبة (وفيه 11 حديثاً)..................207
الباب الخامس والأربعون: ذكر التوقيعات الواردة عن القائم (عليه السلام) (وفيه 52 حديثاً)..................213
توقيع من صاحب الزمان (عليه السلام)..................248
الدعاء في غيبة القائم (عليه السلام)..................250
الباب السادس والأربعون: ما جاء في التعمير (وفيه 6 أحاديث)..................265
الباب السابع والأربعون: حديث الدجَّال وما يتَّصل به من أمر القائم (عليه السلام) (وفيه حديثان)..................271
الباب الثامن والأربعون: حديث الظباء بأرض نينوى في سياق هذا الحديث على جهته ولفظه (وفيه حديث واحد)..................283
الباب التاسع والأربعون: في سياق حديث حبابة الوالبيَّة (وفيه حديثان)..................289
الباب الخمسون: سياق حديث معمَّر المغربي أبي الدنيا عليُّ بن عثمان بن الخطَّاب ابن مرَّة بن مؤيَّد (وفيه 10 أحاديث)..................295
الباب الحادي والخمسون: حديث عبيد بن شرية الجرهمي (وفيه حديث واحد)..................309
الباب الثاني والخمسون: حديث الربيع بن الضبع الفزاري (وفيه حديث واحد)..................313
الباب الثالث والخمسون: حديث شقِّ الكاهن (وفيه حديث واحد)..................317
الباب الرابع والخمسون: حديث شدَّاد بن عاد بن إرم، وصفة ﴿إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلَادِ﴾ [وقَصص وأحاديث أُخرى كثيرة]..................321
[ذكر المعمَّرين]..................326
[قصَّة شرية بن عبد الله الجعفي]..................333
[قصَّة الريَّان بن دومغ]..................334
[قصَّة لبيد بن ربيعة الجعفري]..................337
[عمر عوف بن كنانة الكلبي ووصيَّته]..................340
[قصَّة أكثم بن صيفي]..................343
وصيَّة أكثم بن صيفي عند موته..................347
[قصَّة مَلِك الهند]..................351
[وجه إيراد القَصص في الكتاب]..................423
[علَّة الأحرف المقطَّعة في القرآن]..................424
الباب الخامس والخمسون: ما روي في ثواب المنتظر للفرج (وفيه 8 أحاديث)..................429
الباب السادس والخمسون: النهي عن تسمية القائم (عليه السلام) (وفيه 4 أحاديث)..................437
الباب السابع والخمسون: ما روي في علامات خروج القائم (عليه السلام) (وفيه 29 حديثاً)..................441
الباب الثامن والخمسون: في نوادر الكتاب (وفيه 32 حديثاً)..................453
المصادر والمراجع..................485

الباب الثالث والثلاثون: ما روي عن الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) من النصِّ على القائم (عليه السلام) وذكر غيبته وأنَّه الثاني عشر من الأئمَّة (عليهم السلام)

(٣)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلَّى الله على سيِّدنا محمّد وَآله الطاهرين.
قَالَ [الشَّيْخُ الفَقِيهُ] أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ القُمِّيُّ [الفَقِيهُ] مُصَنِّفُ هَذَا الكِتَابِ (رحمه الله):
[242/1] حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ أَيُّوبَ ابْنِ نُوحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الأَئِمَّةِ وَجَحَدَ المَهْدِيَّ كَانَ كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَجَحَدَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نُبُوَّتَهُ»، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِكَ؟ قَالَ: «الخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ، يَغِيبُ عَنْكُمْ شَخْصُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ تَسْمِيَتُهُ»(1).
[243/2] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّيْتُونِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي الهَيْثَمِ بْنِ أَبِي حَبَّةَ(2)، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا اجْتَمَعَتْ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ مُتَوَالِيَةً: مُحَمَّدٌ، وَعَلِيٌّ، وَالحَسَنُ، فَالرَّابِعُ القَائِمُ»(3).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 234).
(2) كذا، وفي بعض النُّسَخ: (أبي الهيثم بن أبي نجيَّة)، وفي بعضها: (أبي الحيَّة)، ولم أجده، ويحتمل بعيداً كونه مصحَّف إبراهيم بن أبي حبَّة اليسع بن سعد المكّي الذي عنونه الشيخ في رجال الصادق (عليه السلام)، وقال: ضعيف. (رجال الطوسي: ص 158/ الرقم 1763/67). أو كونه الهيثم ابن عروة التميمي الكوفي الثقة. ولفظ (أبي) من زيادات النُّسَّاخ، ويُؤيِّد الثاني ذكره مع النسبة في الخبر الآتي تحت الرقم (244/3).
(3) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 113 و114/ ح 101)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 233/ ح 201).

(٥)

[244/3] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَابُنْدَاذَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ عَلِيٍّ القَيْسِيُّ، عَنْ أَبِي الهَيْثَمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا تَوَالَتْ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: مُحَمَّدٌ، وَعَلِيٌّ، وَالحَسَنُ، كَانَ رَابِعُهُمْ قَائِمُهُمْ»(4).
[245/4] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّقَّاقُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الكُوفِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَمِّهِ الحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام)، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، لَوْ عَهِدْتَ إِلَيْنَا فِي الخَلَفِ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ لِي: «يَا مُفَضَّلُ، الإِمَامُ مِنْ بَعْدِي ابْنِي مُوسَى، وَالخَلَفُ المَأْمُولُ المُنْتَظَرُ (م ح م د) بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى».
[246/5] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ البَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِنَانٍ وَأَبِي عَلِيٍّ الزَّرَّادِ جَمِيعاً، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الكَرْخِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ (عليهما السلام) وَإِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَهُ إِذْ دَخَلَ أَبُو الحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) وَهُوَ غُلَامٌ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقَبَّلْتُهُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا إِبْرَاهِيمُ، أَمَا إِنَّهُ [لَ]صَاحِبُكَ مِنْ بَعْدِي، أَمَا لَيَهْلِكَنَّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَيَسْعَدُ [فِيهِ] آخَرُونَ، فَلَعَنَ اللهُ قَاتِلَهُ وَضَاعَفَ عَلَى رُوحِهِ العَذَابَ، أَمَا لَيُخْرِجَنَّ اللهُ مِنْ صُلْبِهِ خَيْرَ أَهْلِ الأَرْضِ فِي زَمَانِهِ، سَمِيَّ جَدِّهِ وَوَارِثَ عِلْمِهِ وَأَحْكَامِهِ وَفَضَائِلِهِ، [وَ]مَعْدِنَ الإِمَامَةِ، وَرَأْسَ الحِكْمَةِ، يَقْتُلُهُ جَبَّارُ بَنِي فُلَانٍ، بَعْدَ عَجَائِبَ طَرِيفَةٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4) رواه المسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 268)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 189/ باب 10/ فصل 4/ ذيل الحديث 34)، والخزَّاز في كفاية الأثر (ص 285)، والطبري في دلائل الإمامة (ص 447/ ح 422/26) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(٦)

حَسَداً لَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ [(عزَّ وجلَّ)] بالِغُ أَمْرِهِ ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ، يُخْرِجُ اللهُ مِنْ صُلْبِهِ تَكْمِلَةَ اثْنَيْ عَشَرَ(5) إِمَاماً مَهْدِيًّا، اخْتَصَّهُمُ اللهُ بِكَرَامَتِهِ وَأَحَلَّهُمْ دَارَ قُدْسِهِ، المُنْتَظِرُ لِلثَّانِي عَشَرَ مِنْهُمْ(6) كَالشَّاهِرِ سَيْفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَذُبُّ عَنْهُ».
قَالَ: فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ مَوَالِي بَنِي أُمَيَّةَ، فَانْقَطَعَ الكَلَامُ، فَعُدْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً أُرِيدُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَتِمَّ الكَلَامَ فَمَا قَدَرْتُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ قَابِلُ - السَّنَةِ الثَّانِيَةِ(7) - دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَقَالَ: «يَا إِبْرَاهِيمُ، هُوَ المُفَرِّجُ لِلْكَرْبِ عَنْ شِيعَتِهِ بَعْدَ ضَنْكٍ شَدِيدٍ، وَبَلَاءٍ طَوِيلٍ، وَجَزَعٍ وَخَوْفٍ، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ، حَسْبُكَ يَا إِبْرَاهِيمُ»، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَمَا رَجَعْتُ بِشَيْءٍ أَسَرَّ مِنْ هَذَا لِقَلْبِي وَلَا أَقَرَّ لِعَيْنِي(8).
[247/6] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ(رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَبِي طَالِبٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّلْتِ القُمِّيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى، عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو بَصِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ مَوْلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي مَنْزِلٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ عِمْرَانَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «نَحْنُ اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا(9)»، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَصِيرٍ: تَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتَ ذَلِكَ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)؟ فَحَلَفَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: لَكِنِّي سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)(10).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5) في بعض النُّسَخ: (تمام اثني عشر).
(6) في بعض النُّسَخ: (المقرُّ بالثاني عشر منهم).
(7) كذا.
(8) رواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 92/ باب 4/ ح 21)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 234 و235).
(9) في بعض النُّسَخ: (محدَّثاً).
(10) رواه المصنِّف (رحمه الله) في الخصال (ص 478/ ح 45)، وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 59 و60/ ح 23)، الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص 339/ ج 7/ باب 5/ ح 2)، والكليني(رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 534/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (عليهم السلام)/ ح 20)، والكراجكي (رحمه الله) في الاستنصار (ص 17 و18)، وفي الجميع: (نحن اثنا عشر محدَّثاً).

(٧)

وحدَّثنا بمثل هذا الحديث محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن الحسن الصفَّار، عن أبي طالب عبد الله بن الصلت القمِّي، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران مثله سواء.
[248/7] حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ الزَّيَّاتِ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مُوسَى الخَشَّابِ، عَنِ ابْنِ سَمَاعَةَ(11)، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحَسَنِ بْنِ رِبَاطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نُوراً قَبْلَ خَلْقِ الخَلْقِ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ الفَ عَامٍ، فَهِيَ أَرْوَاحُنَا»، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَمَنِ الأَرْبَعَةَ عَشَرَ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ وَالأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ، آخِرُهُمُ القَائِمُ الَّذِي يَقُومُ بَعْدَ غَيْبَتِهِ، فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيُطَهِّرُ الأَرْضَ مِنْ كُلِّ جَوْرٍ وَظُلْمٍ»(12).
[249/8] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنعام: 158]، فَقَالَ (عليه السلام): «الآيَاتُ هُمُ الأَئِمَّةُ، وَالآيَةُ المُنْتَظَرَةُ القَائِمُ (عليه السلام)، فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ قِيَامِهِ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ آمَنَتْ بِمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)»(13).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(11) في بعض النُّسَخ: (عليّ بن سماعة).
(12) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 196 و197).
(13) رواه ابن بابويه (رحمه الله) بسند متفاوت في أوَّله في الإمامة والتبصرة (ص 128/ ح 130).

(٨)

[250/9] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ القَطَّانُ(14) وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّقَّاقُ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ وَعَبْدُ اللهِ [بْنُ] مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ (رضي الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا القَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ بُهْلُولٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الهُذَيْلِ(15): وَسَألتُهُ عَنِ الإِمَامَةِ فِيمَنْ تَجِبُ؟ وَمَا عَلَامَةُ مَنْ تَجِبُ لَهُ الإِمَامَةُ؟ فَقَالَ لِي: «إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ وَالحُجَّةَ عَلَى المُؤْمِنِينَ وَالقَائِمَ فِي أُمُورِ المُسْلِمِينَ وَالنَّاطِقَ بِالقُرْآنِ وَالعَالِمَ بِالأَحْكَامِ أَخُو نَبِيِّ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَخَلِيفَتُهُ عَلَى أُمَّتِهِ وَوَصِيُّهُ عَلَيْهِمْ، وَوَلِيُّهُ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى المَفْرُوضُ الطَّاعَةِ، يَقُولُ اللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، وَقَالَ (جَلَّ ذِكْرُهُ): ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: 55]، المَدْعُوُّ إِلَيْهِ بِالوَلَايَةِ، المُثْبَتُ لَهُ الإِمَامَةُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ بِقَوْلِ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَنِ اللهِ (جلّ جلاله): أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَأَعِنْ مَنْ أَعَانَهُ، ذَاكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، وَإِمَامُ المُتَّقِينَ، وَقَائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، وَأَفْضَلُ الوَصِيِّينَ، وَخَيْرُ الخَلْقِ أَجْمَعِينَ بَعْدَ رَسُولِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَبَعْدَهُ الحَسَنُ ثُمَّ الحُسَيْنُ سِبْطَا رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ابْنَا خِيَرَةِ النِّسْوَانِ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(14) لعلَّه العطَّار فصُحِّف.
(15) عبد الله بن أبي الهذيل الغنري أبو المغيرة الكوفي، عامّيٌّ من التابعين، يروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وعبد لله بن مسعود وعمَّار بن ياسر وخبَّاب الأرت وغيرهم من الصحابة، وكان عثمانيًّا تُوفِّي في ولاية خالد القسري، وروايته هذا عن الصادق (عليه السلام) بعيد جدًّا وإنْ أدرك أيَّامه، كما أنَّ رواية تميم عنه (عليه السلام) بواسطة واحدة لم تُعهَد في كُتُب الصدوق (رحمه الله)، واحتمال تعدُّد عبد الله بن أبي الهذيل أو أنَّ القول له بعيد. والسند في بحار الأنوار (ج 36/ ص 396/ ح 1) أيضاً كما في المتن.

(٩)

مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الحَسَنُ ابْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ ابْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ) إِلَى يَوْمِنَا هَذَا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، إِنَّهُمْ عِتْرَةُ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَعْرُوفُونَ بِالوَصِيَّةِ وَالإِمَامَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، وَكُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ، وَإِنَّهُمُ العُرْوَةُ الوُثْقَى، وَأَئِمَّةُ الهُدَى، وَالحُجَّةُ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَإِنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَهُمْ ضَالٌّ مُضِلٌّ تَارِكٌ لِلْحَقِّ وَالهُدَى، وَإِنَّهُمُ المُعَبِّرُونَ عَنِ القُرْآنِ، وَالنَّاطِقُونَ عَنِ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالبَيَانِ، وَإِنَّ مَنْ مَاتَ وَلَا يَعْرِفُهُمْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَإِنَّ فِيهِمُ الوَرَعَ وَالعِفَّةَ وَالصِّدْقَ وَالصَّلَاحَ وَالاِجْتِهَادَ، وَأَدَاءَ الأَمَانَةِ إِلَى البَرِّ وَالفَاجِرِ، وَطُولَ السُّجُودِ، وَقِيَامَ اللَّيْلِ، وَاجْتِنَابَ المَحَارِمِ، وَانْتِظَارَ الفَرَجِ بِالصَّبْرِ، وَحُسْنَ الصُّحْبَةِ، وَحُسْنَ الجِوَارِ»(16).
ثمّ قال تميم بن بهلول: حدَّثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) في الإمامة بمثله سواء.
[251/10] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العِبَادُ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَأَرْضَى مَا يَكُونُ عَنْهُمْ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّةَ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَكَانِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ تَبْطُلْ حُجَجُ اللهِ [عَنْهُمْ وَبَيِّنَاتُهُ]، فَعِنْدَهَا فَتَوَقَّعُوا الفَرَجَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَإِنَّ أَشَدَّ مَا يَكُونُ غَضَبُ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَعْدَائِهِ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّةَ اللهِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَا يَرْتَابُونَ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ لَمَا غَيَّبَ عَنْهُمْ حُجَّتَهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16) رواه المصنِّف (رحمه الله) في الخصال (ص 478 و479/ ح 46)، وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 57 - 59/ ح 20).

(١٠)

إِلَّا عَلَى رَأْسِ شِرَارِ النَّاسِ»(17)،(18).

 

(17) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 123/ ح 120)، ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 333/ باب نادر في حال الغيبة/ ح 1)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 165 و166/ باب 10/ فصل 3/ ح 1 و2) بسندين، والحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص 430)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 457/ ح 468).
(18) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 238 و239): (قوله: «أقرب ما يكون العباد» دلَّ على أنَّ أقرب العباد منه تعالى في زمان غيبة الإمام إذا كانوا عارفين بحقِّه أزيد وأكمل، ورضاه تعالى عنهم، وإضافة الرحمة عليهم إذا كانوا تابعين له أعظم وأشمل، وذلك ليتمهم وانتظارهم وتحسُّرهم وأسرهم وخوفهم على الأنفس والأموال من تغلُّب الكُفَّار وتسلُّط الأشرار عليهم، ولأنَّ الإيمان بالغيب دلَّ على ضياء عقولهم ولطف قرائحهم ولينة طبائعهم وصفاء عقيدتهم وكمال هدايتهم، وكلُّ ذلك موجب لزيادة القرب من الحقِّ وكمال رضاه. وفي طُرُق العامَّة عن ابن مسعود قال: إنَّ أمر محمّد كان بيِّناً لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثمّ تلا قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]، قال الطيِّبي: معنى هذا الحديث مخرَّج في سُنَن الدارمي عن أبي عبيدة بن الجرَّاح، قال: يا رسول الله، أحد خير منَّا، أسلمنا وجاهدنا معك، قال: «نعم هم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولا يروني». وأنت خبير بأنَّ هذا الحكم غير مختصٍّ بالنبيِّ، بل يجري في إمام بعده. قوله: «يعلمون أنَّه لم تبطل حجَّة الله» أي يعلمون بالبراهين العقليَّة والأحاديث النبويَّة أنَّه لم تبطل حجَّة الله (عزَّ ذكره) في الأرض ولا ميثاقه وعهده في الحجَّة، بل هما باقيان في الخلق ودائمان فيهم ما دامت الدنيا، فلذلك يؤمنون بالإمام وإنْ لم يروه، ويعتقدون بوجوده وإنْ لم يشاهدوه. قوله: «فتوقَّعوا الفرج صباحاً ومساءً» لوجوب ظهوره في وقت ما لدفع الظلم والجور ونصرة دين الحقِّ وأهله، ولكن لـمَّا لم نعلم ذلك الوقت بخصوصه واحتمل كلُّ جزء من أجزاء الزمان أنْ يكون ذلك الوقت لا بدَّ لنا من توقُّع الفرج في جميع الأوقات، وإنَّما ذكر الصباح والمساء لشيوعهما في التعارف وإحاطتهما بسائر الأوقات. قوله: «فإنَّ أشدّ ما يكون» دليل لتوقُّع الفرج، ولعلَّ وجه ذلك مع أنَّ الظاهر أنْ يكون الغضب عليهم عند ظهور الحجَّة وعدم إيمانهم به أشدّ وأجدر ولحقوق النكال بهم أحرى وأظهر لكون الحجَّة عليهم حينئذٍ أقوى وأكمل من عدم ظهوره بسبب سوء صنيعهم وإعوجاج طبيعتهم حتَّى حرم المستعدُّون للهداية والقابلون للفهم والدراية عن مشاهدة جماله وملاحظة كماله، فلذلك كان الغضب عليهم حال الغيبة أشدّ.
قوله: «وقد علم أنَّ أولياءه» أي أولياء الحجَّة، وهذا دفع لما عسى أنْ يقال من أنَّ إخفاء الحجَّة موجب لإضلال الخلق ورفع اللطف عنهم ولا يجوز شيء من ذلك، ووجه الدفع ظاهر، وحاصله أنَّ ذلك إنَّما يلزم لو كان أحد من أوليائه يرتاب فيه بعد الغيبة وليس كذلك، فلا مفسدة في الغيبة وإنَّما هي محض المصلحة وهي حفظ النفس المعصومة أو غيرها. قوله: «ولا يكون ذلك إلَّا على رأس شرار الناس» دلَّ على أنَّ ظهوره لا يكون إلَّا عند فشو الشرِّ في الناس وبعد الخير عنهم، وقد دلَّ على ذلك أيضاً، بل على تعيين الشرور والمفاسد بعض الروايات).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 18 - 20): («أقرب ما يكون العباد» لعلَّ ما مصدريَّة وكان تامة ومن صلة لأقرب، أي أقرب أحوال كونهم ووجودهم من الله وأرضى أحوال رضي الله عنهم. «إذا افتقدوا» خبر، ونسبة القرب والرضا إلى الأحوال مجاز، وقيل: أقرب مبتدأ مضاف إلى ما ومدخولها، والعباد اسم يكون، وخبره محذوف بتقدير قريبين، ومن صلة قريبين، ونسبة القرب إلى كونهم قريبين للمبالغة، نظير جدَّ جدُّه. «وأرضى ما يكون» بتقدير: أرضي ما يكون راضياً، والضمير المستتر لله. «وإذا» ظرف مضاف إلى الجملة، وهو خبر المبتدأ. «افتقدوا حجَّة الله» أي لم يجدوه ولم يظهر لهم، والعطف للتفسير، «وهم» الواو للحال، «في ذلك» الزمان «يعلمون أنَّه لم تبطل حجَّة الله (جلَّ ذكره)» بنصب الإمام، «ولا ميثاقه» على الخلق بالإقرار بالإمام، وقيل: إشارة إلى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ﴾ [الأعراف: 169]. وإنَّما كانوا أقرب وأرضى لكون الإيمان عليهم أشدّ والشُّبَه عليهم أقوى، لعدم رؤيتهم الأئمَّة (عليهم السلام) ومعجزاتهم، وإنَّما يؤمنون بالنظر في البراهين والتفكُّر في الآثار والأخبار، لاسيّما مع امتداد غيبة الإمام (عليه السلام) وعدم وصول خبره عليهم في الغيبة الكبرى، وكثرة وساوس شياطين الجنِّ والإنس في ذلك. «فعندها» أي عند حصول تلك الحالة. «توقَّعوا» أي انتظروا الفرج، وهو التفصِّي من الهمِّ والغمِّ بظهور الإمام (عليه السلام)، فإنَّه لـمَّا لم يُوقَّت لكم فكلُّ وقت من الأوقات يحتمل ظهوره فلا تيأسوا من رحمة الله، وادعوا لتعجيل الفرج وانتظروه في جميع الأزمان، فإنَّه قد شاع في التعبير عن جميع الأزمان بهذين الوقتين. ويحتمل أنْ يكون المراد بالفرج إحدى الحسنيين، إمَّا لقاء الله أو ظهور الحجَّة...)، إلى أنْ قال: («ولا يكون ذلك» أي ظهور الإمام إلَّا إذا فسد الزمان غاية الفساد كما ورد في أخبار كثيرة أنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئَت ظلماً وجوراً. ويحتمل أنْ يكون ذلك إشارة إلى أنَّ الغضب ذبة مختصٌّ بالشرار تأكيداً لما مرَّ، والأوَّل أظهر).

(١١)

[252/11] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، قَالَ: قَالَ المُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ

(١٢)

جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ مُنْتَظِراً لِهَذَا الأَمْرِ كَانَ كَمَنْ كَانَ مَعَ القَائِمِ فِي فُسْطَاطِهِ، لَا بَلْ كَانَ كَالضَّارِبِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالسَّيْفِ»(19).
[253/12] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّقَّاقُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الكُوفِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ الآدَمِيِّ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ العَبْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الصَّادِقُ (عليه السلام): «مَنْ أَقَرَّ بِالأَئِمَّةِ مِنْ آبَائِي وَوُلْدِي وَجَحَدَ المَهْدِيَّ مِنْ وُلْدِي كَانَ كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَجَحَدَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نُبُوَّتَهُ»، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، وَمَنِ المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِكَ؟ قَالَ: «الخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ، يَغِيبُ عَنْكُمْ شَخْصُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ تَسْمِيَتُهُ».
[254/13] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ العَاصِمِيُّ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ القَاسِمِ بْنِ أَيُّوبَ(20)، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الصَّائِغِ(21)، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مِنَّا اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا، مَضَى سِتَّةٌ وَبَقِيَ سِتَّةٌ، يَصْنَعُ اللهُ بِالسَّادِسِ مَا أَحَبَّ(22)»(23).
[255/14] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدٍ الهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ العَاصِمِيُّ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ القَاسِمِ بْنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 122/ ح 118).
(20) هو الحسين بن القاسم بن محمّد بن أيُّوب بن شمون، أبو عبد الله الكاتب، وكان أبوه من أجلَّة أصحابنا: (رجال النجاشي: ص 66/ الرقم 157). قال ابن الغضائري: (ضعَّفوه، وهو عندي ثقة، ولكن البحث فيمن يروي عنه) (رجال ابن الغضائري: ص 110/ الرقم 161/2).
(21) هو ثابت بن شريح أبو إسماعيل الصائغ الأنباري مولى الأزد، ثقة. وفي النُّسَخ: (ثابت الصبَّاغ)، وفي بعضها: (الصباح)، وكلاهما تصحيف.
(22) في بعض النُّسَخ: (في السادس ما أحبَّ).
(23) رواه المصنِّف (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 69/ ح 37)، وابن عقدة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) (ص 155/ ح 153).

(١٣)

أَيُّوبَ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ وُهَيْبٍ، عَنْ ذَرِيحٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «مِنَّا اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا».
[256/15] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدٍ الهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ عِيسَى، عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو بَصِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ مَوْلَى أَبِي جَعْفَرٍ فِي مَنْزِلٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «نَحْنُ اثْنَا عَشَرَ مُحَدَّثُونَ(24)»، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، فَحَلَفَ مَرَّتَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ(25).
[257/16] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ البَرْقِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العِبَادُ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَأَرْضَى مَا يَكُونُ عَنْهُمْ إِذَا فَقَدُوا حُجَّةَ اللهِ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَكَانِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ تَبْطُلْ حُجَجُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَلَا بَيِّنَاتُهُ، فَعِنْدَهَا فَتَوَقَّعُوا الفَرَجَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَإِنَّ أَشَدَّ مَا يَكُونُ غَضَبُ اللهِ عَلَى أَعْدَائِهِ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّتَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَا يَرْتَابُونَ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ مَا غَيَّبَ عَنْهُمْ حُجَّتَهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى رَأْسِ شِرَارِ النَّاسِ»(26).
[258/17] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنِ الحَسَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(24) في بعض النُّسَخ: (اثنا عشر مهديًّا).
(25) قد مرَّ قريباً منه تحت الرقم (247/6)، فراجع.
(26) قد مرَّ تحت الرقم (251/10)، فراجع.

(١٤)

العَبْدُ إِلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَأَرْضَى مَا يَكُونُ عَنْهُ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّةَ اللهِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ، وَحُجِبَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَكَانِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ حُجَجُ اللهِ وَلَا بَيِّنَاتُهُ، فَعِنْدَهَا فَلْيَتَوَقَّعُوا الفَرَجَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَإِنَّ أَشَدَّ مَا يَكُونُ غَضَباً عَلَى أَعْدَائِهِ إِذَا أَفْقَدَهُمْ حُجَّتَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَا يَرْتَابُونَ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ [لَ]مَا أَفْقَدَهُمْ حُجَّتَهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ».
[259/18] حَدَّثَنَا أَبِي [وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ] (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ[مَا])، قَالَـ[ا]: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا المُعَلَّى بْنُ مُحَمَّدٍ البَصْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ [مُحَمَّدِ] بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «فِي القَائِمِ سُنَّةٌ(27) مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام)»، فَقُلْتُ: وَمَا سُنَّةُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ؟ فَقَالَ: «خَفَاءُ مَوْلِدِهِ، وَغَيْبَتُهُ عَنْ قَوْمِهِ»، فَقُلْتُ: وَكَمْ غَابَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ (عليه السلام) عَنْ قَوْمِهِ وَأَهْلِهِ؟ فَقَالَ: «ثَمَانِيَ وَعِشْرِينَ سَنَةً»(28).
[260/19] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ دَاوُدَ بْنِ كَثِيرٍ الرَّقِّيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]، قَالَ: «مَنْ أَقَرَّ بِقِيَامِ القَائِمِ أَنَّهُ حَقٌّ».
[261/20] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّقَّاقُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الحُسَيْنِ ابْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ(29)، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي القَاسِمِ، قَالَ: سَالتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(27) في بعض النُّسَخ: (شبه)، وكذا ما يأتي.
(28) قد مرَّ تحت الرقم (14/3)، فراجع.
(29) هو عليُّ بن أبي حمزة - سالم - البطائني، بقرينة روايته عن يحيى أبي بصير، ورواية الحسين بن يزيد عنه. وكان أحد عمد الواقفة، قال عليُّ بن الحسن بن فضَّال: إنَّه كذَّاب واقفي متَّهم ملعون. وقال ابن الغضائري: (عليُّ بن أبي حمزة أصل الوقف وأشدُّ الخلق عداوةً للوليِّ بعد أبي إبراهيم (عليه السلام) (يعنى الرضا (عليه السلام))) (رجال ابن الغضائري: ص 83/ الرقم 107/32). وأمَّا يحيى بن أبي القاسم فهو أبو بصير المكفوف، ولعلَّ الصواب: (يحيى بن القاسم)، وعليُّ بن أبي حمزة هو قائده.

(١٥)

الصَّادِقَ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ [البقرة: 1 - 3]، فَقَالَ: «المُتَّقُونَ شِيعَةُ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وَالغَيْبُ فَهُوَ الحُجَّةُ الغَائِبُ».
وَشَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَيَقُولُونَ لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ﴾ [يونس: 20](30).
[262/21] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ سَدِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ فِي القَائِمِ شَبَهٌ(31) مِنْ يُوسُفَ (عليه السلام)»، قُلْتُ: كَأَنَّكَ تَذْكُرُ خَبَرَهُ أَوْ غَيْبَتَهُ؟ فَقَالَ لِي: «مَا تُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةُ أَشْبَاهُ الخَنَازِيرِ، إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا أَسْبَاطاً أَوْلَادَ أَنْبِيَاءَ، تَاجَرُوا يُوسُفَ وَبَايَعُوهُ وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَهُوَ أَخُوهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الأُمَّةُ أَنْ يَكُونَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ يُرِيدُ أَنْ يَسْتُرَ حُجَّتَهُ(32)، لَقَدْ كَانَ يُوسُفُ (عليه السلام) إِلَيْهِ مُلْكُ مِصْرَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَلَوْ أَرَادَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يُعَرِّفَهُ مَكَانَهُ لَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَاللهِ لَقَدْ سَارَ يَعْقُوبُ وَوُلْدُهُ عِنْدَ البِشَارَةِ مَسِيرَةَ تِسْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ بَدْوِهِمْ إِلَى مِصْرَ، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الأُمَّةُ أَنْ يَكُونَ اللهُ (عزَّ وجلَّ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(30) وكما يظهر من سياق الآيات المراد بالآية العذاب. وقوله: ﴿فَانْتَظِرُوا...﴾ الآية، أي فانتظروا العذاب وإنِّي معكم كذلك. ولا ينبغي تأويل العذاب بالحجَّة (عليه السلام). وقوله: (وشاهد ذلك) من كلام الصدوق (رحمه الله) لا من تتمَّة الحديث كما نصَّ عليه العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج52/ ص 124). ولم يُعهَد في كلام أحد من المعصومين (عليهم السلام) نقل الشاهد لكلامهم في نظير هذا.
(31) في بعض النُّسَخ: (سُنَّة).
(32) في بعض النُّسَخ: (يُبيِّن حجَّته).

(١٦)

يَفْعَلُ بِحُجَّتِهِ مَا فَعَلَ بِيُوسُفَ أَنْ يَكُونَ يَسِيرُ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَيَطَأُ بُسُطَهُمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ، حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يُعَرِّفَهُمْ بِنَفْسِهِ كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي﴾ [يوسف: 89 و90]»(33).
[263/22] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مِهْرَانَ الجَمَّالِ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام): «أَمَا وَاللهِ لَيَغِيبَنَّ عَنْكُمْ مَهْدِيُّكُمْ حَتَّى يَقُولَ الجَاهِلُ مِنْكُمْ مَا لِلهِ فِي آلِ مُحَمَّدٍ حَاجَةٌ، ثُمَّ يُقْبِلُ كَالشِّهَابِ الثَّاقِبِ فَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً».
[264/23] حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ حَيَّانٍ السَّرَّاجِ، عَنِ السَّيِّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الحِمْيَرِيِّ - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ - يَقُولُ فِيهِ: قُلْتُ لِلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام): يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، قَدْ رُوِيَ لَنَا أَخْبَارٌ عَنْ آبَائِكَ (عليهم السلام) فِي الغَيْبَةِ وَصِحَّةِ كَوْنِهَا، فَأَخْبِرْنِي بِمَنْ تَقَعُ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّ الغَيْبَةَ سَتَقَعُ بِالسَّادِسِ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ الأَئِمَّةِ الهُدَاةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أَوَّلُهُمْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخِرُهُمُ القَائِمُ بِالحَقِّ، بَقِيَّةُ اللهِ فِي الأَرْضِ، وَصَاحِبُ الزَّمَانِ، وَاللهِ لَوْ بَقِيَ فِي غَيْبَتِهِ مَا بَقِيَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَظْهَرَ فَيَمْلَأَ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(34).
[265/24] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(33) قد مرَّ ذكر مصادره تحت الرقم (11/3)، فراجع.
(34) راجع ما مرَّ في (ج 1/ ص 52).

(١٧)

ابْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى الكِلَابِيِّ، عَنْ خَالِدِ ابْنِ نَجِيحٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِلْقَائِمِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ»، قُلْتُ لَهُ: وَلِـمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ -»، ثُمَّ قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، وَهُوَ المُنْتَظَرُ، وَهُوَ الَّذِي يَشُكُّ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ حَمْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ غَائِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا وُلِدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وُلِدَ قَبْلَ وَفَاةِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ الشِّيعَةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ المُبْطِلُونَ».
قَالَ زُرَارَةُ: فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَإِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَأَيَّ شَيْءٍ أَعْمَلُ؟ قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، إِنْ أَدْرَكْتَ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَأَدِمْ هَذَا الدُّعَاءَ(35): اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي».
ثُمَّ قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، لَا بُدَّ مِنْ قَتْلِ غُلَامٍ بِالمَدِينَةِ»، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَلَيْسَ يَقْتُلُهُ جَيْشُ السُّفْيَانِيِّ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ جَيْشُ بَنِي فُلَانٍ، يَخْرُجُ حَتَّى يَدْخُلَ المَدِينَةَ، فَلَا يَدْرِي النَّاسُ فِي أَيِّ شَيْءٍ دَخَلَ، فَيَأْخُذُ الغُلَامَ فَيَقْتُلُهُ(36)، فَإِذَا قَتَلَهُ بَغْياً وَعُدْوَاناً وَظُلْماً لَمْ يُمْهِلْهُمُ اللهُ (عزَّ وجلَّ)، فَعِنْدَ ذَلِكَ فَتَوَقَّعُوا الفَرَجَ»(37)،(38).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(35) في بعض النُّسَخ: (فالزم هذا الدعاء).
(36) في الخبر الذي مرَّ تحت الرقم (240/16): (قتل غلام من آل محمّد بين الركن والمقام، اسمه محمّد ابن الحسن النفس الزكيَّة). ولعلَّ هذا الغلام غيره، فتأمَّل.
(37) روى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 5)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 170 و171/ باب 10/ فصل 3/ ح 6)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 333 و334/ ح 279).
(38) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول: (ج 4/ ص 39 - 42): («وأومأ بيده إلى بطنه» أي لو ←

(١٨)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

→ ظهر لشُقَّ بطنه، وقيل: إلى بطنه يعني جسده، أي يخاف قتل نفسه. «وهو المنتظر» على بناء المفعول، أي ينتظره المؤمنون. «ومنهم من يقول: حمل» أي عند موت أبيه حمل لم يُولَد بعد، كما روي أنَّ الخليفة وكَّل القوابل على نساء أبي محمّد (عليه السلام) وإمائه بعد وفاته ليُفتِّشهنَّ. «بسنتين» أي هذا أيضاً باطل كما ستعرف من تاريخه (عليه السلام) أنَّه وُلِدَ قبل ذلك بأكثر...، «فعند ذلك» أي الغيبة أو امتدادها، «يرتاب المبطلون» أي التابعون للشُّبُهات الواهية الذين لم يتمسَّكوا في الدِّين بعرى وثيقة. «لم أعرف نبيَّك» إنَّما يتوقَّف معرفة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على معرفة الله لأنَّ من لم يعرف الله بأنَّه يجب عليه ما هو لطف للعباد، وأنَّه عالم بجميع الأُمور، وأنَّه يقبح الإغراء بالقبيح ولا يصدر منه سبحانه القبيح، فلا يظهر المعجز على يد الكاذب لم يعرف النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يُصدِّق به، ومن لم يعرف الله بأنَّه لا يفعل العبث وما لا حكمة فيه، وخلق العباد من غير تكليف وأمر ونهي وثواب وعقاب عبث، ومع ذلك الأُمور لا بدَّ من آمر وناه ومؤدِّب ومعلِّم من قِبَله تعالى لم يُصدِّق بالنبيِّ، أو يقال: عظمة الرسول تابع لعظمة المرسِل، فكلَّما كان المرسِل أعلى شأناً كان رسوله أرفع مكاناً، وأيضاً من لم يُصدِّق بوجود الصانع تعالى كيف يُصدِّق برسوله، وقيل: لأنَّ من لم يعرف الله بأنَّه لا يُنال ولا يُرى لم يعرف أنَّه لا بدَّ أنْ يكون بينه وبين الله واسطة مبلِّغ. وتوقُّف معرفة الحجَّة على معرفة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنَّه إنَّما تُعلَم حجّيَّته بنصِّ الرسول عليه، أو أنَّ عظم الخليفة إنَّما يُعرَف بعظم المستخلِف فإنَّه نائبه والقائم مقامه، والحاصل أنَّ من عرف جهة الحاجة إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو احتياج الخلق إليه في معرفة الله ومعرفة ما يرضيه ويسخطه، وأنْ يكون سبباً لانتظام أُمور الخلق داعياً لهم إلى الصلاح، رادعاً إيَّاهم عن الشرِّ والفساد، شارعاً لهم الدِّين القويم، مانعاً لهم عن الخروج عن الصراط المستقيم، علم أنَّه لا بدَّ بعد وفاته ممَّن يقوم مقامه، ويكون مثله في العلم والعمل والأخلاق والكمالات، ليدعو الناس إلى ما كان يدعو إليه، ويكون حافظاً لدينه وشريعته معصوماً عن الخطأ والزلل، ولو لم يعرف النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كذلك بل زعمه سلطاناً من السلاطين يبني أُموره على الاجتهاد والتخمين لكان يجوز أنْ ينصب الناس آخر مقامه، كما هو زعم المخالفين، وأنْ يكون خليفته عثمان ومعاوية ويزيد وبني مروان من الفاسقين. وقيل: لأنَّ من لم يعرف الرسول بأنَّه لا بدَّ من أنْ يكون بشراً لا يمكن أنْ يدوم وجوده، لم يعرف أنَّه لا بدَّ له من يستخلفه بعد موته. وأمَّا الضلال مع عدم معرفة الحجَّة فهو ظاهر ممَّا قدَّمنا ومبيَّن في الأخبار التي أسلفناه، وسيأتي هذا الدعاء مرويًّا عن زرارة أيضاً بوجه آخر، وكأنَّه سمعهما في مقامين، فإنَّ مثل هذا الاختلاف منه أو من رواته بعيد. «جيش آل بني فلان» أي أصحاب بني فلان، وفي الإكمال: «جيش بني فلان»، والمراد ببني فلان إمَّا بنو العبَّاس ويكون المراد غير النفس الزكيَّة بل رجلاً آخر من آل رسول الله قتله بنو العبَّاس مقارناً لانقراض دولتهم، فيكون هذا من العلامات البعيدة. وفي إرشاد المفيد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ليس بين قيام القائم (عليه السلام) وبين قتل النفس الزكيَّة أكثر من خمسة عشر ليلة»، ويحتمل أنْ يكون المراد بنو مروان، ويكون إشارة إلى انقراض دولة بني أُميَّة، وبالفرج الفرج منهم ومن شرِّهم).

(١٩)

وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّوْفَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عُثْمَانَ ابْنِ عِيسَى الكِلَابِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ نَجِيحٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام).
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الحَجَّالِ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ لِلْقَائِمِ(39) غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ...» وَذَكَرَ الحَدِيثَ مِثْلَهُ سَوَاءً.
[266/25] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ هَانِئٍ التَّمَّارِ(40)، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ غَيْبَةً، فَلْيَتَّقِ اللهَ عَبْدٌ وَلْيَتَمَسَّكْ بِدِينِهِ».
[267/26] حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحَكَمِ، عَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(39) في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (للغلام).
(40) كذا، وفي بعض النُّسَخ: (هانئ اليمانيّ)، وفي الكافي: (صالح بن خالد)، عن يمان التمَّار، وفي غيبة النعماني: (صالح بن محمّد)، عن يمان التمَّار.

(٢٠)

سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فِي غَيْبَتِهِ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَحَدٌ»(41).
[268/27] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَعَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عِيسَى، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الزَّيَّاتِ، [عَنِ الجَرِيرِيِّ](42)، عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ أَبِي الدَّيْلَمِ الطَّائِيِّ، قَالَ: قَالَ [لِي] أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا عَبْدَ الحَمِيدِ بْنَ أَبِي الدَّيْلَمِ، إِنَّ لِلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رُسُلاً مُسْتَعْلِنِينَ وَرُسُلاً مُسْتَخْفِينَ، فَإِذَا سَالتَهُ بِحَقِّ المُسْتَعْلِنِينَ فَسَلْهُ بِحَقِّ المُسْتَخْفِينَ».
[269/28] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ جَمِيعاً، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الحَلَبِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «اكْتَتَمَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِمَكَّةَ مُخْتَفِياً خَائِفاً خَمْسَ سِنِينَ لَيْسَ يُظْهِرُ أَمْرَهُ وَعَلِيٌّ (عليه السلام) مَعَهُ وَخَدِيجَةُ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يَصْدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ(43) فَظَهَرَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأَظْهَرَ أَمْرَهُ»(44).
وَفِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّهُ (عليه السلام) كَانَ مُخْتَفِياً بِمَكَّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ.
[270/29] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ وَأَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ جَمِيعاً،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(41) من هذا الحديث إلى خمسة أو ستَّة أحاديث بعده ذُكِرَت هنا لمناسبة الأحاديث السابقة لا مناسبة الباب، وتقدَّم بعضها سابقاً.
(42) الظاهر هو إسحاق بن جرير، وتقدَّم الخبر في (ج 1/ ص 38) بسند آخر عن عبد الحميد أيضاً.
(43) في قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ (الحجر: 94).
(44) رواه العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 253/ ح 47) بتفاوت يسير، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 332/ ح 276).

(٢١)

عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَمُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ جَمِيعاً، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَلِيٍّ الحَلَبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَكَثَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِمَكَّةَ بَعْدَ مَا جَاءَهُ الوَحْيُ عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْهَا ثَلَاثُ سِنِينَ مُخْتَفِياً خَائِفاً لَا يُظْهِرُ حَتَّى أَمَرَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يَصْدَعَ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، فَأَظْهَرَ حِينَئِذٍ الدَّعْوَةَ»(45).
[271/30] حَدَّثَنَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الهَاشِمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَرْوِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَالِمٍ صَاحِبِ السَّابِرِيِّ(46)، قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم: 24]، قَالَ: «أَصْلُهَا رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَفَرْعُهَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ ثَمَرُهَا، وَتِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ أَغْصَانُهَا، وَالشِّيعَةُ وَرَقُهَا، وَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَيَمُوتُ فَتَسْقُطُ وَرَقَةٌ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ»، قُلْتُ: قَوْلُهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم: 25]، قَالَ: «مَا يَخْرُجُ مِنْ عِلْمِ الإِمَامِ إِلَيْكُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ»(47).
[272/31] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الحُسَيْنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(45) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 333/ ح 277).
(46) في بعض النُّسَخ: (عمر بن صالح السابريّ)، وفي بعضها: (عمر بن بزيع السابريّ)، وكلاهما تصحيف.
(47) روى قريباً منه الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص 79/ ج 2/ باب 2/ ح 3)، والعيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 224/ ح 11)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 28/ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية/ ح 80).

(٢٢)

ابْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ سُنَنَ الأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام) بِمَا وَقَعَ بِهِمْ مِنَ الغَيْبَاتِ حَادِثَةٌ فِي القَائِمِ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالقُذَّةِ بِالقُذَّةِ(48)».
قَالَ أَبُو بَصِيرٍ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَمَنِ القَائِمُ مِنْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ؟ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَصِيرٍ، هُوَ الخَامِسُ مِنْ وُلْدِ ابْنِي مُوسَى، ذَلِكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الإِمَاءِ، يَغِيبُ غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا المُبْطِلُونَ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ)، فَيَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدِهِ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيَنْزِلُ رُوحُ اللهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) فَيُصَلِّي خَلْفَهُ، وَتُشْرِقُ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَلَا تَبْقَى فِي الأَرْضِ بُقْعَةٌ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) إِلَّا عُبِدَ اللهُ فِيهَا، وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ».
[273/32] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الفُضَيْلِ(49)، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا مَنْصُورُ، إِنَّ هَذَا الأَمْرَ لَا يَأْتِيكُمْ إِلَّا بَعْدَ [إِ]يَاسٍ، لَا وَاللهِ [لَا يَأْتِيكُمْ] حَتَّى تُمَيَّزُوا، لَا وَاللهِ [لَا يَأْتِيكُمْ] حَتَّى تُمَحَّصُوا، وَلَا وَاللهِ [لَا يَأْتِيكُمْ] حَتَّى يَشْقَى مَنْ شَقِيَ وَيَسْعَدَ مَنْ سَعِدَ»(50).
[274/33] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَيْنِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى، عَنْ خَالِدِ بْنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(48) القُذَّة: ريش السهم.
(49) في بعض النُّسَخ: (محمّد بن الفضل). وفي الكافي: (عن جعفر بن محمّد الصيقل، عن أبيه، عن منصور). وعلى أيٍّ المراد بمنصور منصور بن الوليد الصيقل، ولعلَّ الصواب: (جعفر بن محمّد ابن الصيقل، عن أبيه، عن منصور).
(50) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 130/ ح 135)، وروى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 370/ باب التمحيص والامتحان/ ح 3)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 216 و217/ باب 12/ ح 16)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 335 و336/ ح 281).

(٢٣)

نَجِيحٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِلْغُلَامِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ»، قُلْتُ: وَلِـمَ ذَاكَ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ فَقَالَ: «يَخَافُ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ وَعُنُقِهِ -»، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «وَهُوَ المُنْتَظَرُ الَّذِي يَشُكُّ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ: مَاتَ وَلَا عَقِبَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَدْ وُلِدَ قَبْلَ وَفَاةِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْنِ، لِأَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ خَلْقَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ المُبْطِلُونَ»(51).
[275/34] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الفَزَارِيُّ الكُوفِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ المُثَنَّى العَطَّارِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «يَفْقِدُ النَّاسُ إِمَامَهُمْ فَيَشْهَدُ المَوْسِمَ فَيَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ»(52)،(53).
[276/35] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ هَانِئٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(51) روى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 5)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 333 و334/ ح 279).
(52) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 126/ ح 126)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 337 و338/ باب في الغيبة/ ح 6)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 180 و181/ باب 10/ فصل 4/ ح 14)، والطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 531/ ح 509/113)، والحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص 432)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 161/ ح 119).
(53) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 42): (لعلَّ المراد يعرفهم ولا يعرفونه كما روى الصدوق عن محمّد بن عثمان العمري، قال: والله إنَّ صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كلَّ سنة فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه. فيشمل الغيبتين، أو هو مختصٌّ بالكبرى، إذ في الصغرى كان يعرفه بعض الناس، وعلى الثاني يحتمل أنْ تكون الرؤية بمعناها).

(٢٤)

التَّمَّارِ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ غَيْبَةً، المُتَمَسِّكُ فِيهَا بِدِينِهِ كَالخَارِطِ لِلْقَتَادِ»، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ(54)، ثُمَّ قَالَ: «[إِنَّ] لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ غَيْبَةً، فَلْيَتَّقِ اللهَ عَبْدٌ وَلْيَتَمَسَّكْ بِدِينِهِ»(55).
[277/36] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ جَمِيعاً، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الجَبَّارِ وَعَبْدُ اللهِ ابْنُ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ الأَشْعَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُسَاوِرِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ الجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَالتَّنْوِيهَ(56)، أَمَا وَاللهِ لَيَغِيبَنَّ إِمَامُكُمْ سِنِيناً(57) مِنْ دَهْرِكُمْ، وَلَتُمَحَّصُنَّ حَتَّى يُقَالَ: مَاتَ(58) أَوْ هَلَكَ، بِأَيِّ وَادٍ سَلَكَ؟ وَلَتَدْمَعَنَّ عَلَيْهِ عُيُونُ المُؤْمِنِينَ، وَلَتُكْفَؤُنَّ كَمَا تُكْفَأُ السُّفُنُ فِي أَمْوَاجِ البَحْرِ(59)، وَلَا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَهُ وَكَتَبَ فِي قَلْبِهِ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَلَتُرْفَعَنَّ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَايَةً مُشْتَبِهَةً لَا يُدْرَى أَيٌّ مِنْ أَيٍّ»، قَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(54) أي أشار بيده، وفي معنى القول توسُّع. قال بثوبه أي رفعه، وبيده أي أشار، وبرجله أي مشى. والخارط: من يضرب بيده على أعلى الغصن ثمّ يمدُّها إلى الأسفل ليسقط ورقه. والقتاد شجر له شوك. والخبر في الكافي عن صالح بن خالد، عن يمان التمَّار.
(55) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 126 و127/ ح 127)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 335 و336/ باب في الغيبة/ ح 1)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 173 و174/ باب 10/ فصل 3/ ح 11)، والحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص 432)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 455/ ح 465).
(56) التنويه: الرفع والتشهير والدعوة. يعني لا تشهروا أنفسكم، أو لا تدعوا الناس إلى دينكم.
(57) التنوين على لغة بنى عامر كما قال الأزهري على ما في التصريح.
(58) زاد في الكافي: (قتل).
(59) لتكفأنَّ على بناء المجهول من المخاطب أو الغائب، من قولهم: كفأت الإناء إذا كببته، كناية عن اضطرابهم وتزلزلهم في الدِّين من شدَّة الفتن. (المرآة).

(٢٥)

 فَبَكَيْتُ، فَقَالَ [لِي]: «مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟»، فَقُلْتُ: وَكَيْفَ لَا أَبْكِي وَأَنْتَ تَقُولُ: «اثْنَتَا عَشْرَةَ رَايَةً مُشْتَبِهَةً لَا يُدْرَى أَيٌّ مِنْ أَيٍّ»؟ فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى شَمْسٍ دَاخِلَةٍ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ تَرَى هَذِهِ الشَّمْسَ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «وَاللهِ لَأَمْرُنَا أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ»(60)،(61).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(60) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 125 و126/ ح 125)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 336/ باب في الغيبة/ ح 3)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 153 و154/ باب 10/ ح 9)، والطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 532 و533/ ح 512/116)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 337 و338/ ح 285).
(61) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 251 و252): (قوله: «إيَّاكم والتنويه» لعلَّ المراد تنويه أمره وغيبته وتشهيرها عند المخالفين. قوله: «ولتمحِّصنَّ» محَّصت الذهب بالنار إذا أخلصته ممَّا يشوبه من الغشِّ، والتمحيص بالصاد المهملة الابتلاء والاختبار، والمقصود أنَّكم تُختَبرون بغيبته ليتميَّز الخبيث من الطيِّب. قوله: «حتَّى يقال: مات» الظاهر أنَّ هذا قول الشيعة المفتونين بطول الغيبة أو أنَّ ما نزل عليهم من البؤس والقنوط ومشقَّة انتظار الفرج وإصابة البلاء والشدَّة وبعد رجاء الخلاص منه بظهور المنتظر، وفيه إشارة إلى ما يقع في آخر الزمان عند قرب ظهور الحجَّة من الهرج والمرج وانتشار الظلم والجور والسبي والنهب والقتل والغارة وارتفاع الشبهة عن الخلق. قوله: «ولتكفأنَّ» يقال: كفأت الإناء أي كببته وقلبته فهو مكفوء، وقيل: جاء اكفأت، والتشبيه من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح. قوله: «فلا ينجو إلَّا من أخذ الله ميثاقه» فإنَّ من قبل ولايته وإمامته عند أخذ العهد والميثاق ينجو من أمواج بحار الفتن ويبقى على دينه ويصبر على الشدائد بعون الله. قوله: «وكتب في قلبه الإيمان» أي أثبته فيه حتَّى صار مستقرًّا لا يزول بالشُّبُهات ونزول النوائب والبليَّات بخلاف الإيمان المستودع فإنَّه كثيراً ما يزول بتوارد الشكوك والتدليسات. قوله: «وأيَّده بروح منه» الضمير راجع إلى الله تعالى، والمراد بالروح المَلَك الموكَّل بالقلب أو نوره وهو نور إلهي يرى به صور المعقولات الحسنة والقبيحة فيتَّبع الأُولى ويجتنَّب عن الثانية، فلا تزلُّ قدمه بعد ثبوتها، أو القرآن فإنَّه روح القلب وحياته، يتميَّز به بين الحقِّ والباطل، أو البصيرة على ما ينفع وما يضرُّ، ويحتمل أنْ يعود الضمير إلى الإيمان فإنَّه سبب لحياة القلب ولذلك سمَّاه روحه. قوله: «ولترفعنَّ اثنتا عشرة راية» هذا من علامات ظهور القائم (عليه السلام)، وعند هذه يقع الفساد في الخلق وانقطاع نظامهم بالكلّيَّة وتضيق الأُمور عليهم، ولعلَّ المراد باشتباه تلك الرايات ادِّعاء صاحب كلِّ واحد أنَّه حقٌّ وغيره باطل، فيقع الاشتباه فيها ويتحيَّر الخلائق في أمر دينهم ودنياهم حتَّى لا يُدرى أيُّ رجل من أيِّ راية لتبُّدد النظام فيهم وانقطاع عنان الاجتماع وسلسلة الانضمام عنهم. ويحتمل أنْ يُراد باشتباهها تداخل بعضها على بعض حتَّى لا يُدرى أيُّ راية من أيِّ رجل، والله أعلم. قوله: «فكيف نصنع» عند ارتفاع تلك الرايات؟ وبِمَ نُميِّز بين المحقِّ والمبطل؟ فأجاب (عليه السلام) بأنَّ أمرنا عند ظهور الدولة القاهرة أظهر من الشمس أو في قلوب المؤمنين فلا يقع الالتباس بين الحقِّ والباطل كما لا يقع الالتباس بين النور والظلمة، فالعارفون عارفون بحقِّنا إيماناً وتصديقاً والمنكرون منكرون لحقِّنا حسداً وعناداً).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 282 و283): (بيان: التنويه: التشهير أي لا تشهروا أنفسكم، أو لا تدعوا الناس إلى دينكم، أو لا تشهروا ما نقول لكم من أمر القائم (عليه السلام) وغيره ممَّا يلزم إخفاؤه عن المخالفين. «وليُمحَّص» على بناء التفعيل المجهول من التمحيص، بمعنى الابتلاء والاختبار، ونسبته إليه (عليه السلام) على المجاز، أو على بناء المجرَّد المعلوم، من محص الظبي - كمنع - إذا عدا، ومحص منِّي: أي هرب. وفي بعض نُسَخ الكافي على بناء المجهول المخاطب، من التفعيل مؤكَّداً بالنون، وهو أظهر، وقد مرَّ في النعماني: «وليخملنَّ». ولعلَّ المراد بأخذ الميثاق قبوله يوم أخذ الله ميثاق نبيِّه وأهل بيته، مع ميثاق ربوبيَّته، كما مرَّ في الأخبار. «وكتب في قلبه الإيمان» إشارة إلى قوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة: 22]، والروح هو روح الإيمان كما مرَّ. «مشتبهة» أي على الخلق، أو متشابهة يشبه بعضها بعضاً ظاهراً. و«لا يُدرى» على بناء المجهول، و«أيٌّ» مرفوع به، أي لا يُدرى أيٌّ منها حقٌّ متميِّزاً من أيٍّ منها هو باطل. فهو تفسير للاشتباه، وقيل: «أيٌّ» مبتدأ، و«من أيٍّ» خبره، أي كلُّ راية منها لا يُعرَف كونه من أيِّ جهة من جهة الحقِّ أو من جهة الباطل؟ وقيل: لا يُدرى أيُّ رجل من أيِّ راية، لتبدو النظام منهم، والأوَّل أظهر).

(٢٦)

[278/37] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَصَمِّ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ المُخْتَارِ القَلَانِسِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَيَابَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا بَقِيتُمْ بِلَا إِمَامٍ هُدًى وَلَا عَلَمٍ، يَتَبَرَّأُ

(٢٧)

بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ تُمَيَّزُونَ وَتُمَحَّصُونَ وَتُغَرْبَلُونَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتِلَافُ السَّيْفَيْنِ(62)، وَإِمَارَةٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَقَتْلٌ وَخَلْعٌ(63) مِنْ آخِرِ النَّهَارِ»(64).
[279/38] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَيَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ جَمِيعاً، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ جَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ رَجُلٍ - وَاسْمُهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ -، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ: «إِذَا أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ لَا تَرَى إِمَاماً تَأْتَمُّ بِهِ فَأَحْبِبْ مَنْ كُنْتَ تُحِبُّ وَأَبْغِضْ مَنْ كُنْتَ تُبْغِضُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ)»(65).
[280/39] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَمُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ(66)، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَمَّنْ أَثْبَتَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا بَقِيتُمْ دَهْراً مِنْ عُمُرِكُمْ لَا تَعْرِفُونَ إِمَامَكُمْ؟»، قِيلَ لَهُ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: «تَمَسَّكُوا بِالأَمْرِ الأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكُمْ(67)»(68)،(69).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(62) في بعض النُّسَخ: (اختلاف السُّنَن)، وفي بحار الأنوار (ج 52/ ص 112): (اختلاف السنين).
(63) في بعض النُّسَخ: (وقطع).
(64) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 130 و131/ ح 136).
(65) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 127/ ح 128).
(66) في بعض النُّسَخ: (وعثمان بن عيسى).
(67) أي تمسَّكوا بما تعلمون من دينكم وإمامكم ولا تتزلزلوا وتتحيَّروا وترتدُّوا، أو لا تؤمنوا بمن يدَّعي أنَّه الحجَّة حتَّى يستبين لكم.
(68) رواه بتفاوت النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 162/ باب 10/ فصل 2/ ح 5).
(69) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 133): (بيان: المقصود من هذه الأخبار عدم التزلزل في الدِّين والتحيُّر في العمل، أي تمسَّكوا في أُصول دينكم وفروعه بما وصل إليكم من أئمَّتكم، ولا تتركوا العمل ولا ترتدُّوا حتَّى يظهر إمامكم. ويحتمل أنْ يكون المعنى: لا تؤمنوا بمن يدَّعي أنَّه القائم حتَّى يتبيَّن لكم بالمعجزات).

(٢٨)

[281/40] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنِ العَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، فَقَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا صِرْتُمْ فِي حَالٍ لَا تَرَوْنَ فِيهَا إِمَامَ هُدًى وَلَا عَلَماً يُرَى؟ وَلَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا مَنْ دَعَا دُعَاءَ الغَرِيقِ»، فَقَالَ لَهُ أَبِي: إِذَا وَقَعَ هَذَا لَيْلاً فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ فَقَالَ: «أَمَّا أَنْتَ فَلَا تُدْرِكُهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَتَمَسَّكُوا بِمَا فِي أَيْدِيكُمْ حَتَّى يَتَّضِحَ لَكُمُ الأَمْرُ»(70).
[282/41] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُغِيرَةِ الكُوفِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّيَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ القَصَبَانِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ الكَلْبِيِّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُصِيبُهُمْ فِيهِ سَبْطَةٌ(71) يَأْرِزُ العِلْمُ فِيهَا بَيْنَ المَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا، يَعْنِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَطْلَعَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُمْ نَجْمَهُمْ»، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا السَّبْطَةُ؟ قَالَ: «الفَتْرَةُ وَالغَيْبَةُ لِإِمَامِكُمْ»، قَالَ: قُلْتُ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «كُونُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُطْلِعَ اللهُ لَكُمْ نَجْمَكُمْ»(72)،(73).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(70) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 127/ ح 129)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 162/ باب 10/ فصل 2/ ح 6).
(71) في بعض النُّسَخ: (بسطة) هنا وما يأتي، وفي بعضها: (شيطة) كذلك. قوله: يأرز - بتقديم المهملة - أي تنضمُّ وتجتمع بعضه إلى بعض وتقبض، والحيَّة لاذت بجحرها ورجعت إليه وثبتت في مكانها.
(72) رواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 162/ باب 10/ فصل 2/ ح 6).
(73) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 134 و135): (بيان قال الفيروزآبادي: أسبط: سكت فرقاً. وبالأرض: لصق وامتدَّ من الضرب. وفي نومه: غمَّض. وعن الأمر: تغابى، وانبسط، ووقع، فلم يقدر أنْ يتحرَّك. انتهى. وفي الكافي في خبر [أبان] بن تغلب: «كيف أنت إذا وقعت البطشة بين المسجدين، فيأرز العلم» فيكون إشارة إلى جيش السفياني واستيلائهم بين الحرمين، وعلى ما في الأصل لعلَّ المعنى يأرز العلم بسبب ما يحدث بين المسجدين أو يكون خفاء العلم في هذا الموضع أكثر بسبب استيلاء أهل الجور فيه. وقال الجزري: فيه أنَّ الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيَّة إلى جحرها، أي ينضمُّ إليه ويجتمع بعضه إلى بعض فيها).

(٢٩)

[283/42] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ القَاسِمِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ تَفْسِيرِ جَابِرٍ، فَقَالَ: «لَا تُحَدِّثْ بِهِ السُّفَّلَ فَيُذِيعُوهُ، أَمَا تَقْرَأُ فِي كِتَابِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ [المدَّثِّر: 8]؟ إِنَّ مِنَّا إِمَاماً مُسْتَتِراً، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) إِظْهَارَ أَمْرِهِ نَكَتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةً فَظَهَرَ وَأَمَرَ بِأَمْرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)»(74).
[284/43] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ اليَقْطِينِيُّ جَمِيعاً، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ خَالِهِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنْ كَانَ كَوْنٌ - لَا أَرَانِيَ اللهُ يَوْمَكَ - فَبِمَنْ أَئْتَمُّ؟ فَأَوْمَأَ إِلَى مُوسَى (عليه السلام)، فَقُلْتُ: فَإِنْ مَضَى مُوسَى فَإِلَى مَنْ؟ قَالَ: «إِلَى وَلَدِهِ»، قُلْتُ: فَإِنْ مَضَى وَلَدُهُ وَتَرَكَ أَخاً كَبِيراً وَابْناً صَغِيراً فَبِمَنْ أَئْتَمُّ؟ قَالَ: «بِوَلَدِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا أَبَداً»، قُلْتُ: فَإِنْ أَنَا لَمْ أَعْرِفْهُ وَلَمْ أَعْرِفْ مَوْضِعَهُ فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَ: «تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَوَلَّى مَنْ بَقِيَ مِنْ حُجَجِكَ مِنْ وُلْدِ الإِمَامِ المَاضِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيكَ»(75)،(76).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(74) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 123/ ح 121)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 269).
(75) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 124/ ح 122)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 309/ باب الإشارة والنصِّ على أبي الحسن موسى (عليه السلام)/ ح 7).
(76) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 177): (قوله: «فإنَّ ذلك يجزيك» وبذلك يخرج عمَّا روي من أنَّه «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليَّة»، وفيه دلالة واضحة على أنَّ الإيمان على سبيل الإجمال بما جاء به النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع عدم العلم بتفاصيله كافٍ ثمّ يجب الإيمان به على الخصوص بعد التفصيل وتحصيله، وهو الحقُّ الذي لا ريب فيه، لئلَّا يفوت الإيمان، ولا يُترَك الميسور بالمعسور، ولا يلزم طلب المحال).

(٣٠)

[285/44] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغِيبُ عَنْهُمْ إِمَامُهُمْ»، فَقُلْتُ لَهُ: مَا يَصْنَعُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؟ قَالَ: «يَتَمَسَّكُونَ بِالأَمْرِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ»(77).
[286/45] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ كُلْثُومٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «يَكُونُ بَعْدَ الحُسَيْنِ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ»(78).
[287/46] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ العَيَّاشِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ فِي صَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ سُنَنٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام)، سُنَّةً مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَسُنَّةً مِنْ عِيسَى، وَسُنَّةً مِنْ يُوسُفَ، وَسُنَّةً مِنْ مُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ)، فَأَمَّا سُنَّتُهُ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَخَائِفٌ يَتَرَقَّبُ، وَأَمَّا سُنَّتُهُ مِنْ عِيسَى فَيُقَالُ فِيهِ مَا قِيلَ فِي عِيسَى، وَأَمَّا سُنَّتُهُ مِنْ يُوسُفَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(77) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 125/ ح 123).
(78) رواه بسند آخر المفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 347)، والكراجكي (رحمه الله) في الاستنصار (ص 17).

(٣١)

فَالسِّتْرُ يَجْعَلُ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الخَلْقِ حِجَاباً يَرَوْنَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَأَمَّا سُنَّتُهُ مِنْ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فَيَهْتَدِي بِهُدَاهُ ويَسِيرُ بِسِيرَتِهِ».
[288/47] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَبْرَئِيلُ بْنُ أَحْمَدَ(79)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ البَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبَانٍ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): هَلْ يَكُونُ النَّاسُ فِي حَالٍ لَا يَعْرِفُونَ الإِمَامَ؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ يُقَالُ ذَلِكَ»، قُلْتُ: فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ؟ قَالَ: «يَتَعَلَّقُونَ بِالأَمْرِ الأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَهُمُ الآخَرُ».
[289/48] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ القَاسِمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام)، قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ فِي قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30]، قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ غَابَ عَنْكُمْ إِمَامُكُمْ فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِإِمَامٍ جَدِيدٍ»(80)،(81).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(79) جبرئيل بن أحمد الفاريابي أبو محمّد، كان مقيما بكشٍّ، كثير الرواية عن العلاء بالعراق وقم وخراسان. (منهج المقال).
(80) روى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 339 و340/ باب في الغيبة/ ح 14)، وسيأتي عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) تحت الرقم (299/3)، فانتظر.
(81) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج6/ ص 264): (شبَّه الإمام الغائب بالماء الغائر في الخفاء عن الخلق مع كثرة النفع وشدَّة احتياجهم إليه، وشبَّه الإمام الحاضر الذي يأتي بعد غيبته بالماء المعين الجاري في الأرض في جريانه وسيره فيها ونفعه لأهلها، وفيه على هذا التأويل دلالة على الغيبة وعلى أنَّ تعيين الإمام ونصبه من عند الله تعالى، وهو الحقُّ).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 49 و50): (على التأويل الوارد في الخبر استعار الماء للعلم، لأنَّه سبب لحياة الأرواح، كما أنَّ الماء سبب لحياة الأبدان، واختفاء العالم يوجب اختفاء العلم. «بإمام جديد» أي ظاهر بعد الغيبة، فالجديد لازم للمعين باعتبار كونه بعد الغور والخفاء. وممَّا يُؤيِّد ما ذكرنا أنَّ المراد تشبيه علم الإمام بالماء ما رواه عليُّ بن إبراهيم بإسناده قال: سُئِلَ الرضا (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً...﴾ الآية، فقال (عليه السلام): «﴿مَاؤُكُمْ﴾ أبوابكم الأئمَّة، والأئمَّة أبواب الله، ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ يعني يأتيكم بعلم الإمام»).
وقال (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 24/ ص 101): (بيان: كون الماء كناية عن علم الإمام، لاشتراكهما في كون أحدهما سبب حياة الجسم، والآخر سبب حياة الروح غير مستبعد، والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض).

(٣٢)

[290/49] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ البَغْدَادِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ المُثَنَّى العَطَّارُ(82)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «يَفْقِدُ النَّاسُ إِمَامَهُمْ، يَشْهَدُ المَوْسِمَ فَيَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ»(83).
[291/50] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ جَبْرَئِيلَ ابْنِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي العُبَيْدِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «سَتُصِيبُكُمْ شُبْهَةٌ فَتَبْقَوْنَ بِلَا عَلَمٍ يُرَى، وَلَا إِمَامٍ هُدًى، وَلَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ الغَرِيقِ»، قُلْتُ: كَيْفَ دُعَاءُ الغَرِيقِ؟ قَالَ: «يَقُولُ: يَا اللهُ يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا اللهُ يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ وَالأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، قَالَ: «إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) مُقَلِّبُ القُلُوبِ وَالأَبْصَارِ وَلَكِنْ قُلْ كَمَا أَقُولُ لَكَ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»(84)،(85).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(82) كذا، وفي أكثر النُّسَخ وبحار الأنوار (ج 52/ ص 151)، وفي بعض النُّسَخ: (جعفر بن نجم المثنَّى العطَّار).
(83) قد مرَّ بسند آخر تحت الرقم (275/34)، فراجع.
(84) يدلُّ على أنَّه لا ينبغي تغيير ألفاظ الدعاء المرويِّ بزيادة ولو كانت تُرى أحسن. وقال ابن طاوس (رحمه الله) في مهج الدعوات (ص 333): (أقول: لعلَّ معنى قوله: «الأبصار» لأنَّ تقلُّب القلوب والأبصار يكون يوم القيامة من شدَّة أهواله وفي الغيبة إنَّما يخاف من تقلُّب القلوب دون الأبصار).
(85) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 238).

(٣٣)

[292/51] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَاتِمٍ النَّوْفَلِيُّ المَعْرُوفُ بِالكِرْمَانِيِّ(86)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الوَشَّاءُ البَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ [القُمِّيُّ]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرِ بْنِ سَهْلٍ الشَّيْبَانِيُّ(87)، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ ابْنُ الحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ الجَوَاشِنِيِّ(88)، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ البُدَيْليُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَالمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَصِيرٍ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ عَلَى مَوْلَانَا أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (عليه السلام)، فَرَأَيْنَاهُ جَالِساً عَلَى التُّرَابِ وَعَلَيْهِ مِسْحٌ خَيْبَرِيٌّ(89) مُطَوَّقٌ بِلَا جَيْبٍ، مُقَصَّرُ الكُمَّيْنِ، وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ الوَالِهِ الثَّكْلَى، ذَاتَ الكَبِدِ الحَرَّى، قَدْ نَالَ الحُزْنُ مِنْ وَجْنَتَيْهِ، وَشَاعَ التَّغْيِيرُ فِي عَارِضَيْهِ، وَأَبْلَى الدُّمُوعُ مَحْجِرَيْهِ(90)، وَهُوَ يَقُولُ: «سَيِّدِي غَيْبَتُكَ نَفَتْ رُقَادِي، وَضَيَّقَتْ عَلَيَّ مِهَادِي، وَابْتَزَّتْ مِنِّي رَاحَةَ فُؤَادِي، سَيِّدِي غَيْبَتُكَ أَوْصَلَتْ مُصَابِي بِفَجَائِعِ الأَبَدِ، وَفَقْدُ الوَاحِدِ بَعْدَ الوَاحِدِ يُفْنِي الجَمْعَ وَالعَدَدَ، فَمَا أُحِسُّ بِدَمْعَةٍ تَرْقَى مِنْ عَيْنِي وَأَنِينٍ يَفْتُرُ مِنْ صَدْرِي(91) عَنْ دَوَارِجِ الرَّزَايَا وَسَوَالِفِ البَلَايَا إِلَّا مُثِّلَ بِعَيْنِي عَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(86) كذا، وهكذا في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) في صدر سند حديث، لكن في بعض النُّسَخ المصحَّحة صحَّحه بقلم أحمر بالبوفكي. ولكن في رجال المامقاني وقاموس الرجال كما في المتن. وأحمد بن عيسى عنونه الخطيب في تاريخ بغداد وقال: كان ثقةً، تُوفِّي في رجب (322هـ) أو (323هـ).
(87) محمّد بن بحر بن سهل من أهل سجستان، قيل: في مذهبه ارتفاع وحديثه قريب من السلامة. (رجال النجاشي: ص 384/ الرقم 1044). وقال ابن الغضائري (رحمه الله) في رجاله (ص 98/ الرقم 147/32): (ضعيف وفي مذهبه ارتفاع). وأمَّا راويه أحمد بن طاهر فمهمل. وفي بعض النُّسَخ: (أحمد بن عبد الله).
(88) عليُّ بن حارث مهمل، وسعيد بن منصور الجواشني من رؤساء الزيديَّة، ولم أجد أحمد بن عليٍّ البديلي، وهو وأبوه مهملان، والحديث غريب.
(89) المسح - بكسر الميم -: الكساء من الشعر.
(90) المحجر - كمجلس ومنبر -: من العين ما دار بها وبدا من البرقع.
(91) يفتر أي يخرج بفتور وضعف.

(٣٤)

غَوَابِرِ أَعْظَمِهَا وَأَفْضَعِهَا، وَبَوَاقِي(92) أَشَدِّهَا وَأَنْكَرِهَا، وَنَوَائِبَ مَخْلُوطَةٍ بِغَضَبِكَ، وَنَوَازِلَ مَعْجُونَةٍ بِسَخَطِكَ».
قَالَ سَدِيرٌ: فَاسْتَطَارَتْ عُقُولُنَا وَلَهاً، وَتَصَدَّعَتْ قُلُوبُنَا جَزَعاً مِنْ ذَلِكَ الخَطْبِ الهَائِلِ، وَالحَادِثِ الغَائِلِ(93)، وَظَنَنَّا أَنَّهُ سَمَتَ لِمَكْرُوهَةٍ قَارِعَةٍ(94) أَوْ حَلَّتْ بِهِ مِنَ الدَّهْرِ بَائِقَةٌ، فَقُلْنَا: لَا أَبْكَى اللهُ يَا ابْنَ خَيْرِ الوَرَى عَيْنَيْكَ، مِنْ أَيَّةِ حَادِثَةٍ تَسْتَنْزِفُ دَمْعَتَكَ(95) وَتَسْتَمْطِرُ عَبْرَتَكَ؟ وَأَيَّةُ حَالَةٍ حَتَمَتْ عَلَيْكَ هَذَا المَأْتَمَ؟
قَالَ: فَزَفَرَ(96) الصَّادِقُ (عليه السلام) زَفْرَةً انْتَفَخَ مِنْهَا جَوْفُهُ، وَاشْتَدَّ عَنْهَا خَوْفُهُ، وَقَالَ: «وَيْلَكُمْ(97) نَظَرْتُ فِي كِتَابِ الجَفْرِ صَبِيحَةَ هَذَا اليَوْمِ وَهُوَ الكِتَابُ المُشْتَمِلُ عَلَى عِلْمِ المَنَايَا وَالبَلَايَا وَالرَّزَايَا وَعِلْمِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ الَّذِي خَصَّ اللهُ بِهِ مُحَمَّداً وَالأَئِمَّةَ مِنْ بَعْدِهِ (عليهم السلام)، وَتَأَمَّلْتُ مِنْهُ مَوْلِدَ قَائِمِنَا وَغِيبَتَهُ وَإِبْطَاءَهُ وَطُولَ عُمُرِهِ، وَبَلْوَى المُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَتَوَلُّدَ الشُّكُوكِ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ طُولِ غَيْبَتِهِ، وَارْتِدَادَ أَكْثَرِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَخَلْعَهُمْ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ أَعْنَاقِهِمُ الَّتِي قَالَ اللهُ (تَقَدَّسَ ذِكْرُهُ): ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ ألزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: 13]، يَعْنِي الوَلَايَةَ، فَأَخَذَتْنِي الرِّقَّةُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيَّ الأَحْزَانُ»، فَقُلْنَا: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، كَرِّمْنَا وَفَضِّلْنَا(98) بِإِشْرَاكِكَ إِيَّانَا فِي بَعْضِ مَا أَنْتَ تَعْلَمُهُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(92) الغوابر جمع غابر: نقيض الماضي. والغوابر والبواقي في قبال الدوارج والسوالف في المستثنى منه، وصُحِّف في بعض النُّسَخ وبحار الأنوار بالعوائر والتراقي، وتكلَّف العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في توجيهه، وحاصل المعنى: أنَّه ما يسكن بي شيء من البلايا الماضية إلَّا وعوَّض عنه من الأُمور الآتية بأعظم منها.
(93) الغائل: المهلك، والغوائل: الدواهي.
(94) سمت لهم أي هيَّأ لهم وجه الكلام والرأي.
(95) استنزف الدمع: استنزله أو استخرجه كلَّه.
(96) زفر الرجل: أخرج نفسه مع مدِّه إيَّاه. والزفرة: التنفُّس مع مدِّ النفس.
(97) قد يرد الويل بمعنى التعجُّب. (النهاية: ج 5/ ص 236).
(98) في بعض النُّسَخ: (وشرِّفنا).

(٣٥)

قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَدَارَ لِلْقَائِمِ مِنَّا ثَلَاثَةً أَدَارَهَا فِي ثَلَاثَةٍ مِنَ الرُّسُلِ (عليهم السلام)، قَدَّرَ مَوْلِدَهُ تَقْدِيرَ مَوْلِدِ مُوسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ غَيْبَتَهُ تَقْدِيرَ غَيْبَةِ عِيسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ إِبْطَاءَهُ تَقْدِيرَ إِبْطَاءِ نُوحٍ (عليه السلام)، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عُمُرَ العَبْدِ الصَّالِحِ - أَعْنِي الخَضِرَ (عليه السلام) - دَلِيلاً عَلَى عُمُرِهِ»، فَقُلْنَا لَهُ: اكْشِفْ لَنَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ عَنْ وُجُوهِ هَذِهِ المَعَانِي.
قَالَ (عليه السلام): «أَمَّا مَوْلِدُ مُوسَى (عليه السلام) فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَـمَّا وَقَفَ عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ عَلَى يَدِهِ أَمَرَ بِإِحْضَارِ الكَهَنَةِ، فَدَلُّوهُ عَلَى نَسَبِهِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِشَقِّ بُطُونِ الحَوَامِلِ مِنْ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى قَتَلَ فِي طَلَبِهِ نَيِّفاً وَعِشْرِينَ ألفَ مَوْلُودٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الوُصُولُ إِلَى قَتْلِ مُوسَى (عليه السلام) بِحِفْظِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو العَبَّاسِ لَـمَّا وَقَفُوا عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِمْ وَمُلْكِ الأُمَرَاءِ(99) وَالجَبَابِرَةِ مِنْهُمْ عَلَى يَدِ القَائِمِ مِنَّا نَاصَبُونَا العَدَاوَةَ، وَوَضَعُوا سُيُوفَهُمْ فِي قَتْلِ آلِ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(100) وَإِبَادَةِ نَسْلِهِ طَمَعاً مِنْهُمْ فِي الوُصُولِ إِلَى قَتْلِ القَائِمِ، وَيَأْبَى اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يَكْشِفَ أَمْرَهُ لِوَاحِدٍ مِنَ الظَّلَمَةِ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ.
وَأَمَّا غَيْبَةُ عِيسَى (عليه السلام) فَإِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ قُتِلَ، فَكَذَّبَهُمُ اللهُ (جَلَّ ذِكْرُهُ) بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء:157]، كَذَلِكَ غَيْبَةُ القَائِمِ فَإِنَّ الأُمَّةَ سَتُنْكِرُهَا لِطُولِهَا، فَمِنْ قَائِلٍ يَهْذِي بِأَنَّهُ لَمْ يَلِدْ(101)، وَقَائِلٍ يَقُولُ: إِنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَصَاعِداً، وَقَائِلٍ يَعْصِي اللهَ (عزَّ وجلَّ) بِقَوْلِهِ: إِنَّ رُوحَ القَائِمِ يَنْطِقُ فِي هَيْكَلِ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا إِبْطَاءُ نُوحٍ (عليه السلام) فَإِنَّهُ لَـمَّا اسْتُنْزِلَتِ العُقُوبَةُ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ السَّمَاءِ بَعَثَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(99) في بعض النُّسَخ: (زوال ملكهم والأُمراء...) إلخ.
(100) في بعض النُّسَخ: (في قتل أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
(101) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 220): (فمن قائل بغير هدى بأنَّه لم يولد).

(٣٦)

اللهُ (عزَّ وجلَّ) الرُّوحَ الأَمِينَ (عليه السلام) بِسَبْعِ نَوَيَاتٍ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لَكَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ خَلَائِقِي وَعِبَادِي وَلَسْتُ أُبِيدُهُمْ بِصَاعِقَةٍ مِنْ صَوَاعِقِي إِلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الدَّعْوَةِ وَالزَامِ الحُجَّةِ، فَعَاوِدِ اجْتِهَادَكَ فِي الدَّعْوَةِ لِقَوْمِكَ فَإِنِّي مُثِيبُكَ عَلَيْهِ، وَاغْرِسْ هَذِهِ النَّوَى فَإِنَّ لَكَ فِي نَبَاتِهَا وَبُلُوغِهَا وَإِدْرَاكِهَا إِذَا أَثْمَرَتِ الفَرَجَ وَالخَلَاصَ، فَبَشِّرْ بِذَلِكَ مَنْ تَبِعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ.
فَلَمَّا نَبَتَتِ الأَشْجَارُ وَتَأَزَّرَتْ وَتَسَوَّقَتْ وَتَغَصَّنَتْ وَأَثْمَرَتْ وَزَهَا التَّمْرُ عَلَيْهَا(102) بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ اسْتَنْجَزَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العِدَةَ، فَأَمَرَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَغْرِسَ مِنْ نَوَى تِلْكَ الأَشْجَارِ، وَيُعَاوِدَ الصَّبْرَ وَالاِجْتِهَادَ، وَيُؤَكِّدَ الحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ الطَّوَائِفَ الَّتِي آمَنَتْ بِهِ، فَارْتَدَّ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ نُوحٌ حَقًّا لَمَا وَقَعَ فِي وَعْدِ رَبِّهِ خُلْفٌ.
ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ يَأْمُرُهُ عِنْدَ كُلِّ مَرَّةٍ بِأَنْ يَغْرِسَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ غَرَسَهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ الطَّوَائِفُ مِنَ المُؤْمِنِينَ تَرْتَدُّ مِنْهُ طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ إِلَى أَنْ عَادَ إِلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ رَجُلاً، فَأَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: يَا نُوحُ الآنَ أَسْفَرَ الصُّبْحُ عَنِ اللَّيْلِ لِعَيْنِكَ حِينَ صَرَّحَ الحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ وَصَفَا [الأَمْرُ وَالإِيمَانُ] مِنَ الكَدَرِ بِارْتِدَادِ كُلِّ مَنْ كَانَتْ طِينَتُهُ خَبِيثَةً، فَلَوْ أَنِّي أَهْلَكْتُ الكُفَّارَ وَأَبْقَيْتُ مَنْ قَدِ ارْتَدَّ مِنَ الطَّوَائِفِ الَّتِي كَانَتْ آمَنَتْ بِكَ لَمَا كُنْتُ صَدَّقْتُ وَعْدِيَ السَّابِقَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَخْلَصُوا التَّوْحِيدَ مِنْ قَوْمِكَ، وَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِ نُبُوَّتِكَ بِأَنْ أَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الأَرْضِ وَأُمَكِّنَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَأُبَدِّلَ خَوْفَهُمْ بِالأَمْنِ لِكَيْ تَخْلُصَ العِبَادَةُ لِي بِذَهَابِ الشَّكِّ(103) مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَكَيْفَ يَكُونُ الاِسْتِخْلَافُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(103) في بعض النُّسَخ: (بذهاب الشرك).

(102) الأزر: الإحاطة، والقوَّة، والضعف (ضدٌّ). والمؤازرة أنْ يُقوِّي الزرع بعضه بعضاً. وسوق الشجر تسويقاً صار ذا ساق. (القاموس المحيط: ج 3/ ص 248). يعنى تقوَّت وتقوَّى ساقها وكثرت أغصانها. وزهو التمرة: احمرارها واصفرارها.

(٣٧)

وَالتَّمْكِينُ وَبَدَلُ الخَوْفِ بِالأَمْنِ مِنِّي لَهُمْ مَعَ مَا كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَخُبْثِ طِينِهِمْ وَسُوءِ سَرَائِرِهِمُ الَّتِي كَانَتْ نَتَائِجَ النِّفَاقِ وَسُنُوحَ الضَّلَالَةِ(104)؟ فَلَوْ أَنَّهُمْ تَسَنَّمُوا مِنِّي المُلْكَ(105) الَّذِي أُوتِي المُؤْمِنِينَ وَقْتَ الاِسْتِخْلَافِ إِذَا أَهْلَكْتُ أَعْدَاءَهُمْ لَنَشَقُوا رَوَائِحَ صِفَاتِهِ وَلَاسْتَحْكَمَتْ سَرَائِرُ نِفَاقِهِمْ(106) [وَ]تَأَبَّدَتْ حِبَالُ ضَلَالَةِ قُلُوبِهِمْ وَلَكَاشَفُوا إِخْوَانَهُمْ بِالعَدَاوَةِ، وَحَارَبُوهُمْ عَلَى طَلَبِ الرِّئَاسَةِ وَالتَّفَرُّدِ بِالأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَكَيْفَ يَكُونُ التَّمْكِينُ فِي الدِّينِ وَانْتِشَارُ الأَمْرِ فِي المُؤْمِنِينَ مَعَ إِثَارَةِ الفِتَنِ وَإِيقَاعِ الحُرُوبِ؟ كَلَّا، فَـ ﴿اصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [هود: 37]».
قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): «وَكَذَلِكَ القَائِمُ فَإِنَّهُ تَمْتَدُّ أَيَّامُ غَيْبَتِهِ لِيُصَرِّحَ الحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ وَيَصْفُوَ الإِيمَانُ مِنَ الكَدَرِ بِارْتِدَادِ كُلِّ مَنْ كَانَتْ طِينَتُهُ خَبِيثَةً مِنَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ يُخْشَى عَلَيْهِمُ النِّفَاقُ إِذَا أَحَسُّوا بِالاِسْتِخْلَافِ وَالتَّمْكِينِ وَالأَمْنِ المُنْتَشِرِ فِي عَهْدِ القَائِمِ (عليه السلام)».
قَالَ المُفَضَّلُ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَإِنَّ [هَذِهِ] النَّوَاصِبَ تَزْعُمُ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ(107) نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ (عليه السلام)، فَقَالَ: «لَا يَهْدِي اللهُ قُلُوبَ النَّاصِبَةِ، مَتَى كَانَ الدِّينُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مُتَمَكِّناً بِانْتِشَارِ الأَمْنِ(108) فِي الأُمَّةِ، وَذَهَابِ الخَوْفِ مِنْ قُلُوبِهَا، وَارْتِفَاعِ الشَّكِّ مِنْ صُدُورِهَا فِي عَهْدِ وَاحِدٍ مِنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(104) أي ظهورها. وفي بعض النُّسَخ: (شيوخ الضلالة)، وفي بعضها: (شبوح الضلالة)، ولعلَّ الصواب: (شيوع الضلالة).
(105) أي ركبوا الملك. وفي بعض النُّسَخ: (تنسَّموا) من تنسَّم النسيم أي تشمَّمه. وفي بعض النُّسَخ: (تنسَّموا من الملك).
(106) في بعض النُّسَخ: (مرائر نفاقهم)، وفي بعضها: (من أثر نفاقهم). ونشقه - كفرحه - شمَّه. وفي بعض النُّسَخ: (تأيَّد حبال ظلالة قلوبهم).
(107) أي قوله: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ...﴾ الآية (النور: 55).
(108) في بعض النُّسَخ: (بانتشار الأمر).

(٣٨)

هَؤُلَاءِ، وَفِي عَهْدِ عَلِيٍّ (عليه السلام) مَعَ ارْتِدَادِ المُسْلِمِينَ وَالفِتَنِ الَّتِي تَثُورُ فِي أَيَّامِهِمْ، وَالحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ تَنْشَبُ بَيْنَ الكُفَّارِ وَبَيْنَهُمْ»، ثُمَّ تَلَا الصَّادِقُ (عليه السلام): «﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ [يوسف: 110].
وَأَمَّا العَبْدُ الصَّالِحُ - أَعْنِي الخَضِرَ (عليه السلام) - فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا طَوَّلَ عُمُرَهُ لِنُبُوَّةٍ قَدَّرَهَا لَهُ، وَلَا لِكِتَابٍ يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِ، وَلَا لِشَرِيعَةٍ يَنْسَخُ بِهَا شَرِيعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَلَا لِإِمَامَةٍ يُلْزِمُ عِبَادَهُ الِاقْتِدَاءَ بِهَا، وَلَا لِطَاعَةٍ يَفْرِضُهَا لَهُ، بَلَى إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَـمَّا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنْ يُقَدِّرَ مِنْ عُمُرِ القَائِمِ (عليه السلام) فِي أَيَّامِ غَيْبَتِهِ مَا يُقَدِّرُ، وَعَلِمَ مَا يَكُونُ مِنْ إِنْكَارِ عِبَادِهِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ العُمُرِ فِي الطُّولِ، طَوَّلَ عُمُرَ العَبْدِ الصَّالِحِ فِي غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ إِلَّا لِعِلَّةِ الاِسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عُمُرِ القَائِمِ (عليه السلام)، وَلِيَقْطَعَ بِذَلِكَ حُجَّةَ المُعَانِدِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ»(109)،(110).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(109) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 167 - 174/ ح 129) بسند آخر.
(110) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 223): (بيان: قال الفيروزآبادي: المحجر كمجلس ومنبر من العين وما دار بها وبدا من البرقع. قوله (عليه السلام): «وفقد» لعلَّه معطوف على الفجائع أو على الأبد، أي أوصلت مصابي بما أصابني قبل ذلك من فقد واحد بعد واحد بسبب فناء الجمع والعدد. وفي بعض النُّسَخ: (يغني) فالجملة معترضة أو حاليَّة. قوله (عليه السلام): «يفتر» أي يخرج بضعف وفتور، وفي الغيبة للطوسي: (يفشأ) على البناء للمفعول أي ينتشر. و«دوارج الرزايا» مواضيها. و«العواير» المصائب الكثيرة التي تعور العين لكثرتها، من قولهم: عنده من المال عائرة عين، أي يحار فيه البصر من كثرته، أو من العائر وهو الرمد والقذى في العين. وتعدية التمثيل بـ (عن) لتضمين معنى الكشف. والتراقي جمع الترقوة، أي يُمثِّل لي أشخاص مصائب أنظر إلى ترقوتها. وقوله: «أعظمها» على صيغة أفعل التفضيل، فيكون بدلاً عن العوائر، أو صيغة المتكلِّم أي أعدّها عظيمة فيكون صفة والاحتمالان جاريان في الثلاثة الأُخَر، وحاصل الكلام أنِّي كلَّما أنظر إلى دمعة أو أسمع منِّي أنيناً للمصائب التي نزلت بنا في سالف الزمان أنظر بعين اليقين إلى مصائب جليلة مستقبلة أعدّها عظيمة فظيعة. و«الغائل» المهلك، والغوائل الدواهي. قوله: «سمة» أي علامة).

(٣٩)

[293/52] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحَيْدَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ [بْنِ] مَسْعُودٍ العَيَّاشِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾ [الأنعام: 158]: «يَعْنِي خُرُوجَ القَائِمِ المُنْتَظَرِ مِنَّا»، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «يَا أَبَا بَصِيرٍ، طُوبَى لِشِيعَةِ قَائِمِنَا المُنْتَظِرِينَ لِظُهُورِهِ فِي غَيْبَتِهِ، وَالمُطِيعِينَ لَهُ فِي ظُهُورِهِ، أُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».
[294/53] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ العَيَّاشِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنِ العَمْرَكِيِّ بْنِ عَلِيٍّ البُوفَكِيِّ(111)، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام): «طُوبَى لِمَنْ تَمَسَّكَ بِأَمْرِنَا فِي غَيْبَةِ قَائِمِنَا فَلَمْ يَزِغْ قَلْبُهُ بَعْدَ الهِدَايَةِ»، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَمَا طُوبَى؟ قَالَ: «شَجَرَةٌ فِي الجَنَّةِ أَصْلُهَا فِي دَارِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، وَلَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَفِي دَارِهِ غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ [الرعد: 29]»(112).
[295/54] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الدَّقَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(111) العمركي بن عليِّ أبو محمّد البوفكي، وبوفك قرية من قرى نيشابور، شيخ من أصحابنا، ثقة. (خلاصة الأقوال: ص 227/ الرقم 21). وراويه جعفر بن أحمد بن أيُّوب صحيح الحديث.
(112) رواه المصنِّف (رحمه الله) في معاني الأخبار (ص 112/ باب معنى طوبى/ ح 1).

(٤٠)

الحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام): يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنِّي سَمِعْتُ مِنْ أَبِيكَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «يَكُونُ بَعْدَ القَائِمِ اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا»، فَقَالَ: «إِنَّمَا قَالَ: اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا وَلَمْ يَقُلْ: اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ شِيعَتِنَا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى مُوَالاتِنَا وَمَعْرِفَةِ حَقِّنَا»(113).
[296/55] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الدَّقَّاقُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ القَاسِمِ العَلَوِيُّ العَبَّاسِيُّ(114)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الكُوفِيُّ الفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ الزَّيَّاتُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ زِيَادٍ الأَزْدِيُّ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام)، قَالَ: سَألتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: 124]، مَا هَذِهِ الكَلِمَاتُ؟ قَالَ: «هِيَ الكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالحَسَنِ وَالحُسَيْنِ إِلَّا تُبْتَ عَلَيَّ، فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(113) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 53/ ص 115): (اعلم هداك الله بهداه أنَّ علم آل محمّد ليس فيه اختلاف، بل بعضه يُصدِّق بعضاً، وقد روينا أحاديث عنهم (صلوات الله عليهم) جمَّة في رجعة الأئمَّة الاثني عشر، فكأنَّه (عليه السلام) عرف من السائل الضعف عن احتمال هذا العلم الخاصِّ الذي خصَّ الله سبحانه من شاء من خاصَّته، وتكرَّم به على من أراد من بريَّته، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الحديد: 21]، فأوَّله بتأويل حسن بحيث لا يصعب عليه فيُنكِر قلبه فيكفر. فقد روي في الحديث عنهم (عليهم السلام): «ما كلُّ ما يُعلَم يقال، ولا كلُّ ما يقال حان وقته، ولا كلُّ ما حان وقته حضر أهله»، وروي أيضاً: «لا تقولوا: الجبت والطاغوت، وتقولوا: الرجعة، فإنْ قالوا: قد كنتم تقولون؟ قولوا: الآن لا نقول»، وهذا من باب التقيَّة التي تعبَّد الله بها عباده في زمن الأوصياء).
(114) حمزة بن القاسم من أحفاد أبي الفضل العبَّاس بن عليِّ بن أبي طالب (عليهما السلام) الشهيد بطفٍّ، جليل القدر، من أصحابنا، كثير الحديث.

(٤١)

فَمَا يَعْنِي (عزَّ وجلَّ) بِقَوْلِهِ: ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾؟ قَالَ: «يَعْنِي فَأَتَمَّهُنَّ إِلَى القَائِمِ اثْنَيْ عَشَرَ إِمَاماً تِسْعَةً مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ (عليه السلام)».
قَالَ المُفَضَّلُ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ [الزخرف: 28]، قَالَ: «يَعْنِي بِذَلِكَ الإِمَامَةَ، جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى فِي عَقِبِ الحُسَيْنِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَكَيْفَ صَارَتِ الإِمَامَةُ فِي وُلْدِ الحُسَيْنِ دُونَ وُلْدِ الحَسَنِ (عليهما السلام) وَهُمَا جَمِيعاً وَلَدَا رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَسِبْطَاهُ وَسَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّ مُوسَى وَهَارُونَ كَانَا نَبِيَّيْنِ مُرْسَلَيْنِ وَأَخَوَيْنِ، فَجَعَلَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) النُّبُوَّةَ فِي صُلْبِ هَارُونَ دُونَ صُلْبِ مُوسَى (عليهما السلام)، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: لِـمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ وَإِنَّ الإِمَامَةَ خِلَافَةُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) فِي أَرْضِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: لِـمَ جَعَلَهُ اللهُ فِي صُلْبِ الحُسَيْنِ دُونَ صُلْبِ الحَسَنِ (عليهما السلام)؟ لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]»(115)،(116).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(115) وللمصنِّف (رحمه الله) كلام طويل ذيل هذا الخبر في كتابه معاني الأخبار (ص 127 - 131).
(116) رواه المصنِّف (رحمه الله) في الخصال (ص 304 و305/ ح 84)، وفي معاني الأخبار (ص 126 و127/ باب معنى الكلمات التي ابتلى إبراهيمَ ربُّه بهنَّ فأتمَّهُنَّ/ ح 1).

(٤٢)

[297/1] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام)، قَالَ: «إِذَا فُقِدَ الخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ فَاللهَ اللهَ فِي أَدْيَانِكُمْ لَا يُزِيلَنَّكُمْ أَحَدٌ عَنْهَا. يَا بُنَيَّ(117)، إِنَّهُ لَا بُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ مِنْ غَيْبَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ مَنْ كَانَ يَقُولُ بِهِ، إِنَّمَا هِيَ مِحْنَةٌ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) امْتَحَنَ بِهَا خَلْقَهُ، وَلَوْ عَلِمَ آبَاؤُكُمْ وَأَجْدَادُكُمْ دِيناً أَصَحَّ مِنْ هَذَا لَاتَّبَعُوهُ»، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، وَمَا الخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ؟ فَقَالَ: «يَا بُنَيَّ، عُقُولُكُمْ تَضْعُفُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَحْلَامُكُمْ تَضِيقُ عَنْ حَمْلِهِ، وَلَكِنْ إِنْ تَعِيشُوا فَسَوْفَ تُدْرِكُونَهُ»(118)،(119).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(117) كذا في نُسَخ الكتاب وعلل الشرائع وغيبة الطوسي وغيبة النعماني (رحمهما الله)، وكفاية الأثر، والخطاب لأخيه عليِّ بن جعفر، ولعلَّه من باب اللطف والشفقة، أو يكون في الأصل: عليُّ بن جعفر، قال: حدَّثنا موسى بن جعفر (عليهما السلام)... إلخ. وقوله: (يا بَنِيَّ) بصيغة الجمع من باب الشفقة أيضاً.
(118) رواه المصنِّف (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 244 و245/ باب 178/ ح 4)، وابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 113/ ح 100)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 336/ باب في الغيبة/ ح 2)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 155 و156/ باب 10/ فصل 1/ ح 11)، والخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 268 و269)، والطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 534/ ح 516/120)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 166 و167/ ح 128).
(119) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 250 و251): (قوله: «إذا فُقِدَ الخامس من ولد السابع» السابع موسى بن جعفر (عليهما السلام)، والخامس هو الصاحب المنتظر. قوله: «فالله الله في أديانكم» الله منصوب بفعل مضمر، والتكرير للتأكيد، أي احفظوا الله أو أطيعوا في طاعتكم أو في أُموركم أو في سُبُلكم وطرائقكم، لأنَّ كلَّ ما جاء به النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهو سبيل وطريق إلى الله تعالى، والدِّين يُطلَق على كلِّ واحد كما يُطلَق على المجموع، والمقصود هو الأمر برعاية جانب الله ←

(٤٥)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

→ (عزَّ شأنه) فيها وطلب رضاه، ثمّ أكَّده بقوله: «لا يزيِّلنَّكم عنها أحد» من شياطين الجنِّ والإنس بالخدعة والمكر والوعيد وإلقاء الشُّبُهات وأنواع التدليسات والتلبيسات. قوله: «يا بَنِيَّ» بفتح الباء وكسر النون على صيغة الجمع، بقرينة قوله: «ولو علم آباؤكم»، وهو خطاب مع أولاده، وليس على صيغة الإفراد خطاباً مع أخيه عليِّ بن جعفر، لإباء السياق، وعدم صحَّته بدون التجوُّز. قوله: «إنَّما هي محنة» المحنة بكسر الميم واحدة المِحَن التي يُمتَحن بها الإنسان من بليَّة وشدَّة محنة، وامتحنته أي اختبرته، والاسم المحنة، وقد جرت كلمة الله تعالى على اختبار الناس بأنواع المِحَن والبلايا، ليُميِّز الجيِّد من الردي، ويظهر الصابر وغيره، كما قال (جلَّ شأنه): ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ﴾ [البقرة: 214]، وقال: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 2]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. فإنْ قلت: حقيقة الاختبار طلب الخبر بالشيء ومعرفته لمن لا يكون عارفاً به، والله سبحانه عالم بمضمرات القلوب وخفيَّات الغيوب، فالمطيع في علمه متميِّز من العاصي، فما معنى الاختبار في حقِّه؟ قلنا: اختباره تعالى ليس إلَّا ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع وعصيان من يعصي ويتميَّز ذلك عنده، فهو من باب الكناية، لأنَّ التميُّز من لوازم الاختبار وعوارضه، فأُطلق الملزوم وأُريد به اللازم كما هو شأن الكناية، أو قلنا: اختباره تعالى استعارة بتشبيه فعله هذا ليثيب المطيع ثواباً جزيلاً ويُعذِّب العاصي عذاباً وبيلاً باختبار الإنسان لعبيده ليتميَّز عنده المطيع والعاصي ليثيب المطيع ويكرمه ويُعذِّب العاصي ويهينه، فأُطلق على فعله تعالى الاختبار مجازاً. قوله: «ولو علم آباؤكم وأجدادكم ديناً أصحّ من هذا لاتَّبعوه» دلَّ على أنَّ هذا الدِّين أصحّ الأديان وليس دين أصحّ منه وإلَّا لاتَّبعه الصالحون المطهَّرون الذين شأنهم طلب الأصحّ والأفضل واتِّباع الأشرف والأكمل، ولعلَّ التفضُّل هنا مجرَّد عن معناه، فلا يلزم ثبوت الصحَّة لغير هذا الدِّين، وفيه حثٌّ على التمسُّك به وعدم مفارقته، وتأكيد لما مرَّ من قوله: «لا يزيِّلنَّكم عنها أحد»...، قوله: «من ولد السابع» كأنَّه سأل عن حقيقته وحقيقة صفاته المختصَّة به لا عن اسمه واسم أبيه، ولذلك أجاب (عليه السلام) بأنَّ عقولكم قاصرة عن إدراكه على هذا الوجه، لأنَّ حقيقة الإمام وصفاته لا يعلمها إلَّا الله سبحانه كما مرَّ سابقاً. قوله: «يا بَنِيَّ» الظاهر أنَّه على صيغة الجمع، وأنَّ عليَّ بن جعفر يدخل في الخطاب على سبيل التغليب. قوله: «ولكن إنْ تعيشوا فسوف تدركونه» لا يقال: كيف يُدركونه مع فقده؟ لأنَّا نقول: معناه: فسوف تُدركون زمانه أو فسوف تُدركونه قبل فقده وغيبته، أو نقول: معناه أنْ تعيشوا وتبقوا على هذا الدِّين فسوف تُدركونه بعد الظهور بالرجعة، وفيه بعد، والله أعلم).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 34 و35): («إذا فُقِدَ» على بناء المجهول، أي غاب. والسابع هو نفسه (عليه السلام)، والخامس من ولده المهدي (عليه السلام)، ولعلَّه (عليه السلام) إنَّما عبَّر هكذا تعريضاً بالواقفيَّة فإنَّهم يزعمون أنَّ المهدي صاحب الغيبة هو السابع مع أنَّه الخامس من ولده. «فالله» منصوب على التحذير بتقدير اتَّقوا، والتكرار للتأكيد، نحو: الأسد الأسد. والجمع في «أديانكم» باعتبار تعدُّد المخاطبين، أو باعتبار أجزاء الدِّين. «يا بُنَيَّ» بضم الباء وفتح النون، وسمَّاه ابناً على وجه اللطف والشفقة، والأخ الصغير كالابن، وقد يُقرَأ بفتح الباء وكسر النون بأنْ يكون الخطاب لأولاده فقط أو لهم مع عليٍّ تغليباً، والأوَّل أظهر. والمحنة - بالكسر -: الاسم من امتحنه إذا اختبره، ونسبته إلى الله مجازاً. «آباؤكم» أي رسول الله وأوصياؤه (عليهم السلام). «وأجدادكم» أي الأنبياء المتقدِّمين من أجدادهم، أو المراد بالآباء الأب مع الأجداد القريبة، وبالأجداد الأجداد البعيدة كالرسول وأمير المؤمنين والحسنين (عليهم السلام)، فإنَّ الحسن (عليه السلام) أيضاً من أجدادهم من قِبَل الأُمِّ، والخطاب إلى عليٍّ وأضرابه وإنْ لم يكونوا حاضرين تغليباً، وربَّما يُؤيَّد الوجه الثاني بهذا. «أصحّ من هذا» أي القول بوجوب الحجَّة في كلِّ زمان، أو كون عدد الأئمَّة (عليهم السلام) اثنا عشر. «من الخامس» لعلَّ المراد السؤال عن كيفيَّة غيبته وخصوصيَّاتها وامتدادها، ولذا لم يجب (عليه السلام)، فإنَّها مزلَّة للعقول والأحلام، وكانوا لا يصبرون على كتمانها، وإذاعتها ممَّا يضرُّ بالإمام بل بأكثر الأنام من الخواصِّ والعوامِّ، وما قيل: إنَّ المراد السؤال عن درجات الإمام وصفاته ومنازله، فهو بعيد. «فسوف تُدركونه» أي زمانه أو نفسه (عليه السلام) قبل الغيبة لكونهم من الخواصِّ، والأوَّل أظهر، ولا استبعاد في إدراك بعض المقصودين بالخطاب ذلك الزمان، مع أنَّ صدق الشرطيَّة لا يستلزم وقوع المقدَّم ولا إمكانه).

(٤٦)

[298/2] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ مُوسَى الخَشَّابُ، عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ القَصَبَانِيِّ(120)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(120) عبَّاس بن عامر بن رباح أبو الفضل الثقفي القصباني، عنونه الشيخ في رجاله تارةً من أصحاب الكاظم (عليه السلام) (ص 341/ الرقم 5077/38)، وأُخرى في باب من لم يروِ عنهم (عليهم السلام) (ص 434/ الرقم 6222/65)، وعنونه العلَّامة في القسم الأوَّل وقال: (الشيخ الصدوق الثقة) (خلاصة الأقوال: ص 210/ الرقم 7). والقصباني نسبة إلى بيع القصب كما في اللباب (ج 3/ ص 40)، وهو خلاف القياس.

(٤٧)

الحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) يَقُولُ: «صَاحِبُ هَذَا الأَمْرِ مَنْ يَقُولُ النَّاسُ: لَمْ يُولَدْ بَعْدُ»(121).
[299/3] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مُوسَى بْنِ القَاسِمِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ البَجَلِيِّ وَأَبِي قَتَادَةَ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام)، قَالَ: قُلْتُ: مَا تَأْوِيلُ قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30]؟ فَقَالَ: «إِذَا فَقَدْتُمْ إِمَامَكُمْ فَلَمْ تَرَوْهُ فَمَا ذَا تَصْنَعُونَ؟»(122).
[300/4] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمَدَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ البَرْقِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ كَثِيرٍ الرَّقِّيِّ، قَالَ: سَالتُ أَبَا الحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) عَنْ صَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ، قَالَ: «هُوَ الطَّرِيدُ الوَحِيدُ الغَرِيبُ الغَائِبُ عَنْ أَهْلِهِ، المَوْتُورُ بِأَبِيهِ (عليه السلام)».
[301/5] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمَدَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ السِّنْدِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، أَنْتَ القَائِمُ بِالحَقِّ؟ فَقَالَ: «أَنَا القَائِمُ بِالحَقِّ، وَلَكِنَّ القَائِمَ الَّذِي يُطَهِّرُ الأَرْضَ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً هُوَ الخَامِسُ مِنْ وُلْدِي، لَهُ غَيْبَةٌ يَطُولُ أَمَدُهَا خَوْفاً عَلَى نَفْسِهِ، يَرْتَدُّ فِيهَا أَقْوَامٌ وَيَثْبُتُ فِيهَا آخَرُونَ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(121) اعلم أنَّ الخبر يأتي أيضاً في باب ما روي عن الهادي (عليه السلام) في النصِّ على القائم وغيبته عن سعد، عن الخشَّاب، عن إسحاق بن محمّد بن أيُّوب، عن الهادي (عليه السلام) تحت الرقم (318/6).
(122) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمام والتبصرة (ص 125/ ح 124)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 181 و182/ باب 10/ فصل 4/ ح 17)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 160/ ح 117).

(٤٨)

ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «طُوبَى لِشِيعَتِنَا، المُتَمَسِّكِينَ بِحَبْلِنَا فِي غَيْبَةِ قَائِمِنَا، الثَّابِتِينَ عَلَى مُوَالَاتِنَا وَالبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَائِنَا، أُولَئِكَ مِنَّا وَنَحْنُ مِنْهُمْ، قَدْ رَضُوا بِنَا أَئِمَّةً، وَرَضِينَا بِهِمْ شِيعَةً، فَطُوبَى لَهُمْ، ثُمَّ طُوبَى لَهُمْ، وَهُمْ وَاللهِ مَعَنَا فِي دَرَجَاتِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ»(123).
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): إحدى العلل التي من أجلها وقعت الغيبة الخوف كما ذكر في هذا الحديث، وقد كان موسى بن جعفر (عليهما السلام) في ظهوره كاتماً لأمره، وكان شيعته لا تختلف إليه، ولا تجترون(124) على الإشارة خوفاً من طاغية زمانه حتَّى إِنَّ هِشَامَ بْنَ الحَكَمِ لَـمَّا سُئِلَ فِي مَجْلِسِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَى الإِمَامِ أَخْبَرَ بِهَا، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: مَنْ هَذَا المَوْصُوفُ؟ قَالَ: صَاحِبُ القَصْرِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، وَكَانَ هُوَ خَلْفَ السِّتْرِ قَدْ سَمِعَ كَلَامَهُ، فَقَالَ: أَعْطَانَا وَاللهِ مِنْ جِرَابِ النُّورَةِ(125)، فَلَمَّا عَلِمَ هِشَامٌ أَنَّهُ قَدْ أَتَى هَرَبَ وَطَلَبَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ إِلَى الكُوفَةِ وَمَاتَ بِهَا عِنْدَ بَعْضِ الشِّيعَةِ، فَلَمْ يَكُفَّ الطَّلَبَ عَنْهُ حَتَّى وُضِعَ مَيِّتاً بِالكُنَاسَةِ، وَكُتِبَتْ رُقْعَةٌ وَوُضِعَتْ مَعَهُ: هَذَا هِشَامُ بْنُ الحَكَمِ الَّذِي يَطْلُبُهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ القَاضِي وَالعُدُولُ وَصَاحِبُ المَعُونَةِ وَالعَامِلُ، فَحِينَئِذٍ كَفَّ الطَّاغِيَةُ عَنِ الطَّلَبِ عَنْهُ(126).
ذكر كلام هشام بن الحَكَم (رضي الله عنه) في هذا المجلس وما آل إليه أمره:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادٍ الهَمَدَانِيُّ وَالحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَاتَانَه (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(123) رواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 269 و270)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 240).
(124) في بعض النُّسَخ: (لا تجسرون).
(125) مثل بين العرب، والأصل فيه أنَّه سأل محتاج أميراً قسيَّ القلب شيئاً، فعلَّق على رأسه جراباً من النورة (الكلس) عند فمه وأنفه، وكلَّما تنفَّس دخل في أنفه شيء، فصار مثلاً.
(126) في بعض النُّسَخ: (كفَّ الطلب عنه).

(٤٩)

عَلِيٌّ الأَسْوَارِيُّ، قَالَ: كَانَ لِيَحْيَى بْنِ خَالِدٍ مَجْلِسٌ فِي دَارِهِ يَحْضُرُهُ المُتَكَلِّمُونَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ وَمِلَّةٍ يَوْمَ الأَحَدِ، فَيَتَنَاظَرُونَ فِي أَدْيَانِهِمْ، يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّشِيدَ، فَقَالَ لِيَحْيَى بْنِ خَالِدٍ: يَا عَبَّاسِيُّ، مَا هَذَا المَجْلِسُ الَّذِي بَلَغَنِي فِي مَنْزِلِكَ يَحْضُرُهُ المُتَكَلِّمُونَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا شَيْءٌ مِمَّا رَفَعَنِي بِهِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ وَبَلَغَ بِي مِنَ الكَرَامَةِ وَالرِّفْعَةِ أَحْسَنَ مَوْقِعاً عِنْدِي مِنْ هَذَا المَجْلِسِ، فَإِنَّهُ يَحْضُرُهُ كُلُّ قَوْمٍ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، فَيَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيُعْرَفُ المُحِقُّ مِنْهُمْ، وَيَتَبَيَّنُ لَنَا فَسَادُ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ.
فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: أَنَا أُحِبُّ أَنْ أَحْضُرَ هَذَا المَجْلِسَ وَأَسْمَعَ كَلَامَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَعْلَمُوا بِحُضُورِي فَيَحْتَشِمُونِي وَلَا يُظْهِرُوا مَذَاهِبَهُمْ، قَالَ: ذَلِكَ إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ مَتَى شَاءَ، قَالَ: فَضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي أَنْ لَا تُعْلِمَهُمْ بِحُضُورِي، فَفَعَلَ [ذَلِكَ]، وَبَلَغَ الخَبَرُ المُعْتَزِلَةَ، فَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ، وَعَزَمُوا عَلَى أَنْ لَا يُكَلِّمُوا هِشَاماً إِلَّا فِي الإِمَامَةِ، لِعِلْمِهِمْ بِمَذْهَبِ الرَّشِيدِ وَإِنْكَارِهِ عَلَى مَنْ قَالَ بِالإِمَامَةِ.
قَالَ: فَحَضَرُوا، وَحَضَرَ هِشَامٌ، وَحَضَرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الإبَاضِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ(127) لِهِشَامِ بْنِ الحَكَمِ، وَكَانَ يُشَارِكُهُ فِي التِّجَارَةِ(128)، فَلَمَّا دَخَلَ هِشَامٌ سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ: يَا عَبْدَ اللهِ، كَلِّمْ هِشَاماً فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنَ الإِمَامَةِ.
فَقَالَ هِشَامٌ: أَيُّهَا الوَزِيرُ، لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْنَا جَوَابٌ وَلَا مَسْأَلَةٌ، إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ مَعَنَا عَلَى إِمَامَةِ رَجُلٍ، ثُمَّ فَارَقُونَا بِلَا عِلْمٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ، فَلَا حِينَ كَانُوا مَعَنَا عَرَفُوا الحَقَّ، وَلَا حِينَ فَارَقُوَنا عَلِمُوا عَلَى مَا فَارَقُونَا، فَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْنَا مَسْأَلَةٌ وَلَا جَوَابٌ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(127) من الصداقة. والإباض - بكسر الهمزة - ومنه الإباضيَّة فرقة من الخوارج أصحاب عبد الله بن إباض التميمي. (الصحاح للجوهري: ج 3/ ص 1063/ مادَّة أبض).
(128) في بعض النُّسَخ: (في المحاورة).

(٥٠)

فَقَالَ بَيَانٌ(129) - وَكَانَ مِنَ الحَرُورِيَّةِ -: أَنَا أَسْأَلُكَ يَا هِشَامُ، أَخْبِرْنِي عَنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ يَوْمَ حَكَّمُوا الحَكَمَيْنِ أَكَانُوا مُؤْمِنِينَ أَمْ كَافِرِينَ؟ قَالَ هِشَامٌ: كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مُؤْمِنُونَ، وَصِنْفٌ مُشْرِكُونَ، وَصِنْفٌ ضُلَّالٌ، فَأَمَّا المُؤْمِنُونَ فَمَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِي: إِنَّ عَلِيًّا (عليه السلام) إِمَامٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَمُعَاوِيَةَ لَا يَصْلُحُ لَهَا، فَآمَنُوا بِمَا قَالَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي عَلِيٍّ (عليه السلام) وَأَقَرُّوا بِهِ.
وَأَمَّا المُشْرِكُونَ فَقَوْمٌ قَالُوا: عَلِيٌّ إِمَامٌ، وَمُعَاوِيَةُ يَصْلُحُ لَهَا، فَأَشْرَكُوا إِذْ أَدْخَلُوا مُعَاوِيَةَ مَعَ عَلِيٍّ (عليه السلام).
وَأَمَّا الضُّلَّالُ فَقَوْمٌ خَرَجُوا عَلَى الحَمِيَّةِ وَالعَصَبِيَّةِ لِلْقَبَائِلِ وَالعَشَائِرِ [فَ]لَمْ يَعْرِفُوا شَيْئاً مِنْ هَذَا وَهُمْ جُهَّالٌ.
قَالَ: فَأَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ مَا كَانُوا؟ قَالَ: كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كَافِرُونَ، وَصِنْفٌ مُشْرِكُونَ، وَصِنْفٌ ضُلَّالٌ.
فَأَمَّا الكَافِرُونَ فَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ مُعَاوِيَةَ إِمَامٌ وَعَلِيٌّ لَا يَصْلُحُ لَهَا، فَكَفَرُوا مِنْ جِهَتَيْنِ إِذْ جَحَدُوا إِمَاماً مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَنَصَبُوا إِمَاماً لَيْسَ مِنَ اللهِ.
وَأَمَّا المُشْرِكُونَ فَقَوْمٌ قَالُوا: مُعَاوِيَةُ إِمَامٌ وَعَلِيٌّ يَصْلُحُ لَهَا، فَأَشْرَكُوا مُعَاوِيَةَ مَعَ عَلِيٍّ (عليه السلام).
وَأَمَّا الضُّلَّالُ فَعَلَى سَبِيلِ أُولَئِكَ خَرَجُوا لِلْحَمِيَّةِ وَالعَصَبِيَّةِ لِلْقَبَائِلِ وَالعَشَائِرِ.
فَانْقَطَعَ بَيَانٌ عِنْدَ ذَلِكَ.
فَقَالَ ضِرَارٌ: وَأَنَا أَسْأَلُكَ يَا هِشَامُ فِي هَذَا، فَقَالَ هِشَامٌ: أَخْطَأْتَ، قَالَ: وَلِـمَ؟ قَالَ: لِأَنَّكُمْ كُلَّكُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى دَفْعِ إِمَامَةِ صَاحِبِي، وَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تُثْنُوا بِالمَسْأَلَةِ عَلَيَّ حَتَّى أَسْأَلَكَ يَا ضِرَارُ عَنْ مَذْهَبِكَ فِي هَذَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(129) في بعض النُّسَخ: (بنان)، وكذا فيما يأتي.

(٥١)

البَابِ، قَالَ ضِرَارٌ: فَسَلْ، قَالَ: أَتَقُولُ إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) عَدْلٌ لَا يَجُورُ؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ عَدْلٌ لَا يَجُورُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: فَلَوْ كَلَّفَ اللهُ المُقْعَدَ المَشْيَ إِلَى المَسَاجِدِ وَالجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَلَّفَ الأَعْمَى قِرَاءَةَ المَصَاحِفِ وَالكُتُبِ، أَتَرَاهُ كَانَ يَكُونُ عَادِلاً أَمْ جَائِراً؟ قَالَ ضِرَارٌ: مَا كَانَ اللهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ، قَالَ هِشَامٌ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللهَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الجَدَلِ وَالخُصُومَةِ، أَنْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَلَيْسَ كَانَ فِي فِعْلِهِ جَائِراً إِذْ كَلَّفَهُ تَكْلِيفاً لَا يَكُونُ لَهُ السَّبِيلُ إِلَى إِقَامَتِهِ وَأَدَائِهِ؟ قَالَ: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ جَائِراً؟ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) كَلَّفَ العِبَادَ دِيناً وَاحِداً لَا اخْتِلَافَ فِيهِ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَأْتُوا بِهِ كَمَا كَلَّفَهُمْ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَجَعَلَ لَهُمْ دَلِيلاً عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الدِّينِ، أَوْ كَلَّفَهُمْ مَا لَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى وُجُودِهِ، فَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَلَّفَ الأَعْمَى قِرَاءَةَ الكُتُبِ وَالمُقْعَدَ المَشْيَ إِلَى المَسَاجِدِ وَالجِهَادَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ ضِرَارٌ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ وَلَيْسَ بِصَاحِبِكَ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ هِشَامٌ، وَقَالَ: تَشَيَّعَ شَطْرُكَ(130) وَصِرْتَ إِلَى الحَقِّ ضَرُورَةً، وَلَا خِلَافَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ إِلَّا فِي التَّسْمِيَةِ، قَالَ ضِرَارٌ: فَإِنِّي أُرْجِعُ القَوْلَ عَلَيْكَ فِي هَذَا، قَالَ: هَاتِ، قَالَ ضِرَارٌ لِهِشَامٍ: كَيْفَ تَعْقِدُ الإِمَامَةَ؟ قَالَ هِشَامٌ: كَمَا عَقَدَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) النُّبُوَّةَ، قَالَ: فَهُوَ إِذاً نَبِيٌّ، قَالَ هِشَامٌ: لَا، لِأَنَّ النُّبُوَّةَ يَعْقِدُهَا أَهْلُ السَّمَاءِ، وَالإِمَامَةَ يَعْقِدُهَا أَهْلُ الأَرْضِ، فَعَقْدُ النُّبُوَّةِ بِالمَلَائِكَةِ، وَعَقْدُ الإِمَامَةِ بِالنَّبِيِّ(131)، وَالعَقْدَانِ جَمِيعاً بِأَمْرِ اللهِ (جلّ جلاله)، قَالَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ هِشَامٌ: الاِضْطِرَارُ فِي هَذَا، قَالَ ضِرَارٌ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ هِشَامٌ: لَا يَخْلُو الكَلَامُ فِي هَذَا مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) رَفَعَ التَّكْلِيفَ عَنِ الخَلْقِ بَعْدَ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ، فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ وَالبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا، أَفَتَقُولُ هَذَا يَا ضِرَارُ إِنَّ التَّكْلِيفَ عَنِ النَّاسِ مَرْفُوعٌ بَعْدَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(130) أي بعضك، ولعلَّ المراد به لسانه حيث أقرَّ بوجود الدليل.
(131) في بعض النُّسَخ: (إلَّا أنَّ النبوَّة تُعقَد بالملائكة والإمامة تُعقَد بالنبيِّ).

(٥٢)

الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قَالَ: لَا أَقُولُ هَذَا، قَالَ هِشَامٌ: فَالوَجْهُ الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّاسُ المُكَلَّفُونَ(132) قَدِ اسْتَحَالُوا بَعْدَ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عُلَمَاءَ فِي مِثْلِ حَدِّ الرَّسُولِ فِي العِلْمِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ، فَيَكُونُوا كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَغْنَوْا بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَصَابُوا الحَقَّ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، أَفَتَقُولُ هَذَا إِنَّ النَّاسَ اسْتَحَالُوا عُلَمَاءَ حَتَّى صَارُوا فِي مِثْلِ حَدِّ الرَّسُولِ فِي العِلْمِ بِالدِّينِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ مُسْتَغْنِينَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي إِصَابَةِ الحَقِّ؟ قَالَ: لَا أَقُولُ هَذَا، وَلَكِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى غَيْرِهِمْ.
قَالَ: فَبَقِيَ الوَجْهُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ عَالِمٍ يُقِيمُهُ الرَّسُولُ لَهُمْ لَا يَسْهُو وَلَا يَغْلَطُ وَلَا يَحِيفُ، مَعْصُومٌ مِنَ الذُّنُوبِ، مُبَرَّءٌ مِنَ الخَطَايَا، يَحْتَاجُ [النَّاسُ] إِلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ، قَالَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ قَالَ هِشَامٌ: ثَمَانُ دَلَالاتٍ أَرْبَعٌ فِي نَعْتِ نَسَبِهِ، وَأَرْبَعٌ فِي نَعْتِ نَفْسِهِ.
فَأَمَّا الأَرْبَعُ الَّتِي فِي نَعْتِ نَسَبِهِ: فَإِنَّهُ يَكُونُ مَعْرُوفَ الجِنْسِ، مَعْرُوفَ القَبِيلَةِ، مَعْرُوفَ البَيْتِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ المِلَّةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ إِشَارَةٌ، فَلَمْ يُرَ جِنْسٌ مِنْ هَذَا الخَلْقِ أَشْهَرُ مِنْ جِنْسِ العَرَبِ الَّذِينَ مِنْهُمْ صَاحِبُ المِلَّةِ وَالدَّعْوَةِ الَّذِي يُنَادَى بِاسْمِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ عَلَى الصَّوَامِعِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَتَصِلُ دَعْوَتُهُ إِلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ، مُقِرٍّ وَمُنْكِرٍ، فِي شَرْقِ الأَرْضِ وَغَرْبِهَا، وَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الحُجَّةُ مِنَ اللهِ عَلَى هَذَا الخَلْقِ فِي غَيْرِ هَذَا الجِنْسِ لَأَتَى عَلَى الطَّالِبِ المُرْتَادِ دَهْرٌ مِنْ عَصْرِهِ لَا يَجِدُهُ، وَلَجَازَ أَنْ يَطْلُبَهُ فِي أَجْنَاسٍ مِنْ هَذَا الخَلْقِ مِنَ العَجَمِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَكَانَ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يَكُونَ صَلَاحٌ يَكُونُ فَسَادٌ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا فِي حِكْمَةِ اللهِ (جلّ جلاله) وَعَدْلُهُ أَنْ يَفْرُضَ عَلَى النَّاسِ فَرِيضَةً لَا تُوجَدُ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِلَّا فِي هَذَا الجِنْسِ لِاتِّصَالِهِ بِصَاحِبِ المِلَّةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(132) صفة للناس. و(استحالوا) أي تحوَّلوا علماء لا يحتاجون إلى علمه (عليه السلام) بعد أنْ يكون في زمان الرسول يحتاجون إليه في دينهم.

(٥٣)

وَالدَّعْوَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الجِنْسِ إِلَّا فِي هَذِهِ القَبِيلَةِ لِقُرْبِ نَسَبِهَا مِنْ صَاحِبِ المِلَّةِ وَهِيَ قُرَيْشٌ، وَلَـمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الجِنْسِ إِلَّا فِي هَذِهِ القَبِيلَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ القَبِيلَةِ إِلَّا فِي هَذَا البَيْتِ لِقُرْبِ نَسَبِهِ مِنْ صَاحِبِ المِلَّةِ وَالدَّعْوَةِ، وَلَـمَّا كَثُرَ أَهْلُ هَذَا البَيْتِ وَتَشَاجَرُوا فِي الإِمَامَةِ لِعُلُوِّهَا وَشَرَفِهَا ادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ المِلَّةِ وَالدَّعْوَةِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ كَيْ لَا يَطْمَعَ فِيهَا غَيْرُهُ.
وَأَمَّا الأَرْبَعُ الَّتِي فِي نَعْتِ نَفْسِهِ: فَأَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِفَرَائِضِ اللهِ وَسُنَنِهِ وَأَحْكَامِهِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا دَقِيقٌ وَلَا جَلِيلٌ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُوماً مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، وَأَنْ يَكُونَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَنْ يَكُونَ أَسْخَى النَّاسِ.
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الإِبَاضِيُّ: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ: إِنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِماً بِجَمِيعِ حُدُودِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِهِ وَسُنَنِهِ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّبَ الحُدُودَ، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ القَطْعُ حَدَّهُ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الحَدُّ قَطَعَهُ، فَلَا يُقِيمُ لِلهِ (عزَّ وجلَّ) حَدًّا عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ، فَيَكُونُ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ اللهُ صَلَاحاً يَقَعُ فَسَاداً.
قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ قُلْتَ: إِنَّهُ مَعْصُومٌ مِنَ الذُّنُوبِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصُوماً مِنَ الذُّنُوبِ دَخَلَ فِي الخَطَإِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْتُمَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكْتُمَ عَلَى حَمِيمِهِ وَقَرِيبِهِ، وَلَا يَحْتَجُّ اللهُ بِمِثْلِ هَذَا عَلَى خَلْقِهِ.
قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ قُلْتَ: إِنَّهُ أَشْجَعُ النَّاسِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ فِئَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِي يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي الحُرُوبِ، وَقَالَ اللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ [الأنفال: 16]، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شُجَاعاً فَرَّ فَيَبُوءُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَبُوءُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) حُجَّةَ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ.
قَالَ: [فَ]مِنْ أَيْنَ قُلْتَ: إِنَّهُ أَسْخَى النَّاسِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ خَازِنُ المُسْلِمِينَ، فَإِنْ

(٥٤)

لَمْ يَكُنْ سَخِيًّا تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى أَمْوَالِهِمْ(133) فَأَخَذَهَا فَكَانَ خَائِناً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ بِخَائِنٍ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ ضِرَارٌ: فَمَنْ هَذَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي هَذَا الوَقْتِ؟ فَقَالَ: صَاحِبُ القَصْرِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ.
وَكَانَ هَارُونُ الرَّشِيدُ قَدْ سَمِعَ الكَلَامَ كُلَّهُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: أَعْطَانَا وَاللهِ مِنْ جِرَابِ النُّورَةِ، وَيْحَكَ يَا جَعْفَرُ - وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى جَالِساً مَعَهُ فِي السِّتْرِ - مَنْ يَعْنِي بِهَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، يَعْنِي بِهِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ، قَالَ: مَا عَنَى بِهَا غَيْرَ أَهْلِهَا(134)، ثُمَّ عَضَّ عَلَى شَفَتَيْهِ وَقَالَ: مِثْلُ هَذَا حَيٌّ ويَبْقَى لِي مُلْكِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟! فَوَاللهِ لَلِسَانُ هَذَا أَبْلَغُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِنْ مِائَةِ الفِ سَيْفٍ، وَعَلِمَ يَحْيَى أَنَّ هِشَاماً قَدْ أُتِيَ(135)، فَدَخَلَ السِّتْرَ فَقَالَ: يَا عَبَّاسِيُّ، وَيْحَكَ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، حَسْبُكَ تُكْفَى تُكْفَى، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى هِشَامٍ فَغَمَزَهُ، فَعَلِمَ هِشَامٌ أَنَّهُ قَدْ أُتِيَ، فَقَامَ يُرِيهِمْ أَنَّهُ يَبُولُ أَوْ يَقْضِي حَاجَةً، فَلَبِسَ نَعْلَيْهِ وَانْسَلَّ، وَمَرَّ بِبَيْتِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّوَارِي، وَهَرَبَ وَمَرَّ مِنْ فَوْرِهِ نَحْوَ الكُوفَةِ، فَوَافَى الكُوفَةَ وَنَزَلَ عَلَى بَشِيرٍ النَّبَّالِ - وَكَانَ مِنْ حَمَلَةِ الحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) -، فَأَخْبَرَهُ الخَبَرَ، ثُمَّ اعْتَلَّ عِلَّةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهُ بَشِيرٌ: آتِيكَ بِطَبِيبٍ؟ قَالَ: لَا أَنَا مَيِّتٌ، فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِبَشِيرٍ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ جِهَازِي فَاحْمِلْنِي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَضَعْنِي بِالكُنَاسَةِ وَاكْتُبْ رُقْعَةً وَقُلْ: هَذَا هِشَامُ بْنُ الحَكَمِ الَّذِي يَطْلُبُهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ.
وَكَانَ هَارُونُ قَدْ بَعَثَ إِلَى إِخْوَانِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ الخَلْقَ بِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ الكُوفَةِ رَأَوْهُ، وَحَضَرَ القَاضِي وَصَاحِبُ المَعُونَةِ وَالعَامِلُ وَالمُعَدِّلُونَ بِالكُوفَةِ، وَكَتَبَ إِلَى الرَّشِيدِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي كَفَانَا أَمْرَهُ، فَخَلَّى عَمَّنْ كَانَ أَخَذَ بِهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(133) أي اشتاقت ونازعت نفسه إليه.
(134) أي ما عنى بقوله: (أمير المؤمنين) إلَّا من هو أمير المؤمنين عنده.
(135) يعني وقع في الهلكة.

(٥٥)

[302/6] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمَدَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الأَزْدِيِّ، قَالَ: سَالتُ سَيِّدِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20]، فَقَالَ (عليه السلام): «النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ الإِمَامُ الظَّاهِرُ، وَالبَاطِنَةُ الإِمَامُ الغَائِبُ»، فَقُلْتُ لَهُ: وَيَكُونُ فِي الأَئِمَّةِ مَنْ يَغِيبُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَغِيبُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ شَخْصُهُ، وَلَا يَغِيبُ عَنْ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَّا، يُسَهِّلُ اللهُ لَهُ كُلَّ عَسِيرٍ، وَيُذَلِّلُ لَهُ كُلَّ صَعْبٍ، وَيُظْهِرُ لَهُ كُنُوزَ الأَرْضِ، وَيُقَرِّبُ لَهُ كُلَّ بَعِيدٍ، وَيُبِيرُ بِهِ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(136)، وَيُهْلِكُ عَلَى يَدِهِ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، ذَلِكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الإِمَاءِ الَّذِي تَخْفَى عَلَى النَّاسِ وِلَادَتُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ تَسْمِيَتُهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فَيَمْلَأَ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(137)،(138)،(139).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(136) أباره الله: أهلكه. وفي بعض النُّسَخ: (يتبر)، والتبر: الكسر، والإهلاك كالتتبير. وفي بعض النُّسَخ: (يفني به).
(137) رواه الخزَّاز في كفاية الأثر (ص 270 و271).
(138) في هامش بعض النُّسَخ المخطوطة هكذا: (الذي ادَّعاه المصنِّف فيما تقدَّم من النهي عن ذكر اسمه (عليه السلام) يُقوِّيه ويُؤيِّده هذا الحديث، وإلَّا فالروايات التي ذكرها في هذه الأبواب عن الأئمَّة (عليهم السلام) في النهى عن ذكر اسمه (عليه السلام) يمكن أنْ يُحمَل النهي فيها على قبل الغيبة في زمان العبَّاسيَّة دون عصرنا هذا، لأنَّ التقيَّة كانت في ذلك الزمان أشدّ من هذا العصر. وإنَّما قلنا: (يمكن أنْ يُحمَل النهى على قبل غيبته (عليه السلام)) لأنَّ النهى لا يخلو من وجهين إمَّا خوفاً على الإمام وهو مفقود في هذا العصر إذ لا يقدر أحد أنْ يظفر به، وإمَّا خوفاً على القائل الذاكر باسمه، وهذا أيضاً منتفٍ إذ لا يُتصوَّر الضرر من مخالفي هذا العصر ولا التعرُّض به، لأنَّه لو كان أحد ينادي في الأسواق بأعلى صوته: يا محمّد بن الحسن، لا يرى أحد من المخالفين أنَّه سمع اسمه ويعرفه حتَّى يُؤذى قائله، وإذا كان كذلك فلِمَ لا يجوز للمؤمنين أنْ يسمُّوه ويتبرَّكوا ويتشرَّفوا بذكر اسمه (عليه السلام)؟ وأمَّا قبل غيبته الكبرى كان الضرر متصوَّراً، لكن هذه الرواية تأبى ذلك، والله أعلم).
(139) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 32): (بيان: هذه التحديدات مصرِّحة في نفي قول من خصَّ ذلك بزمان الغيبة الصغرى تعويلاً على بعض العلل المستنبطة والاستبعادات الوهميَّة).

(٥٦)

قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): لم أسمع هذا الحديث إلَّا من أحمد بن زياد ابن جعفر الهمداني (رضي الله عنه) بهمدان عند منصرفي من حجِّ بيت الله الحرام، وكان رجلاً ثقةً ديِّناً فاضلاً (رحمة الله عليه ورضوانه).

* * *

(٥٧)

[303/1] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا (عليه السلام): إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ صَاحِبَ هَذَا الأَمْرِ، وَأَنْ يَرُدَّهُ اللهُ(140) (عزَّ وجلَّ) إِلَيْكَ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ، فَقَدْ بُويِعَ لَكَ وَضُرِبَتِ الدَّرَاهِمُ بِاسْمِكَ، فَقَالَ: «مَا مِنَّا أَحَدٌ اخْتَلَفَتْ إِلَيْهِ الكُتُبُ، وَسُئِلَ عَنِ المَسَائِلِ، وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ الأَصَابِعُ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ الأَمْوَالُ إِلَّا اغْتِيلَ أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لِهَذَا الأَمْرِ رَجُلاً خَفِيَّ المَوْلِدِ وَالمَنْشَإِ غَيْرَ خَفِيٍّ فِي نَسَبِهِ»(141)،(142).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(140) في بعض النُّسَخ: (يسديه الله)، وفي بعضها: (يسوقه الله).
(141) رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 341 و342/ باب في الغيبة/ ح 25) بسند آخر، والحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص 431 و432).
(142) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 269): (قوله: «إلَّا اغتيل أو مات على فراشه» الاغتيال الخدعة، يقال: قتله غيلة إذا خدعه فذهب به إلى موضع فقتله، وكلمة (أو) للتنويع وهو التقسيم لا للشكِّ، لتنزُّه ساحة قدسه عنه، وصدق الشرطيَّة لا يتوقَّف على صدق طرفيها مطلقاً، فلا ينافي هذا ما تقرَّر من أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) كلُّهم مقتولين، بعضهم بالسيف وبعضهم بالسمِّ. قوله: «خفي الولادة والمنشأ غير خفي في نسبه» المراد بخفاء ولادته خفاؤها عند الأكثر بدليل علم بعض الخواصِّ بها، وبخفاء منشئه خفاء مكانه الذي ينشأ فيه ويأوي إليه، وبعدم خفاء نسبه كون نسبه معلوماً للخاصَّة والعامَّة فإنَّهم أيضاً قائلون بأنَّ المهدي (عليه السلام) من أولاد الحسين بن عليٍّ (عليهم السلام)).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 57): («وأنْ يسوقه الله» في الإكمال: وأنْ يسدَّ به الله (عزَّ وجلَّ) إليك. «فقد بويع لك» أي بولاية العهد للمأمون. «وأُشير إليه بالأصابع» كناية عن الشهرة، وفي الإكمال: وأشارت إليه الأصابع. «إلَّا اغتيل» الاغتيال هو الأخذ بغتة، والقتل خديعة، ولعلَّ المراد به القتل بالحديد وبالموت على الفراش القتل بالسمِّ، أو المراد بالأوَّل الأعمّ وبالثاني الموت غيظاً من غير ظفر على العدو كما سيأتي. و(أو) للتقسيم لا للشكِّ. «خفي الولادة» أي وقت ولادته خفي عند جمهور الناس وإنْ اطَّلع عليه بعض الخواصِّ، والمنشأ: الوطن ومحلُّ النشو، أي لا يعلم جمهور الخلق في أيِّ موضع نما ونشأ، ومضت عليه السنون. «غير خفي في نسبه» فإنَّه يعلم جميع الشيعة أنَّه ابن الحسن العسكري (عليهما السلام)، بل المخالفون أيضاً يقولون إنَّه من ولد الحسين (عليه السلام)، وقيل: أي معلوم بالبرهان أنَّه ولد العسكري (عليهما السلام)).

(٦١)

[304/2] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الفَزَارِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ، عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سُئِلَ أَبُو الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) عَنِ القَائِمِ (عليه السلام)، فَقَالَ: «لَا يُرَى جِسْمُهُ وَلَا يُسَمَّى بِاسْمِهِ»(143)،(144).
[305/3] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ العَبَرْتَائِيِّ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (عليهما السلام)، قَالَ: قَالَ لِي: «لَا بُدَّ مِنْ فِتْنَةٍ صَمَّاءَ صَيْلَمٍ(145) يَسْقُطُ فِيهَا كُلُّ بِطَانَةٍ وَوَلِيجَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ فِقْدَانِ الشِّيعَةِ الثَّالِثَ مِنْ وُلْدِي، يَبْكِي عَلَيْهِ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الأَرْضِ وَكُلُّ حَرَّى وَحَرَّانَ وَكُلُّ حَزِينٍ وَلَهْفَانَ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(143) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 117/ ح 110)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 333/ باب في النهي عن الاسم/ ح 3)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 266).
(144) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 236): (قوله: «لا يُرى جسمه ولا يُسمَّى اسمه» الأوَّل إخبار عن غيبته، والثاني نهي في المعنى عن التصريح باسمه، ولعلَّه في بعض الأزمنة لأجل الخوف).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 17): (الظاهر أنَّ الاسم في هذه الأخبار لا يشمل الكنية واللقب).
(145) الصيلم: الأمر الشديد والداهية. والفتنة الصمَّاء هي التي لا سبيل إلى تسكينها لتناهيها في دهائها، لأنَّ الأصمَّ لا يسمع الاستغاثة ولا يقلع عمَّا يفعله، وقيل: هي كالحيَّة الصمَّاء التي لا تقبل الرقيَّ. (النهاية: ج 3/ ص 54). وبطانة الرجل: صاحب سرِّه والذي يشاوره. ووليجة الرجل: دخلاؤه وخاصَّته.

(٦٢)

ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «بِأَبِي وأُمِّي سَمِيُّ جَدِّي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَشَبِيهِي وَشَبِيهُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام)، عَلَيْهِ جُيُوبُ النُّورِ، يَتَوَقَّدُ مِنْ شُعَاعِ ضِيَاءِ القُدْسِ(146)، يَحْزَنُ لِمَوْتِهِ أَهْلُ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، كَمْ مِنْ حَرَّى مُؤْمِنَةٍ، وَكَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ مُتَأَسِّفٍ حَرَّانَ حَزِينٍ عِنْدَ فِقْدَانِ المَاءِ المَعِينِ، كَأَنِّي بِهِمْ آيِسٌ مَا كَانُوا قَدْ نُودُوا نِدَاءً يَسْمَعُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُ مَنْ قَرُبَ، يَكُونُ رَحْمَةً عَلَى المُؤْمِنِينَ وَعَذَاباً عَلَى الكَافِرِينَ»(147)،(148).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(146) في بعض النُّسَخ: (سناء ضياء القدس).
(147) رواه المصنِّف (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 2/ ص 9 و10/ ح 14)، وابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 114/ ح 102)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 186/ باب 10/ فصل 4/ ح 28)، والطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 460 و461/ ح 441/45)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 439 و440/ ح 431)، والراوندي (رحمه الله) في الخراج والجرائح (ج 3/ ص 1168 و1169).
(148) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 153 و154): (أقول: لا يبعد أنْ يكون مأخوذاً من قولهم: صخرة صمَّاء، أي الصلبة المصمتة، كناية عن نهاية اشتباه الأمر فيها حتَّى لا يمكن النفوذ فيها والنظر في باطنها وتحيُّر أكثر الخلق فيها، أو عن صلابتها وثباتها واستمرارها. والصيلم الداهية والأمر الشديد، ووقعة صيلمة أي مستأصلة. و(بطانة الرجل) صاحب سرِّه الذي يشاوره في أحواله. و(وليجة الرجل) دخلاؤه وخاصَّته، أي يزل فيها خواصُّ الشيعة. والمراد بالثالث الحسن العسكري، والظاهر رجوع الضمير في (عليه) إليه، ويحتمل رجوعه إلى إمام الزمان المعلوم بقرينة المقام. وعلى التقديرين المراد بقوله: «سميُّ جدِّي» القائم (عليه السلام). قوله (عليه السلام): «عليه جيوب النور» لعلَّ المعنى أنَّ جيوب الأشخاص النورانيَّة من كُمَّل المؤمنين والملائكة المقرَّبين وأرواح المرسَلين تشتعل للحزن على غيبته وحيرة الناس فيه، وإنَّما ذلك لنور إيمانهم الساطع من شموس عوالم القدس. ويحتمل أنْ يكون المراد بجيوب النور الجيوب المنسوبة إلى النور والتي يسطع منها أنوار فيضه وفضله تعالى. والحاصل أنَّ عليه (صلوات الله عليه) أثواب قدسيَّة وخِلَع ربَّانيَّة تتَّقد من جيوبها أنوار فضله وهدايته تعالى. ويُؤيِّده ما مرَّ في رواية محمّد بن الحنفيَّة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «جلابيب النور». ويحتمل أنْ يكون (على) تعليليَّة، أي ببركة هدايته وفيضه (عليه السلام) يسطع من جيوب القابلين أنوار القدس من العلوم والمعارف الربَّانيَّة. قوله: «يُسمَع» على بناء المجهول أو المعلوم، وعلى الأوَّل (من) حرف الجرِّ، وعلى الثاني اسم موصول، وكذا الفقرة الثانية يحتمل الوجهين).

(٦٣)

[306/4] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ(149)، عَنْ خَالِهِ أَحْمَدَ بْنِ زَكَرِيَّا، قَالَ: قَالَ لِيَ الرِّضَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى (عليهما السلام): «أَيْنَ مَنْزِلُكَ بِبَغْدَادَ؟»، قُلْتُ: الكَرْخُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ أَسْلَمُ مَوْضِعٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ فِتْنَةٍ صَمَّاءَ صَيْلَمٍ تَسْقُطُ فِيهَا كُلُّ وَلِيجَةٍ وَبِطَانَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ فِقْدَانِ الشِّيعَةِ الثَّالِثَ مِنْ وُلْدِي».
[307/5] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمَدَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا (عليهما السلام): «لَا دِينَ لِمَنْ لَا وَرَعَ لَهُ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَعْمَلُكُمْ بِالتَّقِيَّةِ»، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِلَى مَتَى؟ قَالَ: «إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ، وَهُوَ يَوْمُ خُرُوجِ قَائِمِنَا أَهْلَ البَيْتِ، فَمَنْ تَرَكَ التَّقِيَّةَ قَبْلَ خُرُوجِ قَائِمِنَا فَلَيْسَ مِنَّا، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَمَنِ القَائِمُ مِنْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ؟ قَالَ: «الرَّابِعُ مِنْ وُلْدِي، ابْنُ سَيِّدَةِ الإِمَاءِ، يُطَهِّرُ اللهُ بِهِ الأَرْضَ مِنْ كُلِّ جَوْرٍ، وَيُقَدِّسُهَا مِنْ كُلِّ ظُلْمٍ، [وَهُوَ] الَّذِي يَشُكُّ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ الغَيْبَةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَإِذَا خَرَجَ أَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِهِ(150) وَوَضَعَ مِيزَانَ العَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَداً، وَهُوَ الَّذِي تُطْوَى لَهُ الأَرْضُ وَلَا يَكُونُ لَهُ ظِلٌّ، وَهُوَ الَّذِي يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ يَسْمَعُهُ جَمِيعُ أَهْلِ الأَرْضِ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، يَقُولُ: أَلَا إِنَّ حُجَّةَ اللهِ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ بَيْتِ اللهِ فَاتَّبِعُوهُ، فَإِنَّ الحَقَّ مَعَهُ وَفِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: 4]»(151).
[308/6] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمَدَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(149) في بعض النُّسَخ: (محمّد بن حمدان).
(150) في بعض النُّسَخ: (بنور ربِّها).
(151) رواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 274 و275)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 241).

(٦٤)

ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الهَرَوِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ دِعْبِلَ بْنَ عَلِيٍّ الخُزَاعِيَّ يَقُولُ: أَنْشَدْتُ مَوْلَايَ الرِّضَا عَلِيَّ بْنَ مُوسَى (عليهما السلام) قَصِيدَتِيَ الَّتِي أَوَّلُهَا:

مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ * * * وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ العَرَصَاتِ

فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى قَوْلِي:

خُرُوجُ إِمَامٍ لَا مَحَالَةَ خَارِجٌ * * * يَقُومُ عَلَى اسْمِ اللهِ وَالبَرَكَاتِ
يُمَيِّزُ فِينَا كُلَّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ * * * وَيُجْزِي عَلَى النَّعْمَاءِ وَالنَّقِمَاتِ

بَكَى الرِّضَا (عليه السلام) بُكَاءً شَدِيداً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: «يَا خُزَاعِيُّ، نَطَقَ رُوحُ القُدُسِ عَلَى لِسَانِكَ بِهَذَيْنِ البَيْتَيْنِ، فَهَلْ تَدْرِي مَنْ هَذَا الإِمَامُ وَمَتَى يَقُومُ؟»، فَقُلْتُ: لَا يَا مَوْلَايَ إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ بِخُرُوجِ إِمَامٍ مِنْكُمْ يُطَهِّرُ الأَرْضَ مِنَ الفَسَادِ وَيَمْلَؤُهَا عَدْلًا [كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً]، فَقَالَ: «يَا دِعْبِلُ، الإِمَامُ بَعْدِي مُحَمَّدٌ ابْنِي، وَبَعْدَ مُحَمَّدٍ ابْنُهُ عَلِيٌّ، وَبَعْدَ عَلِيٍّ ابْنُهُ الحَسَنُ، وَبَعْدَ الحَسَنِ ابْنُهُ الحُجَّةُ القَائِمُ المُنْتَظَرُ فِي غَيْبَتِهِ، المُطَاعُ فِي ظُهُورِهِ، لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) ذَلِكَ اليَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فَيَمْلَأَ الأَرْضَ(152) عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً.
وَأَمَّا (مَتَى) فَإِخْبَارٌ عَنِ الوَقْتِ، فَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) أَنَّ النَّبِيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى يَخْرُجُ القَائِمُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): مَثَلُهُ مَثَلُ السَّاعَةِ الَّتِي ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً(153) [الأعراف: 187]»(154).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(152) في بعض النُّسَخ: (فيملأها).
(153) وفي أكثر النُّسَخ: (لا يُجليها لوقتها إلَّا الله (عزَّ وجلَّ) ثقلت في السماوات...) الآية، لكن في العيون كما في المتن.
(154) رواه المصنِّف (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 2/ ص 296 و297/ ح 35)، والخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 276 و277).

(٦٥)

ولدعبل بن عليٍّ الخزاعي (رضي الله عنه) خبر آخر أحببت إيراده على أثر هذا الحديث الذي مضى.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ (رضي الله عنه)، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ هَاشِمٍ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الهَرَوِيِّ، قَالَ: دَخَلَ دِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ الخُزَاعِيُّ (رضي الله عنه) عَلَى أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (عليهما السلام) بِمَرْوَ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنِّي قَدْ قُلْتُ فِيكُمْ قَصِيدَةً وَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي(155) أَنْ لَا أُنْشِدَهَا أَحَداً قَبْلَكَ، فَقَالَ (عليه السلام): «هَاتِهَا»، فَأَنْشَدَهَا:

مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ * * * وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ العَرَصَاتِ

فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ:

أَرَى فَيْئَهُمْ فِي غَيْرِهِمْ مُتَقَسِّماً * * * وَأَيْدِيَهُمْ مِنْ فَيْئِهِمْ صَفِرَاتِ

بَكَى أَبُو الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) وَقَالَ: «صَدَقْتَ يَا خُزَاعِيُّ»، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ:

إِذَا وَتَرُوا مَدُّوا إِلَى وَاتِرِيهِمْ * * * أَكُفًّا عَنِ الأَوْتَارِ مُنْقَبِضَاتِ

جَعَلَ أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام) يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: «أَجَلْ وَاللهِ مُنْقَبِضَاتٍ»، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ:

لَقَدْ خِفْتُ فِي الدُّنْيَا وَأَيَّامِ سَعْيِهَا * * * وَإِنِّي لَأَرْجُو الأَمْنَ بَعْدَ وَفَاتِي

قَالَ لَهُ الرِّضَا (عليه السلام): «آمَنَكَ اللهُ يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ»، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ:

وَقَبْرٌ بِبَغْدَادَ لِنَفْسٍ زَكِيَّةٍ * * * تَضَمَّنَهُ الرَّحْمَنُ فِي الغُرُفَاتِ

قَالَ لَهُ الرِّضَا (عليه السلام): «أَفَلَا الحِقُ لَكَ بِهَذَا المَوْضِعِ بَيْتَيْنِ بِهِمَا تَمَامُ قَصِيدَتِكَ؟»، فَقَالَ: بَلَى يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ (عليه السلام):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(155) أي حلفت أو نذرت وجعلت على نفسي كذا وكذا.

(٦٦)

«وَقَبْرٌ بِطُوسَ يَا لَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ * * * تَوَقَّدَ فِي الأَحْشَاءِ بِالحُرُقَاتِ(156)
إِلَى الحَشْرِ حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ قَائِماً * * * يُفَرِّجُ عَنَّا الهَمَّ وَالكُرُبَاتِ».

فَقَالَ دِعْبِلٌ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، هَذَا القَبْرُ الَّذِي بِطُوسَ قَبْرُ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ الرِّضَا (عليه السلام): «قَبْرِي، ولَا تَنْقَضِي الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى تَصِيرَ طُوسُ مُخْتَلَفَ شِيعَتِي وَزُوَّارِي فِي غُرْبَتِي، أَلَا فَمَنْ زَارَنِي فِي غُرْبَتِي بِطُوسَ كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَغْفُوراً لَهُ».
ثُمَّ نَهَضَ الرِّضَا (عليه السلام) بَعْدَ فَرَاغِ دِعْبِلٍ مِنْ إِنْشَادِهِ القَصِيدَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَبْرَحَ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَدَخَلَ الدَّارَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَاعَةٍ خَرَجَ الخَادِمُ إِلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ رَضَوِيَّةٍ، فَقَالَ لَهُ: يَقُولُ لَكَ مَوْلَايَ: «اجْعَلْهَا فِي نَفَقَتِكَ»، فَقَالَ دِعْبِلٌ: وَاللهِ مَا لِهَذَا جِئْتُ، وَلَا قُلْتُ هَذِهِ القَصِيدَةَ طَمَعاً فِي شَيْءٍ يَصِلُ إِلَيَّ، وَرَدَّ الصُّرَّةَ وَسَأَلَ ثَوْباً مِنْ ثِيَابِ الرِّضَا (عليه السلام) لِيَتَبَرَّكَ بِهِ وَيَتَشَرَّفَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الرِّضَا (عليه السلام) جُبَّةَ خَزٍّ مَعَ الصُّرَّةِ، وَقَالَ لِلْخَادِمِ: «قُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ [مَوْلَايَ]: خُذْ هَذِهِ الصُّرَّةَ فَإِنَّكَ سَتَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَلَا تُرَاجِعْنِي فِيهَا»، فَأَخَذَ دِعْبِلٌ الصُّرَّةَ وَالجُبَّةَ وَانْصَرَفَ، وَسَارَ مِنْ مَرْوَ فِي قَافِلَةٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مِيَانَ قُوهَانَ(157) وَقَعَ عَلَيْهِمُ اللُّصُوصُ، وَأَخَذُوا القَافِلَةَ بِأَسْرِهَا وَكَتَفُوا أَهْلَهَا، وَكَانَ دِعْبِلٌ فِيمَنْ كُتِفَ، وَمَلَكَ اللُّصُوصُ القَافِلَةَ، وَجَعَلُوا يَقْسِمُونَهَا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ مُتَمَثِّلاً بِقَوْلِ دِعْبِلٍ مِنْ قَصِيدَتِهِ:

أَرَى فَيْئَهُمْ فِي غَيْرِهِمْ مُتَقَسِّماً * * * وَأَيْدِيَهُمْ مِنْ فَيْئِهِمْ صَفِرَاتِ

فَسَمِعَهُ دِعْبِلٌ، فَقَالَ لَهُ: لِمَنْ هَذَا البَيْتُ؟ فَقَالَ لَهُ: لِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ يُقَالُ لَهُ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(156) في بعض النُّسَخ: (ألحَّت على الأحشاء بالزفرات).
(157) كذا أيضاً في العيون. وفي هامش بعض النُّسَخ: (قوهان قرية بقرب نيسابور).

(٦٧)

دِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ، فَقَالَ لَهُ دِعْبِلٌ: فَأَنَا دِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ قَائِلُ هَذِهِ القَصِيدَةِ الَّتِي مِنْهَا هَذَا البَيْتُ، فَوَثَبَ الرَّجُلُ إِلَى رَئِيسِهِمْ وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى رَأْسِ تَلٍّ وَكَانَ مِنَ الشِّيعَةِ، فَأَخْبَرَهُ فَجَاءَ بِنَفْسِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى دِعْبِلٍ، قَالَ لَهُ: أَنْتَ دِعْبِلٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: أَنْشِدِ القَصِيدَةَ، فَأَنْشَدَهَا، فَحَلَّ كِتَافَهُ وَكِتَافَ جَمِيعِ أَهْلِ القَافِلَةِ(158) وَرَدَّ إِلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ لِكَرَامَةِ دِعْبِلٍ، وَسَارَ دِعْبِلٌ حَتَّى وَصَلَ إِلَى قُمَّ، فَسَأَلَهُ أَهْلُ قُمَّ أَنْ يُنْشِدَهُمُ القَصِيدَةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي مَسْجِدِ الجَامِعِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا صَعِدَ دِعْبِلٌ المِنْبَرَ فَأَنْشَدَهُمُ القَصِيدَةَ، فَوَصَلَهُ النَّاسُ مِنَ المَالِ وَالخِلَعِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، وَاتَّصَلَ بِهِمْ خَبَرُ الجُبَّةِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُمْ بِالفِ دِينَارٍ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: فَبِعْنَا شَيْئاً مِنْهَا بِالفِ دِينَارٍ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَسَارَ عَنْ قُمَّ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ رُسْتَاقِ البَلَدِ لَحِقَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَحْدَاثِ العَرَبِ فَأَخَذُوا الجُبَّةَ مِنْهُ، فَرَجَعَ دِعْبِلٌ إِلَى قُمَّ فَسَأَلَهُمْ رَدَّ الجُبَّةِ عَلَيْهِ، فَامْتَنَعَ الأَحْدَاثُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَصَوُا المَشَايِخَ فِي أَمْرِهَا، وَقَالُوا لِدِعْبِلٍ: لَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى الجُبَّةِ، فَخُذْ ثَمَنَهَا الفَ دِينَارٍ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ رَدِّ الجُبَّةِ عَلَيْهِ سَأَلَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ شَيْئاً مِنْهَا، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَعْطَوْهُ بَعْضَهَا، وَدَفَعُوا إِلَيْهِ ثَمَنَ بَاقِيهَا الفَ دِينَارٍ، وَانْصَرَفَ دِعْبِلٌ إِلَى وَطَنِهِ، فَوَجَدَ اللُّصُوصَ قَدْ أَخَذُوا جَمِيعَ مَا كَانَ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَبَاعَ المِائَةَ دِينَارٍ الَّتِي كَانَ الرِّضَا (عليه السلام) وَصَلَهُ بِهَا مِنَ الشِّيعَةِ كُلَّ دِينَارٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَحَصَلَ فِي يَدِهِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَتَذَكَّرَ قَوْلَ الرِّضَا (عليه السلام): «إِنَّكَ سَتَحْتَاجُ إِلَيْهَا»، وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ لَهَا مِنْ قَلْبِهِ مَحَلٌّ فَرَمَدَتْ رَمَداً عَظِيماً، فَأَدْخَلَ أَهْلَ الطِّبِّ عَلَيْهَا، فَنَظَرُوا إِلَيْهَا فَقَالُوا: أَمَّا العَيْنُ اليُمْنَى فَلَيْسَ لَنَا فِيهَا حِيلَةٌ وَقَدْ ذَهَبَتْ، وَأَمَّا اليُسْرَى فَنَحْنُ نُعَالِجُهَا وَنَجْتَهِدُ وَنَرْجُو أَنْ تَسْلَمَ، فَاغْتَمَّ دِعْبِلٌ لِذَلِكَ غَمًّا شَدِيداً، وَجَزِعَ عَلَيْهَا جَزَعاً عَظِيماً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(158) الكتاف حبل يُشَدُّ به.

(٦٨)

ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ مَا مَعَهُ مِنْ فَضْلَةِ الجُبَّةِ، فَمَسَحَهَا عَلَى عَيْنَيِ الجَارِيَةِ وَعَصَبَهَا بِعِصَابَةٍ مِنْهَا مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَتْ وَعَيْنَاهَا أَصَحُّ مِمَّا كَانَتَا، [وَكَأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَثَرُ مَرَضٍ قَطُّ] بِبَرَكَةِ [مَوْلَانَا] أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام)(159)،(160).
[309/7] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمَدَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا (عليه السلام): أَنْتَ صَاحِبُ هَذَا الأَمْرِ؟ فَقَالَ: «أَنَا صَاحِبُ هَذَا الأَمْرِ، وَلَكِنِّي لَسْتُ بِالَّذِي أَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً، وَكَيْفَ أَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَا تَرَى مِنْ ضَعْفِ بَدَنِي؟ وَإِنَّ القَائِمَ هُوَ الَّذِي إِذَا خَرَجَ كَانَ فِي سِنِّ الشُّيُوخِ وَمَنْظَرِ الشُّبَّانِ، قَوِيًّا فِي بَدَنِهِ حَتَّى لَوْ مَدَّ يَدَهُ إِلَى أَعْظَمِ شَجَرَةٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ لَقَلَعَهَا، وَلَوْ صَاحَ بَيْنَ الجِبَالِ لَتَدَكْدَكَتْ صُخُورُهَا، يَكُونُ مَعَهُ عَصَا مُوسَى، وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ (عليه السلام)، ذَاكَ الرَّابِعُ مِنْ وُلْدِي، يُغَيِّبُهُ اللهُ فِي سِتْرِهِ مَا شَاءَ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ فَيَمْلَأُ [بِهِ] الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(161).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(159) رواه المصنِّف (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 2/ ص 294 - 296/ ح 34)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 66 - 68).

(160) لدعبل وقصيدته هذه حكايات، وقيل: إنَّه كتب هذه القصيدة على ثوب وأحرم فيه وأمر أنْ يُجعَل في جملة أكفانه، وتُوفِّي سنة (246هـ) بشوش.
وقيل: إنَّ ابنه رآه في المنام، فسُئِلَ عن حاله، فذكر أنَّه على سوء حال ومشقَّة لبعض أفعاله، فلقي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال له: «أنت دعبل؟»، قال: نعم، قال: «فأنشدني ما قلت في أولادي»، فأنشده قوله:
لا أضحك الله سنَّ الدهر إنْ ضحكت * * * وآل أحمد مظلومون قد قُهروا
مشرَّدون نفوا عن عقر دارهم * * * كأنَّهم قد جنوا ما ليس يغتفرُ
فقال له: «أحسنت»، فشُفِّع (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأعطاه ثيابه، فأمن ونجا.
راجع: عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 2/ ص 297 و298/ ح 6).
(161) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 240 و241).

(٦٩)

[310/1] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى الدَّقَّاقُ (رضي الله عنه)(162)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ هَارُونَ الصُّوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تُرَابٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى الرُّويَانِيُّ(163)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَظِيمِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام) [الحَسَنِيُّ]، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام) وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ القَائِمِ أَهُوَ المَهْدِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، فَابْتَدَأَنِي فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا القَاسِمِ، إِنَّ القَائِمَ مِنَّا هُوَ المَهْدِيُّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُنْتَظَرَ فِي غَيْبَتِهِ، وَيُطَاعَ فِي ظُهُورِهِ، وَهُوَ الثَّالِثُ مِنْ وُلْدِي، وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالنُّبُوَّةِ وَخَصَّنَا بِالإِمَامَةِ إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ ذَلِكَ اليَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فِيهِ فَيَمْلَأَ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيُصْلِحُ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ، كَمَا أَصْلَحَ أَمْرَ كَلِيمِهِ مُوسَى (عليه السلام) إِذْ ذَهَبَ لِيَقْتَبِسَ لِأَهْلِهِ نَاراً فَرَجَعَ وَهُوَ رَسُولٌ نَبِيٌّ»، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «أَفْضَلُ أَعْمَالِ شِيعَتِنَا انْتِظَارُ الفَرَجِ»(164).
[311/2] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ (رضي الله عنه)(165)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الكُوفِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ الآدَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ العَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الحَسَنِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى (عليهم السلام): إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ القَائِمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ الَّذِي يَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، فَقَالَ (عليه السلام):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(162) في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن أحمد بن محمّد الدقَّاق).
(163) تقدَّم ويأتي أنَّه في بعض النُّسَخ: (عبيد الله بن موسى).
(164) رواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 280 و281)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 242).
(165) في بعض النُّسَخ: (محمّد بن أحمد السناني)، وكلاهما واحد ظاهراً.

(٧٣)

«يَا أَبَا القَاسِمِ، مَا مِنَّا إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ بِأَمْرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَهَادٍ إِلَى دِينِ اللهِ، وَلَكِنَّ القَائِمَ الَّذِي يُطَهِّرُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ الأَرْضَ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ وَالجُحُودِ، وَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً هُوَ الَّذِي تَخْفَى عَلَى النَّاسِ(166) وِلَادَتُهُ، وَيَغِيبُ عَنْهُمْ شَخْصُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ تَسْمِيَتُهُ، وَهُوَ سَمِيُّ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَكَنِيُّهُ، وَهُوَ الَّذِي تُطْوَى لَهُ الأَرْضُ، وَيَذِلُّ لَهُ كُلُّ صَعْبٍ، [وَ]يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148]،  فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ العِدَّةُ مِنْ أَهْلِ الإِخْلَاصِ أَظْهَرَ اللهُ أَمْرَهُ، فَإِذَا كَمَلَ لَهُ العَقْدُ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ رَجُلٍ خَرَجَ بِإِذْنِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، فَلَا يَزَالُ يَقْتُلُ أَعْدَاءَ اللهِ حَتَّى يَرْضَى اللهُ (عزَّ وجلَّ)».
قَالَ عَبْدُ العَظِيمِ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، وَكَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) قَدْ رَضِيَ؟ قَالَ: «يُلْقِي فِي قَلْبِهِ الرَّحْمَةَ، فَإِذَا دَخَلَ المَدِينَةَ أَخْرَجَ اللَّاتَ وَالعُزَّى فَأَحْرَقَهُمَا»(167).
[312/3] حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ العُبْدُوسُ العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الصَّقْرُ بْنُ أَبِي دُلَفَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الرِّضَا (عليهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الإِمَامَ بَعْدِي ابْنِي عَلِيٌّ، أَمْرُهُ أَمْرِي، وَقَوْلُهُ قَوْلِي، وَطَاعَتُهُ طَاعَتِي، وَالإِمَامُ بَعْدَهُ ابْنُهُ الحَسَنُ، أَمْرُهُ أَمْرُ أَبِيهِ، وَقَوْلُهُ قَوْلُ أَبِيهِ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ أَبِيهِ»، ثُمَّ سَكَتَ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ الإِمَامُ بَعْدَ الحَسَنِ؟ فَبَكَى (عليه السلام) بُكَاءً شَدِيداً، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مِنْ بَعْدِ الحَسَنِ ابْنَهُ القَائِمَ بِالحَقِّ المُنْتَظَرَ»، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، لِـمَ سُمِّيَ القَائِمَ؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ يَقُومُ بَعْدَ مَوْتِ ذِكْرِهِ وَارْتِدَادِ أَكْثَرِ القَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ»، فَقُلْتُ لَهُ: وَلِـمَ سُمِّيَ المُنْتَظَرَ؟ قَالَ: «لِأَنَّ لَهُ غَيْبَةً يَكْثُرُ أَيَّامُهَا وَيَطُولُ أَمَدُهَا، فَيَنْتَظِرُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(166) في بعض النُّسَخ: (عن الناس).
(167) رواه الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 249 و250).

(٧٤)

خُرُوجَهُ المُخْلِصُونَ، وَيُنْكِرُهُ المُرْتَابُونَ، وَيَسْتَهْزِئُ بِذِكْرِهِ الجَاحِدُونَ، ويَكْذِبُ فِيهَا الوَقَّاتُونَ، وَيَهْلِكُ فِيهَا المُسْتَعْجِلُونَ، وَيَنْجُو فِيهَا المُسَلِّمُونَ»(168).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(168) رواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 283 و284)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 243 و244).

(٧٥)

[313/1] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى الدَّقَّاقُ(169) وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الصُّوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تُرَابٍ عَبْدُ اللهِ ابْنُ مُوسَى الرُّويَانِيُّ(170)، عَنْ عَبْدِ العَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الحَسَنِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي عَلِيِّ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام)، فَلَمَّا بَصُرَ بِي قَالَ لِي: «مَرْحَباً بِكَ يَا أَبَا القَاسِمِ، أَنْتَ وَلِيُّنَا حَقًّا»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ دِينِي فَإِنْ كَانَ مَرْضِيًّا ثَبَتُّ عَلَيْهِ حَتَّى القَى اللهَ (عزَّ وجلَّ)، فَقَالَ: «هَاتِ يَا أَبَا القَاسِمِ»، فَقُلْتُ: إِنِّي أَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاحِدٌ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، خَارِجٌ عَنِ الحَدَّيْنِ حَدِّ الإِبْطَالِ وَحَدِّ التَّشْبِيهِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا صُورَةٍ، وَلَا عَرَضٍ وَلَا جَوْهَرٍ، بَلْ هُوَ مُجَسِّمُ الأَجْسَامِ، وَمُصَوِّرُ الصُّوَرِ، وَخَالِقُ الأَعْرَاضِ وَالجَوَاهِرِ، وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَالِكُهُ وَجَاعِلُهُ وَمُحْدِثُهُ، وَإِنَّ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإِنَّ شَرِيعَتَهُ خَاتِمَةُ الشَّرَائِعِ، فَلَا شَرِيعَةَ بَعْدَهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(171).
وَأَقُولُ: إِنَّ الإِمَامَ وَالخَلِيفَةَ وَوَلِيَّ الأَمْرِ بَعْدَهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ الحَسَنُ، ثُمَّ الحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّد، ثُمَّ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ أَنْتَ يَا مَوْلَايَ، فَقَالَ (عليه السلام): «وَمِنْ بَعْدِي الحَسَنُ ابْنِي، فَكَيْفَ لِلنَّاسِ بِالخَلَفِ مِنْ بَعْدِهِ؟»، قَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(169) في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن أحمد بن محمّد الدقَّاق).
(170) تقدَّم الكلام فيه، وفي بعض النُّسَخ والتوحيد: (عبيد الله بن موسى).
(171) كذا في جميع النُّسَخ، ولكن رواه المصنِّف (رحمه الله) في التوحيد وليس فيه قوله: (وإنَّ شريعته...) إلى قوله: (يوم القيامة).

(٧٩)

فَقُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا مَوْلَايَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُرَى شَخْصُهُ وَلَا يَحِلُّ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ حَتَّى يَخْرُجَ فَيَمْلَأَ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»، قَالَ: فَقُلْتُ: أَقْرَرْتُ، وَأَقُولُ: إِنَّ وَلِيَّهُمْ وَلِيُّ اللهِ، وَعَدُوَّهُمْ عَدُوُّ اللهِ، وَطَاعَتَهُمْ طَاعَةُ اللهِ، وَمَعْصِيَتَهُمْ مَعْصِيَةُ اللهِ، وَأَقُولُ: إِنَّ المِعْرَاجَ حَقٌّ، وَالمُسَاءَلَةَ فِي القَبْرِ حَقٌّ، وَإِنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، وَالصِّرَاطَ حَقٌّ، وَالمِيزَانَ حَقٌّ، ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ﴾ [الحجّ: 7]، وَأَقُولُ: إِنَّ الفَرَائِضَ الوَاجِبَةَ بَعْدَ الوَلَايَةِ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالحَجُّ وَالجِهَادُ وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ.
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام): «يَا أَبَا القَاسِمِ، هَذَا وَاللهِ دِينُ اللهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، فَاثْبُتْ عَلَيْهِ، ثَبَّتَكَ اللهُ بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَ[فِي] الآخِرَةِ»(172).
[314/2] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الكَاتِبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّيْمَرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الحَسَنِ صَاحِبِ العَسْكَرِ (عليه السلام) أَسْأَلُهُ عَنِ الفَرَجِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ: «إِذَا غَابَ صَاحِبُكُمْ عَنْ دَارِ الظَّالِمِينَ فَتَوَقَّعُوا الفَرَجَ»(173).
[315/3] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْزِيَارَ، عَنْ أَخِيهِ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ(174)، قَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(172) رواه المصنِّف (رحمه الله) في أماليه (ص 419 و420/ ح 557/24)، وفي التوحيد (ص 81 و82/ ح 37)، وفي صفات الشيعة (ص 48 - 50)، والخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 286 - 288)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 244 و245).
(173) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 93/ ح 83)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 269)، والحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص 432)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1172/ ح 67).
(174) هذا الخبر والذي قبله متَّحد إلَّا أنَّ في السابق عليُّ بن محمّد الصيمري عن عليِّ بن مهزيار، وفي هذا الخبر عليُّ بن مهزيار عن عليِّ بن محمّد، ولعلَّ أحدهما نسخة بدل عن الآخر فتوهَّم الكُتَّاب وجعلوه على زعمهم خبرين. وقيل: المراد هنا عليُّ بن محمّد التستري الذي عنونة العلَّامة في الإيضاح (ص 217/ الرقم 384)، وهو غير عليِّ بن محمّد الصيمري الذي في الخبر السابق، انتهى. ثمّ اعلم أنَّ عليَّ بن محمّد بن زياد الصيمري هو صهر جعفر بن محمود الوزير على ابنة أُمِّ أحمد، وكان رجلاً من وجوه الشيعة وثقاتهم ومقدَّماً في الكتابة والأدب والعلم والمعرفة كما في إثبات الوصيَّة (ص 248)، والظاهر أنَّ الكاتب هو دون عليِّ بن مهزيار، والله أعلم.

(٨٠)

كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الحَسَنِ صَاحِبِ العَسْكَرِ (عليه السلام) أَسْأَلُهُ عَنِ الفَرَجِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ: «إِذَا غَابَ صَاحِبُكُمْ عَنْ دَارِ الظَّالِمِينَ فَتَوَقَّعُوا الفَرَجَ».
[316/4] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي غَانِمٍ القَزْوِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَارِسٍ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا [وَنُوحٌ] وَأَيُّوبُ بْنُ نُوحٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَنَزَلْنَا عَلَى وَادِي زُبَالَةَ، فَجَلَسْنَا نَتَحَدَّثُ، فَجَرَى ذِكْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبُعْدُ الأَمْرِ عَلَيْنَا، فَقَالَ أَيُّوبُ بْنُ نُوحٍ: كَتَبْتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَذْكُرُ شَيْئاً مِنْ هَذَا، فَكَتَبَ إِلَيَّ: «إِذَا رُفِعَ عَلَمُكُمْ(175) مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَتَوَقَّعُوا الفَرَجَ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِكُمْ»(176)،(177).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(175) (علمكم) إمَّا بالتحريك أي من يُعلَم به سبيل الحقِّ، أو بالكسر يعنى صاحب علمكم.
(176) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 131/ ح 137)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 341/ باب في الغيبة/ ح 24)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 193/ باب 10/ فصل 4/ ح 39).
(177) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 268): (قوله: «إذا رُفِعَ علمكم من بين أظهركم» هذا أيضاً من علامات ظهوره (عليه السلام)، لأنَّ الناس في ذلك العصر معزولين عن العلم والعمل وموصوفين بالجهل والزلل، ولا همَّ لهم إلَّا السير في ميدان الضلالة والشقاوة، ولا عزم إلَّا السباق في مضمار الغواية والغباوة. قوله: «فتوقَّعوا الفرج من تحت أقدامكم» مبالغة في قرب زمان ظهوره حينئذٍ، أو كناية عن ظهوره قبل رجوعهم إلى منازلهم).
قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 159 و160): (بيان: (عَلَمكم) بالتحريك، أي مَنْ يُعلَم به سبيل الحقِّ، وهو الإمام (عليه السلام). أو بالكسر، أي صاحب عِلْمكم، فرجع إلى الأوَّل. أو أصل العلم بأنْ تشيع الضلالة والجهالة في الخلق. وتوقُّع الفرج من تحت الأقدام كناية عن قربه وتيسُّر حصوله، فإنَّ من كانت قدماه على شيء فهو أقرب الأشياء به ويأخذه إذا رفعهما، فعلى الأوَّلين المعنى أنَّه لا بدَّ أنْ تكونوا في تلك الأزمان متوقِّعين للفرج كذلك، غير آيسين منه. ويحتمل أنْ يكون المراد ما هو أعمُّ من ظهور الإمام، أي يحصل لكم فرج إمَّا بالموت والوصول إلى رحمة الله، أو ظهور الإمام، أو رفع شرِّ الأعادي بفضل الله. وعلى الوجه الثالث الكلام محمول على ظاهره، فإنَّه إذا تمَّت جهالة الخلق وضلالتهم لا بدَّ من ظهور الإمام (عليه السلام) كما دلَّت الأخبار وعادة الله في الأُمَم الماضية عليه).
وقال (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 4/ ص 56): (إذا رفع علمكم: بالتحريك أي إمامكم الهادي لكم إلى طريق الحقِّ، وربَّما يُقرَأ بالكسر أي صاحب علمكم، أو أصل العلم باعتبار خفاء الإمام فإنَّ أكثر الخلق في ذلك الزمان في الضلالة والجهالة، والأوَّل أظهر. وتوقُّع الفرج من تحت الأقدام كناية عن قربه وتيسُّر حصوله، فإنَّ من كان شيء تحت قدميه إذا رفعهما وجده، فالمعنى أنَّه لا بدَّ أنْ تكونوا متوقِّعين للفرج كذلك وإنْ كان بعيداً، أو يكون المراد بالفرج إحدى الحسنيين كما مرَّ. ويحتمل مع قراءة العلم بالكسر حمله على حقيقته، فإنَّ مع رفع العلم بين الخلق وشيوع الضلالة لا بدَّ من ظهوره (عليه السلام)، كما مرَّ أنَّه (عليه السلام) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئَت ظلماً وجوراً. وقيل: توقُّع الفرج من تحت الأقدام كناية عن الإطراق وترك الالتفات إلى أهل الدنيا بالتواصي بالصبر فإنَّه مفتاح الفرج والخير كلِّه، وهو بعيد).

(٨١)

[317/5] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ العَلَوِيُّ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ دَاوُدَ بْنِ القَاسِمِ الجَعْفَرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ صَاحِبَ العَسْكَرِ (عليه السلام) يَقُولُ: «الخَلَفُ مِنْ بَعْدِي ابْنِيَ الحَسَنُ، فَكَيْفَ لَكُمْ بِالخَلَفِ مِنْ بَعْدِ الخَلَفِ؟»، فَقُلْتُ: وَلِـمَ جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ؟ فَقَالَ: «لِأَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ شَخْصَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ»، قُلْتُ: فَكَيْفَ نَذْكُرُهُ؟ قَالَ: قُولُوا الحُجَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(178)،(179).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(178) رواه المصنِّف (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 245/ باب 178/ ح 5)، وابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 118/ ح 112)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 328/ باب الإشارة والنصِّ على أبي محمّد (عليه السلام)/ ح 13) بسند آخر، والخصيبي (رحمه الله) في الهداية الكبرى (ص 360)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 245 و264)، والخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 288 و289)، والمفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 320 و349)، والحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص 426 و427)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 202/ ح 169).
(179) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 6/ ص 225): (قوله: «فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف» المراد بالخلف الأوَّل الحجَّة وبالخلف الثاني الحسن العسكري (عليه السلام)، و(كيف) للإنكار، أي لا يكون لكم العلم بالخلف بعد الخلف بشخصه أو بمكانه، أو لا يجوز لكم التسمية باسمه. قوله: «لا ترون شخصه» لعلَّ المراد نفي الرؤية عن جماعة أو كلَّما أرادوا أو في زمان الغيبة أو كناية عن غيبته وإلَّا فقد رآه جماعة كما سيجيء، والله أعلم. قوله: «ولا يحلُّ لكم ذكره باسمه» دلَّ على أنَّه لا يجوز تسميته باسمه مطلقاً، ولا يبعد تخصيصه بالغيبة الصغرى أو بمحلِّ الخوف والتقيَّة كما يُشعِر به بعض الروايات الآتية، وربَّما يُشعِر به لفظ (لكم)، ويُؤيِّده وقوع التصريح باسمه في بعض الأدعية المأثورة، والاحتياط أمر آخر).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 3/ ص 393): («فكيف لكم» أي يحصل العلم لكم بشخصه أو بمكانه أو يتمشَّى الأمر لكم. «بالخلف» أي القائم (عليه السلام). «من بعد الخلف» أي أبي محمّد (عليه السلام). «لا ترون شخصه» أي عموماً أو في عموم الأوقات. «ولا يحلُّ لكم ذكره» ويدلُّ على حرمة تسميته (عليه السلام)).

(٨٢)

[318/6] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الحَسَنُ بْنُ مُوسَى الخَشَّابُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ [بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى] (عليهم السلام) يَقُولُ: «صَاحِبُ هَذَا الأَمْرِ مَنْ يَقُولُ النَّاسُ: لَمْ يُولَدْ بَعْدُ»(180)،(181).
[319/7] وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «صَاحِبُ هَذَا الأَمْرِ مَنْ يَقُولُ النَّاسُ: إِنَّهُ لَمْ يُولَدْ بَعْدُ».
[320/8] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الغَفَّارِ، قَالَ: لَـمَّا مَاتَ أَبُو جَعْفَرٍ الثَّانِي (عليه السلام) كَتَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَى أَبِي الحَسَنِ صَاحِبِ العَسْكَرِ (عليه السلام) يَسْأَلُونَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(180) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 109/ ح 94).
(181) تقدَّم الخبر في باب ما روي عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) تحت الرقم (298/2)، فراجع.

(٨٣)

عَنِ الأَمْرِ، فَكَتَبَ (عليه السلام): «الأَمْرُ لِي مَا دُمْتُ حَيًّا، فَإِذَا نَزَلَتْ بِي مَقَادِيرُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) آتَاكُمُ اللهُ الخَلَفَ مِنِّي، وَأَنَّى لَكُمْ بِالخَلَفِ بَعْدَ الخَلَفِ»(182).
[321/9] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمَدَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ المَوْصِلِيُّ، عَنِ الصَّقْرِ بْنِ أَبِي دُلَفَ، قَالَ: لَـمَّا حَمَلَ المُتَوَكِّلُ سَيِّدَنَا أَبَا الحَسَنِ (عليه السلام) جِئْتُ لِأَسْأَلَ عَنْ خَبَرِهِ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ حَاجِبُ المُتَوَكِّلِ(183)، فَأَمَرَ أَنْ أُدْخَلَ إِلَيْهِ، فَأُدْخِلْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا صَقْرُ، مَا شَأْنُكَ؟ فَقُلْتُ: خَيْرٌ أَيُّهَا الأُسْتَاذُ، فَقَالَ: اقْعُدْ، قَالَ الصَّقْرُ: فَأَخَذَنِي مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ(184)، وَقُلْتُ: أَخْطَأْتُ فِي المَجِيءِ، قَالَ: فَوَحَى النَّاسَ عَنْهُ(185)، ثُمَّ قَالَ: مَا شَأْنُكَ، وَفِيمَ جِئْتَ؟ قُلْتُ: لِخَبَرٍ مَا، قَالَ: لَعَلَّكَ جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ خَبَرِ مَوْلَاكَ، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَنْ مَوْلَايَ؟ مَوْلَايَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: اسْكُتْ مَوْلَاكَ هُوَ الحَقُّ لَا تَتَحَشَّمْنِي فَإِنِّي عَلَى مَذْهَبِكَ، فَقُلْتُ: الحَمْدُ لِلهِ، فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: اجْلِسْ حَتَّى يَخْرُجَ صَاحِبُ البَرِيدِ، قَالَ: فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لِغُلَامٍ لَهُ: خُذْ بِيَدِ الصَّقْرِ فَأَدْخِلْهُ إِلَى الحُجْرَةِ الَّتِي فِيهَا العَلَوِيُّ المَحْبُوسُ وَخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، قَالَ: فَأَدْخَلَنِي الحُجْرَةَ وَأَوْمَأَ إِلَى بَيْتٍ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا هُوَ (عليه السلام) جَالِسٌ عَلَى صَدْرِ حَصِيرٍ وَبِحِذَاهُ قَبْرٌ مَحْفُورٌ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ فَرَدَّ [عَلَيَّ السَّلَامَ]، ثُمَّ أَمَرَنِي بِالجُلُوسِ فَجَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(182) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 247).
(183) في معاني الأخبار: (فنظر إليَّ الرازقي وكان حاجباً للمتوكِّل وأومأ إليَّ أنْ ادخل).
(184) كذا في جميع النُّسَخ المخطوطة عندي، وفي الخصال والمعاني أيضاً، وفي المطبوع: (فأخذ فيما تقدَّم وما تأخَّر). وعليه فالمعنى إمَّا أخذ بالسؤال عمَّا تقدَّم وعمَّا تأخَّر من الأُمور المختلفة لاستعلام حالي وسبب مجيئي، فلذا ندم على الذهاب إليه لئلَّا يطَّلع على حاله ومذهبه، أو الموصول فاعل (أخذني) بتقدير أي أخذني التفكُّر فيما تقدَّم من الأُمور من ظنِّه التشيُّع بي وفيما تأخَّر ممَّا يترتَّب على مجيئي من المفاسد. (راجع: بحار الأنوار: ج 56/ ص 21).
(185) أي أشار إليهم أنْ يبعدوا عنه، أو على بناء التفعيل أي أعجلهم في الذهاب. وفي المعاني: (فأُوجئ الناس عنه) بصيغة المجهول، وأوجأ فلاناً عنه أي دفعه ونحَّاه.

(٨٤)

لِي: «يَا صَقْرُ، مَا أَتَى بِكَ؟»، قُلْتُ: يَا سَيِّدِي، جِئْتُ أَتَعَرَّفُ خَبَرَكَ، قَالَ: ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى القَبْرِ وَبَكَيْتُ، فَنَظَرَ إِلَيَّ وَقَالَ: «يَا صَقْرُ، لَا عَلَيْكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْنَا بِسُوءٍ»، فَقُلْتُ: الحَمْدُ لِلهِ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا سَيِّدِي، حَدِيثٌ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لَا أَعْرِفُ مَعْنَاهُ، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَا تُعَادُوا الأَيَّامَ فَتُعَادِيَكُمْ» مَا مَعْنَاهُ؟
فَقَالَ: «نَعَمْ الأَيَّامُ نَحْنُ، بِنَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، فَالسَّبْتُ اسْمُ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَالأَحَدُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، وَالاِثْنَيْنِ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ، وَالثَّلَاثَاءُ عَلِيُّ ابْنُ الحُسَيْنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ البَاقِرُ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ [الصَّادِقُ]، وَالأَرْبِعَاءُ مُوسَى ابْنُ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ بْنُ مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَنَا، وَالخَمِيسُ ابْنِيَ الحَسَنُ، وَالجُمُعَةُ ابْنُ ابْنِي، وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ عِصَابَةُ الحَقِّ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، فَهَذَا مَعْنَى الأَيَّامِ وَلَا تُعَادُوهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيُعَادُوكُمْ فِي الآخِرَةِ»، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «وَدِّعْ واخْرُجْ فَلَا آمَنُ عَلَيْكَ»(186)،(187).
[322/10] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمَدَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ المَوْصِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الصَّقْرُ بْنُ أَبِي دُلَفَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا (عليهم السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الإِمَامَ بَعْدِي الحَسَنُ ابْنِي، وَبَعْدَ الحَسَنِ ابْنُهُ القَائِمُ الَّذِي يَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(188).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(186) رواه المصنِّف (رحمه الله) في الخصال (ص 394 - 396/ ح 102)، وفي معاني الأخبار (ص 123 و124/ باب معنى الحديث الذي روي عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا تعادوا الأيَّام فتعاديكم»/ ح 1)، والخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 289 - 292)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 245 - 247).
(187) في الخصال في ذيل الخبر بيان للمصنِّف (رحمه الله)، وقال: (الأيَّام ليست بالأئمَّة ولكن كنَّى (عليه السلام) بها عن الأئمَّة لئلَّا يُدرك معناه غير أهل الحقِّ)، ثمّ ذكر لكلامه شاهداً من آيات القرآن.
(188) رواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 292)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 247).

(٨٥)

[323/1] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الخَلَفِ [مِنْ] بَعْدِهِ، فَقَالَ لِي مُبْتَدِئاً: «يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُخْلِ الأَرْضَ مُنْذُ خَلَقَ آدَمَ (عليه السلام) وَلَا يُخْلِيهَا إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ مِنْ حُجَّةٍ لِلهِ عَلَى خَلْقِهِ، بِهِ يَدْفَعُ البَلَاءَ عَنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وَبِهِ يُنَزِّلُ الغَيْثَ، وَبِهِ يُخْرِجُ بَرَكَاتِ الأَرْضِ.
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ الإِمَامُ وَالخَلِيفَةُ بَعْدَكَ؟ فَنَهَضَ (عليه السلام) مُسْرِعاً فَدَخَلَ البَيْتَ، ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَى عَاتِقِهِ غُلَامٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ القَمَرُ لَيْلَةَ البَدْرِ مِنْ أَبْنَاءِ الثَّلَاثِ سِنِينَ، فَقَالَ: «يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، لَوْ لَا كَرَامَتُكَ عَلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَعَلَى حُجَجِهِ مَا عَرَضْتُ عَلَيْكَ ابْنِي هَذَا، إِنَّهُ سَمِيُّ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَكَنِيُّهُ، الَّذِي يَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً.
يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، مَثَلُهُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مَثَلُ الخَضِرِ (عليه السلام)، وَمَثَلُهُ مَثَلُ ذِي القَرْنَيْنِ، وَاللهِ لَيَغِيبَنَّ غَيْبَةً لَا يَنْجُو فِيهَا مِنَ الهَلَكَةِ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَى القَوْلِ بِإِمَامَتِهِ وَوَفَّقَهُ [فِيهَا] لِلدُّعَاءِ بِتَعْجِيلِ فَرَجِهِ».
فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا مَوْلَايَ فَهَلْ مِنْ عَلَامَةٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا قَلْبِي؟ فَنَطَقَ الغُلَامُ (عليه السلام) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ، فَقَالَ: «أَنَا بَقِيَّةُ اللهِ فِي أَرْضِهِ، وَالمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِهِ، فَلَا تَطْلُبْ أَثَراً بَعْدَ عَيْنٍ يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ».
فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجْتُ مَسْرُوراً فَرِحاً، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ عُدْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، لَقَدْ عَظُمَ سُرُورِي بِمَا مَنَنْتَ [بِهِ] عَلَيَّ، فَمَا السُّنَّةُ

(٨٩)

الجَارِيَةُ فِيهِ مِنَ الخَضِرِ وَذِي القَرْنَيْنِ؟ فَقَالَ: «طُولُ الغَيْبَةِ يَا أَحْمَدُ»، قُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَإِنَّ غَيْبَتَهُ لَتَطُولُ؟ قَالَ: «إِي وَرَبِّي حَتَّى يَرْجِعَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ أَكْثَرُ القَائِلِينَ بِهِ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا مَنْ أَخَذَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَهْدَهُ لِوَلَايَتِنَا، وَكَتَبَ فِي قَلْبِهِ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ.
يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، هَذَا أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ، وَسِرٌّ مِنْ سِرِّ اللهِ، وَغَيْبٌ مِنْ غَيْبِ اللهِ، فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَاكْتُمْهُ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ تَكُنْ مَعَنَا غَداً فِي عِلِّيِّينَ»(189).
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): لم أسمع بهذا الحديث إلَّا من عليِّ بن عبد الله الورَّاق، وجدت بخطِّه مثبتاً، فسألته عنه فرواه لي عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن إسحاق (رضي الله عنه) كما ذكرته(190).

* * *

ما روي من حديث الخضر (عليه السلام) (191):
[324/1] حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيَى البَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُلَيْمَانَ(192)، قَالَ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) أَنَّ ذَا القَرْنَيْنِ كَانَ عَبْداً صَالِحاً جَعَلَهُ اللهُ حُجَّةً عَلَى عِبَادِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ نَبِيًّا، فَمَكَّنَ اللهُ لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، فَوُصِفَتْ لَهُ عَيْنُ الحَيَاةِ، وَقِيلَ لَهُ: مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَمُتْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(189) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 248 و249).
(190) ستأتي تتمَّة أحاديث هذا الباب في (ص 111)، عند قول المصنِّف: (رجعنا إلى ذكر ما روي عن أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام)).
(191) ذكر المصنِّف هذا الفصل والذي بعده استطراداً بين باب أخبار أبي محمّد العسكري (عليه السلام)، ولذا جعلناه ممتازاً عن أخبار الباب.
(192) عبد الله بن سليمان مشترك بين خمسة، ولم يُوثَّق أحد منهم، والخبر - كما ترى - مقطوع أي غير مروي عن المعصوم (عليه السلام).

(٩٠)

حَتَّى يَسْمَعَ الصَّيْحَةَ، وَإِنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عَيْناً، وَكَانَ الخَضِرُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ(193)، وَكَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَأَعْطَاهُ حُوتاً مَالِحاً، وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حُوتاً مَالِحاً، وَقَالَ لَهُمْ: لِيَغْسِلْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ حُوتَهُ عِنْدَ كُلِّ عَيْنٍ، فَانْطَلَقَ الخَضِرُ (عليه السلام) إِلَى عَيْنٍ مِنْ تِلْكَ العُيُونِ، فَلَمَّا غَمَسَ الحُوتَ فِي المَاءِ حَيِيَ وَانْسَابَ فِي المَاءِ، فَلَمَّا رَأَى الخَضِرُ (عليه السلام) ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِمَاءِ الحَيَاةِ فَرَمَى بِثِيَابِهِ وَسَقَطَ فِي المَاءِ، فَجَعَلَ يَرْتَمِسُ فِيهِ وَيَشْرَبُ مِنْهُ فَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى ذِي القَرْنَيْنِ وَمَعَهُ حُوتُهُ، وَرَجَعَ الخَضِرُ وَلَيْسَ مَعَهُ الحُوتُ فَسَأَلَهُ عَنْ قِصَّتِهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَشَرِبْتَ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْتَ صَاحِبُهَا، وَأَنْتَ الَّذِي خُلِقْتَ لِهَذِهِ العَيْنِ، فَأَبْشِرْ بِطُولِ البَقَاءِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَعَ الغَيْبَةِ عَنِ الأَبْصَارِ إِلَى النَّفْخِ فِي الصُّورِ»(194).
[325/2] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ البَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَدِّهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَمْزَةَ ابْنِ حُمْرَانَ وَغَيْرِهِ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام)، قَالَ: «خَرَجَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(193) يعنى على مقدّمة عسكر ذي القرنين، وهو غريب، لأنَّ الخضر إذا كان معاصراً لموسى (عليه السلام) فكان على التقريب (1500) عام قبل الميلاد، وذو القرنين سواء كان إسكندر أو كورش كان بعد موسى (عليه السلام) بقرون كثيرة، فإنَّ إسكندر في عام (330) قبل الميلاد، وكورش (550) قبل الميلاد، فلعلَّ المراد بذي القرنين رجل آخر غيرهما. هذا وقد نقل ابن قتيبة في معارفه (ص 54) عن وهب ابن منبه قال: (ذو القرنين هو رجل من الإسكندريَّة اسمه الإسكندروس، وكان حلم حلماً رأى فيه أنَّه دنا من الشمس حتَّى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها، فقصَّ رؤياه على قومه، فسمُّوه ذا القرنين، وكان في الفترة بعد عيسى (عليه السلام)) انتهى. وعلى أيِّ حالٍ تاريخ ذي القرنين والخضر في غاية تشويه والوهم والاضطراب، ونحن لا نقول في حقِّهما إلَّا ما قاله القرآن أو ما وافقه من الأخبار ونترك الزوائد لأهلها.
(194) روى قريباً منه العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 340 و341/ ح 77)، والراوندي (رحمه الله) في قَصص الأنبياء (ص 124/ ح 123).

(٩١)

ابْنُ عَلِيٍّ البَاقِرُ (عليهما السلام)(195) بِالمَدِينَةِ، فَتَضَجَّرَ وَاتَّكَأَ عَلَى جِدَارٍ مِنْ جُدْرَانِهَا مُتَفَكِّراً إِذْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، عَلَى مَ حُزْنُكَ؟ عَلَى الدُّنْيَا فَرِزْقُ [اللهِ (عزَّ وجلَّ)] حَاضِرٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ البَرُّ وَالفَاجِرُ، أَمْ عَلَى الآخِرَةِ فَوَعْدٌ صَادِقٌ يَحْكُمُ فِيهِ مَلِكٌ قَادِرٌ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): مَا عَلَى هَذَا حُزْنِي، إِنَّمَا حُزْنِي عَلَى فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: فَهَلْ رَأَيْتَ أَحَداً خَافَ اللهَ فَلَمْ يُنْجِهِ؟ أَمْ هَلْ رَأَيْتَ أَحَداً تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ فَلَمْ يَكْفِهِ؟ وَهَلْ رَأَيْتَ أَحَداً اسْتَجَارَ اللهَ فَلَمْ يُجِرْهُ(196)؟ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): لَا، فَوَلَّى الرَّجُلُ، فَقِيلَ: مَنْ هُوَ ذَاكَ؟ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا هُوَ الخَضِرُ (عليه السلام)».
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): جاء هذا الحديث هكذا، وقد روي في خبر آخر أنَّ ذلك كان مع عليِّ بن الحسين (عليهما السلام).
[326/3] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ البَرْقِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ زَيْدٍ النَّيْسَابُورِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الهَاشِمِيُّ، عَنْ عَبْدِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(195) وهم الراوي، وإنَّما هو عليُّ بن الحسين (عليهما السلام)، فاشتبه عليه كما قال المصنِّف (رحمه الله). وذلك لأنَّه كانت فتنة ابن الزبير في سنة ثلاث وستِّين وهو بمكَّة وأخرج أهل المدينة عامل يزيد عثمان بن محمّد بن أبي سفيان ومروان بن الحَكَم وسائر بني أُميَّة من المدينة بإشارة ابن الزبير وهو بمكَّة، فوجَّه يزيد ابن معاوية مسلم بن عقبة في جيش عظيم لقتال ابن الزبير، فسار بهم حتَّى نزل المدينة فقاتل أهلها وهزمهم وأباحها ثلاثة أيَّام - وهي وقعة الحرَّة المعروفة -، ثمّ سار مسلم بن عقبة إلى مكَّة قاصداً قتال عبد الله بن الزبير، فتُوفِّي بالطريق ولم يصل، فدُفِنَ بقديد، وولي الجيش الحصين بن نمير السكوني، فمضى بالجيش وحاصروا عبد الله بن الزبير وأُحرقت الكعبة حتَّى انهدم جدارها وسقط سقفها وأتاهم الخبر بموت يزيد، فانكفأوا راجعين إلى الشام. وبويع ابن الزبير على الخلافة سنة خمس وستِّين، وبنى الكعبة، وبايعه أهل البصرة والكوفة، وقُتِلَ في أيَّام الحجَّاج سنة (73 هـ).
هذا، ثمّ اعلم أنَّ أبا جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (عليهما السلام) في أيَّام ابن الزبير ابن ستّ عشرة سنة، وفي وقعة الحرَّة ابن سبع أو ثمان سنين، فكيف يلائم هذا مع ما في المتن؟ بل كان ذلك مع عليِّ بن الحسين (عليهما السلام)، لأنَّ فتنة ابن الزبير وخروجه وهدم البيت وبناءه الكعبة وقتله كلَّها في أيَّام السجَّاد (عليه السلام).
(196) في بعض النُّسَخ: (استخار الله فلم يخره).

(٩٢)

المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ صَفْوَانَ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قَالَ: لَـمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) ارْتَجَّ المَوْضِعُ بِالبُكَاءِ(197) وَدَهِشَ النَّاسُ كَيَوْمَ قُبِضَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَجَاءَ رَجُلٌ بَاكٍ وَهُوَ مُسْرِعٌ(198) مُسْتَرْجِعٌ، وَهُوَ يَقُولُ: اليَوْمَ انْقَطَعَتْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ البَيْتِ الَّذِي فِيهِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللهُ يَا أَبَا الحَسَنِ، كُنْتَ أَوَّلَ القَوْمِ إِسْلَاماً، وَأَخْلَصَهُمْ إِيمَاناً، وَأَشَدَّهُمْ يَقِيناً، وَأَخْوَفَهُمْ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَأَعْظَمَهُمْ عَنَاءً(199)، وَأَحْوَطَهُمْ عَلَى رَسُولِهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَآمَنَهُمْ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَأَفْضَلَهُمْ مَنَاقِبَ، وَأَكْرَمَهُمْ سَوَابِقَ، وَأَرْفَعَهُمْ دَرَجَةً، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ، وَأَشْبَهَهُمْ بِهِ هَدْياً وَنُطْقاً وَسَمْتاً وَفِعْلاً(200)، وَأَشْرَفَهُمْ مَنْزِلَةً، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَيْهِ، فَجَزَاكَ اللهُ عَنِ الإِسْلَامِ وَعَنْ رَسُولِهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَعَنِ المُسْلِمِينَ خَيْراً، قَوِيتَ حِينَ ضَعُفَ أَصْحَابُهُ، وَبَرَزْتَ حِينَ اسْتَكَانُوا، وَنَهَضْتَ حِينَ وَهَنُوا، وَلَزِمْتَ مِنْهَاجَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِذْ هَمَّ أَصْحَابُهُ.
كُنْتَ خَلِيفَتَهُ حَقًّا لَمْ تُنَازَعْ وَلَمْ تَضْرَعْ(201) بِرَغْمِ المُنَافِقِينَ، وَغَيْظِ الكَافِرِينَ، وَكُرْهِ الحَاسِدِينَ، وَضَغَنِ الفَاسِقِينَ، فَقُمْتَ بِالأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا، وَنَطَقْتَ حِينَ تَتَعْتَعُوا(202)، وَمَضَيْتَ بِنُورِ اللهِ إِذْ وَقَفُوا، وَلَوِ اتَّبَعُوكَ لَهُدُوا، وَكُنْتَ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً، وَأَعْلَاهُمْ قُوَّتاً(203)، وَأَقَلَّهُمْ كَلَاماً، وَأَصْوَبَهُمْ مَنْطِقاً، وَأَكْبَرَهُمْ رَأْياً، وَأَشْجَعَهُمْ قَلْباً، وَأَشَدَّهُمْ يَقِيناً، وَأَحْسَنَهُمْ عَمَلاً، وَأَعْرَفَهُمْ بِالأُمُورِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(197) ارتجَّ، أي اضطرب.
(198) في بعض النُّسَخ: (متضرِّع).
(199) في بعض النُّسَخ: (أعظمهم غنى). وأحوطهم، أي أشدّهم حياطةً وحفظاً وصيانةً وتعهُّداً.
(200) الهدي: الطريقة والسيرة. والسمت: هيأة أهل الخير. وفي نسخة: (خُلقاً) مكان (نطقاً).
(201) أي تذلّ. وفي بعض النُّسَخ: (تصرع) بالصاد المهملة.
(202) التعتعة: التردُّد في الكلام من حصر أو عيّ.
(203) في الكافي: (أعلاهم قنوتاً). وفي بعض نُسَخه: (قدماً).

(٩٣)

كُنْتَ وَاللهِ لِلدِّينِ يَعْسُوباً، [أَوَّلاً حِينَ تَفَرَّقَ النَّاسُ، وَآخِراً حِينَ فَشِلُوا]، وَكُنْتَ بِالمُؤْمِنِينَ أَباً رَحِيماً، إِذْ صَارُوا عَلَيْكَ عِيَالاً، فَحَمَلْتَ أَثْقَالَ مَا عَنْهُ ضَعُفُوا، وَحَفِظْتَ مَا أَضَاعُوا، وَرَعَيْتَ مَا أَهْمَلُوا، وَشَمَّرْتَ إِذْ خَنَعُوا، وَعَلَوْتَ إِذْ هَلِعُوا، وَصَبَرْتَ إِذْ جَزِعُوا، وَأَدْرَكْتَ إِذْ تَخَلَّفُوا، وَنَالُوا بِكَ مَا لَمْ يَحْتَسِبُوا.
كُنْتَ عَلَى الكَافِرِينَ عَذَاباً صَبًّا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ غَيْثاً وَخِصْباً، فَطَرْتَ وَاللهِ بِنَعْمَائِهَا، وَفُزْتَ بِحِبَائِهَا، وَأَحْرَزْتَ سَوَابِقَهَا(204)، وَذَهَبْتَ بِفَضَائِلِهَا، لَمْ تُفْلَلْ حُجَّتُكَ(205)، وَلَمْ يَزِغْ قَلْبُكَ، وَلَمْ تَضْعُفْ بَصِيرَتُكَ، وَلَمْ تَجْبُنْ نَفْسُكَ، [وَلَمْ تَخُنْ(206)].
كُنْتَ كَالجَبَلِ [الَّذِي] لَا تُحَرِّكُهُ العَوَاصِفُ، وَلَا تُزِيلُهُ القَوَاصِفُ، وَكُنْتَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ضَعِيفاً فِي بَدَنِكَ، قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، مُتَوَاضِعاً فِي نَفْسِكَ، عَظِيماً عِنْدَ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، كَبِيراً فِي الأَرْضِ، جَلِيلاً عِنْدَ المُؤْمِنِينَ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيكَ مَهْمَزٌ، وَلَا لِقَائِلٍ فِيكَ مَغْمَزٌ، وَلَا لِأَحَدٍ فِيكَ مَطْمَعٌ، وَلَا لِأَحَدٍ عِنْدَكَ هَوَادَةٌ(207)، الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ عِنْدَكَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ حَتَّى تَأْخُذَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَالقَوِيُّ العَزِيزُ عِنْدَكَ ضَعِيفٌ ذَلِيلٌ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ الحَقَّ، وَالقَرِيبُ وَالبَعِيدُ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، شَأْنُكَ الحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالرِّفْقُ، وَقَوْلُكَ حُكْمٌ وَحَتْمٌ، وَأَمْرُكَ حِلْمٌ وَحَزْمٌ، وَرَأْيُكَ عِلْمٌ وَعَزْمٌ فِيمَا فَعَلْتَ(208)، وَقَدْ نَهَجَ السَّبِيلُ، وَسَهُلَ العَسِيرُ، وَأُطْفِئَتِ النِّيرَانُ(209)، وَاعْتَدَلَ بِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(204) في هامش بعض النُّسَخ الجديدة: (سوابغها). والظاهر هو الصواب بقرينة النعماء والحباء. ولكن (بنعمائها) في بعض النُّسَخ (بعنانها)، و(حبائها) في بعض النُّسَخ (بجنانها).
(205) في بعض النُّسَخ: (لم يفلل حدُّك).
(206) في بعض نُسَخ الكافي: (لم تخر) من الخرور، وهو السقوط.
(207) المهمز: العيب والوقيعة، والمغمز: المطعن والعيب أيضاً. والهوادة: اللين والرفق والرخصة والمحاباة، أي لا تأخذك عند وجوب حدِّ الله على أحد محاباة ورفق.
(208) كذا في بعض النُّسَخ، وفي الكافي أيضاً، لكن في أكثر النُّسَخ: (وعزم فأقلعت).
(209) في بعض النُّسَخ: (وأُطفئت بك النار).

(٩٤)

الدِّينُ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ، وَقَوِيَ بِكَ الإِيمَانُ، وَثَبَتَ بِكَ الإِسْلَامُ وَالمُؤْمِنُونَ، وَسَبَقْتَ سَبْقاً بَعِيداً، وَأَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ تَعَباً شَدِيداً، فَجَلَلْتَ عَنِ البُكَاءِ، وَعَظُمَتْ رَزِيَّتُكَ فِي السَّمَاءِ، وَهَدَّتْ مُصِيبَتُكَ الأَنَامَ، فَإِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، رَضِينَا مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) قَضَاهُ، وَسَلَّمْنَا لِلهِ أَمْرَهُ، فَوَاللهِ لَنْ يُصَابَ المُسْلِمُونَ بِمِثْلِكَ أَبَداً.
كُنْتَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَهْفاً وَحِصْناً [وَقُنَّةً رَاسِياً]، وَعَلَى الكَافِرِينَ غِلْظَةً وَغَيْظاً، فَألحَقَكَ اللهُ بِنَبِيِّهِ وَلَا حَرَمَنَا أَجْرَكَ وَلَا أَضَلَّنَا بَعْدَكَ. وَسَكَتَ القَوْمُ حَتَّى انْقَضَى كَلَامُهُ، وَبَكَى وَأَبْكَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثُمَّ طَلَبُوهُ فَلَمْ يُصَادِفُوهُ(210).
[327/4] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ العَمْرِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الخَضِرَ (عليه السلام) شَرِبَ مِنْ مَاءِ الحَيَاةِ، فَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِينَا(211) فَيُسَلِّمُ، فَنَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا نَرَى شَخْصَهُ، وَإِنَّهُ لَيَحْضُرُ حَيْثُ مَا ذُكِرَ، فَمَنْ ذَكَرَهُ مِنْكُمْ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَيَحْضُرُ المَوْسِمَ كُلَّ سَنَةٍ فَيَقْضِي جَمِيعَ المَنَاسِكِ، وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ فَيُؤَمِّنُ عَلَى دُعَاءِ المُؤْمِنِينَ، وَسَيُؤْنِسُ اللهُ بِهِ وَحْشَةَ قَائِمِنَا فِي غَيْبَتِهِ وَيَصِلُ بِهِ وَحْدَتَهُ».
[328/5] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، قَالَ: قَالَ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام): «لَـمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جَاءَ الخَضِرُ (عليه السلام) فَوَقَفَ عَلَى بَابِ البَيْتِ وَفِيهِ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ (عليهم السلام) وَرَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَدْ سُجِّيَ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(210) رواه المصنِّف (رحمه الله) في أماليه (ص 312 - 314/ ح 363/11)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 454 - 456/ باب مولد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)/ ح 4).
(211) في بعض النُّسَخ: (ليلقانا).

(٩٥)

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 185]، إِنَّ فِي اللهِ خَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَعَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَدَرَكاً مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، وَثِقُوا بِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ. فَقَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): هَذَا أَخِي الخَضِرُ (عليه السلام) جَاءَ يُعَزِّيكُمْ بِنَبِيِّكُمْ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(212).
[329/6] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (عليهما السلام)، قَالَ: «لَـمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَتَاهُمْ آتٍ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ البَيْتِ فَعَزَّاهُمْ بِهِ، وَأَهْلُ البَيْتِ يَسْمَعُونَ كَلَامَهُ وَلَا يَرَوْنَهُ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): هَذَا هُوَ الخَضِرُ (عليه السلام) أَتَاكُمْ يُعَزِّيكُمْ بِنَبِيِّكُمْ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)».
وكان اسم الخضر(213) خضرويه بن قابيل بن آدم (عليه السلام)، ويقال له: خضرون أيضاً، ويقال له: جعداً، وإنَّه إنَّما سُمِّي الخضر لأنَّه جلس على أرض بيضاء فاهتزَّت خضراء فسُمِّي الخضر لذلك، وهو أطول الآدميِّين عمراً، والصحيح أنَّ اسمه بليا(214) بن ملكان بن عامر بن أرفخشذ بن سام بن نوح(215). وقد أخرجت الخبر في ذلك مسنداً في كتاب (علل الشرائع والأحكام والأسباب)(216).
[330/7] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ كَاسِبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَيْمُونٍ المَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليهم السلام)، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَقُولُ فِي آخِرِهِ: «لَـمَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(212) روى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 3/ ص 222/ باب التعزِّي/ ح 8).
(213) من كلام المصنِّف (رحمه الله).
(214) في معاني الأخبار: (تاليا).
(215) كذا، وفي المعارف لابن قتيبة: (بليا بن ملكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفشخذ بن سام بن نوح).
(216) راجع: علل الشرائع (ج 1/ ص 59 - 62/ باب 54/ ح 1).

(٩٦)

تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ جَاءَهُمْ آتٍ يَسْمَعُونَ حِسَّهُ(217) وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 185]، إِنَّ فِي اللهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكاً مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ المُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ [قَالُوا: لَا، قَالَ]: هَذَا هُوَ الخَضِرُ (عليه السلام)»(218).
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): إنَّ أكثر المخالفين يُسلِّمون لنا حديث الخضر (عليه السلام) ويعتقدون فيه أنَّه حيٌّ غائب عن الأبصار، وأنَّه حيث ذكر حضر، ولا يُنكِرون طول حياته، ولا يحملون حديثه على عقولهم، ويدفعون كون القائم (عليه السلام) وطول حياته في غيبته، وعندهم أنَّ قدرة الله (عزَّ وجلَّ) تتناول إبقاءه إلى يوم النفخ في الصور، وإبقاء إبليس مع لعنته إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ في غيبته. وأنَّها لا تتناول إبقاء حجَّة الله على عباده مدَّة طويلة في غيبته مع ورود الأخبار الصحيحة بالنصِّ عليه بعينه(219) واسمه ونسبه عن الله تبارك وتعالى وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن الأئمَّة (عليهم السلام).
ما روي من حديث ذي القرنين:
[331/1] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ ذَا القَرْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَبْداً صَالِحاً أَحَبَّ اللهَ فَأَحَبَّهُ اللهُ، وَنَاصَحَ لِلهِ فَنَاصَحَهُ اللهُ، أَمَرَ قَوْمَهُ بِتَقْوَى اللهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(217) يعني صوته. وفي بعض النُّسَخ: (صوته).
(218) رواه المصنِّف (رحمه الله) في أماليه (ص 348 و349/ ح 421/13)، والفتَّال (رحمه الله) في روضة الواعظين (ص 71 و72).
(219) في بعض النُّسَخ: (بغيبته).

(٩٧)

فَغَابَ عَنْهُمْ زَمَاناً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ الآخَرِ، وَفِيكُمْ مَنْ هُوَ عَلَى سُنَّتِهِ»(220).
[332/2] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ البَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الجَبَّارِ العُطَارِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ ابْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ المَدَنِيِّ(221)، عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سِمَاكِ ابْنِ حَارِثٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا (عليه السلام): أَرَأَيْتَ ذَا القَرْنَيْنِ كَيْفَ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْلُغَ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبَ، قَالَ: «سَخَّرَ اللهُ لَهُ السَّحَابَ، وَمَدَّ لَهُ فِي الأَسْبَابِ، وَبَسَطَ لَهُ النُّورَ، فَكَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِ سَوَاءً»(222).
[333/3] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أُورَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي القَاسِمُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ يَزِيدَ الأَرْجَنِيِّ(223)، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: قَامَ ابْنُ الكَوَّاءِ إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنِي عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ أَنَبِيٌّ كَانَ أَوْ مَلِكٌ؟ وَأَخْبِرْنِي عَنْ قَرْنَيْهِ أَذَهَبٌ كَانَ أَوْ فِضَّةٌ؟ فَقَالَ لَهُ (عليه السلام): «لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَا مَلِكاً وَلَا كَانَ قَرْنَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَبْداً أَحَبَّ اللهَ فَأَحَبَّهُ اللهُ، وَنَصَحَ لِلهِ فَنَصَحَهُ اللهُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا القَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَغَابَ عَنْهُمْ حِيناً، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِمْ فَضُرِبَ عَلَى قَرْنِهِ الآخَرِ، وَفِيكُمْ مِثْلُهُ»(224).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(220) رواه العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 339 و340/ ح 72)، وابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 121/ ح 116)، والراوندي (رحمه الله) في قَصص الأنبياء (ص 123/ ح 121).
(221) محمّد بن إسحاق هو صاحب السيرة، وجدُّه كما في تهذيب التهذيب (ج 9/ ص 34/ الرقم 51): (يسار)، ولكن ضُبِطَ في هامش السيرة لابن هشام: (بشَّار).
(222) سيرة ابن إسحاق (ج 4/ ص 185/ ح 262).
(223) يزيد بن قيس، كان عامله على الريِّ وهمدان.
(224) رواه العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 339/ ح 71)، والطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج 1/ ص 340).

(٩٨)

[334/4] حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، [عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى]، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الجُعْفِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَقُولُ: «إِنَّ ذَا القَرْنَيْنِ كَانَ عَبْداً صَالِحاً جَعَلَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) حُجَّةً عَلَى عِبَادِهِ، فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللهِ وَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَاهُ، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ، فَغَابَ عَنْهُمْ زَمَاناً حَتَّى قِيلَ: مَاتَ أَوْ هَلَكَ بِأَيِّ وَادٍ سَلَكَ؟ ثُمَّ ظَهَرَ وَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ الآخَرِ، وَفِيكُمْ مَنْ هُوَ عَلَى سُنَّتِهِ، وَإِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) مَكَّنَ لِذِي القَرْنَيْنِ فِي الأَرْضِ، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ(225) سَبَباً، وَبَلَغَ المَغْرِبَ وَالمَشْرِقَ، وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيَجْرِى سُنَّتَهُ فِي القَائِمِ مِنْ وُلْدِي فَيُبَلِّغُهُ شَرْقَ الأَرْضِ وغَرْبَهَا حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْهَلٌ وَلَا مَوْضِعٌ مِنْ سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ وَطِئَهُ ذُو القَرْنَيْنِ إِلَّا وَطِئَهُ، وَيُظْهِرُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ كُنُوزَ الأَرْضِ وَمَعَادِنَهَا، وَيَنْصُرُهُ بِالرُّعْبِ، فَيَمْلَأُ الأَرْضَ بِهِ عَدْلًا وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(226).
وَمِمَّا رُوِيَ مِنْ سِيَاقِ حَدِيثِ ذِي القَرْنَيْنِ:
[335/5] حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ البَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِ[و] بْنِ سَعِيدٍ البَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ قَارِئاً لِلْكُتُبِ، قَالَ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) أَنَّ ذَا القَرْنَيْنِ كَانَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَأُمَّهُ عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِهِمْ، وَلَيْسَ لَهَا وَلَدٌ غَيْرُهُ، يُقَالُ لَهُ: إِسْكَنْدَرُوسُ، وَكَانَ لَهُ أَدَبٌ وَخُلُقٌ وَعِفَّةٌ مِنْ وَقْتِ مَا كَانَ غُلَاماً إِلَى أَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(225) في بعض النُّسَخ: (وآتاه من كلِّ شيء).
(226) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 249 و250).

(٩٩)

بَلَغَ رَجُلاً، وَكَانَ [قَدْ] رَأَى فِي المَنَامِ كَأَنَّهُ دَنَا مِنَ الشَّمْسِ حَتَّى أَخَذَ بِقَرْنَيْهَا فِي شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا، فَلَمَّا قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى قَوْمِهِ سَمَّوْهُ ذَا القَرْنَيْنِ، فَلَمَّا رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا بَعُدَتْ هِمَّتُهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَعَزَّ فِي قَوْمِهِ.
وَكَانَ أَوَّلَ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ أَنْ قَالَ: أَسْلَمْتُ لِلهِ (عزَّ وجلَّ)، ثُمَّ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا هَيْبَةً لَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَبْنُوا لَهُ مَسْجِداً فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَنْ يَجْعَلُوا طُولَهُ أَرْبَعَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَعَرْضَهُ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضَ حَائِطِهِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ ذِرَاعاً، وَعُلُوَّهُ إِلَى السَّمَاءِ مِائَةَ ذِرَاعٍ، فَقَالُوا لَهُ: يَا ذَا القَرْنَيْنِ، كَيْفَ لَكَ بِخَشَبٍ يَبْلُغُ مَا بَيْنَ الحَائِطَيْنِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ بُنْيَانِ الحَائِطَيْنِ فَاكْبِسُوهُ بِالتُّرَابِ حَتَّى يَسْتَوِيَ الكَبْسُ مَعَ حِيطَانِ المَسْجِدِ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ ذَلِكَ فَرَضْتُمْ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَلَى قَدْرِهِ(227) مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، ثُمَّ قَطَعْتُمُوهُ مِثْلَ قُلَامَةِ الظُّفُرِ، وَخَلَطْتُمُوهُ مَعَ ذَلِكَ الكَبْسِ، وَعَمِلْتُمْ لَهُ خَشَباً مِنْ نُحَاسٍ وَصَفَائِحَ مِنْ نُحَاسٍ تُذِيبُونَ ذَلِكَ، وَأَنْتُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ العَمَلِ كَيْفَ شِئْتُمْ عَلَى أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ ذَلِكَ دَعَوْتُمُ المَسَاكِينَ لِنَقْلِ ذَلِكَ التُّرَابِ، فَيُسَارِعُونَ فِيهِ مِنْ أَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ.
فَبَنَوُا المَسْجِدَ وَأَخْرَجَ المَسَاكِينُ ذَلِكَ التُّرَابَ وَقَدِ اسْتَقَلَّ السَّقْفُ بِمَا فِيهِ وَاسْتَغْنَى، فَجَنَّدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَجْنَادٍ فِي كُلِّ جُنْدٍ عَشْرَةُ آلَافٍ، ثُمَّ نَشَرَهُمْ فِي البِلَادِ، وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِالمَسِيرِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ، فَقَالُوا لَهُ: يَا ذَا القَرْنَيْنِ، نَنْشُدُكَ بِاللهِ أَلَّا تُؤْثِرُ عَلَيْنَا بِنَفْسِكَ غَيْرَنَا، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرُؤْيَتِكَ، وَفِينَا كَانَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَبَيْنَنَا نَشَأْتَ وَرُبِّيتَ، وَهَذِهِ أَمْوَالُنَا وَأَنْفُسُنَا فَأَنْتَ الحَاكِمُ فِيهَا، وَهَذِهِ أُمُّكَ عَجُوزَةٌ كَبِيرَةٌ، وَهِيَ أَعْظَمُ خَلْقِ اللهِ عَلَيْكَ حَقًّا، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْصِيَهَا وَتُخَالِفَهَا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(227) أي على قدر حاله.

(١٠٠)

فَقَالَ لَهُمْ: وَاللهِ إِنَّ القَوْلَ لَقَوْلُكُمْ، وَإِنَّ الرَّأْيَ لَرَأْيُكُمْ، وَلَكِنَّنِي بِمَنْزِلَةِ المَأْخُوذِ بِقَلْبِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، يُقَادُ وَيُدْفَعُ مِنْ خَلْفِهِ، لَا يَدْرِي أَيْنَ يُؤْخَذُ بِهِ وَمَا يُرَادُ بِهِ، وَلَكِنْ هَلُمُّوا يَا مَعْشَرَ قَوْمِي فَادْخُلُوا هَذَا المَسْجِدَ وَأَسْلِمُوا عَنْ آخِرِكُمْ وَلَا تُخَالِفُوا عَلَيَّ فَتَهْلِكُوا.
ثُمَّ دَعَا دِهْقَانَ(228) الإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَقَالَ لَهُ: اعْمُرْ مَسْجِدِي، وَعَزِّ عَنِّي أُمِّي، فَلَمَّا رَأَى الدِّهْقَانُ جَزَعَ أُمِّهِ وطُولَ بُكَائِهَا احْتَالَ لَهَا لِيُعَزِّيَهَا بِمَا أَصَابَ النَّاسَ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا مِنَ المَصَائِبِ وَالبَلَاءِ، فَصَنَعَ عِيداً عَظِيماً، ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الدِّهْقَانَ يُؤْذِنُكُمْ لِتَحْضُرُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ اليَوْمُ أَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ: أَسْرِعُوا وَاحْذَرُوا أَنْ يَحْضُرَ هَذَا العِيدَ إِلَّا رَجُلٌ قَدْ عَرِيَ مِنَ البَلَايَا وَالمَصَائِبِ، فَاحْتُبِسَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَقَالُوا: لَيْسَ فِينَا أَحَدٌ عَرِيَ مِنَ البَلَاءِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ أُصِيبَ بِبَلَاءٍ أَوْ بِمَوْتِ حَمِيمٍ، فَسَمِعَتْ أُمُّ ذِي القَرْنَيْنِ هَذَا فَأَعْجَبَهَا وَلَمْ تَدْرِ مَا يُرِيدُ الدِّهْقَانُ، ثُمَّ إِنَّ الدِّهْقَانَ بَعَثَ مُنَادِياً يُنَادِي فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الدِّهْقَانَ قَدْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَحْضُرُوهُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يَحْضُرَهُ إِلَّا رَجُلٌ قَدِ ابْتُلِيَ وَأُصِيبَ وَفُجِعَ، وَلَا يَحْضُرَهُ أَحَدٌ عَرِيَ مِنَ البَلَاءِ، فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُصِيبُهُ البَلَاءُ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَجُلٌ قَدْ كَانَ بَخِلَ ثُمَّ نَدِمَ فَاسْتَحْيَا فَتَدَارَكَ أَمْرَهُ وَمَحَا عَيْبَهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ خَطَبَهُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي لَمْ أَجْمَعْكُمْ لِمَا دَعَوْتُكُمْ لَهُ، وَلَكِنِّي جَمَعْتُكُمْ لِأُكَلِّمَكُمْ فِي ذِي القَرْنَيْنِ وَفِيمَا فُجِعْنَا بِهِ مِنْ فَقْدِهِ وَفِرَاقِهِ، فَاذْكُرُوا آدَمَ(عليه السلام) فَإِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) خَلَقَهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ وَأَكْرَمَهُ بِكَرَامَةٍ لَمْ يُكْرِمْ بِهَا أَحَداً، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِأَعْظَمِ بَلِيَّةٍ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ الخُرُوجُ مِنَ الجَنَّةِ، وَهِيَ المُصِيبَةُ الَّتِي لَا جَبْرَ لَهَا، ثُمَّ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) مِنْ بَعْدِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(228) الدهقان: رئيس القرية، ومقدَّم أصحاب الزراعة.

(١٠١)

بِالحَرِيقِ، وَابْتَلَى ابْنَهُ بِالذَّبْحِ، وَيَعْقُوبَ بِالحُزْنِ وَالبُكَاءِ، وَيُوسُفَ بِالرِّقِّ، وَأَيُّوبَ بِالسُّقْمِ، وَيَحْيَى بِالذَّبْحِ، وَزَكَرِيَّا بِالقَتْلِ، وَعِيسَى بِالأَسْرِ(229)، وَخَلْقاً مِنْ خَلْقِ اللهِ كَثِيراً لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللهُ (عزَّ وجلَّ).
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ هَذَا الكَلَامِ قَالَ لَهُمْ: انْطَلِقُوا فَعَزُّوا أُمَّ الإِسْكَنْدَرُوسِ لِنَنْظُرَ كَيْفَ صَبْرُهَا فَإِنَّهَا أَعْظَمُ مُصِيبَةً فِي ابْنِهَا، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهَا قَالُوا لَهَا: هَلْ حَضَرْتِ الجَمْعَ اليَوْمَ وَسَمِعْتِ الكَلَامَ؟ قَالَتْ لَهُمْ: مَا خَفِيَ عَنِّي مِنْ أَمْرِكُمْ شَيْءٌ وَلَا سَقَطَ عَنِّي مِنْ كَلَامِكُمْ شَيْءٌ، وَمَا كَانَ فِيكُمْ أَحَدٌ أَعْظَمَ مُصِيبَةً بِإِسْكَنْدَرُوسَ مِنِّي، وَلَقَدْ صَبَّرَنِيَ اللهُ تَعَالَى وَأَرْضَانِي وَرَبَطَ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَجْرِي عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَأَرْجُو لَكُمْ مِنَ الأَجْرِ بِقَدْرِ مَا رُزِيتُمْ مِنْ فَقْدِ أَخِيكُمْ، وَأَنْ تُؤْجَرُوا عَلَى قَدْرِ مَا نَوَيْتُمْ فِي أُمِّهِ، وَأَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي وَلَكُمْ وَيَرْحَمَنِي وَإِيَّاكُمْ.
فَلَمَّا رَأَوْا حُسْنَ عَزَائِهَا وَصَبْرَهَا انْصَرَفُوا عَنْهَا وَتَرَكُوهَا.
وَانْطَلَقَ ذُو القَرْنَيْنِ يَسِيرُ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَمْعَنَ فِي البِلَادِ يَؤُمُّ فِي المَغْرِبِ، وَجُنُودُهُ يَوْمَئِذٍ المَسَاكِينُ، فَأَوْحَى اللهُ (جلّ جلاله) إِلَيْهِ: يَا ذَا القَرْنَيْنِ، أَنْتَ حُجَّتِي عَلَى جَمِيعِ الخَلَائِقِ مَا بَيْنَ الخَافِقَيْنِ مِنْ مَطْلِعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا، وَحُجَّتِي عَلَيْهِمْ، وَهَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاكَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(229) إنْ قلت: إنَّ ذا القرنين كان قبل ميلاد عيسى (عليه السلام) بقرون، فكيف يصحُّ ذلك القول؟ وقلت: إنْ قلنا: إنَّه بعد الميلاد فكيف يلائم قوله في آخر الخبر: (وكان عدَّة ما سار في البلاد من يوم بعثه الله (عزَّ وجلَّ) إلى يوم قبضه الله خمسمائة عام)؟
قلنا: الأمر في أمثال هذه القَصص الغير المنقولة عن المعصوم سهل. وأوردها المصنِّف (رحمه الله) طرداً للباب نظير الذيول التي تداول في عصرنا في جميع المؤلَّفات من المؤلِّفين، ولعلَّ المصنِّف (رحمه الله) أوردها لأجل المواعظ البالغة التي ذُكِرَ في آخرها، ولكن اعلم أنَّه (رحمه الله) لم يحتجّ بأمثال هذه القَصص، وجلَّت ساحته عن الاحتجاج بها.
ثمّ راجع في تحقيق ذي القرنين بحار الأنوار (ج 12/ ص 208 - 215/ من الطبع الحروفي).

(١٠٢)

فَقَالَ ذُو القَرْنَيْنِ: يَا إِلَهِي، إِنَّكَ قَدْ نَدَبْتَنِي لِأَمْرٍ عَظِيمٍ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ غَيْرُكَ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ بِأَيِّ قُوَّةٍ أُكَابِرُهُمْ(230)، وَبِأَيِّ عَدَدٍ أَغْلِبُهُمْ، وَبِأَيَّةِ حِيلَةٍ أَكِيدُهُمْ، وَبِأَيِّ صَبْرٍ أُقَاسِيهِمْ، وَبِأَيِّ لِسَانٍ أُكَلِّمُهُمْ، وَكَيْفَ لِي بِأَنْ أَعْرِفَ لُغَاتِهِمْ، وَبِأَيِّ سَمْعٍ أَعِي كَلَامَهُمْ، وَبِأَيِّ بَصَرٍ أَنْفُذُهُمْ، وَبِأَيِّ حُجَّةٍ أُخَاصِمُهُمْ، وَبِأَيِّ قَلْبٍ أَعْقِلُ عَنْهُمْ، وَبِأَيِّ حِكْمَةٍ أُدَبِّرُ أُمُورَهُمْ، وَبِأَيِّ حِلْمٍ أُصَابِرُهُمْ، وَبِأَيِّ قِسْطٍ أَعْدِلُ فِيهِمْ، وَبِأَيِّ مَعْرِفَةٍ أَفْصِلُ بَيْنَهُمْ، وَبِأَيِّ عِلْمٍ أُتْقِنُ أُمُورَهُمْ، وَبِأَيِّ عَقْلٍ أُحْصِيهِمْ، وَبِأَيِّ جُنْدٍ أُقَاتِلُهُمْ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مِمَّا ذَكَرْتُ شَيْءٌ يَا رَبِّ، فَقَوِّنِي عَلَيْهِمْ فَإِنَّكَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ الَّذِي لَا تُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، وَلَا تُحَمِّلُهَا إِلَّا طَاقَتَهَا.
فَأَوْحَى اللهُ (جلّ جلاله) إِلَيْهِ: أَنِّي سَأُطَوِّقُكَ مَا حَمَّلْتُكَ، وَأَشْرَحُ لَكَ فَهْمَكَ فَتَفْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَشْرَحُ لَكَ صَدْرَكَ فَتَسْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُطْلِقُ لِسَانَكَ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَفْتَحُ لَكَ سَمْعَكَ فَتَعِي كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكْشِفُ لَكَ عَنْ بَصَرِكَ فَتُنْفِذُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُحْصِي لَكَ(231) فَلَا يَفُوتُكَ شَيْءٌ، وَأَحْفَظُ عَلَيْكَ فَلَا يَعْزُبُ عَنْكَ شَيْءٌ، وَأَشُدُّ [لَكَ] ظَهْرَكَ فَلَا يَهُولُكَ شَيْءٌ، وَالبِسُكَ الهَيْبَةَ فَلَا يَرُوعُكَ شَيْءٌ، وَأُسَدِّدُ لَكَ رَأْيَكَ فَتُصِيبُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُسَخِّرُ لَكَ جَسَدَكَ فَتُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُسَخِّرُ لَكَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ وَأَجْعَلُهُمَا جُنْدَيْنِ مِنْ جُنُودِكَ، النُّورُ يَهْدِيكَ وَالظُّلْمَةُ تَحُوطُكَ وَتَحُوشُ عَلَيْكَ الأُمَمُ(232) مِنْ وَرَائِكَ.
فَانْطَلَقَ ذُو القَرْنَيْنِ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ (عزَّ وجلَّ)، وَأَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا وَعَدَهُ، فَمَرَّ بِمَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَلَا يَمُرُّ بِأُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ إِلَّا دَعَاهُمْ إِلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ)، فَإِنْ أَجَابُوهُ قَبِلَ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوهُ أَغْشَاهُمُ الظُّلْمَةَ، فَأَظْلَمَتْ مَدَايِنُهُمْ وَقُرَاهُمْ وَحُصُونُهُمْ وَبُيُوتُهُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(230) في بعض النُّسَخ: (أُكاثرهم).
(231) في بعض النُّسَخ: (وأُحضر لك).
(232) حاش الصيد: جاءه من حواليه ليصرفه إلى الحبالة. (القاموس المحيط: ج 2/ ص 270).

(١٠٣)

وَمَنَازِلُهُمْ، وَأُغْشِيَتْ أَبْصَارُهُمْ وَدَخَلَتْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَآنَافِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَأَجْوَافِهِمْ، فَلَا يَزَالُونَ فِيهَا مُتَحَيِّرِينَ حَتَّى يَسْتَجِيبُوا للهِ (عزَّ وجلَّ) وَيَعِجُّوا إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَ عِنْدَهَا الأُمَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، فَفَعَلَ بِهِمْ مَا فَعَلَ بِمَنْ مَرَّ بِهِ [مِنْ] قَبْلِهِمْ حَتَّى فَرَغَ مِمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَغْرِبِ، وَوَجَدَ جَمْعاً وَعَدَداً لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللهُ، وَبَأْساً وَقُوَّةً لَا يُطِيقُهُ إِلَّا اللهُ (عزَّ وجلَّ)، وَالسِنَةً مُخْتَلِفَةً وَأَهْوَاءً مُتَشَتِّتَةً وَقُلُوباً مُتَفَرِّقَةً، ثُمَّ مَشَى عَلَى الظُّلْمَةِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَثَمَانَ لَيَالٍ وَأَصْحَابُهُ يَنْظُرُونَهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الجَبَلِ الَّذِي هُوَ مُحِيطٌ بِالأَرْضِ كُلِّهَا، فَإِذَا هُوَ بِمَلَكٍ مِنَ المَلَائِكَةِ قَابِضٍ عَلَى الجَبَلِ، وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي مِنَ الآنِ إِلَى مُنْتَهَى الدَّهْرِ، سُبْحَانَ رَبِّي مِنْ أَوَّلِ الدُّنْيَا إِلَى آخِرِهَا، سُبْحَانَ رَبِّي مِنْ مَوْضِعِ كَفِّي إِلَى عَرْشِ رَبِّي، سُبْحَانَ رَبِّي مِنْ مُنْتَهَى الظُّلْمَةِ إِلَى النُّورِ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ ذُو القَرْنَيْنِ خَرَّ سَاجِداً، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى قَوَّاهُ اللهُ تَعَالَى وَأَعَانَهُ عَلَى النَّظَرِ إِلَى ذَلِكَ المَلَكِ، فَقَالَ لَهُ المَلَكُ: كَيْفَ قَوِيتَ يَا ابْنَ آدَمَ عَلَى أَنْ تَبْلُغَ إِلَى هَذَا المَوْضِعِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنْ وُلْدِ آدَمَ قَبْلَكَ؟ قَالَ ذُو القَرْنَيْنِ: قَوَّانِي عَلَى ذَلِكَ الَّذِي قَوَّاكَ عَلَى قَبْضِ هَذَا الجَبَلِ وَهُوَ مُحِيطٌ بِالأَرْضِ، قَالَ لَهُ المَلَكُ: صَدَقْتَ، قَالَ لَهُ ذُو القَرْنَيْنِ: فَأَخْبِرْنِي عَنْكَ أَيُّهَا المَلَكُ، قَالَ: إِنِّي مُوَكَّلٌ بِهَذَا الجَبَلِ وَهُوَ مُحِيطٌ بِالأَرْضِ كُلِّهَا، وَلَوْ لَا هَذَا الجَبَلُ لَانْكَفَأَتِ الأَرْضُ بِأَهْلِهَا، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ جَبَلٌ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَهُوَ أَوَّلُ جَبَلٍ أَثْبَتَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ)(233)، فَرَأْسُهُ مُلْصَقٌ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَسْفَلُهُ فِي الأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَهُوَ مُحِيطٌ بِهَا كَالحَلْقَةِ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مَدِينَةٌ إِلَّا وَلَهَا عِرْقٌ إِلَى هَذَا الجَبَلِ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يُزَلْزِلَ مَدِينَةً أَوْحَى إِلَيَّ فَحَرَّكْتُ العِرْقَ الَّذِي [مُتَّصِلٌ] إِلَيْهَا فَزَلْزَلَهَا.
فَلَمَّا أَرَادَ ذُو القَرْنَيْنِ الرُّجُوعَ قَالَ لِلْمَلَكِ: أَوْصِنِي، قَالَ المَلَكُ: لَا يَهُمَّنَّكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(233) في بعض النُّسَخ: (أسَّسه الله (عزَّ وجلَّ)).

(١٠٤)

رِزْقُ غَدٍ، وَلَا تُؤَخِّرْ عَمَلَ اليَوْمِ لِغَدٍ، وَلَا تَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَكَ، وَعَلَيْكَ بِالرِّفْقِ، وَلَا تَكُنْ جَبَّاراً مُتَكَبِّراً.
ثُمَّ إِنَّ ذَا القَرْنَيْنِ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ عَطَفَ بِهِمْ نَحْوَ المَشْرِقِ يَسْتَقْرِئُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَشْرِقِ مِنَ الأُمَمِ، فَيَفْعَلُ بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِأُمَمِ المَغْرِبِ قَبْلَهُمْ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ [مِ]مَّا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ عَطَفَ نَحْوَ الرَّدْمِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي كِتَابِهِ، فَإِذَا هُوَ بِأُمَّةٍ ﴿لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾ [الكهف: 93]، وَإِذَا [مَا] بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّدْمِ مَشْحُونٌ مِنْ أُمَّةٍ يُقَالُ لَهَا: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، أَشْبَاهُ البَهَائِمِ، يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَوَالَدُونَ، وَهُمْ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، وَفِيهِمْ مَشَابِهُ مِنَ النَّاسِ الوُجُوهُ وَالأَجْسَادُ وَالخِلْقَةُ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ نُقِصُوا فِي الأَبْدَانِ نَقْصاً شَدِيداً، وَهُمْ فِي طُولِ الغِلْمَانِ، لَيْسَ مِنْهُمْ أُنْثَى وَلَا ذَكَرٌ يُجَاوِزُ طُولُهُ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ، وَهُمْ عَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ فِي الخَلْقِ وَالصُّورَةِ، عُرَاةٌ حُفَاةٌ لَا يَغْزِلُونَ وَلَا يَلْبَسُونَ وَلَا يَحْتَذُونَ، عَلَيْهِمْ وَبَرٌ كَوَبَرِ الإِبِلِ يُوَارِيهِمْ وَيَسْتُرُهُمْ مِنَ الحَرِّ وَالبَرْدِ(234)، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُذُنَانِ إِحْدَاهُمَا ذَاتُ شَعَرٍ وَالأُخْرَى ذَاتُ وَبَرٍ، ظَاهِرُهُمَا وَبَاطِنُهُمَا، وَلَهُمْ مَخَالِبُ فِي مَوْضِعِ الأَظْفَارِ، وَأَضْرَاسٌ وَأَنْيَابٌ كَأَضْرَاسِ السِّبَاعِ وَأَنْيَابِهَا، وَإِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ افْتَرَشَ إِحْدَى أُذُنَيْهِ وَالتَحَفَ بِالأُخْرَى فَتَسَعُهُ لِحَافاً، وَهُمْ يُرْزَقُونَ تِنِّينَ البَحْرِ(235) فِي كُلِّ عَامٍ يَقْذِفُهُ إِلَيْهِمُ السَّحَابُ، فَيَعِيشُونَ بِهِ عَيْشاً خِصْباً وَيَصْلُحُونَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَمْطِرُونَهُ فِي إِبَّانِهِ(236) كَمَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(234) المروي عن أئمَّتنا (عليهم السلام) أنَّهم أقوام وحشيَّة غير متمدِّنين، بل يعيشون كالبهائم كما جاء في تفسير العيَّاشي (ج 2/ ص 350/ ح 84) عن أبي بصير، عن الباقر (عليه السلام)، قال: «لم يعلموا صنعة البيوت»، وفي تفسير القمِّي (ج 2/ ص 41): «لم يعلموا صنعة الثياب». وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنَّ ذا القرنين ورد على قوم قد أحرقتهم الشمس وغيَّرت أجسادهم وألوانهم حتَّى صيَّرتهم كالظلمة» (تفسير العيَّاشي: ج 2/ ص 343/ ح 79).
(235) التنِّين نوع من الحيَّات.
(236) إبَّانه أي وقته. وفي بعض النُّسَخ: (في أيَّام المطر).

(١٠٥)

يَسْتَمْطِرُ النَّاسُ المَطَرَ فِي إِبَّانِ المَطَرِ، وَإِذَا قُذِفُوا بِهِ خَصَبُوا وَسَمِنُوا وَتَوَالَدُوا وَكَثُرُوا وَأَكَلُوا مِنْهُ حَوْلًا كَامِلاً إِلَى مِثْلِهِ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ، وَلَا يَأْكُلُونَ مَعَهُ شَيْئاً غَيْرَهُ، وَهُمْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ (عزَّ وجلَّ) الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَإِذَا أَخْطَأَهُمُ التِّنِّينُ قُحِطُوا وَأُجْدِبُوا وَجَاعُوا وَانْقَطَعَ النَّسْلُ وَالوَلَدُ، وَهُمْ يَتَسَافَدُونَ كَمَا تَتَسَافَدُ البَهَائِمُ(237) عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَحَيْثُ مَا التَقَوْا، وَإِذَا أَخْطَأَهُمُ التِّنِّينُ جَاعُوا وَسَاحُوا فِي البِلَادِ، فَلَا يَدَعُونَ شَيْئاً أَتَوْا عَلَيْهِ إِلَّا أَفْسَدُوهُ وَأَكَلُوهُ، فَهُمْ أَشَدُّ فَسَاداً فِيمَا أَتَوْا عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ مِنَ الجَرَادِ وَالبَرَدِ وَالآفَاتِ كُلِّهَا، وَإِذَا أَقْبَلُوا مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ جَلَا أَهْلُهَا عَنْهَا وَخَلَّوْهَا، وَلَيْسَ يُغْلَبُونَ وَلَا يُدْفَعُونَ حَتَّى لَا يَجِدُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى مَوْضِعاً لِقَدَمِهِ، وَلَا يَخْلُو لِلْإِنْسَانِ قَدْرُ مَجْلِسِهِ، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ أَيْنَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ(238)، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَدْنُوَ مِنْهُمْ نَجَاسَةً وَقَذَراً وَسُوءَ حِلْيَةٍ، فَبِهَذَا غَلَبُوا، وَلَهُمْ حِسٌّ وَحَنِينٌ(239) إِذَا أَقْبَلُوا إِلَى الأَرْضِ يُسْمَعُ حِسُّهُمْ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ فَرْسَخٍ لِكَثْرَتِهِمْ، كَمَا يُسْمَعُ حِسُّ الرِّيحِ البَعِيدَةِ، أَوْ حِسُّ المَطَرِ البَعِيدِ، وَلَهُمْ هَمْهَمَةٌ إِذَا وَقَعُوا فِي البِلَادِ كَهَمْهَمَةِ النَّحْلِ إِلَّا أَنَّهُ أَشَدُّ وَأَعْلَى صَوْتاً، يَمْلَأُ الأَرْضَ حَتَّى لَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الهَمِيمِ شَيْئاً، وَإِذَا أَقْبَلُوا إِلَى أَرْضٍ حَاشُوا وُحُوشَهَا كُلَّهَا وَسِبَاعَهَا حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا شَيْءٌ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَمْلَئُونَهَا مَا بَيْنَ أَقْطَارِهَا، وَلَا يَتَخَلَّفُ وَرَاءَهُمْ مِنْ سَاكِنِ الأَرْضِ شَيْءٌ فِيهِ رُوحٌ إِلَّا اجْتَلَبُوهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَأَمْرُهُمْ أَعْجَبُ مِنَ العَجَبِ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفَ مَتَى يَمُوتُ، وَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مِنْهُمْ ذَكَرٌ حَتَّى يُولَدَ لَهُ ألفُ وَلَدٍ، وَلَا تَمُوتُ مِنْهُمْ أُنْثَى حَتَّى تَلِدَ ألفَ وَلَدٍ، فَبِذَلِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(237) السفاد: النكاح.
(238) في بعض النُّسَخ: (كم من أوَّلهم إلى آخرهم).
(239) الحسُّ والحسيس: الصوت الخفيُّ. والحنين: الصوت الجليُّ.

(١٠٦)

عَرَفُوا آجَالَهُمْ، فَإِذَا وُلِدَ ذَلِكَ الألفُ بَرَزُوا لِلْمَوْتِ، وَتَرَكُوا طَلَبَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ المَعِيشَةِ وَالحَيَاةِ، فَهَذِهِ قِصَّتُهُمْ مِنْ يَوْمَ خَلَقَهُمُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَى يَوْمِ يُفْنِيهِمْ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ جَعَلُوا فِي زَمَانِ ذِي القَرْنَيْنِ يَدُورُونَ أَرْضاً أَرْضاً مِنَ الأَرَضِينَ، وَأُمَّةً أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ، وَهُمْ إِذَا تَوَجَّهُوا لِوَجْهٍ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ أَبَداً وَلَا يَنْصَرِفُونَ يَمِيناً وَلَا شِمَالاً وَلَا يَلْتَفِتُونَ.
فَلَمَّا أَحَسَّتْ تِلْكَ الأُمَمُ بِهِمْ وَسَمِعُوا هَمْهَمَتَهُمْ اسْتَغَاثُوا بِذِي القَرْنَيْنِ، وَذُو القَرْنَيْنِ يَوْمَئِذٍ نَازِلاً فِي نَاحِيَتِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا: يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا مَا آتَاكَ اللهُ مِنَ المُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَمَا ألبَسَكَ اللهُ مِنَ الهَيْبَةِ، وَمَا أَيَّدَكَ بِهِ مِنْ جُنُودِ أَهْلِ الأَرْضِ وَمِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَإِنَّا جِيرَانُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سِوَى هَذِهِ الجِبَالِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِلَيْنَا طَرِيقٌ إِلَّا هَذَيْنِ الصَّدَفَيْنِ، وَلَوْ يَنْسِلُونَ أَجْلَوْنَا عَنْ بِلَادِنَا لِكَثْرَتِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونَ لَنَا فِيهَا قَرَارٌ، وَهُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ كَثِيرٌ فِيهِمْ مَشَابِهُ مِنَ الإِنْسِ وَهُمْ أَشْبَاهُ البَهَائِمِ، يَأْكُلُونَ مِنَ العُشْبِ، وَيَفْتَرِسُونَ الدَّوَابَّ وَالوُحُوشَ كَمَا تَفْتَرِسُهَا السِّبَاعُ، وَيَأْكُلُونَ حَشَرَاتِ الأَرْضِ كُلَّهَا مِنَ الحَيَّاتِ وَالعَقَارِبِ وَكُلِّ ذِي رُوحٍ مِمَّا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ [مِمَّا خَلَقَ اللهُ] (جلّ جلاله) خَلْقٌ يَنْمُو نِمَاهُمْ وَزِيَادَتَهُمْ، فَلَا نَشُكُّ أَنَّهُمْ يَمْلَؤُونَ الأَرْضَ وَيُجْلُونَ أَهْلَهَا مِنْهَا وَيُفْسِدُونَ فِيهَا، وَنَحْنُ نَخْشَى كُلَّ وَقْتٍ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْنَا أَوَائِلُهُمْ مِنْ هَذَيْنِ الجَبَلَيْنِ، وَقَدْ آتَاكَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) مِنَ الحِيلَةِ وَالقُوَّةِ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العالَمِينَ، ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ﴾ [الكهف: 94 - 96]، قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ لَنَا مِنَ الحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ مَا يَسَعُ هَذَا العَمَلَ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَعْمَلَ؟ قَالَ: إِنِّي سَأَدُلُّكُمْ عَلَى مَعْدِنِ الحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، فَضَرَبَ لَهُمْ فِي جَبَلَيْنِ حَتَّى فَتَقَهُمَا، فَاسْتَخْرَجَ لَهُمْ مِنْهُمَا مَعْدِنَيْنِ مِنَ الحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، قَالُوا: فَبِأَيِّ قُوَّةٍ نَقْطَعُ الحَدِيدَ

(١٠٧)

وَالنُّحَاسَ؟ فَاسْتَخْرَجَ لَهُمْ مَعْدِناً آخَرَ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ يُقَالُ لَهَا: السَّامُورُ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ(240)، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ يُوضَعُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا ذَابَ تَحْتَهُ، فَصَنَعَ لَهُمْ مِنْهُ أَدَاةً يَعْمَلُونَ بِهَا - وَبِهِ قَطَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ (عليه السلام) أَسَاطِينَ بَيْتِ المَقْدِسِ وَصُخُورَهُ جَاءَتْ بِهَا الشَّيَاطِينُ مِنْ تِلْكَ المَعَادِنِ -، فَجَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا اكْتَفَوْا بِهِ، فَأَوْقَدُوا عَلَى الحَدِيدِ حَتَّى صَنَعُوا مِنْهُ زُبَراً مِثَالَ الصُّخُورِ، فَجَعَلَ حِجَارَتَهُ مِنْ حَدِيدٍ، ثُمَّ أَذَابَ النُّحَاسَ فَجَعَلَهُ كَالطِّينِ لِتِلْكَ الحِجَارَةِ، ثُمَّ بَنَى وَقَاسَ مَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، فَوَجَدَهُ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ، فَحَفَرَ لَهُ أَسَاساً حَتَّى كَادَ أَنْ يَبْلُغَ المَاءَ، وَجَعَلَ عَرْضَهُ مِيلاً، وَجَعَلَ حَشْوَهُ زُبَرَ الحَدِيدِ، وَأَذَابَ النُّحَاسَ فَجَعَلَهُ خِلَالَ الحَدِيدِ، فَجَعَلَ طَبَقَةً مِنْ نُحَاسٍ وَأُخْرَى مِنْ حَدِيدٍ حَتَّى سَاوَى الرَّدْمَ بِطُولِ الصَّدَفَيْنِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ بُرْدُ حِبَرَةٍ مِنْ صُفْرَةِ النُّحَاسِ وَحُمْرَتِهِ وَسَوَادِ الحَدِيدِ، فَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ يَنْتَابُونَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَسِيحُونَ فِي بِلَادِهِمْ حَتَّى إِذَا وَقَعُوا إِلَى ذَلِكَ الرَّدْمِ حَبَسَهُمْ، فَرَجَعُوا يَسِيحُونَ فِي بِلَادِهِمْ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى تَقْرُبَ السَّاعَةُ وَتَجِيءَ أَشْرَاطُهَا، فَإِذَا جَاءَ أَشْرَاطُهَا وَهُوَ قِيَامُ القَائِمِ (عليه السلام) فَتَحَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ [الأنبياء: 96].
فَلَمَّا فَرَغَ ذُو القَرْنَيْنِ مِنْ عَمَلِ السَّدِّ انْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ وَجُنُودَهُ إِذْ مَرَّ عَلَى شَيْخٍ يُصَلِّي، فَوَقَفَ عَلَيْهِ بِجُنُودِهِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ ذُو القَرْنَيْنِ: كَيْفَ لَمْ يُرَوِّعْكَ مَا حَضَرَكَ مِنَ الجُنُودِ؟ قَالَ: كُنْتُ أُنَاجِي مَنْ هُوَ أَكْثَرُ جُنُوداً مِنْكَ، وَأَعَزُّ سُلْطَاناً وَأَشَدُّ قُوَّةً، وَلَوْ صَرَفْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ مَا أَدْرَكْتُ حَاجَتِي قِبَلَهُ، فَقَالَ لَهُ ذُو القَرْنَيْنِ: فَهَلْ لَكَ أَنْ تَنْطَلِقَ مَعِي فَأُوَاسِيَكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(240) في بعض النُّسَخ: (وهو أشدّ شيء بياضاً). والسامور: الماس المعروف اليوم كما في بحر الجواهر (ص 202)، ولا يُذيب شيئاً بل يقطعه.

(١٠٨)

بِنَفْسِي وَأَسْتَعِينَ بِكَ عَلَى بَعْضِ أُمُورِي؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ ضَمِنْتَ لِي أَرْبَعاً(241): نَعِيماً لَا يَزُولُ، وَصِحَّةً لَا سُقْمَ فِيهَا، وَشَبَاباً لَا هَرَمَ فِيهِ، وَحَيَاةً لَا مَوْتَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ ذُو القَرْنَيْنِ: أَيُّ مَخْلُوقٍ يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الخِصَالِ؟ فَقَالَ الشَّيْخُ: فَإِنِّي مَعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الخِصَالِ(242) وَيَمْلِكُهَا وَإِيَّاكَ.
ثُمَّ مَرَّ بِرَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ لِذِي القَرْنَيْنِ: أَخْبِرْنِي عَنْ شَيْئَيْنِ مُنْذُ خَلَقَهُمَا اللهُ تَعَالَى قَائِمَيْنِ، وَعَنْ شَيْئَيْنِ جَارِيَيْنِ، وَشَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَشَيْئَيْنِ مُتَبَاغِضَيْنِ، فَقَالَ ذُو القَرْنَيْنِ: أَمَّا الشَّيْئَانِ القَائِمَانِ فَالسَّمَاءُ وَالأَرْضُ، وَأَمَّا الشَّيْئَانِ الجَارِيَانِ فَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ، وَأَمَّا الشَّيْئَانِ المُخْتَلِفَانِ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَأَمَّا الشَّيْئَانِ المُتَبَاغِضَانِ فَالمَوْتُ وَالحَيَاةُ، فَقَالَ: انْطَلِقْ فَإِنَّكَ عَالِمٌ.
فَانْطَلَقَ ذُو القَرْنَيْنِ يَسِيرُ فِي البِلَادِ حَتَّى مَرَّ بِشَيْخٍ يُقَلِّبُ: جَمَاجِمَ المَوْتَى، فَوَقَفَ عَلَيْهِ بِجُنُودِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي أَيُّهَا الشَّيْخُ لِأَيِّ شَيْءٍ تُقَلِّبُ هَذِهِ الجَمَاجِمَ؟ قَالَ: لِأَعْرِفَ الشَّرِيفَ عَنِ الوَضِيعِ فَمَا عَرَفْتُ، فَإِنِّي لَأُقَلِّبُهَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً.
فَانْطَلَقَ ذُو القَرْنَيْنِ وَتَرَكَهُ، وَقَالَ: مَا أَرَاكَ عَنَيْتَ بِهَذَا أَحَداً غَيْرِي.
فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ إِذْ وَقَعَ إِلَى الأُمَّةِ العَالِمَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ قَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، فَوَجَدَ أُمَّةً مُقْسِطَةً عَادِلَةً يَقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَحْكُمُونَ بِالعَدْلِ، وَيَتَوَاسَوْنَ وَيَتَرَاحَمُونَ، حَالُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مُؤْتَلِفَةٌ، وَطَرِيقَتُهُمْ مُسْتَقِيمَةٌ، وَسِيرَتُهُمْ جَمِيلَةٌ، وَقُبُورُ مَوْتَاهُمْ فِي أَفْنِيَتِهِمْ وَعَلَى أَبْوَابِ دُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، وَلَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أُمَرَاءُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ قُضَاةٌ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَغْنِيَاءُ وَلَا مُلُوكٌ وَلَا أَشْرَافٌ، وَلَا يَتَفَاوَتُونَ وَلَا يَتَفَاضَلُونَ وَلَا يَخْتَلِفُونَ وَلَا يَتَنَازَعُونَ وَلَا يَسْتَبُّونَ وَلَا يَقْتَتِلُونَ، وَلَا تُصِيبُهُمُ الآفَاتُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(241) في بعض النُّسَخ: (أربع خصال).
(242) في بعض النُّسَخ: (فإنَّ معي من يقدر عليها).

(١٠٩)

فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ مُلِئَ مِنْهُمْ عَجَباً، فَقَالَ: أَيُّهَا القَوْمُ أَخْبِرُونِي خَبَرَكُمْ فَإِنِّي قَدْ دُرْتُ الأَرْضَ شَرْقَهَا وَغَرْبَهَا وَبَرَّهَا وَبَحْرَهَا وَسَهْلَهَا وَجَبَلَهَا وَنُورَهَا وَظُلْمَتَهَا فَلَمْ القَ مِثْلَكُمْ(243)، فَأَخْبِرُونِي مَا بَالُ قُبُورِ مَوْتَاكُمْ عَلَى أَفْنِيَتِكُمْ وَعَلَى أَبْوَابِ بُيُوتِكُمْ؟ قَالُوا: فَعَلْنَا ذَلِكَ عَمْداً لِئَلَّا نَنْسَى المَوْتَ، وَلَا يَخْرُجَ ذِكْرُهُ مِنْ قُلُوبِنَا، قَالَ: فَمَا بَالُ بُيُوتِكُمْ لَيْسَ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ؟ فَقَالُوا: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِينَا لِصٌّ وَلَا ظَنِينٌ(244)، وَلَيْسَ فِينَا إِلَّا الأَمِينُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ؟ قَالُوا: لِأَنَّنَا لَا نَتَظَالَمُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ بَيْنَكُمْ حُكَّامٌ؟ قَالُوا: لِأَنَّنَا لَا نَخْتَصِمُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ مُلُوكٌ؟ قَالُوا: لِأَنَّنَا لَا نَتَكَاثَرُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ أَشْرَافٌ؟ قَالُوا: لِأَنَّنَا لَا نَتَنَافَسُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَتَفَاضَلُونَ وَلَا تَتَفَاوَتُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا مُتَوَاسُونَ مُتَرَاحِمُونَ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَتَنَازَعُونَ وَلَا تَخْتَلِفُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ الفَةِ قُلُوبِنَا، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِنَا، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَسْتَبُّونَ وَلَا تَقْتَتِلُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا غَلَبْنَا طَبَائِعَنَا بِالعَزْمِ، وَسُسْنَا أَنْفُسَنَا بِالحِلْمِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ كَلِمَتُكُمْ وَاحِدَةٌ وَطَرِيقَتُكُمْ مُسْتَقِيمَةٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا لَا نَتَكَاذَبُ وَلَا نَتَخَادَعُ، وَلَا يَغْتَابُ بَعْضُنَا بَعْضاً، قَالَ: فَأَخْبِرُونِي لِـمَ لَيْسَ فِيكُمْ مِسْكِينٌ وَلَا فَقِيرٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا نَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ الذُّلِّ وَالتَّوَاضُعِ، قَالَ: فَلِمَ جَعَلَكُمُ اللهُ أَطْوَلَ النَّاسِ أَعْمَاراً؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا نَتَعَاطَى الحَقَّ وَنَحْكُمُ بِالعَدْلِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تُقْحَطُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا لَا نَغْفَلُ عَنِ الاِسْتِغْفَارِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَحْزَنُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا وَطَّنَّا أَنْفُسَنَا عَلَى البَلَاءِ وَحَرَصْنَا عَلَيْهِ فَعَزَّيْنَا أَنْفُسَنَا(245)، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تُصِيبُكُمُ الآفَاتُ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا لَا نَتَوَكَّلُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(243) في بعض النُّسَخ: (فلم أرَ مثلكم).
(244) في بعض النُّسَخ: (ليس فينا لصٌّ ولا خائن).
(245) عزَّى تعزية - الرجل -: سلَّاه.

(١١٠)

عَلَى غَيْرِ اللهِ [(جلّ جلاله)]، وَلَا نَسْتَمْطِرُ بِالأَنْوَاءِ(246) وَالنُّجُومِ، قَالَ: فَحَدِّثُونِي أَيُّهَا القَوْمُ أَهَكَذَا وَجَدْتُمْ آبَاءَكُمْ يَفْعَلُونَ؟ قَالُوا: وَجَدْنَا آبَاءَنَا يَرْحَمُونَ مِسْكِينَهُمْ، وَيُوَاسُونَ فَقِيرَهُمْ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمُسِيئِهِمْ، وَيَصِلُونَ أَرْحَامَهُمْ، وَيُؤَدُّونَ أَمَانَاتِهِمْ، وَيَصْدُقُونَ وَلَا يَكْذِبُونَ، فَأَصْلَحَ اللهُ بِذَلِكَ أَمْرَهُمْ.
فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ ذُو القَرْنَيْنِ حَتَّى قُبِضَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِمْ عُمُرٌ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ السِّنُّ، وَأَدْرَكَهُ الكِبَرُ، وَكَانَ عِدَّةُ مَا سَارَ فِي البِلَادِ مِنْ يَوْمَ بَعَثَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَى يَوْمَ قَبَضَهُ اللهُ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ.

* * *

رجعنا إلى ذكر ما روي عن أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام) بالنصِّ على ابنه القائم صاحب الزمان (عليه السلام):
[336/2] حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ العَيَّاشِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ البَلْخِيُّ(247)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ(248) بْنِ هَارُونَ الدَّقَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَاسِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ الأَشْتَرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مَنْقُوشٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(246) النوء: النجم، جمعه أنواء. والأنواء ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كلَّ ليلة في منزلة منها...، ويسقط في الغرب كلَّ ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر وتطلع أُخرى مقابلها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة. وكانت العرب تزعم أنَّ مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إليها، فيقولون: مطرنا بنوء كذا. وإنَّما سُمّي نوءاً لأنَّه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق. [و]ينوء نوءاً أي نهض وطلع. (النهاية: ج 5/ ص 122).
(247) هو آدم بن محمّد القلانسي، من أهل بلخ، لم يرو عن الأئمَّة (عليهم السلام)، قيل: إنَّه كان يقول بالتفويض. (خلاصة الأقوال: ص 326/ الرقم 5).
(248) في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسن).

(١١١)

ابْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى دُكَّانٍ فِي الدَّارِ، وَعَنْ يَمِينِهِ بَيْتٌ عَلَيْهِ سِتْرٌ مُسَبَّلٌ، فَقُلْتُ لَهُ: [يَا] سَيِّدِي، مَنْ صَاحِبُ هَذَا الأَمْرِ؟ فَقَالَ: «ارْفَعِ السِّتْرَ»، فَرَفَعْتُهُ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا غُلَامٌ خُمَاسِيٌّ(249) لَهُ عَشْرٌ أَوْ ثَمَانٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَاضِحُ الجَبِينِ، أَبْيَضُ الوَجْهِ، دُرِّيُّ المُقْلَتَيْنِ، شَثْنُ الكَفَّيْنِ، مَعْطُوفُ الرُّكْبَتَيْنِ، فِي خَدِّهِ الأَيْمَنِ خَالٌ، وَفِي رَأْسِهِ ذُؤَابَةٌ، فَجَلَسَ عَلَى فَخِذِ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، ثُمَّ قَالَ لِي: «هَذَا صَاحِبُكُمْ»، ثُمَّ وَثَبَ فَقَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ ادْخُلْ إِلَى الوَقْتِ المَعْلُومِ»، فَدَخَلَ البَيْتَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا يَعْقُوبُ، انْظُرْ مَنْ فِي البَيْتِ»، فَدَخَلْتُ فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً(250)،(251).
[337/3] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ البَغْدَادِيُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) تَوْقِيعٌ: «زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلِي لِيَقْطَعُوا هَذَا النَّسْلَ، وَقَدْ كَذَّبَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) قَوْلَهُمْ، وَالحَمْدُ للهِ»(252).
[338/4] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الكُلَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلَّانٌ الرَّازِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَـمَّا حَمَلَتْ جَارِيَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) قَالَ: «سَتَحْمِلِينَ ذَكَراً، وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ القَائِمُ مِنْ بَعْدِي»(253).
[339/5] حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(249) في النهاية (ج 2/ ص 79): (الخماسيَّان: طول كلِّ واحد منهما خمسة أشبار، والأُنثى خماسيَّة، ولا يقال: سداسي ولا سباعي ولا غير الخمسة).
(250) سيأتي الحديث في باب من شاهد القائم (عليه السلام) تحت الرقم (391/5) بهذا السند أيضاً.
(251) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 250)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 958 و959).
(252) رواه الخزَّاز في كفاية الأثر (ص 293).
(253) رواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 293 و294).
(254) في بعض النُّسَخ: (ناتئة). ونتأ ينتؤ نتوءاً: خرج من موضعه. وتنفُّخ وبعضو ورم فهو ناتئ.

(١١٢)

حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ كُلْثُومٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الرَّازِيُّ، قَالَ: خَرَجَ بَعْضُ إِخْوَانِي مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ مُرْتَاداً بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي مَسْجِدِ الكُوفَةِ مَغْمُوماً مُتَفَكِّراً فِيمَا خَرَجَ لَهُ يَبْحَثُ حَصَى المَسْجِدِ بِيَدِهِ فَظَهَرَتْ لَهُ حَصَاةٌ فِيهَا مَكْتُوبٌ: مُحَمَّدٌ، قَالَ الرَّجُلُ: فَنَظَرْتُ إِلَى الحَصَاةِ فَإِذَا فِيهَا كِتَابَةٌ ثَابِتَةٌ(254) مَخْلُوقَةٌ غَيْرُ مَنْقُوشَةٍ.
[340/6] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الفَزَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ المَدَائِنِيُّ، عَنْ أَبِي غَانِمٍ(255)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) يَقُولُ: «فِي سَنَةِ مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ تَفْتَرِقُ شِيعَتِي».
فَفِيهَا قُبِضَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَتَفَرَّقَتِ الشِّيعَةُ وَأَنْصَارُهُ، فَمِنْهُمْ مَنِ انْتَمَى إِلَى جَعْفَرٍ(256)، وَمِنْهُمْ مَنْ تَاهَ، وَ[مِنْهُمْ مَنْ] شَكَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ عَلَى تَحَيُّرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَى دِينِهِ بِتَوْفِيقِ اللهِ (عزَّ وجلَّ).
[341/7] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ العَيَّاشِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ كُلْثُومٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الرَّازِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ العَسْكَرِيَّ (عليهما السلام) يَقُولُ: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يُخْرِجْنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى أَرَانِي الخَلَفَ مِنْ بَعْدِي، أَشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خَلْقاً وَخُلْقاً، يَحْفَظُهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي غَيْبَتِهِ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ فَيَمْلَأُ الأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(257).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(255) كذا، وفي بعض النُّسَخ: (أبي حاتم). وفي هامش بعض المخطوط عن حاشية رجال الميرزا: (أبو غانم لا أعرفه، روى خبراً عنه عيسى بن مهران في باب ضمان النفوس من كتاب قصاص التهذيب).
(256) انتمى: أي انتسب. وفي بعض النُّسخ: (آل). وتاه يتيه: إذا تحيَّر وضلَّ.
(257) رواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 294 و295).

(١١٣)

[342/8] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ البَغْدَادِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) يَقُولُ: «كَأَنِّي بِكُمْ وَقَدِ اخْتَلَفْتُمْ بَعْدِي فِي الخَلَفِ مِنِّي، أَمَا إِنَّ المُقِرَّ بِالأَئِمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المُنْكِرَ لِوَلَدِي كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ ثُمَّ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَالمُنْكِرُ لِرَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كَمَنْ أَنْكَرَ جَمِيعَ أَنْبِيَاءِ اللهِ، لِأَنَّ طَاعَةَ آخِرِنَا كَطَاعَةِ أَوَّلِنَا، وَالمُنْكِرَ لِآخِرِنَا كَالمُنْكِرِ لِأَوَّلِنَا، أَمَا إِنَّ لِوَلَدِي غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا النَّاسُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ)»(258).
[343/9] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيِّ ابْنِ هَمَّامٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سُئِلَ أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) وَأَنَا عِنْدَهُ عَنِ الخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) «أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ لِلهِ عَلَى خَلْقِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّ هَذَا حَقٌّ كَمَا أَنَّ النَّهَارَ حَقٌّ»، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ الحُجَّةُ وَالإِمَامُ بَعْدَكَ؟ فَقَالَ: «ابْنِي مُحَمَّدٌ، هُوَ الإِمَامُ وَالحُجَّةُ بَعْدِي، مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. أَمَا إِنَّ لَهُ غَيْبَةً يَحَارُ فِيهَا الجَاهِلُونَ، وَيَهْلِكُ فِيهَا المُبْطِلُونَ، وَيَكْذِبُ فِيهَا الوَقَّاتُونَ، ثُمَّ يَخْرُجُ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الأَعْلَامِ البِيضِ تَخْفِقُ فَوْقَ رَأْسِهِ بِنَجَفِ الكُوفَةِ»(259).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(258) رواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 295 و296)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 252 و253).
(259) رواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 296)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 253).

(١١٤)

[344/1] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «مَنْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنَ الأَحْيَاءِ فَقَدْ أَنْكَرَ الأَمْوَاتَ»(260).
[345/2] وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ وَالحَسَنُ بْنُ مَتِّيلٍ الدَّقَّاقُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ وَيَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ وَصَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى جَمِيعاً، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «مَنْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنَ الأَحْيَاءِ فَقَدْ أَنْكَرَ الأَمْوَاتَ».
[346/3] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): مَنْ عَرَفَ الأَئِمَّةَ وَلَمْ يَعْرِفِ الإِمَامَ الَّذِي فِي زَمَانِهِ أَمُؤْمِنٌ هُوَ؟ قَالَ: «لَا»، قُلْتُ: أَمُسْلِمٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»(261).
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): الإسلام هو إقرار بالشهادتين، وهو الذي به تُحقَن الدماء والأموال، والثواب على الإيمان، وَقَالَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ فَقَدْ حُقِنَ مَالُهُ وَدَمُهُ إِلَّا بِحَقِّهِمَا، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ)».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(260) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 90/ ح 79)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 373/ باب من ادَّعى الإمامة.../ ح 8)، وابن عقدة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) (ص 150/ ح 144)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 128/ باب 7/ ح 4 و5) بسندين.
(261) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 90/ ح 78).

(١١٧)

[347/4] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ الآدَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ(262)، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ العَبْدِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ(263)، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنْ أَقَرَّ بِالأَئِمَّةِ مِنْ آبَائِي وَوُلْدِي، وَجَحَدَ المَهْدِيَّ مِنْ وُلْدِي كَانَ كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَجَحَدَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، وَمَنِ المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِكَ؟ قَالَ: «الخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ، يَغِيبُ عَنْهُمْ شَخْصُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ تَسْمِيَتُهُ»(264).
[348/5] حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ صَفْوَانَ [بْنِ مِهْرَانَ]، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الأَئِمَّةِ، وَجَحَدَ المَهْدِيَّ كَانَ كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَجَحَدَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نُبُوَّتَهُ»، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِكَ؟ قَالَ: «الخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ، يَغِيبُ عَنْكُمْ شَخْصُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ تَسْمِيَتُهُ»(265).
[349/6] حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ النَّيْسَابُورِيُّ العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ حَمْدَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمْدَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الفَضْلِ الهَاشِمِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(262) في أكثر النُّسَخ: (عن محمّد بن الحسن بن محبوب)، وهو تصحيف. ورواية سهل عن السرَّاد كثير، راجع: التهذيب (ج 1/ ص 80 و293 و298 و300) وغيرها، والكافي (ج 1/ ص 65 و92 و117 و132) وغيرها، وهكذا رواية السرَّاد عن العبدي، راجع: تهذيب الأحكام (ج 1/ ص 314، وج 4/ ص 216) وغير ذلك.
(263) في بعض النُّسَخ: (عن أبي يعقوب).
(264) قد مرَّ تحت الرقم (253/12)، فراجع.
(265) قد مرَّ تحت الرقم (242/1)، فراجع.

(١١٨)

رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «القَائِمُ مِنْ وُلْدِي اسْمُهُ اسْمِي، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، وَشَمَائِلُهُ شَمَائِلِي، وَسُنَّتُهُ سُنَّتِي، يُقِيمُ النَّاسَ عَلَى مِلَّتِي وَشَرِيعَتِي، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى كِتَابِ رَبِّي (عزَّ وجلَّ)، مَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَانِي، وَمَنْ أَنْكَرَهُ فِي غَيْبَتِهِ فَقَدْ أَنْكَرَنِي، وَمَنْ كَذَّبَهُ فَقَدْ كَذَّبَنِي، وَمَنْ صَدَّقَهُ فَقَدْ صَدَّقَنِي، إِلَى اللهِ أَشْكُو المُكَذِّبِينَ لِي فِي أَمْرِهِ، وَالجَاحِدِينَ لِقَوْلِي فِي شَأْنِهِ، وَالمُضِلِّينَ لِأُمَّتِي عَنْ طَرِيقَتِهِ، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227]»(266).
[350/7] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَقُولُ فِي آخِرِهِ: «كَيْفَ يَهْتَدِي مَنْ لَمْ يُبْصِرْ؟ وكَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ لَمْ يُنْذَرْ؟ اتَّبِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَأَقِرُّوا بِمَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَاتَّبِعُوا آثَارَ الهُدَى فَإِنَّهَا عَلَامَاتُ الأَمَانَةِ وَالتُّقَى، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ رَجُلٌ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ (عليه السلام) وَأَقَرَّ بِمَنْ سِوَاهُ مِنَ الرُّسُلِ (عليهم السلام) لَمْ يُؤْمِنْ، اقْصِدُوا الطَّرِيقَ بِالتِمَاسِ المَنَارِ، وَالتَمِسُوا مِنْ وَرَاءِ الحُجُبِ الآثَارَ، تَسْتَكْمِلُوا أَمْرَ دِينِكُمْ، وَتُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ»(267)،(268).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(266) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 227).
(267) رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 181 - 183/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح 6).
(268) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 2/ ص 311 و312): (بيَّن (عليه السلام) أنَّ الاهتداء لا يكون إلَّا بإبصار القلب والتميُّز بين الحقِّ والباطل، ولا يكون ذلك الإبصار إلَّا بالتدبُّر والتفكُّر في الآيات والأخبار. «اتَّبعوا رسول الله» فذلكة للبحث ونتيجة لما سبق، و«آثار الهدى» الأئمَّة (عليهم السلام)، فإنَّهم علامة الهداية أو الدلائل الدالَّة على إمامتهم ووجوب متابعتهم. «فإنَّهم علامات الأمانة» أي المتَّصفون بها، أو بأقوالهم وأفعالهم تُعلَم أحكام الأمانة والتقوى. ثمّ بيَّن(عليه السلام) وجوب الإقرار بجميع الأئمَّة (عليهم السلام)، واشتراط الإيمان به بأنَّه لو أقرَّ رجل بجميع الأنبياء وأنكر واحداً منهم لم ينفعه إيمانه، كما قال تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]، فكذلك من أنكر واحداً من الأئمَّة (عليهم السلام) لم ينفعه إقراره بسائر الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، لأنَّ كلمة الأنبياء والأوصياء متَّفقة، وكلٌّ منهم مصدِّق بمن سواهم، فإنكار واحد منهم إنكار للجميع. «اقتصُّوا الطريق» يقال: قصَّ أثره واقتصَّه إلى اتَّبعه، أي اتَّبعوا طريق الشيعة والدِّين، أو اتَّبعوا أثر من تجب متابعته في طريق الدِّين بطلب المنار الذي به يُعلَم الطريق وهو الإمام، والمنار - بفتح الميم -: محلُّ النور الذي يُنصَب على الطريق ليهتدي به الضالُّون في الظلمات. «والتمسوا» أي اطلبوا. «من وراء الحُجُب» أي حُجُب الشكوك والشُّبُهات والفتن التي صارت حجاباً بين الناس وفهم الحقِّ. «الآثار» أي آثار الهداية ودلائلها، وهم الأئمَّة (عليهم السلام)، أو دلائل إمامتهم، أو المعنى إنْ لم يتيسَّر لكم الوصول إلى الإمام فاطلبوا آثاره وأخباره من رواتها وحملتها، أو اطلبوا الإمام المحجوب بحجاب التقيَّة والخوف حتَّى تصلوا إليه، فإذا فعلتم ما ذُكِرَ فقد أكملتم أمر دينكم بمعرفة الأئمَّة (عليهم السلام) ومتابعتهم، وآمنتم بالله حقَّ الإيمان وإلَّا فلستم بمؤمنين).

(١١٩)

[351/8] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمَدَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ أَنْكَرَ القَائِمَ مِنْ وُلْدِي فَقَدْ أَنْكَرَنِي».
[352/9] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مُوسَى الخَشَّابِ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام): «الإِمَامُ عَلَمٌ فِيمَا بَيْنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَمَنْ عَرَفَهُ كَانَ مُؤْمِناً، وَمَنْ أَنْكَرَهُ كَانَ كَافِراً».
[353/10] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنِ الفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَلَا يُعْذَرُ النَّاسُ حَتَّى يَعْرِفُوا إِمَامَهُمْ»(269).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(269) روى قريباً منه البرقي (رحمه الله) في المحاسن (ج 1/ ص 155 و156/ ح 85).

(١٢٠)

[354/11] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ المُكَارِي، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ ولَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةَ كُفْرٍ وَشِرْكٍ وَضَلَالَةٍ»(270).
[355/12] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحُسَيْنِ مُحَمَّدُ ابْنُ جَعْفَرٍ الأَسَدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ الحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ أَنْكَرَ القَائِمَ مِنْ وُلْدِي فِي زَمَانِ غَيْبَتِهِ [فَ]مَاتَ [فَقَدْ مَاتَ] مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
[356/13] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ مُحَمَّدِ(271) بْنِ عَبْدِ الحَمِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الفُضَيْلِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَا عَلِيُّ، أَنْتَ وَالأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِكَ بَعْدِي حُجَجُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) عَلَى خَلْقِهِ، وَأَعْلَامُهُ فِي بَرِيَّتِهِ، مَنْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنْكُمْ فَقَدْ أَنْكَرَنِي، وَمَنْ عَصَى وَاحِداً مِنْكُمْ فَقَدْ عَصَانِي، وَمَنْ جَفَا وَاحِداً مِنْكُمْ فَقَدْ جَفَانِي، وَمَنْ وَصَلَكُمْ فَقَدْ وَصَلَنِي، وَمَنْ أَطَاعَكُمْ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ وَالَاكُمْ فَقَدْ وَالَانِي، وَمَنْ عَادَاكُمْ فَقَدْ عَادَانِي، لِأَنَّكُمْ مِنِّي، خُلِقْتُمْ مِنْ طِينَتِي وَأَنَا مِنْكُمْ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(270) رواه ابن بوبيه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 83/ ح 71).
(271) في بعض النُّسَخ: (عن محمّد بن عليٍّ، قال: حدَّثني عمران بن محمّد). وهو عمران بن موسى الزيتوني الأشعري. وأمَّا راويه عليُّ بن محمّد فلعلَّه عليُّ بن محمّد بن مروان، وهو مهمل.

(١٢١)

[357/14] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ القَاسِمِ العَلَوِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفَارِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ قُدَامَةَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام)، قَالَ: «مَنْ شَكَّ فِي أَرْبَعَةٍ فَقَدْ كَفَرَ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَحَدُهَا مَعْرِفَةُ الإِمَامِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ بِشَخْصِهِ وَنَعْتِهِ».
[358/15] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَيَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ جَمِيعاً، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الهِلَالِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ سَلْمَانَ وَمِنْ أَبِي ذَرٍّ وَمِنَ المِقْدَادِ حَدِيثاً عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ ولَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، ثُمَّ عَرَضَهُ عَلَى جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَا: صَدَقُوا وَبَرُّوا، وَقَدْ شَهِدْنَا ذَلِكَ وَسَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَإِنَّ سَلْمَانَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ قُلْتَ: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» مَنْ هَذَا الإِمَامُ؟ قَالَ: «مِنْ أَوْصِيَائِي يَا سَلْمَانُ، فَمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مِنْهُمْ يَعْرِفُهُ فَهِيَ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، فَإِنْ جَهِلَهُ وَعَادَاهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَإِنْ جَهِلَهُ وَلَمْ يُعَادِهِ وَلَمْ يُوَالِ لَهُ عَدُوًّا فَهُوَ جَاهِلٌ وَلَيْسَ بِمُشْرِكٍ».

* * *

(١٢٢)

[359/1] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «لَا تَكُونُ الإِمَامَةُ(272) فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عليهما السلام) أَبَداً، إِنَّهَا جَرَتْ(273) مِنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليهما السلام) كَمَا قَالَ اللهُ (جلّ جلاله): ﴿وَأُولُوا الأَرحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾ [الأنفال: 75]، وَلَا تَكُونُ بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ إِلَّا فِي الأَعْقَابِ وَأَعْقَابِ الأَعْقَابِ»(274).
[360/2] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ الحَسَنِ الفَارِسِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَعْفَرٍ الجَعْفَرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «لَا تَجْتَمِعُ الإِمَامَةُ فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عليهما السلام)، إِنَّمَا تَجْرِي فِي الأَعْقَابِ وَأَعْقَابِ الأَعْقَابِ»(275)،(276).
[361/3] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(272) في الكافي بهذا الإسناد: (لا تعود الإمامة).
(273) في الكافي: (إنَّما جرت).
(274) رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 285 و286/ باب ثبات الإمامة في الأعقاب.../ ح 1)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 226/ ح 192).
(275) في الكافي بإسناده، عن سليمان، عن حمَّاد، عنه (عليه السلام).
(276) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 57/ ح 42)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 286/ باب ثبات الإمامة في الأعقاب.../ ح 4)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 226/ ح 191).

(١٢٥)

الحُسَيْنِ السَّعْدَآبَادِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «أَبَى اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يَجْعَلَهَا (يَعْنِي الإِمَامَةَ)(277) فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عليهما السلام)»(278).
[362/4] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ سَوْرَةَ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ [الزخرف: 28]، إِنَّهَا فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) تَنْتَقِلُ مِنْ وَلَدٍ إِلَى وَلَدٍ، لَا تَرْجِعُ إِلَى أَخٍ وَلَا عَمٍّ».
[363/5] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، [عَنْ أَبِيهِ - خ]، عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «لَا تَكُونُ الإِمَامَةُ فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عليهما السلام) أَبَداً، إِنَّمَا هِيَ فِي الأَعْقَابِ وَأَعْقَابِ الأَعْقَابِ».
[364/6] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ السَّعْدَآبَادِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ البَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «لَـمَّا وَلَدَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) الحُسَيْنَ (عليه السلام) أَخْبَرَهَا أَبُوهَا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَقْتُلُهُ مِنْ بَعْدِهِ، قَالَتْ: وَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) قَدْ أَخْبَرَنِي أَنْ يَجْعَلُ الأَئِمَّةَ مِنْ وُلْدِهِ، قَالَتْ: قَدْ رَضِيتُ يَا رَسُولَ اللهِ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(277) من زيادات النُّسَّاخ أو المصنِّف (رحمه الله)، لعدم وجودها في الكافي والراوي واحد.
(278) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 57 و58/ ح 41 و43)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 286/ باب ثبات الإمامة في الأعقاب.../ ح 2).

(١٢٦)

[365/7] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدِ جَمِيعاً، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ العَلَوِيِّ العُمَرِيِّ(279)، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ (عليهما السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنْ كَانَ كَوْنٌ - وَلَا أَرَانِي اللهُ يَوْمَكَ - فَبِمَنْ أَئْتَمُّ؟ قَالَ: فَأَوْمَأَ إِلَى مُوسَى (عليه السلام)، قُلْتُ: فَإِنْ مَضَى مُوسَى (عليه السلام) فَبِمَنْ أَئْتَمُّ؟ قَالَ: «بِوَلَدِهِ»، قُلْتُ: فَإِنْ مَضَى وَلَدُهُ وَتَرَكَ أَخاً كَبِيراً وَابْناً صَغِيراً فَبِمَنْ أَئْتَمُّ؟ قَالَ: «بِوَلَدِهِ، ثُمَّ هَكَذَا أَبَداً»، قُلْتُ: فَإِنْ أَنَا لَمْ أَعْرِفْهُ وَلَمْ أَعْرِفْ مَوْضِعَهُ فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَ: «تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَوَلَّى مَنْ بَقِيَ مِنْ حُجَجِكَ مِنْ وُلْدِ الإِمَامِ المَاضِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُكَ»(280).
[366/8] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لَـمَّا أَنْ حَمَلَتْ(281) فَاطِمَةُ (عليها السلام) بِالحُسَيْنِ (عليه السلام) قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) قَدْ وَهَبَ لَكِ غُلَاماً اسْمُهُ الحُسَيْنُ، تَقْتُلُهُ أُمَّتِي، قَالَتْ: فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) قَدْ وَعَدَنِي فِيهِ عِدَةً، قَالَتْ: وَمَا وَعَدَكَ؟ قَالَ: وَعَدَنِي أَنْ يَجْعَلَ الإِمَامَةَ مِنْ بَعْدِهِ فِي وُلْدِهِ، فَقَالَتْ: رَضِيتُ».
[367/9] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ ابْنِ سَالِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام): الحَسَنُ أَفْضَلُ أَمِ الحُسَيْنُ؟ فَقَالَ: «الحَسَنُ أَفْضَلُ مِنَ الحُسَيْنِ»، [قَالَ]: قُلْتُ: فَكَيْفَ صَارَتِ الإِمَامَةُ مِنْ بَعْدِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(279) هو عيسى بن عبد الله بن عمر بن عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام).
(280) قد مرَّ تحت الرقم (284/43)، فراجع.
(281) في بعض النُّسَخ: (علقت).

(١٢٧)

الحُسَيْنِ فِي عَقِبِهِ دُونَ وُلْدِ الحَسَنِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَ(282) سُنَّةَ مُوسَى وَهَارُونَ جَارِيَةً فِي الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عليهما السلام)، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي النُّبُوَّةِ كَمَا كَانَ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ شَرِيكَيْنِ فِي الإِمَامَةِ، وَإِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) جَعَلَ النُّبُوَّةَ فِي وُلْدِ هَارُونَ وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي وُلْدِ مُوسَى وَإِنْ كَانَ مُوسَى أَفْضَلَ مِنْ هَارُونَ (عليهما السلام)»، قُلْتُ: فَهَلْ يَكُونُ إِمَامَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: «لَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَامِتاً مَأْمُوماً لِصَاحِبِهِ، وَالآخَرُ نَاطِقاً إِمَاماً لِصَاحِبِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَا إِمَامَيْنِ نَاطِقَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَا»، قُلْتُ: فَهَلْ تَكُونُ الإِمَامَةُ فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عليهما السلام)؟ قَالَ: «لَا، إِنَّمَا هِيَ جَارِيَةٌ فِي عَقِبِ الحُسَيْنِ (عليه السلام)، كَمَا قَالَ اللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ [الزخرف: 28]، ثُمَّ هِيَ جَارِيَةٌ فِي الأَعْقَابِ وَأَعْقَابِ الأَعْقَابِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ».
[368/10] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ(283)، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ [الحجّ: 45]، فَقَالَ: «البِئْرُ المُعَطَّلَةُ الإِمَامُ الصَّامِتُ، وَالقَصْرُ المَشِيدُ الإِمَامُ النَّاطِقُ»(284)،(285).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(282) في بعض النُّسَخ: (إنَّ الله تبارك وتعالى لم يرد بذلك إلَّا أنْ يجعل...) إلخ، وفي بعضها: (إنَّ الله تبارك وتعالى أبى إلَّا أنْ يجعل...) إلخ.
(283) عليُّ بن أبي حمزة البطائني أحد عُمَد الواقفة، كذَّاب متَّهم ملعون، قال العلَّامة (رحمه الله): (قال أبو الحسن عليُّ بن الحسن بن فضَّال: عليُّ بن أبي حمزة كذَّاب واقفي، متَّهم ملعون، وقد رويت عنه أحاديث كثيرة، وكتبت عنه تفسير القرآن كلَّه من أوَّله إلى آخره إلَّا أنِّي لا أستحلُّ أنْ أروي عنه حديثاً واحداً) (خلاصة الأقوال: ص 362 و363/ الرقم 1).
(284) قال القمِّي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 85): (قوله: ﴿بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ﴾ هي التي لا يُستسقى منها، وهو الإمام الذي قد غاب فلا يُقتَبس منه العلم. والقصر المشيد هو المرتفع، وهو مثل لأمير المؤمنين (عليه السلام)).
(285) رواه المصنِّف (رحمه الله) بسندين آخرين في معاني الأخبار (ص 111/ باب معنى البئر المعطَّلة والقصر المشيد/ ح 1 و2)، ورواه بسند آخر الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص 525/ ج 10/ باب 18/ ح 4)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 427/ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية/ ح 75).

(١٢٨)

الباب الحادي والأربعون: ما روي في نرجس أُمِّ القائم (عليه السلام) واسمها مليكة بنت يشوعا(286) بن قيصر المَلِك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(286) في بعض النُّسَخ: (يوشعا)، وفي بعضها: (يستوعا).

(١٢٩)

[369/1] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَاتِمٍ النَّوْفَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الوَشَّاءِ البَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ القُمِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: وَرَدْتُ كَرْبَلَاءَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: وَزُرْتُ قَبْرَ غَرِيبِ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثُمَّ انْكَفَأْتُ إِلَى مَدِينَةِ السَّلَامِ مُتَوَجِّهاً إِلَى مَقَابِرِ قُرَيْشٍ فِي وَقْتٍ قَدْ تَضَرَّمَتِ الهَوَاجِرُ وَتَوَقَّدَتِ السَّمَائِمُ، فَلَمَّا وَصَلْتُ مِنْهَا إِلَى مَشْهَدِ الكَاظِمِ (عليه السلام) وَاسْتَنْشَقْتُ نَسِيمَ تُرْبَتِهِ المَغْمُورَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ، المَحْفُوفَةِ بِحَدَائِقِ الغُفْرَانِ أَكْبَبْتُ عَلَيْهَا بِعَبَرَاتٍ مُتَقَاطِرَةٍ، وَزَفَرَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَقَدْ حَجَبَ الدَّمْعُ طَرْفِي عَنِ النَّظَرِ، فَلَمَّا رَقَأَتِ العَبْرَةُ وَانْقَطَعَ النَّحِيبُ فَتَحْتُ بَصَرِي فَإِذَا أَنَا بِشَيْخٍ قَدِ انْحَنَى صُلْبُهُ، وَتَقَوَّسَ مَنْكِبَاهُ، وَثَفِنَتْ جَبْهَتُهُ وَرَاحَتَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ لِآخَرَ مَعَهُ عِنْدَ القَبْرِ: يَا ابْنَ أَخِي، لَقَدْ نَالَ عَمُّكَ شَرَفاً بِمَا حَمَّلَهُ السَّيِّدَانِ مِنْ غَوَامِضِ الغُيُوبِ وَشَرَائِفِ العُلُومِ الَّتِي لَمْ يَحْمِلْ مِثْلَهَا إِلَّا سَلْمَانُ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَمُّكَ عَلَى اسْتِكْمَالِ المُدَّةِ وَانْقِضَاءِ العُمُرِ، وَلَيْسَ يَجِدُ فِي أَهْلِ الوَلَايَةِ رَجُلاً يُفْضِي إِلَيْهِ بِسِرِّهِ، قُلْتُ: يَا نَفْسُ لَا يَزَالُ العَنَاءُ وَالمَشَقَّةُ يَنَالانِ مِنْكِ بِإِتْعَابِيَ الخُفَّ وَالحَافِرَ(287) فِي طَلَبِ العِلْمِ، وَقَدْ قَرَعَ سَمْعِي مِنْ هَذَا الشَّيْخِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى عِلْمٍ جَسِيمٍ وَأَثَرٍ عَظِيمٍ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، وَمَنِ السَّيِّدَانِ؟ قَالَ: النَّجْمَانِ المُغَيَّبَانِ فِي الثَّرَى بِسُرَّ مَنْ رَأَى، فَقُلْتُ: إِنِّي أُقْسِمُ بِالمُوَالَاةِ وَشَرَفِ مَحَلِّ هَذَيْنِ السَّيِّدَيْنِ مِنَ الإِمَامَةِ وَالوِرَاثَةِ، أَنِّي خَاطِبٌ عِلْمَهُمَا، وَطَالِبٌ آثَارَهُمَا، وَبَاذِلٌ مِنْ نَفْسِيَ الأَيمَانَ المُؤَكَّدَةَ عَلَى حِفْظِ أَسْرَارِهِمَا، قَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأَحْضِرْ مَا صَحِبَكَ مِنَ الآثَارِ عَنْ نَقَلَةِ أَخْبَارِهِمْ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(287) كناية عن البعير والفرس.

(١٣١)

فَلَمَّا فَتَّشَ الكُتُبَ وَتَصَفَّحَ الرِّوَايَاتِ مِنْهَا قَالَ: صَدَقْتَ، أَنَا بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّخَّاسُ(288) مِنْ وُلْدِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، أَحَدُ مَوَالِي أَبِي الحَسَنِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ (عليهما السلام)، وَجَارُهُمَا بِسُرَّ مَنْ رَأَى، قُلْتُ: فَأَكْرِمْ أَخَاكَ بِبَعْضِ مَا شَاهَدْتَ مِنْ آثَارِهِمَا، قَالَ: كَانَ مَوْلَانَا أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ العَسْكَرِيُّ (عليهما السلام) فَقَّهَنِي فِي أَمْرِ الرَّقِيقِ، فَكُنْتُ لَا أَبْتَاعُ وَلَا أَبِيعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَاجْتَنَبْتُ بِذَلِكَ مَوَارِدَ الشُّبُهَاتِ حَتَّى كَمَلَتْ مَعْرِفَتِي فِيهِ، فَأَحْسَنْتُ الفَرْقَ [فِيمَا] بَيْنَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ.
فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَنْزِلِي بِسُرَّ مَنْ رَأَى وَقَدْ مَضَى هَوَيٌّ(289) مِنَ اللَّيْلِ إِذْ قَرَعَ البَابَ قَارِعٌ، فَعَدَوْتُ مُسْرِعاً، فَإِذَا أَنَا بِكَافُورٍ الخَادِمِ رَسُولِ مَوْلَانَا أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ ابْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) يَدْعُونِي إِلَيْهِ، فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ يُحَدِّثُ ابْنَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ وَأُخْتَهُ حَكِيمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ، فَلَمَّا جَلَسْتُ قَالَ: «يَا بِشْرُ، إِنَّكَ مِنْ وُلْدِ الأَنْصَارِ، وَهَذِهِ الوَلَايَةُ لَمْ تَزَلْ فِيكُمْ يَرِثُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، فَأَنْتُمْ ثِقَاتُنَا أَهْلَ البَيْتِ، وَإِنِّي مُزَكِّيكَ وَمُشَرِّفُكَ بِفَضِيلَةٍ تَسْبِقُ بِهَا شَأْوُ الشِّيعَةِ(290) فِي المُوَالاةِ بِهَا، بِسِرٍّ أَطَّلِعُكَ عَلَيْهِ وَأُنْفِذُكَ فِي ابْتِيَاعِ أَمَةٍ(291)»، فَكَتَبَ كِتَاباً مُلْصَقاً(292) بِخَطٍّ رُومِيٍّ وَلُغَةٍ رُومِيَّةٍ، وَطَبَعَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِهِ، وَأَخْرَجَ شَسْتَقَةً(293) صَفْرَاءَ فِيهَا مِائَتَانِ وَعِشْرُونَ دِينَاراً، فَقَالَ: «خُذْهَا وَتَوَجَّهْ بِهَا إِلَى بَغْدَادَ، وَاحْضُرْ مَعْبَرَ الفُرَاتِ ضَحْوَةَ كَذَا، فَإِذَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(288) مهمل.
(289) يعني زماناً غير قليل.
(290) في بعض النُّسَخ: (سائر الشيعة). والشأو مصدر الأمد والغاية، يقال: فلان بعيد الشأو أي عالي الهمَّة.
(291) في بعض النُّسَخ: (في تتبُّع أمره) مكان (في ابتياع أَمَة).
(292) في بعض النُّسَخ: (مطلقاً)، وفي بعضها: (ملفَّقاً).
(293) كذا في أكثر النُّسَخ، وفي بعض النُّسَخ: (الشنسقة)، والظاهر الصواب (الشنتقة)، معرب (چنته)، وفي بحار الأنوار: (شقة)، وهي بالكسر والضمِّ - السبيبة المقطوعة من الثياب المستطيلة. وعلى أيٍّ المراد الصُّرَّة التي يجعل فيه الدنانير.

(١٣٢)

وَصَلَتْ إِلَى جَانِبِكَ زَوَارِقُ السَّبَايَا وَبَرْزَنُ الجَوَارِي مِنْهَا فَسَتَحْدِقُ بِهِمْ طَوَائِفُ المُبْتَاعِينَ مِنْ وُكَلَاءِ قُوَّادِ بَنِي العَبَّاسِ وَشَرَاذِمُ مِنْ فِتْيَانِ العِرَاقِ، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَأَشْرِفْ مِنَ البُعْدِ عَلَى المُسَمَّى عُمَرَ بْنَ يَزِيدَ النَّخَّاسَ عَامَّةَ نَهَارِكَ إِلَى أَنْ يُبْرِزَ لِلْمُبْتَاعِينَ جَارِيَةً صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا، لَابِسَةً حَرِيرَتَيْنِ صَفِيقَتَيْنِ، تَمْتَنِعُ مِنَ السُّفُورِ وَلَمسِ المُعْتَرِضِ، وَالاِنْقِيَادِ لِمَنْ يُحَاوِلُ لَمسَهَا، وَيَشْغَلُ نَظَرَهُ بِتَأَمُّلِ مَكَاشِفِهَا مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ الرَّقِيقِ، فَيَضْرِبُهَا النَّخَّاسُ فَتَصْرَخُ صَرْخَةً رُومِيَّةً، فَاعْلَمْ أَنَّهَا تَقُولُ: وَا هَتْكَ سِتْرَاهْ، فَيَقُولُ بَعْضُ المُبْتَاعِينَ: عَلَيَّ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْ زَادَنِي العَفَافُ فِيهَا رَغْبَةً، فَتَقُولُ بِالعَرَبِيَّةِ: لَوْ بَرَزْتَ فِي زِيِّ سُلَيْمَانَ وَعَلَى مِثْلِ سَرِيرِ مُلْكِهِ مَا بَدَتْ لِي فِيكَ رَغْبَةٌ، فَاشْفَقْ عَلَى مَالِكَ، فَيَقُولُ النَّخَّاسُ: فَمَا الحِيلَةُ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيْعِكِ، فَتَقُولُ الجَارِيَةُ: وَمَا العَجَلَةُ وَلَا بُدَّ مِنِ اخْتِيَارِ مُبْتَاعٍ يَسْكُنُ قَلْبِي [إِلَيْهِ وَ]إِلَى أَمَانَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قُمْ إِلَى عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَّاسِ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ مَعِي كِتَاباً مُلْصَقاً لِبَعْضِ الأَشْرَافِ كَتَبَهُ بِلُغَةٍ رُومِيَّةٍ وَخَطٍّ رُومِيٍّ، وَوَصَفَ فِيهِ كَرَمَهُ وَوَفَاءَهُ وَنُبْلَهُ وَسَخَاءَهُ، فَنَاوِلْهَا لِتَتَأَمَّلَ مِنْهُ أَخْلَاقَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَضِيَتْهُ، فَأَنَا وَكِيلُهُ فِي ابْتِيَاعِهَا مِنْكَ».
قَالَ بِشْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّخَّاسُ: فَامْتَثَلْتُ جَمِيعَ مَا حَدَّهُ لِي مَوْلَايَ أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام) فِي أَمْرِ الجَارِيَةِ، فَلَمَّا نَظَرَتْ فِي الكِتَابِ بَكَتْ بُكَاءً شَدِيداً، وَقَالَتْ لِعُمَرَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَّاسِ: بِعْنِي مِنْ صَاحِبِ هَذَا الكِتَابِ، وَحَلَفَتْ بِالمُحَرِّجَةِ المُغَلَّظَةِ(294) إِنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا مِنْهُ قَتَلَتْ نَفْسَهَا، فَمَا زِلْتُ أُشَاحُّهُ فِي ثَمَنِهَا حَتَّى اسْتَقَرَّ الأَمْرُ فِيهِ عَلَى مِقْدَارِ مَا كَانَ أَصْحَبَنِيهِ مَوْلَايَ (عليه السلام) مِنَ الدَّنَانِيرِ فِي الشَّسْتَقَةِ الصَّفْرَاءِ، فَاسْتَوْفَاهُ مِنِّي وَتَسَلَّمْتُ مِنْهُ الجَارِيَةَ ضَاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً، وَانْصَرَفْتُ بِهَا إِلَى حُجْرَتِيَ الَّتِي كُنْتُ آوِي إِلَيْهَا بِبَغْدَادَ، فَمَا أَخَذَهَا القَرَارُ حَتَّى أَخْرَجَتْ كِتَابَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(294) المحرِّجة: اليمين الذي يُضيِّق المجال على الحالف ولا يبقى له مندوحة عن برِّ قسمه. والمغلَّظة: المؤكَّدة.

(١٣٣)

مَوْلَاهَا (عليه السلام) مِنْ جَيْبِهَا وَهِيَ تَلْثِمُهُ(295) وَتَضَعُهُ عَلَى خَدِّهَا وَتُطْبِقُهُ عَلَى جَفْنِهَا وَتَمْسَحُهُ عَلَى بَدَنِهَا، فَقُلْتُ تَعَجُّباً مِنْهَا: أَتَلْثِمِينَ كِتَاباً وَلَا تَعْرِفِينَ صَاحِبَهُ؟
قَالَتْ: أَيُّهَا العَاجِزُ الضَّعِيفُ المَعْرِفَةِ بِمَحَلِّ أَوْلَادِ الأَنْبِيَاءِ، أَعِرْنِي سَمْعَكَ وَفَرِّغْ لِي قَلْبَكَ، أَنَا مَلِيكَةُ بِنْتُ يَشُوعَا(296) بْنِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، وَأُمِّي مِنْ وُلْدِ الحَوَارِيِّينَ تُنْسَبُ إِلَى وَصِيِّ المَسِيحِ شَمْعُونَ، أُنَبِّئُكَ العَجَبَ العَجِيبَ، إِنَّ جَدِّي قَيْصَرَ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَنِي مِنِ ابْنِ أَخِيهِ وَأَنَا مِنْ بَنَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَجَمَعَ فِي قَصْرِهِ مِنْ نَسْلِ الحَوَارِيِّينَ وَمِنَ القِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ وَمِنْ ذَوِي الأَخْطَارِ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، وَجَمَعَ مِنْ أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ وَقُوَّادِ العَسَاكِرِ وَنُقَبَاءِ الجُيُوشِ وَمُلُوكِ العَشَائِرِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأَبْرَزَ مِنْ بَهْوِ مُلْكِهِ عَرْشاً مَسُوغاً(297) مِنْ أَصْنَافِ الجَوَاهِرِ إِلَى صَحْنِ القَصْرِ، فَرَفَعَهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ مِرْقَاةً، فَلَمَّا صَعِدَ ابْنُ أَخِيهِ وَأَحْدَقَتْ بِهِ الصُّلْبَانُ وَقَامَتِ الأَسَاقِفَةُ عُكَّفاً وَنُشِرَتْ أَسْفَارُ الإِنْجِيلِ تَسَافَلَتِ الصُّلْبَانُ(298) مِنَ الأَعَالِي فَلَصِقَتْ بِالأَرْضِ، وَتَقَوَّضَتِ الأَعْمِدَةُ(299) فَانْهَارَتْ إِلَى القَرَارِ، وَخَرَّ الصَّاعِدُ مِنَ العَرْشِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَتَغَيَّرَتْ الوَانُ الأَسَاقِفَةِ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ، فَقَالَ كَبِيرُهُمْ لِجَدِّي: أَيُّهَا المَلِكُ، أَعْفِنَا مِنْ مُلَاقَاةِ هَذِهِ النُّحُوسِ الدَّالَّةِ عَلَى زَوَالِ هَذَا الدِّينِ المَسِيحِيِّ وَالمَذْهَبِ المَلِكَانِيِّ(300)، فَتَطَيَّرَ جَدِّي مِنْ ذَلِكَ تَطَيُّراً شَدِيداً، وَقَالَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(295) أي تُقبِّله.
(296) في بعض النُّسَخ: (يوشعا).
(297) في بعض النُّسَخ: (وأبرز هو من ملكه عرشاً مصنوعاً). والبهو: البيت المقدَّم أمام البيوت. وفي بعض النُّسَخ: (مصنوعاً) مكان (مسوغاً).
(298) في بعض النُّسَخ: (تساقطت الصلبان).
(299) في بعض النُّسَخ: (تفرَّقت الأعمدة)، وفي بعضها: (تقرَّضت).
(300) الملكانيَّة أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها. ومعظم الروم ملكانيَّة، قالوا: إنَّ الكلمة اتَّحدت بجسد المسيح. (الملل والنحل للشهرستاني: ج 1/ ص 222).

(١٣٤)

لِلْأَسَاقِفَةِ: أَقِيمُوا هَذِهِ الأَعْمِدَةَ، وَارْفَعُوا الصُّلْبَانَ، وَأَحْضِرُوا أَخَا هَذَا المُدْبَرِ العَاثِرِ(301) المَنْكُوسِ جَدُّهُ لِأُزَوِّجَ مِنْهُ هَذِهِ الصَّبِيَّةَ فَيُدْفَعَ نُحُوسُهُ عَنْكُمْ بِسُعُودِهِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ حَدَثَ عَلَى الثَّانِي مَا حَدَثَ عَلَى الأَوَّلِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَقَامَ جَدِّي قَيْصَرُ مُغْتَمًّا وَدَخَلَ قَصْرَهُ وَأُرْخِيَتِ السُّتُورُ.
فَأُرِيتُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَأَنَّ المَسِيحَ وَالشَّمْعُونَ وَعِدَّةً مِنَ الحَوَارِيِّينَ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي قَصْرِ جَدِّي، وَنَصَبُوا فِيهِ مِنْبَراً يُبَارِي السَّمَاءَ عُلُوًّا(302) وَارْتِفَاعاً فِي المَوْضِعِ الَّذِي كَانَ جَدِّي نَصَبَ فِيهِ عَرْشَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَعَ فِتْيَةٍ وَعِدَّةٍ مِنْ بَنِيهِ، فَيَقُومُ إِلَيْهِ المَسِيحُ فَيَعْتَنِقُهُ فَيَقُولُ: يَا رُوحَ اللهِ، إِنِّي جِئْتُكَ خَاطِباً مِنْ وَصِيِّكَ شَمْعُونَ فَتَاتَهُ مَلِيكَةَ لِابْنِي هَذَا - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ صَاحِبِ هَذَا الكِتَابِ -، فَنَظَرَ المَسِيحُ إِلَى شَمْعُونَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَتَاكَ الشَّرَفُ، فَصِلْ رَحِمَكَ بِرَحِمِ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَصَعِدَ ذَلِكَ المِنْبَرَ وَخَطَبَ مُحَمَّدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَزَوَّجَنِي، وَشَهِدَ المَسِيحُ (عليه السلام) وَشَهِدَ بَنُو مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَالحَوَارِيُّونَ.
فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ مِنْ نَوْمِي أَشْفَقْتُ أَنْ أَقُصَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا عَلَى أَبِي وَجَدِّي مَخَافَةَ القَتْلِ، فَكُنْتُ أُسِرُّهَا فِي نَفْسِي وَلَا أُبْدِيهَا لَهُمْ، وَضَرَبَ صَدْرِي بِمَحَبَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ حَتَّى امْتَنَعْتُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَضَعُفَتْ نَفْسِي وَدَقَّ شَخْصِي، وَمَرِضْتُ مَرَضاً شَدِيداً، فَمَا بَقِيَ مِنْ مَدَائِنِ الرُّومِ طَبِيبٌ إِلَّا أَحْضَرَهُ جَدِّي وَسَأَلَهُ عَنْ دَوَائِي، فَلَمَّا بَرَّحَ بِهِ اليَأْسُ(303) قَالَ: يَا قُرَّةَ عَيْنِي، فَهَلْ تَخْطُرُ بِبَالِكِ شَهْوَةٌ فَأُزَوِّدَكِهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا؟ فَقُلْتُ: يَا جَدِّي، أَرَى أَبْوَابَ الفَرَجِ عَلَيَّ مُغْلَقَةً، فَلَوْ كَشَفْتَ العَذَابَ عَمَّنْ فِي سِجْنِكَ مِنْ أُسَارَى المُسْلِمِينَ، وَفَكَكْتَ عَنْهُمُ الأَغْلَالَ، وَتَصَدَّقْتَ عَلَيْهِمْ وَمَنَنْتَهُمْ بِالخَلَاصِ لَرَجَوْتُ أَنْ يَهَبَ المَسِيحُ وَأُمُّهُ لِي عَافِيَةً وَشِفَاءً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(301) في بعض النُّسَخ: (العابر)، وفي بحار الأنوار نقلاً عن الغيبة للطوسي: (العاهر).
(302) يبارى السماء: أي يعارضها.
(303) برَّح به الأمر تبريحاً: (جهده وأضرَّ به).

(١٣٥)

فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَدِّي تَجَلَّدْتُ فِي إِظْهَارِ الصِّحَّةِ فِي بَدَنِي وَتَنَاوَلْتُ يَسِيراً مِنَ الطَّعَامِ، فَسَرَّ بِذَلِكَ جَدِّي وَأَقْبَلَ عَلَى إِكْرَامِ الأُسَارَى [وَ]إِعْزَازِهِمْ.
فَرَأَيْتُ أَيْضاً بَعْدَ أَرْبَعِ لَيَالٍ كَأَنَّ سَيِّدَةَ النِّسَاءِ قَدْ زَارَتْنِي وَمَعَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَالفُ وَصِيفَةٍ مِنْ وَصَائِفِ الجِنَانِ، فَتَقُولُ لِي مَرْيَمُ: هَذِهِ سَيِّدَةُ النِّسَاءِ أُمُّ زَوْجِكِ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَأَتَعَلَّقُ بِهَا وَأَبْكِي وَأَشْكُو إِلَيْهَا امْتِنَاعَ أَبِي مُحَمَّدٍ مِنْ زِيَارَتِي، فَقَالَتْ لِي سَيِّدَةُ النِّسَاءِ (عليها السلام): إِنَّ ابْنِي أَبَا مُحَمَّدٍ لَا يَزُورُكِ وَأَنْتِ مُشْرِكَةٌ بِاللهِ وَعَلَى مَذْهَبِ النَّصَارَى(304)، وَهَذِهِ أُخْتِي مَرْيَمُ تَبْرَؤُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ دِينِكِ، فَإِنْ مِلْتِ إِلَى رِضَا اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَرِضَا المَسِيحِ وَمَرْيَمَ عَنْكِ وَزِيَارَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ إِيَّاكِ فَتَقُولِي: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ - أَبِي - مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَلَمَّا تَكَلَّمْتُ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ ضَمَّتْنِي سَيِّدَةُ النِّسَاءِ إِلَى صَدْرِهَا، فَطَيَّبَتْ لِي نَفْسِي، وَقَالَتِ: الآنَ تَوَقَّعِي زِيَارَةَ أَبِي مُحَمَّدٍ إِيَّاكِ، فَإِنِّي مُنْفِذُهُ إِلَيْكِ، فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا أَقُولُ: وَا شَوْقَاهْ إِلَى لِقَاءِ أَبِي مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ القَابِلَةُ جَاءَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) فِي مَنَامِي، فَرَأَيْتُهُ كَأَنِّي أَقُولُ لَهُ: جَفَوْتَنِي يَا حَبِيبِي بَعْدَ أَنْ شَغَلْتَ قَلْبِي بِجَوَامِعِ حُبِّكَ، قَالَ: مَا كَانَ تَأْخِيرِي عَنْكِ إِلَّا لِشِرْكِكِ، وَإِذْ قَدْ أَسْلَمْتِ فَإِنِّي زَائِرُكِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ اللهُ شَمْلَنَا فِي العَيَانِ، فَمَا قَطَعَ عَنِّي زِيَارَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الغَايَةِ.
قَالَ بِشْرٌ: فَقُلْتُ لَهَا: وَكَيْفَ وَقَعْتِ فِي الأَسْرِ(305)؟ فَقَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي أَنَّ جَدَّكِ سَيُسَرِّبُ(306) جُيُوشاً إِلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ كَذَا، ثُمَّ يَتْبَعُهُمْ فَعَلَيْكِ بِاللِّحَاقِ بِهِمْ مُتَنَكِّرَةً فِي زِيِّ الخَدَمِ مَعَ عِدَّةٍ مِنَ الوَصَائِفِ مِنْ طَرِيقِ كَذَا، فَفَعَلْتُ، فَوَقَعَتْ عَلَيْنَا طَلَائِعُ المُسْلِمِينَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا رَأَيْتَ وَمَا شَاهَدْتَ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(304) كذا، وفي بحار الأنوار وفي بعض النُّسَخ: (على دين مذهب النصارى).
(305) في بعض النُّسَخ: (وكيف صرتِ في الأُسارى).
(306) أي سيُرسِل. وفي بحار الأنوار عن الغيبة للطوسي: (سيسرُّ).

(١٣٦)

وَمَا شَعَرَ أَحَدٌ [بِي] بِأَنِّي ابْنَةُ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى هَذِهِ الغَايَةِ سِوَاكَ، وَذَلِكَ بِاطِّلَاعِي إِيَّاكَ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَأَلَنِي الشَّيْخُ الَّذِي وَقَعْتُ إِلَيْهِ فِي سَهْمِ الغَنِيمَةِ عَنِ اسْمِي فَأَنْكَرْتُهُ وَقُلْتُ: نَرْجِسُ، فَقَالَ: اسْمُ الجَوَارِي.
فَقُلْتُ: العَجَبُ أَنَّكِ رُومِيَّةٌ وَلِسَانُكِ عَرَبِيٌّ، قَالَتْ: بَلَغَ مِنْ وُلُوعِ جَدِّي وَحَمْلِهِ إِيَّايَ عَلَى تَعَلُّمِ الآدَابِ أَنْ أَوْعَزَ(307) إِلَيَّ امْرَأَةَ تَرْجُمَانٍ لَهُ فِي الاِخْتِلَافِ إِلَيَّ، فَكَانَتْ تَقْصُدُنِي صَبَاحاً وَمَسَاءً وَتُفِيدُنِي العَرَبِيَّةَ حَتَّى اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا لِسَانِي وَاسْتَقَامَ.
قَالَ بِشْرٌ: فَلَمَّا انْكَفَأْتُ بِهَا إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى(308) دَخَلْتُ عَلَى مَوْلَانَا أَبِي الحَسَنِ العَسْكَرِيِّ (عليه السلام)، فَقَالَ لَهَا: «كَيْفَ أَرَاكِ اللهُ عِزَّ الإِسْلَامِ وَذُلَّ النَّصْرَانِيَّةِ وَشَرَفَ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟»، قَالَتْ: كَيْفَ أَصِفُ لَكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي؟ قَالَ: «فَإِنِّي أُرِيدُ(309) أَنْ أُكْرِمَكِ، فَأَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَمْ بُشْرَى لَكِ فِيهَا شَرَفُ الأَبَدِ؟»، قَالَتْ: بَلِ البُشْرَى(310)، قَالَ (عليه السلام): «فَأَبْشِرِي بِوَلَدٍ يَمْلِكُ الدُّنْيَا شَرْقاً وَغَرْباً وَيَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»، قَالَتْ: مِمَّنْ؟ قَالَ (عليه السلام): «مِمَّنْ خَطَبَكِ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لَهُ مِنْ لَيْلَةِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا بِالرُّومِيَّةِ»، قَالَتْ: مِنَ المَسِيحِ وَوَصِيِّهِ؟ قَالَ: «فَمِمَّنْ زَوَّجَكِ المَسِيحُ وَوَصِيُّهُ؟»، قَالَتْ: مِنِ ابْنِكَ أَبِي مُحَمَّدٍ، قَالَ: «فَهَلْ تَعْرِفِينَهُ؟»، قَالَتْ: وَهَلْ خَلَوْتُ لَيْلَةً مِنْ زِيَارَتِهِ إِيَّايَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ الَّتِي أَسْلَمْتُ فِيهَا عَلَى يَدِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ أُمِّهِ؟
فَقَالَ أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام): «يَا كَافُورُ، ادْعُ لِي أُخْتِي حَكِيمَةَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ (عليه السلام) لَهَا: «هَا هِيَهْ»، فَاعْتَنَقَتْهَا طَوِيلاً وَسُرَّتْ بِهَا كَثِيراً، فَقَالَ لَهَا مَوْلَانَا: «يَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(307) أوعز إليه في كذا: تقدَّمه.

(308) انكفأت: أي رجعت.
(309) في بعض النُّسَخ: (أُحِبُّ).
(310) في بعض النُّسَخ: (قالت: بل الشرف).

(١٣٧)

بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، أَخْرِجِيهَا إِلَى مَنْزِلِكِ وَعَلِّمِيهَا الفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ فَإِنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأُمُّ القَائِمِ (عليه السلام)»(311)،(312).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(311) رواه الطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 489 - 496/ ح 488/92)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 208 - 214/ح 178)، والعلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 51/ص 6 - 10/ح 12).
(312) سيأتي في (ص 144) ما ينافيه في الجملة. ونقلنا هناك في عدم التنافي كلاماً.

(١٣٨)

[370/1] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الحُسَيْنُ بْنُ رِزْقِ اللهِ(313)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ القَاسِمِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَكِيمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَتْ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، اجْعَلِي إِفْطَارَكِ [هَذِهِ] اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا فَإِنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيُظْهِرُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الحُجَّةَ، وَهُوَ حُجَّتُهُ فِي أَرْضِهِ»، قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ: وَمَنْ أُمُّهُ؟ قَالَ لِي: «نَرْجِسُ»، قُلْتُ لَهُ: جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ مَا بِهَا أَثَرٌ، فَقَالَ: «هُوَ مَا أَقُولُ لَكِ»، قَالَتْ: فَجِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ جَاءَتْ تَنْزِعُ خُفِّي وَقَالَتْ لِي: يَا سَيِّدَتِي [وَسَيِّدَةَ أَهْلِي]، كَيْفَ أَمْسَيْتِ؟ فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتِ سَيِّدَتِي وَسَيِّدَةُ أَهْلِي، قَالَتْ: فَأَنْكَرَتْ قَوْلِي وَقَالَتْ: مَا هَذَا يَا عَمَّةُ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَهَبُ لَكِ فِي لَيْلَتِكِ هَذِهِ غُلَاماً سَيِّداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَتْ: فَخَجِلَتْ وَاسْتَحْيَتْ.
فَلَمَّا أَنْ فَرَغْتُ مِنْ صَلَاةِ العِشَاءِ الآخِرَةِ أَفْطَرْتُ وَأَخَذْتُ مَضْجَعِي فَرَقَدْتُ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَفَرَغْتُ مِنْ صَلَاتِي وَهِيَ نَائِمَةٌ لَيْسَ بِهَا حَادِثٌ، ثُمَّ جَلَسْتُ مُعَقِّبَةً، ثُمَّ اضْطَجَعْتُ ثُمَّ انْتَبَهْتُ فَزِعَةً وَهِيَ رَاقِدَةٌ، ثُمَّ قَامَتْ فَصَلَّتْ وَنَامَتْ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(313) كذا في النُّسَخ المصحَّحة، ولم أجده. وفي بعض النُّسَخ: (الحسين بن عبيد الله) وهو السعدي يُرمى بالغلوِّ، وقال النجاشي في رجاله (ص 42/ الرقم 86): (له كُتُب صحيحة الحديث). وأمَّا موسى بن محمّد فمهمل، ولم أجده إلَّا في عمدة الطالب (ص 125) في عقب القاسم بن حمزة بن موسى (عليه السلام).

(١٤١)

قَالَتْ حَكِيمَةُ: وَخَرَجْتُ أَتَفَقَّدُ الفَجْرَ، فَإِذَا أَنَا بِالفَجْرِ الأَوَّلِ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَدَخَلَنِي الشُّكُوكُ، فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) مِنَ المَجْلِسِ فَقَالَ: «لَا تَعْجَلِي يَا عَمَّةُ، فَهَاكِ الأَمْرُ قَدْ قَرُبَ»، قَالَتْ: فَجَلَسْتُ وَقَرَأْتُ الم السَّجْدَةَ وَيس، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إِذِ انْتَبَهَتْ فَزِعَةً، فَوَثَبْتُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ: اسْمُ اللهِ عَلَيْكِ، ثُمَّ قُلْتُ لَهَا: أَتَحِسِّينَ شَيْئاً؟ قَالَتْ: نَعَمْ يَا عَمَّةُ، فَقُلْتُ لَهَا: اجْمَعِي نَفْسَكِ وَاجْمَعِي قَلْبَكِ، فَهُوَ مَا قُلْتُ لَكِ، قَالَتْ: فَأَخَذَتْنِي فَتْرَةٌ وَأَخَذَتْهَا فَتْرَةٌ، فَانْتَبَهْتُ بِحِسِّ سَيِّدِي، فَكَشَفْتُ الثَّوْبَ عَنْهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ (عليه السلام) سَاجِداً يَتَلَقَّى الأَرْضَ بِمَسَاجِدِهِ، فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ، فَإِذَا أَنَا بِهِ نَظِيفٌ مُتَنَظِّفٌ، فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «هَلُمِّي إِلَيَّ ابْنِي يَا عَمَّةُ»، فَجِئْتُ بِهِ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ تَحْتَ اليَتَيْهِ وَظَهْرِهِ، وَوَضَعَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ أَدْلَى لِسَانَهُ فِي فِيهِ، وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَسَمْعِهِ وَمَفَاصِلِهِ، ثُمَّ قَالَ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»، ثُمَّ صَلَّى عَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَعَلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) إِلَى أَنْ وَقَفَ عَلَى أَبِيهِ، ثُمَّ أَحْجَمَ(314).
ثُمَّ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «يَا عَمَّةُ، اذْهَبِي بِهِ إِلَى أُمِّهِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهَا وَأْتِينِي بِهِ»، فَذَهَبْتُ بِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَرَدَدْتُهُ فَوَضَعْتُهُ فِي المَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَمَّةُ، إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ فَأْتِينَا»، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، وَكَشَفْتُ السِّتْرَ لِأَتَفَقَّدَ سَيِّدِي (عليه السلام)، فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا فَعَلَ سَيِّدِي؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، اسْتَوْدَعْنَاهُ الَّذِي اسْتَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى مُوسَى (عليه السلام)».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا كَانَ فِي اليَوْمِ السَّابِعِ جِئْتُ فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ: «هَلُمِّي إِلَيَّ ابْنِي»، فَجِئْتُ بِسَيِّدِي (عليه السلام) وَهُوَ فِي الخِرْقَةِ، فَفَعَلَ بِهِ كَفَعْلَتِهِ الأُولَى، ثُمَّ أَدْلَى لِسَانَهُ فِي فِيهِ كَأَنَّهُ يُغَذِّيهِ لَبَناً أَوْ عَسَلاً، ثُمَّ قَالَ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ: «أَشْهَدُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(314) أي سكت. أحجم عنه: أي كفَّ ونكص هيبةً.

(١٤٢)

أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، وَثَنَّى بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَعَلَى الأَئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) حَتَّى وَقَفَ عَلَى أَبِيهِ (عليه السلام)، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القَصص: 5 و6]، قَالَ مُوسَى: فَسَالتُ عُقْبَةَ الخَادِمَ عَنْ هَذِهِ، فَقَالَتْ: صَدَقَتْ حَكِيمَةُ(315).
[371/2] حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ الطُّهَوِيُّ(316)، قَالَ: قَصَدْتُ حَكِيمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) أَسْأَلُهَا عَنِ الحُجَّةِ وَمَا قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الحَيْرَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا، فَقَالَتْ لِي: اجْلِسْ، فَجَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُخْلِي الأَرْضَ مِنْ حُجَّةٍ نَاطِقَةٍ أَوْ صَامِتَةٍ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عليهما السلام)، تَفْضِيلاً لِلْحَسَنِ وَالحُسَيْنِ، وَتَنْزِيهاً لَهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي الأَرْضِ عَدِيلُهُمَا، إِلَّا أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَصَّ وُلْدَ الحُسَيْنِ بِالفَضْلِ عَلَى وُلْدِ الحَسَنِ(عليهما السلام)، كَمَا خَصَّ وُلْدَ هَارُونَ عَلَى وُلْدِ مُوسَى (عليه السلام)، وَإِنْ كَانَ مُوسَى حُجَّةً عَلَى هَارُونَ، وَالفَضْلُ لِوُلْدِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَلَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْ حَيْرَةٍ يَرْتَابُ فِيهَا المُبْطِلُونَ وَيَخْلُصُ فِيهَا المُحِقُّونَ، كَيْ لَا يَكُونَ لِلْخَلْقِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ، وَإِنَّ الحَيْرَةَ لَا بُدَّ وَاقِعَةٌ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ (عليه السلام)، فَقُلْتُ: يَا مَوْلَاتِي، هَلْ كَانَ لِلْحَسَنِ (عليه السلام) وَلَدٌ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(315) رواه الفتَّال (رحمه الله) في روضة الواعظين (ص 256 و257)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 214 - 217).
(316) في بعض النُّسَخ: (الطهوي)، وفي بعضها: (الظهري)، وفي بعضها: (الزهري)، وفي بعضها: (المطهَّري)، وفي بعضها: (الطهري)، ولم أجد بهذه العناوين في أصحاب الهادي (عليه السلام) أحداً، نعم ذُكِرَ الطهومي في جامع الرواة (ج 2/ ص 142) من أصحاب الرضا (عليه السلام)، لكن حاله مجهول.

(١٤٣)

فَتَبَسَّمَتْ ثُمَّ قَالَتْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَسَنِ (عليه السلام) عَقِبٌ فَمَنِ الحُجَّةُ مِنْ بَعْدِهِ وَقَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ لَا إِمَامَةَ لِأَخَوَيْنِ بَعْدَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عليهما السلام)، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدَتِي، حَدِّثِينِي بِوِلَادَةِ مَوْلَايَ وَغَيْبَتِهِ (عليه السلام)، قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا: نَرْجِسُ، فَزَارَنِي ابْنُ أَخِي، فَأَقْبَلَ يَحْدِقُ النَّظَرَ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، لَعَلَّكَ هَوِيتَهَا فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ؟ فَقَالَ لَهَا: «لَا يَا عَمَّةُ، وَلَكِنِّي أَتَعَجَّبُ مِنْهَا»، فَقُلْتُ: وَمَا أَعْجَبَكَ [مِنْهَا]؟ فَقَالَ (عليه السلام): «سَيَخْرُجُ مِنْهَا وَلَدٌ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) الَّذِي يَمْلَأُ اللهُ بِهِ الأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»، فَقُلْتُ: فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي؟ فَقَالَ: «اسْتَأْذِنِي فِي ذَلِكَ أَبِي (عليه السلام)»، قَالَتْ: فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَأَتَيْتُ مَنْزِلَ أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام)، فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَبَدَأَنِي (عليه السلام) وَقَالَ: «يَا حَكِيمَةُ، ابْعَثِي نَرْجِسَ إِلَى ابْنِي أَبِي مُحَمَّدٍ»، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي(317)، عَلَى هَذَا قَصَدْتُكَ، عَلَى أَنْ أَسْتَأْذِنَكَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: «يَا مُبَارَكَةُ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَبَّ أَنْ يُشْرِكَكِ فِي الأَجْرِ وَيَجْعَلَ لَكِ فِي الخَيْرِ نَصِيباً»، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ البَثْ أَنْ رَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَزَيَّنْتُهَا وَوَهَبْتُهَا لِأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، وَجَمَعْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي مَنْزِلِي، فَأَقَامَ عِنْدِي أَيَّاماً، ثُمَّ مَضَى إِلَى وَالِدِهِ (عليهما السلام)، وَوَجَّهْتُ بِهَا مَعَهُ.
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَمَضَى أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام)، وَجَلَسَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) مَكَانَ وَالِدِهِ، وَكُنْتُ أَزُورُهُ كَمَا كُنْتُ أَزُورُ وَالِدَهُ، فَجَاءَتْنِي نَرْجِسُ يَوْماً تَخْلَعُ خُفِّي، فَقَالَتْ: يَا مَوْلَاتِي، نَاوِلِينِي خُفَّكِ، فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتِ سَيِّدَتِي وَمَوْلَاتِي، وَاللهِ لَا أَدْفَعُ إِلَيْكِ خُفِّي لِتَخْلَعِيهِ، وَلَا لِتَخْدُمِينِي، بَلْ أَنَا أَخْدُمُكِ عَلَى بَصَرِي، فَسَمِعَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) ذَلِكَ، فَقَالَ: «جَزَاكِ اللهُ يَا عَمَّةُ خَيْراً»، فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ إِلَى وَقْتِ غُرُوبِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(317) قيل: لا منافاة بين هذا الحديث والذي سبق، لأنَّ في الذي سبق قال (عليه السلام): «يا بنت رسول الله أخرجيها وعلِّميها الفرائض والسُّنَن فإنَّها زوجة أبي محمّد وأُمُّ القائم (عليه السلام)»، فكانت هي عند حكيمة في تلك الحالة حتَّى اشتهرت بجارية حكيمة وجرى الأمر بعد كما في هذا الخبر.

(١٤٤)

الشَّمْسِ، فَصِحْتُ بِالجَارِيَةِ وَقُلْتُ: نَاوِلِينِي ثِيَابِي لِأَنْصَرِفَ، فَقَالَ (عليه السلام): «لَا يَا عَمَّتَا بِيتِيَ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا فَإِنَّهُ سَيُولَدُ اللَّيْلَةَ المَوْلُودُ الكَرِيمُ عَلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) الَّذِي يُحْيِي اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها»، فَقُلْتُ: مِمَّنْ يَا سَيِّدِي؟ وَلَسْتُ أَرَى بِنَرْجِسَ شَيْئاً مِنْ أَثَرِ الحَبَلِ، فَقَالَ: «مِنْ نَرْجِسَ لَا مِنْ غَيْرِهَا»، قَالَتْ: فَوَثَبْتُ إِلَيْهَا فَقَلَبْتُهَا ظَهْراً لِبَطْنٍ فَلَمْ أَرَ بِهَا أَثَرَ حَبَلٍ، فَعُدْتُ إِلَيْهِ (عليه السلام) فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا فَعَلْتُ، فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ لِي: «إِذَا كَانَ وَقْتُ الفَجْرِ يَظْهَرُ لَكِ بِهَا الحَبَلُ، لِأَنَّ مَثَلَهَا مَثَلُ أُمِّ مُوسَى (عليه السلام) لَمْ يَظْهَرْ بِهَا الحَبَلُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَحَدٌ إِلَى وَقْتِ وِلَادَتِهَا، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَشُقُّ بُطُونَ الحُبَالَي فِي طَلَبِ مُوسَى (عليه السلام)، وَهَذَا نَظِيرُ مُوسَى (عليه السلام)».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَعُدْتُ إِلَيْهَا فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا قَالَ، وَسَالتُهَا عَنْ حَالِهَا، فَقَالَتْ: يَا مَوْلَاتِي، مَا أَرَى بِي شَيْئاً مِنْ هَذَا، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْقُبُهَا إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الفَجْرِ وَهِيَ نَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيَّ لَا تَقْلِبُ جَنْباً إِلَى جَنْبٍ حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ وَقْتُ طُلُوعِ الفَجْرِ وَثَبَتْ فَزِعَةً، فَضَمَمْتُهَا إِلَى صَدْرِي وَسَمَّيْتُ عَلَيْهَا(318)، فَصَاحَ [إِلَيَّ] أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَقَالَ: «اقْرَئِي عَلَيْهَا ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾»، فَأَقْبَلْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهَا، وَقُلْتُ لَهَا: مَا حَالُكِ؟ قَالَتْ: ظَهَرَ [بِيَ] الأَمْرُ الَّذِي أَخْبَرَكِ بِهِ مَوْلَايَ، فَأَقْبَلْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهَا كَمَا أَمَرَنِي، فَأَجَابَنِي الجَنِينُ مِنْ بَطْنِهَا يَقْرَأُ مِثْلَ مَا أَقْرَأُ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ.
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَفَزِعْتُ لِمَا سَمِعْتُ، فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «لَا تَعْجَبِي مِنْ أَمْرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُنْطِقُنَا بِالحِكْمَةِ صِغَاراً، وَيَجْعَلُنَا حُجَّةً فِي أَرْضِهِ كِبَاراً»، فَلَمْ يَسْتَتِمَّ الكَلَامَ حَتَّى غِيبَتْ عَنِّي نَرْجِسُ فَلَمْ أَرَهَا كَأَنَّهُ ضُرِبَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حِجَابٌ، فَعَدَوْتُ نَحْوَ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَأَنَا صَارِخَةٌ، فَقَالَ لِي: «ارْجِعِي يَا عَمَّةُ فَإِنَّكِ سَتَجِدِيهَا فِي مَكَانِهَا».
قَالَتْ: فَرَجَعْتُ، فَلَمْ البَثْ أَنْ كُشِفَ الغِطَاءُ الَّذِي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، وَإِذَا أَنَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(318) يعني: قلت: اسم الله عليك، كما مرَّ في الحديث السابق.

(١٤٥)

بِهَا وَعَلَيْهَا مِنْ أَثَرِ النُّورِ مَا غَشِيَ بَصَرِي، وَإِذَا أَنَا بِالصَّبِيِّ (عليه السلام) سَاجِداً لِوَجْهِهِ(319) جَاثِياً عَلَى رُكْبَتَيْهِ رَافِعاً سَبَّابَتَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، [وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ]، وَأَنَّ جَدِّي مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّ أَبِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ»، ثُمَّ عَدَّ إِمَاماً إِمَاماً إِلَى أَنْ بَلَغَ إِلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ(320): «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، وَأَتْمِمْ لِي أَمْرِي، وَثَبِّتْ وَطْأَتِي، وَامْلَإِ الأَرْضَ بِي عَدْلاً وَقِسْطاً».
فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، تَنَاوَلِيهِ وَهَاتِيهِ»، فَتَنَاوَلْتُهُ وَأَتَيْتُ بِهِ نَحْوَهُ، فَلَمَّا مَثَلْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ وَهُوَ عَلَى يَدَيَّ سَلَّمَ عَلَى أَبِيهِ، فَتَنَاوَلَهُ الحَسَنُ (عليه السلام) مِنِّي، [وَالطَّيْرُ تُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِهِ]، وَنَاوَلَهُ لِسَانَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: «امْضِي بِهِ إِلَى أُمِّهِ لِتُرْضِعَهُ وَرُدِّيهِ إِلَيَّ»، قَالَتْ: فَتَنَاوَلْتُهُ أُمَّهُ فَأَرْضَعَتْهُ، فَرَدَدْتُهُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَالطَّيْرُ تُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِهِ، فَصَاحَ بِطَيْرٍ مِنْهَا فَقَالَ لَهُ: «احْمِلْهُ وَاحْفَظْهُ وَرُدَّهُ إِلَيْنَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً»، فَتَنَاوَلَهُ الطَّيْرُ وَطَارَ بِهِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَاتَّبَعَهُ سَائِرُ الطَّيْرِ، فَسَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «أَسْتَوْدِعُكَ اللهَ الَّذِي أَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى مُوسَى»، فَبَكَتْ نَرْجِسُ، فَقَالَ لَهَا: «اسْكُتِي فَإِنَّ الرَّضَاعَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ ثَدْيِكِ، وَسَيُعَادُ إِلَيْكِ كَمَا رُدَّ مُوسَى إِلَى أُمِّهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾ [القَصص: 13]».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا الطَّيْرُ؟ قَالَ: «هَذَا رُوحُ القُدُسِ المُوَكَّلُ بِالأَئِمَّةِ (عليهم السلام) يُوَفِّقُهُمْ وَيُسَدِّدُهُمْ وَيُرَبِّيهِمْ بِالعِلْمِ(321)».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً رُدَّ الغُلَامُ، وَوُجِّهَ إِلَيَّ ابْنِ أَخِي(عليه السلام) فَدَعَانِي، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِالصَّبِيِّ مُتَحَرِّكٌ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(319) في بعض النُّسَخ: (على وجهه).
(320) في بعض النُّسَخ: (فقال (عليه السلام)).
(321) في بعض النُّسَخ: (يُزيِّنهم بالعلم).

(١٤٦)

هَذَا ابْنُ سَنَتَيْنِ، فَتَبَسَّمَ (عليه السلام)، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ أَوْلَادَ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْصِيَاءِ إِذَا كَانُوا أَئِمَّةً يَنْشَؤُونَ بِخِلَافِ مَا يَنْشَؤُ غَيْرُهُمْ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ مِنَّا إِذَا كَانَ أَتَى عَلَيْهِ شَهْرٌ كَانَ كَمَنْ أَتَى عَلَيْهِ سَنَةٌ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ مِنَّا لَيَتَكَلَّمُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَيَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ (عزَّ وجلَّ)، [وَ]عِنْدَ الرَّضَاعِ تُطِيعُهُ المَلَائِكَةُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ صَبَاحاً وَمَسَاءً».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمْ أَزَلْ أَرَى ذَلِكَ الصَّبِيَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً إِلَى أَنْ رَأَيْتُهُ رَجُلاً(322) قَبْلَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ فَلَمْ أَعْرِفْهُ، فَقُلْتُ لِابْنِ أَخِي (عليه السلام): مَنْ هَذَا الَّذِي تَأْمُرُنِي أَنْ أَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ؟ فَقَالَ لِي: «هَذَا ابْنُ نَرْجِسَ، وَهَذَا خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي، وَعَنْ قَلِيلٍ تَفْقِدُونِّي، فَاسْمَعِي لَهُ وَأَطِيعِي».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَمَضَى أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ، وَافْتَرَقَ النَّاسُ كَمَا تَرَى، وَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَإِنَّهُ لَيُنْبِئُنِي عَمَّا تَسْأَلُونَ عَنْهُ فَأُخْبِرُكُمْ، وَوَاللهِ إِنِّي لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الشَّيْءِ فَيَبْدَأُنِي بِهِ، وَإِنَّهُ لَيَرُدُّ عَلَيَّ الأَمْرَ فَيَخْرُجُ إِلَيَّ مِنْهُ جَوَابُهُ مِنْ سَاعَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَتِي، وَقَدْ أَخْبَرَنِي البَارِحَةَ بِمَجِيئِكَ إِلَيَّ وَأَمَرَنِي أَنْ أُخْبِرَكَ بِالحَقِّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: فَوَاللهِ لَقَدْ أَخْبَرَتْنِي حَكِيمَةُ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا اللهُ (عزَّ وجلَّ)، فَعَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ صِدْقٌ وَعَدْلٌ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، لِأَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) قَدْ أَطْلَعَهُ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ(323).
[372/3] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ البَصْرِيِّ(324)، قَالَ: خَرَجَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) حِينَ قُتِلَ الزُّبَيْرِيُّ: «هَذَا جَزَاءُ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَوْلِيَائِهِ، زَعَمَ أَنَّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(322) فيه غرابة، لأنَّ كلَّ من رآه (عليه السلام) في أيَّام أبيه رآه وهو صبيٌّ.
(323) رواه الفتَّال (رحمه الله) في روضة الواعظين (ص 257 - 260).
(324) كذا في جميع النُّسَخ، وقد سقط هنا: (عن أحمد بن محمّد بن عبد الله) كما في الكافي والإرشاد.

(١٤٧)

يَقْتُلُنِي وَلَيْسَ لِي عَقِبٌ، فَكَيْفَ رَأَى قُدْرَةَ اللهِ (عزَّ وجلَّ)؟»، وَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ وَسَمَّاهُ (م ح م د) سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ(325)،(326).
[373/4] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الكُلَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: وُلِدَ الصَّاحِبُ (عليه السلام) لِلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ(327).
[374/5] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنهما)، قَالَـ[ا]: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام)، عَنِ السَّيَّارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي نَسِيمٌ وَمَارِيَةُ، قَالَتَا: إِنَّهُ لَـمَّا سَقَطَ صَاحِبُ الزَّمَانِ (عليه السلام) مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ جَاثِياً عَلَى رُكْبَتَيْهِ، رَافِعاً سَبَّابَتَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ عَطَسَ فَقَالَ: «الحَمْدُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(325) رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 514/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 1)، والمفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 349)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 231/ ح 198).
(326) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 4): (بيان: ربَّما يُجمَع بينه وبين ما ورد من خمس وخمسين بكون السنة في هذا الخبر ظرفاً لـ (خرج) أو (قُتِلَ). أو إحداهما على الشمسيَّة والأُخرى على القمريَّة)، قال محقِّق البحار: (ولكن الأخير غير صحيح لأنَّ السنة القمريَّة في خمس وخمسين ومائتي سنة يزيد على السنة الشمسية بسبع سنوات لا بسنة واحدة. فكانت السنة الشمسيَّة سنة تسع وأربعين ومائتين، والقمريَّة ستّ وخمسين ومائتين).
وقال (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 6/ ص 171): (وكان الزبيري كان من أولاد الزبير، ولم نعثر على قصَّة قتله وتعيين شخصه. (ووُلِدَ له) كلام أحمد، وإنَّما أتى بالحروف المقطَّعة لتحريم التسمية، وقوله: (سنة ستّ) يخالف التاريخ المذكور في العنوان، وقد يُتكلَّف بجعله ظرفاً لخرج، أو قتل، وقد يُجمَع بينهما بحمل إحداهما على الشمسيَّة والأُخرى على القمريَّة).
(327) كذا، ولم أجده في الكافي، غير أنَّ فيه بعد عنوان الباب بدون ذكر السند هكذا: (وُلِدَ (عليه السلام) للنصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين) (الكافي: ج 1/ ص 514/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)).

(١٤٨)

للهِ رَبِّ العالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، زَعَمَتِ الظَّلَمَةُ أَنَّ حُجَّةَ اللهِ دَاحِضَةٌ، لَوْ أُذِنَ لَنَا فِي الكَلَامِ لَزَالَ الشَّكُ»(328).
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: وَحَدَّثَتْنِي نَسِيمٌ خَادِمُ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، قَالَتْ: قَالَ لِي صَاحِبُ الزَّمَانِ (عليه السلام) وَقَدْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْلِدِهِ بِلَيْلَةٍ، فَعَطَسْتُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لِي: «يَرْحَمُكِ اللهُ»، قَالَتْ نَسِيمٌ: فَفَرِحْتُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لِي (عليه السلام): «أَلَا أُبَشِّرُكِ فِي العُطَاسِ؟»، فَقُلْتُ: بَلَى [يَا مَوْلَايَ]، فَقَالَ: «هُوَ أَمَانٌ مِنَ المَوْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»(329).
[375/6] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَاجِيلَوَيْهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ رِيَاحٍ البَصْرِيُّ(330)، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ العَمْرِيِّ، قَالَ: لَـمَّا وُلِدَ السَّيِّدُ (عليه السلام) قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «ابْعَثُوا إِلَى أَبِي عَمْرٍو(331)»، فَبُعِثَ إِلَيْهِ، فَصَارَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: اشْتَرِ عَشَرَةَ آلَافِ رِطْلِ خُبْزٍ، وَعَشَرَةَ آلَافِ رِطْلِ لَحْمٍ، وَفَرِّقْهُ - أَحْسَبُهُ قَالَ: عَلَى بَنِي هَاشِمٍ -، وَعُقَّ عَنْهُ بِكَذَا وَكَذَا شَاةً»(332).
[376/7] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ الخَيْزَرَانِيُ، عَنْ جَارِيَةٍ لَهُ كَانَ أَهْدَاهَا لِأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَلَمَّا أَغَارَ جَعْفَرٌ الكَذَّابُ عَلَى الدَّارِ جَاءَتْهُ فَارَّةً مِنْ جَعْفَرٍ، فَتَزَوَّجَ بِهَا.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَحَدَّثَتْنِي أَنَّهَا حَضَرَتْ وِلَادَةَ السَّيِّدِ (عليه السلام)، وَأَنَّ اسْمَ أُمِّ السَّيِّدِ: صَقِيلُ، وَأَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) حَدَّثَهَا بِمَا يَجْرِي عَلَى عِيَالِهِ، فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ (عزَّ وجلَّ) لَهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(328) روى قريباً منه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 244 و245/ ح 211).
(329) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 232/ ح 200).
(330) مهمل. وفي بعض النُّسَخ: (إسحاق بن نوح)، وفي بعضها: (إسحاق بن روح)، ولم أجده.
(331) يعني عثمان بن سعيد.
(332) رواه الفتَّال (رحمه الله) في روضة الواعظين (ص 260).

(١٤٩)

أَنْ يُجْعَلَ مَنِيَّتُهَا قَبْلَهُ، فَمَاتَتْ فِي حَيَاةِ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)(333)، وَعَلَى قَبْرِهَا لَوْحٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: هَذَا قَبْرُ أُمِّ مُحَمَّدٍ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَسَمِعْتُ هَذِهِ الجَارِيَةَ تَذْكُرُ أَنَّهُ لَـمَّا وُلِدَ السَّيِّدُ (عليه السلام) رَأَتْ لَهَا نُوراً سَاطِعاً قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ وَبَلَغَ أُفُقَ السَّمَاءِ، وَرَأَتْ طُيُوراً بَيْضَاءَ تَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ وَتَمْسَحُ أَجْنِحَتَهَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثُمَّ تَطِيرُ، فَأَخْبَرْنَا أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) بِذَلِكَ، فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ: «تِلْكَ مَلَائِكَةٌ نَزَلَتْ لِلتَّبَرُّكِ بِهَذَا المَوْلُودِ، وَهِيَ أَنْصَارُهُ إِذَا خَرَجَ».
[377/8] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ العَلَوِيُّ، عَنْ أَبِي غَانِمٍ الخَادِمِ، قَالَ: وُلِدَ لِأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَلَدٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّداً، فَعَرَضَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ يَوْمَ الثَّالِثِ، وَقَالَ: «هَذَا صَاحِبُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، وهُوَ القَائِمُ الَّذِي تَمْتَدُّ إِلَيْهِ الأَعْنَاقُ بِالاِنْتِظَارِ، فَإِذَا امْتَلَأَتِ الأَرْضُ جَوْراً وَظُلْماً خَرَجَ فَمَلَأَهَا قِسْطاً وَعَدْلاً».
[378/9] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ الفَرَجِ(334) المُؤَذِّنُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الكَرْخِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هَارُونَ - رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا - يَقُولُ: رَأَيْتُ صَاحِبَ الزَّمَانِ (عليه السلام)، وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.
[379/10] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الكُوفِيُ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) بَعَثَ إِلَى بَعْضِ مَنْ سَمَّاهُ لِي بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ، وَقَالَ: «هَذِهِ مِنْ عَقِيقَةِ ابْنِي مُحَمَّدٍ».
[380/11] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(333) موتها قبل وفاة أبي محمّد مخالف لما سيجيء في الباب الآتي (باب ذكر من شاهد القائم (عليه السلام))، ولم أجد في غيره من الأحاديث أو التواريخ وفاتها قبل أبي محمّد (عليه السلام).
(334) في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسين بن الفرج).

(١٥٠)

يَحْيَى العَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ المُنْذِرِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي الفَتْحِ، قَالَ: جَاءَنِي يَوْماً فَقَالَ لِيَ: البِشَارَةُ، وُلِدَ البَارِحَةَ فِي الدَّارِ مَوْلُودٌ لِأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَأَمَرَ بِكِتْمَانِهِ، قُلْتُ: وَمَا اسْمُهُ؟ قَالَ: سُمِّيَ بِمُحَمَّدٍ، وَكُنِّيَ بِجَعْفَرٍ(335).
[381/12] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: وُلِدَ الخَلَفُ المَهْدِيُّ (عليه السلام) يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَأُمُّهُ رَيْحَانَةُ، وَيُقَالُ لَهَا: نَرْجِسُ، وَيُقَالُ: صَقِيلُ، وَيُقَالُ: سَوْسَنُ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ لِسَبَبِ الحَمْلِ: صَقِيلُ(336)، وَكَانَ مَوْلِدُهُ (عليه السلام) لِثَمَانِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَوَكِيلُهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، وَأَوْصَى أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رُوحٍ، وَأَوْصَى أَبُو القَاسِمِ إِلَى أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيِّ (رضي الله عنهم)، قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَتِ السَّمُرِيَ الوَفَاةُ سُئِلَ أَنْ يُوصِيَ فَقَالَ: لِلهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، فَالغَيْبَةُ التَّامَّةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ بَعْدَ مُضِيِّ السَّمُرِيِّ (رضي الله عنه)(337).
[382/13] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ أَسِيدٍ(338)، قَالَ: شَهِدْتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(335) سيجيء في باب ذكر من شاهد القائم (عليه السلام) تحت الرقم (410/24) من قول عقيد الخادم: (يُكنَّى أبا القاسم، ويقال: أبو جعفر)، وتقدَّم فيما أخبر به الحسين (عليه السلام) تحت الرقم (215/5) آخر حديث: (الموتور بأبيه، المكنَّى بعمِّه)، فتأمَّل.
(336) إنَّما سُمّي صيقلاً أو صقيلاً لما اعتراه من النور والجلاء بسبب الحمل المنوَّر.
(337) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 393 و394/ ح 362).
(338) كذا في بعض النُّسَخ المصحَّحة، وفي بعضها: (عن غياث بن أسد).

(١٥١)

مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) يَقُولُ: لَـمَّا وُلِدَ الخَلَفُ المَهْدِيُّ (عليه السلام) سَطَعَ نُورٌ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ إِلَى أَعْنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ سَقَطَ لِوَجْهِهِ سَاجِداً لِرَبِّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 18 و19]، قَالَ: وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ.
[383/14] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ العَمْرِيِّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ السَّيِّدُ (عليه السلام) مَخْتُوناً، وَسَمِعْتُ حَكِيمَةَ تَقُولُ: لَمْ يُرَ بِأُمِّهِ دَمٌ فِي نِفَاسِهَا، وَهَكَذَا سَبِيلُ أُمَّهَاتِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام).
[384/15] حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ حَمْدَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ [يَ]زِيدَ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الأَزْدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) يَقُولُ - لَـمَّا وُلِدَ الرِّضَا (عليه السلام) -: «إِنَّ ابْنِي هَذَا وُلِدَ مَخْتُوناً طَاهِراً مُطَهَّراً، وَلَيْسَ مِنَ الأَئِمَّةِ أَحَدٌ يُولَدُ إِلَّا مَخْتُوناً طَاهِراً مُطَهَّراً، وَلَكِنْ سَنُمِرُّ المُوسَى عَلَيْهِ لِإِصَابَةِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ الحَنِيفِيَّةِ»(339).
[385/16] حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مِهْرَانَ الآبِيُّ الأَزْدِيُّ العَرُوضِيُّ(340) بِمَرْوَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ إِسْحَاقَ القُمِّيُّ(341)، قَالَ: لَـمَّا وُلِدَ الخَلَفُ الصَّالِحُ (عليه السلام) وَرَدَ عَنْ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) إِلَى جَدِّي أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ(342) كِتَابٌ، فَإِذَا فِيهِ مَكْتُوبٌ بِخَطِّ يَدِهِ (عليه السلام) الَّذِي كَانَ تَرِدُ بِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(339) رواه الفتَّال (رحمه الله) في روضة الواعظين (ص 260)، والطبرسي (رحمه الله) في مكارم الأخلاق (ص 230).
(340) راجع مقدّمة معاني الأخبار (ص 39/ تحت الرقم 13) المتن والهامش.
(341) كذا، وفي نسخة: (أحمد بن الحسن بن أحمد إسحاق)، والمعنون في الرجال: (أحمد بن الحسن بن إسحاق بن سعد).
(342) كذا.

(١٥٢)

التَّوْقِيعَاتُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ: «وُلِدَ لَنَا مَوْلُودٌ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ مَسْتُوراً، وَعَنْ جَمِيعِ النَّاسِ مَكْتُوماً، فَإِنَّا لَمْ نُظْهِرْ عَلَيْهِ إِلَّا الأَقْرَبَ لِقَرَابَتِهِ، وَالوَلِيَّ لِوَلَايَتِهِ، أَحْبَبْنَا إِعْلَامَكَ لِيَسُرَّكَ اللهُ بِهِ، مِثْلَ مَا سَرَّنَا بِهِ(343)، وَالسَّلَامُ».
ذكر من هنَّأ أبا محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) بولادة ابنه القائم (عليه السلام):
[386/17] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الكَرْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ العَبَّاسِ العَلَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفَضْلِ الحَسَنُ بْنُ الحُسَيْنِ العَلَوِيُّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) بِسُرَّ مَنْ رَأَى، فَهَنَّأْتُهُ بِوِلَادَةِ ابْنِهِ القَائِمِ (عليه السلام)(344).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(343) في بعض النُّسَخ: (كما سرَّنا به).
(344) روى قريباً منه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 251/ ح 221).

(١٥٣)

[387/1] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ الفَرَجِ(345) المُؤَذِّنُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الكَرْخِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هَارُونَ - رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا - يَقُولُ: رَأَيْتُ صَاحِبَ الزَّمَانِ (عليه السلام) وَوَجْهُهُ يُضِيءُ كَأَنَّهُ القَمَرُ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَرَأَيْتُ عَلَى سُرَّتِهِ شَعْراً يَجْرِي كَالخَطِّ، وَكَشَفْتُ الثَّوْبَ عَنْهُ فَوَجَدْتُهُ مَخْتُوناً، فَسَالتُ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «هَكَذَا وُلِدَ، وَهَكَذَا وُلِدْنَا، وَلَكِنَّا سَنُمِرُّ المُوسَى عَلَيْهِ لِإِصَابَةِ السُّنَّةِ»(346).
[388/2] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ حُكَيْمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ العَمْرِيُّ (رضي الله عنه)، قَالُوا: عَرَضَ عَلَيْنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) وَنَحْنُ فِي مَنْزِلِهِ وَكُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلاً، فَقَالَ: «هَذَا إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، أَطِيعُوهُ وَلَا تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فِي أَدْيَانِكُمْ فَتَهْلِكُوا، أَمَا إِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهُ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا(347)»، قَالُوا: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَمَا مَضَتْ إِلَّا أَيَّامٌ قَلَائِلُ حَتَّى مَضَى أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام)(348).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(345) في بعض النُّسَخ: (الحسين بن الفرج).
(346) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 250/ ح 219)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 220)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 957).
(347) يعنى أكثركم، أو عن قريب، فإنَّ الظاهر أنَّ محمّد بن عثمان العمري كان يراه في أيَّام سفارته. ويحتمل إيصال الكُتُب إليه من وراء الحجاب أو بوسائط، لكن ينافيه الخبر الآتي، وكذا ما سيأتي في الباب من أنَّه شاهد القائم (عليه السلام) تحت الرقم (395/9) و(396/10).
(348) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 252).

(١٥٧)

[389/3] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ العَمْرِيِّ (رضي الله عنه): إِنِّي أَسْأَلُكَ سُؤَالَ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ (جلّ جلاله) حِينَ قَالَ لَهُ: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، فَأَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ هَلْ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَهُ رَقَبَةٌ مِثْلُ ذِي - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عُنُقِهِ -.
[390/4] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ الكُلَيْنِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ (رضي الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الكُلَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ(349) وَالحَسَنُ ابْنَا عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِين وَمِائَتَيْنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ العَبْدِيُّ - مِنْ عَبْدِ قَيْسٍ -، عَنْ ضَوْءِ بْنِ عَلِيٍّ العِجْلِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ سَمَّاهُ، قَالَ: أَتَيْتُ سُرَّ مَنْ رَأَى فَلَزِمْتُ بَابَ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَدَعَانِي مِنْ غَيْرِ أَنْ أَسْتَأْذِنَ، فَلَمَّا دَخَلْتُ وَسَلَّمْتُ قَالَ لِي: «يَا أَبَا فُلَانٍ، كَيْفَ حَالُكَ؟»، ثُمَّ قَالَ لِي: «اقْعُدْ يَا فُلَانُ»، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ مِنْ أَهْلِي، ثُمَّ قَالَ لِي: «مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ عَلَيَّ؟»، قُلْتُ: رَغْبَةً فِي خِدْمَتِكَ، قَالَ لِي: فَقَالَ: «الزَمِ الدَّارَ»، قَالَ: فَكُنْتُ فِي الدَّارِ مَعَ الخَدَمِ، ثُمَّ صِرْتُ أَشْتَرِي لَهُمُ الحَوَائِجَ مِنَ السُّوقِ، وَكُنْتُ أَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ إِذَا كَانَ فِي دَارِ الرِّجَالِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْماً وَهُوَ فِي دَارِ الرِّجَالِ، فَسَمِعْتُ حَرَكَةً فِي البَيْتِ، فَنَادَانِي: «مَكَانَكَ لَا تَبْرَحْ»، فَلَمْ أَجْسُرْ أَخْرُجُ وَلَا أَدْخُلُ، فَخَرَجَتْ عَلَيَّ جَارِيَةٌ وَمَعَهَا شَيْءٌ مُغَطًّى، ثُمَّ نَادَانِي: «ادْخُلْ»، فَدَخَلْتُ، وَنَادَى الجَارِيَةَ، فَرَجَعَتْ، فَقَالَ لَهَا: «اكْشِفِي عَمَّا مَعَكِ»، فَكَشَفَتْ عَنْ غُلَامٍ أَبْيَضَ حَسَنِ الوَجْهِ، وَكَشَفَتْ عَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(349) الظاهر هو محمّد بن عليِّ بن إبراهيم الهمداني، روى عن أبيه عن جدِّه عن الرضا (عليه السلام)، وكان وكيل الناحية، وكذلك ابنه القاسم وأبوه عليٌّ وجدُّه إبراهيم بن محمّد. (منهج المقال). وقيل: المراد بعليٍّ عليُّ بن إبراهيم بن موسى بن جعفر، والعلم عند الله.

(١٥٨)

بَطْنِهِ، فَإِذَا شَعْرٌ نَابِتٌ مِنْ لَبَّتِهِ إِلَى سُرَّتِهِ، أَخْضَرُ لَيْسَ بِأَسْوَدَ، فَقَالَ: «هَذَا صَاحِبُكُمْ»، ثُمَّ أَمَرَهَا فَحَمَلَتْهُ فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى مَضَى أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام).
قَالَ ضَوْءُ بْنُ عَلِيٍّ: فَقُلْتُ لِلْفَارِسِيِّ: كَمْ كُنْتَ تُقَدِّرُ لَهُ مِنَ السِّنِينَ؟ فَقَالَ: سَنَتَيْنِ. قَالَ العَبْدِيُّ: فَقُلْتُ لِضَوْءٍ: كَمْ تُقَدِّرُ لَهُ الآنَ فِي وَقْتِنَا؟ قَالَ: أَرْبَعَةَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو عَبْدِ اللهِ(350): وَنَحْنُ نُقَدِّرُ لَهُ الآنَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً(351)،(352).
[391/5] حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ العَيَّاشِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ البَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ ابْنِ هَارُونَ(353) الدَّقَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ القَاسِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الأَشْتَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مَنْقُوشٍ(354)، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى دُكَّانٍ فِي الدَّارِ وَعَنْ يَمِينِهِ بَيْتٌ وَعَلَيْهِ سَتْرٌ مُسْبَلٌ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، مَنْ صَاحِبُ هَذَا الأَمْرِ؟ فَقَالَ: «ارْفَعِ السِّتْرَ»، فَرَفَعْتُهُ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا غُلَامٌ خُمَاسِيٌّ لَهُ عَشْرٌ أَوْ ثَمَانٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَاضِحُ الجَبِينِ، أَبْيَضُ الوَجْهِ، دُرِّيُّ المُقْلَتَيْنِ، شَثْنُ الكَفَّيْنِ، مَعْطُوفُ الرُّكْبَتَيْنِ(355)، فِي خَدِّهِ الأَيْمَنِ خَالٌ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(350) يعني بأبي عليٍّ: محمّد بن عليِّ بن إبراهيم. وبأبي عبد الله: الحسن بن عليِّ بن إبراهيم الهمداني على ما مرَّ تحقيقه.
(351) فبناءً على ذلك يكون الصاحب عند وفاة أبيه ابن سنتين، وهو مخالف للمشهور.
(352) رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 514 و515/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 2)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 233 و234/ ح 202).
(353) في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسين بن هارون).
(354) في البحار: (يعقوب بن منفوس).
(355) دُرِّى المقلتين: المراد به شدَّة بياض العين أو تلألؤ جميع الحدقة، من قولهم: (كوكب دُرِّئ) بالهمز ودونها. قوله: معطوف الركبتين: أي كانتا مائلتين إلى القدَّام لعظمها وغلظهما، كما أنَّ شثن الكفَّين غلظهما، أي يميلان إلى الغلظ والقصر. (راجع: بحار الأنوار: ج 52/ ص 25).

(١٥٩)

وَفِي رَأْسِهِ ذُؤَابَةٌ، فَجَلَسَ عَلَى فَخِذِ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، ثُمَّ قَالَ لِي: «هَذَا هُوَ صَاحِبُكُمْ»، ثُمَّ وَثَبَ فَقَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ، ادْخُلْ إِلَى الوَقْتِ المَعْلُومِ»، فَدَخَلَ البَيْتَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا يَعْقُوبُ، انْظُرْ إِلَى مَنْ فِي البَيْتِ»، فَدَخَلْتُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً(356).
[392/6] حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ النَّوْفَلِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحُسَيْنِ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ القَصَبَانِيُّ البَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الفَارِسِيُّ المُلَقَّبُ بِابْنِ جُرْمُوزٍ(357)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بِلَالِ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَزْهَرِيُّ مَسْرُورُ بْنُ العَاصِ(358)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ ابْنُ الفَضْلِ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ غَانِمَ بْنَ سَعِيدٍ الهِنْدِيَّ بِالكُوفَةِ فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا طَالَتْ مُجَالَسَتِي إِيَّاهُ سَألتُهُ عَنْ حَالِهِ، وَقَدْ كَانَ وَقَعَ إِلَيَّ شَيْءٌ مِنْ خَبَرِهِ، فَقَالَ: كُنْتُ بِبَلَدِ الهِنْدِ بِمَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: قِشْمِيرُ الدَّاخِلَةُ، وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلاً.
وَحَدَّثَنَا أَبِي (رحمه الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلَّانٍ الكُلَيْنِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ غَانِمٍ أَبِي سَعِيدٍ الهِنْدِيِّ.
قَالَ عَلَّانٌ الكُلَيْنِيُّ: وَحَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَشْعَرِيِّ، عَنْ غَانِمٍ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَلِكِ الهِنْدِ(359) فِي قِشْمِيرَ الدَّاخِلَةِ وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلاً نَقْعُدُ حَوْلَ كُرْسِيِّ المَلِكِ، وَقَدْ قَرَأْنَا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ، يَفْزَعُ إِلَيْنَا فِي العِلْمِ، فَتَذَاكَرْنَا يَوْماً مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَقُلْنَا: نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا، فَاتَّفَقْنَا عَلَى أَنْ أَخْرُجَ فِي طَلَبِهِ وَأَبْحَثَ عَنْهُ، فَخَرَجْتُ وَمَعِي مَالٌ، فَقَطَعَ عَلَيَّ التُّرْكُ وَشَلَّحُونِي(360)، فَوَقَعْتُ إِلَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(356) قد مرَّ تحت الرقم (336/2)، فراجع.
(357) لم أجده ولا راويه ولا شيخه ولا شيخ شيخه إلى آخر السند الأوَّل في أحد من كُتُب الرجال والتراجم التي كانت عندي. وفي بعض النُّسَخ: (ابن حرسون) مكان (ابن جرموز).
(358) في بعض النُّسَخ: (الأزهر[ي] بن مسرور بن العبَّاس).
(359) في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (كنت أكون مع ملك الهند).
(360) التشليح: التعرية.

(١٦٠)

كَابُلَ، وَخَرَجْتُ مِنْ كَابُلَ إِلَى بَلْخٍ وَالأَمِيرُ بِهَا ابْنُ أَبِي شَوْرٍ(361)، فَأَتَيْتُهُ وَعَرَّفْتُهُ مَا خَرَجْتُ لَهُ، فَجَمَعَ الفُقَهَاءَ وَالعُلَمَاءَ لِمُنَاظَرَتِي، فَسَالتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقَالَ: هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَقَدْ مَاتَ، فَقُلْتُ: وَمَنْ كَانَ خَلِيفَتُهُ؟ فَقَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، فَقُلْتُ: انْسِبُوهُ لِي، فَنَسَبُوهُ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِنَبِيٍّ، إِنَّ النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا خَلِيفَتُهُ ابْنُ عَمِّهِ وَزَوْجُ ابْنَتِهِ وَأَبُو وُلْدِهِ، فَقَالُوا لِلْأَمِيرِ: إِنَّ هَذَا قَدْ خَرَجَ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى الكُفْرِ، فَمُرْ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَنَا مُتَمَسِّكٌ بِدِينٍ وَلَا أَدَعُهُ إِلَّا بِبَيَانٍ.
فَدَعَا الأَمِيرُ الحُسَيْنَ بْنَ إِسْكِيبَ(362)، وَقَالَ لَهُ: يَا حُسَيْنُ، نَاظِرِ الرَّجُلَ، فَقَالَ: العُلَمَاءُ وَالفُقَهَاءُ حَوْلَكَ فَمُرْهُمْ بِمُنَاظَرَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: نَاظِرْهُ كَمَا أَقُولُ لَكَ، وَاخْلُ بِهِ وَالطِفْ لَهُ، فَقَالَ: فَخَلَا بِيَ الحُسَيْنُ، وَسَألتُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقَالَ: هُوَ كَمَا قَالُوهُ لَكَ، غَيْرَ أَنَّ خَلِيفَتَهُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، وَأَبُو وُلْدِهِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ، فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَصِرْتُ إِلَى الأَمِيرِ فَأَسْلَمْتُ، فَمَضَى بِي إِلَى الحُسَيْنِ فَفَقَّهَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ لَا يَمْضِي خَلِيفَةٌ إِلَّا عَنْ خَلِيفَةٍ، فَمَنْ كَانَ خَلِيفَةُ عَلِيٍّ (عليه السلام)؟ قَالَ: الحَسَنُ، ثُمَّ الحُسَيْنُ، ثُمَّ سَمَّى الأَئِمَّةَ وَاحِداً وَاحِداً حَتَّى بَلَغَ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، ثُمَّ قَالَ لِي: تَحْتَاجُ أَنْ تَطْلُبَ خَلِيفَةَ الحَسَنِ وَتَسْأَلَ عَنْهُ، فَخَرَجْتُ فِي الطَّلَبِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَوَافَى مَعَنَا بَغْدَادَ، فَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ رَفِيقٌ قَدْ صَحِبَهُ عَلَى هَذَا الأَمْرِ، فَكَرِهَ بَعْضَ أَخْلَاقِهِ فَفَارَقَهُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(361) في بعض النُّسَخ: (أبي سور)، وفي الكافي: (داود بن العبَّاس بن أبي [أ]سود).
(362) بالسين غير المعجمة والكاف المكسورة والباء المنقَّطة تحتها نقطتين والباء المنقَّطة تحتها نقطة المروزي المقيم بسمرقند وكشٍّ، قال العلَّامة: (من أصحاب أبي محمّد العسكري (عليه السلام) ثقة ثقة ثبت عالم متكلِّم مصنِّف الكُتُب، وله كُتُب ذكرناه في كتابنا الكبير. (خلاصة الأقوال: ص 115/ الرقم 8).

(١٦١)

قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا يَوْماً وَقَدْ تَمَسَّحْتُ(363) فِي الصَّرَاةِ وَأَنَا مُفَكِّرٌ فِيمَا خَرَجْتُ لَهُ إِذْ أَتَانِي آتٍ وَقَالَ لِي: أَجِبْ مَوْلَاكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَخْتَرِقُ بِيَ المَحَالَّ حَتَّى أَدْخَلَنِي دَاراً وَبُسْتَاناً، وَإِذَا بِمَوْلَايَ (عليه السلام) قَاعِدٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ كَلَّمَنِي بِالهِنْدِيَّةِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، وَأَخْبَرَنِي عَنِ اسْمِي، وَسَأَلَنِي عَنِ الأَرْبَعِينَ رَجُلاً بِأَسْمَائِهِمْ عَنِ اسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: «تُرِيدُ الحَجَّ مَعَ أَهْلِ قُمَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؟ فَلَا تَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَانْصَرِفْ إِلَى خُرَاسَانَ، وَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ»، قَالَ: وَرَمَى إِلَيَّ بِصُرَّةٍ، وَقَالَ: «اجْعَلْ هَذِهِ فِي نَفَقَتِكَ، وَلَا تَدْخُلْ فِي بَغْدَادَ إِلَى دَارِ أَحَدٍ، وَلَا تُخْبِرْ بِشَيْءٍ مِمَّا رَأَيْتَ».
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَانْصَرَفْنَا مِنَ العَقَبَةِ وَلَمْ يُقْضَ لَنَا الحَجُّ، وَخَرَجَ غَانِمٌ إِلَى خُرَاسَانَ وَانْصَرَفَ مِنْ قَابِلٍ حَاجًّا، فَبَعَثَ إِلَيْنَا(364) بِألطَافٍ وَلَمْ يَدْخُلْ قُمَّ، وَحَجَّ وَانْصَرَفَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَمَاتَ (رحمه الله) بِهَا(365).
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ عَنِ الكَابُليِّ(366) - وَقَدْ كُنْتُ رَأَيْتُهُ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ -، فَذَكَرَ(367) أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ كَابُلَ مُرْتَاداً أَوْ طَالِباً، وَأَنَّهُ وَجَدَ صِحَّةَ هَذَا الدِّينِ فِي الإِنْجِيلِ وَبِهِ اهْتَدَى.
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ بِنَيْسَابُورَ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ فَتَرَصَّدْتُ لَهُ حَتَّى لَقِيتُهُ، فَسَألتُهُ عَنْ خَبَرِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي الطَّلَبِ، وَأَنَّهُ أَقَامَ بِالمَدِينَةِ، فَكَانَ لَا يَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ إِلَّا زَجَرَهُ، فَلَقِيَ شَيْخاً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَهُوَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ العُرَيْضِيُّ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُهُ بِصُرْيَاءَ، قَالَ: فَقَصَدْتُ صُرْيَاءَ، فَجِئْتُ إِلَى دِهْلِيزٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(363) أي توضَّأت. وفي بعض النُّسَخ: (تمشَّيت)، وفي بعضها: (تمسَّيت) أي وصلت إليها في المساء. والصراة: نهران ببغداد كبرى وصغرى. وفي بعض النُّسَخ: (الفرات) مكان (الصراة).
(364) في بعض النُّسَخ: (إليه).
(365) إلى هنا انتهى ما في الكافي (ج 1/ ص 515 - 517/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 3).
(366) الظاهر هو رفيق أبي سعيد غانم.
(367) أي محمّد بن شاذان، يحتمل أبا سعيد، وهو بعيد.
(368) قد مرَّ بسندين آخرين تحت الرقم (275/34) و(290/49)، فراجع.

(١٦٢)

مَرْشُوشٍ، وَطَرَحْتُ نَفْسِي عَلَى الدُّكَّانِ، فَخَرَجَ إِلَيَّ غُلَامٌ أَسْوَدُ فَزَجَرَنِي وَانْتَهَرَنِي وَقَالَ لِي: قُمْ مِنْ هَذَا المَكَانِ وَانْصَرِفْ، فَقُلْتُ: لَا أَفْعَلُ، فَدَخَلَ الدَّارَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ وَقَالَ: ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا مَوْلَايَ (عليه السلام) قَاعِدٌ بِوَسَطِ الدَّارِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ سَمَّانِي بِاسْمٍ لِي لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلِي بِكَابُلَ، وَأَخْبَرَنِي بِأَشْيَاءَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ نَفَقَتِي قَدْ ذَهَبَتْ فَمُرْ لِي بِنَفَقَةٍ، فَقَالَ لِي: «أَمَا إِنَّهَا سَتَذْهَبُ مِنْكَ بِكَذِبِكَ»، وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، فَضَاعَ مِنِّي مَا كَانَتْ مَعِي وَسَلِمَ مَا أَعْطَانِي، ثُمَّ انْصَرَفْتُ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ فَلَمْ أَجِدْ فِي الدَّارِ أَحَداً.
[393/7] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الكُوفِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ المُثَنَّى العَطَّارِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «يَفْقِدُ النَّاسُ إِمَامَهُمْ، فَيَشْهَدُ المَوْسِمَ فَيَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ»(368).
[394/8] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ العَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَاللهِ إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الأَمْرِ لَيَحْضُرُ المَوْسِمَ كُلَّ سَنَةٍ فَيَرَى النَّاسَ وَيَعْرِفُهُمْ ويَرَوْنَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ(369).
[395/9] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: سَالتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ (رضي الله عنه)، فَقُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ صَاحِبَ هَذَا الأَمْرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَآخِرُ عَهْدِي بِهِ عِنْدَ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي»(370).
[396/10] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(369) رواه المصنِّف (رحمه الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 520/ ذيل الحديث 3115)، والطوسي(رحمه الله) في الغيبة (ص 363 و364/ ح 329).
(370) رواه المصنِّف (رحمه الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 520/ ذيل الحديث 3115)، والطوسي(رحمه الله) في الغيبة (ص 251 و364/ ح 222 و330).

(١٦٣)

ابْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ (رضي الله عنه) يَقُولُ: رَأَيْتُهُ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ) مُتَعَلِّقاً بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ فِي المُسْتَجَارِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ انْتَقِمْ لِي مِنْ أَعْدَائِي»(371).
[397/11] حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ البَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ الدَّقَّاقُ(372)، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ العَلَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي نَسِيمُ خَادِمَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى صَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ (عليه السلام) بَعْدَ مَوْلِدِهِ بِلَيْلَةٍ، فَعَطَسْتُ عِنْدَهُ، قَالَ لِي: «يَرْحَمُكِ اللهُ»، قَالَتْ نَسِيمُ: فَفَرِحْتُ [بِذَلِكَ]، فَقَالَ لِي (عليه السلام): «أَلَا أُبَشِّرُكِ فِي العُطَاسِ؟»، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «هُوَ أَمَانٌ مِنَ المَوْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»(373).
[398/12] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ العَلَوِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي طَرِيفٌ أَبُو نَصْرٍ(374)، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى صَاحِبِ الزَّمَانِ (عليه السلام)، فَقَالَ: «عَلَيَّ بِالصَّنْدَلِ الأَحْمَرِ»، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَتَعْرِفُنِي؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «مَنْ أَنَا؟»، فَقُلْتُ: أَنْتَ سَيِّدِي وَابْنُ سَيِّدِي، فَقَالَ: «لَيْسَ عَنْ هَذَا سَألتُكَ»، قَالَ طَرِيفٌ: فَقُلْتُ: جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ، فَبَيِّنْ لِي(375)، قَالَ: «أَنَا خَاتَمُ الأَوْصِيَاءِ، وَبِي يَدْفَعُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) البَلَاءَ عَنْ أَهْلِي وَشِيعَتِي»(376).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(371) المصدر السابق.
(372) في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسين الدقَّاق) كما مرَّ.
(373) قد مرَّ تحت الرقم (374/5)، فراجع.
(374) في بعض النُّسَخ: (أبو نصير).
(375) في بعض النُّسَخ: (فسِّر لي).
(376) رواه الخصيبي (رحمه الله) في الهداية الكبرى (ص 358)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 261)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 246/ ح 215)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 458/ ح 3).

(١٦٤)

[399/13] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللهِ البَلْخِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ السُّورِيُّ، قَالَ: صِرْتُ إِلَى بُسْتَانِ بَنِي عَامِرٍ، فَرَأَيْتُ غِلْمَاناً يَلْعَبُونَ فِي غَدِيرِ مَاءٍ وَفَتًى جَالِساً عَلَى مُصَلًّى وَاضِعاً كُمَّهُ عَلَى فِيهِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: (م ح م د) ابْنُ الحَسَنِ (عليه السلام)، وَكَانَ فِي صُورَةِ أَبِيهِ (عليه السلام)(377).
[400/14] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ العَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، فَقُلْتُ لِلْعَمْرِيِّ: إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ كَمَا قَالَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، هَلْ رَأَيْتَ صَاحِبِي؟ فَقَالَ لِي: نَعَمْ، وَلَهُ عُنُقٌ مِثْلُ ذِي - وَأَوْمَأَ بِيَدَيْهِ جَمِيعاً إِلَى عُنُقِهِ -، قَالَ: قُلْتُ: فَالاِسْمُ، قَالَ: إِيَّاكَ أَنْ تَبْحَثَ عَنْ هَذَا، فَإِنَّ عِنْدَ القَوْمِ أَنَّ هَذَا النَّسْلَ قَدِ انْقَطَعَ.
[401/15] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ العَمْرِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مَعْرُوفٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ البَلْخِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَنْبَرَ الكَبِيرِ مَوْلَى الرِّضَا (عليه السلام)، قَالَ: خَرَجَ صَاحِبُ الزَّمَانِ عَلَى جَعْفَرٍ الكَذَّابِ مِنْ مَوْضِعٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عِنْدَمَا نَازَعَ فِي المِيرَاثِ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقَالَ لَهُ: «يَا جَعْفَرُ، مَا لَكَ تَعَرَّضُ فِي حُقُوقِي؟»، فَتَحَيَّرَ جَعْفَرٌ وَبُهِتَ، ثُمَّ غَابَ عَنْهُ، فَطَلَبَهُ جَعْفَرٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يَرَهُ، فَلَمَّا مَاتَتِ الجَدَّةُ أُمُّ الحَسَنِ أَمَرَتْ أَنْ تُدْفَنَ فِي الدَّارِ، فَنَازَعَهُمْ وَقَالَ: هِيَ دَارِي لَا تُدْفَنُ فِيهَا، فَخَرَجَ (عليه السلام) فَقَالَ: «يَا جَعْفَرُ أَدَارُكَ هِيَ؟»، ثُمَّ غَابَ عَنْهُ فَلَمْ يَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ(378).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(377) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 959 و960).
(378) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 960).

(١٦٥)

[402/16] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الخُزَاعِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الأَسَدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الكُوفِيِ أَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَ مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ مِمَّنْ وَقَفَ عَلَى مُعْجِزَاتِ صَاحِبِ الزَّمَانِ (عليه السلام) وَرَآهُ مِنَ الوُكَلَاءِ بِبَغْدَادَ: العَمْرِيُّ وَابْنُهُ، وَحَاجِزٌ، وَالبِلَالِيُّ، وَالعَطَّارُ. وَمِنَ الكُوفَةِ: العَاصِمِيُّ. وَمِنْ أَهْلِ الأَهْوَازِ: مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ. وَمِنْ أَهْلِ قُمَّ: أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَمِنْ أَهْلِ هَمَدَانَ: مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ. وَمِنْ أَهْلِ الرَّيِّ: البَسَّامِيُّ، وَالأَسَدِيُّ - يَعْنِي نَفْسَهُ -. وَمِنْ أَهْلِ آذَرْبِيجَانَ: القَاسِمُ بْنُ العَلَاءِ. وَمِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ: مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ.
وَمِنْ غَيْرِ الوُكَلَاءِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ: أَبُو القَاسِمِ بْنُ أَبِي حُلَيْسٍ(379)، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الكِنْدِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الجُنَيْدِيُّ، وَهَارُونُ القَزَّازُ، وَالنِّيليُّ، وَأَبُو القَاسِمِ بْنُ دُبَيْسٍ(380)، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ فَرُّوخٍ، وَمَسْرُورٌ الطَّبَّاخُ مَوْلَى أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام)، وَأَحْمَدُ وَمُحَمَّدٌ ابْنَا الحَسَنِ، وَإِسْحَاقُ الكَاتِبُ مِنْ بَنِي نَيْبَخْتٍ(381)، وَصَاحِبُ النَّوَاءِ، وَصَاحِبُ الصُّرَّةِ المَخْتُومَةِ. وَمِنْ هَمَدَانَ: مُحَمَّدُ بْنُ كِشْمِرْدَ، وَجَعْفَرُ بْنُ حَمْدَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ. وَمِنَ الدِّينَوَرِ: حَسَنُ بْنُ هَارُونَ، وَأَحْمَدُ بْنُ أُخَيَّةَ(382)، وَأَبُو الحَسَنِ. وَمِنْ أَصْفَهَانَ: ابْنُ بَاذْشَالَةَ(383). وَمِنَ الصَّيْمَرَةِ: زَيْدَانُ. وَمِنْ قُمَّ: الحَسَنُ بْنُ النَّضْرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبُوهُ، وَالحَسَنُ بْنُ يَعْقُوبَ. وَمِنْ أَهْلِ الرَّيِّ: القَاسِمُ بْنُ مُوسَى وَابْنُهُ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ هَارُونَ، وَصَاحِبُ الحَصَاةِ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الكُلَيْنِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الرَّفَّاءُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(379) في بعض النُّسَخ: (أبي حابس)، وفي بعضها: (أبي عابس).
(380) في بعض النُّسَخ: (بن دميس)، وفي بعضها: (رميس)، وفي بعضها: (دبيش).
(381) كذا في النُّسَخ المصحَّحة. وفي نسخة: (بني نوبخت). وفي بعضها: (صاحب الفراء) مكان (صاحب النواء).
(382) في بعض النُّسَخ: (أحمد أخوه).
(383) في بعض النُّسَخ: (ابن پاشاكة).

(١٦٦)

وَمِنْ قَزْوِينَ: مِرْدَاسٌ، وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ. وَمِنْ فَاقْتَرَ(384): رَجُلَانِ. وَمِنْ شَهْرَزُورَ: ابْنُ الخَالِ. وَمِنْ فَارِسٍ: المَحْرُوجُ(385). وَمِنْ مَرْوَ: صَاحِبُ الألفِ دِينَارٍ، وَصَاحِبُ المَالِ وَالرُّقْعَةِ البَيْضَاءِ، وَأَبُو ثَابِتٍ. وَمِنْ نَيْسَابُورَ: مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ صَالِحٍ. وَمِنَ اليَمَنِ: الفَضْلُ بْنُ يَزِيدَ، وَالحَسَنُ ابْنُهُ، وَالجَعْفَرِيُّ، وَابْنُ الأَعْجَمِيِّ، وَالشِّمْشَاطِيُّ. وَمِنْ مِصْرَ: صَاحِبُ المَوْلُودَيْنِ(386)، وَصَاحِبُ المَالِ بِمَكَّةَ، وَأَبُو رَجَاءٍ. وَمِنْ نَصِيبِينَ: أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الوَجْنَاءِ. وَمِنَ الأَهْوَازِ: الحُصَيْنِيُ(387)،(388).
[403/17] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الكُوفِيُّ المَعْرُوفُ بِأَبِي القَاسِمِ الخَدِيجِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّقِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ وَجْنَاءَ النَّصِيبِيُّ، قَالَ: كُنْتُ سَاجِداً تَحْتَ المِيزَابِ فِي رَابِعِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ حِجَّةً بَعْدَ العَتَمَةِ، وَأَنَا أَتَضَرَّعُ فِي الدُّعَاءِ إِذْ حَرَّكَنِي مُحَرِّكٌ، فَقَالَ: قُمْ يَا حَسَنَ بْنَ وَجْنَاءَ، قَالَ: فَقُمْتُ فَإِذَا جَارِيَةٌ صَفْرَاءُ نَحِيفَةُ البَدَنِ أَقُولُ: إِنَّهَا مِنْ أَبْنَاءِ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَهَا، فَمَشَتْ بَيْنَ يَدَيَّ وَأَنَا لَا أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَتَتْ بِي إِلَى دَارِ خَدِيجَةَ (عليها السلام) وَفِيهَا بَيْتٌ بَابُهُ فِي وَسَطِ الحَائِطِ وَلَهُ دَرَجُ سَاجٍ يُرْتَقَى، فَصَعِدَتِ الجَارِيَةُ، وَجَاءَنِي النِّدَاءُ: «اصْعَدْ يَا حَسَنُ»، فَصَعِدْتُ، فَوَقَفْتُ بِالبَابِ، فَقَالَ لِي صَاحِبُ الزَّمَانِ (عليه السلام): «يَا حَسَنُ، أَتَرَاكَ خَفِيتَ عَلَيَّ، وَاللهِ مَا مِنْ وَقْتٍ فِي حَجِّكَ إِلَّا وَأَنَا مَعَكَ فِيهِ»، ثُمَّ جَعَلَ يَعُدُّ عَلَيَّ أَوْقَاتِي، فَوَقَعْتُ [مَغْشِيًّا] عَلَى وَجْهِي، فَحَسِسْتُ بِيَدٍ قَدْ وَقَعَتْ عَلَيَّ فَقُمْتُ، فَقَالَ لِي: «يَا حَسَنُ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(384) في بعض النُّسَخ: (قابس)، وفي بعض النُّسَخ: (قائن).
(385) في بعض النُّسَخ: (المحووج).
(386) في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (صاحبا المولودين). ولعلَّ المراد من سيجيء ذكرهما في باب ذكر التوقيعات.
(387) في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (الخصيبي)، وفي بعضها: (الحضيني).
(388) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 273 - 275).

(١٦٧)

الزَمْ دَارَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام)، وَلَا يُهِمَّنَّكَ طَعَامُكَ وَلَا شَرَابُكَ وَلَا مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَكَ»، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيَّ دَفْتَراً فِيهِ دُعَاءُ الفَرَجِ وَصَلَاةٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «بِهَذَا فَادْعُ، وَهَكَذَا صَلِّ عَلَيَّ، وَلَا تُعْطِهِ إِلَّا مُحِقِّي أَوْلِيَائِي فَإِنَّ اللهَ (جلّ جلاله) مُوَفِّقُكَ»، فَقُلْتُ: يَا مَوْلَايَ، لَا أَرَاكَ بَعْدَهَا؟ فَقَالَ: «يَا حَسَنُ، إِذَا شَاءَ اللهُ»، قَالَ: فَانْصَرَفْتُ مِنْ حِجَّتِي وَلَزِمْتُ دَارَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) فَأَنَا أَخْرُجُ مِنْهَا فَلَا أَعُودُ إِلَيْهَا إِلَّا لِثَلَاثِ خِصَالٍ: لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ، أَوْ لِنَوْمٍ، أَوْ لِوَقْتِ الإِفْطَارِ، وَأَدْخُلُ بَيْتِي وَقْتَ الإِفْطَارِ، فَأُصِيبُ رُبَاعِيًّا مَمْلُوءاً مَاءً وَرَغِيفاً عَلَى رَأْسِهِ وَعَلَيْهِ مَا تَشْتَهِي نَفْسِي بِالنَّهَارِ، فَآكُلُ ذَلِكَ فَهُوَ كِفَايَةٌ لِي، وَكِسْوَةُ الشِّتَاءِ فِي وَقْتِ الشِّتَاءِ، وَكِسْوَةُ الصَّيْفِ فِي وَقْتِ الصَّيْفِ، وَإِنِّي لَأَدْخُلُ المَاءَ بِالنَّهَارِ فَأَرُشُّ البَيْتَ وَأَدَعُ الكُوزَ فَارِغاً فَأُوتَى بِالطَّعَامِ(389)، وَلَا حَاجَةَ لِي إِلَيْهِ فَأَصَّدَّقُ بِهِ لَيْلاً كَيْ لَا يَعْلَمَ بِي مَنْ مَعِي(390).

[404/18] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو القَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الخَدِيجِيُّ الكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَزْدِيُّ(391)، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا فِي الطَّوَافِ قَدْ طُفْتُ سِتًّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَطُوفَ السَّابِعَ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ عَنْ يَمِينِ الكَعْبَةِ وَشَابٍّ حَسَنِ الوَجْهِ طَيِّبِ الرَّائِحَةِ هَيُوبٍ مَعَ هَيْبَتِهِ مُتَقَرِّبٌ إِلَى النَّاسِ يَتَكَلَّمُ، فَلَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْ كَلَامِهِ وَلَا أَعْذَبَ مِنْ نُطْقِهِ وَحُسْنِ جُلُوسِهِ، فَذَهَبْتُ أُكَلِّمُهُ، فَزَبَرَنِي النَّاسُ، فَسَالتُ بَعْضَهُمْ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا ابْنُ رَسُولِ اللهِ يَظْهَرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْماً لِخَوَاصِّهِ يُحَدِّثُهُمْ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، مُسْتَرْشِداً أَتَيْتُكَ فَأَرْشِدْنِي هَدَاكَ اللهُ، فَنَاوَلَنِي (عليه السلام) حَصَاةً، فَحَوَّلْتُ وَجْهِي، فَقَالَ لِي بَعْضُ جُلَسَائِهِ: مَا الَّذِي دَفَعَ إِلَيْكَ؟ فَقُلْتُ: حَصَاةً، وَكَشَفْتُ عَنْهَا فَإِذَا أَنَا بِسَبِيكَةِ ذَهَبٍ، فَذَهَبْتُ فَإِذَا أَنَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(389) في بعض النُّسَخ: (وأواني الطعام).
(390) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 612 و613/ ح 558/6)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 961 و962).
(391) مضطرب، ففي الغيبة للطوسي: (عن عليِّ بن إبراهيم الفدكي، عن الأودي).

(١٦٨)

بِهِ (عليه السلام) قَدْ لَحِقَنِي، فَقَالَ لِي: «ثَبَتَتْ عَلَيْكَ الحُجَّةُ، وَظَهَرَ لَكَ الحَقُّ، وَذَهَبَ عَنْكَ العَمَى، أَتَعْرِفُنِي؟»، فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ (عليه السلام): «أَنَا المَهْدِيُّ، [وَ]أَنَا قَائِمُ الزَّمَانِ، أَنَا الَّذِي أَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً، إِنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ، وَلَا يَبْقَى النَّاسُ فِي فَتْرَةٍ، وَهَذِهِ أَمَانَةٌ لَا تُحَدِّثْ بِهَا إِلَّا إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الحَقِّ»(392).
[405/19] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ(393)، قَالَ: قَدِمْتُ مَدِينَةَ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَبَحَثْتُ عَنْ أَخْبَارِ آلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الأَخِيرِ (عليهما السلام)، فَلَمْ أَقَعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَرَحَلْتُ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ مُسْتَبْحِثاً عَنْ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الطَّوَافِ إِذْ تَرَاءَى لِي فَتًى أَسْمَرُ اللَّوْنِ، رَائِعُ الحُسْنِ، جَمِيلُ المَخِيلَةِ، يُطِيلُ التَّوَسُّمَ فِيَّ، فَعُدْتُ إِلَيْهِ مُؤَمِّلًا مِنْهُ عِرْفَانَ مَا قَصَدْتُ لَهُ، فَلَمَّا قَرُبْتُ مِنْهُ سَلَّمْتُ، فَأَحْسَنَ الإِجَابَةَ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ أَيِّ البِلَادِ أَنْتَ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ، قَالَ: مِنْ أَيِّ العِرَاقِ؟ قُلْتُ: مِنَ الأَهْوَازِ، فَقَالَ: مَرْحَباً بِلِقَائِكَ، هَلْ تَعْرِفُ بِهَا جَعْفَرَ بْنَ حَمْدَانَ الحُصَيْنِيَّ(394)، قُلْتُ: دُعِيَ فَأَجَابَ، قَالَ: رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، مَا كَانَ أَطْوَلَ لَيْلَهُ وَأَجْزَلَ نَيْلَهُ، فَهَلْ تَعْرِفُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَهْزِيَارَ؟ قُلْتُ: أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْزِيَارَ، فَعَانَقَنِي مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، مَا فَعَلْتَ بِالعَلَامَةِ الَّتِي وَشَّجَتْ(395) بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)؟ فَقُلْتُ: لَعَلَّكَ تُرِيدُ الخَاتَمَ الَّذِي آثَرَنِيَ اللهُ بِهِ مِنَ الطَّيِّبِ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(392) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 253 و254/ ح 223)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 613 و614/ ح 559/7)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 784 و785/ ح 110).
(393) سيجيء نحو هذه الحكاية عن محمّد بن عليِّ بن مهزيار عن أبيه، واستُشكِلَ فيهما، لتقدُّم زمانهما من عصر الغيبة.
(394) في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (الخصيبي).
(395) في النهاية (ج 5/ ص 187): (منه حديث عليٍّ [(عليه السلام)]: «ووشَّج بينها وبين أزواجها»، أي خلَّط وألَّف، يقال: وشَّج الله بينهما توشيجاً).

(١٦٩)

عَلِيٍّ (عليهما السلام)؟ فَقَالَ: مَا أَرَدْتُ سِوَاهُ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ اسْتَعْبَرَ وَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَرَأَ كِتَابَتَهُ، فَكَانَتْ: (يَا اللهُ، يَا مُحَمَّدُ، يَا عَلِيُّ)، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي يَداً طَالَمَا جُلْتَ فِيهَا(396).
وَتَرَاخَى بِنَا فَنُونُ الأَحَادِيثِ(397)، إِلَى أَنْ قَالَ لِي: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، أَخْبِرْنِي عَنْ عَظِيمِ مَا تَوَخَّيْتَ بَعْدَ الحَجِّ، قُلْتُ: وَأَبِيكَ مَا تَوَخَّيْتُ إِلَّا مَا سَأَسْتَعْلِمُكَ مَكْنُونَهُ، قَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ فَإِنِّي شَارِحٌ لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ، قُلْتُ: هَلْ تَعْرِفُ مِنْ أَخْبَارِ آلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ (عليه السلام) شَيْئاً؟ قَالَ لِي: وَايْمُ اللهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ الضَّوْءَ بِجَبِينِ(398) مُحَمَّدٍ وَمُوسَى ابْنَيِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهم السلام)، ثُمَّ إِنِّي لَرَسُولُهُمَا إِلَيْكَ قَاصِداً لِإِنْبَائِكَ أَمْرَهُمَا، فَإِنْ أَحْبَبْتَ لِقَاءَهُمَا وَالاِكْتِحَالَ بِالتَّبَرُّكِ بِهِمَا فَارْتَحِلْ مَعِي إِلَى الطَّائِفِ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي خُفْيَةٍ مِنْ رِجَالِكَ وَاكْتِتَامٍ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَشَخَصْتُ مَعَهُ إِلَى الطَّائِفِ أَتَخَلَّلُ رَمْلَةً فَرَمْلَةً حَتَّى أَخَذَ فِي بَعْضِ مَخَارِجِ الفَلَاةِ، فَبَدَتْ لَنَا خَيْمَةُ شَعَرٍ، قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى أَكَمَةِ رَمْلٍ، تَتَلَأْلَأُ تِلْكَ البِقَاعُ مِنْهَا تَلَأْلُؤاً، فَبَدَرَنِي إِلَى الإِذْنِ، وَدَخَلَ مُسَلِّماً عَلَيْهِمَا، وَأَعْلَمَهُمَا بِمَكَانِي، فَخَرَجَ عَلَيَّ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الأَكْبَرُ سِنًّا (م ح م د) ابْنُ الحَسَنِ (عليهما السلام)، وَهُوَ غُلَامٌ أَمْرَدُ، نَاصِعُ اللَّوْنِ، وَاضِحُ الجَبِينِ، أَبْلَجُ الحَاجِبِ، مَسْنُونُ الخَدَّيْنِ، أَقْنَى الأَنْفِ، أَشَمُّ أَرْوَعُ، كَأَنَّهُ غُصْنُ بَانٍ، وَكَأَنَّ صَفْحَةَ غُرَّتِهِ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، بِخَدِّهِ الأَيْمَنِ خَالٌ كَأَنَّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(396) يعنى بأبي فديت يد أبي محمّد العسكري (عليه السلام) التي طالما جلت أيُّها الخاتم فيها. وفي بعض النُّسَخ: (بأبي بنان طالما جلت فيها).
(397) كذا في جميع النُّسَخ، ووقع في نسخة العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في البحار تصحيف.
(398) في بحار الأنوار: (الضريحين). وقال في بيانه: (البعيدين عن الناس). وقال: (قال الجوهري: الضريح: البعيد...) إلخ. والصريح: الخالص، والمراد خالص النسب. وفي بعض النُّسَخ: (الضويحين) تثنية الضويحة مصغَّر الضاحة بمعنى البصر والعين، والتصغير للمحبَّة. فالمعنى البصرين أو العينين المحبوبين، لكنَّه بعيد لما سيجيء تحت الرقم (408/22): (أتعرف الصريحين؟ قلت: نعم، قال: ومن هما؟ قلت: محمّد وموسى).

(١٧٠)

فُتَاتُ مِسْكٍ عَلَى بَيَاضِ الفِضَّةِ، وَإِذَا بِرَأْسِهِ وَفْرَةٌ سَحْمَاءُ(399) سَبِطَةٌ تُطَالِعُ شَحْمَةَ أُذُنِهِ، لَهُ سَمْتٌ مَا رَأَتِ العُيُونُ أَقْصَدَ مِنْهُ وَلَا أَعْرَفَ حُسْناً وَسَكِينَةً وَحَيَاءً.
فَلَمَّا مَثُلَ لِي أَسْرَعْتُ إِلَى تَلَقِّيهِ، فَأَكْبَبْتُ عَلَيْهِ الثِمُ كُلَّ جَارِحَةٍ مِنْهُ، فَقَالَ لِي: «مَرْحَباً بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، لَقَدْ كَانَتِ الأَيَّامُ تَعِدُنِي وُشْكَ لِقَائِكَ، وَالمَعَاتِبَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَلَى تَشَاحُطِ الدَّارِ وَتَرَاخِي المَزَارِ(400)، تَتَخَيَّلُ لِي صُورَتَكَ حَتَّى كَأَنَّا لَمْ نَخْلُ طَرْفَةَ عَيْنٍ مِنْ طِيبِ المُحَادَثَةِ وَخَيَالِ المُشَاهَدَةِ، وأَنَا أَحْمَدُ اللهَ رَبِّي وَلِيَّ الحَمْدِ عَلَى مَا قَيَّضَ مِنَ التَّلَاقِي وَرَفَّهَ مِنْ كُرْبَةِ التَّنَازُعِ(401) وَالاِسْتِشْرَافِ عَنْ أَحْوَالِهَا مُتَقَدِّمِهَا وَمُتَأَخِّرِهَا».
فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا زِلْتُ أَفْحَصُ عَنْ أَمْرِكَ بَلَداً فَبَلَداً مُنْذُ اسْتَأْثَرَ اللهُ بِسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَاسْتَغْلَقَ عَلَيَّ ذَلِكَ حَتَّى مَنَّ اللهُ عَلَيَّ بِمَنْ أَرْشَدَنِي إِلَيْكَ وَدَلَّنِي عَلَيْكَ، وَالشُّكْرُ للهِ عَلَى مَا أَوْزَعَنِي(402) فِيكَ مِنْ كَرِيمِ اليَدِ وَالطَّوْلِ.
ثُمَّ نَسَبَ نَفْسَهُ وَأَخَاهُ مُوسَى(403) وَاعْتَزَلَ بِي نَاحِيَةً، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ أَبِي (عليه السلام)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(399) الناصع: الخالص. والبلجة: نقاوة ما بين الحاجبين، يقال: رجل أبلج بيِّن البلج إذا لم يكن مقروناً. والمسنون: المملس، ورجل مسنون الوجه إذا كان في وجهه وأنفه طول. والشمم: ارتفاع في قصبة الأنف مع استواء أعلاه، فإنْ كان فيها احديداب فهو القنى. والوفرة: الشعرة إلى شحمة الأُذُن. والسحماء: السوداء. وشعر سبط أي مترسِّل غير جعد. والسمت: هيأة أهل الخير. (الصحاح للجوهري: ج 1/ ص 254/ مادَّة سمت).
(400) الوشك - بالفتح والضمِّ -: السرعة. والمعاتب المراضى من قولهم: استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني. وتشاحط الدار: تباعدها.
(401) التقييض: التيسير والتسهيل. والتنازع: التساوق، من قولهم: نازعت النفس إلى كذا أي اشتاقت. وفي بعض النُّسَخ: (التنارح) أي التباعد.
(402) أي ألهمني.
(403) هذا خلاف ما أجمعت عليه الشيعة الإماميَّة من أنَّه ليس لأبي محمّد ولد إلَّا القائم (عليه وعلى آبائه السلام)، فتأمَّل.

(١٧١)

عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لَا أُوَطِّنَ مِنَ الأَرْضِ إِلَّا أَخْفَاهَا وَأَقْصَاهَا إِسْرَاراً لِأَمْرِي، وَتَحْصِيناً لِمَحَلِّي، لِمَكَائِدِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالمَرَدَةِ مِنْ أَحْدَاثِ الأُمَمِ الضَّوَالِّ، فَنَبَذَنِي إِلَى عَالِيَةِ الرِّمَالِ، وَجُبْتُ صَرِائِمَ الأَرْضِ(404) يُنْظِرُنِي الغَايَةَ الَّتِي عِنْدَهَا يَحُلُّ الأَمْرُ وَيَنْجَلِي الهَلَعُ(405).
وَكَانَ (عليه السلام) أَنْبَطَ لِي(406) مِنْ خَزَائِنِ الحِكَمِ وَكَوَامِنِ العُلُومِ مَا إِنْ أَشَعْتُ إِلَيْكَ(407) مِنْهُ جُزْءاً أَغْنَاكَ عَنِ الجُمْلَةِ.
[وَاعْلَمْ] يَا أَبَا إِسْحَاقَ، أَنَّهُ قَالَ (عليه السلام): يَا بُنَيَّ، إِنَّ اللهَ (جَلَّ ثَنَاؤُهُ) لَمْ يَكُنْ لِيُخْلِيَ أَطْبَاقَ أَرْضِهِ وَأَهْلَ الجِدِّ فِي طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ بِلَا حُجَّةٍ يُسْتَعْلَى بِهَا، وَإِمَامٍ يُؤْتَمُّ بِهِ، وَيُقْتَدَى بِسَبِيلِ سُنَّتِهِ وَمِنْهَاجِ قَصْدِهِ، وَأَرْجُو يَا بُنَيَّ أَنْ تَكُونَ أَحَدَ مَنْ أَعَدَّهُ اللهُ لِنَشْرِ الحَقِّ وَوَطْءِ البَاطِلِ(408) وَإِعْلَاءِ الدِّينِ وَإِطْفَاءِ الضَّلَالِ، فَعَلَيْكَ يَا بُنَيَّ بِلُزُومِ خَوَافِي الأَرْضِ، وَتَتَبُّعِ أَقَاصِيهَا، فَإِنَّ لِكُلِّ وَلِيٍّ لِأَوْلِيَاءِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) عَدُوًّا مُقَارِعاً وَضِدًّا مُنَازِعاً افْتِرَاضاً لِمُجَاهَدَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَخَلَاعَةِ أُولِي الإلحَادِ والعِنَادِ، فَلَا يُوحِشَنَّكَ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قُلُوبَ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَالإِخْلَاصِ نُزَّعٌ إِلَيْكَ(409) مِثْلَ الطَّيْرِ إِلَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(404) العالية: كلُّ ما كان من جهة نجد من المدينة من قراها وعمائرها إلى تهامة العالية، وما كان دون ذلك السافلة. (مراصد الاطِّلاع: ج 2/ ص 911). وجبت صرائم الأرض: أي قطعت ودرت ما انصرم من معظم الرمل يعنى الأراضي المحصود زرعها. وفي بعض النُّسخ: (خبت) بالخاء المعجمة، وهو المطمئنُّ من الأرض فيه رمل.
(405) الهلع: الجزع.
(406) أنبط الحفار: بلغ الماء. ونبج الماء: نبع. والمراد أظهر وأفشى.
(407) في بعض النُّسَخ: (أشعب) أي أفرق وأجزء.
(408) في بعض النُّسَخ: (وطي الباطل).
(409) نُزَّع - كرُكَّع - أي مشتاقون إليك. وقد يُقرء: (تَرَع) بالتحريك، والترع - محرَّكة -: الإسراع إلى الشيء والامتلاء. في القاموس المحيط (ج 3/ ص 9): (ترع - كفرح - فهو ترع، وفلان اقتحم الأُمور مرحاً ونشاطاً فهو تريع)، ولعلَّ المختار أنسب كما في بحار الأنوار. لكن في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (إنَّ قلوب أهل الطاعة والإخلاص تترع أشدّ ترعاً إليك من الطير...) إلخ.

(١٧٢)

أَوْكَارِهَا، وَهُمْ مَعْشَرٌ يَطَّلِعُونَ بِمَخَائِلِ الذِّلَّةِ وَالاِسْتِكَانَةِ(410)، وَهُمْ عِنْدَ اللهِ بَرَرَةٌ أَعِزَّاءُ، يَبْرُزُونَ بِأَنْفُسٍ مُخْتَلِفَةٍ مُحْتَاجَةٍ(411)، وَهُمْ أَهْلُ القَنَاعَةِ وَالاِعْتِصَامِ، اسْتَنْبَطُوا الدِّينَ فَوَازَرُوهُ عَلَى مُجَاهَدَةِ الأَضْدَادِ، خَصَّهُمُ اللهُ بِاحْتِمَالِ الضَّيْمِ فِي الدُّنْيَا(412)، لِيَشْمُلَهُمْ بِاتِّسَاعِ العِزِّ فِي دَارِ القَرَارِ، وَجَبَلَهُمْ(413) عَلَى خَلَائِقِ الصَّبْرِ لِتَكُونَ لَهُمُ العَاقِبَةُ الحُسْنَى، وَكَرَامَةُ حُسْنِ العُقْبَى.
فَاقْتَبِسْ يَا بُنَيَّ نُورَ الصَّبْرِ عَلَى مَوَارِدِ أُمُورِكَ تَفُزْ بِدَرْكِ الصُّنْعِ فِي مَصَادِرِهَا، وَاسْتَشْعِرِ العِزَّ فِيمَا يَنُوبُكَ تُحْظَ بِمَا تُحْمَدُ غِبَّهُ إِنْ شَاءَ اللهُ(414)، وكَأَنَّكَ يَا بُنَيَّ بِتَأْيِيدِ نَصْرِ اللهِ [وَ]قَدْ آنَ، وَتَيْسِيرِ الفَلْجِ وَعُلُوِّ الكَعْبِ، [وَ]قَدْ حَانَ(415) وَكَأَنَّكَ بِالرَّايَاتِ الصُّفْرِ وَالأَعْلَامِ البِيضِ تَخْفِقُ عَلَى أَثْنَاءِ أَعْطَافِكَ(416) مَا بَيْنَ الحَطِيمِ وَزَمْزَمَ، وَكَأَنَّكَ بِتَرَادُفِ البَيْعَةِ وَتَصَافِي الوَلَاءِ(417) يَتَنَاظَمُ عَلَيْكَ تَنَاظُمَ الدُّرِّ فِي مَثَانِي العُقُودِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(410) أي يدخلون في أُمور هي مظانُّ المذلَّة، أو يطلعون ويخرجون بين الناس مع أحوال هي مظانُّها.
(411) في بعض النُّسَخ: (بررة أغرَّاء) بإعجام العين وإهمال الراء، جمع الأغرّ، من غرَّ الأماجد وغرَّ المحجَّلين. وفي بعض النُّسَخ: (بأنفس مخبلة محتاجة). والخبل: فساد العقل، والمختار هو الصواب.
(412) الضيم: الظلم.
(413) أي خلقهم وفطرهم.
(414) أي اصبر على المكاره والبلايا وما يرد عليك منها حتَّى تفوز بدرك ما صنع الله إليك ومعروفه لديك في إرجاع المكاره وصرفها عنك. واستشعر العزَّ في ما ينوبك، أي أضمر العزَّ والنصرة والغلبة في قلبك لأجل الغيبة من خوفك عن الناس، واصبر وانتظر الفرج فيما أصابك من هذه النوائب. أو اعلم وأيقن بأنَّ ما ينوبك من البلايا والمحن هو سبب لعزِّك وقربك وسعادتك. والغبُّ: المآل والعاقبة. وفي بعض النُّسَخ: (بما تُحمَد عليه).
(415) علوُّ الكعب كناية عن الغلبة والعزِّ والشرف.
(416) أثناء الشيء: قواه وطاقاته. والمراد بالأعطاف جوانبها. والخفق: الاضطراب، وخفقت الراية تحرَّك واضطرب.
(417) في الكنز: (تصافى) يعني الودُّ الخالص. وفي بعض النُّسَخ: (تصادف).

(١٧٣)

وَتَصَافُقَ الأَكُفِّ عَلَى جَنَبَاتِ الحَجَرِ الأَسْوَدِ(418) تَلُوذُ بِفِنَائِكَ مِنْ مَلَإٍ بَرَأَهُمُ اللهُ مِنْ طَهَارَةِ الوِلَادَةِ وَنَفَاسَةِ التُّرْبَةِ، مُقَدَّسَةً قُلُوبُهُمْ مِنْ دَنَسِ النِّفَاقِ، مُهَذَّبَةً أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ رِجْسِ الشِّقَاقِ، لَيِّنَةً عَرَائِكُهُمْ لِلدِّينِ(419)، خَشِنَةً ضَرَائِبُهُمْ عَنِ العُدْوَانِ، وَاضِحَةً بِالقَبُولِ أَوْجُهُهُمْ، نَضِرَةً بِالفَضْلِ عِيدَانُهُمْ(420)، يَدِينُونَ بِدِينِ الحَقِّ وَأَهْلِهِ، فَإِذَا اشْتَدَّتْ أَرْكَانُهُمْ وَتَقَوَّمَتْ أَعْمَادُهُمْ، فَدَّتْ بِمُكَانَفَتِهِمْ(421) طَبَقَاتُ الأُمَمِ إِلَى إِمَامٍ، إِذْ تَبِعَتْكَ فِي ظِلَالِ شَجَرَةِ دَوْحَةٍ تَشَعَّبَتْ أَفْنَانُ غُصُونِهَا عَلَى حَافَاتِ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ(422)، فَعِنْدَهَا يَتَلَأْلَأُ صُبْحُ الحَقِّ، وَيَنْجَلِي ظَلَامُ البَاطِلِ، وَيَقْصِمُ اللهُ بِكَ الطُّغْيَانَ، وَيُعِيدُ مَعَالِمَ الإِيمَانِ، يَظْهَرُ بِكَ اسْتِقَامَةُ الآفَاقِ وَسَلَامُ الرِّفَاقِ، يَوَدُّ الطِّفْلُ فِي المَهْدِ لَوِ اسْتَطَاعَ إِلَيْكَ نُهُوضاً، وَنَوَاشِطُ الوَحْشِ لَوْ تَجِدُ نَحْوَكَ مَجَازاً، تَهْتَزُّ بِكَ(423) أَطْرَافُ الدُّنْيَا بَهْجَةً، وَتَنْشُرُ عَلَيْكَ أَغْصَانُ العِزِّ نَضْرَةً، وَتَسْتَقِرُّ بَوَانِي الحَقِّ فِي قَرَارِهَا، وَتَؤُوبُ شَوَارِدُ الدِّينِ(424) إِلَى أَوْكَارِهَا، تَتَهَاطَلُ عَلَيْكَ سَحَائِبُ الظَّفَرِ، فَتَخْنُقُ كُلَّ عَدُوٍّ، وَتَنْصُرُ كُلَّ وَلِيٍّ، فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ جَبَّارٌ قَاسِطٌ وَلَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(418) أي العقود المثنيَّة المعقودة التي لا يتطرَّق إليها التبدُّد. أو في موضع ثنيِّها فإنَّها في تلك المواضع أجمع وأكثف. والتصافق: ضرب اليد على اليد عند البيعة، من صفقت له بالبيع أي ضربت بيدي على يده. والجنبات: الأطراف.
(419) العرائك: جمع عريكة وهي الطبيعة، وكذا الضرائب جمع ضريبة وهي الطبيعة أيضاً والسيف وحدُّه.
(420) العيدان - بالفتح -: الطوال من النخل.
(421) فدَّ يفدُّ - كفرَّ يفرُّ -: عدا وركض. والمكانفة: المعاونة. والأعماد: جمع عمود من غير قياس.
(422) إذ تبعتك: أي بايعك وتابعك هؤلاء المؤمنون. والدوحة: الشجرة العظيمة. والأفنان: الأغصان. وفي بعض النُّسَخ: (بسقت أفنان غصونها)، وبسق النخل بسوقاً: طال. والحافات: الجوانب.
(423) الناشط: الثور الوحشي يخرج من أرض إلى أرض. وتهتزُّ: أي تتحرَّك.
(424) بواني الحقِّ: أساسها. وفي بعض النُّسَخ: (بواني العزِّ) أي الخصال التي تبني العزَّ وتُؤسِّسها. وآب يؤوب أوباً فهو آبٍ أي راجع. وشرد البعير أي نفر فهو شارد. والوكر: عشُّ الطائر، جمعها أوكار. وتهاطل السحاب أي تتابع بالمطر.

(١٧٤)

جَاحِدٌ غَامِطٌ وَلَا شَانِئٌ مُبْغِضٌ وَلَا مُعَانِدٌ كَاشِحٌ(425)، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ [الطلاق: 3]».
ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا إِسْحَاقَ، لِيَكُنْ مَجْلِسِي هَذَا عِنْدَكَ مَكْتُوماً إِلَّا عَنْ أَهْلِ التَّصْدِيقِ وَالأُخُوَّةِ الصَّادِقَةِ فِي الدِّينِ، إِذَا بَدَتْ لَكَ أَمَارَاتُ الظُّهُورِ وَالتَّمَكُّنِ فَلَا تُبْطِئْ بِإِخْوَانِكَ عَنَّا، وَبَاهِرِ المُسَارَعَةَ(426) إِلَى مَنَارِ اليَقِينِ وَضِيَاءِ مَصَابِيحِ الدِّينِ تَلْقَ رُشْداً إِنْ شَاءَ اللهُ».
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْزِيَارَ: فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ حِيناً أَقْتَبِسُ مَا أُؤَدِّي إِلَيْهِمْ(427) مِنْ مُوضِحَاتِ الأَعْلَامِ وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، وَأَرْوِي نَبَاتَ الصُّدُورِ مِنْ نَضَارَةِ مَا ادَّخَرَهُ اللهُ فِي طَبَائِعِهِ مِنْ لَطَائِفِ الحِكَمِ وَطَرَائِفِ فَوَاضِلِ القِسَمِ حَتَّى خِفْتُ إِضَاعَةَ مُخَلَّفِي بِالأَهْوَازِ لِتَرَاخِي اللِّقَاءِ عَنْهُمْ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ بِالقُفُولِ، وَأَعْلَمْتُهُ عَظِيمَ مَا أَصْدُرُ بِهِ عَنْهُ مِنَ التَّوَحُّشِ لِفُرْقَتِهِ وَالتَّجَرُّعِ لِلظَّعْنِ عَنْ مَحَالِّهِ(428)، فَأَذِنَ وَأَرْدَفَنِي مِنْ صَالِحِ دُعَائِهِ مَا يَكُونُ لِي ذُخْراً عِنْدَ اللهِ وَلِعَقِبِي وَقَرَابَتِي إِنْ شَاءَ اللهُ.
فَلَمَّا أَزِفَ ارْتِحَالِي(429) وَتَهَيَّأَ اعْتِزَامُ نَفْسِي غَدَوْتُ عَلَيْهِ مُوَدِّعاً وَمُجَدِّداً لِلْعَهْدِ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ مَالاً كَانَ مَعِي يَزِيدُ عَلَى خَمْسِينَ الفَ دِرْهَمٍ، وَسَالتُهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِالأَمْرِ بِقَبُولِهِ مِنِّي، فَابْتَسَمَ وَقَالَ: «يَا أَبَا إِسْحَاقَ، اسْتَعِنْ بِهِ عَلَى مُنْصَرَفِكَ فَإِنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(425) الغامط: الحاقر للحقِّ، وغمط العافية لم يشكرها، وغمط أهله بطر بالنعمة. والشانئ: العائب. والكاشح: الذي يضمر لك العداوة.
(426) في هامش بعض النُّسَخ عن المحكم لابن سيِّدة: (بهر عليه أي غلبه وفاق على غيره في العلم والمسارعة) انتهى. وفي بعض النُّسَخ: (ناهز المسارعة)، وفي بحار الأنوار: (باهل المسارعة). ثمّ اعلم أنَّ هذه الجملة يتضمَّن بقاء إبراهيم بن مهزيار إلى يوم خروجه، ولا يخفى ما فيه.
(427) يعنى أُؤدِّي إلى إخواني. وقوله: (إليهم) ليس في بعض النُّسَخ.
(428) القفول: الرجوع من السفر. والظعن: السير والارتحال.
(429) أي دنا رجعتي. والاعتزام: العزم، أو لزوم القصد في المشي. وقد يُقرء (الاغترام) بالغين المعجمة والراء المهملة من الغرامة كأنَّه يغرم نفسه بسوء صنيعه في مفارقة مولاه.

(١٧٥)

الشُّقَّةَ قُذْفَةٌ وَفَلَوَاتِ الأَرْضِ أَمَامَكَ جُمَّةٌ(430)، وَلَا تَحْزَنْ لِإِعْرَاضِنَا عَنْهُ، فَإِنَّا قَدْ أَحْدَثْنَا لَكَ شُكْرَهُ وَنَشْرَهُ، وَرَبَضْنَاهُ عِنْدَنَا بِالتَّذْكِرَةِ وَقَبُولِ المِنَّةِ، فَبَارَكَ اللهُ فِيمَا خَوَّلَكَ، وَأَدَامَ لَكَ مَا نَوَّلَكَ(431)، وَكَتَبَ لَكَ أَحْسَنَ ثَوَابِ المُحْسِنِينَ وَأَكْرَمَ آثَارِ الطَّائِعِينَ، فَإِنَّ الفَضْلَ لَهُ وَمِنْهُ، وَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرُدَّكَ إِلَى أَصْحَابِكَ بِأَوْفَرِ الحَظِّ مِنْ سَلَامَةِ الأَوْبَةِ وَأَكْنَافِ الغِبْطَةِ بِلِينِ المُنْصَرَفِ، وَلَا أَوْعَثَ اللهُ لَكَ سَبِيلاً(432)، وَلَا حَيَّرَ لَكَ دَلِيلاً، وَاسْتَوْدِعْهُ نَفْسَكَ وَدِيعَةً لَا تَضِيعُ وَلَا تَزُولُ بِمَنِّهِ وَلُطْفِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ.
يَا أَبَا إِسْحَاقَ، قَنَّعَنَا بِعَوَائِدِ إِحْسَانِهِ وَفَوَائِدِ امْتِنَانِهِ، وَصَانَ أَنْفُسَنَا عَنْ مُعَاوَنَةِ الأَوْلِيَاءِ لَنَا عَنِ الإِخْلَاصِ فِي النِّيَّةِ، وَإِمْحَاضِ النَّصِيحَةِ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى مَا هُوَ أَنْقَى وَأَتْقَى وَأَرْفَعُ ذِكْراً(433)».
قَالَ: فَأَقْفَلْتُ عَنْهُ(434) حَامِداً للهِ (عزَّ وجلَّ) عَلَى مَا هَدَانِي وَأَرْشَدَنِي، عَالِماً بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيُعَطِّلَ أَرْضَهُ وَلَا يُخْلِيهَا مِنْ حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ، وَإِمَامٍ قَائِمٍ، وَألقَيْتُ(435) هَذَا الخَبَرَ المَأْثُورَ وَالنَّسَبَ المَشْهُورَ تَوَخِّياً لِلزِّيَادَةِ فِي بَصَائِرِ أَهْلِ اليَقِينِ، وَتَعْرِيفاً لَهُمْ مَا مَنَّ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ مِنْ إِنْشَاءِ الذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ وَالتُّرْبَةِ الزَّكِيَّةِ، وَقَصَدْتُ أَدَاءَ الأَمَانَةِ وَالتَّسْلِيمَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(430) الشقَّة - بالضمِّ والكسر -: البعد والناحية يقصدها المسافر، والسفر البعيد والمشقَّة. (القاموس). وفلاة قذف - محرَّكة وبضمَّتين وكصبور -: أي بعيدة. والجمَّة - بفتح الجيم وضمِّها -: معظم الشيء أو الكثير منه.
(431) ربضت الشاة: أقامت في مربضها. وربضه بالمكان تربيضاً ثبَّته فيه، والدوابّ: آواها في المربض. وخوَّله الشيء: أعطاه إيَّاه متفضِّلاً، أو ملَّكه إيَّاه. ونوَّله تنويلاً: أعطاه نوالاً، ونوَّله معروفه: أعطاه إيَّاه.
(432) الأوبة: الرجوع. والأكناف إمَّا بكسر الهمزة مصدر أكنفه أي صانه وحفظه وأعانه وأحاطه، أو بفتحها جمع الكنف - محرَّكة - وهو الحرز والستر والجانب والظلُّ والناحية. ووعث الطريق: تعسُّر سلوكه، والوعث: الطريق العسر، والوعثاء: المشقَّة.
(433) في بعض النُّسَخ: (ما هو أبقى وأتقى وأرفع ذكراً).
(434) أي رجعت عنه. وفي بعض النُّسَخ: (فأقلعت عنه) أي تركته.
(435) في بعض النُّسَخ: (وألفت).

(١٧٦)

لِمَا اسْتَبَانَ، لِيُضَاعِفَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) المِلَّةَ الهَادِيَةَ، وَالطَّرِيقَةَ المُسْتَقِيمَةَ المَرْضِيَّةَ(436) قُوَّةَ عَزْمٍ وَتَأْيِيدَ نِيَّةٍ، وَشِدَّةَ أُزُرٍ، وَاعْتِقَادَ عِصْمَةٍ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ(437).
[406/20] وَسَمِعْنَا شَيْخاً(438) مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيثِ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بْنُ فَارِسٍ الأَدِيبُ يَقُولُ: سَمِعْتُ بِهَمَدَانَ حِكَايَةً حَكَيْتُهَا كَمَا سَمِعْتُهَا لِبَعْضِ إِخْوَانِي، فَسَأَلَنِي أَنْ أُثْبِتَهَا لَهُ بِخَطِّي وَلَمْ أَجِدْ إِلَى مُخَالَفَتِهِ سَبِيلاً، وَقَدْ كَتَبْتُهَا وَعُهْدَتُهَا عَلَى مَنْ حَكَاهَا:
وَذَلِكَ أَنَّ بِهَمَدَانَ نَاساً يُعْرَفُونَ بِبَنِي رَاشِدٍ، وَهُمْ كُلُّهُمْ يَتَشَيَّعُونَ، وَمَذْهَبُهُمْ مَذْهَبُ أَهْلِ الإِمَامَةِ، فَسَالتُ عَنْ سَبَبِ تَشَيُّعِهِمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ هَمْدَانَ، فَقَالَ لِي شَيْخٌ مِنْهُمْ - رَأَيْتُ فِيهِ صَلَاحاً وَسَمْتاً -: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ جَدَّنَا الَّذِي نَنْتَسِبُ إِلَيْهِ خَرَجَ حَاجًّا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَـمَّا صَدَرَ مِنَ الحَجِّ وَسَارُوا مَنَازِلَ فِي البَادِيَةِ، قَالَ: فَنَشَطْتُ فِي النُّزُولِ وَالمَشْيِ، فَمَشَيْتُ طَوِيلاً حَتَّى أَعْيَيْتُ وَنَعَسْتُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَنَامُ نَوْمَةً تُرِيحُنِي، فَإِذَا جَاءَ أَوَاخِرُ القَافِلَةِ قُمْتُ، قَالَ: فَمَا انْتَبَهْتُ إِلَّا بِحَرِّ الشَّمْسِ وَلَمْ أَرَ أَحَداً، فَتَوَحَّشْتُ وَلَمْ أَرَ طَرِيقاً وَلَا أَثَراً، فَتَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَقُلْتُ: أَسِيرُ حَيْثُ وَجَّهَنِي، وَمَشَيْتُ غَيْرَ طَوِيلٍ، فَوَقَعْتُ فِي أَرْضٍ خَضْرَاءَ نَضْرَاءَ كَأَنَّهَا قَرِيبَةُ عَهْدٍ مِنْ غَيْثٍ، وَإِذَا تُرْبَتُهَا أَطْيَبُ تُرْبَةٍ، وَنَظَرْتُ فِي سَوَاءِ تِلْكَ الأَرْضِ(439) إِلَى قَصْرٍ يَلُوحُ كَأَنَّهُ سَيْفٌ، فَقُلْتُ: لَيْتَ شِعْرِي مَا هَذَا القَصْرُ الَّذِي لَمْ أَعْهَدْهُ وَلَمْ أَسْمَعْ بِهِ؟ فَقَصَدْتُهُ، فَلَمَّا بَلَغْتُ البَابَ رَأَيْتُ خَادِمَيْنِ أَبْيَضَيْنِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا فَرَدَّا رَدًّا جَمِيلاً، وَقَالَا: اجْلِسْ فَقَدْ أَرَادَ اللهُ بِكَ خَيْراً، فَقَامَ أَحَدُهُمَا وَدَخَلَ وَاحْتَبَسَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(436) في بعض النُّسَخ: (والطبقة المرضيَّة) مكان (والطريقة...) إلخ.
(437) راجع: بحار الأنوار (ج 52/ ص 32 - 40/ ح 28).
(438) في هامش بعض النُّسَخ وبحار الأنوار كذا: (القصَّة مذكورة في كتاب السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان عن أحوال صاحب الزمان، تأليف السيِّد عليِّ بن عبد الحميد).
(439) أي وسطها.

(١٧٧)

خَرَجَ فَقَالَ: قُمْ فَادْخُلْ، فَدَخَلْتُ قَصْراً لَمْ أَرَ بِنَاءً أَحْسَنَ مِنْ بِنَائِهِ وَلَا أَضْوَأَ مِنْهُ، فَتَقَدَّمَ الخَادِمُ إِلَى سِتْرٍ عَلَى بَيْتٍ فَرَفَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لِي: ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ البَيْتَ فَإِذَا فَتًى جَالِسٌ فِي وَسَطِ البَيْتِ وَقَدْ عُلِّقَ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنَ السَّقْفِ سَيْفٌ طَوِيلٌ تَكَادُ ظُبَتُهُ تَمَسُّ رَأْسَهُ(440)، وَالفَتَى [كَأَنَّهُ] بَدْرٌ يَلُوحُ فِي ظَلَامٍ، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ السَّلَامَ بِألطَفِ كَلَامٍ وَأَحْسَنِهِ، ثُمَّ قَالَ لِي: «أَتَدْرِي مَنْ أَنَا؟»، فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ، فَقَالَ: «أَنَا القَائِمُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أَنَا الَّذِي أَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِهَذَا السَّيْفِ - وَأَشَارَ إِلَيْهِ - فَأَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً».
فَسَقَطْتُ عَلَى وَجْهِي، وَتَعَفَّرْتُ، فَقَالَ: «لَا تَفْعَلْ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، أَنْتَ فُلَانٌ مِنْ مَدِينَةٍ بِالجَبَلِ يُقَالُ لَهَا: هَمَدَانُ؟»، فَقُلْتُ: صَدَقْتَ يَا سَيِّدِي وَمَوْلَايَ، قَالَ: «فَتُحِبُّ أَنْ تَئُوبَ إِلَى أَهْلِكَ؟»، فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا سَيِّدِي وَأُبَشِّرُهُمْ بِمَا أَتَاحَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لِي، فَأَوْمَأَ إِلَى الخَادِمِ، فَأَخَذَ بِيَدِي وَنَاوَلَنِي صُرَّةً وَخَرَجَ وَمَشَى مَعِي خُطُوَاتٍ، فَنَظَرْتُ إِلَى ظِلَالٍ وَأَشْجَارٍ وَمَنَارَةِ مَسْجِدٍ، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ هَذَا البَلَدَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ بِقُرْبِ بَلَدِنَا بَلْدَةً تُعْرَفُ بِأَسَدْآبَاذَ وَهِيَ تُشْبِهُهَا، قَالَ: فَقَالَ: هَذِهِ أَسَدْآبَاذُ امْضِ رَاشِداً، فَالتَفَتُّ فَلَمْ أَرَهُ.
فَدَخَلْتُ أَسَدْآبَاذَ وَإِذَا فِي الصُّرَّةِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ دِينَاراً، فَوَرَدْتُ هَمَدَانَ وَجَمَعْتُ أَهْلِي وَبَشَّرْتُهُمْ بِمَا يَسَّرَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لِي، وَلَمْ نَزَلْ بِخَيْرٍ مَا بَقِيَ مَعَنَا مِنْ تِلْكَ الدَّنَانِيرِ(441).
[407/21] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ النَّوْفَلِيُّ المَعْرُوفُ بِالكِرْمَانِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الوَشَّاءُ البَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(440) ظُبة السيف - بالضمِّ مخفَّفاً -: طرفه، وحدُّ السيف والسنان.
(441) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 605 و606/ ح 553/1)، وراجع: السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان (ص 62 - 64/ القصَّة 12)، وبحار الأنوار (ج 52/ ص 40 - 42/ ح 30).

(١٧٨)

أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ القُمِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرِ بْنِ سَهْلٍ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَسْرُورٍ(442)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ القُمِّيِّ، قَالَ: كُنْتُ امْرَأً لَهِجاً بِجَمْعِ الكُتُبِ المُشْتَمِلَةِ عَلَى غَوَامِضِ العُلُومِ وَدَقَائِقِهَا، كَلِفاً بِاسْتِظْهَارِ مَا يَصِحُّ لِي مِنْ حَقَائِقِهَا، مُغْرَماً(443) بِحِفْظِ مُشْتَبَهِهَا وَمُسْتَغْلَقِهَا، شَحِيحاً عَلَى مَا أَظْفَرُ بِهِ مِنْ مُعْضَلَاتِهَا(444) وَمُشْكِلَاتِهَا، مُتَعَصِّباً لِمَذْهَبِ الإِمَامِيَّةِ، رَاغِباً عَنِ الأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ، فِي انْتِظَارِ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ وَالتَّعَدِّي إِلَى التَّبَاغُضِ وَالتَّشَاتُمِ، مُعَيِّباً لِلْفِرَقِ ذَوِي الخِلَافِ، كَاشِفاً عَنْ مَثَالِبِ أَئِمَّتِهِمْ، هَتَّاكاً لِحُجُبِ قَادَتِهِمْ، إِلَى أَنْ بُلِيتُ بِأَشَدِّ النَّوَاصِبِ مُنَازَعَةً، وَأَطْوَلِهِمْ مُخَاصَمَةً، وَأَكْثَرِهِمْ جَدَلاً، وَأَشْنَعِهِمْ سُؤَالاً، وَأَثْبَتِهِمْ عَلَى البَاطِلِ قَدَماً.
فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ - وَأَنَا أُنَاظِرُهُ -: تَبًّا لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ يَا سَعْدُ، إِنَّكُمْ مَعَاشِرَ الرَّافِضَةِ تَقْصِدُونَ عَلَى المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ بِالطَّعْنِ عَلَيْهِمَا، وَتَجْحَدُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ وَلَايَتَهُمَا وَإِمَامَتَهُمَا، هَذَا الصِّدِّيقَ الَّذِي فَاقَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ بِشَرَفِ سَابِقَتِهِ، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ مَا أَخْرَجَهُ مَعَ نَفْسِهِ إِلَى الغَارِ إِلَّا عِلْماً مِنْهُ أَنَّ الخِلَافَةَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ المُقَلَّدُ لِأَمْرِ التَّأْوِيلِ وَالمُلْقَى إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الأُمَّةِ، وَعَلَيْهِ المُعَوَّلُ فِي شَعْبِ الصَّدْعِ، وَلَمِّ الشَّعَثِ، وَسَدِّ الخَلَلِ، وَإِقَامَةِ الحُدُودِ، وَتَسْرِيبِ الجُيُوشِ لِفَتْحِ بِلَادِ الشِّرْكِ(445)؟ وَكَمَا أَشْفَقَ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَشْفَقَ عَلَى خِلَافَتِهِ، إِذْ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الِاسْتِتَارِ وَالتَّوَارِي أَنْ يَرُومَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(442) رجال السند بعضهم مجهول الحال وبعضهم مهمل، والمتن متضمِّن لغرائب بعيد صدروها عن المعصوم (عليه السلام)، ويشتمل على أحكام تخالف ما صحَّ عنهم (عليهم السلام). مضافاً إلى أنَّ الواسطة بين الصدوق وسعد بن عبد الله في جميع كُتُبه واحدة أبوه أو محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد كما هو المحقَّق عند من تتبَّع كُتُبه ومشيخته، وهنا بين المصنِّف (رحمه الله) وسعد خمس وسائط. وقد رواه الطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة بثلاث وسائط هم غير ما هنا.
(443) لهجاً: أي حريصاً. كلفاً: أي مولعاً. مغرماً: أي محبًّا مشتاقاً.
(444) في بعض النُّسَخ: (معاضلها).
(445) تسريب الجيوش: بعثها قطعة قطعة.

(١٧٩)

الهَارِبُ مِنَ الشَّرِّ مُسَاعَدَةً إِلَى مَكَانٍ يَسْتَخْفِي فِيهِ، وَلَـمَّا رَأَيْنَا النَّبِيَّ مُتَوَجِّهاً إِلَى الاِنْجِحَارِ، وَلَمْ تَكُنِ الحَالُ تُوجِبُ اسْتِدْعَاءَ المُسَاعَدَةِ مِنْ أَحَدٍ، اسْتَبَانَ لَنَا قَصْدُ رَسُولِ اللهِ بِأَبِي بَكْرٍ لِلْغَارِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا، وَإِنَّمَا أَبَاتَ عَلِيًّا عَلَى فِرَاشِهِ لِمَا لَمْ يَكُنْ يَكْتَرِثُ بِهِ ولَمْ يَحْفِلْ بِهِ لِاسْتِثْقَالِهِ(446)، وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ إِنْ قُتِلَ لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ نَصْبُ غَيْرِهِ مَكَانَهُ لِلْخُطُوبِ الَّتِي كَانَ يَصْلُحُ لَهَا.
قَالَ سَعْدٌ: فَأَوْرَدْتُ عَلَيْهِ أَجْوِبَةً شَتَّى، فَمَا زَالَ يُعَقِّبُ(447) كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالنَّقْضِ وَالرَّدِّ عَلَيَّ.
ثُمَّ قَالَ: يَا سَعْدُ، وَدُونَكَهَا أُخْرَى بِمِثْلِهَا تُخْطَمُ أُنُوفُ الرَّوَافِضِ(448)، أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الصِّدِّيقَ المُبَرَّأَ مِنْ دَنَسِ الشُّكُوكِ وَالفَارُوقَ المُحَامِيَ عَنْ بَيْضَةِ الإِسْلَامِ كَانَا يُسِرَّانِ النِّفَاقَ، وَاسْتَدْلَلْتُمْ بِلَيْلَةِ العَقَبَةِ؟ أَخْبِرْنِي عَنِ الصِّدِّيقِ وَالفَارُوقِ أَسْلَمَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً؟
قَالَ سَعْدٌ: فَاحْتَلْتُ لِدَفْعِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ عَنِّي خَوْفاً مِنَ الالزَامِ، وَحَذَراً مِنْ أَنِّي إِنْ أَقْرَرْتُ لَهُ بِطَوْعِهِمَا(449) لِلْإِسْلَامِ احْتَجَّ بِأَنَّ بَدْءَ النِّفَاقِ وَنَشْأَهُ فِي القَلْبِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ هُبُوبِ رَوَائِحِ القَهْرِ وَالغَلَبَةِ، وَإِظْهَارِ البَأْسِ الشَّدِيدِ فِي حَمْلِ المَرْءِ عَلَى مَنْ لَيْسَ يَنْقَادُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ، نَحْوُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: 84 و85]، وَإِنْ قُلْتُ: أَسْلَمَا كَرْهاً، كَانَ يَقْصِدُنِي بِالطَّعْنِ إِذْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ سُيُوفٌ مُنْتَضَاةٌ(450) كَانَتْ تُرِيهِمَا البَأْسَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(446) ما اكترث له مع أكترث له: أي ما أُبالي. وما حفله وما حفل به: أي ما أُبالي به ولا أهتمُّ له.
(447) في بعض النُّسَخ: (يقصد).
(448) خطمه: أي ضرب أنفه.
(449) في بعض النُّسَخ: (بطواعيَّتهما).
(450) انتضى السيف: سلَّه.

(١٨٠)

قَالَ سَعْدٌ: فَصَدَرْتُ عَنْهُ مُزْوَرًّا(451) قَدِ انْتَفَخَتْ أَحْشَائِي مِنَ الغَضَبِ وَتَقَطَّعَ كَبِدِي مِنَ الكَرْبِ، وَكُنْتُ قَدِ اتَّخَذْتُ طُومَاراً وَأَثْبَتُّ فِيهِ نَيِّفاً وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً مِنْ صِعَابِ المَسَائِلِ لَمْ أَجِدْ لَهَا مُجِيباً، عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عَنْهَا خَبِيرَ أَهْلِ بَلَدِي أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ صَاحِبَ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَارْتَحَلْتُ خَلْفَهُ وَقَدْ كَانَ خَرَجَ قَاصِداً نَحْوَ مَوْلَانَا بِسُرَّ مَنْ رَأَى، فَلَحِقْتُهُ فِي بَعْضِ المَنَازِلِ، فَلَمَّا تَصَافَحْنَا قَالَ: بِخَيْرٍ لِحَاقُكَ بِي، قُلْتُ: الشَّوْقُ ثُمَّ العَادَةُ فِي الأَسْئِلَةِ، قَالَ: قَدْ تَكَافَيْنَا عَلَى هَذِهِ الخُطَّةِ الوَاحِدَةِ، فَقَدْ بَرِحَ بِيَ القَرَمُ(452) إِلَى لِقَاءِ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ مَعَاضِلَ فِي التَّأْوِيلِ وَمَشَاكِلَ فِي التَّنْزِيلِ، فَدُونَكَهَا الصُّحْبَةَ المُبَارَكَةَ، فَإِنَّهَا تَقِفُ بِكَ عَلَى ضَفَّةِ بَحْرٍ(453) لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا تَفْنَى غَرَائِبُهُ، وَهُوَ إِمَامُنَا.
فَوَرَدْنَا سُرَّ مَنْ رَأَى، فَانْتَهَيْنَا مِنْهَا إِلَى بَابِ سَيِّدِنَا، فَاسْتَأْذَنَّا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا الإِذْنُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَكَانَ عَلَى عَاتِقِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ جِرَابٌ قَدْ غَطَّاهُ بِكِسَاءٍ طَبَرِيٍّ فِيهِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ صُرَّةً مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، عَلَى كُلِّ صُرَّةٍ مِنْهَا خَتْمُ صَاحِبِهَا.
قَالَ سَعْدٌ: فَمَا شَبَّهْتُ وَجْهَ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) حِينَ غَشِيَنَا نُورُ وَجْهِهِ إِلَّا بِبَدْرٍ قَدِ اسْتَوْفَى مِنْ لَيَالِيهِ أَرْبَعاً بَعْدَ عَشْرٍ، وَعَلَى فَخِذِهِ الأَيْمَنِ غُلَامٌ يُنَاسِبُ المُشْتَرِيَ فِي الخِلْقَةِ وَالمَنْظَرِ، عَلَى رَأْسِهِ فَرْقٌ بَيْنَ وَفْرَتَيْنِ كَأَنَّهُ أَلِفٌ بَيْنَ وَاوَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْ مَوْلَانَا رُمَّانَةٌ ذَهَبِيَّةٌ تَلْمَعُ بَدَائِعُ نُقُوشِهَا وَسَطَ غَرَائِبِ الفُصُوصِ المُرَكَّبَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(451) الإزورار عن الشيء: العدول عنه.
(452) الخُطَّة - بالضمِّ -: شبه القصَّة والأمر والجهل. (ق). يعني تساوينا على هذه الحالة أي العادة في الأسئلة في القصَّة الواحدة في الأمر الواحد. وبرَّح به الأمر تبريحاً، وتباريح الشوق: توهُّجه. والقرم - محرَّكة -: شدَّة شهوة اللحم وكثر استعمالها حتَّى قيل في الشوق إلى الحبيب، والمراد هنا شدَّه الشوق. وفي بعض النُّسَخ: (برَّح بي الشوق).
(453) ضفة البحر: ساحله. وفي بعض النُّسَخ: (ثقف بك).

(١٨١)

عَلَيْهَا، قَدْ كَانَ أَهْدَاهَا إِلَيْهِ بَعْضُ رُؤَسَاءِ أَهْلِ البَصْرَةِ، وَبِيَدِهِ قَلَمٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْطُرَ بِهِ عَلَى البَيَاضِ شَيْئاً قَبَضَ الغُلَامُ عَلَى أَصَابِعِهِ، فَكَانَ مَوْلَانَا يُدَحْرِجُ الرُّمَّانَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَشْغَلُهُ بِرَدِّهَا كَيْ لَا يَصُدَّهُ عَنْ كِتَابَةِ مَا أَرَادَ(454)، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَالطَفَ فِي الجَوَابِ، وَأَوْمَأَ إِلَيْنَا بِالجُلُوسِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ كِتْبَةِ البَيَاضِ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ، أَخْرَجَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ جِرَابَهُ مِنْ طَيِّ كِسَائِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَنَظَرَ الهَادِي (عليه السلام)(455) إِلَى الغُلَامِ، وَقَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ، فُضَّ الخَاتَمَ عَنْ هَدَايَا شِيعَتِكَ وَمَوَالِيكَ»، فَقَالَ: «يَا مَوْلَايَ، أَيَجُوزُ أَنْ أَمُدَّ يَداً طَاهِرَةً إِلَى هَدَايَا نَجِسَةٍ وَأَمْوَالٍ رَجِسَةٍ قَدْ شِيبَ أَحَلُّهَا بِأَحْرَمِهَا؟»، فَقَالَ مَوْلَايَ: «يَا ابْنَ إِسْحَاقَ، اسْتَخْرِجْ مَا فِي الجِرَابِ لِيُمَيَّزَ مَا بَيْنَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ مِنْهَا»، فَأَوَّلُ صُرَّةٍ بَدَأَ أَحْمَدُ بِإِخْرَاجِهَا قَالَ الغُلَامُ: «هَذِهِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، مِنْ مَحَلَّةِ كَذَا بِقُمَّ، تَشْتَمِلُ عَلَى اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ دِينَاراً، فِيهَا مِنْ ثَمَنِ حَجِيرَةٍ بَاعَهَا صَاحِبُهَا وَكَانَتْ إِرْثاً لَهُ عَنْ أَبِيهِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِينَاراً، وَمِنْ أَثْمَانِ تِسْعَةِ أَثْوَابٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِينَاراً، وَفِيهَا مِنْ أُجْرَةِ الحَوَانِيتِ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ»، فَقَالَ مَوْلَانَا: «صَدَقْتَ يَا بُنَيَّ، دُلَّ الرَّجُلَ عَلَى الحَرَامِ مِنْهَا»، فَقَالَ (عليه السلام): «فَتِّشْ عَنْ دِينَارٍ رَازِيِّ السِّكَّةِ، تَأْرِيخُهُ سَنَةُ كَذَا، قَدِ انْطَمَسَ مِنْ نِصْفِ إِحْدَى صَفْحَتَيْهِ نَقْشُهُ، وَقُرَاضَةٍ آمُلِيَّةٍ وَزْنُهَا رُبُعُ دِينَارٍ، وَالعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِهَا أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الصُّرَّةِ وَزَنَ فِي شَهْرِ كَذَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(454) قال في هامش بحار الأنوار (ج 52/ ص 81) كذا: (فيه غرابة من حيث قبض الغلام (عليه السلام) على أصابع أبيه أبي محمّد (عليه السلام). وهكذا وجود رُمَّانة من ذهب يلعب بها لئلَّا يصدُّه عن الكتابة، وقد روى في الكافي (ج 1/ ص 311) عن صفوان الجمَّال، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صاحب هذا الأمر، فقال: «إنَّ صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب»، وأقبل أبو الحسن موسى وهو صغير ومعه عناق مكّيَّة وهو يقول لها: «اسجدي لربِّك»، فأخذه أبو عبد الله (عليه السلام) وضمَّه إليه، وقال: «بأبي وأُمِّي من لا يلهو ولا يلعب») انتهى. أقول: في طريق هذه الرواية معلَّى بن محمّد البصري، قال العلَّامة (رحمه الله) في حقِّه: مضطرب الحديث والمذهب. وكذا النجاشي. وقال ابن الغضائري: نعرف حديثه ونُنكِره، يروي عن الضعفاء، ويجوز أنْ يُخرَّج شاهداً. راجع: جامع الرواة (ج 2/ ص 251).
(455) كذا. ولعلَّه مصحَّف عن (مولاي (عليه السلام)).

(١٨٢)

مِنْ سَنَةِ كَذَا عَلَى حَائِكٍ مِنْ جِيرَانِهِ مِنَ الغَزْلِ مَنًّا وَرُبُعَ مَنٍّ فَأَتَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ، وَفِي انْتِهَائِهَا قَيَّضَ لِذَلِكَ الغَزْلِ سَارِقٌ، فَأَخْبَرَ بِهِ الحَائِكُ صَاحِبَهُ، فَكَذَّبَهُ وَاسْتَرَدَّ مِنْهُ بَدَلَ ذَلِكَ مَنًّا وَنِصْفَ مَنٍّ غَزْلاً أَدَقَّ مِمَّا كَانَ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَاتَّخَذَ مِنْ ذَلِكَ ثَوْباً، كَانَ هَذَا الدِّينَارُ مَعَ القُرَاضَةِ ثَمَنَهُ»، فَلَمَّا فَتَحَ رَأْسَ الصُّرَّةِ صَادَفَ رُقْعَةً فِي وَسْطِ الدَّنَانِيرِ بِاسْمِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ وَبِمِقْدَارِهَا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ، وَاسْتَخْرَجَ الدِّينَارَ وَالقُرَاضَةَ بِتِلْكَ العَلَامَةِ.
ثُمَّ أَخْرَجَ صُرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ الغُلَامُ: «هَذِهِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، مِنْ مَحَلَّةِ كَذَا بِقُمَّ، تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسِينَ دِينَاراً، لَا يَحِلُّ لَنَا لَمسُهَا»، قَالَ: «وَكَيْفَ ذَاكَ؟»، قَالَ: «لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَنِ حِنْطَةٍ حَافَ صَاحِبُهَا عَلَى أَكَّارِهِ فِي المُقَاسَمَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَبَضَ حِصَّتَهُ مِنْهَا بِكَيْلٍ وَافٍ، وَكَانَ مَا حَصَّ الأَكَّارَ بِكَيْلٍ بَخْسٍ»، فَقَالَ مَوْلَانَا: «صَدَقْتَ يَا بُنَيَّ».
ثُمَّ قَالَ: «يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، احْمِلْهَا بِأَجْمَعِهَا لِتَرُدَّهَا أَوْ تُوصِيَ بِرَدِّهَا عَلَى أَرْبَابِهَا، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَائْتِنَا بِثَوْبِ العَجُوزِ».
قَالَ أَحْمَدُ: وَكَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ فِي حَقِيبَةٍ لِي فَنَسِيتُهُ(456).
فَلَمَّا انْصَرَفَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ لِيَأْتِيَهُ بِالثَّوْبِ نَظَرَ إِلَيَّ مَوْلَانَا أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: «مَا جَاءَ بِكَ يَا سَعْدُ؟»، فَقُلْتُ: شَوَّقَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَلَى لِقَاءِ مَوْلَانَا، قَالَ: «وَالمَسَائِلُ الَّتِي أَرَدْتَ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْهَا؟»، قُلْتُ: عَلَى حَالِهَا يَا مَوْلَايَ، قَالَ: «فَسَلْ قُرَّةَ عَيْنِي - وَأَوْمَأَ إِلَى الغُلَامِ -»، فَقَالَ لِيَ الغُلَامُ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ مِنْهَا».
فَقُلْتُ لَهُ: مَوْلَانَا وابْنَ مَوْلَانَا، إِنَّا رُوِّينَا عَنْكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جَعَلَ طَلَاقَ نِسَائِهِ بِيَدِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، حَتَّى أَرْسَلَ يَوْمَ الجَمَلِ إِلَى عَائِشَةَ: «إِنَّكِ قَدْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(456) الحقيبة: ما يُجعَل في مؤخَّر القتب أو السرج من الخرج، ويقال له بالفارسيَّة: الهكبة.

(١٨٣)

أَرْهَجْتِ عَلَى الإِسْلَامِ(457) وَأَهْلِهِ بِفِتْنَتِكِ، وَأَوْرَدْتِ بَنِيكِ حِيَاضَ الهَلَاكِ بِجَهْلِكِ، فَإِنْ كَفَفْتِ عَنِّي غَرْبَكِ(458) وَإِلَّا طَلَّقْتُكِ»، وَنِسَاءُ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَدْ كَانَ طَلَاقُهُنَّ وَفَاتَهُ، قَالَ: «مَا الطَّلَاقُ؟»، قُلْتُ: تَخْلِيَةُ السَّبِيلِ، قَالَ: «فَإِذَا كَانَ طَلَاقُهُنَّ وَفَاةَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَدْ خُلِّيَتْ لَهُنَّ السَّبِيلُ، فَلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُنَّ الأَزْوَاجُ؟»، قُلْتُ: لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ الأَزْوَاجَ عَلَيْهِنَّ، قَالَ: «كَيْفَ وَقَدْ خَلَّى المَوْتُ سَبِيلَهُنَّ؟»، قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي يَا ابْنَ مَوْلَايَ عَنْ مَعْنَى الطَّلَاقِ الَّذِي فَوَّضَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حُكْمَهُ إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَقَدَّسَ اسْمُهُ عَظَّمَ شَأْنَ نِسَاءِ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَخَصَّهُنَّ بِشَرَفِ الأُمَّهَاتِ، فَقَالَ رَسُولُ الله: يَا أَبَا الحَسَنِ، إِنَّ هَذَا الشَّرَفَ بَاقٍ لَهُنَّ مَا دُمْنَ لِلهِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَأَيَّتُهُنَّ عَصَتِ اللهَ بَعْدِي بِالخُرُوجِ عَلَيْكَ فَأَطْلِقْ لَهَا فِي الأَزْوَاجِ، وَأَسْقِطْهَا مِنْ شَرَفِ أُمُومَةِ المُؤْمِنِينَ(459)».
قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الفَاحِشَةِ المُبَيِّنَةِ الَّتِي إِذَا أَتَتِ المَرْأَةُ بِهَا فِي عِدَّتِهَا حَلَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ بَيْتِهِ، قَالَ: «الفَاحِشَةُ المُبَيِّنَةُ هِيَ السَّحْقُ دُونَ الزِّنَا(460)، فَإِنَّ المَرْأَةَ إِذَا زَنَتْ وَأُقِيمَ عَلَيْهَا الحَدُّ لَيْسَ لِمَنْ أَرَادَهَا أَنْ يَمْتَنِعَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّزَوُّجِ بِهَا لِأَجْلِ الحَدِّ، وَإِذَا سَحَقَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الرَّجْمُ، وَالرَّجْمُ خِزْيٌ، وَمَنْ قَدْ أَمَرَ اللهُ بِرَجْمِهِ فَقَدْ أَخْزَاهُ، وَمَنْ أَخْزَاهُ فَقَدْ أَبْعَدَهُ، وَمَنْ أَبْعَدَهُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَبَهُ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(457) الإرهاج: إثارة الغبار.
(458) الغرب - بتقديم الغين المعجمة على الراء -: الحدَّة.
(459) في بعض النُّسَخ: (من شرف أُمَّهات المؤمنين).
(460) كذا، ولم يعمل به أحد من الفقهاء، بل فسَّروا الفاحشة بما يوجب الحدَّ أو إيذائها أهل الرجل بلسانها أو بفعلها، فتخرج للأوَّل لإقامة الحدِّ ثمّ تُرَدُّ إلى مسكنها عاجلاً. وفي الثاني تخرج إلى مسكن آخر يناسب حالها. ثمّ ما فيه أنَّ السحق يوجب الرجم أيضاً خلاف ما أجمعت الإماميَّة عليه من أنَّه كالزنا في الحدِّ، بل دون الزنا بإيجابه الجلد ولو كان من محصنة. وقد روى المصنِّف (رحمه الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 4/ ص 42 و43/ ح 5048) عن هشام وحفص البختري أنَّه دخل نسوة على أبي عبد الله (عليه السلام)، فسألته امرأة منهنَّ عن السحق، فقال: «حدُّها حدُّ الزاني...» الخبر.

(١٨٤)

قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ عَنْ أَمْرِ اللهِ لِنَبِيِّهِ مُوسَى (عليه السلام): ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوَى﴾ [طه: 12]، فَإِنَّ فُقَهَاءَ الفَرِيقَيْنِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ إِهَابِ المَيْتَةِ، فَقَالَ (عليه السلام): «مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدِ افْتَرَى عَلَى مُوسَى وَاسْتَجْهَلَهُ فِي نُبُوَّتِهِ(461)، لِأَنَّهُ مَا خَلَا الأَمْرُ فِيهَا مِنْ خَطِيئَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ مُوسَى فِيهِمَا جَائِزَةً أَوْ غَيْرَ جَائِزَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً جَازَ لَهُ لُبْسُهُمَا فِي تِلْكَ البُقْعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّسَةً مُطَهَّرَةً فَلَيْسَتْ بِأَقْدَسَ وَأَطْهَرَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ غَيْرَ جَائِزَةٍ فِيهِمَا فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَى مُوسَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ الحَلَالَ مِنَ الحَرَامِ وَمَا عَلِمَ مَا تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَمَا لَمْ تَجُزْ، وَهَذَا كُفْرٌ(462)».
قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي يَا مَوْلَايَ عَنِ التَّأْوِيلِ فِيهِمَا، قَالَ: «إِنَّ مُوسَى نَاجَى رَبَّهُ بِالوَادِ المُقَدَّسِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنِّي قَدْ أَخْلَصْتُ لَكَ المَحَبَّةَ مِنِّي، وَغَسَلْتُ قَلْبِي عَمَّنْ سِوَاكَ، وَكَانَ شَدِيدَ الحُبِّ لِأَهْلِهِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ أَيْ انْزِعْ حُبَّ أَهْلِكَ مِنْ قَلْبِكَ إِنْ كَانَتْ مَحَبَّتُكَ لِي خَالِصَةً، وَقَلْبَكَ مِنَ المَيْلِ إِلَى مَنْ سِوَايَ مَغْسُولاً(463)».
قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ عَنْ تَأْوِيلِ: ﴿كهيعص﴾ [مريم: 1]، قَالَ: «هَذِهِ الحُرُوفُ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ، أَطْلَعَ اللهُ عَلَيْهَا عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، ثُمَّ قَصَّهَا عَلَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(461) إنَّ موسى (عليه السلام) لم يكن نبيًّا حينذاك، فتأمَّل.
(462) غريب جدًّا، فإنَّ المصنِّف (رحمه الله) روى في علل الشرائع (ج 1/ ص 66/ باب 55/ ح 1): عن محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن الحسن الصفَّار، قال: حدَّثنا يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «قال الله (عزَّ وجلَّ) لموسى (عليه السلام): ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ لأنَّها من جلد حمار ميِّت»، والخبر صحيح أو حسن كالصحيح، مع أنَّ ابن الوليد الراوي للخبر هو من نقدة الآثار. ولا يعارضه خبر المتن من حيث السند.
(463) محبَّة الله تعالى خالصاً لم تكن مخالفاً لمحبَّة الأهل، وقد كان النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُحِبُّ فاطمة وبعلها وبنيها (عليهم السلام) حبًّا شديداً، فتأمَّل فيه، وهذه المطالب بعيد صدورها عن المعصوم، وربَّما تُقوِّي القول بموضوعيَّة الخبر، والعلم عند الله.

(١٨٥)

مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَسْمَاءَ الخَمْسَةِ، فَأَهْبَطَ عَلَيْهِ جَبْرَئِيلَ فَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا، فَكَانَ زَكَرِيَّا إِذَا ذَكَرَ مُحَمَّداً وَعَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَالحَسَنَ وَالحُسَيْنَ سُرِّيَ عَنْهُ هَمُّهُ وَانْجَلَى كَرْبُهُ، وَإِذَا ذَكَرَ الحُسَيْنَ خَنَقَتْهُ العَبْرَةُ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ البُهْرَةُ(464)، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا إِلَهِي، مَا بَالِي إِذَا ذَكَرْتُ أَرْبَعاً مِنْهُمْ تَسَلَّيْتُ بِأَسْمَائِهِمْ مِنْ هُمُومِي، وَإِذَا ذَكَرْتُ الحُسَيْنَ تَدْمَعُ عَيْنِي وَتَثُورُ زَفْرَتِي؟ فَأَنْبَأَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ قِصَّتِهِ، وَقَالَ: ﴿كهيعص﴾، فَالكَافُ اسْمُ كَرْبَلَاءَ، وَالهَاءُ هَلَاكُ العِتْرَةِ، وَاليَاءُ يَزِيدُ، وَهُوَ ظَالِمُ الحُسَيْنِ (عليه السلام)، وَالعَيْنُ عَطَشُهُ، وَالصَّادُ صَبْرُهُ(465). فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ زَكَرِيَّا لَمْ يُفَارِقْ مَسْجِدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَنَعَ فِيهَا النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى البُكَاءِ وَالنَّحِيبِ، وَكَانَتْ نُدْبَتُهُ: إِلَهِي أَتُفَجِّعُ خَيْرَ خَلْقِكَ بِوَلَدِهِ؟ إِلَهِي أَتُنْزِلُ بَلْوَى هَذِهِ الرَّزِيَّةِ بِفِنَائِهِ؟ إِلَهِي أَتُلْبِسُ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ ثِيَابَ هَذِهِ المُصِيبَةِ؟ إِلَهِي أَتُحِلُّ كُرْبَةَ هَذِهِ الفَجِيعَةِ بِسَاحَتِهِمَا؟ ثُمَّ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي وَلَداً تَقَرُّ بِهِ عَيْنِي عَلَى الكِبَرِ، وَاجْعَلْهُ وَارِثاً وَصِيًّا، وَاجْعَلْ مَحَلَّهُ مِنِّي مَحَلَّ الحُسَيْنِ، فَإِذَا رَزَقْتَنِيهِ فَافْتِنِّي بِحُبِّهِ، ثُمَّ فَجِّعْنِي بِهِ كَمَا تُفَجِّعُ مُحَمَّداً حَبِيبَكَ بِوَلَدِهِ. فَرَزَقَهُ اللهُ يَحْيَى وَفَجَّعَهُ بِهِ. وَكَانَ حَمْلُ يَحْيَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَحَمْلُ الحُسَيْنِ (عليه السلام) كَذَلِكَ، وَلَهُ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ».
قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي يَا مَوْلَايَ عَنِ العِلَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ القَوْمَ مِنِ اخْتِيَارِ إِمَامٍ لِأَنْفُسِهِمْ، قَالَ: «مُصْلِحٍ أَوْ مُفْسِدٍ؟»، قُلْتُ: مُصْلِحٍ، قَالَ: «فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ خِيَرَتُهُمْ عَلَى المُفْسِدِ بَعْدَ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَحَدٌ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ غَيْرِهِ مِنْ صَلَاحٍ أَوْ فَسَادٍ؟»، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «فَهِيَ العِلَّةُ، وَأُورِدُهَا لَكَ بِبُرْهَانٍ يَنْقَادُ لَهُ عَقْلُكَ(466)، أَخْبِرْنِي عَنِ الرُّسُلِ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ تَعَالَى وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الكِتَابَ وَأَيَّدَهُمْ بِالوَحْيِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(464) البهر: تتابع النفس وانقطاعه كما يحصل بعد الإعياء والعَدْو الشديد.
(465) وفُسِّر بغير ذلك، راجع: معاني الأخبار (ص 22 - 28/ باب معنى الحروف المقطَّعة في أوايل السور من القرآن)، وتفسير القمِّي (ج 2/ ص 48).
(466) في بعض النُّسَخ: (يثق بعقلك).

(١٨٦)

وَالعِصْمَةِ، إِذْ هُمْ أَعْلَامُ الأُمَمِ(467) وَأَهْدَى إِلَى الاِخْتِيَارِ مِنْهُمْ مِثْلُ مُوسَى وَعِيسَى (عليهما السلام)، هَلْ يَجُوزُ مَعَ وُفُورِ عَقْلِهِمَا وَكَمَالِ عِلْمِهِمَا إِذَا هَمَّا بِالاِخْتِيَارِ أَنْ يَقَعَ خِيَرَتُهُمَا عَلَى المُنَافِقِ وَهُمَا يَظُنَّانِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؟»، قُلْتُ: لَا، فَقَالَ: «هَذَا مُوسَى كَلِيمُ اللهِ مَعَ وُفُورِ عَقْلِهِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ اخْتَارَ مِنْ أَعْيَانِ قَوْمِهِ وَوُجُوهِ عَسْكَرِهِ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ سَبْعِينَ رَجُلاً مِمَّنْ لَا يَشُكُّ فِي إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، فَوَقَعَتْ خِيَرَتُهُ عَلَى المُنَافِقِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا﴾ [الأعراف: 155] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: 55]، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ [النساء: 153]، فَلَمَّا وَجَدْنَا اخْتِيَارَ مَنْ قَدِ اصْطَفَاهُ اللهُ لِلنُّبُوَّةِ وَاقِعاً عَلَى الأَفْسَدِ دُونَ الأَصْلَحِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ الأَصْلَحُ دُونَ الأَفْسَدِ، عَلِمْنَا أَنْ لَا اخْتِيَارَ إِلَّا لِمَنْ يَعْلَمُ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَمَا تَكِنُّ الضَّمَائِرُ وَتَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ السَّرَائِرُ، وَأَنْ لَا خَطَرَ لِاخْتِيَارِ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ بَعْدَ وُقُوعِ خِيَرَةِ الأَنْبِيَاءِ عَلَى ذَوِي الفَسَادِ لَـمَّا أَرَادُوا أَهْلَ الصَّلَاحِ».
ثُمَّ قَالَ مَوْلَانَا: «يَا سَعْدُ، وَحِينَ ادَّعَى خَصْمُكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لَـمَّا أَخْرَجَ مَعَ نَفْسِهِ مُخْتَارَ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلَى الغَارِ إِلَّا عِلْماً مِنْهُ أَنَّ الخِلَافَةَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ المُقَلَّدُ أُمُورَ التَّأْوِيلِ وَالمُلْقَى إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الأُمَّةِ وَعَلَيْهِ المُعَوَّلُ فِي لَمِّ الشَّعَثِ وَسَدِّ الخَلَلِ وَإِقَامَةِ الحُدُودِ وَتَسْرِيبِ الجُيُوشِ لِفَتْحِ بِلَادِ الكُفْرِ، فَكَمَا أَشْفَقَ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَشْفَقَ عَلَى خِلَافَتِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُكْمِ الاِسْتِتَارِ وَالتَّوَارِي أَنْ يَرُومَ الهَارِبُ مِنَ الشَّرِّ مُسَاعَدَةً مِنْ غَيْرِهِ إِلَى مَكَانٍ يَسْتَخْفِي فِيهِ، وَإِنَّمَا أَبَاتَ عَلِيًّا عَلَى فِرَاشِهِ لِمَا لَمْ يَكُنْ يَكْتَرِثُ لَهُ وَلَمْ يَحْفِلْ بِهِ لِاسْتِثْقَالِهِ إِيَّاهُ وَعِلْمِهِ أَنَّهُ إِنْ قُتِلَ لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ نَصْبُ غَيْرِهِ مَكَانَهُ لِلْخُطُوبِ الَّتِي كَانَ يَصْلُحُ لَهَا، فَهَلَّا نَقَضْتَ عَلَيْهِ دَعْوَاهُ بِقَوْلِكَ: أَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، فَجَعَلَ هَذِهِ مَوْقُوفَةً عَلَى أَعْمَارِ الأَرْبَعَةِ الَّذِينَ هُمُ الخُلَفَاءُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(467) كذا، والظاهر: أعلم الأُمَم.

(١٨٧)

الرَّاشِدُونَ فِي مَذْهَبِكُمْ؟ فَكَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَوْلِهِ لَكَ: بَلَى، قُلْتَ: فَكَيْفَ تَقُولُ حِينَئِذٍ، أَلَيْسَ كَمَا عَلِمَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنَّ الخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِهِ لِأَبِي بَكْرٍ عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ بَعْدِ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ وَمِنْ بَعْدِ عُمَرَ لِعُثْمَانَ وَمِنْ بَعْدِ عُثْمَانَ لِعَلِيٍّ؟ فَكَانَ أَيْضاً لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَوْلِهِ لَكَ: نَعَمْ، ثُمَّ كُنْتَ تَقُولُ لَهُ: فَكَانَ الوَاجِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنْ يُخْرِجَهُمْ جَمِيعاً [عَلَى التَّرْتِيبِ] إِلَى الغَارِ وَيُشْفِقَ عَلَيْهِمْ كَمَا أَشْفَقَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَا يَسْتَخِفَّ بِقَدْرِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ بِتَرْكِهِ إِيَّاهُمْ وَتَخْصِيصِهِ أَبَا بَكْرٍ وَإِخْرَاجِهِ مَعَ نَفْسِهِ دُونَهُمْ.
وَلَـمَّا قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الصِّدِّيقِ وَالفَارُوقِ أَسْلَمَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً؟ لِـمَ لَمْ تَقُلْ لَهُ: بَلْ أَسْلَمَا طَمَعاً؟ وَذَلِكَ بِأَنَّهُمَا كَانَا يُجَالِسَانِ اليَهُودَ وَيَسْتَخْبِرَانِهِمْ عَمَّا كَانُوا يَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي سَائِرِ الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ النَّاطِقَةِ بِالمَلَاحِمِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مِنْ قِصَّةِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَمِنْ عَوَاقِبِ أَمْرِهِ(468)، فَكَانَتِ اليَهُودُ تَذْكُرُ أَنَّ مُحَمَّداً يُسَلَّطُ عَلَى العَرَبِ كَمَا كَانَ بُخْتَنَصَّرُ سُلِّطَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الظَّفَرِ بِالعَرَبِ كَمَا ظَفِرَ بُخْتَنَصَّرُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، غَيْرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ نَبِيٌّ(469). فَأَتَيَا مُحَمَّداً فَسَاعَدَاهُ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَبَايَعَاهُ طَمَعاً فِي أَنْ يَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جِهَتِهِ وَلَايَةَ بَلَدٍ إِذَا اسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ وَاسْتَتَبَّتْ(470) أَحْوَالُهُ، فَلَمَّا أَيِسَا مِنْ ذَلِكَ تَلَثَّمَا وَصَعِدَا العَقَبَةَ مَعَ عِدَّةٍ مِنْ أَمْثَالِهِمَا مِنَ المُنَافِقِينَ عَلَى أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَدَفَعَ اللهُ تَعَالَى كَيْدَهُمْ وَرَدَّهُمْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، كَمَا أَتَى طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ عَلِيًّا (عليه السلام) فَبَايَعَاهُ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(468) قيل: هذا خلاف الاعتبار، لأنَّ أهل مكَّة كلّهم مشركون، وليس بينهم أهل الكتاب لاسيّما اليهود، مع أنَّهما ليسا من أهل التحقيق. وخبر إسلام الثاني مشهور، ولا يمتنع إيمان أحد طوعاً ثمّ كفره، كما لا يمتنع أنْ يكون مَلَكاً مقرَّباً ثمّ صار رجيماً كما هو حال كثير من الصحابة كطلحة والزبير وخالد بن الوليد وأضرابهم الذين ارتدُّوا.
(469) قيل: هذا مخالف لقوله تعالى في شأن اليهود: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ (البقرة: 89).
(470) استتبَّ له الأمر: أي استقام.

(١٨٨)

وَطَمَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنَالَ مِنْ جِهَتِهِ وَلَايَةَ بَلَدٍ، فَلَمَّا أَيِسَا نَكَثَا بَيْعَتَهُ وَخَرَجَا عَلَيْهِ، فَصَرَعَ اللهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَصْرَعَ أَشْبَاهِهِمَا مِنَ النَّاكِثِينَ».
قَالَ سَعْدٌ: ثُمَّ قَامَ مَوْلَانَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الهَادِي (عليه السلام) لِلصَّلَاةِ مَعَ الغُلَامِ، فَانْصَرَفْتُ عَنْهُمَا، وَطَلَبْتُ أَثَرَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، فَاسْتَقْبَلَنِي بَاكِياً، فَقُلْتُ: مَا أَبْطَأَكَ وَأَبْكَاكَ؟ قَالَ: قَدْ فَقَدْتُ الثَّوْبَ الَّذِي سَأَلَنِي مَوْلَايَ إِحْضَارَهُ، قُلْتُ: لَا عَلَيْكَ، فَأَخْبِرْهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُسْرِعاً وَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِهِ مُتَبَسِّماً وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: مَا الخَبَرُ؟ قَالَ: وَجَدْتُ الثَّوْبَ مَبْسُوطاً تَحْتَ قَدَمَيْ مَوْلَانَا يُصَلِّي عَلَيْهِ.
قَالَ سَعْدٌ: فَحَمِدْنَا اللهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، وَجَعَلْنَا نَخْتَلِفُ بَعْدَ ذَلِكَ اليَوْمِ إِلَى مَنْزِلِ مَوْلَانَا أَيَّاماً، فَلَا نَرَى الغُلَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الوَدَاعِ دَخَلْتُ أَنَا وَأَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَكَهْلَانِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا(471)، وَانْتَصَبَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِماً، وَقَالَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، قَدْ دَنَتِ الرِّحْلَةُ، وَاشْتَدَّ المِحْنَةُ(472)، فَنَحْنُ نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى المُصْطَفَى جَدِّكَ، وَعَلَى المُرْتَضَى أَبِيكَ، وَعَلَى سَيِّدَةِ النِّسَاءِ أُمِّكَ، وَعَلَى سَيِّدَيْ شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ عَمِّكَ وَأَبِيكَ، وَعَلَى الأَئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ مِنْ بَعْدِهِمَا آبَائِكَ، وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْكَ وَعَلَى وُلْدِكَ، وَنَرْغَبُ إِلَى اللهِ أَنْ يُعْلِيَ كَعْبَكَ وَيَكْبِتَ عَدُوَّكَ، وَلَا جَعَلَ اللهُ هَذَا آخِرَ عَهِدْنَا مِنْ لِقَائِكَ.
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ هَذِهِ الكَلِمَاتِ اسْتَعْبَرَ مَوْلَانَا حَتَّى اسْتَهَلَّتْ دُمُوعُهُ وَتَقَاطَرَتْ عَبَرَاتُهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَا ابْنَ إِسْحَاقَ، لَا تُكَلِّفْ فِي دُعَائِكَ شَطَطاً فَإِنَّكَ مُلَاقِ اللهَ تَعَالَى فِي صَدْرِكَ هَذَا»، فَخَرَّ أَحْمَدُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: سَألتُكَ بِاللهِ وَبِحُرْمَةِ جَدِّكَ إِلَّا شَرَّفْتَنِي بِخِرْقَةٍ أَجْعَلُهَا كَفَناً، فَأَدْخَلَ مَوْلَانَا يَدَهُ تَحْتَ البِسَاطِ، فَأَخْرَجَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَماً، فَقَالَ: «خُذْهَا وَلَا تُنْفِقْ عَلَى نَفْسِكَ غَيْرَهَا، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْدَمَ مَا سَالتَ، وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَنْ يَضِيعَ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(471) في بعض النُّسَخ: (من أهل أرضنا).
(472) في بعض النُّسَخ: (واستدَّ الراحلة).

(١٨٩)

قَالَ سَعْدٌ: فَلَمَّا انْصَرَفْنَا بَعْدَ مُنْصَرَفِنَا مِنْ حَضْرَةِ مَوْلَانَا مِنْ حُلْوَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ حُمَّ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَثَارَتْ بِهِ عِلَّةٌ صَعْبَةٌ أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ فِيهَا، فَلَمَّا وَرَدْنَا حُلْوَانَ وَنَزَلْنَا فِي بَعْضِ الخَانَاتِ دَعَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ كَانَ قَاطِناً بِهَا(473)، ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّقُوا عَنِّي هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَاتْرُكُونِي وَحْدِي، فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ وَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إِلَى مَرْقَدِهِ.
قَالَ سَعْدٌ: فَلَمَّا حَانَ أَنْ يَنْكَشِفَ اللَّيْلُ عَنِ الصُّبْحِ أَصَابَتْنِي فِكْرَةٌ(474)، فَفَتَحْتُ عَيْنِي، فَإِذَا أَنَا بِكَافُورٍ الخَادِمِ (خَادِمِ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)) وَهُوَ يَقُولُ: أَحْسَنَ اللهُ بِالخَيْرِ عَزَاكُمْ، وَجَبَرَ بِالمَحْبُوبِ رَزِيَّتَكُمْ، قَدْ فَرَغْنَا مِنْ غُسْلِ صَاحِبِكُمْ وَمِنْ تَكْفِينِهِ، فَقُومُوا لِدَفْنِهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَكْرَمِكُمْ مَحَلًّا عِنْدَ سَيِّدِكُمْ. ثُمَّ غَابَ عَنْ أَعْيُنِنَا، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى رَأْسِهِ بِالبُكَاءِ وَالعَوِيلِ حَتَّى قَضَيْنَا حَقَّهُ، وَفَرَغْنَا مِنْ أَمْرِهِ (رحمه الله)(475)،(476).
[408/22] حَدَّثَنَا أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(473) أي مقيماً بحلوان.
(474) في بعض النُّسَخ: (وكزة)، والوكز كالوعد: الدفع والطعن والضرب بجمع الكفِّ.
(475) اعلم أنَّ ما تضمَّنه الخبر من وفاة أحمد بن إسحاق القمِّي في حياة أبي محمّد العسكري (عليه السلام) مخالف لما أجمعت عليه الرجاليُّون من بقائه بعده (عليه السلام)، قال الشيخ في كتاب الغيبة (415 - 417): (وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قِبَل المنصوبين للسفارة من الأصل...)، ثمّ ساق الكلام إلى أنْ قال: (ومنهم أحمد بن إسحاق وجماعة خرج التوقيع في مدحهم، روى أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أبي محمّد الرازي، قال: كنت وأحمد بن أبي عبد الله بالعسكر، فورد علينا رسول من قِبَل الرجل، فقال: «أحمد بن إسحاق الأشعري، وإبراهيم بن محمّد الهمداني، وأحمد بن حمزة بن اليسع ثقات جميعاً»). وفي ربيع الشيعة لابن طاوس: أنَّه من السفراء والأبواب المعروفين الذين لا تختلف الشيعة القائلون بإمامة الحسن ابن عليٍّ (عليهما السلام) فيهم. راجع: منهج المقال (ج 2/ ص 27 و28).
(476) رواه الطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 506 - 517/ ح 492/96)، وراجع: بحار الأنوار (ج 52/ ص 78 - 89/ ح 1).

(١٩٠)

ابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوَالُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ جَدِّي عَلِيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ(477) يَقُولُ: كُنْتُ نَائِماً فِي مَرْقَدِي إِذْ رَأَيْتُ فِي مَا يَرَى النَّائِمُ قَائِلاً يَقُولُ لِي: حُجَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(477) في بعض النُّسَخ: (محمّد بن عليٍّ، قال: سمعت أبي يقول: سمعت جدِّي عليَّ بن مهزيار)، وهو كما ترى مضطرب، لأنَّ عليَّ بن إبراهيم أبوه دون جدِّه، وفي نسخة مصحَّحة: (محمّد بن الحسن بن عليِّ بن إبراهيم بن مهزيار، قال: سمعت أبي يقول: سمعت جدِّي عليَّ بن مهزيار) وجعل إبراهيم نسخة بدل لمهزيار. ولكن فيما يأتي بعد كلُّها: (عليّ بن مهزيار)، وفي بحار الأنوار: (سمعت جدِّي عليَّ بن مهزيار)، وكذا في ما يأتي في كلِّ المواضع: (عليّ بن مهزيار).
ثمّ اعلم أنَّ عليَّ بن إبراهيم بن مهزيار لم يكن مذكورا في كُتُب الرجال، بل المذكور أبو الحسن عليُّ ابن مهزيار وابنه محمّد بن عليٍّ وأبو إسحاق إبراهيم بن مهزيار وابنه محمّد بن إبراهيم، وكان عليُّ ابن مهزيار يروي عنه أخوه إبراهيم، وكان من أصحاب الرضا (عليه السلام)، ثمّ اختصَّ بأبي جعفر الثاني، وكذلك بأبي الحسن الثالث (عليهما السلام)، وتوكَّل لهم. وكان أبو إسحاق إبراهيم بن مهزيار من أصحاب أبي جعفر وأبي الحسن (عليهما السلام). وفي (ربيع الشيعة) أنَّه من وكلاء القائم، وكذا ابنه محمّد بن إبراهيم، وليس غير هؤلاء من أسماء أبناء مهزيار مذكورين في الرجال.
هذا، ثمّ اعلم أيضاً أنَّ ملاقاة عليِّ بن مهزيار للقائم (عليه السلام) بعيد جدًّا لتقدُّم زمانه، ففي الكافي (ج 4/ ص 310/ باب بدون العنوان/ ح 1) عن محمّد بن يحيى، عمَّن حدَّثه، عن إبراهيم بن مهزيار، قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام) أنَّ مولاك عليَّ بن مهزيار أوصى أنْ يُحَجَّ عنه من ضيعة صيَّر ربعها لك في كلِّ سنة حجَّة إلى عشرين ديناراً، وأنَّه قد انقطع طريق البصرة فتضاعف المؤونة على الناس فليس يكتفون بعشرين ديناراً، وكذلك أوصى عدَّة مواليك في حججهم، فكتب: «يُجعَل ثلاث حجج حجَّتين إنْ شاء الله»، وهذا الخبر وأمثاله ظاهرة في موت عليِّ بن مهزيار في أيَّام العسكري (عليه السلام) وعدم إدراكه عصر الغيبة.
وأمَّا ملاقاة أخيه إبراهيم بن مهزيار مع خصوصيَّات ذكره من سفره وبحثه عن أخبار آل أبي محمّد (عليه السلام) مع أنَّه من وكلائه فمستبعد أيضاً بحسب بعض الروايات، روى الكشِّي (رحمه الله) بإسناده عن محمّد بن إبراهيم بن مهزيار أنَّ أباه إبراهيم لـمَّا حضره الموت دفع إليه مالاً وأعطاه علامة وقال: من أتاك بها فادفع إليه، ولم يعلم بالعلامة إلَّا الله تعالى، ثمّ جاءه شيخ فقال: أنا العمري، هات المال الذي عندك، وهو كذا وكذا ومعه العلامة، فدفع إليه المال. (راجع: اختيار معرفة الرجال: ج 2/ ص 813/ ح 1015). وهو ظاهر في كونه من سفراء الصاحب (عليه السلام). وروى نحوه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 518/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 5)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 281 و282/ ح 239) أيضاً.

(١٩١)

فَإِنَّكَ تَلْقَى صَاحِبَ زَمَانِكَ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا فَرِحٌ مَسْرُورٌ(478)، فَمَا زِلْتُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى انْفَجَرَ عَمُودُ الصُّبْحِ، وَفَرَغْتُ مِنْ صَلَاتِي، وَخَرَجْتُ أَسْأَلُ عَنِ الحَاجِّ، فَوَجَدْتُ فِرْقَةً تُرِيدُ الخُرُوجَ، فَبَادَرْتُ مَعَ أَوَّلِ مَنْ خَرَجَ، فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ حَتَّى خَرَجُوا وَخَرَجْتُ بِخُرُوجِهِمْ أُرِيدُ الكُوفَةَ، فَلَمَّا وَافَيْتُهَا نَزَلْتُ عَنْ رَاحِلَتِي، وَسَلَّمْتُ مَتَاعِي إِلَى ثِقَاتِ إِخْوَانِي، وَخَرَجْتُ أَسْأَلُ عَنْ آلِ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ، فَلَمْ أَجِدْ أَثَراً، وَلَا سَمِعْتُ خَبَراً، وَخَرَجْتُ فِي أَوَّلِ مَنْ خَرَجَ أُرِيدُ المَدِينَةَ، فَلَمَّا دَخَلْتُهَا لَمْ أَتَمَالَكْ أَنْ نَزَلْتُ عَنْ رَاحِلَتِي، وَسَلَّمْتُ رَحْلِي إِلَى ثِقَاتِ إِخْوَانِي، وَخَرَجْتُ أَسْأَلُ عَنِ الخَبَرِ وَأَقْفُو الأَثَرَ، فَلَا خَبَراً سَمِعْتُ، وَلَا أَثَراً وَجَدْتُ، فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ نَفَرَ النَّاسُ إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ حَتَّى وَافَيْتُ مَكَّةَ، وَنَزَلْتُ فَاسْتَوْثَقْتُ مِنْ رَحْلِي، وَخَرَجْتُ أَسْأَلُ عَنْ آلِ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَلَمْ أَسْمَعْ خَبَراً، وَلَا وَجَدْتُ أَثَراً، فَمَا زِلْتُ بَيْنَ الإِيَاسِ وَالرَّجَاءِ مُتَفَكِّراً فِي أَمْرِي وَعَائِباً عَلَى نَفْسِي، وَقَدْ جَنَّ اللَّيْلُ، فَقُلْتُ: أَرْقُبُ إِلَى أَنْ يَخْلُوَ لِي وَجْهُ الكَعْبَةِ لِأَطُوفَ بِهَا وَأَسْأَلُ اللهَ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يُعَرِّفَنِي أَمَلِي فِيهَا، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ وَقَدْ خَلَا لِي وَجْهُ الكَعْبَةِ إِذْ قُمْتُ إِلَى الطَّوَافِ، فَإِذَا أَنَا بِفَتًى مَلِيحِ الوَجْهِ، طَيِّبِ الرَّائِحَةِ، مُتَّزِرٍ بِبُرْدَةٍ، مُتَّشِحٍ بِأُخْرَى، وَقَدْ عَطَفَ بِرِدَائِهِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَرُعْتُهُ(479)، فَالتَفَتَ إِلَيَّ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(478) في بعض النُّسَخ: (فانتبهت فرحاً مسروراً).
(479) أي خفته. وفي بعض النُّسَخ: (فحرَّكته).

(١٩٢)

فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: مِنَ الأَهْوَازِ، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ بِهَا ابْنَ الخَصِيبِ؟ فَقُلْتُ: رَحِمَهُ اللهُ دُعِيَ فَأَجَابَ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللهِ، لَقَدْ كَانَ بِالنَّهَارِ صَائِماً، وَبِاللَّيْلِ قَائِماً، وَلِلْقُرْآنِ تَالِياً، وَلَنَا مُوَالِياً، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ بِهَا عَلِيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَلِيٌّ، فَقَالَ: أَهْلاً وَسَهْلاً بِكَ يَا أَبَا الحَسَنِ، أَتَعْرِفُ الصَّرِيحَيْنِ(480)؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَنْ هُمَا؟ قُلْتُ: مُحَمَّدٌ وَمُوسَى، ثُمَّ قَالَ: مَا فَعَلْتَ العَلَامَةَ الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)؟ فَقُلْتُ: مَعِي، فَقَالَ: أَخْرِجْهَا إِلَيَّ، فَأَخْرَجْتُهَا إِلَيْهِ خَاتَماً حَسَناً عَلَى فَصِّهِ: (مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ)، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ بَكَى [مَلِيًّا وَرَنَّ شَجِيًّا، فَأَقْبَلَ يَبْكِي بُكَاءً] طَوِيلاً، وَهُوَ يَقُولُ: رَحِمَكَ اللهُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، فَلَقَدْ كُنْتَ إِمَاماً عَادِلاً، ابْنَ أَئِمَّةٍ وَأَبَا إِمَامٍ، أَسْكَنَكَ اللهُ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى مَعَ آبَائِكَ (عليهم السلام). ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا الحَسَنِ، صِرْ إِلَى رَحْلِكَ وَكُنْ عَلَى أُهْبَةٍ مِنْ كِفَايَتِكَ(481) حَتَّى إِذَا ذَهَبَ الثُّلُثُ مِنَ اللَّيْلِ وَبَقِيَ الثُّلُثَانِ فَالحَقْ بِنَا فَإِنَّكَ تَرَى مُنَاكَ [إِنْ شَاءَ اللهُ].
قَالَ ابْنُ مَهْزِيَارَ: فَصِرْتُ إِلَى رَحْلِي أُطِيلُ التَّفَكُّرَ حَتَّى إِذَا هَجَمَ الوَقْتُ(482)، فَقُمْتُ إِلَى رَحْلِي وَأَصْلَحْتُهُ، وَقَدَّمْتُ رَاحِلَتِي وَحَمَلْتُهَا وَصِرْتُ فِي مَتْنِهَا حَتَّى لَحِقْتُ الشِّعْبَ، فَإِذَا أَنَا بِالفَتَى هُنَاكَ يَقُولُ: أَهْلاً وَسَهْلاً بِكَ يَا أَبَا الحَسَنِ، طُوبَى لَكَ فَقَدْ أُذِنَ لَكَ، فَسَارَ وَسِرْتُ بِسَيْرِهِ حَتَّى جَازَ بِي عَرَفَاتٍ وَمِنًى، وَصِرْتُ فِي أَسْفَلَ ذِرْوَةِ جَبَلِ الطَّائِفِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا الحَسَنِ انْزِلْ وَخُذْ فِي أُهْبَةِ الصَّلَاةِ، فَنَزَلَ وَنَزَلْتُ حَتَّى فَرَغَ وَفَرَغْتُ، ثُمَّ قَالَ لِي: خُذْ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ وَأَوْجِزْ، فَأَوْجَزْتُ فِيهَا، وَسَلَّمَ وَعَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ رَكِبَ وَأَمَرَنِي بِالرُّكُوبِ فَرَكِبْتُ، ثُمَّ سَارَ وَسِرْتُ بِسَيْرِهِ حَتَّى عَلَا الذِّرْوَةَ، فَقَالَ: المَحْ هَلْ تَرَى شَيْئاً؟ فَلَمَحْتُ فَرَأَيْتُ بُقْعَةً نَزِهَةً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(480) تقدَّم الكلام فيه في (ص 170)، فراجع.
(481) في بعض النُّسَخ: (أُهبة السفر من لقائنا).
(482) في بعض النُّسَخ: (انهجم الليل).

(١٩٣)

كَثِيرَةَ العُشْبِ وَالكَلَاءِ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، أَرَى بُقْعَةً نَزِهَةً كَثِيرَةَ العُشْبِ وَالكَلَاءِ، فَقَالَ لِي: هَلْ تَرَى فِي أَعْلَاهَا شَيْئاً؟ فَلَمَحْتُ فَإِذَا أَنَا بِكَثِيبٍ مِنْ رَمْلٍ فَوْقَ بَيْتٍ مِنْ شَعْرٍ يَتَوَقَّدُ نُوراً، فَقَالَ لِي: هَلْ رَأَيْتَ شَيْئاً؟ فَقُلْتُ: أَرَى كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ مَهْزِيَارَ، طِبْ نَفْساً وَقَرَّ عَيْناً فَإِنَّ هُنَاكَ أَمَلَ كُلِّ مُؤَمِّلٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: انْطَلِقْ بِنَا، فَسَارَ وَسِرْتُ حَتَّى صَارَ فِي أَسْفَلِ الذِّرْوَةِ، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَهَاهُنَا يَذِلُّ لَكَ كُلُّ صَعْبٍ، فَنَزَلَ وَنَزَلْتُ حَتَّى قَالَ لِي: يَا ابْنَ مَهْزِيَارَ، خَلِّ عَنْ زِمَامِ الرَّاحِلَةِ، فَقُلْتُ: عَلَى مَنْ أُخَلِّفُهَا وَلَيْسَ هَاهُنَا أَحَدٌ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا حَرَمٌ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا وَلِيٌّ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا وَلِيٌّ، فَخَلَّيْتُ عَنِ الرَّاحِلَةِ، فَسَارَ وَسِرْتُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الخِبَاءِ سَبَقَنِي وَقَالَ لِي: قِفْ هُنَاكَ إِلَى أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ، فَمَا كَانَ إِلَّا هُنَيْئَةً فَخَرَجَ إِلَيَّ وَهُوَ يَقُولُ: طُوبَى لَكَ قَدْ أُعْطِيتَ سُؤْلَكَ.
قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ) وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى نَمَطٍ عَلَيْهِ نَطْعُ أَدِيمٍ(483) أَحْمَرَ، مُتَّكِئٌ عَلَى مِسْوَرَةِ أَدِيمٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، وَلَمَحْتُهُ فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ مِثْلَ فِلْقَةِ قَمَرٍ، لَا بِالخَرِقِ وَلَا بِالبَزِقِ، وَلَا بِالطَّوِيلِ الشَّامِخِ وَلَا بِالقَصِيرِ اللَّاصِقِ، مَمْدُودَ القَامَةِ، صَلْتَ الجَبِينِ، أَزَجَّ الحَاجِبَيْنِ(484)، أَدْعَجَ العَيْنَيْنِ، أَقْنَى الأَنْفِ(485)، سَهْلَ الخَدَّيْنِ، عَلَى خَدِّهِ الأَيْمَنِ خَالٌ، فَلَمَّا أَنْ بَصُرْتُ بِهِ حَارَ عَقْلِي فِي نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، فَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ مَهْزِيَارَ، كَيْفَ خَلَّفْتَ إِخْوَانَكَ فِي العِرَاقِ؟»، قُلْتُ: فِي ضَنْكِ عَيْشٍ وَهَنَاةٍ، قَدْ تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِمْ سُيُوفُ بَنِي الشَّيْصُبَانِ(486)، فَقَالَ: «قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، كَأَنِّي بِالقَوْمِ قَدْ قُتِلُوا فِي دِيَارِهِمْ وَأَخَذَهُمْ أَمْرُ رَبِّهِمْ لَيْلاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(483) النمط: ضرب من البُسُط. ويمكن أنْ يكون معرَّب نمد. والمسورة: متَّكأ من أدم.
(484) الدعج: سواد العين، وقيل: شدَّة سواد العين في شدَّة بياضها. والأزجُّ: الأدقُّ.
(485) أي ذو احديداب. وسهل الخدَّين: أي غير مرتفع الخدَّين لقلَّة لحمهما.
(486) الهناة: الشرُّ والفساد. والشيصبان: اسم شيطان، وقبيلة من الجنِّ، والذَّكَر من النحل.

(١٩٤)

وَنَهَاراً»، فَقُلْتُ: مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟ قَالَ: «إِذَا حِيلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ سَبِيلِ الكَعْبَةِ بِأَقْوَامٍ لَا خَلاقَ لَهُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُمْ بِرَاءٌ، وَظَهَرَتِ الحُمْرَةُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثاً فِيهَا أَعْمِدَةٌ كَأَعْمِدَةِ اللُّجَيْنِ تَتَلَأْلَأُ نُوراً، وَيَخْرُجُ السَّرُوسِيُّ(487) مِنْ إِرْمِينِيَّةَ وَآذَرْبِيجَانَ يُرِيدُ وَرَاءَ الرَّيِّ الجَبَلَ الأَسْوَدَ المُتَلَاحِمَ بِالجَبَلِ الأَحْمَرِ لَزِيقَ جَبَلِ طَالَقَانَ، فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَرْوَزِيِّ وَقْعَةٌ صَيْلَمَانِيَّةٌ(488) يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ مِنْهَا الكَبِيرُ، وَيَظْهَرُ القَتْلُ بَيْنَهُمَا، فَعِنْدَهَا تَوَقَّعُوا خُرُوجَهُ إِلَى الزَّوْرَاءِ(489)، فَلَا يَلْبَثُ بِهَا حَتَّى يُوَافِيَ بَاهَاتَ(490) ثُمَّ يُوَافِيَ وَاسِطَ العِرَاقِ، فَيُقِيمُ بِهَا سَنَةً أَوْ دُونَهَا، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى كُوفَانَ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ وَقْعَةٌ مِنَ النَّجَفِ إِلَى الحِيرَةِ إِلَى الغَرِيِّ وَقْعَةٌ شَدِيدَةٌ تَذْهَلُ مِنْهَا العُقُولُ، فَعِنْدَهَا يَكُونُ بَوَارُ الفِئَتَيْنِ، وَعَلَى اللهِ حَصَادُ البَاقِينَ»، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾ [يونس: 24]، فَقُلْتُ: سَيِّدِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، مَا الأَمْرُ؟ قَالَ: «نَحْنُ أَمْرُ اللهِ وَجُنُودُهُ»، قُلْتُ: سَيِّدِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، حَانَ الوَقْتُ؟ قَالَ: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَرُ﴾ [القمر: 1](491).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(487) نسبة إلى سروس - بالمهملتين أوَّله وآخره وربَّما قيل بالمعجمة في آخره -: مدينة نفيسة في جبل نفوسه بإفريقية، وأهلها خوارج أُباضيَّة، ليس بها جامع ولا منبر ولا في قرية من قراها، وهي نحو من ثلاثمائة قرية لم يتَّفقوا على رجل يُقدِّمونه للصلاة. (مراصد الاطِّلاع: ج 2/ ص 711). وفي بعض النُّسَخ: (الشروسي)، ولم أجده. وإرمينية - بالكسر -: كورة بالروم. (القاموس المحيط: ج 4/ ص 229).
(488) الصيلم: الأمر الشديد، ووقعة صيلمة أي مستأصلة. وفي نسخة: (صلبانيَّة).
(489) الزوراء: دجلة بغداد وموضع بالمدينة قرب المسجد، كما في القاموس المحيط (ج 2/ ص 42). وفي مراصد الاطِّلاع (ج 2/ ص 674): (دجلة بغداد، وأرض كانت لأحيحة بن الجلاح).
(490) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 46): (ماهان)، وقال: أي الدينور ونهاوند.
(491) احتمل العلَّامة المجلسي (رحمه الله) اتِّحاد هذا الخبر مع الذي تقدَّم تحت الرقم (405/19)، وقال: (العجب أنَّ محمّد بن أبي عبد الله عدَّ فيما مضى محمّد بن إبراهيم بن مهزيار ممَّن رآه (عليه السلام) (يعني الصاحب)، ولم يعد أحداً من هؤلاء)، ثمّ قال: (اعلم أنَّ اشتمال هذه الأخبار على أنَّ له (عليه السلام) أخاً مسمَّى بموسى غريب) (بحار الأنوار: ج 52/ ص 47).

(١٩٥)

[409/23] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمَدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو القَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ(492) العَلَوِيُّ الرَّقِّيُّ العُرَيْضِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ العَقِيقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ الأَنْصَارِيُّ الزَّيْدِيُّ، قَالَ: كُنْتُ بِمَكَّةَ عِنْدَ المُسْتَجَارِ وَجَمَاعَةً مِنَ المُقَصِّرَةِ(493) وَفِيهِمُ المَحْمُودِيُّ وَعَلَّانٌ الكُلَيْنِيُّ وَأَبُو الهَيْثَمِ الدِّينَارِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الأَحْوَلُ الهَمْدَانِيُّ، وَكَانُوا زُهَاءَ ثَلَاثِينَ رَجُلاً، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مُخْلِصٌ عَلِمْتُهُ غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ القَاسِمِ العَلَوِيِّ العَقِيقِيِّ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ فِي اليَوْمِ السَّادِسِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الهِجْرَةِ، إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا شَابٌّ مِنَ الطَّوَافِ عَلَيْهِ إِزَارَانِ مُحْرِمٌ [بِهِمَا]، وَفِي يَدِهِ نَعْلَانِ، فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ قُمْنَا جَمِيعاً هَيْبَةً لَهُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا قَامَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَعَدَ وَالتَفَتَ يَمِيناً وَشِمَالاً، ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ فِي دُعَاءِ الالحَاحِ؟»، قُلْنَا: وَمَا كَانَ يَقُولُ؟ قَالَ: «كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي بِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ، وَبِهِ تَقُومُ الأَرْضُ، وَبِهِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَبِهِ تَجْمَعُ بَيْنَ المُتَفَرِّقِ، وَبِهِ تُفَرِّقُ بَيْنَ المُجْتَمِعِ، وَبِهِ أَحْصَيْتَ عَدَدَ الرِّمَالِ، وَزِنَةَ الجِبَالِ، وَكَيْلَ البِحَارِ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَنْ تَجْعَلَ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجاً وَمَخْرَجاً».
ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ الطَّوَافَ، فَقُمْنَا لِقِيَامِهِ حِينَ انْصَرَفَ، وَأُنْسِينَا أَنْ نَقُولَ لَهُ: مَنْ هُوَ؟ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ خَرَجَ عَلَيْنَا مِنَ الطَّوَافِ، فَقُمْنَا كَقِيَامِنَا الأَوَّل بِالأَمْسِ، ثُمَّ جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ مُتَوَسِّطاً، ثُمَّ نَظَرَ يَمِيناً وَشِمَالاً، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ بَعْدَ صَلَاةِ الفَرِيضَةِ؟»، قُلْنَا: وَمَا كَانَ يَقُولُ؟ قَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(492) في النسخة المصحَّحة: (أبو القاسم جعفر بن محمّد).
(493) يعني في العمرة في الحجِّ.

(١٩٦)

«كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ رُفِعَتِ الأَصْوَاتُ، و[دُعِيَتِ الدَّعَوَاتُ]، وَلَكَ عَنَتِ الوُجُوهُ، وَلَكَ خَضَعَتِ الرِّقَابُ، وَإِلَيْكَ التَّحَاكُمُ فِي الأَعْمَالِ، يَا خَيْرَ مَسْؤُولٍ وَخَيْرَ مَنْ أَعْطَى، يَا صَادِقُ يَا بَارِئُ، يَا مَنْ لا يُخْلِفُ المِيعادَ، يَا مَنْ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَتَكَفَّلَ بِالإِجَابَةِ، يَا مَنْ قَالَ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، يَا مَنْ قَالَ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]، يَا مَنْ قَالَ: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]».
ثُمَّ نَظَرَ يَمِيناً وَشِمَالاً بَعْدَ هَذَا الدُّعَاءِ، فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ فِي سَجْدَةِ الشُّكْرِ؟»، قُلْنَا: وَمَا كَانَ يَقُولُ؟ قَالَ: «كَانَ يَقُولُ: يَا مَنْ لَا يَزِيدُهُ الحَاحُ المُلِحِّينَ إِلَّا جُوداً وَكَرَماً، يَا مَنْ لَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا مَنْ لَهُ خَزَائِنُ مَا دَقَّ وَجَلَّ، لَا تَمْنَعُكَ إِسَاءَتِي مِنْ إِحْسَانِكَ إِلَيَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَفْعَلَ بِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، وَأَنْتَ أَهْلُ الجُودِ وَالكَرَمِ وَالعَفْوِ، يَا رَبَّاهْ يَا اللهُ افْعَلْ بِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ فَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى العُقُوبَةِ وَقَدِ اسْتَحْقَقْتُهَا، لَا حُجَّةَ لِي وَلَا عُذْرَ لِي عِنْدَكَ، أَبُوءُ إِلَيْكَ بِذُنُوبِي كُلِّهَا، وأَعْتَرِفُ بِهَا كَيْ تَعْفُوَ عَنِّي، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي، بُؤْتُ إِلَيْكَ بِكُلِّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ، وَبِكُلِّ خَطِيئَةٍ أَخْطَأْتُهَا، وَبِكُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلْتُهَا، يَا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ».
وَقَامَ فَدَخَلَ الطَّوَافَ فَقُمْنَا لِقِيَامِهِ، وَعَادَ مِنْ غَدٍ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، فَقُمْنَا لِاسْتِقْبَالِهِ كَفِعْلِنَا فِيمَا مَضَى(494)، فَجَلَسَ مُتَوَسِّطاً وَنَظَرَ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَقَالَ: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ سَيِّدُ العَابِدِينَ (عليه السلام) يَقُولُ فِي سُجُودِهِ فِي هَذَا المَوْضِعِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الحِجْرِ نَحْوَ المِيزَابِ -: عُبَيْدُكَ بِفِنَائِكَ(495)، مِسْكِينُكَ بِبَابِكَ، أَسْأَلُكَ مَا لَا يَقْدِرُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(494) في بعض النُّسَخ: (لإقباله كقيامنا فيما مضى).
(495) زاد في بعض النُّسَخ: (فقيرك بفنائك).

(١٩٧)

عَلَيْهِ سِوَاكَ»، ثُمَّ نَظَرَ يَمِيناً وَشِمَالاً، وَنَظَرَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ القَاسِمِ العَلَوِيِّ، فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدَ بْنَ القَاسِمِ، أَنْتَ عَلَى خَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللهُ»، وَقَامَ فَدَخَلَ الطَّوَافَ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا وَقَدْ تَعَلَّمَ مَا ذَكَرَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَ[أُ]نْسِينَا أَنْ نَتَذَاكَرَ أَمْرَهُ إِلَّا فِي آخِرِ يَوْمٍ، فَقَالَ لَنَا المَحْمُودِيُّ: يَا قَوْمِ، أَتَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا وَاللهِ صَاحِبُ الزَّمَانِ (عليه السلام)، فَقُلْنَا: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ؟ فَذَكَرَ أَنَّهُ مَكَثَ يَدْعُو رَبَّهُ (عزَّ وجلَّ) وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُرِيَهُ صَاحِبَ الأَمْرِ سَبْعَ سِنِينَ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا يَوْماً فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ، فَإِذَا بِهَذَا الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ، فَدَعَا بِدُعَاءٍ وَعَيْتُهُ، فَسَالتُهُ مِمَّنْ هُوَ، فَقَالَ: «مِنَ النَّاسِ»، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ النَّاسِ مِنْ عَرَبِهَا أَوْ مَوَالِيهَا؟ فَقَالَ: «مِنْ عَرَبِهَا»، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ عَرَبِهَا؟ فَقَالَ: «مِنْ أَشْرَفِهَا وَأَشْمَخِهَا(496)»، فَقُلْتُ: وَمَنْ هُمْ؟ فَقَالَ: «بَنُو هَاشِمٍ»، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ بَنِي هَاشِمٍ؟ فَقَالَ: «مِنْ أَعْلَاهَا ذِرْوَةً وَأَسْنَاهَا رِفْعَةً»، فَقُلْتُ: وَمِمَّنْ هُمْ؟ فَقَالَ: «مِمَّنْ فَلَقَ الهَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ»، فَقُلْتُ: إِنَّهُ عَلَوِيٌّ، فَأَحْبَبْتُهُ عَلَى العَلَوِيَّةِ، ثُمَّ افْتَقَدْتُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، فَلَمْ أَدْرِ كَيْفَ مَضَى فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ، فَسَالتُ القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ: أَتَعْرِفُونَ هَذَا العَلَوِيَّ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَحُجُّ مَعَنَا كُلَّ سَنَةٍ مَاشِياً، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ وَاللهِ مَا أَرَى بِهِ أَثَرَ مَشْيٍ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ إِلَى المُزْدَلِفَةِ كَئِيباً حَزِيناً عَلَى فِرَاقِهِ، وَبِتُّ فِي لَيْلَتِي تِلْكَ، فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(497)، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، رَأَيْتَ طَلِبَتَكَ؟ فَقُلْتُ: وَمَنْ ذَاكَ يَا سَيِّدِي؟ فَقَالَ: الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي عَشِيَّتِكَ فَهُوَ صَاحِبُ زَمَانِكُمْ. فَلَمَّا سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْهُ عَاتَبْنَاهُ عَلَى أَلَّا يَكُونَ أَعْلَمَنَا ذَلِكَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ نَاسِياً أَمْرَهُ إِلَى وَقْتِ مَا حَدَّثَنَا(498).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(496) في بعض النُّسَخ: (من أسمحها).
(497) في بعض النُّسَخ: (فرأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
(498) رواه الطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 542 - 545/ ح 523/127)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 259 - 263/ ح 227).

(١٩٨)

وحدَّثنا بهذا الحديث عمَّار بن الحسين بن إسحاق الأُسروشني(499) (رضي الله عنه) بجبل بوتك من أرض فرغانة، قال: حدَّثني أبو العبَّاس أحمد بن الخضر، قال: حدَّثني أبو الحسين محمّد بن عبد الله الإسكافي، قال: حدَّثني سُلَيم، عن أبي نعيم الأنصاري(500)، قال: كنت بالمستجار بمكَّة أنا وجماعة من المقصِّرة فيهم المحمودي وعلَّان الكليني...، وذكر الحديث مثله سواء.
وحدَّثنا أبو بكر محمّد بن محمّد بن عليِّ بن محمّد بن حاتم، قال: حدَّثنا أبو الحسين عبيد الله بن محمّد بن جعفر القصباني البغدادي، قال: حدَّثني أبو محمّد عليُّ بن محمّد بن أحمد بن الحسين الماذرائي(501)، قال: حدَّثنا أبو جعفر محمّد بن عليٍّ المنقذي الحسني بمكَّة، قال: كنت جالساً بالمستجار وجماعة من المقصِّرة وفيهم المحمودي وأبو الهيثم الديناري وأبو جعفر الأحول وعلَّان الكليني والحسن بن وجناء، وكان زهاء ثلاثين رجلاً...، وذكر الحديث مثله سواء.
[410/24] حَدَّثَنَا أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ [عَلِيِّ بْنِ] مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الحُسَيْنِ الحَسَنَ بْنَ وَجْنَاءَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّهِ(502) أَنَّهُ كَانَ فِي دَارِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَكَبَسَتْنَا الخَيْلُ وَفِيهِمْ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ الكَذَّابُ، وَاشْتَغَلُوا بِالنَّهْبِ وَالغَارَةِ، وَكَانَتْ هِمَّتِي فِي مَوْلَايَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(499) في اللباب (ج 1/ ص 54): (الأُسروشني - بضمِّ الألف وسكون السين المهملة وضمِّ الراء وسكون الواو وفتح الشين المعجمة وفي آخرها نون -، هذه النسبة إلى أُسروشنة وهي بلدة كبيرة وراء سمرقند من سيحون، خرج منها جماعة من العلماء في كلِّ فنٍّ...) إلخ. وقال في مراصد الاطِّلاع (ج 1/ ص 72): (كذا ذكره السمعاني بالسين المهملة، والأشهر الأعرف أنَّه بالشين المعجمة). أقول: وفي بعض النُّسَخ: (أشروسني) كما في ضبط المراصد.
(500) هو محمّد بن أحمد الأنصاري. وفي بعض النُّسَخ: (سُلَيم بن أبي نعيم الأنصاري).
(501) في بعض النُّسَخ: (المادرائي) بإهمال الدال.
(502) في بعض النُّسَخ: (عن جدِّي).

(١٩٩)

القَائِمِ (عليه السلام). قَالَ: فَإِذَا [أَنَا] بِهِ (عليه السلام) قَدْ أَقْبَلَ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ (عليه السلام) ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، فَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ حَتَّى غَابَ(503).
وَوَجَدْتُ مُثْبَتاً فِي بَعْضِ الكُتُبِ المُصَنَّفَةِ فِي التَّوَارِيخِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَبَّادٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَاتَ أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) يَوْمَ جُمُعَةٍ مَعَ صَلَاةِ الغَدَاةِ، وَكَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَدْ كَتَبَ بِيَدِهِ كُتُباً كَثِيرَةً إِلَى المَدِينَةِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْهُ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الهِجْرَةِ، وَلَمْ يَحْضُرْ[هُ] فِي ذَلِكَ الوَقْتِ إِلَّا صَقِيلُ الجَارِيَةُ، وَعَقِيدٌ الخَادِمُ، وَمَنْ عَلِمَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) غَيْرُهُمَا.
قَالَ عَقِيدٌ: فَدَعَا بِمَاءٍ قَدْ أُغْلِيَ بِالمَصْطَكِي(504)، فَجِئْنَا بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ، هَيِّئُونِي»، فَجِئْنَا بِهِ وَبَسَطْنَا فِي حَجْرِهِ المِنْدِيلَ، فَأَخَذَ مِنْ صَقِيلَ المَاءَ، فَغَسَلَ بِهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَدَمَيْهِ مَسْحاً، وَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَخَذَ القَدَحَ لِيَشْرَبَ فَأَقْبَلَ القَدَحُ يَضْرِبُ ثَنَايَاهُ وَيَدُهُ تَرْتَعِدُ، فَأَخَذَتْ صَقِيلُ القَدَحَ مِنْ يَدِهِ.
وَمَضَى مِنْ سَاعَتِهِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ)، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا)، فَصَارَ إِلَى كَرَامَةِ اللهِ (جلّ جلاله)، وَقَدْ كَمَلَ عُمُرُهُ تِسْعاً وَعِشْرِينَ سَنَةً.
قَالَ: وَقَالَ لِي عَبَّادٌ فِي هَذَا الحَدِيثِ: قَدِمَتْ أُمُّ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) مِنَ المَدِينَةِ، وَاسْمُهَا: حَدِيثُ، حِينَ اتَّصَلَ بِهَا الخَبَرُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى، فَكَانَتْ لَهَا أَقَاصِيصُ يَطُولُ شَرْحُهَا مَعَ أَخِيهِ جَعْفَرٍ وَمُطَالَبَتُهُ إِيَّاهَا بِمِيرَاثِهِ وَسِعَايَتُهُ بِهَا إِلَى السُّلْطَانِ وَكَشْفُهُ مَا أَمَرَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِسَتْرِهِ، فَادَّعَتْ عِنْدَ ذَلِكَ صَقِيلُ أَنَّهَا حَامِلٌ، فَحُمِلَتْ إِلَى دَارِ المُعْتَمِدِ، فَجَعَلَ نِسَاءُ المُعْتَمِدِ وَخَدَمُهُ وَنِسَاءُ المُوَفَّقِ وَخَدَمُهُ وَنِسَاءُ القَاضِي ابْنِ أَبِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(503) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 960 و961).
(504) علك رومي. (العين للفراهيدي: ج 5/ ص 425).

(٢٠٠)

الشَّوَارِبِ يَتَعَاهَدْنَ أَمْرَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَيُرَاعُونَ إِلَى أَنْ دَهَمَهُمْ أَمْرُ الصِّغَارِ وَمَوْتُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ بَغْتَةً، وَخُرُوجُهُمْ مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَى، وَأَمْرُ صَاحِبِ الزِّنْجِ بِالبَصْرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَشَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْهَا.
وَقَالَ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ حَبَّابٌ(505): حَدَّثَنِي أَبُو الأَدْيَانِ، قَالَ: قَالَ عَقِيدٌ الخَادِمُ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ خَيْرَوَيْهِ التُّسْتَرِيُّ، وَقَالَ حَاجِزٌ الوَشَّاءُ(506)، كُلُّهُمْ حَكَوْا عَنْ عَقِيدٍ الخَادِمِ.
وَقَالَ أَبُو سَهْلِ بْنُ نَوْبَخْتَ: قَالَ عَقِيدٌ الخَادِمُ: وُلِدَ وَلِيُّ اللهِ الحُجَّةُ بْنُ الحَسَنِ ابْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) لَيْلَةَ الجُمُعَةِ غُرَّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ(507) سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الهِجْرَةِ، وَيُكَنَّى أَبَا القَاسِمِ، وَيُقَالُ: أَبُو جَعْفَرٍ، وَلَقَبُهُ المَهْدِيُّ، وَهُوَ حُجَّةُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) فِي أَرْضِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَأُمُّهُ صَقِيلُ الجَارِيَةُ، وَمَوْلِدُهُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى فِي دَرْبِ الرَّاضَةِ(508)، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَظْهَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَتَمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَهَى عَنْ ذِكْرِ خَبَرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَى ذِكْرَهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِهِ.
وَحَدَّثَ أَبُو الأَدْيَانِ، قَالَ: كُنْتُ أَخْدُمُ الحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، وَأَحْمِلُ كُتُبَهُ إِلَى الأَمْصَارِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي عِلَّتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ)، فَكَتَبَ مَعِي كُتُباً، وَقَالَ: «امْضِ بِهَا إِلَى المَدَائِنِ، فَإِنَّكَ سَتَغِيبُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، وَتَدْخُلُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ الخَامِسَ عَشَرَ، وَتَسْمَعُ الوَاعِيَةَ فِي دَارِي، وَتَجِدُنِي عَلَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(505) في بعض النُّسَخ: (قال أبو الحسن محمّد بن عليِّ بن حبَّاب)، وفي بعضها: (خشَّاب).
(506) في بعض النُّسَخ: (حاجب الوشَّاء)، وكذا ما يأتي.
(507) في بعض النُّسَخ: (ليلة الجمعة من شهر رمضان).
(508) في بعض النُّسَخ: (درب الرصافة)، وبعضها: (دار الرصافة).

(٢٠١)

المُغْتَسَلِ»، قَالَ أَبُو الأَدْيَانِ: فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَمَنْ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَبَكَ بِجَوَابَاتِ كُتُبِي فَهُوَ القَائِمُ مِنْ بَعْدِي»، فَقُلْتُ: زِدْنِي، فَقَالَ: «مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ فَهُوَ القَائِمُ بَعْدِي»، فَقُلْتُ: زِدْنِي، فَقَالَ: «مَنْ أَخْبَرَ بِمَا فِي الهِمْيَانِ فَهُوَ القَائِمُ بَعْدِي»، ثُمَّ مَنَعَتْنِي هَيْبَتُهُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَمَّا فِي الهِمْيَانِ.
وَخَرَجْتُ بِالكُتُبِ إِلَى المَدَائِنِ، وَأَخَذْتُ جَوَابَاتِهَا، وَدَخَلْتُ سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ الخَامِسَ عَشَرَ كَمَا ذَكَرَ لِي (عليه السلام)، فَإِذَا أَنَا بِالوَاعِيَةِ فِي دَارِهِ، وَإِذَا بِهِ عَلَى المُغْتَسَلِ، وَإِذَا أَنَا بِجَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ أَخِيهِ بِبَابِ الدَّارِ وَالشِّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يُعَزُّونَهُ وَيُهَنُّونَهُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ يَكُنْ هَذَا الإِمَامُ فَقَدْ بَطَلَتِ الإِمَامَةُ، لِأَنِّي كُنْتُ أَعْرِفُهُ يَشْرَبُ النَّبِيذَ، وَيُقَامِرُ فِي الجَوْسَقِ، وَيَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ، فَتَقَدَّمْتُ فَعَزَّيْتُ وَهَنَّيْتُ، فَلَمْ يَسْالنِي عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَقِيدٌ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، قَدْ كُفِّنَ أَخُوكَ، فَقُمْ وَصَلِّ عَلَيْهِ، فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ وَالشِّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يَقْدُمُهُمُ السَّمَّانُ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَتِيلُ المُعْتَصِمِ المَعْرُوفُ بِسَلَمَةَ.
فَلَمَّا صِرْنَا فِي الدَّارِ إِذَا نَحْنُ بِالحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ) عَلَى نَعْشِهِ مُكَفَّناً، فَتَقَدَّمَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ لِيُصَلِّيَ عَلَى أَخِيهِ، فَلَمَّا هَمَّ بِالتَّكْبِيرِ خَرَجَ صَبِيٌّ بِوَجْهِهِ سُمْرَةٌ، بِشَعْرِهِ قَطَطٌ، بِأَسْنَانِهِ تَفْلِيجٌ، فَجَبَذَ بِرِدَاءِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ: «تَأَخَّرْ يَا عَمِّ فَأَنَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَبِي»، فَتَأَخَّرَ جَعْفَرٌ، وَقَدِ ارْبَدَّ وَجْهُهُ وَاصْفَرَّ(509)، فَتَقَدَّمَ الصَّبِيُّ وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ أَبِيهِ (عليهما السلام)، ثُمَّ قَالَ: «يَا بَصْرِيُّ، هَاتِ جَوَابَاتِ الكُتُبِ الَّتِي مَعَكَ»، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ بَيِّنَتَانِ(510)، بَقِيَ الهِمْيَانُ.
ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ يَزْفِرُ، فَقَالَ لَهُ حَاجِزٌ الوَشَّاءُ: يَا سَيِّدِي، مَنِ الصَّبِيُّ؟ لِنُقِيمَ الحُجَّةَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ، وَلَا أَعْرِفُهُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(509) اربدَّ وجهه: أي تغيَّر إلى الغبرة.
(510) في بعض النُّسَخ: (هذه اثنتان).

(٢٠٢)

فَنَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ قُمَّ، فَسَأَلُوا عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَعَرَفُوا مَوْتَهُ، فَقَالُوا: فَمَنْ [نُعَزِّي]؟ فَأَشَارَ النَّاسُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَزَّوْهُ وَهَنَّوْهُ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعَنَا كُتُباً وَمَالاً، فَتَقُولُ مِمَّنِ الكُتُبُ، وَكَمِ المَالُ، فَقَامَ يَنْفُضُ أَثْوَابَهُ وَيَقُولُ: تُرِيدُونَ مِنَّا أَنْ نَعْلَمَ الغَيْبَ.
قَالَ: فَخَرَجَ الخَادِمُ، فَقَالَ: مَعَكُمْ كُتُبُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ [وَفُلَانٍ]، وَهِمْيَانٌ فِيهِ الفُ دِينَارٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْهَا مَطْلِيَّةٌ، فَدَفَعُوا إِلَيْهِ الكُتُبَ وَالمَالَ وَقَالُوا: الَّذِي وَجَّهَ بِكَ لِأَخْذِ ذَلِكَ(511) هُوَ الإِمَامُ.
فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى المُعْتَمِدِ وَكَشَفَ لَهُ ذَلِكَ، فَوَجَّهَ المُعْتَمِدُ بِخَدَمِهِ، فَقَبَضُوا عَلَى صَقِيلَ الجَارِيَةِ، فَطَالَبُوهَا بِالصَّبِيِّ، فَأَنْكَرَتْهُ وَادَّعَتْ حَبْلاً بِهَا لِتُغَطِّيَ حَالَ الصَّبِيِّ، فَسُلِّمَتْ إِلَى ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ القَاضِي، وَبَغَتَهُمْ مَوْتُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ فَجْأَةً، وَخُرُوجُ صَاحِبِ الزِّنْجِ بِالبَصْرَةِ، فَشُغِلُوا بِذَلِكَ عَنِ الجَارِيَةِ، فَخَرَجَتْ عَنْ أَيْدِيهِمْ، وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ(512).
[411/25] حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ الآبِيُّ العَرُوضِيُّ (رضي الله عنه) بِمَرْوَ، قَالَ: حَدَّثَنَا [أَبُو] الحُسَيْنِ [بْنُ] زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سِنَانٍ المَوْصِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: لَـمَّا قُبِضَ سَيِّدُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ العَسْكَرِيُّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا) وَفَدَ(513) مِنْ قُمَّ وَالجِبَالِ وُفُودٌ بِالأَمْوَالِ الَّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَى الرَّسْمِ وَالعَادَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ خَبَرُ وَفَاةِ الحَسَنِ (عليه السلام)، فَلَمَّا أَنْ وَصَلُوا إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى سَأَلُوا عَنْ سَيِّدِنَا الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ فُقِدَ، فَقَالُوا: وَمَنْ وَارِثُهُ؟ قَالُوا: أَخُوهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(511) في بعض النُّسَخ: (لأجل ذلك).
(512) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1101 - 1104/ ح 23).
(513) في بعض النُّسَخ: (أتى).

(٢٠٣)

جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ، فَسَأَلُوا عَنْهُ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ خَرَجَ مُتَنَزِّهاً، وَرَكِبَ زَوْرَقاً فِي دِجْلَةَ يَشْرَبُ وَمَعَهُ المُغَنُّونَ، قَالَ: فَتَشَاوَرَ القَوْمُ(514)، فَقَالُوا: هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ صِفَةِ الإِمَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: امْضُوا بِنَا حَتَّى نَرُدَّ هَذِهِ الأَمْوَالَ عَلَى أَصْحَابِهَا.
فَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ القُمِّيُّ: قِفُوا بِنَا حَتَّى يَنْصَرِفَ هَذَا الرَّجُلُ وَنَخْتَبِرَ أَمْرَهُ بِالصِّحَّةِ.
قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: يَا سَيِّدَنَا، نَحْنُ مِنْ أَهْلِ قُمَّ، وَمَعَنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهَا، وَكُنَّا نَحْمِلُ إِلَى سَيِّدِنَا أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الأَمْوَالَ، فَقَالَ: وَأَيْنَ هِيَ؟ قَالُوا: مَعَنَا، قَالَ: احْمِلُوهَا إِلَيَّ، قَالُوا: لَا، إِنَّ لِهَذِهِ الأَمْوَالِ خَبَراً طَرِيفاً، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الأَمْوَالَ تُجْمَعُ وَيَكُونُ فِيهَا مِنْ عَامَّةِ الشِّيعَةِ الدِّينَارُ وَالدِّينَارَانِ، ثُمَّ يَجْعَلُونَهَا فِي كِيسٍ وَيَخْتِمُونَ عَلَيْهِ، وَكُنَّا إِذَا وَرَدْنَا بِالمَالِ عَلَى سَيِّدِنَا أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «جُمْلَةُ المَالِ كَذَا وَكَذَا دِينَاراً، مِنْ عِنْدِ فُلَانٍ كَذَا، وَمِنْ عِنْدِ فُلَانٍ كَذَا» حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى أَسْمَاءِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَيَقُولُ مَا عَلَى الخَوَاتِيمِ مِنْ نَقْشٍ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: كَذَبْتُمْ، تَقُولُونَ عَلَى أَخِي مَا لَا يَفْعَلُهُ، هَذَا عِلْمُ الغَيْبِ وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ القَوْمُ كَلَامَ جَعْفَرٍ جَعَلَ بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ لَهُمْ: احْمِلُوا هَذَا المَالَ إِلَيَّ، قَالُوا: إِنَّا قَوْمٌ مُسْتَأْجِرُونَ وُكَلَاءُ لِأَرْبَابِ المَالِ، وَلَا نُسَلِّمُ المَالَ إِلَّا بِالعَلَامَاتِ الَّتِي كُنَّا نَعْرِفُهَا مِنْ سَيِّدِنَا الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَإِنْ كُنْتَ الإِمَامَ فَبَرْهِنْ لَنَا وَإِلَّا رَدَدْنَاهَا إِلَى أَصْحَابِهَا، يَرَوْنَ فِيهَا رَأْيَهُمْ.
قَالَ: فَدَخَلَ جَعْفَرٌ عَلَى الخَلِيفَةِ - وَكَانَ بِسُرَّ مَنْ رَأَى -، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أُحْضِرُوا قَالَ الخَلِيفَةُ: احْمِلُوا هَذَا المَالَ إِلَى جَعْفَرٍ، قَالُوا: أَصْلَحَ اللهُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ

 

(514) في بعض النُّسَخ: (فتثوَّر القوم).

(٢٠٤)

إِنَّا قَوْمٌ مُسْتَأْجِرُونَ وُكَلَاءُ لِأَرْبَابِ هَذِهِ الأَمْوَالِ، وَهِيَ وَدَاعَةٌ لِجَمَاعَةٍ، وَأَمَرُونَا بِأَنْ لَا نُسَلِّمَهَا إِلَّا بِعَلَامَةٍ وَدَلَالَةٍ، وَقَدْ جَرَتْ بِهَذِهِ العَادَةِ مَعَ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَقَالَ الخَلِيفَةُ: فَمَا كَانَتِ العَلَامَةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ أَبِي مُحَمَّدٍ؟ قَالَ القَوْمُ: كَانَ يَصِفُ لَنَا الدَّنَانِيرَ وَأَصْحَابَهَا وَالأَمْوَالَ وَكَمْ هِيَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَلَّمْنَاهَا إِلَيْهِ، وَقَدْ وَفَدْنَا إِلَيْهِ مِرَاراً، فَكَانَتْ هَذِهِ عَلَامَتُنَا مَعَهُ وَدِلَالَتُنَا، وَقَدْ مَاتَ، فَإِنْ يَكُنْ هَذَا الرَّجُلُ صَاحِبَ هَذَا الأَمْرِ فَلْيُقِمْ لَنَا مَا كَانَ يُقِيمُهُ لَنَا أَخُوهُ، وَإِلَّا رَدَدْنَاهَا إِلَى أَصْحَابِهَا، فَقَالَ جَعْفَرٌ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَذَّابُونَ يَكْذِبُونَ عَلَى أَخِي، وَهَذَا عِلْمُ الغَيْبِ، فَقَالَ الخَلِيفَةُ: القَوْمُ رُسُلٌ، ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ﴾ [النور: 54]، قَالَ: فَبُهِتَ جَعْفَرٌ وَلَمْ يَرُدَّ جَوَاباً، فَقَالَ القَوْمُ: يَتَطَوَّلُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ بِإِخْرَاجِ أَمْرِهِ إِلَى مَنْ يُبَدْرِقُنَا(515) حَتَّى نَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ البَلْدَةِ.
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُمْ بِنَقِيبٍ فَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، فَلَمَّا أَنْ خَرَجُوا مِنَ البَلَدِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ غُلَامٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهاً، كَأَنَّهُ خَادِمٌ، فَنَادَى: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، أَجِيبُوا مَوْلَاكُمْ، قَالَ: فَقَالُوا: أَنْتَ مَوْلَانَا؟ قَالَ: مَعَاذَ اللهِ، أَنَا عَبْدُ مَوْلَاكُمْ، فَسِيرُوا إِلَيْهِ، قَالُوا: فَسِرْنَا [إِلَيْهِ] مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا دَارَ مَوْلَانَا الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَإِذَا وَلَدُهُ القَائِمُ سَيِّدُنَا (عليه السلام) قَاعِدٌ عَلَى سَرِيرٍ كَأَنَّهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْنَا السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: «جُمْلَةُ المَالِ كَذَا وَكَذَا دِينَاراً، حَمَلَ فُلَانٌ كَذَا، [وَحَمَلَ] فُلَانٌ كَذَا»، وَلَمْ يَزَلْ يَصِفُ حَتَّى وَصَفَ الجَمِيعَ.
ثُمَّ وَصَفَ ثِيَابَنَا وَرِحَالَنَا وَمَا كَانَ مَعَنَا مِنَ الدَّوَابِّ، فَخَرَرْنَا سُجَّداً للهِ (عزَّ وجلَّ) شُكْراً لِمَا عَرَّفَنَا، وَقَبَّلْنَا الأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَألنَاهُ عَمَّا أَرَدْنَا فَأَجَابَ، فَحَمَلْنَا إِلَيْهِ الأَمْوَالَ، وَأَمَرَنَا القَائِمُ (عليه السلام) أَنْ لَا نَحْمِلُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى بَعْدَهَا شَيْئاً مِنَ المَالِ، فَإِنَّهُ يَنْصِبُ لَنَا بِبَغْدَادَ رَجُلاً يَحْمِلُ إِلَيْهِ الأَمْوَالَ وَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ التَّوْقِيعَاتُ، قَالُوا:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(515) من البدرقة. وفي بعض النُّسَخ بالذال المعجمة، بهذا المعنى أيضاً.

(٢٠٥)

فَانْصَرَفْنَا مِنْ عِنْدِهِ، وَدَفَعَ إِلَى أَبِي العَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ القُمِّيِّ الحِمْيَرِيِّ شَيْئاً مِنَ الحَنُوطِ وَالكَفَنِ، فَقَالَ لَهُ: «أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَكَ فِي نَفْسِكَ»، قَالَ: فَمَا بَلَغَ أَبُو العَبَّاسِ عَقَبَةَ هَمْدَانَ حَتَّى تُوُفِّيَ (رحمه الله).
وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ نَحْمِلُ الأَمْوَالَ إِلَى بَغْدَادَ إِلَى النُّوَّابِ المَنْصُوبِينَ بِهَا، وَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِمُ التَّوْقِيعَاتُ(516).
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): هذا الخبر يدلُّ على أنَّ الخليفة كان يعرف هذا الأمر، كيف هو [وأين هو] وأين موضعه، فلهذا كفَّ عن القوم عمَّا معهم من الأموال، ودفع جعفر الكذَّاب عن مطالبتهم(517)، ولم يأمرهم بتسليمها إليه، إلَّا أنَّه كان يُحِبُّ أنْ يخفى هذا الأمر ولا يُنشَر لئلَّا يهتدي إليه الناس فيعرفونه.
وقد كان جعفر الكذَّاب حمل إلى الخليفة عشرين ألف دينار لـمَّا تُوفِّي الحسن ابن عليٍّ (عليهما السلام)، وقال: يا أمير المؤمنين، تجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته، فقال الخليفة: اعلم أنَّ منزلة أخيك لم تكن بنا إنَّما كانت بالله (عزَّ وجلَّ) ونحن كنَّا نجتهد في حطِّ منزلته والوضع منه، وكان الله (عزَّ وجلَّ) يأبى إلَّا أنْ يزيده كلَّ يوم رفعةً لما كان فيه من الصيانة وحسن السمت(518) والعلم والعبادة، فإنْ كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا، وإنْ لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كانَ فِي أَخِيكَ لَمْ نُغْنِ عَنْكَ فِي ذَلِكَ شَيْئاً.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(516) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 608 - 611/ ح 555/3)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1104 - 1108/ ح 24).
(517) في بعض النُّسَخ: (عنهم) مكان (عن مطالبتهم).
(518) السمت - بفتح المهملة -: هيأة أهل الخير. وتقدَّم تفصيله سابقاً في رواية أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان في (ج 1/ ص 61 - 65)، فراجع.

(٢٠٦)

[412/1] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «صَاحِبُ هَذَا الأَمْرِ تَعْمَى وِلَادَتُهُ عَلَى [هَذَا] الخَلْقِ لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ».
[413/2] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «يُبْعَثُ القَائِمُ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِأَحَدٍ»(519).
[414/3] حَدَّثَنَا أَبِي (رحمه الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ وَالحَسَنِ بْنِ ظَرِيفٍ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «يَقُومُ القَائِمُ (عليه السلام) وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ»(520).
[415/4] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (عليهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «كَأَنِّي بِالشِّيعَةِ عِنْدَ فَقْدِهِمُ الثَّالِثَ(521) مِنْ وُلْدِي كَالنَّعَمِ يَطْلُبُونَ المَرْعَى فَلَا يَجِدُونَهُ»، قُلْتُ لَهُ: وَلِـمَ ذَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟ قَالَ: «لِأَنَّ إِمَامَهُمْ يَغِيبُ عَنْهُمْ»، فَقُلْتُ: وَلِـمَ؟ قَالَ: «لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا قَامَ بِالسَّيْفِ»(522).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(519) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 116/ ح 106).
(520) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 116/ ح 107).
(521) المراد به أبو محمّد (عليه السلام). وفي بعض النُّسَخ: (عند فقدهم الرابع)، فالمراد الحجَّة (عجَّل الله فرجه).
(522) رواه المصنِّف (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 247/ ح 6)، وعلل الشرائع (ج 1/ ص 245/ باب 179/ ح 6).

(٢٠٩)

[416/5] حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الكَشِّيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَبْرَئِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «صَاحِبُ هَذَا الأَمْرِ تَغِيبُ وِلَادَتُهُ عَنْ هَذَا الخَلْقِ كَيْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ، وَيُصْلِحُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ [وَاحِدَةٍ]».
[417/6] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحَيْدَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ جَمِيعاً، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَبْرَئِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ البَغْدَادِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيُّ، عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ لِلْقَائِمِ مِنَّا غَيْبَةً يَطُولُ أَمَدُهَا»، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَلِـمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لِأَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) أَبَى إِلَّا أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ سُنَنُ الأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام) فِي غَيْبَاتِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ يَا سَدِيرُ مِنِ اسْتِيفَاءِ مَدَدِ غَيْبَاتِهِمْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: 19]، أَيْ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»(523).
[418/7] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى الرَّوَّاسِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ نَجِيحٍ الجَوَّازِ(524)، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا زُرَارَةُ، لَا بُدَّ لِلْقَائِمِ مِنْ غَيْبَةٍ»، قُلْتُ: وَلِـمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ -».
[419/8] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ القَلَانِسِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(523) رواه المصنِّف (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 245/ باب 179/ ح 7).
(524) في بعض النُّسَخ: (الجوان)، ولعلَّه هو الصواب.

(٢١٠)

«إِنَّ لِلْقَائِمِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ»، قَالَ: قُلْتُ: وَلِـمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ -»(525).
[420/9] حَدَّثَنِي عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمْدَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِلْقَائِمِ غَيْبَةً قَبْلَ ظُهُورِهِ»، قُلْتُ: وَلِـمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ -»، قَالَ زُرَارَةُ: يَعْنِي القَتْلَ(526).
[421/10] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي القَاسِمِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ البَرْقِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ صَفْوَانَ ابْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «لِلْقَائِمِ غَيْبَةٌ قَبْلَ قِيَامِهِ»، قُلْتُ(527): وَلِـمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الذَّبْحَ».
[422/11] حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ المَدَائِنِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الفَضْلِ الهَاشِمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ غَيْبَةً لَا بُدَّ مِنْهَا يَرْتَابُ فِيهَا كُلُّ مُبْطِلٍ»، فَقُلْتُ: وَلِـمَ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ قَالَ: «لِأَمْرٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا فِي كَشْفِهِ لَكُمْ(528)»، قُلْتُ: فَمَا وَجْهُ الحِكْمَةِ فِي غَيْبَتِهِ؟ قَالَ: «وَجْهُ الحِكْمَةِ فِي غَيْبَتِهِ وَجْهُ الحِكْمَةِ(529) فِي غَيْبَاتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ حُجَجِ اللهِ تَعَالَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(525) قد مرَّ تحت الرقم (265/24)، فراجع.
(526) رواه المصنِّف (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 246/ باب 179/ ح 9)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 332/ ح 274).
(527) في بعض النُّسَخ: (قيل).
(528) يعني على التفصيل.
(529) يعني على سبيل الإجمال.

(٢١١)

ذِكْرُهُ، إِنَّ وَجْهَ الحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ لَا يَنْكَشِفُ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ كَمَا لَمْ يَنْكَشِفْ وَجْهُ الحِكْمَةِ فِيمَا أَتَاهُ الخَضِرُ (عليه السلام) مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الغُلَامِ وَإِقَامَةِ الجِدَارِ لِمُوسَى (عليه السلام) إِلَى وَقْتِ افْتِرَاقِهِمَا(530). يَا ابْنَ الفَضْلِ، إِنَّ هَذَا الأَمْرَ أَمْرٌ مِنْ [أَمْرِ] اللهِ تَعَالَى وَسِرٌّ مِنْ سِرِّ اللهِ وَغَيْبٌ مِنْ غَيْبِ اللهِ، وَمَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ (عزَّ وجلَّ) حَكِيمٌ صَدَّقْنَا بِأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا حِكْمَةٌ وَإِنْ كَانَ وَجْهُهَا غَيْرَ مُنْكَشِفٍ»(531).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(530) في بعض النُّسَخ: (إلَّا وقت افتراقهما).
(531) رواه المصنِّف (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 245 و246/ باب 179/ ح 8).

(٢١٢)

[423/1] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحَيْدَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ البَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ الدَّقَّاقُ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: سَمِعْنَا عَلِيَّ بْنَ عَاصِمٍ الكُوفِيَّ يَقُولُ: خَرَجَ فِي تَوْقِيعَاتِ صَاحِبِ الزَّمَانِ: «مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ سَمَّانِي فِي مَحْفِلٍ مِنَ النَّاسِ»(532).
[424/2] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الهَمْدَانِيُّ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِ الزَّمَانِ (عليه السلام): إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي يُؤْذُونَنِي وَيُقْرِعُونَنِي(533) بِالحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ آبَائِكَ (عليهم السلام) أَنَّهُمْ قَالُوا: «قُوَّامُنَا وَخُدَّامُنَا شِرَارُ خَلْقِ اللهِ»، فَكَتَبَ (عليه السلام): «وَيْحَكُمْ أَمَا تَقْرَءُونَ مَا قَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظاهِرَةً﴾ [سبأ: 18]، وَنَحْنُ وَاللهِ القُرَى الَّتِي بَارَكَ اللهُ فِيهَا، وَأَنْتُمُ القُرَى الظَّاهِرَةُ»(534).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(532) قال عليُّ بن عيسى الإربلي (رحمه الله) في كشف الغمَّة (ج 3/ ص 326): (من العجب أنَّ الشيخ الطبرسي والشيخ المفيد (رحمهما الله تعالى) قالا: إنَّه لا يجوز ذكر اسمه ولا كنيته، ثمّ يقولان: اسمه اسم النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكنيته كنيته (عليه السلام). وهما يظنَّان أنَّهما لم يذكرا اسمه ولا كنيته، وهذا عجيب. والذي أراه أنَّ المنع من ذلك إنَّما كان في وقت الخوف عليه والطلب له والسؤال عنه، فأمَّا الآن فلا، والله أعلم) انتهى.
(533) التقريع: التعنيف. (الصحاح للجوهري: ج 3/ ص 1264/ مادَّة قرع). وفي بعض النُّسَخ: (يفزعونني).
(534) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 140/ ح 161).

(٢١٥)

قال عبد الله بن جعفر: وَحدثنا بهذا الحديث عليُّ بن محمّد الكليني، عن محمّد بن صالح، عن صاحب الزمان (عليه السلام).
[425/3] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ هَمَّامٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) يَقُولُ: خَرَجَ تَوْقِيعٌ بِخَطٍّ أَعْرِفُهُ: «مَنْ سَمَّانِي فِي مَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ بِاسْمِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ».
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ: وَكَتَبْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الفَرَجِ مَتَى يَكُونُ؟ فَخَرَجَ إِلَيَّ: «كَذَبَ الوَقَّاتُونَ»(535).
[426/4] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ الكُلَيْنِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الكُلَيْنِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ(536)، قَالَ: سَالتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ (رضي الله عنه) أَنْ يُوصِلَ لِي كِتَاباً قَدْ سَالتُ فِيهِ عَنْ مَسَائِلَ أَشْكَلَتْ عَلَيَّ، فَوَرَدَ[تْ فِي] التَّوْقِيعِ بِخَطِّ مَوْلَانَا صَاحِبِ الزَّمَانِ (عليه السلام):
«أَمَّا مَا سَالتَ عَنْهُ أَرْشَدَكَ اللهُ وَثَبَّتَكَ مِنْ أَمْرِ المُنْكِرِينَ لِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِنَا وَبَنِي عَمِّنَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ ابْنِ نُوحٍ (عليه السلام).
أَمَّا سَبِيلُ عَمِّي جَعْفَرٍ وَوُلْدِهِ فَسَبِيلُ إِخْوَةِ يُوسُفَ (عليه السلام).
أَمَّا الفُقَّاعُ فَشُرْبُهُ حَرَامٌ، وَلَا بَأْسَ بِالشَّلْمَابِ(537)، وَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ فَلَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(535) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 270).
(536) مجهول الحال لم أجده في الرجال ولا الكُتُب إلَّا في نظير هذا الباب.
(537) شراب يُتَّخذ من الشيلم، وهو الزوان الذي يكون في البُرِّ، (قال أبو حنيفة: الشيلم حبٌّ صغار مستطيل أحمر قائم كأنَّه في خلقة سوس الحنطة ولا يُسكِر، ولكنَّه يمرُّ الطعام إمراراً شديداً. وقال مرَّة: نبات الشيلم سُطاح، وهو يذهب على الأرض، وورقته كورقة الخلاف البلخي شديدة الخضرة رطبة، قال: والناس يأكلون ورقه إذا كان رطباً وهو طيِّب لا مرارة له وحبُّه أعقى من الصبر. (تاج العروس: ج 16/ ص 391/ مادَّة شلم). وقال أُستاذنا الشعراني في هامش الوسائل (ج 17/ ص 291): (إنَّ الشلماب شراب يُتَّخذ من الشيلم، وهو حبٌّ شبيه بالشعير، وفيه تخدير نظير البنج، وإنْ اتَّفق وقوعه في الحنطة وعُمِلَ منه الخبز أورث السدر والدوار والنوم، ويكثر نباته في مزرع الحنطة، ويُتوهَّم حرمته لمكان التخدير واشتباه التخدير بالإسكار عند العوامِّ).

(٢١٦)

نَقْبَلُهَا إِلَّا لِتَطَهَّرُوا، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصِلْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَقْطَعْ، فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ.
وَأَمَّا ظُهُورُ الفَرَجِ فَإِنَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَكَذَبَ الوَقَّاتُونَ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الحُسَيْنَ (عليه السلام) لَمْ يُقْتَلْ فَكُفْرٌ وَتَكْذِيبٌ وَضَلَالٌ.
وَأَمَّا الحَوَادِثُ الوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا(538) فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللهِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ العَمْرِيُّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ) فَإِنَّهُ ثِقَتِي وَكِتَابُهُ كِتَابِي.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ الأَهْوَازِيُّ فَسَيُصْلِحُ اللهُ لَهُ قَلْبَهُ وَيُزِيلُ عَنْهُ شَكَّهُ.
وَأَمَّا مَا وَصَلْتَنَا بِهِ فَلَا قَبُولَ عِنْدَنَا إِلَّا لِمَا طَابَ وَطَهُرَ، وَثَمَنُ المُغَنِّيَةِ حَرَامٌ(539).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(538) قيل: الحوادث الواقعة ما يُحتاج فيه إلى الحاكم كأموال اليتامى فيثبت فيه ولاية الفقيه. وليس بشيء، والظاهر ما يتَّفق للناس من المسائل التي لا يعلمون حكمها فلا بدَّ لهم أنْ يرجعوا فيها إلى من يستنبطها من الأحاديث الواردة عنهم. والمراد برواة الحديث الفقهاء الذين يفقهون الحديث ويعلمون خاصَّه وعامَّه ومحكمه ومتشابهه، ويعرفون صحيحه من سقيمه، وحسنه من مختلفه، والذين لهم قوَّة التفكيك بين الصريح منه والدخيل، وتمييز الأصيل من المزيَّف المتقوَّل، لا الذين يقرؤون الكُتُب المعروفة ويحفظون ظاهراً من ألفاظه ولا يفهمون معناه وليس لهم منَّة الاستنباط وإنْ زعموا أنَّهم حملة الحديث.
(539) في بعض النُّسَخ: (ثمن القينة حرام) يعني الإماء المغنِّيات.

(٢١٧)

وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ بْنِ نُعَيْمٍ فَهُوَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَتِنَا أَهْلَ البَيْتِ.
وَأَمَّا أَبُو الخَطَّابِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْنَبَ الأَجْدَعُ فَمَلْعُونٌ، وَأَصْحَابُهُ مَلْعُونُونَ، فَلَا تُجَالِسْ أَهْلَ مَقَالَتِهِمْ فَإِنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَآبَائِي (عليهم السلام) مِنْهُمْ بِرَاءٌ.
وَأَمَّا المُتَلَبِّسُونَ بِأَمْوَالِنَا فَمَنِ اسْتَحَلَّ مِنْهَا شَيْئاً فَأَكَلَهُ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ النِّيرَانَ.
وَأَمَّا الخُمُسُ فَقَدْ أُبِيحَ لِشِيعَتِنَا وَجُعِلُوا مِنْهُ فِي حِلٍّ إِلَى وَقْتِ ظُهُورِ أَمْرِنَا لِتَطِيبَ وِلَادَتُهُمْ وَلَا تَخْبُثَ.
وَأَمَّا نَدَامَةُ قَوْمٍ قَدْ شَكُّوا فِي دِينِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) عَلَى مَا وَصَلُونَا بِهِ فَقَدْ أَقَلْنَا مَنِ اسْتَقَالَ، وَلَا حَاجَةَ فِي صِلَةِ الشَّاكِّينَ.
وَأَمَّا عِلَّةُ مَا وَقَعَ مِنَ الغَيْبَةِ فَإِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ آبَائِي (عليهم السلام) إِلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ، وَإِنِّي أَخْرُجُ حِينَ أَخْرُجُ وَلَا بَيْعَةَ لِأَحَدٍ مِنَ الطَّوَاغِيتِ فِي عُنُقِي.
وَأَمَّا وَجْهُ الاِنْتِفَاعِ بِي فِي غَيْبَتِي فَكَالاِنْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ إِذَا غَيَّبَتْهَا عَنِ الأَبْصَارِ السَّحَابُ، وَإِنِّي لَأَمَانٌ لِأَهْلِ الأَرْضِ كَمَا أَنَّ النُّجُومَ أَمَانٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ، فَأَغْلِقُوا بَابَ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَعْنِيكُمْ، وَلَا تَتَكَلَّفُوا عِلْمَ مَا قَدْ كُفِيتُمْ، وَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ الفَرَجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرَجُكُمْ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا إِسْحَاقَ بْنَ يَعْقُوبَ وَعَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى»(540).
[427/5] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ المَعْرُوفِ بِعَلَّانَ الكُلَيْنِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(540) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 290 - 293/ ح 247)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 270 - 272)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1113 - 1115/ ح 30)، وأحمد بن عليٍّ الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 281 - 284).

(٢١٨)

شَاذَانَ بْنِ نُعَيْمٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدِي مَالٌ لِلْغَرِيمِ (عليه السلام)(541) خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، يَنْقُصُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِرْهَماً، فَأَنِفْتُ(542) أَنْ أَبْعَثَ بِهَا نَاقِصَةً هَذَا المِقْدَارَ، فَأَتْمَمْتُهَا مِنْ عِنْدِي وَبَعَثْتُ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ(543) وَلَمْ أَكْتُبْ مَالِي فِيهَا، فَأَنْفَذَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ القَبْضَ، وَفِيهِ: «وَصَلَتْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، لَكَ مِنْهَا عِشْرُونَ دِرْهَماً»(544).
[428/6] حَدَّثَنِي أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ العَمْرِيَّ (رضي الله عنه) يَقُولُ: صَحِبْتُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ وَمَعَهُ مَالٌ لِلْغَرِيمِ (عليه السلام)، فَأَنْفَذَهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُ: «أَخْرِجْ حَقَّ وُلْدِ عَمِّكَ مِنْهُ وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ»، فَبَقِيَ الرَّجُلُ مُتَحَيِّراً بَاهِتاً مُتَعَجِّباً، وَنَظَرَ فِي حِسَابِ المَالِ وَكَانَتْ فِي يَدِهِ ضَيْعَةٌ لِوُلْدِ عَمِّهِ قَدْ كَانَ رَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضَهَا وَزَوَى عَنْهُمْ بَعْضَهَا، فَإِذَا الَّذِي نَضَّ لَهُمْ(545) مِنْ ذَلِكَ المَالِ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ كَمَا قَالَ (عليه السلام)، فَأَخْرَجَهُ وَأَنْفَذَ البَاقِيَ فَقَبِلَ(546).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(541) في بعض النُّسَخ: (للقائم (عليه السلام)). وإطلاق الغريم على الصاحب لكونه صاحباً للحقِّ (عجَّل الله فرجه).
(542) أي كرهت. وفي بعض النُّسَخ: (فأبيت).
(543) هو محمّد بن جعفر الأسدي أبو الحسين الرازي أحد الأبواب كما في رجال الطوسي (ص 439/ الرقم 6278/28).
(544) رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 523 و524/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 23)، والمفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 365)، والحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص 436 و437)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 265).
(545) في النهاية (ج 5/ ص 72): (خذ صدقة ما نضَّ من أموالهم: أي حصل وظهر من أثمان أمتعتهم وغيرها).
(546) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 140 و141/ ح 162)، والطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 525/ ح 498/102)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 597/ ح 540/4)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 703/ ح 19)، وروى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 519/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 8)، والمفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 356).

(٢١٩)

[429/7] حَدَّثَنِي أَبِي (رضي الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ(547) بَعَثَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ بْنِ الجُنَيْدِ وَهُوَ بِوَاسِطٍ غُلَاماً وَأَمَرَ بِبَيْعِهِ، فَبَاعَهُ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ، فَلَمَّا عَيَّرَ الدَّنَانِيرَ نَقَصَتْ مِنَ التَّعْيِيرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قِيرَاطاً وَحَبَّةٌ، فَوَزَنَ مِنْ عِنْدِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قِيرَاطاً وَحَبَّةً وَأَنْفَذَهَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ دِينَاراً وَزْنُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قِيرَاطاً وَحَبَّةٌ(548).
[430/8] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ المَعْرُوفِ بِعَلَّانَ الكُلَيْنِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَبْرَئِيلَ الأَهْوَازِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ ابْنَيِ الفَرَجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ أَنَّهُ وَرَدَ العِرَاقَ شَاكًّا مُرْتَاداً، فَخَرَجَ إِلَيْهِ: «قُلْ لِلْمَهْزِيَارِيِّ قَدْ فَهِمْنَا مَا حَكَيْتَهُ عَنْ مَوَالِينَا بِنَاحِيَتِكُمْ، فَقُلْ لَهُمْ: أَمَا سَمِعْتُمُ اللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]؟ هَلْ أُمِرَ إِلَّا بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؟ أَولَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) جَعَلَ لَكُمْ مَعَاقِلَ تَأْوُونَ إِلَيْهَا وَأَعْلَاماً تَهْتَدُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ (عليه السلام) إِلَى أَنْ ظَهَرَ المَاضِي [أَبُو مُحَمَّدٍ] (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ)، كُلَّمَا غَابَ عَلَمٌ بَدَا عَلَمٌ، وَإِذَا أَفَلَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ؟ فَلَمَّا قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) قَدْ قَطَعَ السَّبَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، كَلَّا مَا كَانَ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ(549) وَيَظْهَرَ أَمْرُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَهُمْ كارِهُونَ.
يَا مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، لَا يَدْخُلْكَ الشَّكُّ فِيمَا قَدِمْتَ لَهُ، فَإِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) لَا يُخَلِّي الأَرْضَ مِنْ حُجَّةٍ، أَلَيْسَ قَالَ لَكَ أَبُوكَ قَبْلَ وَفَاتِهِ: أَحْضِرِ السَّاعَةَ مَنْ يُعَيِّرُ هَذِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(547) يعني صاحب الأمر (عليه السلام).
(548) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 141/ ح 163)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 268)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 597/ ح 540/4)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 704/ ح 20).
(549) في بعض النُّسَخ: (إلى أنْ تقوم الساعة).

(٢٢٠)

الدَّنَانِيرَ الَّتِي عِنْدِي؟ فَلَمَّا أُبْطِئَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَخَافَ الشَّيْخُ عَلَى نَفْسِهِ الوَحَا(550) قَالَ لَكَ: عَيِّرْهَا عَلَى نَفْسِكَ، وَأَخْرَجَ إِلَيْكَ كِيساً كَبِيراً وَعِنْدَكَ بِالحَضْرَةِ ثَلَاثَةُ أَكْيَاسٍ وَصُرَّةٌ فِيهَا دَنَانِيرُ مُخْتَلِفَةُ النَّقْدِ، فَعَيَّرْتَهَا وَخَتَمَ الشَّيْخُ بِخَاتَمِهِ وَقَالَ لَكَ: اخْتِمْ مَعَ خَاتَمِي، فَإِنْ أَعِشْ فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ أَوَّلًا ثُمَّ فِيَّ، فَخَلِّصْنِي وَكُنْ عِنْدَ ظَنِّي بِكَ. أَخْرِجْ رَحِمَكَ اللهُ الدَّنَانِيرَ الَّتِي اسْتَفْضَلْتَهَا مِنْ بَيْنِ النَّقْدَيْنِ مِنْ حِسَابِنَا وَهِيَ بِضْعَةَ عَشَرَ دِينَاراً وَاسْتَرِدَّ مِنْ قِبَلِكَ فَإِنَّ الزَّمَانَ أَصْعَبُ مِمَّا كَانَ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ».
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: وَقَدِمْتُ العَسْكَرَ زَائِراً فَقَصَدْتُ النَّاحِيَةَ فَلَقِيَتْنِي امْرَأَةٌ وَقَالَتْ: أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ لِي: انْصَرِفْ فَإِنَّكَ لَا تَصِلُ فِي هَذَا الوَقْتِ، وَارْجِعِ اللَّيْلَةَ فَإِنَّ البَابَ مَفْتُوحٌ لَكَ، فَادْخُلِ الدَّارَ وَاقْصِدِ البَيْتَ الَّذِي فِيهِ السِّرَاجُ، فَفَعَلْتُ وَقَصَدْتُ البَابَ فَإِذَا هُوَ مَفْتُوحٌ فَدَخَلْتُ الدَّارَ وَقَصَدْتُ البَيْتَ الَّذِي وَصَفَتْهُ، فَبَيْنَا أَنَا بَيْنَ القَبْرَيْنِ أَنْتَحِبُ وَأَبْكِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتاً وَهُوَ يَقُولُ: «يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللهَ وَتُبْ مِنْ كُلِّ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ(551)، فَقَدْ قُلِّدْتَ أَمْراً عَظِيماً»(552).
[431/9] وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ، عَنْ نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاحِ البَلْخِيِّ، قَالَ: كَانَ بِمَرْوَ كَاتِبٌ كَانَ لِلْخُوزِسْتَانِيِّ - سَمَّاهُ لِي نَصْرٌ -، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ ألفُ دِينَارٍ لِلنَّاحِيَةِ، فَاسْتَشَارَنِي، فَقُلْتُ: ابْعَثْ بِهَا إِلَى الحَاجِزِيِّ، فَقَالَ: هُوَ فِي عُنُقِكَ إِنْ سَأَلَنِي اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ نَصْرٌ: فَفَارَقْتُهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ إِلَيْهِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، فَلَقِيتُهُ، فَسَألتُهُ عَنِ المَالِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ بَعَثَ مِنَ المَالِ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ إِلَى الحَاجِزِيِّ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(550) الوحا: السرعة والبدار، والمعنى أنَّه خاف على نفسه سرعة الموت.
(551) يعني من الوكالة، وقد تقدَّم في (ص 166) أنَّه من وكلاء الناحية.
(552) رواه الطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 526/ ح 499/103)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1116 و1117/ ح 31).

(٢٢١)

فَوَرَدَ عَلَيْهِ وُصُولُهَا وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: «كَانَ المَالُ ألفَ دِينَارٍ، فَبَعَثْتَ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُعَامِلَ أَحَداً فَعَامِلِ الأَسَدِيَّ بِالرَّيِّ».
قَالَ نَصْرٌ: ووَرَدَ عَلَيَّ نَعْيُ حَاجِزٍ، فَجَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ جَزَعاً شَدِيداً وَاغْتَمَمْتُ لَهُ(553)، فَقُلْتُ لَهُ: وَلِـمَ تَغْتَمُّ وَتَجْزَعُ وَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ بِدَلَالَتَيْنِ؟ قَدْ أَخْبَرَكَ بِمَبْلَغِ المَالِ، وَقَدْ نَعَى إِلَيْكَ حَاجِزاً مُبْتَدِئاً(554).
[432/10] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: أَنْفَذَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَلْخٍ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ إِلَى حَاجِزٍ، وَكَتَبَ رُقْعَةً وَغَيَّرَ فِيهَا اسْمَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الوُصُولُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ(555).
[433/11] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي حَامِدٍ المَرَاغِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ بْنِ نُعَيْمٍ، قَالَ: بَعَثَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَلْخٍ بِمَالٍ وَرُقْعَةٍ لَيْسَ فِيهَا كِتَابَةٌ قَدْ خَطَّ فِيهَا بِإِصْبَعِهِ كَمَا تَدُورُ مِنْ غَيْرِ كِتَابَةٍ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: احْمِلْ هَذَا المَالَ، فَمَنْ أَخْبَرَكَ بِقِصَّتِهِ وَأَجَابَ عَنِ الرُّقْعَةِ فَأَوْصِلْ إِلَيْهِ المَالَ، فَصَارَ الرَّجُلُ إِلَى العَسْكَرِ وَقَدْ قَصَدَ جَعْفَراً وَأَخْبَرَهُ الخَبَرَ، فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: تُقِرُّ بِالبَدَاءِ؟ قَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ: فَإِنَّ صَاحِبَكَ قَدْ بَدَا لَهُ وَأَمَرَكَ أَنْ تُعْطِيَنِي المَالَ، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: لَا يُقْنِعُنِي هَذَا الجَوَابُ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَجَعَلَ يَدُورُ عَلَى أَصْحَابِنَا، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ رُقْعَةٌ، قَالَ: «هَذَا مَالٌ قَدْ كَانَ غُرِّرَ بِهِ(556)، وَكَانَ فَوْقَ صُنْدُوقٍ فَدَخَلَ اللُّصُوصُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(553) فيه تصحيف، والصواب: (فورد عليَّ نعي الحاجز، فأخبرته، فجزع من ذلك جزعاً شديداً واغتمَّ، فقلت له...) إلخ، كما يظهر من الخرائج. أو خطاب للنفس، و(له) زائد.
(554) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 695 و696/ ح 10).
(555) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 141/ ح 164).
(556) التغرير: حمل النفس على الخطر. وفي بعض النُّسَخ: (غُدِرَ به)، وفي بعضها: (عُوِّر به) من التعوير، وعُوِّر به أي صُرِّف عنه، قال في الصحاح (ج 2/ ص 762/ مادَّة عور): (عورته عن الأمر تعويراً أي صرفته عنه).

(٢٢٢)

البَيْتَ وَأَخَذُوا مَا فِي الصُّنْدُوقِ وَسَلِمَ المَالُ، وَرُدَّتْ عَلَيْهِ الرُّقْعَةُ وَقَدْ كُتِبَ فِيهَا كَمَا تَدُورُ، وسَالتَ الدُّعَاءَ، فَعَلَ اللهُ بِكَ وَفَعَلَ»(557).
[434/12] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّالِحِ، قَالَ: كَتَبْتُ أَسْأَلُهُ الدُّعَاءَ لباداشاله(558)، وَقَدْ حَبَسَهُ ابْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وَأَسْتَأْذِنُ فِي جَارِيَةٍ لِي أَسْتَوْلِدُهَا، فَخَرَجَ: «اسْتَوْلِدْهَا، وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ، وَالمَحْبُوسُ يُخَلِّصُهُ اللهُ»، فَاسْتَوْلَدْتُ الجَارِيَةَ فَوَلَدَتْ فَمَاتَتْ، وَخُلِّيَ عَنِ المَحْبُوسِ يَوْمَ خَرَجَ إِلَيَّ التَّوْقِيعُ(559).
قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ: وُلِدَ لِي مَوْلُودٌ، فَكَتَبْتُ أَسْتَأْذِنُ فِي تَطْهِيرِهِ يَوْمَ السَّابِعِ أَوِ الثَّامِنِ، فَلَمْ يَكْتُبْ شَيْئاً، فَمَاتَ المَوْلُودُ يَوْمَ الثَّامِنِ، ثُمَّ كَتَبْتُ أُخْبِرُ بِمَوْتِهِ، فَوَرَدَ: «سَيَخْلُفُ عَلَيْكَ غَيْرُهُ وَغَيْرُهُ، فَسَمِّهِ أَحْمَدَ وَمِنْ بَعْدِ أَحْمَدَ جَعْفَراً»، فَجَاءَ كَمَا قَالَ (عليه السلام).
قَالَ: وَتَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ سِرًّا، فَلَمَّا وَطِئْتُهَا عَلِقَتْ وَجَاءَتْ بِابْنَةٍ، فَاغْتَمَمْتُ وَضَاقَ صَدْرِي، فَكَتَبْتُ أَشْكُو ذَلِكَ، فَوَرَدَ: «سَتُكْفَاهَا»، فَعَاشَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ مَاتَتْ، فَوَرَدَ: «إِنَّ اللهَ ذُو أَنَاةٍ وَأَنْتُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»(560).
قَالَ: وَلَـمَّا وَرَدَ نَعْيُ ابْنِ هِلَالٍ (لَعَنَهُ اللهُ)(561) جَاءَنِي الشَّيْخُ فَقَالَ لِي: أَخْرِجِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(557) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 141 و142/ ح 165)، والطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 527/ ح 501/105)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 599/ ح 544/8)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1129 و1130/ ح 47).
(558) كذا. وفي بعض النُّسَخ المصحَّحة صحَّحه بـ (باداشاكه)، وعلى ما في المتن كأنَّه اسم رجل مركَّب من فارسي هو (بادا) ومن (إنْ شاء الله)، فإنَّ أهل الفرس كثيراً ما يستعملونها (شاله).
(559) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 142/ ح 166)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 611/ ح 556/4).
(560) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 611 و612/ ح 557/5)،
(561) يعنى أحمد بن هلال العبرتائي. والمراد بالشيخ (أبو القاسم الحسين بن روح) كما يظهر من كتاب الاحتجاج (ج 2/ ص 290).

(٢٢٣)

الكِيسَ الَّذِي عِنْدَكَ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَيْهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ رُقْعَةً فِيهَا: «وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ(562) مِنْ أَمْرِ الصُّوفِيِّ المُتَصَنِّعِ - يَعْنِي الهِلَالِيَّ - فَبَتَرَ اللهُ عُمُرَهُ»، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ: «فَقَدْ قَصَدَنَا فَصَبَرْنَا عَلَيْهِ فَبَتَرَ اللهُ تَعَالَى عُمُرَهُ بِدَعْوَتِنَا(563)».
[435/13] حَدَّثَنِي أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلَّانٍ الكُلَيْنِيِّ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ الفَضْلِ اليَمَانِيِّ، قَالَ: قَصَدْتُ سُرَّ مَنْ رَأَى، فَخَرَجَتْ إِلَيَّ صُرَّةٌ فِيهَا دَنَانِيرُ وَثَوْبَانِ، فَرَدَدْتُهَا وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَنَا عِنْدَهُمْ بِهَذِهِ المَنْزِلَةِ، فَأَخَذَتْنِي الغِرَّةُ(564)، ثُمَّ نَدِمْتُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَتَبْتُ رُقْعَةً أَعْتَذِرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَسْتَغْفِرُ، وَدَخَلْتُ الخَلَاءَ وَأَنَا أُحَدِّثُ نَفْسِي وَأَقُولُ: وَاللهِ لَئِنْ رُدَّتْ إِلَيَّ الصُّرَّةُ لَمْ أَحُلَّهَا وَلَمْ أُنْفِقْهَا حَتَّى أَحْمِلَهَا إِلَى وَالِدِي، فَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي، قَالَ: وَلَمْ يُشِرْ عَلَيَّ مَنْ قَبَضَهَا مِنِّي بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَنْهَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ: «أَخْطَأْتَ إِذْ لَمْ تُعْلِمْهُ، أَنَّا رُبَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ بِمَوَالِينَا، وَرُبَّمَا يَسْأَلُونَّا ذَلِكَ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ»، وَخَرَجَ إِلَيَّ: «أَخْطَأْتَ بِرَدِّكِ بِرَّنَا، فَإِذَا اسْتَغْفَرْتَ اللهَ (عزَّ وجلَّ) فَاللهُ يَغْفِرُ لَكَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَزِيمَتُكَ وَعَقْدُ نِيَّتِكَ أَنْ لَا تُحْدِثَ فِيهَا حَدَثاً وَلَا تُنْفِقَهَا فِي طَرِيقِكَ فَقَدْ صَرَفْنَاهَا عَنْكَ، وَأَمَّا الثَّوْبَانِ فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا لِتُحْرِمَ فِيهِمَا».
قَالَ: وَكَتَبْتُ فِي مَعْنَيَيْنِ وَأَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ فِي مَعْنًى ثَالِثٍ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّهُ يَكْرَهُ ذَلِكَ، فَخَرَجَ إِلَيَّ الجَوَابُ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَالمَعْنَى الثَّالِثِ الَّذِي طَوَيْتُهُ وَلَمْ أَكْتُبْهُ.
قَالَ: وَسَالتُ طِيباً فَبَعَثَ إِلَيَّ بِطِيبٍ فِي خِرْقَةٍ بَيْضَاءَ، فَكَانَتْ مَعِي فِي المَحْمِلِ، فَنَفَرَتْ نَاقَتِي بِعُسْفَانَ(565) وَسَقَطَ مَحْمِلِي وَتَبَدَّدَ مَا كَانَ فِيهِ، فَجَمَعْتُ المَتَاعَ وَافْتَقَدْتُ الصُّرَّةَ، وَاجْتَهَدْتُ فِي طَلَبِهَا حَتَّى قَالَ لِي بَعْضُ مَنْ مَعَنَا: مَا تَطْلُبُ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(562) الخطاب للشيخ ظاهراً.
(563) البتر بتقديم الموحَّدة على المثنَّاة: القطع.
(564) في بعض النُّسَخ: (العزَّة)، وفي بعضها: (الغيرة).
(565) كعثمان موضع على مرحلتين من مكَّة.

(٢٢٤)

فَقُلْتُ: صُرَّةً كَانَتْ مَعِي، قَالَ: وَمَا كَانَ فِيهَا؟ قُلْتُ: نَفَقَتِي، قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ مَنْ حَمَلَهَا، فَلَمْ أَزَلْ أَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى أَيِسْتُ مِنْهَا، فَلَمَّا وَافَيْتُ مَكَّةَ حَلَلْتُ عَيْبَتِي وَفَتَحْتُهَا فَإِذَا أَوَّلُ مَا بَدَرَ عَلَيَّ مِنْهَا الصُّرَّةُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خَارِجاً فِي المَحْمِلِ، فَسَقَطَتْ حِينَ تَبَدَّدَ المَتَاعُ.
قَالَ: وَضَاقَ صَدْرِي بِبَغْدَادَ فِي مَقَامِي، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَخَافُ أَنْ لَا أَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَا أَنْصَرِفَ إِلَى مَنْزِلِي، وَقَصَدْتُ أَبَا جَعْفَرٍ أَقْتَضِيهِ جَوَابَ رُقْعَةٍ كُنْتُ كَتَبْتُهَا، فَقَالَ لِي: صِرْ إِلَى المَسْجِدِ الَّذِي فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ يَجِيئُكَ رَجُلٌ يُخْبِرُكَ بِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَقَصَدْتُ المَسْجِدَ وَأَنَا فِيهِ، إِذْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ سَلَّمَ وَضَحِكَ، وَقَالَ لِي: أَبْشِرْ فَإِنَّكَ سَتَحُجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَتَنْصَرِفُ إِلَى أَهْلِكَ سَالِماً إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
قَالَ: وقَصَدْتُ ابْنَ وَجْنَاءَ أَسْأَلُهُ أَنْ يَكْتَرِيَ لِي وَيَرْتَادَ عَدِيلاً، فَرَأَيْتُهُ كَارِهاً، ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ لِي: أَنَا فِي طَلَبِكَ مُنْذُ أَيَّامٍ، قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكْتَرِيَ لَكَ وَأَرْتَادَ لَكَ عَدِيلاً ابْتِدَاءً، فَحَدَّثَنِي الحَسَنُ أَنَّهُ وَقَفَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى عَشْرِ دَلَالاتٍ، وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
[436/14] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الشِّمْشَاطِيِّ رَسُولِ جَعْفَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ اليَمَانِيِّ، قَالَ كُنْتُ مُقِيماً بِبَغْدَادَ، وَتَهَيَّأَتْ قَافِلَةُ اليَمَانِيِّينَ لِلْخُرُوجِ، فَكَتَبْتُ أَسْتَأْذِنُ فِي الخُرُوجِ مَعَهَا، فَخَرَجَ: «لَا تَخْرُجْ مَعَهَا فَمَا لَكَ فِي الخُرُوجِ خِيَرَةٌ، وَأَقِمْ بِالكُوفَةِ»، فَخَرَجَتِ القَافِلَةُ وَخَرَجَتْ عَلَيْهَا بَنُو حَنْظَلَةَ فَاجْتَاحُوهَا(566).
قَالَ: وَكَتَبْتُ أَسْتَأْذِنُ فِي رُكُوبِ المَاءِ، فَخَرَجَ: «لَا تَفْعَلْ»، فَمَا خَرَجَتْ سَفِينَةٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَّا خَرَجَتْ عَلَيْهَا البَوَارِجُ(567) فَقَطَعُوا عَلَيْهَا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(566) اجتاح الشيء: استأصله، والجائحة: الآفة.
(567) جمع البارجة، وهي سفينة كبيرة للقتال، والشرِّير.

(٢٢٥)

قَالَ: وَخَرَجْتُ زَائِراً إِلَى العَسْكَرِ فَأَنَا فِي المَسْجِدِ [الجَامِعِ] مَعَ المَغْرِبِ إِذْ دَخَلَ عَلَيَّ غُلَامٌ، فَقَالَ لِي: قُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنَا؟ وَإِلَى أَيْنَ أَقُومُ؟ فَقَالَ لِي: أَنْتَ عَلِيُّ ابْنُ مُحَمَّدٍ رَسُولُ جَعْفَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ اليَمَانِيِّ، قُمْ إِلَى المَنْزِلِ، قَالَ: وَمَا كَانَ عَلِمَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا بِمُوَافَاتِي(568)، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَاسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ أَزُورَ مِنْ دَاخِلٍ فَأَذِنَ لِي(569).
[437/15] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَلَّانٍ الكُلَيْنِيِّ، عَنِ الأَعْلَمِ المِصْرِيِّ(570)، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ المِصْرِيِّ(571)، قَالَ: خَرَجْتُ فِي الطَّلَبِ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) بِسَنَتَيْنِ لَمْ أَقِفْ فِيهِمَا عَلَى شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ كُنْتُ بِالمَدِينَةِ فِي طَلَبِ وَلَدٍ لِأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) بِصُرْيَاءَ(572)، وَقَدْ سَأَلَنِي أَبُو غَانِمٍ أَنْ أَتَعَشَّى عِنْدَهُ، وَأَنَا قَاعِدٌ مُفَكِّرٌ فِي نَفْسِي وَأَقُولُ: لَوْ كَانَ شَيْءٌ لَظَهَرَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَإِذَا هَاتِفٌ أَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا أَرَى شَخْصَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا نَصْرَ بْنَ عَبْدِ رَبِّهِ(573)، قُلْ لِأَهْلِ مِصْرَ: آمَنْتُمْ بِرَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حَيْثُ رَأَيْتُمُوهُ؟»، قَالَ نَصْرٌ: وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ اسْمَ أَبِي، وَذَلِكَ أَنِّي وُلِدْتُ بِالمَدَائِنِ، فَحَمَلَنِي النَّوْفَلِيُّ وَقَدْ مَاتَ أَبِي، فَنَشَأْتُ بِهَا، فَلَمَّا سَمِعْتُ الصَّوْتَ قُمْتُ مُبَادِراً وَلَمْ أَنْصَرِفْ إِلَى أَبِي غَانِمٍ وَأَخَذْتُ طَرِيقَ مِصْرَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(568) وافيت القوم: أتيتهم.
(569) روى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 519 و520/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 12)، والخصيبي (رحمه الله) في الهداية الكبرى (ص 372)، والمفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 358 و359)، والحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص 434)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 262).
(570) في بعض النُّسَخ: (عن الأعلم البصري).
(571) في بعض النُّسَخ: (البصري).
(572) قد مرَّ هذه اللفظة في حكاية غانم الهندي تحت الرقم (392/6)، فراجع.
(573) في بعض النُّسَخ: (نصر بن عبد الله).

(٢٢٦)

قَالَ: وَكَتَبَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فِي وَلَدَيْنِ لَهُمَا، فَوَرَدَ: «أَمَّا أَنْتَ يَا فُلَانُ فَآجَرَكَ اللهُ»، وَدَعَا لِلْآخَرِ، فَمَاتَ ابْنُ المُعَزَّى.
[438/16] قَالَ: وحَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الوَجْنَائِيُّ، قَالَ: اضْطَرَبَ أَمْرُ البَلَدِ وَثَارَتْ فِتْنَةٌ، فَعَزَمْتُ عَلَى المُقَامِ بِبَغْدَادَ، [فَأَقَمْتُ] ثَمَانِينَ يَوْماً، فَجَاءَنِي شَيْخٌ وَقَالَ لِي: انْصَرِفْ إِلَى بَلَدِكَ، فَخَرَجْتُ مِنْ بَغْدَادَ وَأَنَا كَارِهٌ، فَلَمَّا وَافَيْتُ سُرَّ مَنْ رَأَى وَأَرَدْتُ المُقَامَ بِهَا لِمَا وَرَدَ عَلَيَّ مِنِ اضْطِرَابِ البَلَدِ، فَخَرَجْتُ فَمَا وَافَيْتُ المَنْزِلَ حَتَّى تَلَقَّانِي الشَّيْخُ وَمَعَهُ كِتَابٌ مِنْ أَهْلِي يُخْبِرُونَنِي بِسُكُونِ البَلَدِ وَيَسْأَلُونِّي القُدُومَ.
[439/17] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ، قَالَ: كَانَتْ لِلْغَرِيمِ (عليه السلام) عَلَيَّ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَنَا لَيْلَةً بِبَغْدَادَ وَبِهَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ(574) وَقَدْ فَزِعْتُ فَزَعاً شَدِيداً وَفَكَّرْتُ فِيمَا عَلَيَّ وَلِي، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: حَوَانِيتُ اشْتَرَيْتُهَا بِخَمْسِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ دِينَاراً، وَقَدْ جَعَلْتُهَا لِلْغَرِيمِ (عليه السلام) بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، قَالَ: فَجَاءَنِي مَنْ يَتَسَلَّمُ مِنِّي الحَوَانِيتَ وَمَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُطْلِقَ بِهِ لِسَانِي وَلَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَداً.
[440/18] حَدَّثَنِي أَبِي (رضي الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ(575)، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو القَاسِمِ بْنُ أَبِي حُلَيْسٍ(576)، قَالَ: كُنْتُ أَزُورُ الحُسَيْنَ (عليه السلام)(577) فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةً مِنَ السِّنِينَ وَرَدْتُ العَسْكَرَ قَبْلَ شَعْبَانَ وَهَمَمْتُ أَنْ لَا أَزُورَ فِي شَعْبَانَ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(574) في بعض النُّسَخ: (وقد كان لها ريح وظلمة).
(575) الظاهر سقط هنا: (عن علَّان الكليني) بقرينة ما تقدَّم في قصَّة الكابلي.
(576) في بعض النُّسَخ: (أبي حابس)، والظاهر الصواب ما في المتن، لأنَّ في المحكى عن نسخة ثمينة من الخرائج والجرائح للراوندي: (قال أبو القاسم الحليسي: كنت أزور العسكر في شعبان في أوَّله ثمّ أزور الحسين (عليه السلام) في النصف...) إلخ، بأدنى تفاوت في لفظها.
(577) كذا. وفي بعض النُّسَخ: (أزور الحير)، والظاهر هو الأصوب، وهو اسم القصر الذي كان بسُرَّ من رأى فيه قبر العسكريَّين (عليهما السلام)، والله أعلم.

(٢٢٧)

فَلَمَّا دَخَلَ شَعْبَانُ قُلْتُ: لَا أَدَعُ زِيَارَةً كُنْتُ أَزُورُهَا، فَخَرَجْتُ زَائِراً، وَكُنْتُ إِذَا وَرَدْتُ العَسْكَرَ أَعْلَمْتُهُمْ بِرُقْعَةٍ أَوْ بِرِسَالَةٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ الدَّفْعَةِ قُلْتُ لِأَبِي القَاسِمِ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الوَكِيلِ: لَا تُعْلِمْهُمْ بِقُدُومِي، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَجْعَلَهَا زَوْرَةً خَالِصَةً، قَالَ: فَجَاءَنِي أَبُو القَاسِمِ وَهُوَ يَتَبَسَّمُ وَقَالَ: بُعِثَ إِلَيَّ بِهَذَيْنِ الدِّينَارَيْنِ، وَقِيلَ لِي: «ادْفَعْهُمَا إِلَى الحُلَيْسِيِّ، وَقُلْ لَهُ: مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ»(578).
قَالَ: وَاعْتَلَلْتُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى عِلَّةً شَدِيدَةً أَشْفَقْتُ مِنْهَا، فَأَطْلَيْتُ(579) مُسْتَعِدًّا لِلْمَوْتِ، فَبَعَثَ إِلَيَّ بُسْتُوقَةً فِيهَا بَنَفْسَجِينٌ(580)، وَأُمِرْتُ بِأَخْذِهِ، فَمَا فَرَغْتُ حَتَّى أَفَقْتُ مِنْ عِلَّتِي، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
قَالَ: وَمَاتَ لِي غَرِيمٌ، فَكَتَبْتُ أَسْتَأْذِنُ فِي الخُرُوجِ إِلَى وَرَثَتِهِ بِوَاسِطٍ، وَقُلْتُ: أَصِيرُ إِلَيْهِمْ حِدْثَانَ مَوْتِهِ لَعَلِّي أَصِلُ إِلَى حَقِّي، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، ثُمَّ كَتَبْتُ ثَانِيَةً، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ كَتَبَ إِلَيَّ ابْتِدَاءً: «صِرْ إِلَيْهِمْ»، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَوَصَلَ إِلَيَّ حَقِّي.
قَالَ أَبُو القَاسِمِ: وَأَوْصَلَ أَبُو رُمَيْسٍ(581) عَشَرَةَ دَنَانِيرَ إِلَى حَاجِزٍ، فَنَسِيَهَا حَاجِزٌ أَنْ يُوصِلَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «تَبْعَثُ بِدَنَانِيرِ أَبُو رُمَيْسٍ» ابْتِدَاءً.
قَالَ(582): وَكَتَبَ هَارُونُ بْنُ مُوسَى بْنِ الفُرَاتِ فِي أَشْيَاءَ، وَخَطَّ بِالقَلَمِ بِغَيْرِ مِدَادٍ يَسْأَلُ الدُّعَاءَ لِابْنَيْ أَخِيهِ وَكَانَا مَحْبُوسَيْنِ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ جَوَابُ كِتَابِهِ، وَفِيهِ دُعَاءٌ لِلْمَحْبُوسِينَ بِاسْمِهِمَا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(578) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 569/ ح 513/13)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 443/ ح 24).
(579) في بعض النُّسَخ: (أشفقت فيها). وأطلى فلان إطلاءً: مالت عنقه للموت.
(580) شيء يُعمَل من البنفسج والأنجبين كالسكنجبين.
(581) في بعض النُّسَخ: (ابن رميس)، وفي بعضها: (أبو دميس).
(582) يعني قال سعد أو علَّان الكليني، وهو الصواب، وهكذا إلى آخر الخبر.

(٢٢٨)

قَالَ: وَكَتَبَ رَجُلٌ مِنْ رَبَضِ حُمَيْدٍ يَسْأَلُ الدُّعَاءَ فِي حَمْلٍ لَهُ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ: «الدُّعَاءُ فِي الحَمْلِ قَبْلَ الأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَسَتَلِدُ أُنْثَى»، فَجَاءَ كَمَا قَالَ (عليه السلام).
قَالَ: وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ البَصْرِيُّ(583) يَسْأَلُ الدُّعَاءَ فِي أَنْ يُكْفَى أَمْرَ بَنَاتِهِ، وَأَنْ يُرْزَقَ الحَجَّ، وَيُرَدَّ عَلَيْهِ مَالُهُ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ الجَوَابُ بِمَا سَأَلَ، فَحَجَّ مِنْ سَنَتِهِ وَمَاتَ مِنْ بَنَاتِهِ أَرْبَعٌ وَكَانَ لَهُ سِتٌّ، وَرُدَّ عَلَيْهِ مَالُهُ.
قَالَ: وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَاذَ(584) يَسْأَلُ الدُّعَاءَ لِوَالِدَيْهِ، فَوَرَدَ: «غَفَرَ اللهُ لَكَ وَلِوَالِدَيْكَ وَلِأُخْتِكَ المُتَوَفَّاةِ المُلَقَّبَةِ كلكي»، وَكَانَتْ هَذِهِ امْرَأَةً صَالِحَةً مُتَزَوِّجَةً بِجَوَّارٍ(585).
وَكَتَبْتُ فِي إِنْفَاذِ(586) خَمْسِينَ دِينَاراً لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ مِنْهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ لِابْنَةِ عَمٍّ لِي(587) لَمْ تَكُنْ مِنَ الإِيمَانِ عَلَى شَيْءٍ، فَجَعَلْتُ اسْمَهَا آخِرَ الرُّقْعَةِ وَالفُصُولِ، التَمِسُ بِذَلِكَ الدَّلَالَةَ فِي تَرْكِ الدُّعَاءِ، فَخَرَجَ فِي فُصُولِ المُؤْمِنِينَ: «تَقَبَّلَ اللهُ مِنْهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَثَابَكَ»، وَلَمْ يَدْعُ لِابْنَةِ عَمِّي بِشَيْءٍ.
قَالَ: وَأَنْفَذْتُ(588) أَيْضاً دَنَانِيرَ لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، فَأَعْطَانِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ دَنَانِيرَ، فَأَنْفَذْتُهَا بِاسْمِ أَبِيهِ مُتَعَمِّداً، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ دِينِ اللهِ عَلَى شَيْءٍ، فَخَرَجَ الوُصُولُ مِنْ عُنْوَانِ اسْمِهِ مُحَمَّدٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(583) في بعض النُّسَخ: (القصري).
(584) محمّد بن يزداذ - بالياء المثنَّاة من تحت والزاي والدال المهملة والذال المعجمة -. (راجع: رجال ابن داود: ص 187/ الرقم 1537).
(585) الجوَّار - ككتَّان -: الأكار.
(586) في بعض النُّسَخ: (أنقاد).
(587) في بعض النُّسَخ: (لابن عمِّي)، والضمائر فيما بعد مذكَّرة.
(588) في بعض النُّسَخ: (وأنقدت)، ونقدته الدراهم، ونقدت له الدراهم: أي أعطيته فانتقدها أي قبضها. ونقدت الدراهم وانتقدتها إذا أخرجت منها الزيف. (الصحاح للجوهري: ج 2/ ص 544/ مادَّة نقد).

(٢٢٩)

قَالَ: وَحَمَلْتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ لِي فِيهَا هَذِهِ الدَّلَالَةُ ألفَ دِينَارٍ، بَعَثَ بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ وَمَعِي أَبُو الحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ الجُنَيْدِ، فَحَمَلَ أَبُو الحُسَيْنِ الخُرْجَ إِلَى الدُّورِ، وَاكْتَرَيْنَا ثَلَاثَةَ أَحْمِرَةٍ، فَلَمَّا بَلَغْتُ القَاطُولَ(589) لَمْ نَجِدْ حَمِيراً، فَقُلْتُ لِأَبِي الحُسَيْنِ: احْمِلِ الخُرْجَ الَّذِي فِيهِ المَالُ وَاخْرُجْ مَعَ القَافِلَةِ حَتَّى أَتَخَلَّفَ فِي طَلَبِ حِمَارٍ لِإِسْحَاقَ بْنِ الجُنَيْدِ يَرْكَبُهُ فَإِنَّهُ شَيْخٌ، فَاكْتَرَيْتُ لَهُ حِمَاراً وَلَحِقْتُ بِأَبِي الحُسَيْنِ فِي الحَيْرِ - حَيْرِ سُرَّ مَنْ رَأَى - وَأَنَا أُسَامِرُهُ(590) وَأَقُولُ لَهُ: احْمَدِ اللهَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ هَذَا العَمَلَ دَامَ لِي، فَوَافَيْتُ سُرَّ مَنْ رَأَى وَأَوْصَلْتُ مَا مَعَنَا، فَأَخَذَهُ الوَكِيلُ بِحَضْرَتِي وَوَضَعَهُ فِي مِنْدِيلٍ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ غُلَامٍ أَسْوَدَ، فَلَمَّا كَانَ العَصْرُ جَاءَنِي بِرُزَيْمَةٍ(591) خَفِيفَةٍ، وَلَـمَّا أَصْبَحْنَا خَلَا بِي أَبُو القَاسِمِ وَتَقَدَّمَ أَبُو الحُسَيْنِ وَإِسْحَاقٌ، فَقَالَ أَبُو القَاسِمِ لِلْغُلَامِ: الَّذِي حَمَلَ الرُّزَيْمَةَ جَاءَنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، وَقَالَ لِي: ادْفَعْهَا إِلَى الرَّسُولِ الَّذِي حَمَلَ الرُّزَيْمَةَ، فَأَخَذْتُهَا مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ بَابِ الدَّارِ قَالَ لِي أَبُو الحُسَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ أَنْطِقَ أَوْ يَعْلَمَ أَنَّ مَعِي شَيْئاً: لَـمَّا كُنْتُ مَعَكَ فِي الحَيْرِ تَمَنَّيْتُ أَنْ يَجِئْنِي مِنْهُ دَرَاهِمُ أَتَبَرَّكُ بِهَا، وَكَذَلِكَ عَامُ أَوَّلَ حَيْثُ كُنْتُ مَعَكَ بِالعَسْكَرِ، فَقُلْتُ لَهُ: خُذْهَا فَقَدْ آتَاكَ اللهُ، وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
قَالَ: وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ كُشْمَرْدَ يَسْأَلُ الدُّعَاءَ أَنْ يَجْعَلَ ابْنَهُ أَحْمَدَ مِنْ أُمِّ وَلَدِهِ فِي حِلٍّ، فَخَرَجَ: «وَالصَّقْرِيُّ أَحَلَّ اللهُ لَهُ ذَلِكَ»، فَأَعْلَمَ (عليه السلام) أَنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو الصَّقْرِ.
قَالَ(592): وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ غَانِمٍ أَبِي سَعِيدٍ الهِنْدِيِّ وَجَمَاعَةٍ، عَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(589) موضع على دجلة.
(590) المسامرة: المحادثة بالليل. في بعض النُّسَخ: (أُسايره). وتقدَّم أنَّ الحير قصر كان بسُرَّ من رأى.
(591) تصغير (رزمة)، وهي بالكسر ما شُدَّ في ثوب واحد. وجاءني: أي أبو الحسين.
(592) من هنا إلى تمام الخبر تقدَّم في باب من شاهد القائم (عليه السلام) تحت الرقم (392/6) عن سعد، عن علَّان الكليني، عن عليِّ بن قيس، عن غانم أبي سعيد الهندي، ولا مناسبة له ظاهراً بهذا الباب.

(٢٣٠)

مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَشْعَرِيِّ، عَنْ غَانِمٍ، قَالَ: كُنْتُ أَكُونُ مَعَ مَلِكِ الهِنْدِ بِقِشْمِيرَ الدَّاخِلَةِ وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلاً نَقْعُدُ حَوْلَ كُرْسِيِّ المَلِكِ، وَقَدْ قَرَأْنَا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ، وَيُفْزَعُ إِلَيْنَا فِي العِلْمِ، فَتَذَاكَرْنَا يَوْماً أَمْرَ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَقُلْنَا: نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا، وَاتَّفَقْنَا عَلَى أَنْ أَخْرُجَ فِي طَلَبِهِ وَأَبْحَثَ عَنْهُ، فَخَرَجْتُ وَمَعِي مَالٌ، فَقَطَعَ عَلَيَّ التُّرْكُ وَشَلَّحُونِي، فَوَقَعْتُ إِلَى كَابُلَ، وَخَرَجْتُ مِنْ كَابُلَ إِلَى بَلْخٍ وَالأَمِيرُ بِهَا ابْنُ أَبِي شَوْرٍ(593)، فَأَتَيْتُهُ وَعَرَّفْتُهُ مَا خَرَجْتُ لَهُ، فَجَمَعَ الفُقَهَاءَ وَالعُلَمَاءَ لِمُنَاظَرَتِي، فَسَألتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقَالَ: هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَقَدْ مَاتَ، فَقُلْتُ: وَمَنْ كَانَ خَلِيفَتُهُ؟ فَقَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، فَقُلْتُ: انْسِبُوهُ لِي، فَنَسَبُوهُ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِنَبِيٍّ، إِنَّ النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا خَلِيفَتُهُ ابْنُ عَمِّهِ وَزَوْجُ ابْنَتِهِ وَأَبُو وُلْدِهِ، فَقَالُوا لِلْأَمِيرِ: إِنَّ هَذَا قَدْ خَرَجَ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى الكُفْرِ، مُرْ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَنَا مُتَمَسِّكٌ بِدِينٍ لَا أَدَعُهُ إِلَّا بِبَيَانٍ.
فَدَعَا الأَمِيرُ الحُسَيْنَ بْنَ إِسْكِيبَ، وَقَالَ لَهُ: نَاظِرِ الرَّجُلَ، فَقَالَ لَهُ: العُلَمَاءُ وَالفُقَهَاءُ حَوْلَكَ فَمُرْهُمْ بِمُنَاظَرَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: نَاظِرْهُ كَمَا أَقُولُ لَكَ، وَاخْلُ بِهِ وَألطِفْ لَهُ، فَقَالَ: فَخَلَا بِيَ الحُسَيْنُ، فَسَألتُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقَالَ: هُوَ كَمَا قَالُوهُ لَكَ، غَيْرَ أَنَّ خَلِيفَتَهُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَمُحَمَّدٌ ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، وَأَبُو وَلَدَيْهِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ، فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَصِرْتُ إِلَى الأَمِيرِ فَأَسْلَمْتُ، فَمَضَى بِي إِلَى الحُسَيْنِ فَفَقَّهَنِي، فَقُلْتُ: إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ لَا يَمْضِي خَلِيفَةٌ إِلَّا عَنْ خَلِيفَةٍ، فَمَنْ كَانَ خَلِيفَةُ عَلِيٍّ (عليه السلام)؟ قَالَ: الحَسَنُ، ثُمَّ الحُسَيْنُ، ثُمَّ سَمَّى الأَئِمَّةَ حَتَّى بَلَغَ إِلَى الحَسَنَ (عليه السلام)، ثُمَّ قَالَ: تَحْتَاجُ أَنْ تَطْلُبَ خَلِيفَةَ الحَسَنِ وَتَسْأَلَ عَنْهُ، فَخَرَجْتُ فِي الطَّلَبِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(593) في بعض النُّسَخ: (ابن أبي شبور).

(٢٣١)

فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: فَوَافَى مَعَنَا بَغْدَادَ، فَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ رَفِيقٌ قَدْ صَحِبَهُ عَلَى هَذَا الأَمْرِ، فَكَرِهَ بَعْضَ أَخْلَاقِهِ فَفَارَقَهُ.
قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَمَسَّحْتُ فِي الصَّرَاةِ(594) وَأَنَا مُفَكِّرٌ فِيمَا خَرَجْتُ لَهُ إِذْ أَتَانِي آتٍ وَقَالَ لِي: أَجِبْ مَوْلَاكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَخْتَرِقُ بِيَ المَحَالَّ حَتَّى أَدْخَلَنِي دَاراً وَبُسْتَاناً، وَإِذَا مَوْلَايَ (عليه السلام) قَاعِدٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ كَلَّمَنِي بِالهِنْدِيَّةِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، وَأَخْبَرَنِي بِاسْمِي، وَسَأَلَنِي عَنِ الأَرْبَعِينَ رَجُلاً بِأَسْمَائِهِمْ عَنِ اسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: «تُرِيدُ الحَجَّ مَعَ أَهْلِ قُمَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؟ فَلَا تَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَانْصَرِفْ إِلَى خُرَاسَانَ، وَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ»، قَالَ: وَرَمَى إِلَيَّ بِصُرَّةٍ، وَقَالَ: «اجْعَلْ هَذِهِ فِي نَفَقَتِكَ، وَلَا تَدْخُلْ فِي بَغْدَادَ إِلَى دَارِ أَحَدٍ، وَلَا تُخْبِرْ بِشَيْءٍ مِمَّا رَأَيْتَ».
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَانْصَرَفْنَا مِنَ العَقَبَةِ وَلَمْ يُقْضَ لَنَا الحَجُّ، وَخَرَجَ غَانِمٌ إِلَى خُرَاسَانَ وَانْصَرَفَ مِنْ قَابِلٍ حَاجًّا، وَبَعَثَ إِلَيْنَا بِألطَافٍ وَلَمْ يَدْخُلْ قُمَّ، وَحَجَّ وَانْصَرَفَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَمَاتَ بِهَا (رحمه الله).
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ عَنِ الكَابُليِّ - وَقَدْ كُنْتُ رَأَيْتُهُ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ -، فَذَكَرَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ كَابُلَ مُرْتَاداً طَالِباً، وَأَنَّهُ وَجَدَ صِحَّةَ هَذَا الدِّينِ فِي الإِنْجِيلِ وَبِهِ اهْتَدَى.
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ بِنَيْسَابُورَ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ(595) فَتَرَصَّدْتُ لَهُ حَتَّى لَقِيتُهُ، فَسَألتُهُ عَنْ خَبَرِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي الطَّلَبِ، وَأَنَّهُ أَقَامَ بِالمَدِينَةِ، فَكَانَ لَا يَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ إِلَّا زَجَرَهُ، فَلَقِيَ شَيْخاً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَهُوَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ العُرَيْضِيُّ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُهُ بِصُرْيَاءَ، قَالَ: فَقَصَدْتُ صُرْيَاءَ، وَجِئْتُ إِلَى دِهْلِيزٍ مَرْشُوشٍ، فَطَرَحْتُ نَفْسِي عَلَى الدُّكَّانِ، فَخَرَجَ إِلَيَّ غُلَامٌ أَسْوَدُ فَزَجَرَنِي وَانْتَهَرَنِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(594) تقدَّم سابقاً أنَّهما نهران بالعراق، وهما العظمى والصغرى.
(595) يعني إلى الحضرة (عليه السلام).

(٢٣٢)

وَقَالَ لِي: قُمْ مِنْ هَذَا المَكَانِ وَانْصَرِفْ، فَقُلْتُ: لَا أَفْعَلُ، فَدَخَلَ الدَّارَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ وَقَالَ: ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا مَوْلَايَ (عليه السلام) قَاعِدٌ بِوَسَطِ الدَّارِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ سَمَّانِي بِاسْمٍ لِي لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلِي بِكَابُلَ، وَأَجْرَى لِي أَشْيَاءَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ نَفَقَتِي قَدْ ذَهَبَتْ فَمُرْ لِي بِنَفَقَةٍ، فَقَالَ لِي: «أَمَا إِنَّهَا سَتَذْهَبُ مِنْكَ بِكَذِبِكَ»، وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، فَضَاعَ مِنِّي مَا كَانَ مَعِي وَسَلِمَ مَا أَعْطَانِي، ثُمَّ انْصَرَفْتُ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ وَلَمْ أَجِدْ فِي الدَّارِ أَحَداً.
[441/19] حَدَّثَنِي أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الأَشْعَرِيُّ، قَالَ: كَانَتْ لِي زَوْجَةٌ مِنَ المَوَالِي قَدْ كُنْتُ هَجَرْتُهَا دَهْراً، فَجَاءَتْنِي فَقَالَتْ: إِنْ كُنْتَ قَدْ طَلَّقْتَنِي فَأَعْلِمْنِي، فَقُلْتُ لَهَا: لَمْ أُطَلِّقْكِ وَنِلْتُ مِنْهَا فِي هَذَا اليَوْمِ، فَكَتَبَتْ إِلَيَّ بَعْدَ أَشْهُرٍ تَدَّعِي أَنَّهَا حَامِلٌ، فَكَتَبْتُ فِي أَمْرِهَا وَفِي دَارٍ كَانَ صِهْرِي أَوْصَى بِهَا لِلْغَرِيمِ (عليه السلام) أَسْأَلُ أَنْ يُبَاعَ مِنِّي وَأَنْ يُنَجَّمَ عَلَيَّ ثَمَنُهَا(596)، فَوَرَدَ الجَوَابُ فِي الدَّارِ: «قَدْ أُعْطِيتَ مَا سَالتَ»، وَكَفَّ عَنْ ذِكْرِ المَرْأَةِ وَالحَمْلِ، فَكَتَبَتْ إِلَيَّ المَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تُعْلِمُنِي أَنَّهَا كَتَبَتْ بِبَاطِلٍ وَأَنَّ الحَمْلَ لَا أَصْلَ لَهُ، وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
[442/20] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ المَتِّيليُّ(597)، قَالَ: جَاءَنِي أَبُو جَعْفَرٍ فَمَضَى بِي إِلَى العَبَّاسِيَّةِ وَأَدْخَلَنِي خَرِبَةً وَأَخْرَجَ كِتَاباً فَقَرَأَهُ عَلَيَّ، فَإِذَا فِيهِ شَرْحُ جَمِيعِ مَا حَدَثَ عَلَى الدَّارِ، وَفِيهِ: «أَنَّ فُلَانَةَ - يَعْنِي أُمَّ عَبْدِ اللهِ - تُؤْخَذُ بِشَعْرِهَا وَتُخْرَجُ مِنَ الدَّارِ وَيُحْدَرُ بِهَا إِلَى بَغْدَادَ فَتَقْعُدُ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ -» وَأَشْيَاءَ مِمَّا يَحْدُثُ، ثُمَّ قَالَ لِي: احْفَظْ، ثُمَّ مَزَّقَ الكِتَابَ، وَذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحْدُثَ مَا حَدَثَ بِمُدَّةٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(596) أي يُقرِّر أدائه في أوقات معلومة متتابعة نجوماً لا دفعة واحدة.
(597) في بعض النُّسَخ: (المسلي)، وفي بعضها: (النيلي).

(٢٣٣)

[443/21] قَالَ(598): وَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ المَرْوَزِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى العَسْكَرِ وَأُمُّ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) فِي الحَيَاةِ وَمَعِي جَمَاعَةٌ، فَوَافَيْنَا العَسْكَرَ، فَكَتَبَ أَصْحَابِي يَسْتَأْذِنُونَ فِي الزِّيَارَةِ مِنْ دَاخِلٍ بِاسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ، فَقُلْتُ: لَا تُثْبِتُوا اسْمِي فَإِنِّي لَا أَسْتَأْذِنُ، فَتَرَكُوا اسْمِي، فَخَرَجَ الإِذْنُ: «ادْخُلُوا وَمَنْ أَبَى أَنْ يَسْتَأْذِنَ».
[444/22] قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو الحَسَنِ جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: كَتَبَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الفَرَجِ الرُّخَّجِيُّ فِي أَشْيَاءَ، وَكَتَبَ فِي مَوْلُودٍ وُلِدَ لَهُ يَسْأَلُ أَنْ يُسَمَّى، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الجَوَابُ فِيمَا سَأَلَ، وَلَمْ يُكْتَبْ إِلَيْهِ فِي المَوْلُودِ شَيْءٌ، فَمَاتَ الوَلَدُ، وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
قَالَ: وَجَرَى بَيْنَ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مُجْتَمِعِينَ عَلَى كَلَامٍ فِي مَجْلِسٍ، فَكَتَبَ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ شَرْحَ مَا جَرَى فِي المَجْلِسِ.
[445/23] قَالَ: وَحَدَّثَنِي العَاصِمِيُ أَنَّ رَجُلًا تَفَكَّرَ فِي رَجُلٍ يُوصِلُ إِلَيْهِ مَا وَجَبَ لِلْغَرِيمِ (عليه السلام)، وَضَاقَ بِهِ صَدْرُهُ، فَسَمِعَ هَاتِفاً يَهْتِفُ بِهِ: «أَوْصِلْ مَا مَعَكَ إِلَى حَاجِزٍ».
قَالَ: وَخَرَجَ أَبُو مُحَمَّدٍ السَّرْوِيُّ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى وَمَعَهُ مَالٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً: «فَلَيْسَ فِينَا شَكٌّ وَلَا فِيمَنْ يَقُومُ مَقَامَنَا شَكٌّ، وَرُدَّ مَا مَعَكَ إِلَى حَاجِزٍ».
[446/24] قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ، قَالَ: بَعَثْنَا مَعَ ثِقَةٍ مِنْ ثِقَاتِ إِخْوَانِنَا إِلَى العَسْكَرِ شَيْئاً، فَعَمَدَ الرَّجُلُ فَدَسَّ فِيمَا مَعَهُ رُقْعَةً مِنْ غَيْرِ عِلْمِنَا، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ الرُّقْعَةُ مِنْ غَيْرِ جَوَابٍ.
قَالَ(599) أَبُو عَبْدِ اللهِ الحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الكِنْدِيُّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو طَاهِرٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(598) يعني سعد بن عبد الله.
(599) كلام سعد بن عبد الله، أو علَّان الكليني الساقط في السند على ما استظهرناه. وكذا قوله: (فقلت له) فيما يأتي. وضمير (له) راجع إلى الحسين. وكذا المستتر في قوله: (فأخبر) فيما يأتي.

(٢٣٤)

البِلَالِيُّ: التَّوْقِيعُ الَّذِي خَرَجَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) فَعَلَّقُوهُ فِي الخَلَفِ بَعْدَهُ وَدِيعَةٌ فِي بَيْتِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: أُحِبُّ أَنْ تَنْسَخَ لِي مِنْ لَفْظِ التَّوْقِيعِ مَا فِيهِ، فَأَخْبَرَ أَبَا طَاهِرٍ بِمَقَالَتِي(600)، فَقَالَ لَهُ: جِئْنِي بِهِ حَتَّى يَسْقُطَ الإِسْنَادُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) قَبْلَ مُضِيِّهِ بِسَنَتَيْنِ يُخْبِرُنِي بِالخَلَفِ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ بَعْدَ مُضِيِّهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يُخْبِرُنِي بِذَلِكَ(601)، فَلَعَنَ اللهُ مَنْ جَحَدَ أَوْلِيَاءَ اللهِ حُقُوقَهُمْ وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَالحَمْدُ لِلهِ كَثِيراً.
[447/25] قَالَ: وَكَتَبَ جَعْفَرُ بْنُ حَمْدَانَ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ المَسَائِلُ: اسْتَحْلَلْتُ بِجَارِيَةٍ وشَرَطْتُ عَلَيْهَا أَنْ لَا أَطْلُبَ وَلَدَهَا وَلَا ألزِمَهَا مَنْزِلِي، فَلَمَّا أَتَى لِذَلِكَ مُدَّةٌ قَالَتْ لِي: قَدْ حَبِلْتُ، فَقُلْتُ لَهَا: كَيْفَ وَلَا أَعْلَمُ أَنِّي طَلَبْتُ مِنْكِ الوَلَدَ؟ ثُمَّ غِبْتُ وَانْصَرَفْتُ وَقَدْ أَتَتْ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ فَلَمْ أُنْكِرْهُ وَلَا قَطَعْتُ عَنْهَا الإِجْرَاءَ وَالنَّفَقَةَ، وَلِي ضَيْعَةٌ قَدْ كُنْتُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ إِلَيَّ هَذِهِ المَرْأَةُ سَبَّلْتُهَا عَلَى وَصَايَايَ وَعَلَى سَائِرِ وُلْدِي عَلَى أَنَّ الأَمْرَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ إِلَيَّ أَيَّامَ حَيَاتِي، وَقَدْ أَتَتْ هَذِهِ بِهَذَا الوَلَدِ، فَلَمْ الحِقْهُ فِي الوَقْفِ المُتَقَدِّمِ المُؤَبَّدِ، وَأَوْصَيْتُ إِنْ حَدَثَ بِي حَدَثُ المَوْتِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ مَا دَامَ صَغِيراً، فَإِذَا كَبِرَ أُعْطِيَ مِنْ هَذِهِ الضَّيْعَةِ جُمْلَةً مِائَتَيْ دِينَارٍ غَيْرَ مُؤَبَّدٍ، وَلَا يَكُونَ لَهُ وَلَا لِعَقِبِهِ بَعْدَ إِعْطَائِهِ ذَلِكَ فِي الوَقْفِ شَيْءٌ، فَرَأْيُكَ أَعَزَّكَ اللهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(600) في بعض النُّسَخ: (بمسألتي).
(601) حاصل المعنى أنَّ الحسين بن إسماعيل سمع من البلالي أنَّه قال: التوقيع الذي خرج إليَّ من أبي محمّد (عليه السلام) في أمر الخلف القائم هو من جملة ما أودعتك في بيتك - وكان قد أودعه أشياء كان في بيته -، فأخبر الحسين سعداً بما سمع منه، فقال سعد للحسين: أُحِبُّ أنْ ترى التوقيع الذي عنده وتكتب لي من لفظه، فأخبر الحسين أبا طاهر بمقالة سعد، فقال أبو طاهر: جئني بسعد حتَّى يسمع منِّي بلا واسطة، فلمَّا حضره أخبره بالتوقيع. كما قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 335)، وأيَّد بيانه بالخبر المروي في الكافي (ج 1/ ص 328/ باب الإشارة والنصِّ على صاحب الدار (عليه السلام)/ ح 1)، حيث روي هذا التوقيع عن محمّد بن عليِّ بن بلال.

(٢٣٥)

فِي إِرْشَادِي فِيمَا عَمِلْتُهُ وَفِي هَذَا الوَلَدِ بِمَا أَمْتَثِلُهُ وَالدُّعَاءِ لِي بِالعَافِيَةِ وَخَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
جَوَابُهَا: «وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي اسْتَحَلَّ بِالجَارِيَةِ وَشَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَطْلُبَ وَلَدَهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي قُدْرَتِهِ، شَرْطُهُ عَلَى الجَارِيَةِ(602) شَرْطٌ عَلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ)، هَذَا مَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ، وَحَيْثُ عَرَفَ فِي هَذَا الشَّكَّ وَلَيْسَ يَعْرِفُ الوَقْتَ الَّذِي أَتَاهَا فِيهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبِ البَرَاءَةِ فِي وَلَدِهِ، وَأَمَّا إِعْطَاءُ المِائَتَيْ دِينَارٍ وَإِخْرَاجُهُ [إِيَّاهُ وَعَقِبَهُ] مِنَ الوَقْفِ فَالمَالُ مَالُهُ فَعَلَ فِيهِ مَا أَرَادَ».
قَالَ أَبُو الحُسَيْنِ: حَسَبَ الحِسَابَ قَبْلَ المَوْلُودِ، فَجَاءَ الوَلَدُ مُسْتَوِياً(603).
وَقَالَ: وَجَدْتُ فِي نُسْخَةِ أَبِي الحَسَنِ الهَمْدَانِيِ: أَتَانِي أَبْقَاكَ اللهُ كِتَابُكَ والكِتَابُ الَّذِي أَنْفَذْتُهُ.
وروى هذا التوقيع الحسن بن عليِّ بن إبراهيم، عن السيَّاري.
[448/26] وَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْمَرِيُّ (رضي الله عنه) يَسْأَلُ كَفَناً، فَوَرَدَ: «إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَنَةَ ثَمَانِينَ أَوْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ»، فَمَاتَ (رحمه الله) فِي الوَقْتِ الَّذِي حَدَّهُ، وَبُعِثَ إِلَيْهِ بِالكَفَنِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ(604).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(602) في بعض النُّسَخ: (شرطه في الجارية...) إلخ. وفي بعض النُّسَخ: (شرط على الجارية شرطاً على الله)، وفي بعضها: (شرط على الجارية شرط على الله)، وكذا في بحار الأنوار، وقال المجلسي (رحمه الله): («شرط على الجارية» مبتدأ، و«شرط على الله» خبره، أو هما فعلان والأوَّل استفهام إنكاري). (بحار الأنوار: ج 53/ ص 187). وما اخترناه في المتن معناه ظاهر.
(603) الظاهر أنَّ الرجل حسب حسابه التقديري قبل ميلاد الولد، فجاء الولد حسبما قدَّره فعرف أنَّه ولده. والله أعلم.
(604) روى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 524/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 27)، والمفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 366)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 283 و284 و297 و298/ ح 243 و253)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 266)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 590/ ح 535/1)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 463 و464/ ح 8).

(٢٣٦)

[449/27] [حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَهْزِيَارَ]، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى حَكِيمَةَ(605) بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا أُخْتِ أَبِي الحَسَنِ العَسْكَرِيِّ (عليهم السلام) فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بِالمَدِينَةِ، فكَلَّمْتُهَا مِنْ وَرَاءِ الحِجَابِ، وَسَألتُهَا عَنْ دِينِهَا، فَسَمَّتْ لِي مَنْ تَأْتَمُّ بِهِ، ثُمَّ قَالَتْ: فُلَانُ بْنُ الحَسَنِ (عليه السلام)، فَسَمَّتْهُ، فَقُلْتُ لَهَا: جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكِ مُعَايَنَةً أَوْ خَبَراً؟ فَقَالَتْ: خَبَراً عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) كَتَبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ، فَقُلْتُ لَهَا: فَأَيْنَ المَوْلُودُ(606)؟ فَقَالَتْ: مَسْتُورٌ، فَقُلْتُ: فَإِلَى مَنْ تَفْزَعُ الشِّيعَةُ؟ فَقَالَتْ: إِلَى الجَدَّةِ أُمِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقُلْتُ لَهَا: أَقْتَدِي بِمَنْ وَصِيَّتُهُ إِلَى المَرْأَةِ(607)؟ فَقَالَتْ: اقْتِدَاءً بِالحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهما السلام)، إِنَّ الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) أَوْصَى إِلَى أُخْتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فِي الظَّاهِرِ، وَكَانَ مَا يَخْرُجُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ مِنْ عِلْمٍ يُنْسَبُ إِلَى زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيٍّ تَسَتُّراً عَلَى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ أَصْحَابُ أَخْبَارٍ، أَمَا رَوَيْتُمْ أَنَّ التَّاسِعَ مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) يُقْسَمُ مِيرَاثُهُ وَهُوَ فِي الحَيَاةِ(608)،(609)؟
[450/28] وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَسْوَدُ (رضي الله عنه)، قَالَ: كُنْتُ أَحْمِلُ الأَمْوَالَ الَّتِي تُجْعَلُ فِي بَابِ الوَقْفِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ العَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، فَيَقْبِضُهَا مِنِّي، فَحَمَلْتُ إِلَيْهِ يَوْماً شَيْئاً مِنَ الأَمْوَالِ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(605) في بعض النُّسَخ: (حليمة)، وفي بعضها: (خديجة).
(606) في بعض النُّسَخ: (فأين الولد).
(607) في بعض النُّسَخ: (اقتدأتم في وصيَّته بامرأة).
(608) رواه الخصيبي (رحمه الله) في الهداية الكبرى (ص 366 و367)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 271 و272)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 230 و231/ ح 196).
(609) لا مناسبة بين هذا الحديث وما يأتي وبين عنوان الباب.

(٢٣٧)

قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَأَمَرَنِي بِتَسْلِيمِهِ إِلَى أَبِي القَاسِمِ الرَّوْحِيِّ (رضي الله عنه)، وَكُنْتُ أُطَالِبُهُ بِالقُبُوضِ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ العَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، فَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُطَالِبَهُ بِالقَبْضِ(610)، وَقَالَ: كُلَّمَا وَصَلَ إِلَى أَبِي القَاسِمِ وَصَلَ إِلَيَّ، قَالَ: فَكُنْتُ أَحْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ الأَمْوَالَ إِلَيْهِ وَلَا أُطَالِبُهُ بِالقُبُوضِ(611).
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): الدلالة في هذا الحديث هي في المعرفة بمبلغ ما يُحمَل إليه والاستغناء عن القبوض، ولا يكون ذلك إلَّا من أمر الله (عزَّ وجلَّ).
[451/29] وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَسْوَدُ (رضي الله عنه) أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ العَمْرِيَّ حَفَرَ لِنَفْسِهِ قَبْراً وَسَوَّاهُ بِالسَّاجِ، فَسَألتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لِلنَّاسِ أَسْبَابٌ، ثُمَّ سَألتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَمْرِي. فَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهْرَيْنِ (رضي الله عنه)(612).
[452/30] وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَسْوَدُ (رضي الله عنه)، قَالَ: دَفَعَتْ إِلَيَّ امْرَأَةٌ سَنَةً مِنَ السِّنِينَ ثَوْباً، وَقَالَتْ: احْمِلْهُ إِلَى العَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، فَحَمَلْتُهُ مَعَ ثِيَابٍ كَثِيرَةٍ، فَلَمَّا وَافَيْتُ بَغْدَادَ أَمَرَنِي بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ العَبَّاسِ القُمِّيِّ، فَسَلَّمْتُهُ ذَلِكَ كُلَّهُ مَا خَلَا ثَوْبَ المَرْأَةِ، فَوَجَّهَ إِلَيَّ العَمْرِيُّ (رضي الله عنه) وَقَالَ: ثَوْبُ المَرْأَةِ سَلِّمْهُ إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ امْرَأَةً سَلَّمَتْ إِلَيَّ ثَوْباً، وَطَلَبْتُهُ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَقَالَ لِي: لَا تَغْتَمَّ فَإِنَّكَ سَتَجِدُهُ، فَوَجَدْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ العَمْرِيِّ (رضي الله عنه) نُسْخَةُ مَا كَانَ مَعِي.
[453/31] وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَسْوَدُ (رضي الله عنه)، قَالَ: سَأَلَنِي عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ (رضي الله عنه) بَعْدَ مَوْتِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ العَمْرِيِّ (رضي الله عنه) أَنْ أَسْأَلَ أَبَا القَاسِمِ الرَّوْحِيَّ أَنْ يَسْأَلَ مَوْلَانَا صَاحِبَ الزَّمَانِ (عليه السلام) أَنْ يَدْعُوَ اللهَ (عزَّ وجلَّ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(610) في بعض النُّسَخ: (بالقبوض).
(611) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 370/ ح 338).
(612) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 365 و366/ ح 333)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 268)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1120/ ح 36).

(٢٣٨)

أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَداً ذَكَراً، قَالَ: فَسَألتُهُ، فَأَنْهَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنَّهُ قَدْ دَعَا لِعَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ، وَأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ مُبَارَكٌ يَنْفَعُ [اللهُ] بِهِ وَبَعْدَهُ أَوْلَادٌ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَسْوَدُ (رضي الله عنه): وَسَألتُهُ فِي أَمْرِ نَفْسِي أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لِي أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَداً ذَكَراً، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَيْسَ إِلَى هَذَا سَبِيلٌ، قَالَ: فَوُلِدَ لِعَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ (رضي الله عنه) مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَبَعْدَهُ أَوْلَادٌ(613)، وَلَمْ يُولَدْ لِي شَيْءٌ(614).
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): كان أبو جعفر محمّد بن عليٍّ الأسود (رضي الله عنه) كثيراً ما يقول لي - إذا رآني أختلف إلى مجلس شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) وأرغب في كُتُب العلم وحفظه -: ليس بعجب أنْ تكون لك هذه الرغبة في العلم، وَأنت ولدت بدعاء الإمام (عليه السلام).
[454/32] حَدَّثَنَا أَبُو الحُسَيْنِ صَالِحُ بْنُ شُعَيْبٍ الطَّالَقَانِيُّ (رضي الله عنه) فِي ذِي القَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَضَرْتُ بَغْدَادَ عِنْدَ المَشَايِخِ (رضي الله عنهم)، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيُّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) ابْتِدَاءً مِنْهُ: «رَحِمَ اللهُ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ القُمِّيَّ»، قَالَ: فَكَتَبَ المَشَايِخُ تَارِيخَ ذَلِكَ اليَوْمِ، فَوَرَدَ الخَبَرُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَمَضَى أَبُو الحَسَنِ السَّمُرِيُّ (رضي الله عنه) بَعْدَ ذَلِكَ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ(615).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(613) في بعض النُّسَخ: (فوُلِدَ لعليِّ بن الحسين (رحمه الله) تلك السنة ابنه محمّد وبعده أولاد).
(614) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 320/ ح 266)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 268 و269)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 614/ ح 560/8)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1124/ ح 43).
(615) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 394/ ح 364)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 269)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 614/ ح 561/9)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1128/ ح 45).

(٢٣٩)

[455/33] أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَتِّيلٍ، عَنْ عَمِّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَتِّيلٍ(616)، قَالَ: لَـمَّا حَضَرَتْ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ السَّمَّانَ (رضي الله عنه) الوَفَاةُ كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ رَأْسِهِ أُسَائِلُهُ وَأُحَدِّثُهُ، وَأَبُو القَاسِمِ الحُسَيْنُ بْنُ رُوحٍ، فَالتَفَتَ إِلَيَّ ثُمَّ قَالَ لِي: قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أُوصِيَ إِلَى أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ، قَالَ: فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ(617) وَأَخَذْتُ بِيَدِ أَبِي القَاسِمِ وَأَجْلَسْتُهُ فِي مَكَانِي وَتَحَوَّلْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ(618).
[456/34] وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَتِّيلٍ، قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ مِنْ أَهْلِ آبَةَ - وَكَانَتْ امْرَأَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عِبْدِيلٍ الآبِيِّ - مَعَهَا ثَلَاثُمِائَةِ دِينَارٍ، فَصَارَتْ إِلَى عَمِّي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَتِّيلٍ، وَقَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ أُسَلِّمَ هَذَا المَالَ مِنْ يَدِي إِلَى يَدِ أَبِي القَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ، قَالَ: فَأَنْفَذَنِي مَعَهَا أُتَرْجِمُ عَنْهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَى أَبِي القَاسِمِ (رضي الله عنه) أَقْبَلَ يُكَلِّمُهَا بِلِسَانٍ آبِيٍّ فَصِيحٍ، فَقَالَ لَهَا: (زينب چونا، خويذا، كوابذا، چون استه)(619)، وَمَعْنَاهُ: كَيْفَ أَنْتِ؟ وَكَيْفَ كُنْتِ؟ وَمَا خَبَرُ صِبْيَانِكِ(620)؟ قَالَ: فَاسْتَغْنَتْ عَنِ التَّرْجُمَةِ، وَسَلَّمَتِ المَالَ وَرَجَعَتْ(621).
[457/35] وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَتِّيلٍ، قَالَ: قَالَ عَمِّي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ مَتِّيلٍ: دَعَانِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ السَّمَّانُ المَعْرُوفُ بِالعَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ ثُوَيْبَاتٍ مُعْلَمَةً وَصُرَّةً فِيهَا دَرَاهِمُ، فَقَالَ لِي: يَحْتَاجُ أَنْ تَصِيرَ بِنَفْسِكَ إِلَى وَاسِطٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(616) في بعض النُّسَخ وفي غيبة الشيخ: (جعفر بن أحمد بن متّيل).
(617) في بعض النُّسَخ: (فقمت من مكاني).
(618) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 370/ ح 339).
(619) لسان آوجي محلَّى، معناه بالفارسيَّة الدارجة اليوم: (چطوري؟ خوشي؟ كجا بودى؟ بچه­هايت چطورند؟).
(620) في بعض النُّسَخ: (كيف أنتِ؟ وكيف مكثتِ؟ وما خبر صبيانك؟).
(621) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 321/ ح 268)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1121/ ح 38).

(٢٤٠)

فِي هَذَا الوَقْتِ وَتَدْفَعَ مَا دَفَعْتُ إِلَيْكَ إِلَى أَوَّلِ رَجُلٍ يَلْقَاكَ عِنْدَ صُعُودِكَ مِنَ المَرْكَبِ إِلَى الشَّطِّ بِوَاسِطٍ، قَالَ: فَتَدَاخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ غَمٌّ شَدِيدٌ، وَقُلْتُ: مِثْلِي يُرْسَلُ فِي هَذَا الأَمْرِ وَيَحْمِلُ هَذَا الشَّيْءَ الوَتْحَ(622)؟
قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى وَاسِطٍ وَصَعِدْتُ مِنَ المَرْكَبِ، فَأَوَّلُ رَجُلٍ يَلْقَانِي سَالتُهُ عَنِ الحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَطَاةٍ الصَّيْدَلَانِيِّ(623) وَكِيلِ الوَقْفِ بِوَاسِطٍ، فَقَالَ: أَنَا هُوَ، مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَتِّيلٍ، قَالَ: فَعَرَفَنِي بِاسْمِي وَسَلَّمَ عَلَيَّ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَتَعَانَقْنَا، فَقُلْتُ لَهُ: أَبُو جَعْفَرٍ العَمْرِيُّ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَدَفَعَ إِلَيَّ هَذِهِ الثُوَيْبَاتِ وَهَذِهِ الصُّرَّةَ لِأُسَلِّمَهَا إِلَيْكَ، فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الحَائِرِيَّ(624) قَدْ مَاتَ وَخَرَجْتُ لِإِصْلَاحِ كَفَنِهِ، فَحَلَّ الثِّيَابَ وَإِذَا فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ حِبَرٍ وَثِيَابٍ وَكَافُورٍ فِي الصُّرَّةِ، وَكِرَاءِ الحَمَّالِينَ وَالحَفَّارِ، قَالَ: فَشَيَّعْنَا جَنَازَتَهُ وَانْصَرَفْتُ(625).
[458/36] وَأَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَلَوِيُّ ابْنُ أَخِي طَاهِرٍ بِبَغْدَادَ طَرَفِ سُوقِ القُطْنِ فِي دَارِهِ، قَالَ: قَدِمَ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ العَقِيقِيُّ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ الجَرَّاحِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ وَزِيرٌ فِي أَمْرِ ضَيْعَةٍ لَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ بَيْتِكَ فِي هَذَا البَلَدِ كَثِيرٌ، فَإِنْ ذَهَبْنَا نُعْطِي كُلَّمَا سَأَلُونَا طَالَ ذَلِكَ - أَوْ كَمَا قَالَ -، فَقَالَ لَهُ العَقِيقِيُّ: فَإِنِّي أَسْأَلُ مَنْ فِي يَدِهِ قَضَاءُ حَاجَتِي، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: اللهُ (عزَّ وجلَّ)، وَخَرَجَ مُغْضَباً، قَالَ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا أَقُولُ: فِي اللهِ عَزَاءٌ مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكٌ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(622) الوتح - بالتحريك وككتف -: القليل التافه من الشيء.
(623) الصيدلان قرية من قرى واسط.
(624) في بعض النُّسَخ: (العامري).
(625) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 598 و599/ ح 542/6)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1119 و1120/ ح 35).

(٢٤١)

قَالَ: فَانْصَرَفْتُ، فَجَاءَنِي الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ)، فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ، فَذَهَبَ مَنْ عِنْدِي، فَأَبْلَغَهُ، فَجَاءَنِي الرَّسُولُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَدَداً وَوَزْناً وَمِنْدِيلٍ وَشَيْءٍ مِنْ حَنُوطٍ وَأَكْفَانٍ، وقَالَ لِي: مَوْلَاكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: «إِذَا أَهَمَّكَ أَمْرٌ أَوْ غَمٌّ فَامْسَحْ بِهَذَا المِنْدِيلِ وَجْهَكَ، فَإِنَّ هَذَا مِنْدِيلُ مَوْلَاكَ (عليه السلام)، وَخُذْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ وَهَذَا الحَنُوطَ وَهَذِهِ الأَكْفَانَ، وَسَتُقْضَى حَاجَتُكَ فِي لَيْلَتِكَ هَذِهِ، وَإِذَا قَدِمْتَ إِلَى مِصْرَ يَمُوتُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ مِنْ قَبْلِكَ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَمُوتُ بَعْدَهُ، فَيَكُونُ هَذَا كَفَنَكَ وَهَذَا حَنُوطَكَ وَهَذَا جَهَازَكَ».
قَالَ: فَأَخَذْتُ ذَلِكَ وَحَفِظْتُهُ وَانْصَرَفَ الرَّسُولُ وَإِذَا أَنَا بِالمَشَاعِلِ عَلَى بَابِي وَالبَابُ يُدَقُّ، فَقُلْتُ لِغُلَامِي (خَيْرٍ): يَا خَيْرُ، انْظُرْ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ ذَا؟ فَقَالَ خَيْرٌ: هَذَا غُلَامُ حُمَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الكَاتِبِ ابْنِ عَمِّ الوَزِيرِ، فَأَدْخَلَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ لِي: قَدْ طَلَبَكَ الوَزِيرُ وَيَقُولُ لَكَ مَوْلَايَ حُمَيْدٌ: ارْكَبْ إِلَيَّ، قَالَ: فَرَكِبْتُ [وَخِبْتُ الشَّوَارِعُ وَالدُّرُوبُ] وَجِئْتُ إِلَى شَارِعِ الرَّزَّازِينَ(626)، فَإِذَا بِحُمَيْدٍ قَاعِدٌ يَنْتَظِرُنِي، فَلَمَّا رَآنِي أَخَذَ بِيَدِي وَرَكِبْنَا، فَدَخَلْنَا عَلَى الوَزِيرِ، فَقَالَ لِيَ الوَزِيرُ: يَا شَيْخُ، قَدْ قَضَى اللهُ حَاجَتَكَ، وَاعْتَذَرَ إِلَيَّ وَدَفَعَ إِلَيَّ الكُتُبَ مَكْتُوبَةً مَخْتُومَةً قَدْ فَرَغَ مِنْهَا، قَالَ: فَأَخَذْتُ ذَلِكَ وَخَرَجْتُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ: فَحَدَّثَنَا أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ العَقِيقِيُّ (رحمه الله) بِنَصِيبِينَ بِهَذَا، وَقَالَ لِي: مَا خَرَجَ هَذَا الحَنُوطُ إِلَّا لِعَمَّتِي فُلَانَةَ لَمْ يُسَمِّهَا، وَقَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي(627)، وَلَقَدْ قَالَ لِيَ الحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه): إِنِّي أَمْلِكُ الضَّيْعَةَ، وَقَدْ كَتَبَ لِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(626) في بعض النُّسَخ: (فركبت وفتحت الشوارع والدروب وجئت إلى شارع الوزَّانين).
(627) كذا في بحار الأنوار نقلاً عن الغيبة للطوسي (رحمه الله)، فيحتمل أنْ تكون عمَّته في بيت الحسين بن روح فخرج إليها. وفي بعض النُّسَخ من كمال الدِّين: (وقد بغيته لنفسي). والمعنى ما خرج هذا الحنوط أوَّلاً إلَّا لعمَّتي، ثمّ طلبت حنوطاً لنفسي فخرج من الكفن والدراهم.

(٢٤٢)

بِالَّذِي أَرَدْتُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ وَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ وَعَيْنَيْهِ، وَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، أَرِنِي الأَكْفَانَ وَالحَنُوطَ وَالدَّرَاهِمَ، قَالَ: فَأَخْرَجَ إِلَيَّ الأَكْفَانَ وَإِذَا فِيهَا بُرْدُ حِبَرَةٍ مُسَهَّمٌ(628) مِنْ نَسِيجِ اليَمَنِ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مَرْوِيٌّ(629) وَعِمَامَةٌ، وَإِذَا الحَنُوطُ فِي خَرِيطَةٍ، وَأَخْرَجَ إِلَيَّ الدَّرَاهِمَ، فَعَدَدْتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ [وَ]وَزْنُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، هَبْ لِي مِنْهَا دِرْهَماً أَصُوغُهُ خَاتَماً، قَالَ: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ خُذْ مِنْ عِنْدِي مَا شِئْتَ، فَقُلْتُ: أُرِيدُ مِنْ هَذِهِ، وَالحَحْتُ عَلَيْهِ، وَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ وَعَيْنَيْهِ، فَأَعْطَانِي دِرْهَماً، فَشَدَدْتُهُ فِي مِنْدِيلٍ وَجَعَلْتُهُ فِي كُمِّي، فَلَمَّا صِرْتُ إِلَى الخَانِ فَتَحْتُ زِنْفِيلَجَةً(630) مَعِي وَجَعَلْتُ المِنْدِيلَ فِي الزِّنْفِيلَجَةِ وَقَيْدُ الدِّرْهَمِ مَشْدُودٌ، وَجَعَلْتُ كُتُبِي وَدَفَاتِرِي فَوْقَهُ، وَأَقَمْتُ أَيَّاماً، ثُمَّ جِئْتُ أَطْلُبُ الدِّرْهَمَ فَإِذَا الصُّرَّةُ مَصْرُورَةٌ بِحَالِهَا وَلَا شَيْءَ فِيهَا، فَأَخَذَنِي شِبْهُ الوَسْوَاسِ، فَصِرْتُ إِلَى بَابِ العَقِيقِيِّ، فَقُلْتُ لِغُلَامِهِ خَيْرٍ: أُرِيدُ الدُّخُولَ إِلَى الشَّيْخِ، فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ، فَقَالَ لِي: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، الدِّرْهَمُ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي إِيَّاهُ مَا أَصَبْتُهُ فِي الصُّرَّةِ، فَدَعَا بِالزِّنْفِيلَجَةِ وَأَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ، فَإِذَا هِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَداً وَوَزْناً، وَلَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ أَتَّهِمُهُ. فَسَألتُهُ فِي رَدِّهِ إِلَيَّ فَأَبَى، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِصْرَ وَأَخَذَ الضَّيْعَةَ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ [كَمَا قِيلَ]، ثُمَّ تُوُفِّيَ (رضي الله عنه) وَكُفِّنَ فِي الأَكْفَانِ الَّذِي دُفِعَتْ إِلَيْهِ(631)،(632).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(628) المسهَّم: المخطَّط.
(629) في بعض النُّسَخ: (فروي).
(630) معرَّب زنبيلچه.
(631) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 317/ ح 265)، وراجع: بحار الأنوار (ج 51/ ص 337 - 339/ ح 64).
(632) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 339): (بيان: قوله: (إلَّا لعمَّتي) أي ما خرج هذا الحنوط أوَّلاً إلَّا لعمَّتي ثمّ طلبت حنوطاً لنفسي فخرج مع الكفن والدراهم، واحتمال كون الحنوط لم يخرج له أصلاً وإنَّما أخذ حنوط عمَّته لنفسه فيكون رجوعاً عن الكلام الأوَّل بعيد. وفي غيبة الشيخ: (إلَّا إلى عمَّتي فلانة ولم يُسَمّها وقد نعيت إليَّ نفسي) فيحتمل أنْ تكون عمَّته في بيت الحسين بن روح فخرج إليها. قوله: «وقد كُتِبَ» على بناء المجهول ليكون حالاً عن ضمير أملك أو تصديقاً لما أخبر به، أو على بناء المعلوم فالضمير المرفوع راجع إلى الحسين، أي وقد كان كتب مطلبي إلى القائم (عليه السلام) فلمَّا خرج أخبرني به قبل ردِّ الضيعة. والمسهم البرد المخطَّط).

(٢٤٣)

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ شَاذَوَيْهِ المُؤَدِّبُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى حَكِيمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا أُخْتِ أَبِي الحَسَنِ صَاحِبِ العَسْكَرِ (عليهم السلام)، فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، فَكَلَّمْتُهَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَسَالتُهَا عَنْ دِينِهَا، فَسَمَّتْ لِي مَنْ تَأْتَمُّ بِهِمْ، ثُمَّ قَالَتْ: وَالحُجَّةُ بْنُ الحَسَنِ ابْنِ عَلِيٍّ، فَسَمَّتْهُ، فَقُلْتُ لَهَا: جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكِ، مُعَايَنَةً أَوْ خَبَراً؟ فَقَالَتْ: خَبَراً عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) كَتَبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ، فَقُلْتُ لَهَا: فَأَيْنَ الوَلَدُ؟ فَقَالَتْ: مَسْتُورٌ، فَقُلْتُ: إِلَى مَنْ تَفْزَعُ الشِّيعَةُ؟ فَقَالَتْ [لِي]: إِلَى الجَدَّةِ أُمِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقُلْتُ لَهَا: أَقْتَدِي بِمَنْ وَصِيَّتُهُ إِلَى امْرَأَةٍ؟ فَقَالَتْ: اقْتِدَاءً بِالحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَإِنَّ الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) أَوْصَى إِلَى أُخْتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيٍّ فِي الظَّاهِرِ، فَكَانَ مَا يَخْرُجُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليهما السلام) مِنْ عِلْمٍ يُنْسَبُ إِلَى زَيْنَبَ سَتْراً عَلَى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليهما السلام)، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ أَصْحَابُ أَخْبَارٍ، أَمَا رَوَيْتُمْ أَنَّ التَّاسِعَ مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) يُقْسَمُ مِيرَاثُهُ وَهُوَ فِي الحَيَاةِ(633)؟
[459/37] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) مَعَ جَمَاعَةٍ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى القَصْرِيُّ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) أَهُوَ وَلِيُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(633) تقدَّم الخبر تحت الرقم (449/27) مع الاختلاف في السند إلى الأسدي. ولا مناسبة له بالباب.

(٢٤٤)

اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَاتِلِهِ، أَهُوَ عَدُوُّ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّطَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَدُوَّهُ عَلَى وَلِيِّهِ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو القَاسِمِ الحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ): افْهَمْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ، اعْلَمْ أَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) لَا يُخَاطِبُ النَّاسَ بِمُشَاهَدَةِ العِيَانِ وَلَا يُشَافِهُهُمْ بِالكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ (جلّ جلاله) يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنْ أَجْنَاسِهِمْ وَأَصْنَافِهِمْ بَشَراً مِثْلَهُمْ، وَلَوْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِمْ وَصُوَرِهِمْ لَنَفَرُوا عَنْهُمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَلَمَّا جَاؤُوهُمْ وَكَانُوا مِنْ جِنْسِهِمْ يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْواقِ قَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَلَا نَقْبَلُ مِنْكُمْ حَتَّى تَأْتُونَّا بِشَيْءٍ نَعْجِزُ أَنْ نَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فَنَعْلَمَ أَنَّكُمْ مَخْصُوصُونَ دُونَنَا بِمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُمُ المُعْجِزَاتِ الَّتِي يَعْجِزُ الخَلْقُ عَنْهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ جَاءَ بِالطُّوفَانِ بَعْدَ الإِنْذَارِ وَالإِعْذَارِ، فَغَرِقَ جَمِيعُ مَنْ طَغَى وَتَمَرَّدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ القِيَ فِي النَّارِ فَكَانَتْ بَرْداً وَسَلَاماً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْرَجَ مِنَ الحَجَرِ الصَّلْدِ نَاقَةً وَأَجْرَى مِنْ ضَرْعِهَا لَبَناً، وَمِنْهُمْ مَنْ فُلِقَ لَهُ البَحْرُ، وَفُجِّرَ لَهُ مِنَ الحَجَرِ العُيُونُ، وَجُعِلَ لَهُ العَصَا اليَابِسَةُ ثُعْبَاناً تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْرَأَ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ، وَأَحْيَا المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ، وَأَنْبَأَهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنِ انْشَقَّ لَهُ القَمَرُ، وَكَلَّمَتْهُ البَهَائِمُ مِثْلُ البَعِيرِ وَالذِّئْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَلَمَّا أَتَوْا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَعَجَزَ الخَلْقُ عَنْ أَمْرِهِمْ وَعَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ(634) كَانَ مِنْ تَقْدِيرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ وحِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ أَنْبِيَاءَهُ (عليهم السلام) مَعَ هَذِهِ القُدْرَةِ وَالمُعْجِزَاتِ فِي حَالَةٍ غَالِبِينَ وَفِي أُخْرَى مَغْلُوبِينَ، وَفِي حَالٍ قَاهِرِينَ وَفِي أُخْرَى مَقْهُورِينَ وَلَوْ جَعَلَهُمُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ غَالِبِينَ وَقَاهِرِينَ وَلَمْ يَبْتَلِهِمْ وَلَمْ يَمْتَحِنْهُمْ لَاتَّخَذَهُمُ النَّاسُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَلَمَا عُرِفَ فَضْلُ صَبْرِهِمْ عَلَى البَلَاءِ وَالمِحَنِ وَالاِخْتِبَارِ، وَلَكِنَّهُ (عزَّ وجلَّ) جَعَلَ أَحْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ كَأَحْوَالِ غَيْرِهِمْ لِيَكُونُوا فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(634) في بعض النُّسَخ: (عجز الخلق من أُمَمهم عن أنْ يأتوا بمثله).

(٢٤٥)

حَالِ المِحْنَةِ وَالبَلْوَى صَابِرِينَ، وَفِي حَالِ العَافِيَةِ وَالظُّهُورِ عَلَى الأَعْدَاءِ شَاكِرِينَ، وَيَكُونُوا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُتَوَاضِعِينَ غَيْرَ شَامِخِينَ وَلَا مُتَجَبِّرِينَ، وَلِيَعْلَمَ العِبَادُ أَنَّ لَهُمْ (عليهم السلام) إِلَهاً هُوَ خَالِقُهُمْ وَمُدَبِّرُهُمْ، فَيَعْبُدُوهُ وَيُطِيعُوا رُسُلَهُ، وَتَكُونُ حُجَّةُ اللهِ ثَابِتَةً عَلَى مَنْ تَجَاوَزَ الحَدَّ فِيهِمْ وَادَّعَى لَهُمُ الرُّبُوبِيَّةَ أَوْ عَانَدَ أَوْ خَالَفَ وَعَصَى وَجَحَدَ بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ (عليهم السلام)، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42].
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه): فَعُدْتُ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي القَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) مِنَ الغَدِ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: أَتَرَاهُ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ لَنَا يَوْمَ أَمْسِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ؟ فَابْتَدَأَنِي، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفَنِي الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِيَ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ فِي دِينِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) بِرَأْيِي أَوْ مِنْ عِنْدِ نَفْسِي، بَلْ ذَلِكَ عَنِ الأَصْلِ وَمَسْمُوعٌ عَنِ الحُجَّةِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ)(635).
[460/38] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ بْنِ نُعَيْمٍ الشَّاذَانِيُّ، قَالَ: اجْتَمَعَتْ عِنْدِي خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ يَنْقُصُ عِشْرِينَ دِرْهَماً، فَوَزَنْتُ مِنْ عِنْدِي عِشْرِينَ دِرْهَماً وَدَفَعْتُهُمَا إِلَى أَبِي الحُسَيْنِ الأَسَدِيِّ (رضي الله عنه)، وَلَمْ أُعَرِّفْهُ أَمْرَ العِشْرِينَ، فَوَرَدَ الجَوَابُ: «قَدْ وَصَلَتِ الخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ الَّتِي لَكَ فِيهَا عِشْرُونَ دِرْهَماً»(636).
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ: أَنْفَذْتُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالاً وَلَمْ أُفَسِّرْ لِمَنْ هُوَ، فَوَرَدَ الجَوَابُ: «وَصَلَ كَذَا وَكَذَا، مِنْهُ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا»(637).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(635) رواه المصنِّف (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 241 - 243/ باب 177/ ح 1)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 324 - 326/ ح 273)، والراوندي (رحمه الله) في الدعوات (ص 66 - 68/ ح 164)، والطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 285 - 288).
(636) تقدَّم الحديث سابقاً تحت الرقم (427/5)، فراجع.
(637) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 599/ ح 545/9).

(٢٤٦)

قَالَ: وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ الكُوفِيُّ: حَمَلَ رَجُلٌ مَالاً لِيُوصِلَهُ، وَأَحَبَّ أَنْ يَقِفَ عَلَى الدَّلَالَةِ، فَوَقَّعَ (عليه السلام): «إِنِ اسْتَرْشَدْتَ أُرْشِدْتَ، وَإِنْ طَلَبْتَ وَجَدْتَ، يَقُولُ لَكَ مَوْلَاكَ: احْمِلْ مَا مَعَكَ»، قَالَ الرَّجُلُ: فَأَخْرَجْتُ مِمَّا مَعِي سِتَّةَ دَنَانِيرَ بِلَا وَزْنٍ وَحَمَلْتُ البَاقِيَ، فَخَرَجَ التَّوْقِيعُ: «يَا فُلَانُ، رُدَّ السِّتَّةَ دَنَانِيرَ الَّتِي أَخْرَجْتَهَا بِلَا وَزْنٍ وَوَزْنُهَا سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةُ دَوَانِيقَ وَحَبَّةٌ وَنِصْفٌ»، قَالَ الرَّجُلُ: فَوَزَنْتُ الدَّنَانِيرَ، فَإِذَا هِيَ(638) كَمَا قَالَ (عليه السلام)(639).
[461/39] حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَمَّارُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ إِسْحَاقَ الأسروشني (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الخَضِرِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ الخُجَنْدِيُّ (رضي الله عنه)(640)، أَنَّهُ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ صَاحِبِ الزَّمَانِ (عليه السلام) تَوْقِيعٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ أُغْرِيَ بِالفَحْصِ وَالطَّلَبِ وَسَارَ عَنْ وَطَنِهِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ مَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ.
وَكَانَ نُسْخَةُ التَّوْقِيعِ: «مَنْ بَحَثَ فَقَدْ طَلَبَ، وَمَنْ طَلَبَ فَقَدْ دَلَّ، وَمَنْ دَلَّ فَقَدْ أَشَاطَ، وَمَنْ أَشَاطَ فَقَدْ أَشْرَكَ»، قَالَ: فَكَفَّ عَنِ الطَّلَبِ وَرَجَعَ(641).
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي القَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) أَنَّهُ قَالَ فِي الحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ فِي أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ بِحِسَابِ الجُمَّلِ، وَعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَهٌ أَحَدٌ جَوَادٌ(642).
[462/40] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ القَاضِي (رضي الله عنه)(643)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ حَامِدٍ الكَاتِبِ، قَالَ: كَانَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(638) في بعض النُّسَخ: (فإذا أنَّها)، وفي بعضها: (فإذا بها).
(639) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 600/ ح 546/10).
(640) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 340): (الجحدري)، وفي (ج 53/ ص 196) كما في المتن.
(641) روى قريباً منه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 323/ ح 271).
(642) سيأتي مسنداً تحت الرقم (470/48)، فانتظر.
(643) في بعض النُّسَخ: (أحمد بن هارون الفامي).

(٢٤٧)

بِقُمَّ رَجُلٌ بَزَّازٌ مُؤْمِنٌ وَلَهُ شَرِيكٌ مُرْجِئِيٌّ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ نَفِيسٌ، فَقَالَ المُؤْمِنُ: يَصْلُحُ هَذَا الثَّوْبُ لِمَوْلَايَ، فَقَالَ لَهُ شَرِيكُهُ: لَسْتُ أَعْرِفُ مَوْلَاكَ، وَلَكِنْ افْعَلْ بِالثَّوْبِ مَا تُحِبُّ، فَلَمَّا وَصَلَ الثَّوْبُ إِلَيْهِ شَقَّهُ (عليه السلام) بِنِصْفَيْنِ طُولاً، فَأَخَذَ نِصْفَهُ وَرَدَّ النِّصْفَ، وَقَالَ: «لَا حَاجَةَ لَنَا فِي مَالِ المُرْجِئِيِ»(644).
[463/41] قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُ: وَخَرَجَ التَّوْقِيعُ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ العَمْرِيِّ فِي التَّعْزِيَةِ بِأَبِيهِ (رضي الله عنهما) فِي فَصْلٍ مِنَ الكِتَابِ: «إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، تَسْلِيماً لِأَمْرِهِ وَرِضَاءً بِقَضَائِهِ، عَاشَ أَبُوكَ سَعِيداً وَمَاتَ حَمِيداً، فَرَحِمَهُ اللهُ وَالحَقَهُ بِأَوْلِيَائِهِ وَمَوَالِيهِ (عليهم السلام)، فَلَمْ يَزَلْ مُجْتَهِداً فِي أَمْرِهِمْ، سَاعِياً فِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَإِلَيْهِمْ، نَضَّرَ اللهُ وَجْهَهُ وَأَقَالَهُ عَثْرَتَهُ».
وَفِي فَصْلٍ آخَرَ: «أَجْزَلَ اللهُ لَكَ الثَّوَابَ وَأَحْسَنَ لَكَ العَزَاءَ، رُزِئْتَ وَرُزِئْنَا وَأَوْحَشَكَ فِرَاقُهُ وَأَوْحَشَنَا، فَسَرَّهُ اللهُ فِي مُنْقَلَبِهِ، وَكَانَ مِنْ كَمَالِ سَعَادَتِهِ أَنْ رَزَقَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) وَلَداً مِثْلَكَ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ بِأَمْرِهِ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَأَقُولُ: الحَمْدُ للهِ، فَإِنَّ الأَنْفُسَ طَيِّبَةٌ بِمَكَانِكَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِيكَ وَعِنْدَكَ، أَعَانَكَ اللهُ وَقَوَّاكَ وَعَضَدَكَ وَوَفَّقَكَ، وَكَانَ اللهُ لَكَ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَرَاعِياً وَكَافِياً وَمُعِيناً»(645).
توقيع من صاحب الزمان (عليه السلام):
كَانَ خَرَجَ إِلَى العَمْرِيِّ وَابْنِهِ (رضي الله عنهما) رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ.
[464/42] قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللهِ جَعْفَرٌ (رضي الله عنه): وَجَدْتُهُ مُثْبَتاً عَنْهُ (رحمه الله): «وَفَّقَكُمَا اللهُ لِطَاعَتِهِ، وَثَبَّتَكُمَا عَلَى دِينِهِ، وَأَسْعَدَكُمَا بِمَرْضَاتِهِ، انْتَهَى إِلَيْنَا مَا ذَكَرْتُمَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(644) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 600/ ح 547/11)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1132/ ح 52).
(645) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 361/ ح 323)، والطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 300 و301).

(٢٤٨)

أَنَّ المِيثَمِيَّ(646) أَخْبَرَكُمَا عَنِ المُخْتَارِ وَمُنَاظَرَاتِهِ مَنْ لَقِيَ وَاحْتِجَاجِهِ بِأَنَّهُ لَا خَلَفَ غَيْرُ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ، وَفَهِمْتُ جَمِيعَ مَا كَتَبْتُمَا بِهِ مِمَّا قَالَ أَصْحَابُكُمَا عَنْهُ، وَأَنَا أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ العَمَى بَعْدَ الجَلَاءِ، وَمِنَ الضَّلَالَةِ بَعْدَ الهُدَى، وَمِنْ مُوبِقَاتِ الأَعْمَالِ وَمُرْدِيَاتِ الفِتَنِ(647)، فَإِنَّهُ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 1 و2]، كَيْفَ يَتَسَاقَطُونَ فِي الفِتْنَةِ، وَيَتَرَدَّدُونَ فِي الحَيْرَةِ، وَيَأْخُذُونَ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَارَقُوا دِينَهُمْ، أَمِ ارْتابُوا، أَمْ عَانَدُوا الحَقَّ، أَمْ جَهِلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّادِقَةُ وَالأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، أَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَتَنَاسَوْا مَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً وَإِمَّا مَغْمُوراً.
أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا انْتِظَامَ أَئِمَّتِهِمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى أَنْ أَفْضَى الأَمْرُ بِأَمْرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) إِلَى المَاضِي - يَعْنِي الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) -، فَقَامَ مَقَامَ آبَائِهِ (عليهم السلام) يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، كَانُوا نُوراً سَاطِعاً، وَشِهَاباً لَامِعاً، وَقَمَراً زَاهِراً، ثُمَّ اخْتَارَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَمَضَى عَلَى مِنْهَاجِ آبَائِهِ (عليهم السلام) حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ عَلَى عَهْدٍ عَهِدَهُ، وَوَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا إِلَى وَصِيٍّ سَتَرَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِأَمْرِهِ إِلَى غَايَةٍ، وَأَخْفَى مَكَانَهُ بِمَشِيئَتِهِ لِلْقَضَاءِ السَّابِقِ وَالقَدَرِ النَّافِذِ، وَفِينَا مَوْضِعُهُ، وَلَنَا فَضْلُهُ، وَلَوْ قَدْ أَذِنَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِيمَا قَدْ مَنَعَهُ عَنْهُ وَأَزَالَ عَنْهُ مَا قَدْ جَرَى بِهِ مِنْ حُكْمِهِ لَأَرَاهُمُ الحَقَّ ظَاهِراً بِأَحْسَنِ حِلْيَةٍ، وَأَبْيَنِ دَلَالَةٍ، وَأَوْضَحِ عَلَامَةٍ، وَلَأَبَانَ عَنْ نَفْسِهِ وَقَامَ بِحُجَّتِهِ، وَلَكِنَّ أَقْدَارَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) لَا تُغَالَبُ، وَإِرَادَتَهُ لَا تُرَدُّ، وَتَوْفِيقَهُ لَا يُسْبَقُ، فَلْيَدَعُوا عَنْهُمُ اتِّبَاعَ الهَوَى، وَلْيُقِيمُوا عَلَى أَصْلِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَبْحَثُوا عَمَّا سَتَرَ عَنْهُمْ فَيَأْثَمُوا، وَلَا يَكْشِفُوا سَتْرَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) فَيَنْدَمُوا، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ الحَقَّ مَعَنَا وَفِينَا، لَا يَقُولُ ذَلِكَ سِوَانَا إِلَّا كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلَا يَدَّعِيهِ غَيْرُنَا إِلَّا ضَالٌّ غَوِيٌّ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(646) في النُّسَخ: (الهيثمي).
(647) أي مهلكاتها. أوبقه: أهلكه.

(٢٤٩)

فَلْيَقْتَصِرُوا مِنَّا عَلَى هَذِهِ الجُمْلَةِ دُونَ التَّفْسِيرِ، وَيَقْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ بِالتَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ إِنْ شَاءَ اللهُ».
الدعاء في غيبة القائم (عليه السلام):
[465/43] حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ المُكَتِّبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ ابْنُ هَمَّامٍ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَذَكَرَ أَنَّ الشَّيْخَ العَمْرِيَّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) أَمْلَاهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ، وَهُوَ الدُّعَاءُ فِي غَيْبَةِ القَائِمِ (عليه السلام):
«اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ(648)، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَبِيَّكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَبِيَّكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي.
اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، اللَّهُمَّ فَكَمَا هَدَيْتَنِي بِوَلَايَةِ مَنَ فَرَضْتَ طَاعَتَهُ عَلَيَّ مِنْ وُلَاةِ أَمْرِكَ بَعْدَ رَسُولِكَ (صلواتك عليه وآله)، حَتَّى وَالَيْتَ وُلَاةَ أَمْرِكَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَالحَسَنَ وَالحُسَيْنَ وَعَلِيًّا وَمُحَمَّداً وَجَعْفَراً وَمُوسَى وَعَلِيًّا وَمُحَمَّداً وَعَلِيًّا وَالحَسَنَ وَالحُجَّةَ القَائِمَ المَهْدِيَّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ).
اللَّهُمَّ فَثَبِّتْنِي عَلَى دِينِكَ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِطَاعَتِكَ، وَلَيِّنْ قَلْبِي لِوَلِيِّ أَمْرِكَ، وَعَافِنِي مِمَّا امْتَحَنْتَ بِهِ خَلْقَكَ، وَثَبِّتْنِي عَلَى طَاعَةِ وَلِيِّ أَمْرِكَ الَّذِي سَتَرْتَهُ عَنْ خَلْقِكَ، فَبِإِذْنِكَ غَابَ عَنْ بَرِيَّتِكَ، وَأَمْرَكَ يَنْتَظِرُ، وَأَنْتَ العَالِمُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ بِالوَقْتِ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُ أَمْرِ وَلِيِّكَ فِي الإِذْنِ لَهُ بِإِظْهَارِ أَمْرِهِ وَكَشْفِ سِتْرِهِ، فَصَبِّرْنِي عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا أُحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ وَلَا تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ، وَلَا أَكْشِفَ عَمَّا سَتَرْتَهُ، وَلَا أَبْحَثَ عَمَّا كَتَمْتَهُ، وَلَا أُنَازِعَكَ فِي تَدْبِيرِكَ، وَلَا أَقُولَ: لِـمَ وَكَيْفَ وَمَا بَالُ وَلِيِّ الأَمْرِ(649) لَا يَظْهَرُ وَقَدِ امْتَلَأَتِ الأَرْضُ مِنَ الجَوْرِ، وَأُفَوِّضُ أُمُورِي كُلَّهَا إِلَيْكَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(648) في بعض النُّسَخ: (رسولك)، وكذا ما يأتي.
(649) في بعض النُّسَخ: (وليّ أمر الله).

(٢٥٠)

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُرِيَنِي وَلِيَّ أَمْرِكَ ظَاهِراً نَافِذاً لِأَمْرِكَ مَعَ عِلْمِي بِأَنَّ لَكَ السُّلْطَانَ وَالقُدْرَةَ وَالبُرْهَانَ وَالحُجَّةَ وَالمَشِيئَةَ وَالإِرَادَةَ وَالحَوْلَ وَالقُوَّةَ، فَافْعَلْ ذَلِكَ بِي وَبِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى وَلِيِّكَ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ) ظَاهِرَ المَقَالَةِ، وَاضِحَ الدَّلَالَةِ، هَادِياً مِنَ الضَّلَالَةِ، شَافِياً مِنَ الجَهَالَةِ، أَبْرِزْ يَا رَبِّ مَشَاهِدَهُ، وَثَبِّتْ قَوَاعِدَهُ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَقَرُّ عَيْنُهُ بِرُؤْيَتِهِ، وَأَقِمْنَا بِخِدْمَتِهِ، وَتَوَفَّنَا عَلَى مِلَّتِهِ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ.
اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ شَرِّ جَمِيعِ مَا خَلَقْتَ وَبَرَأْتَ وَذَرَأْتَ وَأَنْشَأْتَ وَصَوَّرْتَ، وَاحْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ بِحِفْظِكَ الَّذِي لَا يَضِيعُ مَنْ حَفِظْتَهُ بِهِ، وَاحْفَظْ فِيهِ رَسُولَكَ وَوَصِيَّ رَسُولِكَ.
اللَّهُمَّ وَمُدَّ فِي عُمُرِهِ، وَزِدْ فِي أَجَلِهِ، وَأَعِنْهُ عَلَى مَا أَوْلَيْتَهُ وَاسْتَرْعَيْتَهُ، وَزِدْ فِي كَرَامَتِكَ لَهُ فَإِنَّهُ الهَادِي وَالمُهْتَدِي وَالقَائِمُ المَهْدِيُّ، الطَّاهِرُ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الزَّكِيُّ الرَّضِيُّ المَرْضِيُّ الصَّابِرُ المُجْتَهِدُ الشَّكُورُ.
اللَّهُمَّ وَلَا تَسْلُبْنَا اليَقِينَ لِطُولِ الأَمَدِ فِي غَيْبَتِهِ وَانْقِطَاعِ خَبَرِهِ عَنَّا، وَلَا تُنْسِنَا ذِكْرَهُ وَانْتِظَارَهُ وَالإِيمَانَ وَقُوَّةَ اليَقِينِ فِي ظُهُورِهِ، وَالدُّعَاءَ لَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُقَنِّطَنَا طُولُ غَيْبَتِهِ مِنْ ظُهُورِهِ وَقِيَامِهِ، وَيَكُونَ يَقِينُنَا فِي ذَلِكَ كَيَقِينِنَا فِي قِيَامِ رَسُولِكَ (صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ وَحْيِكَ وَتَنْزِيلِكَ، وَقَوِّ قُلُوبَنَا عَلَى الإِيمَانِ بِهِ حَتَّى تَسْلُكَ بِنَا عَلَى يَدِهِ مِنْهَاجَ الهُدَى، وَالحُجَّةَ العُظْمَى، وَالطَّرِيقَةَ الوُسْطَى، وَقَوِّنَا عَلَى طَاعَتِهِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى مُتَابَعَتِهِ(650)، وَاجْعَلْنَا فِي حِزْبِهِ وَأَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ وَالرَّاضِينَ بِفِعْلِهِ(651)، وَلَا تَسْلُبْنَا ذَلِكَ فِي حَيَاتِنَا وَلَا عِنْدَ وَفَاتِنَا حَتَّى تَتَوَفَّانَا وَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ شَاكِّينَ وَلَا نَاكِثِينَ وَلَا مُرْتَابِينَ وَلَا مُكَذِّبِينَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(650) في بعض النُّسَخ: (على مطايعته)، وفي بعضها: (على مشايعته).
(651) في بعض النُّسَخ: (راغبين بفعله).

(٢٥١)

اللَّهُمَّ عَجِّلْ فَرَجَهُ، وَأَيِّدْهُ بِالنَّصْرِ، وَانْصُرْ نَاصِرِيهِ، وَاخْذُلْ خَاذِلِيهِ، وَدَمِّرْ عَلَى مَنْ(652) نَصَبَ لَهُ وَكَذَّبَ بِهِ، وَأَظْهِرْ بِهِ الحَقَّ، وَأَمِتْ بِهِ البَاطِلَ(653)، وَاسْتَنْقِذْ بِهِ عِبَادَكَ المُؤْمِنِينَ مِنَ الذُّلِّ، وَانْعَشْ بِهِ البِلَادَ(654)، وَاقْتُلْ بِهِ جَبَابِرَةَ الكُفْرِ، وَاقْصِمْ بِهِ رُؤُوسَ الضَّلَالَةِ، وَذَلِّلْ بِهِ الجَبَّارِينَ وَالكَافِرِينَ، وَأَبِرْ(655) بِهِ المُنَافِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَجَمِيعَ المُخَالِفِينَ وَالمُلْحِدِينَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَبَرِّهَا وَبَحْرِهَا، وَسَهْلِهَا وَجَبَلِهَا حَتَّى لَا تَدَعَ مِنْهُمْ دَيَّاراً، وَلَا تُبْقِيَ لَهُمْ آثَاراً، وَتُطَهِّرَ مِنْهُمْ بِلَادَكَ، وَاشْفِ مِنْهُمْ صُدُورَ عِبَادِكَ، وَجَدِّدْ بِهِ مَا امْتَحَى مِنْ دِينِكَ(656)، وَأَصْلِحْ بِهِ مَا بُدِّلَ مِنْ حُكْمِكَ وَغُيِّرْ مِنْ سُنَّتِكَ حَتَّى يَعُودَ دِينُكَ بِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ غَضًّا(657) جَدِيداً صَحِيحاً لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ مَعَهُ حَتَّى تُطْفِئَ بِعَدْلِهِ نِيرَانَ الكَافِرِينَ، فَإِنَّهُ عَبْدُكَ الَّذِي اسْتَخْلَصْتَهُ لِنَفْسِكَ، وَارْتَضَيْتَهُ لِنُصْرَةِ نَبِيِّكَ، وَاصْطَفَيْتَهُ بِعِلْمِكَ، وَعَصَمْتَهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَبَرَّأْتَهُ مِنَ العُيُوبِ، وَأَطْلَعْتَهُ عَلَى الغُيُوبِ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ وَطَهَّرْتَهُ مِنَ الرِّجْسِ وَنَقَّيْتَهُ مِنَ الدَّنَسِ.
اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ الأَئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ، وَعَلَى شِيعَتِهِمُ المُنْتَجَبِينَ، وَبَلِّغْهُمْ مِنْ آمَالِهِمْ أَفْضَلَ مَا يَأْمُلُونَ، وَاجْعَلْ ذَلِكَ مِنَّا خَالِصاً مِنْ كُلِّ شَكٍّ وَشُبْهَةٍ وَرِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ حَتَّى لَا نُرِيدَ بِهِ غَيْرَكَ وَلَا نَطْلُبَ بِهِ إِلَّا وَجْهَكَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنَا، وَغَيْبَةَ وَلِيِّنَا، وَشِدَّةَ الزَّمَانِ عَلَيْنَا، وَوُقُوعَ الفِتَنِ [بِنَا]، وَتَظَاهُرَ الأَعْدَاءِ [عَلَيْنَا]، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنَا، وَقِلَّةَ عَدَدِنَا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(652) في بعض النُّسَخ: (دمدم على من). ودمدم عليه: أي أهلكه.
(653) في بعض النُّسَخ: (به الجور).
(654) نعشه الله: أي رفعه، وانتعش العاثر: نهض من عثرته.
(655) أباره: أي أهلكه، والمبير: المهلك. وفي بعض النُّسَخ: (أفن).
(656) أي ما زال وذهب منه.
(657) الغضُّ: الطريُّ.

(٢٥٢)

اللَّهُمَّ فَافْرُجْ ذَلِكَ بِفَتْحٍ مِنْكَ تُعَجِّلُهُ، وَنَصْرٍ مِنْكَ تُعِزُّهُ(658)، وَإِمَامِ عَدْلٍ تُظْهِرُهُ، إِلَهَ الحَقِّ رَبَّ العَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَأْذَنَ لِوَلِيِّكَ فِي إِظْهَارِ عَدْلِكَ فِي عِبَادِكَ، وَقَتْلِ أَعْدَائِكَ فِي بِلَادِكَ حَتَّى لَا تَدَعَ لِلْجَوْرِ يَا رَبِّ دِعَامَةً إِلَّا قَصَمْتَهَا، وَلَا بِنْيَةً إِلَّا أَفْنَيْتَهَا، وَلَا قُوَّةً إِلَّا أَوْهَنْتَهَا، وَلَا رُكْناً إِلَّا هَدَدْتَهُ(659)، وَلَا حَدًّا إِلَّا فَلَلْتَهُ، وَلَا سِلَاحاً إِلَّا أَكْلَلْتَهُ(660)، وَلَا رَايَةً إِلَّا نَكَّسْتَهَا، وَلَا شُجَاعاً إِلَّا قَتَلْتَهُ، وَلَا جَيْشاً إِلَّا خَذَلْتَهُ، وَارْمِهِمْ يَا رَبِّ بِحَجَرِكَ الدَّامِغِ، وَاضْرِبْهُمْ بِسَيْفِكَ القَاطِعِ، وَبِبَأْسِكَ الَّذِي لَا تَرُدُّهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ، وَعَذِّبْ أَعْدَاءَكَ وَأَعْدَاءَ دِينِكَ وَأَعْدَاءَ رَسُولِكَ بِيَدِ وَلِيِّكَ وَأَيْدِي عِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ.
اللَّهُمَّ اكْفِ وَلِيَّكَ وَحُجَّتَكَ فِي أَرْضِكَ هَوْلَ عَدُوِّهِ، وَكِدْ مَنْ كَادَهُ، وَامْكُرْ بِمَنْ مَكَرَ بِهِ، وَاجْعَلْ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَى مَنْ أَرَادَ بِهِ سُوءاً، وَاقْطَعْ عَنْهُ مَادَّتَهُمْ، وَأَرْعِبْ لَهُ قُلُوبَهُمْ، وَزَلْزِلْ لَهُ أَقْدَامَهُمْ، وَخُذْهُمْ جَهْرَةً وَبَغْتَةً، وَشَدِّدْ عَلَيْهِمْ عِقَابَكَ، وَأَخْزِهِمْ فِي عِبَادِكَ، وَالعَنْهُمْ فِي بِلَادِكَ، وَأَسْكِنْهُمْ أَسْفَلَ نَارِكَ، وَأَحِطْ بِهِمْ أَشَدَّ عَذَابِكَ، وَأَصْلِهِمْ نَاراً، وَاحْشُ قُبُورَ مَوْتَاهُمْ نَاراً، وَأَصْلِهِمْ حَرَّ نَارِكَ، فَإِنَّهُمْ أَضاعُوا الصَّلَاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ، وَأَذَلُّوا عِبَادَكَ.
اللَّهُمَّ وَأَحْيِ بِوَلِيِّكَ القُرْآنَ، وَأَرِنَا نُورَهُ سَرْمَداً لَا ظُلْمَةَ فِيهِ، وَأَحْيِ بِهِ القُلُوبَ المَيْتَةَ، وَاشْفِ بِهِ الصُّدُورَ الوَغِرَةَ(661)، وَاجْمَعْ بِهِ الأَهْوَاءَ المُخْتَلِفَةَ عَلَى الحَقِّ، وَأَقِمْ بِهِ الحُدُودَ المُعَطَّلَةَ وَالأَحْكَامَ المُهْمَلَةَ حَتَّى لَا يَبْقَى حَقٌّ إِلَّا ظَهَرَ، وَلَا عَدْلٌ إِلَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(658) في بعض النُّسَخ: (وبصبر منك تُيسِّره).
(659) الهدَّة: الهدم والكسر.
(660) الحدُّ: السيف. والفلُّ: الكسر والثلمة، وما يقال بالفارسيَّة: (كند شدن وكند كردن). والكلل - بفتح الكاف - بمعناه.
(661) الوغرة - بالتسكين -: شدَّة توقُّد الحرِّ. وفي صدره عليَّ وغر: أي ضغن، والضعن الحقد والعداوة.

(٢٥٣)

زَهَرَ، وَاجْعَلْنَا يَا رَبِّ مِنْ أَعْوَانِهِ وَمُقَوِّي سُلْطَانِهِ(662) وَالمُؤْتَمِرِينَ لِأَمْرِهِ، وَالرَّاضِينَ بِفِعْلِهِ، وَالمُسَلِّمِينَ لِأَحْكَامِهِ، وَمِمَّنْ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ إِلَى التَّقِيَّةِ مِنْ خَلْقِكَ، أَنْتَ يَا رَبِّ الَّذِي تَكْشِفُ السُّوءَ، وَتُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاكَ، وَتُنَجِّي مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ، فَاكْشِفْ يَا رَبِّ الضُّرَّ عَنْ وَلِيِّكَ، وَاجْعَلْهُ خَلِيفَةً فِي أَرْضِكَ كَمَا ضَمِنْتَ لَهُ.
اللَّهُمَّ وَلَا تَجْعَلْنِي مِنْ خُصَمَاءِ آلِ مُحَمَّدٍ، وَلَا تَجْعَلْنِي مِنْ أَعْدَاءِ آلِ مُحَمَّدٍ، وَلَا تَجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ الحَنَقِ وَالغَيْظِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ذَلِكَ فَأَعِذْنِي، وَأَسْتَجِيرُ بِكَ فَأَجِرْنِي.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْعَلْنِي بِهِمْ فَائِزاً عِنْدَكَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ»(663).
[466/44] حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ المُكَتِّبُ، قَالَ: كُنْتُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيُّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَحَضَرْتُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ، فَأَخْرَجَ إِلَى النَّاسِ تَوْقِيعاً نُسْخَتُهُ:
«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيَّ أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ يَقُومُ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ الغَيْبَةُ الثَّانِيَةُ(664)، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الأَمَدِ، وَقَسْوَةِ القُلُوبِ، وَامْتِلَاءِ الأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي المُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ ادَّعَى المُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ السُّفْيَانِيِّ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ»(665).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(662) في بعض النُّسَخ: (وممَّن يقوى بسلطانه).
(663) رواه الطوسي (رحمه الله) في مصباح المتهجِّد (ص 411 - 416/ الرقم 536/146).
(664) في بعض النُّسَخ: (الغيبة التامَّة).
(665) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 151): (بيان: لعلَّه محمول على من يدَّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه (عليه السلام) إلى الشيعة على مثال السفراء، لئلَّا ينافي الأخبار التي مضت وستأتي فيمن رآه (عليه السلام)، والله يعلم).

(٢٥٤)

قَالَ: فَنَسَخْنَا هَذَا التَّوْقِيعَ وَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ السَّادِسُ عُدْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ وَصِيُّكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: للهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، وَمَضَى (رضي الله عنه)، فَهَذَا آخِرُ كَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ(666).
[467/45] حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بُزُرْجَ بْنِ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ بْنِ بُزُرْجَ صَاحِبُ الصَّادِقِ (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الحَسَنِ الصَّيْرَفِيَّ الدَّوْرَقِيَّ(667) المُقِيمَ بِأَرْضِ بَلْخٍ يَقُولُ: أَرَدْتُ الخُرُوجَ إِلَى الحَجِّ، وَكَانَ مَعِي مَالٌ بَعْضُهُ ذَهَبٌ وَبَعْضُهُ فِضَّةٌ، فَجَعَلْتُ مَا كَانَ مَعِي مِنَ الذَّهَبِ سَبَائِكَ، وَمَا كَانَ مَعِي مِنَ الفِضَّةِ نُقَراً، وَكَانَ قَدْ دُفِعَ ذَلِكَ المَالُ إِلَيَّ لِأُسَلِّمَهُ مِنَ الشَّيْخِ(668) أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، قَالَ: فَلَمَّا نَزَلْتُ سَرَخْسَ ضَرَبْتُ خَيْمَتِي عَلَى مَوْضِعٍ فِيهِ رَمْلٌ، فَجَعَلْتُ أُمَيِّزُ تِلْكَ السَّبَائِكَ وَالنُّقَرَ، فَسَقَطَتْ سَبِيكَةٌ مِنْ تِلْكَ السَّبَائِكِ مِنِّي وَغَاضَتْ فِي الرَّمْلِ وَأَنَا لَا أَعْلَمُ، قَالَ: فَلَمَّا دَخَلْتُ هَمَدَانَ مَيَّزْتُ تِلْكَ السَّبَائِكَ وَالنُّقَرَ مَرَّةً أُخْرَى اهْتِمَاماً مِنِّي بِحِفْظِهَا فَفَقَدْتُ مِنْهَا سَبِيكَةً وَزْنُهَا مِائَةُ مِثْقَالٍ وَثَلَاثَةُ مَثَاقِيلَ - أَوْ قَالَ: ثَلَاث وَتِسْعُونَ مِثْقَالاً -، قَالَ: فَسَبَكْتُ مَكَانَهَا مِنْ مَالِي بِوَزْنِهَا سَبِيكَةً وَجَعَلْتُهَا بَيْنَ السَّبَائِكِ، فَلَمَّا وَرَدْتُ مَدِينَةَ السَّلَامِ قَصَدْتُ الشَّيْخَ أَبَا القَاسِمِ الحُسَيْنَ بْنَ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) وَسَلَّمْتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(666) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 395/ ح 365)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 260)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 603 و604/ ح 551/15)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1128 و1129/ ح 46)، وأحمد به عليٍّ الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 297).
(667) في بعض النُّسَخ: (الدوري).
(668) في النُّسَخ: (ذلك المال إليه لتسليمه إلى الشيخ).

(٢٥٥)

إِلَيْهِ مَا كَانَ مَعِي مِنَ السَّبَائِكِ وَالنُّقَرِ، فَمَدَّ يَدَهُ مِنْ بَيْنِ [تِلْكَ] السَّبَائِكِ إِلَى السَّبِيكَةِ الَّتِي كُنْتُ سَبَكْتُهَا مِنْ مَالِي بَدَلاً مِمَّا ضَاعَ مِنِّي فَرَمَى بِهَا إِلَيَّ وَقَالَ لِي: لَيْسَتْ هَذِهِ السَّبِيكَةُ لَنَا، وَسَبِيكَتُنَا ضَيَّعْتَهَا بِسَرَخْسَ حَيْثُ ضَرَبْتَ خَيْمَتَكَ فِي الرَّمْلِ، فَارْجِعْ إِلَى مَكَانِكَ وَانْزِلْ حَيْثُ نَزَلْتَ وَاطْلُبِ السَّبِيكَةَ هُنَاكَ تَحْتَ الرَّمْلِ فَإِنَّكَ سَتَجِدُهَا، وَسَتَعُودُ إِلَى هَاهُنَا فَلَا تَرَانِي.
قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى سَرَخْسَ وَنَزَلْتُ حَيْثُ كُنْتُ نَزَلْتُ فَوَجَدْتُ السَّبِيكَةَ تَحْتَ الرَّمْلِ وَقَدْ نَبَتَ عَلَيْهَا الحَشِيشُ، فَأَخَذْتُ السَّبِيكَةَ وَانْصَرَفْتُ إِلَى بَلَدِي، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَجْتُ وَمَعِيَ السَّبِيكَةُ، فَدَخَلْتُ مَدِينَةَ السَّلَامِ وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو القَاسِمِ الحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه) مَضَى، وَلَقِيتُ أَبَا الحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيَّ (رضي الله عنه) فَسَلَّمْتُ السَّبِيكَةَ إِلَيْهِ(669).
[468/46] وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ البُزُرْجِيُّ، قَالَ: رَأَيْتُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى رَجُلاً شَابًّا فِي المَسْجِدِ المَعْرُوفِ بِمَسْجِدِ زُبَيْدَةَ فِي شَارِعِ السُّوقِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ هَاشِمِيٌّ مِنْ وُلْدِ مُوسَى بْنِ عِيسَى لَمْ يَذْكُرْ أَبُو جَعْفَرٍ اسْمَهُ، وَكُنْتُ أُصَلِّي، فَلَمَّا سَلَّمْتُ قَالَ لِي: أَنْتَ قُمِّيٌّ أَوْ رَازِيٌّ؟ فَقُلْتُ: أَنَا قُمِّيٌّ مُجَاوِرٌ بِالكُوفَةِ فِي مَسْجِدِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ لِي: أَتَعْرِفُ دَارَ مُوسَى بْنِ عِيسَى الَّتِي بِالكُوفَةِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَنَا مِنْ وُلْدِهِ، قَالَ: كَانَ لِي أَبٌ وَلَهُ إِخْوَانٌ، وَكَانَ أَكْبَرُ الأَخَوَيْنِ ذَا مَالٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَالٌ، فَدَخَلَ عَلَى أَخِيهِ الكَبِيرِ فَسَرَقَ مِنْهُ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ الأَخُ الكَبِيرُ: أَدْخُلْ عَلَى الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الرِّضَا (عليهم السلام) وَأسْألهُ أَنْ يَلْطُفَ لِلصَّغِيرِ لَعَلَّهُ يَرُدُّ مَالِي فَإِنَّهُ حُلْوُ الكَلَامِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ بَدَا لِي فِي الدُّخُولِ عَلَى الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الرِّضَا (عليهم السلام)، قُلْتُ: أَدْخُلُ عَلَى أَشْنَاسَ التُّرْكِيِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(669) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 600 و601/ ح 548/12).

(٢٥٦)

صَاحِبِ السُّلْطَانِ(670) فَأَشْكُو إِلَيْهِ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى أَشْنَاسَ التُّرْكِيِّ وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَرْدٌ يَلْعَبُ بِهِ، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ، فَجَاءَنِي رَسُولُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهم السلام) فَقَالَ لِي: أَجِبْ، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَى الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) قَالَ لِي: «كَانَ لَكَ إِلَيْنَا أَوَّلَ اللَّيْلِ حَاجَةٌ، ثُمَّ بَدَا لَكَ عَنْهَا وَقْتَ السَّحَرِ، اذْهَبْ فَإِنَّ الكِيسَ الَّذِي أُخِذَ مِنْ مَالِكَ قَدْ رُدَّ، وَلَا تَشْكُ أَخَاكَ وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ وَأَعْطِهِ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَابْعَثْهُ إِلَيْنَا لِنُعْطِيَهُ»، فَلَمَّا خَرَجَ تَلَقَّاهُ غُلَاماً يُخْبِرُهُ بِوُجُودِ الكِيسِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ البُزُرْجِيُّ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ حَمَلَنِي الهَاشِمِيُّ إِلَى مَنْزِلِهِ وَأَضَافَنِي، ثُمَّ صَاحَ بِجَارِيَةٍ وَقَالَ: يَا غَزَالُ - أَوْ يَا زُلَالُ -، فَإِذَا أَنَا بِجَارِيَةٍ مُسِنَّةٍ، فَقَالَ لَهَا: يَا جَارِيَةُ، حَدِّثْيِ مَوْلَاكِ بِحَدِيثِ المِيلِ وَالمَوْلُودِ، فَقَالَتْ: كَانَ لَنَا طِفْلٌ وَجِعٌ، فَقَالَتْ لِي مَوْلَاتِي: امْضِي إِلَى دَارِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَقُولِي لِحَكِيمَةَ تُعْطِينَا شَيْئاً نَسْتَشْفِي بِهِ لِمَوْلُودِنَا هَذَا، فَلَمَّا مَضَيْتُ وَقُلْتُ كَمَا قَالَ لِي مَوْلَايَ قَالَتْ حَكِيمَةُ(671): ائْتُونِي بِالمِيلِ الَّذِي كُحِّلَ بِهِ المَوْلُودُ الَّذِي وُلِدَ البَارِحَةَ - تَعْنِي ابْنَ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) -، فَأُتِيَتْ بِمِيلٍ، فَدَفَعَتْهُ إِلَيَّ وَحَمَلْتُهُ إِلَى مَوْلَاتِي، فَكَحَّلْتُ بِهِ المَوْلُودَ فَعُوفِيَ، وَبَقِيَ عِنْدَنَا وَكُنَّا نَسْتَشْفِي بِهِ، ثُمَّ فَقَدْنَاهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ البُزُرْجِيُّ: فَلَقِيتُ فِي مَسْجِدِ الكُوفَةِ أَبَا الحَسَنِ بْنَ برهون البُرْسِيَّ، فَحَدَّثْتُهُ بِهَذَا الحَدِيثِ عَنْ هَذَا الهَاشِمِيِّ، فَقَالَ: قَدْ حَدَّثَنِي هَذَا الهَاشِمِيُّ بِهَذِهِ الحِكَايَةِ كَمَا ذَكَرْتَهَا حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ سَوَاءً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
[469/47] حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ القُمِّيُّ المَعْرُوفُ بِأَبِي عَلِيٍّ البَغْدَادِيُّ، قَالَ: كُنْتُ بِبُخَارَى، فَدَفَعَ إِلَيَّ المَعْرُوفُ بِابْنِ جَاوَشِيرَ عَشَرَةَ سَبَائِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(670) في بعض النُّسَخ: (حاجب السلطان).
(671) في بعض النُّسَخ: (فدخلت عليها وسألتها ذلك فقالت حكيمة...) إلخ.

(٢٥٧)

ذَهَباً وَأَمَرَنِي أَنْ أُسَلِّمَهَا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَحَمَلْتُهَا مَعِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ آمُّويَهْ(672) ضَاعَتْ مِنِّي سَبِيكَةٌ مِنْ تِلْكَ السَّبَائِكِ، وَلَمْ أَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى دَخَلْتُ مَدِينَةَ السَّلَامِ، فَأَخْرَجْتُ السَّبَائِكَ لِأُسَلِّمَهَا، فَوَجَدْتُهَا قَدْ نَقَصَتْ وَاحِدَةٌ، فَاشْتَرَيْتُ سَبِيكَةً مَكَانَهَا بِوَزْنِهَا وَأَضَفْتُهَا إِلَى التِّسْعِ السَّبَائِكِ.
ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، وَوَضَعْتُ السَّبَائِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: خُذْ تِلْكَ السَّبِيكَةَ الَّتِي اشْتَرَيْتَهَا - وَأَشَارَ إِلَيْهَا بِيَدِهِ -، وَقَالَ: إِنَّ السَّبِيكَةَ الَّتِي ضَيَّعْتَهَا قَدْ وَصَلَتْ إِلَيْنَا وَهُوَ ذَا هِيَ، ثُمَّ أَخْرَجَ إِلَيَّ تِلْكَ السَّبِيكَةَ الَّتِي كَانَتْ ضَاعَتْ مِنِّي بِآمُّويَهْ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا فَعَرَفْتُهَا(673).
قَالَ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ المَعْرُوفُ بِأَبِي عَلِيٍّ البَغْدَادِيُّ: وَرَأَيْتُ تِلْكَ السَّنَةَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ امْرَأَةً، فَسَأَلَتْنِي عَنْ وَكِيلِ مَوْلَانَا (عليه السلام) مَنْ هُوَ؟ فَأَخْبَرَهَا بَعْضُ القُمِّيِّينَ أَنَّهُ أَبُو القَاسِمِ الحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالَتْ لَهُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، أَيُّ شَيْءٍ مَعِي؟ فَقَالَ: مَا مَعَكِ فَالقِيهِ فِي دِجْلَةَ ثُمَّ ائْتِينِي حَتَّى أُخْبِرَكِ، قَالَ: فَذَهَبَتِ المَرْأَةُ وَحَمَلَتْ مَا كَانَ مَعَهَا فَالقَتْهُ فِي دِجْلَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ وَدَخَلَتْ إِلَى أَبِي القَاسِمِ الرَّوْحِيِّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَقَالَ أَبُو القَاسِمِ لِمَمْلُوكَةٍ لَهُ: أَخْرِجِي إِلَيَّ الحُقَّ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيْهِ حُقَّةً، فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: هَذِهِ الحُقَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَكِ وَرَمَيْتِ بِهَا فِي دِجْلَةَ، أُخْبِرُكِ بِمَا فِيهَا أَوْ تُخْبِرِينِي؟ فَقَالَتْ لَهُ: بَلْ أَخْبِرْنِي أَنْتَ، فَقَالَ: فِي هَذِهِ الحُقَّةِ زَوْجُ سِوَارِ ذَهَبٍ، وَحَلْقَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا جَوْهَرَةٌ، وَحَلْقَتَانِ صَغِيرَتَانِ فِيهِمَا جَوْهَرٌ، وَخَاتَمَانِ أَحَدُهُمَا فَيْرُوزَجٌ وَالآخَرُ عَقِيقٌ. فَكَانَ الأَمْرُ كَمَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(672) ويقال: آمُّويه - بالفتح وتشديد الميم وسكون الواو وفتح الياء -، وهي آمل المعروف مدينة بطبرستان.
(673) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 601 و602/ ح 549/13)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1123 و1124/ ح 42).

(٢٥٨)

ذَكَرَ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُ شَيْئاً. ثُمَّ فَتَحَ الحُقَّةَ فَعَرَضَ عَلَيَّ مَا فِيهَا، فَنَظَرَتِ المَرْأَةُ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: هَذَا الَّذِي حَمَلْتُهُ بِعَيْنِهِ وَرَمَيْتُ بِهِ فِي دِجْلَةَ، فَغُشِيَ عَلَيَّ وَعَلَى المَرْأَةِ فَرَحاً بِمَا شَاهَدْنَاهُ مِنْ صِدْقِ الدَّلَالَةِ(674).
ثُمَّ قَالَ الحُسَيْنُ لِي بَعْدَ مَا حَدَّثَنِي بِهَذَا الحَدِيثِ: أَشْهَدُ عِنْدَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) يَوْمَ القِيَامَةِ بِمَا حَدَّثْتُ بِهِ أَنَّهُ كَمَا ذَكَرْتُهُ لَمْ أَزِدْ فِيهِ وَلَمْ أَنْقُصْ مِنْهُ، وَحَلَفَ بِالأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم) لَقَدْ صَدَقَ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ وَمَا زَادَ فِيهِ وَمَا نَقَصَ مِنْهُ.
[470/48] حَدَّثَنَا أَبُو الفَرَجِ مُحَمَّدُ بْنُ المُظَفَّرِ بْنِ نَفِيسٍ المِصْرِيُّ الفَقِيهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّاوُدِيُّ(675)، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: مَا مَعْنَى قَوْلِ العَبَّاسِ لِلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إِنَّ عَمَّكَ أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَسْلَمَ بِحِسَابِ الجُمَّلِ - وَعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ(676) -؟ فَقَالَ: عَنَى بِذَلِكَ إِلَهٌ أَحَدٌ جَوَادٌ.
وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الأَلِفَ وَاحِدٌ، وَاللَّامَ ثَلَاثُونَ، وَالهَاءَ خَمْسَةٌ، وَالأَلِفَ وَاحِدٌ، وَالحَاءَ ثَمَانِيَةٌ، وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ، وَالجِيمَ ثَلَاثَةٌ، وَالوَاوَ سِتَّةٌ، وَالأَلِفَ وَاحِدٌ، وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ، فَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ(677)،(678).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(674) رواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 602 و603/ ح 550/14)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1125 و1126/ ح 43).
(675) كذا، وهكذا في معاني الأخبار. وفي بعض النُّسَخ: (البروذاني).
(676) راجع تفصيل ذلك في هامش معاني الأخبار (ص 285).
(677) رواه المصنِّف (رحمه الله) في معاني الأخبار (ص 286/ باب معنى إسلام أبي طالب.../ ح 2).
(678) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 35/ ص 79): (بيان: لعلَّ المعنى أنَّ أبا طالب أظهر إسلامه للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو لغيره بحساب العقود بأنْ أظهر الألف أوَّلاً بما يدلُّ على الواحد ثمّ اللَّام بما يدلُّ على الثلاثين وهكذا، وذلك لأنَّه كان يتَّقي من قريش كما عرفت، وقيل: يحتمل أنْ يكون العاقد هو العبَّاس حين أخبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذلك، فظهر على التقديرين أنَّ إظهار إسلامه كان بحساب الجُمَل، إذ بيان ذلك بالعقود لا يتمُّ إلَّا بكون كلِّ عدد ممَّا يدلُّ عليه العقود دالًّا على حرف من الحروف بذلك الحساب. وقد قيل في حلِّ أصل الخبر وجوه أُخَر، منها: أنَّه أشار بإصبعه المسبحة: (لا إله إلَّا الله، محمّد رسول الله)، فإنَّ عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على الوسطى يدلُّ على الثلاث والستِّين على اصطلاح أهل العقود، وكأنَّ المراد بحساب الجُمَل هذا، والدليل على ما ذكرته ما ورد في رواية شعبة، عن قتادة، عن الحسن في خبر طويل ننقل منه موضع الحاجة، وهو أنَّه لـمَّا حضرت أبا طالب الوفاة دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبكى وقال: يا محمّد، إنِّي أخرج من الدنيا وما لي غمٌّ إلَّا غمّك...»، إلى أنْ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يا عمّ، إنَّك تخاف علي أذى أعادي ولا تخاف على نفسك عذاب ربِّي؟!»، فضحك أبو طالب وقال: يا محمّد، دعوتني وكنت قدماً أميناً، وعقد بيده على ثلاث وستِّين: عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على إصبعه الوسطى، وأشار بإصبعه المسبحة، يقول: ( لا إله إلَّا الله، محمّد رسول الله)، فقام عليٌّ (عليه السلام) وقال: «الله أكبر، والذي بعثك بالحقِّ نبيًّا لقد شفَّعك في عمِّك وهداه بك»، فقام جعفر وقال: لقد سدتنا في الجنَّة يا شيخي كما سدتنا في الدنيا، فلمَّا مات أبو طالب أنزل الله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت: 56]، رواه ابن شهرآشوب في المناقب. وهذا حلٌّ متين لكنَّه لم يُعهَد إطلاق الجُمَل على حساب العقود. ومنها: أنَّه أشار إلى كلمتي (لا) و(إلَّا) والمراد كلمة التوحيد، فإنَّ العمدة فيها والأصل النفي والإثبات. ومنها: أنَّ أبا طالب وأبا عبد الله (عليه السلام) أمراً بالإخفاء اتِّقاء، فأشار بحساب العقود إلى كلمة سبح من التسبيحة، وهي التغطية أي غط واستر فإنَّه من الأسرار. وهذا هو المروي عن شيخنا البهائي (طاب رمسه). ومنها: أنَّه إشارة إلى أنَّه أسلم بثلاث وستِّين لغة، وعلى هذا كان الظرف في مرفوعة محمّد بن عبد الله متعلِّقاً بالقول. ومنها: أنَّ المراد أنَّ أبا طالب علم نبوَّة نبيِّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل بعثته بالجفر، والمراد بسبب حساب مفردات الحروف بحساب الجُمَل. ومنها: أنَّه إشارة إلى سنِّ أبي طالب حين أظهر الإسلام. ولا يخفى ما في تلك الوجوه من التعسُّف والتكلُّف سوى الوجهين الأوَّلين المؤيَّدين بالخبرين، والأوَّل منهما أوثق وأظهر، لأنَّ المظنون أنَّ الحسين بن روح لم يقل ذلك إلَّا بعد سماعه من الإمام (عليه السلام)).

(٢٥٩)

[471/49] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّقَّاقُ وَالحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ هِشَامٍ المُؤَدِّبُ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ (رضي الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الأَسَدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: كَانَ فِيمَا وَرَدَ عَلَيَّ مِنَ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) فِي جَوَابِ مَسَائِلي إِلَى صَاحِبِ الزَّمَانِ (عليه السلام):

(٢٦٠)

«أَمَّا مَا سَالتَ عَنْهُ مِنَ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، فَلَئِنْ كَانَ كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، فَمَا أَرْغَمَ أَنْفَ الشَّيْطَانِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَصَلِّهَا وَأَرْغِمْ أَنْفَ الشَّيْطَانِ(679).
وَأَمَّا مَا سَالتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الوَقْفِ عَلَى نَاحِيَتِنَا وَمَا يُجْعَلُ لَنَا ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ، فَكُلُّ مَا لَمْ يُسَلَّمْ فَصَاحِبُهُ فِيهِ بِالخِيَارِ، وَكُلُّ مَا سُلِّمَ فَلَا خِيَارَ فِيهِ لِصَاحِبِهِ، احْتَاجَ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ، افْتَقَرَ إِلَيْهِ أَوِ اسْتَغْنَى عَنْهُ.
وَأَمَّا مَا سَالتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ مَنْ يَسْتَحِلُّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِنَا وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مَلْعُونٌ وَنَحْنُ خُصَمَاؤُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): المُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللهُ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِي وَلِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ. فَمَنْ ظَلَمَنَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الظَّالِمِينَ، وَكَانَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18].
وَأَمَّا مَا سَألتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ المَوْلُودِ الَّذِي تَنْبُتُ غُلْفَتُهُ بَعْدَ مَا يُخْتَنُ: هَلْ يُخْتَنُ مَرَّةً أُخْرَى؟ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقْطَعَ غُلْفَتُهُ، فَإِنَّ الأَرْضَ تَضِجُّ إِلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) مِنْ بَوْلِ الأَغْلَفِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً(680).
وَأَمَّا مَا سَالتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ المُصَلِّي وَالنَّارُ وَالصُّورَةُ وَالسِّرَاجُ بَيْنَ يَدَيْهِ: هَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ؟ فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ قِبَلَكَ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلَادِ عَبَدَةِ الأَصْنَامِ أَوْ عَبَدَةِ النِّيرَانِ أَنْ يُصَلِّيَ وَالنَّارُ وَالصُّورَةُ وَالسِّرَاجُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ عَبَدَةِ الأَصْنَامِ وَالنِّيرَانِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(679) اعلم أنَّ العامَّة لا يُجوِّزون الصلاة بعد فريضة الغداة إلى طلوع الفجر، وبعد العصر إلى المغرب، وزعموا أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نهى عنها في هذين الوقتين. راجع تحقيق الكلام في هامش كتاب الخصال (ص 70).
(680) الأغلف بالغين المعجمة، والأقلف بالقاف بمعنى، وهو الصبيُّ الذي لم يُختَن.

(٢٦١)

وَأَمَّا مَا سَالتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الضِّيَاعِ الَّتِي لِنَاحِيَتِنَا: هَلْ يَجُوزُ القِيَامُ بِعِمَارَتِهَا وَأَدَاءِ الخَرَاجِ مِنْهَا وَصَرْفِ مَا يَفْضُلُ مِنْ دَخْلِهَا إِلَى النَّاحِيَةِ احْتِسَاباً لِلْأَجْرِ وَتَقَرُّباً إِلَيْنَا(681)؟ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَيْفَ يَحِلُّ ذَلِكَ فِي مَالِنَا؟ مَنْ فَعَلَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا فَقَدِ اسْتَحَلَّ مِنَّا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْ أَمْوَالِنَا شَيْئاً فَإِنَّمَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ نَاراً وَسَيَصْلَى سَعِيراً.
وَأَمَّا مَا سَالتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرَّجُلِ الَّذِي يَجْعَلُ لِنَاحِيَتِنَا ضَيْعَةً وَيُسَلِّمُهَا مِنْ قَيِّمٍ يَقُومُ بِهَا وَيَعْمُرُهَا وَيُؤَدِّي مِنْ دَخْلِهَا خَرَاجَهَا وَمَؤُونَتَهَا وَيَجْعَلُ مَا يَبْقَى مِنَ الدَّخْلِ لِنَاحِيَتِنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِمَنْ جَعَلَهُ صَاحِبُ الضَّيْعَةِ قَيِّماً عَلَيْهَا، إِنَّمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا مَا سَالتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الثِّمَارِ مِنْ أَمْوَالِنَا يَمُرُّ بِهَا المَارُّ فَيَتَنَاوَلُ مِنْهُ وَيَأْكُلُهُ: هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ؟ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ حَمْلُهُ»(682).
[472/50] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): أَصْلَحَكَ اللهُ مَا أَيْسَرُ مَا يَدْخُلُ بِهِ العَبْدُ النَّارَ؟ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ مَالِ اليَتِيمِ دِرْهَماً، وَنَحْنُ اليَتِيمُ»(683).
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): معنى اليتيم هو المنقطع القرين في هذا الموضع، فسُمِّي النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهذا المعنى يتيماً، وكذلك كلُّ إمام بعده يتيم بهذا المعنى، والآية في أكل أموال اليتامى ظلماً فيهم نزلت، وجرت من بعدهم في سائر الأيتام، والدُّرَّة اليتيمة إنَّما سُمّيت يتيمة لأنَّها منقطعة القرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(681) في بعض النُّسَخ: (إليكم).
(682) رواه الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 298 - 300).
(683) رواه المصنِّف (رحمه الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 41/ ح 1650)، والعيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 1/ ص 225/ ح 48)، وابن بابويه (رحمه الله) في فقه الرضا (ص 293).

(٢٦٢)

[473/51] حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الخُزَاعِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي الحُسَيْنِ الأَسَدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ (رضي الله عنه)، قَالَ: وَرَدَ عَلَيَّ تَوْقِيعٌ مِنَ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ العَمْرِيِّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) ابْتِدَاءً لَمْ يَتَقَدَّمْهُ سُؤَالٌ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ عَلَى مَنِ اسْتَحَلَّ مِنْ مَالِنَا دِرْهَماً»، قَالَ أَبُو الحُسَيْنِ الأَسَدِيُّ (رضي الله عنه): فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنِ اسْتَحَلَّ مِنْ مَالِ النَّاحِيَةِ دِرْهَماً دُونَ مَنْ أَكَلَ مِنْهُ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهُ، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَنِ اسْتَحَلَّ مُحَرَّماً، فَأَيُّ فَضْلٍ فِي ذَلِكَ لِلْحُجَّةِ (عليه السلام) عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالحَقِّ بَشِيراً لَقَدْ نَظَرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَّوْقِيعِ فَوَجَدْتُهُ قَدِ انْقَلَبَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي نَفْسِي: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ عَلَى مَنْ أَكَلَ مِنْ مَالِنَا دِرْهَماً حَرَاماً».
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الخُزَاعِيُّ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي الحُسَيْنِ الأَسَدِيُّ هَذَا التَّوْقِيعَ حَتَّى نَظَرْنَا إِلَيْهِ وَقَرَأْنَاهُ(684).
[474/52] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ الكُلَيْنِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ يَعْقُوبَ الكُلَيْنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ اليَقْطِينِيِّ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهم السلام): رَجُلٌ جَعَلَ لَكَ - جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ - شَيْئاً مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَيْهِ، أَيَأْخُذُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ يَبْعَثُ بِهِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «هُوَ بِالخِيَارِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ يَدِهِ، وَلَوْ وَصَلَ إِلَيْنَا لَرَأَيْنَا أَنْ نُوَاسِيَهُ بِهِ وَقَدِ احْتَاجَ إِلَيْهِ»(685)،(686).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(684) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1118/ ح 33)، والطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 300).
(685) رواه المصنِّف (رحمه الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 4/ ص 232/ ح 5554).
(686) لا مناسبة لهذا الحديث بالباب، لأنَّه منعقد لتوقيعات القائم (عليه السلام) فقط.

(٢٦٣)

[475/1] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحَكَمِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام)، قَالَ: «عَاشَ نُوحٌ (عليه السلام) ألفَيْ سَنَةٍ وَخَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ. مِنْهَا ثَمَانُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَألفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً وَهُوَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ، وَسَبْعُمِائَةِ عَامٍ بَعْدَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّفِينَةِ وَنَضَبَ المَاءُ(687)، فَمَصَّرَ الأَمْصَارَ وَأَسْكَنَ وُلْدَهُ البُلْدَانَ.
ثُمَّ إِنَّ مَلَكَ المَوْتِ (عليه السلام) جَاءَهُ وَهُوَ فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ لَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَرَدَّ الجَوَابَ، فَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ يَا مَلَكَ المَوْتِ؟ فَقَالَ: جِئْتُ لِأَقْبِضَ رُوحَكَ، فَقَالَ لَهُ: تَدَعُنِي أَخْرُجُ مِنَ الشَّمْسِ إِلَى الظِّلِّ؟ فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ، فَتَحَوَّلَ نُوحٌ (عليه السلام)، ثُمَّ قَالَ: يَا مَلَكَ المَوْتِ، كَأَنَّ مَا مَرَّ بِي مِنَ الدُّنْيَا مِثْلُ تَحَوُّلِي مِنَ الشَّمْسِ إِلَى الظِّلِّ(688)، فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ»، قَالَ: «فَقَبَضَ رُوحَهُ (عليه السلام)»(689).
[476/2] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(687) أي غار.
(688) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 12/ ص 401): (في القلَّة والنقصان وعدم الاعتداد به، وهذا من باب المبالغة في التعبير عن التعلُّق بالزائل، أو باعتبار أنَّ الزيادة والنقصان في الماضي أمر وهمي اعتباري. وفيه زجر لكلِّ أحد عن التمسُّك بالدنيا وإنْ رجا طول العمر، فكيف مع قصره).
(689) رواه المصنِّف (رحمه الله) في أماليه (ص 602 و603/ ح 836/7)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 8/ ص 284/ ح 429)، والفتَّال (رحمه الله) في روضة الواعظين (ص 445)، والطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان (ج 4/ ص 283)، والراوندي (رحمه الله) في قَصص الأنبياء (ص 91/ ح 80).

(٢٦٧)

العَطَّارُ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أُرُومَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابْنُ جَنَاحٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «كَانَتْ أَعْمَارُ قَوْمِ نُوحٍ (عليه السلام) ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ».
[477/3] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ جَمِيعاً، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ التَّمِيمِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام)، عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قَالَ: «عَاشَ أَبُو البَشَرِ آدَمُ (عليه السلام) تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَعَاشَ نُوحٌ (عليه السلام) ألفَيْ سَنَةٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَعَاشَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) مِائَةً وَخَمْساً وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَعَاشَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَعَاشَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ (عليهما السلام) مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ مُوسَى (عليه السلام) مِائَةً وَسِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ هَارُونُ (عليه السلام) مِائَةً وَثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَعَاشَ دَاوُدُ (عليه السلام) مِائَةَ سَنَةٍ مِنْهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً مُلْكُهُ، وَعَاشَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ (عليهما السلام) سَبْعَمِائَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً»(690).
[478/4] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَشَّارٍ القَزْوِينِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفَرَجِ المُظَفَّرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ البَزَّازُ، قَالَ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ العَسْكَرِيَّ (عليهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هُوَ القَائِمُ مِنْ بَعْدِي، وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ سُنَنُ الأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام) بِالتَّعْمِيرِ وَالغَيْبَةِ حَتَّى تَقْسُوَ القُلُوبُ لِطُولِ الأَمَدِ، فَلَا يَثْبُتَ عَلَى القَوْلِ بِهِ إِلَّا مَنْ كَتَبَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي قَلْبِهِ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ».
[479/5] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(690) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 964 و965).

(٢٦٨)

اللهِ الكُوفِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَمِّهِ الحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ ابْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِيهِ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ العَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ (عليهما السلام) يَقُولُ: «فِي القَائِمِ سُنَّةٌ مِنْ نُوحٍ (عليه السلام)، وَهِيَ طُولُ العُمُرِ»(691).
[480/6] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ يَذْكُرُ فِيهِ قِصَّةَ دَاوُدَ (عليه السلام): «إِنَّهُ خَرَجَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ لَا يَبْقَى جَبَلٌ وَلَا حَجَرٌ وَلَا طَائِرٌ إِلَّا جَاوَبَتْهُ، فَانْتَهَى إِلَى جَبَلٍ، فَإِذَا عَلَى ذَلِكَ الجَبَلِ نَبِيٌّ عَابِدٌ يُقَالُ لَهُ: حِزْقِيلُ، فَلَمَّا سَمِعَ دَوِيَّ الجِبَالِ وَأَصْوَاتَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ عَلِمَ أَنَّهُ دَاوُدُ (عليه السلام)، فَقَالَ دَاوُدُ (عليه السلام): يَا حِزْقِيلُ، تَأْذَنُ لِي فَأَصْعَدَ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَا، فَبَكَى دَاوُدُ، فَأَوْحَى اللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَيْهِ: يَا حِزْقِيلُ، لَا تُعَيِّرْ دَاوُدَ وَسَلْنِي العَافِيَةَ»، قَالَ: «فَأَخَذَ حِزْقِيلُ بِيَدِ دَاوُدَ (عليه السلام) وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ دَاوُدُ: يَا حِزْقِيلُ، هَلْ هَمَمْتَ بِخَطِيئَةٍ قَطُّ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ دَخَلَكَ العُجْبُ بِمَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ رَكَنْتَ إِلَى الدُّنْيَا فَأَحْبَبْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا؟ قَالَ: بَلَى رُبَّمَا عَرَضَ ذَلِكَ بِقَلْبِي، قَالَ: فَمَا كُنْتَ تَصْنَعُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَدْخُلُ إِلَى هَذَا الشِّعْبِ فَأَعْتَبِرُ بِمَا فِيهِ»، قَالَ: «فَدَخَلَ دَاوُدُ (عليه السلام) الشِّعْبَ، فَإِذَا سَرِيرٌ مِنْ حَدِيدٍ عَلَيْهِ جُمْجُمَةٌ بَالِيَةٌ وَعِظَامٌ فَانِيَةٌ، وَإِذَا لَوْحٌ مِنْ حَدِيدٍ فِيهِ كِتَابَةٌ، فَقَرَأَهَا دَاوُدُ (عليه السلام)، فَإِذَا فِيهَا: أَنَا أَرْوَى بْنُ سَلَمٍ، مَلَكْتُ ألفَ سَنَةٍ، وَبَنَيْتُ ألفَ مَدِينَةٍ، وَافْتَضَضْتُ ألفَ بِكْرٍ، فَكَانَ آخِرَ عُمُرِي أَنْ صَارَ التُّرَابُ فِرَاشِي، وَالحِجَارَةُ وَِسَادَتِي، وَالدِّيدَانُ وَالحَيَّاتُ جِيرَانِي، فَمَنْ رَآنِي فَلَا يَغْتَرَّ بِالدُّنْيَا»(692).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(691) قد مرَّ بسند آخر تحت الرقم (219/4)، فراجع.
(692) رواه المصنِّف (رحمه الله) في أماليه (ص 159 و160/ ح 157/8)، والقمِّي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 231 و232)، والفتَّال (رحمه الله) في روضة الواعظين (ص 442).

(٢٦٩)

[481/1] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الجَلُودِيُّ بِالبَصْرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ ابْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَرْقَمَ، عَنْ أَبِي سَيَّارٍ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الضَّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَحَمِدَ اللهَ (عزَّ وجلَّ) وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، ثُمَّ قَالَ: «سَلُونِي أَيُّهَا النَّاسُ قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي - ثَلَاثاً -».
فَقَامَ إِلَيْهِ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَتَى يَخْرُجُ الدَّجَّالُ؟
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام): «اقْعُدْ فَقَدْ سَمِعَ اللهُ كَلَامَكَ وَعَلِمَ مَا أَرَدْتَ، وَاللهِ مَا المَسْؤُولُ عَنْهُ بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ لِذَلِكَ عَلَامَاتٌ وَهَيَئَاتٌ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضاً كَحَذْوِ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِهَا».
قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ (عليه السلام): «احْفَظْ فَإِنَّ عَلَامَةَ ذَلِكَ: إِذَا أَمَاتَ النَّاسُ الصَّلَاةَ، وَأَضَاعُوا الأَمَانَةَ، وَاسْتَحَلُّوا الكَذِبَ، وَأَكَلُوا الرِّبَا، وَأَخَذُوا الرِّشَا، وَشَيَّدُوا البُنْيَانَ، وَبَاعُوا الدِّينَ بِالدُّنْيَا، وَاسْتَعْمَلُوا السُّفَهَاءَ، وَشَاوَرُوا النِّسَاءَ، وَقَطَعُوا الأَرْحَامَ، وَاتَّبَعُوا الأَهْوَاءَ، وَاسْتَخَفُّوا بِالدِّمَاءِ، وَكَانَ الحِلْمُ ضَعْفاً، وَالظُّلْمُ فَخْراً، وَكَانَتِ الأُمَرَاءُ فَجَرَةً، وَالوُزَرَاءُ ظَلَمَةً، وَالعُرَفَاءُ خَوَنَةً(693)، وَالقُرَّاءُ فَسَقَةً، وَظَهَرَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ(694)، وَاسْتُعْلِنَ الفُجُورُ وَقَوْلُ البُهْتَانِ وَالإِثْمُ والطُّغْيَانُ، وَحُلِّيَتِ المَصَاحِفُ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(693) المراد بالعرفاء هنا جمع عريف، وهو العالم بالشيء، والذي يعرف أصحابه، والقيِّم بأمر القوم، والنقيب.
(694) في بعض النُّسَخ: (شهادات الزور).

(٢٧٣)

وَزُخْرِفَتِ المَسَاجِدُ، وَطُوِّلَتِ المَنَارَاتُ، وَأُكْرِمَتِ الأَشْرَارُ، وَازْدَحَمَتِ الصُّفُوفُ، وَاخْتَلَفَتِ القُلُوبُ، وَنُقِضَتِ العُهُودُ، وَاقْتَرَبَ المَوْعُودُ، وَشَارَكَ النِّسَاءُ أَزْوَاجَهُنَّ فِي التِّجَارَةِ حِرْصاً عَلَى الدُّنْيَا، وَعَلَتْ أَصْوَاتُ الفُسَّاقِ وَاسْتُمِعَ مِنْهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ القَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَاتُّقِيَ الفَاجِرُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَصُدِّقَ الكَاذِبُ، وَاؤْتُمِنَ الخَائِنُ، وَاتُّخِذَتِ القِيَانُ وَالمَعَازِفُ(695)، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا، وَرَكِبَ ذَوَاتُ الفُرُوجِ السُّرُوجَ، وَتَشَبَّهَ النِّسَاءُ بِالرِّجَالِ وَالرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ، وَشَهِدَ الشَّاهِدُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، وَشَهِدَ الآخَرُ قَضَاءً لِذِمَامٍ بِغَيْرِ حَقٍّ عَرَفَهُ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَآثَرُوا عَمَلَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ، وَلَبِسُوا جُلُودَ الضَّأْنِ عَلَى قُلُوبِ الذِّئَابِ، وَقُلُوبُهُمْ أَنْتَنُ مِنَ الجِيَفِ وَأَمَرُّ مِنَ الصَّبِرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ الوَحَا الوَحَا(696)، ثُمَّ العَجَلَ العَجَلَ، خَيْرُ المَسَاكِنِ يَوْمَئِذٍ بَيْتُ المَقْدِسِ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَمَنَّى أَحَدُهُمْ(697) أَنَّهُ مِنْ سُكَّانِهِ».
فَقَامَ إِلَيْهِ الأَصْبَغُ بْنُ نُبَاتَةَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَنِ الدَّجَّالُ؟
فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الدَّجَّالَ صَائِدُ بْنُ الصَّيْدِ(698)، فَالشَّقِيُّ مَنْ صَدَّقَهُ، وَالسَّعِيدُ مَنْ كَذَّبَهُ، يَخْرُجُ مِنْ بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: أَصْفَهَانُ، مِنْ قَرْيَةٍ تُعْرَفُ بِاليَهُودِيَّةِ، عَيْنُهُ اليُمْنَى مَمْسُوحَةٌ، وَالعَيْنُ الأُخْرَى فِي جَبْهَتِهِ تُضِيءُ كَأَنَّهَا كَوْكَبُ الصُّبْحِ، فِيهَا عَلَقَةٌ كَأَنَّهَا مَمْزُوجَةٌ بِالدَّمِ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ: كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ كَاتِبٍ وَأُمِّيٍّ، يَخُوضُ البِحَارَ وَتَسِيرُ مَعَهُ الشَّمْسُ، بَيْنَ يَدَيْهِ جَبَلٌ مِنْ دُخَانٍ، وَخَلْفَهُ جَبَلٌ أَبْيَضُ، يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ طَعَامٌ، يَخْرُجُ حِينَ يَخْرُجُ فِي قَحْطٍ شَدِيدٍ، تَحْتَهُ حِمَارٌ أَقْمَرُ، خُطْوَةُ حِمَارِهِ مِيْلٌ، تُطْوَى لَهُ الأَرْضُ مَنْهَلاً مَنْهَلاً، لَا يَمُرُّ بِمَاءٍ إِلَّا غَارَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(695) جمع قنية: الإماء المغنِّيات.
(696) الوحا الوحا: يعني السرعة السرعة، البدار البدار.
(697) في بعض النُّسَخ: (يودُّ أحدهم).
(698) في سُنَن الترمذي (ج 3/ ص 351): (ابن صيَّاد).

(٢٧٤)

يَسْمَعُ مَا بَيْنَ الخَافِقَيْنِ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ، يَقُولُ: إِلَيَّ أَوْلِيَائِي(699)، ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى: 2 و3]، ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: 24]، وَكَذَبَ عَدُوُّ اللهِ، إِنَّهُ أَعْوَرُ، يَطْعَمُ الطَّعَامَ، وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ (عزَّ وجلَّ) لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَلَا يَطْعَمُ، وَلَا يَمْشِي، ولَا يَزُولُ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيراً. أَلَا وَإِنَّ أَكْثَرَ أَتْبَاعِهِ يَوْمَئِذٍ أَوْلَادُ الزِّنَا، وَأَصْحَابُ الطَّيَالِسَةِ الخُضْرِ، يَقْتُلُهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِالشَّامِ عَلَى عَقَبَةٍ تُعْرَفُ بِعَقَبَةِ أَفِيقٍ لِثَلَاثِ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ عَلَى يَدِ مَنْ يُصَلِّي المَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليهما السلام) خَلْفَهُ، أَلَا إِنَّ بَعْدَ ذَلِكَ الطَّامَّةَ الكُبْرَى».
قُلْنَا: وَمَا ذَلِكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟
قَالَ: «خُرُوجُ دَابَّةٍ [مِنَ] الأَرْضِ مِنْ عِنْدِ الصَّفَا مَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ وَعَصَا مُوسَى (عليه السلام)، يَضَعُ الخَاتَمَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ مُؤْمِنٍ فَيَنْطَبِعُ فِيهِ: هَذَا مُؤْمِنٌ حَقًّا، وَيَضَعُهُ عَلَى وَجْهِ كُلِّ كَافِرٍ فَيَنْكَتِبُ: هَذَا كَافِرٌ حَقًّا، حَتَّى إِنَّ المُؤْمِنَ لَيُنَادِي: الوَيْلُ لَكَ يَا كَافِرُ، وَإِنَّ الكَافِرَ يُنَادِي: طُوبَى لَكَ يَا مُؤْمِنُ، وَدِدْتُ أَنِّي اليَوْمَ كُنْتُ مِثْلَكَ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً. ثُمَّ تَرْفَعُ الدَّابَّةُ رَأْسَهَا فَيَرَاهَا مَنْ بَيْنَ الخَافِقَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ (جلّ جلاله)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُرْفَعُ التَّوْبَةُ، فَلَا تَوْبَةٌ تُقْبَلُ وَلَا عَمَلٌ يُرْفَعُ، وَ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾ [الأنعام: 158]».
ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «لَا تَسْأَلُونِّي عَمَّا يَكُونُ بَعْدَ هَذَا، فَإِنَّهُ عَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيَّ حَبِيبِي رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنْ لَا أُخْبِرَ بِهِ غَيْرَ عِتْرَتِي».
قَالَ النَّزَّالُ بْنُ سَبْرَةَ: فَقُلْتُ لِصَعْصَعَةَ بْنِ صُوحَانَ: يَا صَعْصَعَةُ، مَا عَنَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(699) أي أسرعوا، أو إليَّ مرجعكم أوليائي، والأوَّل أنسب.

(٢٧٥)

أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِهَذَا؟ فَقَالَ صَعْصَعَةُ: يَا ابْنَ سَبْرَةَ، إِنَّ الَّذِي يُصَلِّي خَلْفَهُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) هُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ العِتْرَةِ، التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، وَهُوَ الشَّمْسُ الطَّالِعَةُ مِنْ مَغْرِبِهَا، يَظْهَرُ عِنْدَ الرُّكْنِ وَالمَقَامِ، فَيُطَهِّرُ الأَرْضَ، وَيَضَعُ مِيزَانَ العَدْلِ، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَداً. فَأَخْبَرَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّ حَبِيبَهُ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ لَا يُخْبِرَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ عِتْرَتِهِ الأَئِمَّةِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)(700).
وحدَّثنا أبو بكر محمّد بن عمر بن عثمان بن الفضل العقيلي الفقيه، قال: حدَّثنا أبو عمر[و] محمّد بن جعفر بن المظفَّر وعبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن الرازي وأبو سعيد عبد الله بن محمّد بن موسى بن كعب الصيداني وأبو الحسن محمّد بن عبد الله بن صبيح الجوهري، قالوا: حدَّثنا أبو يعلى بن أحمد بن المثنَّى الموصلي، عن عبد الأعلى بن حمَّاد النرسي، عن أيُّوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهذا الحديث مثله سواء.
[482/2] حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الفَضْلِ العُقَيْليُّ الفَقِيهُ بِهَذَا الإِسْنَادِ عَنْ مَشَايِخِهِ، عَنْ أَبِي يَعْلَى المَوْصِلِيِّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ النَّرْسِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صَلَّى ذَاتَ يَوْمٍ بِأَصْحَابِهِ الفَجْرَ، ثُمَّ قَامَ مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّى أَتَى بَابَ دَارٍ بِالمَدِينَةِ، فَطَرَقَ البَابَ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: مَا تُرِيدُ يَا أَبَا القَاسِمِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَا أُمَّ عَبْدِ اللهِ، اسْتَأْذِنِي لِي عَلَى عَبْدِ اللهِ»، فَقَالَتْ: يَا أَبَا القَاسِمِ، وَمَا تَصْنَعُ بِعَبْدِ اللهِ؟ فَوَاللهِ إِنَّهُ لَمَجْهُودٌ فِي عَقْلِهِ يُحْدِثُ فِي ثَوْبِهِ، وَإِنَّهُ لَيُرَاوِدُنِي عَلَى الأَمْرِ العَظِيمِ، فَقَالَ: «اسْتَأْذِنِي عَلَيْهِ»، فَقَالَتْ: أَعَلَى ذِمَّتِكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَالَتْ: ادْخُلْ، فَدَخَلَ، فَإِذَا هُوَ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ يُهَيْنِمُ فِيهَا(701)، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اسْكُتْ وَاجْلِسْ هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ أَتَاكَ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(700) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1133 - 1137/ ح 53).
(701) الهينمة: الصوت الخفي، والكلام الذي لا يُفهَم. وفي بعض النُّسَخ: (يُهمهم فيها).

(٢٧٦)

فَسَكَتَ وَجَلَسَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَا لَهَا لَعَنَهَا اللهُ لَوْ تَرَكْتَنِي لَأَخْبَرْتُكُمْ أَهُوَ هُوَ»، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَا تَرَى؟»، قَالَ: أَرَى حَقًّا وَبَاطِلاً، وَأَرَى عَرْشاً عَلَى المَاءِ، فَقَالَ: «اشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، فَقَالَ: بَلْ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَمَا جَعَلَكَ اللهُ بِذَلِكَ أَحَقَّ مِنِّي.
فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الثَّانِي صَلَّى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِأَصْحَابِهِ الفَجْرَ، ثُمَّ نَهَضَ فَنَهَضُوا مَعَهُ حَتَّى طَرَقَ البَابَ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: ادْخُلْ، فَدَخَلَ، فَإِذَا هُوَ فِي نَخْلَةٍ يُغَرِّدُ فِيهَا(702)، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: اسْكُتْ وَانْزِلْ هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ أَتَاكَ، فَسَكَتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَا لَهَا لَعَنَهَا اللهُ لَوْ تَرَكْتَنِي لَأَخْبَرْتُكُمْ أَهُوَ هُوَ».
فَلَمَّا كَانَ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ صَلَّى النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِأَصْحَابِهِ الفَجْرَ، ثُمَّ نَهَضَ وَنَهَضَ القَوْمُ مَعَهُ حَتَّى أَتَى ذَلِكَ المَكَانَ، فَإِذَا هُوَ فِي غَنَمٍ لَهُ يَنْعِقُ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: اسْكُتْ وَاجْلِسْ هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ أَتَاكَ، فَسَكَتَ وَجَلَسَ، وَقَدْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ آيَاتٌ مِنْ سُورَةِ الدُّخَانِ، فَقَرَأَهَا بِهِمُ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فِي صَلَاةِ الغَدَاةِ، ثُمَّ قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟»، فَقَالَ: بَلْ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَمَا جَعَلَكَ اللهُ بِذَلِكَ أَحَقَّ مِنِّي.
فَقَالَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئاً، فَمَا هُوَ؟»، فَقَالَ: الدُّخْ الدُّخْ(703)، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اخْسَأْ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَلَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَنَالَ إِلَّا مَا قُدِّرَ لَكَ».
ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ، مَا بَعَثَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) نَبِيًّا إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ، وَإِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) قَدْ أَخَّرَهُ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، فَمَهْمَا تَشَابَهَ عَلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، إِنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى حِمَارٍ عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ مِيلٌ، يَخْرُجُ وَمَعَهُ جَنَّةٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(702) الغرد - بالتحريك -: التطريب في الصوت والغناء.
(703) يعني الدخان. وخبَّأت: أي سترت.

(٢٧٧)

وَنَارٌ وَجَبَلٌ مِنْ خُبْزٍ وَنَهْرٌ مِنْ مَاءٍ، أَكْثَرُ أَتْبَاعِهِ اليَهُودُ وَالنِّسَاءُ وَالأَعْرَابُ، يَدْخُلُ آفَاقَ الأَرْضِ كُلَّهَا إِلَّا مَكَّةَ وَلَابَتَيْهَا، وَالمَدِينَةَ وَلَابَتَيْهَا(704)»(705)،(706).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(704) لابتا المدينة: حرَّتاه، واللابة: الحرَّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها.
(705) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1138 - 1142/ ح 54).
(706) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 197 - 199): (بيان: قولها: (إنَّه لمجهود في عقله) أي أصاب عقله جهد البلاء فهو مخبط، يقال: جهد المرض فلاناً هزله، وكأنَّ مراودته إيَّاها كان لإظهار دعوى الأُلوهيَّة أو النبوَّة، ولذا كانت تأبى عن أنْ يراه النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). والهينمة: الصوت الخفي. وفي أخبار العامَّة: يهمهم. قوله: «أهو هو» أي إمَّا تقولون بأُلوهيَّة إله أم لا. أقول: روى الحسين بن مسعود الفرَّاء في شرح السُّنَّة بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنَّ في هذه القصَّة قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ما ترى؟»، قال: أرى عرشاً على الماء، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ترى عرش إبليس على البحر»، فقال: «ما ترى؟»، قال: أرى صادقين وكاذباً أو كاذبين وصادقاً، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لُبِسَ عليه دعوه». ويقال: غرد الطائر كفرح وغرَّد تغريداً وأغرد وتغرَّد، رفع صوته وطرب به. قوله: «قد خبَّأت لك خباء» أي أضمرت لك شيئاً أخبرني به، قال الجزري: فيه أنَّه قال لابن صيَّاد: «خبَّأت لك خبيئاً»، قال : هو الدخُّ. الدخ بضمِّ الدال وفتحها الدخان، قال: عند رواق البيت يغشى الدخان. وفسَّر الحديث أنَّه أراد بذلك ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: 10]. وقيل: إنَّ الدجال يقتله عيسى بجبل الدخان، فيحتمل أنْ يكون المراد تعريضاً بقتله لأنَّ ابن الصيَّاد كان يظنُّ أنَّه الدجَّال. قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اخسأ» يقال: خسأت الكلب أي طردته وأبعدته. قوله: «فإنَّك لن تعدو أجلك» قال في شرح السُّنَّة: قال الخطَّابي: يحتمل وجهين: أحدهما أنَّه لا يبلغ قدره أنْ يطالع الغيب من قِبَل الوحي الذي يُوحى به إلى الأنبياء، ولا من قِبَل الإلهام الذي يُلقى في روع الأولياء، وإنَّما كان الذي جرى على لسانه شيئاً ألقاه الشيطان حين سمع النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يراجع به أصحابه قبل دخوله النخل. والآخر أنَّك لن تسبق قدر الله فيك وفي أمرك. وقال أبو سليمان: والذي عندي أنَّ هذه القصَّة إنَّما جرت أيَّام مهادنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اليهود وحلفاءهم، وكان ابن الصيَّاد منهم أو دخيلاً في جملتهم، وكان يبلغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خبره وما يدَّعيه من الكهانة، فامتحنه بذلك، فلمَّا كلَّمه علم أنَّه مبطل، وأنَّه من جملة السحرة أو الكهنة أو ممَّن يأتيه رئي الجنِّ أو يتعاهده شيطان فيُلقي على لسانه بعض ما يتكلَّم به، فلما سمع منه قوله: (الدخّ) زبره وقال: «اخسأ فلن تعدو قدرك»، يريد أنَّ ذلك شيء ألقاه إليه الشيطان، وليس ذلك من قِبَل الوحي وإنَّما كانت له تارات يصيب في بعضها ويخطئ في بعضها، وذلك معنى قوله: (يأتيني صادق وكاذب)، فقال له عند ذلك: «خلط عليك». والجملة من أمره أنَّه كان فتنة قد امتحن الله به عباده، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42]، وقد افتتن قوم موسى في زمانه بالعجل فافتتن به قوم وأهلكوا، ونجا من هداه الله وعصمه، انتهى كلامه. أقول: اختلفت العامَّة في أنَّ ابن الصيَّاد هل هو الدجَّال أو غيره، فذهب جماعة منهم إلى أنَّه غيره، لما روي أنَّه تاب عن ذلك، ومات بالمدينة، وكشفوا عن وجهه حتَّى رأوه الناس ميِّتاً، ورووا عن أبي سعيد الخدري أيضاً ما يدلُّ على أنَّه ليس بدجَّال. وذهب جماعة إلى أنَّه هو الدجَّال، رووه عن ابن عمر وجابر الأنصاري).

(٢٧٨)

قال مصنَّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): إنَّ أهل العناد والجحود يُصدِّقون بمثل هذا الخبر ويروونه في الدجَّال وغيبته وطول بقائه المدَّة الطويلة وخروجه في آخر الزمان، ولا يُصدِّقون بأمر القائم (عليه السلام) وأنَّه يغيب مدَّة طويلة ثمّ يظهر فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً، مع نصِّ النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام) بعده عليه باسمه وغيبته ونسبه وإخبارهم بطول غيبته، إرادةً لإطفاء نور الله (عزَّ وجلَّ) وإبطالاً لأمر وليِّ الله، ويأبى الله إلَّا أنْ يُتِمَّ نوره ولو كره المشركون، وأكثر ما يحتجُّون به في دفعهم لأمر الحجة (عليه السلام) أنَّهم يقولون: لم نرو هذه الأخبار التي تروونها في شأنه ولا نعرفها.
وهكذا يقول من يجحد نبوَّة نبيِّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الملحدين والبراهمة واليهود والنصارى والمجوس أنَّه ما صحَّ عندنا شيء ممَّا تروونه من معجزاته ودلائله ولا نعرفها، فنعتقد ببطلان أمره لهذه الجهة، ومتى لزمنا ما يقولون لزمهم ما تقوله هذه الطوائف، وهم أكثر عدداً منهم.
ويقولون أيضاً: ليس في موجب عقولنا أنْ يعمر أحد في زماننا هذا عمراً يتجاوز عمر أهل الزمان، فقد تجاوز عمر صاحبكم على زعمكم عمر أهل الزمان.
فنقول لهم: أتُصدِّقون على أنَّ الدجَّال في الغيبة يجوز أنْ يعمر عمراً يتجاوز

(٢٧٩)

عمر أهل الزمان، وكذلك إبليس اللعين، ولا تُصدِّقون بمثل ذلك لقائم آل محمّد (عليهم السلام) مع النصوص الواردة فيه بالغيبة وطول العمر والظهور بعد ذلك للقيام بأمر الله (عزَّ وجلَّ).
وما روي في ذلك من الأخبار التي قد ذكرتها في هذا الكتاب، ومع ما صحَّ عَنِ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِذْ قَالَ: «كُلُّ مَا كَانَ فِي الأُمَمِ السَّالِفَةِ يَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مِثْلُهُ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالقُذَّةِ بِالقُذَّةِ».
وقد كان فيمن مضى من أنبياء الله (عزَّ وجلَّ) وحُجَجه (عليهم السلام) معمَّرون، أمَّا نوح (عليه السلام) فإنَّه عاش ألفي سنة وخمسمائة سنة، ونطق القرآن بأنَّه لبث في قومه ألف سنة إلَّا خمسين عاماً.
وقد روي في الخبر الذي قد أسندته في هذا الكتاب أنَّ في القائم (عليه السلام) سُنَّة من نوح (عليه السلام)، وهي طول العمر، فكيف يُدفَع أمره ولا يُدفَع ما يشبهه من الأُمور التي ليس شيء منها في موجب العقول؟ بل لزم الإقرار بها، لأنَّها رُويت عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وهكذا يلزم الإقرار بالقائم (عليه السلام) من طريق السمع، وفي موجب أيِّ عقل من العقول أنَّه يجوز أنْ يلبث أصحاب الكهف فِي كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً؟ هل وقع التصديق بذلك إلَّا من طريق السمع؟ فلِمَ لا يقع التصديق بأمر القائم (عليه السلام) أيضاً من طريق السمع؟ وكيف يُصدِّقون ما يرد من الأخبار عن وهب بن المنبه وعن كعب الأحبار في المحالات التي لا يصحُّ شيء منها في قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا في موجب العقول، ولا يُصدِّقون بما يرد عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام) في القائم وغيبته وظهوره بعد شكِّ أكثر الناس في أمره وارتدادهم عن القول به كما تنطق به الآثار الصحيحة عنهم (عليهم السلام)؟ هل هذا إلَّا مكابرة في دفع الحقِّ وجحوده؟

وكيف لا يقولون: إنَّه لـمَّا كان في الزمان غير محتمل للتعمير وجب أنْ تجري

(٢٨٠)

سُنَّة الأوَّلين بالتعمير في أشهر الأجناس تصديقاً لقول صاحب الشريعة (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ ولا جنس أشهر من جنس القائم (عليه السلام)، لأنَّه مذكور في الشرق والغرب على ألسنة المقرِّين به وألسنة المنكرين له، ومتى بطل وقوع الغيبة بالقائم الثاني عشر من الأئمَّة (عليهم السلام) مع الروايات الصحيحة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه أخبر بوقوعها به (عليه السلام) بطلت نبوَّته، لأنَّه يكون قد أخبر بوقوع الغيبة بمن لم يقع به، ومتى صحَّ كذبه في شيء لم يكن نبيًّا، وكيف يصدق (عليه السلام) فيما أخبر به في أمر عمَّار بن ياسر (رضي الله عنه) أنَّه تقتله الفئة الباغية، وفي أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه تخضب لحيته من دم رأسه، وفي الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) أنَّه مقتول بالسمِّ، وفي الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام) أنَّه مقتول بالسيف، ولا يصدق فيما أخبر به من أمر القائم ووقوع الغيبة به والتعيين عليه(707) باسمه ونسبه؟! بلى هو (عليه السلام) صادق في جميع أقواله، مصيب في جميع أحواله، ولا يصحُّ إيمان عبد حتَّى لا يجد في نفسه حرجاً ممَّا قضى ويُسلِّم له في جميع الأُمور تسليماً، ولا يخالطه شكٌّ ولا ارتياب، وهذا هو الإسلام، والإسلام هو الاستسلام والانقياد، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
ومن أعجب العجائب أنَّ مُخَالِفِينَا يَرْوُونَ أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ (عليه السلام) مَرَّ بِأَرْضِ كَرْبَلَاءَ، فَرَأَى عِدَّةً مِنَ الظِّبَاءِ هُنَاكَ مُجْتَمِعَةً، فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ وهِيَ تَبْكِي، وَأَنَّهُ جَلَسَ وَجَلَسَ الحَوَارِيُّونَ، فَبَكَى وَبَكَى الحَوَارِيُّونَ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ لِـمَ جَلَسَ وَلِـمَ بَكَى، فَقَالُوا: يَا رُوحَ اللهِ وَكَلِمَتَهُ، مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَيُّ أَرْضٍ هَذِهِ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: هَذِهِ أَرْضٌ يُقْتَلُ فِيهَا فَرْخُ الرَّسُولِ أَحْمَدُ، وَفَرْخُ الحُرَّةِ الطَّاهِرَةِ(708) البَتُولِ شَبِيهَةِ أُمِّي، وَيُلْحَدُ فِيهَا، هِيَ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، لِأَنَّهَا طِينَةُ الفَرْخِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(707) في بعض النُّسَخ: (والنصّ عليه).
(708) في بعض النُّسَخ: (الخيرة الطاهرة).

(٢٨١)

المُسْتَشْهَدِ، وَهَكَذَا تَكُونُ طِينَةُ الأَنْبِيَاءِ وَأَوْلَادُ الأَنْبِيَاءِ، وَهَذِهِ الظِّبَاءُ تُكَلِّمُنِي وَتَقُولُ: إِنَّهَا تَرْعَى فِي هَذِهِ الأَرْضِ شَوْقاً إِلَى تُرْبَةِ الفَرْخِ المُسْتَشْهَدِ المُبَارَكِ، وَزَعَمَتْ أَنَّهَا آمِنَةً فِي هَذِهِ الأَرْضِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى بَعْرِ تِلْكَ الظِّبَاءِ، فَشَمَّهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَبْقِهَا أَبَداً حَتَّى يَشَمَّهَا أَبُوهُ، فَيَكُونَ لَهُ عَزَاءً وَسَلْوَةً، وَإِنَّهَا بَقِيَتْ إِلَى أَيَّامِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) حَتَّى شَمَّهَا وَبَكَى وَأَخْبَرَ بِقِصَّتِهَا لَـمَّا مَرَّ بِكَرْبَلَاءَ.
فيُصدِّقون بأنَّ بعر تلك الظباء يبقى زيادةً على خمسمائة سنة لم تُغيِّرها الأمطار والرياح ومرور الأيَّام والليالي والسنين عليه، ولا يُصدِّقون بأنَّ القائم من آل محمّد (عليهم السلام) يبقى حتَّى يخرج بالسيف فيبير أعداء الله (عزَّ وجلَّ) ويُظهِر دين الله. مع الأخبار الواردة عن النبيِّ والأئمَّة (صلوات الله عليهم) بالنصِّ عليه باسمه ونسبه وغيبته المدَّة الطويلة، وجري سُنَن الأوَّلين فيه بالتعمير، هل هذا إلَّا عناد وجحود للحقِّ؟ [نعوذ بالله من الخذلان].

* * *

(٢٨٢)

[483/1] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ القَطَّانِ - وَكَانَ شَيْخاً لِأَصْحَابِ الحَدِيثِ بِبَلَدِ الرَّيِّ يُعْرَفُ بِأَبِي عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ -، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا القَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ بُهْلُولٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنِ الحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي خَرْجَتِهِ إِلَى صِفِّينَ، فَلَمَّا نَزَلَ بِنَيْنَوَى وَهُوَ شَطُّ الفُرَاتِ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَتَعْرِفُ هَذَا المَوْضِعَ؟»، قَالَ: قُلْتُ: مَا أَعْرِفُهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: «لَوْ عَرَفْتَهُ كَمَعْرِفَتِي لَمْ تَكُنْ تَجُوزُهُ حَتَّى تَبْكِيَ كَبُكَائِي»، قَالَ: فَبَكَى طَوِيلاً حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ(709) وَسَالَتِ الدُّمُوعُ عَلَى صَدْرِهِ، وَبَكَيْنَا مَعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «أَوِّهْ أَوِّهْ، مَا لِي وَلِآلِ أَبِي سُفْيَانَ؟ مَا لِي وَلِآلِ حَرْبٍ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاءِ الكُفْرِ؟ صَبْراً يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، فَقَدْ لَقِيَ أَبُوكَ مِثْلَ الَّذِي تَلْقَى مِنْهُمْ»، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، فَصَلَّى مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُصَلِّيَ.
ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ كَلَامِهِ الأَوَّلِ إِلَّا أَنَّهُ نَعَسَ عِنْدَ انْقِضَاءِ صَلَاتِهِ سَاعَةً، ثُمَّ انْتَبَهَ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ عَبَّاسٍ»، فَقُلْتُ: هَا أَنَا ذَا، فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَا رَأَيْتُ فِي مَنَامِي آنِفاً عِنْدَ رَقْدَتِي؟»، فَقُلْتُ: نَامَتْ عَيْنَاكَ وَرَأَيْتَ خَيْراً يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَالَ: «رَأَيْتُ كَأَنِّي بِرِجَالٍ بِيضٍ قَدْ نَزَلُوا مِنَ السَّمَاءِ مَعَهُمْ أَعْلَامٌ بِيضٌ، قَدْ تَقَلَّدُوا سُيُوفَهُمْ وَهِيَ بِيضٌ تَلْمَعُ، وَقَدْ خَطُّوا حَوْلَ هَذِهِ الأَرْضِ خَطَّةً، ثُمَّ رَأَيْتُ هَذِهِ النَّخِيلَ قَدْ ضَرَبَتْ بِأَغْصَانِهَا إِلَى الأَرْضِ، فَرَأَيْتُهَا تَضْطَرِبُ بِدَمٍ عَبِيطٍ، وَكَأَنِّي بِالحُسَيْنِ نَجْلِي(710) وَفَرْخِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(709) اخضلَّت لحيته: أي ابتلَّت بالدموع.
(710) في بعض النُّسَخ: (سخلي).

(٢٨٥)

وَمُضْغَتِي وَمُخِّي قَدْ غَرِقَ فِيهِ، يَسْتَغِيثُ فَلَا يُغَاثُ، وَكَأَنَّ الرِّجَالَ البِيضَ قَدْ نَزَلُوا مِنَ السَّمَاءِ يُنَادُونَهُ وَيَقُولُونَ: صَبْراً آلَ الرَّسُولِ فَإِنَّكُمْ تُقْتَلُونَ عَلَى أَيْدِي شِرَارِ النَّاسِ، وَهَذِهِ الجَنَّةُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ إِلَيْكَ مُشْتَاقَةٌ، ثُمَّ يُعَزُّونَنِي وَيَقُولُونَ: يَا أَبَا الحَسَنِ، أَبْشِرْ فَقَدْ أَقَرَّ اللهُ عَيْنَكَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ، ثُمَّ انْتَبَهْتُ.
هَكَذَا وَالَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ لَقَدْ حَدَّثَنِي الصَّادِقُ المُصَدَّقُ أَبُو القَاسِمِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أَنِّي سَأَرَاهَا فِي خُرُوجِي إِلَى أَهْلِ البَغْيِ عَلَيْنَا، وَهَذِهِ أَرْضُ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ، يُدْفَنُ فِيهَا الحُسَيْنُ وَسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً كُلُّهُمْ مِنْ وُلْدِي وَوُلْدِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)، وَإِنَّهَا لَفِي السَّمَاوَاتِ مَعْرُوفَةٌ، تُذْكَرُ أَرْضُ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ كَمَا تُذْكَرُ بُقْعَةُ الحَرَمَيْنِ وَبُقْعَةُ بَيْتِ المَقْدِسِ»، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، اطْلُبْ لِي حَوْلَهَا بَعْرَ الظِّبَاءِ، فَوَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ قَطُّ، وَهِيَ مُصْفَرَّةٌ لَوْنُهَا لَوْنُ الزَّعْفَرَانِ».
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَطَلَبْتُهَا، فَوَجَدْتُهَا مُجْتَمِعَةً، فَنَادَيْتُهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَدْ أَصَبْتُهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْتَهَا لِي، فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ»، ثُمَّ قَامَ يُهَرْوِلُ إِلَيْهَا، فَحَمَلَهَا وَشَمَّهَا، وَقَالَ: «هِيَ هِيَ بِعَيْنِهَا، تَعْلَمُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا هَذِهِ الأَبْعَارُ؟ هَذِهِ قَدْ شَمَّهَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام)، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ بِهَا وَمَعَهُ الحَوَارِيُّونَ، فَرَأَى هَذِهِ الظِّبَاءَ مُجْتَمِعَةً، فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ الظِّبَاءُ وَهِيَ تَبْكِي، فَجَلَسَ عِيسَى (عليه السلام) وَجَلَسَ الحَوَارِيُّونَ، فَبَكَى وَبَكَى الحَوَارِيُّونَ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ لِـمَ جَلَسَ وَلِـمَ بَكَى، فَقَالُوا: يَا رُوحَ اللهِ وَكَلِمَتَهُ، مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَيُّ أَرْضٍ هَذِهِ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: هَذِهِ أَرْضٌ يُقْتَلُ فِيهَا فَرْخُ الرَّسُولِ أَحْمَدَ وَفَرْخُ الحُرَّةِ الطَّاهِرَةِ(711) البَتُولِ شَبِيهَةِ أُمِّي، وَيُلْحَدُ فِيهَا، وَهِيَ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَهِيَ طِينَةُ الفَرْخِ المُسْتَشْهَدِ، وَهَكَذَا تَكُونُ طِينَةُ الأَنْبِيَاءِ وَأَوْلَادِ الأَنْبِيَاءِ، فَهَذِهِ الظِّبَاءُ تُكَلِّمُنِي وَتَقُولُ: إِنَّهَا تَرْعَى فِي هَذِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(711) في بعض النُّسَخ: (الخيرة الطاهرة).

(٢٨٦)

الأَرْضِ شَوْقاً إِلَى تُرْبَةِ الفَرْخِ المُبَارَكِ، وَزَعَمَتْ أَنَّهَا آمِنَةٌ فِي هَذِهِ الأَرْضِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى هَذِهِ الصِّيرَانِ(712) فَشَمَّهَا، فَقَالَ: هَذِهِ بَعْرُ الظِّبَاءِ عَلَى هَذِهِ الطِّيبِ لِمَكَانِ حَشِيشِهَا، اللَّهُمَّ أَبْقِهَا أَبَداً حَتَّى يَشَمَّهَا أَبُوهُ فَتَكُونَ لَهُ عَزَاءً وَسَلْوَةً»، قَالَ: «فَبَقِيَتْ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا وَقَدِ اصْفَرَّتْ لِطُولِ زَمَنِهَا، هَذِهِ أَرْضُ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ».
وَقَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «يَا رَبَّ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، لَا تُبَارِكْ فِي قَتَلَتِهِ، وَالحَامِلِ عَلَيْهِ، وَالمُعِينِ عَلَيْهِ، وَالخَاذِلِ لَهُ».
ثُمَّ بَكَى بُكَاءً طَوِيلاً وَبَكَيْنَا مَعَهُ حَتَّى سَقَطَ لِوَجْهِهِ، وَغُشِيَ عَلَيْهِ طَوِيلاً، ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَخَذَ البَعْرَ فَصَرَّهَا فِي رِدَائِهِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصُرَّهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِذَا رَأَيْتَهَا تَنْفَجِرُ دَماً عَبِيطاً فَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ قَدْ قُتِلَ وَدُفِنَ بِهَا».
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَحْفَظُهَا أَكْثَرَ مِنْ حِفْظِي لِبَعْضِ مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيَّ، وَأَنَا لَا أَحُلُّهَا مِنْ طَرَفِ كُمِّي، فَبَيْنَا أَنَا فِي البَيْتِ نَائِمٌ إِذِ انْتَبَهْتُ، فَإِذَا هِيَ تَسِيلُ دَماً عَبِيطاً، وَكَانَ كُمِّي قَدِ امْتَلَأَتْ دَماً عَبِيطاً، فَجَلَسْتُ وَأَنَا أَبْكِي وَقُلْتُ: قُتِلَ وَاللهِ الحُسَيْنُ، وَاللهِ مَا كَذَبَنِي عَلِيٌّ قَطُّ فِي حَدِيثٍ حَدَّثَنِي، وَلَا أَخْبَرَنِي بِشَيْءٍ قَطُّ أَنَّهُ يَكُونُ إِلَّا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كَانَ يُخْبِرُهُ بِأَشْيَاءَ لَا يُخْبِرُ بِهَا غَيْرَهُ، فَفَزِعْتُ وَخَرَجْتُ، وَذَلِكَ [كَانَ] عِنْدَ الفَجْرِ، فَرَأَيْتُ وَاللهِ المَدِينَةَ كَأَنَّهَا ضَبَابٌ(713) لَا يَسْتَبِينُ فِيهَا أَثَرُ عَيْنٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَرَأَيْتُ كَأَنَّهَا كَاسِفَةٌ، وَرَأَيْتُ كَأَنَّ حِيطَانَ المَدِينَةِ عَلَيْهَا دَمٌ عَبِيطٌ، فَجَلَسْتُ وَأَنَا بَاكٍ وَقُلْتُ: قُتِلَ وَاللهِ الحُسَيْنُ، فَسَمِعْتُ صَوْتاً مِنْ نَاحِيَةِ البَيْتِ وَهُوَ يَقُولُ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(712) جمع الصوار - ككتاب - وهو القطيع من البعر أو المسك. وقال في القاموس المحيط (ج 2/ ص 73): (الصور: النخل الصغار. والصيران: المجتمع). والمراد بالصيران هنا المجتمعة من أبعار الظباء.
(713) اليوم صار ذا ضباب - بالفتح -: أي ندى كالغيم أو سحاب رقيق كالدخان.

(٢٨٧)

اصْبِرُوا آلَ الرَّسُولِ * * * قُتِلَ الفَرْخُ النُّحُولُ(714)
نَزَلَ الرُّوحُ الأَمِينُ * * * بِبُكَاءٍ وَعَوِيلٍ

ثُمَّ بَكَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَبَكَيْتُ، وَأَثْبَتُّ عِنْدِي تِلْكَ السَّاعَةَ، وَكَانَ شَهْرُ المُحَرَّمِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْهُ، فَوَجَدْتُهُ يَوْمَ وَرَدَ عَلَيْنَا خَبَرُهُ وَتَارِيخُهُ كَذَلِكَ، فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الحَدِيثِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، فَقَالُوا: وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مَا سَمِعْتَ وَنَحْنُ فِي المَعْرَكَةِ لَا نَدْرِي مَا هُوَ، فَكُنَّا نَرَى أَنَّهُ الخَضِرُ صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الحُسَيْنِ، وَلَعَنَ اللهُ قَاتِلَهُ وَالمُشَيِّعَ عَلَيْهِ(715).
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حَبَابَةَ الوَالِبِيَّةَ لَقِيَتْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام)، وَأَنَّهَا بَقِيَتْ إِلَى أَيَّامِ الرِّضَا (عليه السلام).
فلم يُنكر من أمرها طول العمر، فكيف يُنكر القائم (عليه السلام)؟

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(714) النحول: الهزال. وفي بعض النُّسَخ: (المحول). ولعلَّ المراد العطشان، لأنَّ المحلُّ: انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلاء.
(715) رواه المصنِّف (رحمه الله) في أماليه (ص 694 - 696/ ح 951/5).

(٢٨٨)

[484/1] مَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ قَاسِمٍ العِجْلِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى المَعْرُوفِ بِبُرْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُدَاهِيٍّ(716)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ بْنِ عُمَرَ الخَثْعَمِيِّ، عَنْ حَبَابَةَ الوَالِبِيَّةِ، قَالَتْ: رَأَيْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي شُرْطَةِ الخَمِيسِ وَمَعَهُ دِرَّةٌ يَضْرِبُ بِهَا بَيَّاعَ الجِرِّيِّ وَالمَارْمَاهِي وَالزِّمَّارِ وَالطَّافِي، وَيَقُولُ لَهُمْ: «يَا بَيَّاعِي مُسُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجُنْدَ بَنِي مَرْوَانَ»، فَقَامَ إِلَيْهِ فُرَاتُ بْنُ الأَحْنَفِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَمَا جُنْدُ بَنِي مَرْوَانَ؟ [قَالَتْ]: فَقَالَ لَهُ: «أَقْوَامٌ حَلَقُوا اللِّحَى، وَفَتَلُوا الشَّوَارِبَ»، فَلَمْ أَرَ نَاطِقاً أَحْسَنَ نُطْقاً مِنْهُ، ثُمَّ اتَّبَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَقْفُو أَثَرَهُ حَتَّى قَعَدَ فِي رَحَبَةِ المَسْجِدِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا دَلَالَةُ الإِمَامَةِ رَحِمَكَ اللهُ؟ فَقَالَ لِي: «ايتِينِي بِتِلْكَ الحَصَاةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَصَاةٍ -»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَطَبَعَ لِي فِيهَا بِخَاتَمِهِ، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا حَبَابَةُ، إِذَا ادَّعَى مُدَّعٍ الإِمَامَةَ فَقَدَرَ أَنْ يَطْبَعَ كَمَا رَأَيْتِ فَاعْلَمِي أَنَّهُ إِمَامٌ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ، وَالإِمَامُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ يُرِيدُهُ».
قَالَتْ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى قُبِضَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَجِئْتُ إِلَى الحَسَنِ (عليه السلام) وَهُوَ فِي مَجْلِسِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ لِي: «يَا حَبَابَةُ الوَالِبِيَّةُ»، فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا مَوْلَايَ، فَقَالَ: «هَاتِي مَا مَعَكِ»، قُلْتُ: فَأَعْطَيْتُهُ الحَصَاةَ، فَطَبَعَ لِي فِيهَا كَمَا طَبَعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(716) في الكافي: (عن أحمد بن محمّد بن يحيى المعروف بكرد، عن محمّد بن خداهي، عن عبد الله بن أيُّوب، عن عبد الله بن هاشم، عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي).

(٢٩١)

قَالَتْ: ثُمَّ أَتَيْتُ الحُسَيْنَ (عليه السلام) وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقَرَّبَ وَرَحَّبَ بِي، ثُمَّ قَالَ لِي: «إِنَّ فِي الدَّلَالَةِ دَلِيلاً عَلَى مَا تُرِيدِينَ، أَفَتُرِيدِينَ دَلَالَةَ الإِمَامَةِ؟»، فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا سَيِّدِي، فَقَالَ: «هَاتِي مَا مَعَكِ»، فَنَاوَلْتُهُ الحَصَاةَ، فَطَبَعَ لِي فِيهَا.
قَالَتْ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ (عليهما السلام) وَقَدْ بَلَغَ بِيَ الكِبَرُ إِلَى أَنْ أَعْيَيْتُ(717)، وَأَنَا أَعُدُّ يَوْمَئِذٍ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَأَيْتُهُ رَاكِعاً وَسَاجِداً مَشْغُولاً بِالعِبَادَةِ، فَيَئِسْتُ مِنَ الدَّلَالَةِ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِالسَّبَّابَةِ، فَعَادَ إِلَيَّ شَبَابِي، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، كَمْ مَضَى مِنَ الدُّنْيَا؟ وَكَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: «أَمَّا مَا مَضَى فَنَعَمْ، وَأَمَّا مَا بَقِيَ فَلَا»، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ لِي: «هَاتِي مَا مَعَكِ»، فَأَعْطَيْتُهُ الحَصَاةَ، فَطَبَعَ لِي فِيهَا.
ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَطَبَعَ لِي فِيهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فَطَبَعَ لِي فِيهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا الحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) فَطَبَعَ لِي فِيهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ الرِّضَا (عليه السلام) فَطَبَعَ لِي فِيهَا.
ثُمَّ عَاشَتْ حَبَابَةُ الوَالِبِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ هِشَامٍ(718)،(719).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(717) في الكافي: (إلى أنْ أرعشت).
(718) رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 346 و347/ باب ما يفصل بين دعوى المحقِّ والمبطل في أمر الإمامة/ ح 3)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 1/ ص 408 و409).
(719) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 25/ ص 177 و178): (بيان: الجرِّي والمارماهي والزمير: أنواع من السمك لا فلوس لها. والطافي الذي مات في الماء وطفا فوقه. ورحبة المكان بالفتح والتحريك: ساحته ومتَّسعه. قولها: ورحَّب، أي قال لها: مرحباً، أو وسَّع لها المكان لتجلس. والرحب: السعة، وقولهم: مرحباً، أي لقيت رحباً وسعةً. قوله (عليه السلام): «إنَّ في الدلالة»، لعلَّ المعنى أنَّ ما رأيتِ من الدلالة من أبي وأخي تكفي لعلمكِ بإمامتي لنصِّهم عليَّ، أو أنَّ فيما جعله الله دليلاً على إمامتي من المعجزات والبراهين ما يوجب علمكِ بإمامتي، أو أنَّ في دلالتي إيَّاكِ على ما في ضميركِ دلالة على الإمامة حيث أقول: إنَّكِ تريدين دلالة الإمامة، ويمكن أنْ يُقرَأ: (فيَّ) بالتشديد ليكون خبر إنَّ، والدلالة اسمها، ودليلاً بدله، وعلى ما تريدين صفته، كقوله تعالى: ﴿بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ﴾ [العلق: 15 و16]. قوله (عليه السلام): «أمَّا ما مضى فنعم»، أي لنا علم به، وأمَّا ما بقي فليس لنا به علم، أو أمَّا ما مضى فنُبيِّنه، فعلى الثاني فسَّره (عليه السلام) لها ولم تنقل، وعلى الأوَّل يحتمل البيان وعدمه للمصلحة. أقول: على ما في الخبر لا بدَّ أنْ يكون عمرها مأتين وخمسة وثلاثين سنة، أو أكثر على ما تقتضيه تواريخ وفاة الأئمَّة (عليهم السلام) ومدَّة أعمارهم إنْ كان مجيئها إلى عليِّ ابن الحسين في أوائل إمامته كما هو الظاهر، ولو فرضنا كونه في آخر عمره (عليه السلام) ومجيئها إلى الرضا (عليه السلام) في أوَّل إمامته فلا بدَّ أنْ يكون عمرها أزيد من مائتي سنة، والله يعلم).

(٢٩٢)

[485/2] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الكُلَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهم السلام) أَنَّ حَبَابَةَ الوَالِبِيَّةَ دَعَا لَهَا عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهَا شَبَابَهَا، فَأَشَارَ إِلَيْهَا بِإِصْبَعِهِ فَحَاضَتْ لِوَقْتِهَا، وَلَهَا يَوْمَئِذٍ مِائَةُ سَنَةٍ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً(720).
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): فإذا جاز أنْ يردَّ الله على حبابة الوالبيَّة شبابها وقد بلغت مائة سنة وثلاث عشرة سنة وتبقى حتَّى تلقى الرضا (عليه السلام) وبعده تسعة أشهر بدعاء عليِّ بن الحسين (عليهما السلام)، فكيف لا يجوز أنْ يكون نفس الإمام المنتظر (عليه السلام) أنْ يدفع الله (عزَّ وجلَّ) عنه الهرم ويحفظ عليه شبابه ويبقيه حتَّى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً؟ مع الأخبار الصحيحة بذلك عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام).
ومخالفونا رووا أنَّ أبا الدنيا المعروف بمعمَّر المغربي واسمه عليُّ بن عثمان ابن خطَّاب بن مرَّة بن مؤيَّد لما قُبِضَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان له قريباً من ثلاثمائة سنة، وأنَّه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(720) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 1/ ص 409 و410)، وابن شهرآشوب (رحمه الله) في مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 278).

(٢٩٣)

خدم بعده أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأنَّ الملوك أشخصوه إليهم وسألوه عن علَّة طول عمره واستخبروه عمَّا شاهد، فأخبر أنَّه شرب من ماء الحيوان، فلذلك طال عمره، وأنَّه بقي إلى أيَّام المقتدر، وأنَّه لم يصحّ لهم موته إلى وقتنا هذا، ولا يُنكِرون أمره، فكيف يُنكِرون أمر القائم (عليه السلام) لطول عمره؟

* * *

(٢٩٤)

[486/1] حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ بْنِ نَصْرٍ السِّجْزِيُّ(721)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الفَتْحِ الرَّقِّيُّ(722) وَأَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ الأَشْكِيُّ(723) خَتَنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَا: لَقِينَا بِمَكَّةَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ المَغْرِبِ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيثِ مِمَّنْ كَانَ حَضَرَ المَوْسِمَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَهِيَ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَرَأَيْنَا رَجُلاً أَسْوَدَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ كَأَنَّهُ شَنٌّ بَالٍ(724)، وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ هُمْ أَوْلَادُهُ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِ وَمَشَائِخُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ المَغْرِبِ بِقُرْبِ باهرت العُلْيَا، وَشَهِدُوا هَؤُلَاءِ المَشَائِخُ أَنَّا سَمِعْنَا آبَاءَنَا حَكَوْا عَنْ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ أَنَّا عَهِدْنَا(725) هَذَا الشَّيْخَ المَعْرُوفَ بِأَبِي الدُّنْيَا مُعَمَّرٍ، واسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَطَّابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ مُؤَيَّدٍ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ هَمْدَانِيٌّ، وَأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ صَنْعَاءَ اليَمَنِ(726)، فَقُلْنَا لَهُ: أَنْتَ رَأَيْتَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)؟ فَقَالَ بِيَدِهِ(727) فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَدْ كَانَ وَقَعَ حَاجِبَاهُ عَلَيْهِمَا، فَفَتَحَهُمَا كَأَنَّهُمَا سِرَاجَانِ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ بِعَيْنَيَّ هَاتَيْنِ، وَكُنْتُ خَادِماً لَهُ، وَكُنْتُ مَعَهُ فِي وَقْعَةِ صِفِّينَ، وَهَذِهِ الشَّجَّةُ مِنْ دَابَّةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(721) في بعض النُّسَخ: (الشجري).
(722) مجهول لا يُعرَف. وفي بعض النُّسَخ: (البرقي)، وفي بعضها: (المزني)، وفي بعضها: (المركي)، وفي بعضها: (المركني). وجعل في جميع هذه النُّسَخ: (القاسم) بدل (الفتح).
(723) في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسين بن حثكا اللائكي)، واحتُمِلَ كونه عليّ بن الحسن اللَّاني المعنون في تقريب التهذيب (ج 1/ ص 691/ الرقم 4724).
(724) أي القربة الخلقة الصغيرة.
(725) في بعض النُّسَخ: (أنَّهم سمعوا آباءهم وأجدادهم أنَّهم عهدوا).
(726) في بعض النُّسَخ: (صعيد اليمن).
(727) أي أشار. وفي معنى القول توسُّع.

(٢٩٧)

عَلِيٍّ (عليه السلام)، وَأَرَانَا أَثَرَهَا عَلَى حَاجِبِهِ الأَيْمَنِ، وَشَهِدَ الجَمَاعَةُ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ مِنَ المَشَائِخِ وَمِنْ حَفَدَتِهِ وَأَسْبَاطِهِ بِطُولِ العُمُرِ، وَأَنَّهُمْ مُنْذُ وُلِدُوا عَهِدُوهُ عَلَى هَذِهِ الحَالَةِ، وَكَذَا سَمِعْنَا مِنْ آبَائِنَا وَأَجْدَادِنَا.
ثُمَّ إِنَّا فَاتَحْنَاهُ وَسَاءَلْنَاهُ عَنْ قِصَّتِهِ وَحَالِهِ وسَبَبِ طُولِ عُمُرِهِ، فَوَجَدْنَاهُ ثَابِتَ العَقْلِ، يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ وَيُجِيبُ عَنْهُ بِلُبٍّ وَعَقْلٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَالِدٌ قَدْ نَظَرَ فِي كُتُبِ الأَوَائِلِ وَقَرَأَهَا، وَقَدْ كَانَ وَجَدَ فِيهَا ذِكْرَ نَهَرِ الحَيَوَانِ، وَأَنَّهَا تَجْرِي فِي الظُّلُمَاتِ، وَأَنَّهُ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا طَالَ عُمُرُهُ، فَحَمَلَهُ الحِرْصُ عَلَى دُخُولِ الظُّلُمَاتِ، فَتَحَمَّلَ وَتَزَوَّدَ حَسَبَ مَا قَدَّرَ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ فِي مَسِيرِهِ، وَأَخْرَجَنِي مَعَهُ، وَأَخْرَجَ مَعَنَا خَادِمَيْنِ بَاذِلَيْنِ وَعِدَّةَ جِمَالٍ لَبُونٍ [عَلَيْهَا] رَوَايَا وَزَادٌ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثَة عَشْرَ سَنَةً، فَسَارَ بِنَا إِلَى أَنْ وَافَيْنَا طَرَفَ الظُّلُمَاتِ، ثُمَّ دَخَلْنَا الظُّلُمَاتِ، فَسِرْنَا فِيهَا نَحْوَ سِتَّةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَكُنَّا نُمَيِّزُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِأَنَّ النَّهَارَ كَانَ يَكُونُ أَضْوَأَ قَلِيلاً وَأَقَلَّ ظُلْمَةً مِنَ اللَّيْلِ، فَنَزَلْنَا بَيْنَ جِبَالٍ وَأَوْدِيَةٍ وَدَكَوَاتٍ(728)، وَقَدْ كَانَ وَالِدِي (رضي الله عنه) يَطُوفُ فِي تِلْكَ البُقْعَةِ فِي طَلَبِ النَّهَرِ، لِأَنَّهُ وَجَدَ فِي الكُتُبِ الَّتِي قَرَأَهَا أَنَّ مَجْرَى نَهَرِ الحَيَوَانِ فِي ذَلِكَ المَوْضِعِ، فَأَقَمْنَا فِي تِلْكَ البُقْعَةِ أَيَّاماً حَتَّى فَنَى المَاءُ الَّذِي كَانَ مَعَنَا وَاسْتَقَيْنَاهُ جِمَالَنَا، وَلَوْلَا أَنَّ جِمَالَنَا كَانَتْ لَبُوناً لَهَلَكْنَا وَتَلِفْنَا عَطَشاً، وَكَانَ وَالِدِي يَطُوفُ فِي تِلْكَ البُقْعَةِ فِي طَلَبِ النَّهَرِ، وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُوقِدَ نَاراً لِيَهْتَدِى بِضَوْئِهَا إِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَيْنَا، فَمَكَثْنَا فِي تِلْكَ البُقْعَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ وَوَالِدِي يَطْلُبُ النَّهَرَ فَلَا يَجِدُهُ، وَبَعْدَ الإِيَاسِ عَزَمَ عَلَى الاِنْصِرَافِ حَذَراً عَلَى التَّلَفِ لِفَنَاءِ الزَّادِ وَالمَاءِ، وَالخَدَمِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَنَا ضَجَرُوا فَأَوْجَسُوا التَّلَفَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ(729)، وَأَلَحُّوا عَلَى وَالِدِي بِالخُرُوجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ، فَقُمْتُ يَوْماً مِنَ الرَّحْلِ لِحَاجَتِي، فَتَبَاعَدْتُ مِنَ الرَّحْلِ قَدْرَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(728) الدكُّ: ما استوى من الرمل كدكَّة والمستوي من المكان، والتلُّ والجبل.
(729) في بعض النُّسَخ: (في أنفسهم)، وفي بعضها: (وخشوا على أنفسهم).

(٢٩٨)

رَمْيَةِ سَهْمٍ، فَعَثَرْتُ بِنَهَرِ مَاءٍ أَبْيَضِ اللَّوْنِ، عَذْبٍ لَذِيذٍ، لَا بِالصَّغِيرِ مِنَ الأَنْهَارِ وَلَا بِالكَبِيرِ، وَيَجْرِي جَرَيَاناً لَيِّناً، فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَغَرَفْتُ مِنْهُ بِيَدِي غُرْفَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَوَجَدْتُهُ عَذْباً بَارِداً لَذِيذاً، فَبَادَرْتُ مُسْرِعاً إِلَى الرَّحْلِ وَبَشَّرْتُ الخَدَمَ بِأَنِّي قَدْ وَجَدْتُ المَاءَ، فَحَمَلُوا مَا كَانَ مَعَنَا مِنَ القِرَبِ وَالأَدَوَاتِ لِنَمْلَأَهَا، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ وَالِدِي فِي طَلَبِ ذَلِكَ النَّهَرِ، وَكَانَ سُرُورِي بِوُجُودِ المَاءِ لِـمَا كُنَّا عَدِمْنَا المَاءَ وَفَنَى مَا كَانَ مَعَنَا، وَكَانَ وَالِدِي فِي ذَلِكَ الوَقْتِ غَائِباً عَنِ الرَّحْلِ مَشْغُولاً بِالطَّلَبِ، فَجَهَدْنَا وطُفْنَا سَاعَةً هَوِيَّةً(730) عَلَى أَنْ نَجِدَ النَّهَرَ فَلَمْ نَهْتَدِ إِلَيْهِ حَتَّى إِنَّ الخَدَمَ كَذَّبُونِي، وَقَالُوا لِي: لَمْ تَصْدُقْ، فَلَمَّا انْصَرَفْتُ إِلَى الرَّحْلِ وَانْصَرَفَ وَالِدِي أَخْبَرْتُهُ بِالقِصَّةِ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، الَّذِي أَخْرَجَنِي إِلَى هَذَا المَكَانِ وَتَحَمُّلِ الخَطَرِ كَانَ لِذَلِكَ النَّهَرِ، وَلَمْ أُرْزَقْ أَنَا وَأَنْتَ رُزِقْتَهُ، وَسَوْفَ يَطُولُ عُمُرُكَ حَتَّى تَمَلَّ الحَيَاةَ، وَرَحَلْنَا مُنْصَرِفِينَ وَعُدْنَا إِلَى أَوْطَانِنَا وَبَلَدِنَا، وَعَاشَ وَالِدِي بَعْدَ ذَلِكَ سُنَيَّاتٍ ثُمَّ تُوُفِّيَ (رضي الله عنه).
فَلَمَّا بَلَغَ سِنِّي قَرِيباً مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَانَ [قَدِ] اتَّصَلَ بِنَا وَفَاةُ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووَفَاةُ الخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ خَرَجْتُ حَاجًّا، فَلَحِقْتُ آخِرَ أَيَّامِ عُثْمَانَ، فَمَالَ قَلْبِي مِنْ بَيْنِ جَمَاعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَأَقَمْتُ مَعَهُ أَخْدُمُهُ، وَشَهِدْتُ مَعَهُ وَقَائِعَ، وَفِي وَقْعَةِ صِفِّينَ أَصَابَتْنِي هَذِهِ الشَّجَّةُ مِنْ دَابَّتِهِ، فَمَا زِلْتُ مُقِيماً مَعَهُ إِلَى أَنْ مَضَى لِسَبِيلِهِ (عليه السلام)، فَأَلَحَّ عَلَيَّ أَوْلَادُهُ وَحَرَمُهُ أَنْ أُقِيمَ عِنْدَهُمْ فَلَمْ أُقِمْ وَانْصَرَفْتُ إِلَى بَلَدِي.
وَخَرَجْتُ أَيَّامَ بَنِي مَرْوَانَ حَاجًّا وَانْصَرَفْتُ مَعَ أَهْلِ بَلَدِي إِلَى هَذِهِ الغَايَةِ مَا خَرَجْتُ فِي سَفَرٍ إِلَّا مَا كَانَ [إِلَى] المُلُوكِ فِي بِلَادِ المَغْرِبِ يَبْلُغُهُمْ خَبَرِي وَطُولُ عُمُرِي فَيَشْخَصُونِي إِلَى حَضْرَتِهِمْ لِيَرَوْنِي وَيَسْأَلُونِي عَنْ سَبَبِ طُولِ عُمُرِي وَعَمَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(730) أي زماناً طويلاً.

(٢٩٩)

شَاهَدْتُ، وَكُنْتُ أَتَمَنَّى وأَشْتَهِي أَنْ أَحُجَّ حِجَّةً أُخْرَى، فَحَمَلَنِي هَؤُلَاءِ حَفَدَتِي وَأَسْبَاطِيَ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ حَوْلِي.
وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَسَالنَاهُ أَنْ يُحَدِّثَنَا بِمَا سَمِعَهُ مِنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِرْصٌ وَلَا هِمَّةٌ فِي العِلْمِ فِي وَقْتِ صُحْبَتِهِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، والصَّحَابَةُ أَيْضاً كَانُوا مُتَوَافِرِينَ، فَمِنْ فَرْطِ مَيْلي إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وَمَحَبَّتِي لَهُ لَمْ أَشْتَغِلْ بِشَيْءٍ سِوَى خِدْمَتِهِ وَصُحْبَتِهِ، وَالَّذِي كُنْتُ أَتَذَكَّرُهُ مِمَّا كُنْتُ سَمِعْتُهُ مِنْهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنِّي عَالَمٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِبِلَادِ المَغْرِبِ وَمِصْرَ وَالحِجَازِ، وَقَدِ انْقَرَضُوا وَتَفَانَوْا، وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَحَفَدَتِي قَدْ دَوَّنُوهُ، فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا النُّسْخَةَ، فَأَخَذَ يُمْلِي عَلَيْنَا مِنْ حِفْظِهِ(731):
[487/2] حَدَّثَنَا(732) أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَطَّابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ مُؤَيَّدٍ الهَمْدَانِيُّ المَعْرُوفُ بِأَبِي الدُّنْيَا مُعَمَّرٍ المَغْرِبِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَيًّا وَمَيِّتاً، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ أَحَبَّ أَهْلَ اليَمَنِ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَ أَهْلَ اليَمَنِ فَقَدْ أَبْغَضَنِي»(733).
[488/3] وَحَدَّثَنَا أَبُو الدُّنْيَا مُعَمَّرٌ المَغْرِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ أَعَانَ مَلْهُوفاً كَتَبَ اللهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ»، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ المُؤْمِنِ(734) - للهِ (عزَّ وجلَّ) فِيهَا رِضَاءٌ وَلَهُ فِيهَا صَلَاحٌ -، فَكَأَنَّمَا خَدَمَ اللهَ (عزَّ وجلَّ) ألفَ سَنَةٍ لَمْ يَقَعْ فِي مَعْصِيَتِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(731) في بعض النُّسَخ: (من خطِّه).
(732) معلَّق على السند الأوَّل، وكذا ما يأتي.
(733) رواه الكراجكي (رحمه الله) في كنز الفوائد (ص 266) بسند آخر، والحلبي في سيرته (ج 1/ ص 259) عن الطبراني.
(734) في بعض النُّسَخ: (أخيه المسلم).

(٣٠٠)

[489/4] وَحَدَّثَنَا أَبُو الدُّنْيَا مُعَمَّرٌ المَغْرِبِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «أَصَابَ النَّبِيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جُوعٌ شَدِيدٌ وَهُوَ فِي مَنْزِلِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)»، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يَا عَلِيُّ، هَاتِ المَائِدَةَ، فَقَدَّمْتُ المَائِدَةَ، وَعَلَيْهَا خُبْزٌ وَلَحْمٌ مَشْوِيٌّ».
[490/5] وَحَدَّثَنَا أَبُو الدُّنْيَا مُعَمَّرٌ المَغْرِبِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «جُرِحْتُ فِي وَقْعَةِ خَيْبَرَ خَمْساً وَعِشْرِينَ جِرَاحَةً، فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَلَمَّا رَأَى مَا بِي مِنَ الجِرَاحَةِ بَكَى، وَأَخَذَ مِنْ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ، فَجَعَلَهَا عَلَى الجِرَاحَاتِ، فَاسْتَرَحْتُ مِنْ سَاعَتِي».
[491/6] وَحَدَّثَنَا أَبُو الدُّنْيَا مُعَمَّرٌ المَغْرِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ قَرَأَ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ مَرَّةً فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَهَا مَرَّتَيْنِ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَيِ القُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ القُرْآنَ كُلَّهُ»(735).
[492/7] وَحَدَّثَنَا أَبُو الدُّنْيَا مُعَمَّرٌ المَغْرِبِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كُنْتُ أَرْعَى الغَنَمَ، فَإِذَا أَنَا بِذِئْبٍ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَصْنَعُ هَاهُنَا؟ فَقَالَ لِي: وَأَنْتَ مَا تَصْنَعُ هَاهُنَا؟ قُلْتُ: أَرْعَى الغَنَمَ، قَالَ لِي: مُرَّ - أَوْ قَالَ: ذَا الطَّرِيقِ -، قَالَ: فَسُقْتُ الغَنَمَ فَلَمَّا تَوَسَّطَ الذِّئْبُ الغَنَمَ إِذَا أَنَا بِالذِّئْبِ قَدْ شَدَّ عَلَى شَاةٍ فَقَتَلَهَا، قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِقَفَاهُ فَذَبَحْتُهُ وَجَعَلْتُهُ عَلَى يَدِي، وَجَعَلْتُ أَسُوقُ الغَنَمَ، فَمَا سِرْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ إِذَا أَنَا بِثَلَاثَةِ أَمْلَاكٍ: جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَمَلَكِ المَوْتِ (عليهم السلام)، فَلَمَّا رَأَوْنِي قَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ بَارَكَ اللهُ فِيهِ، فَاحْتَمَلُونِي وَأَضْجَعُونِي وَشَقُّوا جَوْفِي بِسِكِّينٍ كَانَ مَعَهُمْ، وَأَخْرَجُوا قَلْبِي مِنْ مَوْضِعِهِ، وَغَسَلُوا جَوْفِي بِمَاءٍ بَارِدٍ كَانَ مَعَهُمْ فِي قَارُورَةٍ حَتَّى نَقِيَ مِنَ الدَّمِ، ثُمَّ رَدُّوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(735) راجع ما رواه البرقي (رحمه الله) في المحاسن (ج 1/ ص 153/ ح 77).

(٣٠١)

قَلْبِي إِلَى مَوْضِعِهِ، وَأَمَرُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى جَوْفِي فَالتَحَمَ الشَّقُّ بِإِذْنِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، فَمَا أَحْسَسْتُ بِسِكِّينٍ وَلَا وَجَعٍ، قَالَ: وَخَرَجْتُ أَعْدُو إِلَى أُمِّي - يَعْنِي حَلِيمَةَ دَايَةِ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) -، فَقَالَتْ لِي: أَيْنَ الغَنَمُ؟ فَخَبَّرْتُهَا بِالخَبَرِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ يَكُونُ لَكَ فِي الجَنَّةِ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ».
[493/8] وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ، قَالَ: ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الفَتْحِ الرَّقِّيُّ(736) وَأَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ الأَشْكِيُ أَنَّ السُّلْطَانَ بِمَكَّةَ لَـمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ أَبِي الدُّنْيَا تَعَرَّضَ لَهُ وَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ أُخْرِجَكَ مَعِي إِلَى بَغْدَادَ إِلَى حَضْرَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُقْتَدِرِ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَعْتِبَ عَلَيَّ إِنْ لَمْ أُخْرِجْكَ، فَسَأَلَهُ الحَاجُّ مِنْ أَهْلِ المَغْرِبِ وَأَهْلِ المِصْرِ وَالشَّامِ أَنْ يُعْفِيَهُ وَلَا يَشْخَصَهُ، فَإِنَّهُ شَيْخٌ ضَعِيفٌ وَلَا يُؤْمَنُ مَا يَحْدُثُ عَلَيْهِ، فَأَعْفَاهُ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَلَوْ أَنِّي حَضَرْتُ المَوْسِمَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَشَاهَدْتُهُ، وَخَبَرُهُ كَانَ مُسْتَفِيضاً شَائِعاً فِي الأَمْصَارِ، وَكَتَبَ عَنْهُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ المِصْرِيُّونَ وَالشَّامِيُّونَ وَالبَغْدَادِيُّونَ وَمِنْ سَائِرِ الأَمْصَارِ مِمَّنْ حَضَرَ المَوْسِمَ وَبَلَغَهُ خَبَرُ هَذَا الشَّيْخِ وَأَحَبَّ أَنْ يَلْقَاهُ وَيَكْتُبَ عَنْهُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ، نَفَعَنَا اللهُ وَإِيَّاهُمْ بِهَا(737).
[494/9] وَأَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الحَسَنِ بْنِ جَعْفَرِ ابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام) فِيمَا أَجَازَهُ لِي مِمَّا صَحَّ عِنْدِي مِنْ حَدِيثِهِ(738) وَصَحَّ عِنْدِي هَذَا الحَدِيثُ بِرِوَايَةِ الشَّرِيفِ أَبِي عَبْدِ اللهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(736) تقدَّم الكلام فيه وفي قرينه في (ص 297)، فراجع.
(737) في بعض النُّسَخ: (ويكتب عنه نفعهم الله وإيَّانا به).
(738) ذلك لأنَّ أبا محمّد الحسن بن محمّد بن يحيى العلوي روى عن المجاهيل أحاديث منكرة، وقال العلَّامة (رحمه الله) في خلاصة الأقوال (ص 336/ الرقم 14) عن النجاشي (رحمه الله) في رجاله (ص 64/ الرقم 149): (رأيت أصحابنا يُضعِّفونه). وقال ابن الغضائري (رحمه الله) في رجاله (ص 54/ الرقم 41/14): (كان كذَّاباً يضع الحديث مجاهرةً، ويدَّعي رجالاً غرباء لا يُعرَفون). تُوفِّي (358هـ). (جامع الرواة: ج 1/ ص 226).

(٣٠٢)

مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الحُسَيْنِ(739) بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام) أَنَّهُ قَالَ: حَجَجْتُ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَفِيهَا حَجَّ نَصْرٌ القَشُورِيُّ صَاحِبُ المُقْتَدِرِ بِاللهِ(740)، ومَعَهُ عَبْدُ اللهِ ابْنُ حَمْدَانَ المُكَنَّى بِأَبِي الهَيْجَاءِ، فَدَخَلْتُ مَدِينَةَ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فِي ذِي القَعْدَةِ، فَأَصَبْتُ قَافِلَةَ المِصْرِيِّينَ وَفِيهَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ المَاذَرَائِيِ، وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ المَغْرِبِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى [رَجُلاً مِنْ] أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَازْدَحَمُوا وَجَعَلُوا يَتَمَسَّحُونَ بِهِ وَكَادُوا يَأْتُونَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَمَرَ عَمِّي أَبُو القَاسِمِ طَاهِرُ بْنُ يَحْيَى (رضي الله عنه) فِتْيَانَهُ وَغِلْمَانَهُ، فَقَالَ: أَفْرِجُوا عَنْهُ النَّاسَ، فَفَعَلُوا وَأَخَذُوهُ فَأَدْخَلُوهُ إِلَى دَارِ ابْنِ أَبِي سَهْلٍ الطَّفِّيِّ، وَكَانَ عَمِّي نَازِلَهَا، فَأُدْخِلَ وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فَدَخَلُوا، وَكَانَ مَعَهُ خَمْسَةُ نَفَرٍ، [وَ]ذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ فِيهِمْ شَيْخٌ لَهُ نَيِّفٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، فَسَألنَاهُ عَنْهُ، فَقَالَ: هَذَا ابْنُ ابْنِي، وَآخَرُ لَهُ سَبْعُونَ سَنَةً، فَقَالَ: هَذَا ابْنُ ابْنِي، وَاثْنَانِ لَهُمَا سِتُّونَ سَنَةً أَوْ خَمْسُونَ سَنَةً أَوْ نَحْوُهَا وَآخَرُ لَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقَالَ: هَذَا ابْنُ ابْنِ ابْنِي، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِيهِمْ أَصْغَرُ مِنْهُ، وَكَانَ إِذَا رَأَيْتُهُ قُلْتُ: هَذَا ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَسْوَدُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، شَابٌّ نَحِيفُ الجِسْمِ آدَمُ، رَبْعٌ مِنَ الرِّجَالِ، خَفِيفُ العَارِضَيْنِ، [هُوَ] إِلَى القَصْرِ أَقْرَبُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ العَلَوِيُّ: فَحَدَّثَنَا هَذَا الرَّجُلُ - وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الخَطَّابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ مُؤَيَّدٍ - بِجَمِيعِ مَا كَتَبْنَاهُ عَنْهُ وَسَمِعْنَا مِنْ لَفْظِهِ، وَمَا رَأَيْنَاهُ مِنْ بَيَاضِ عَنْفَقَتِهِ(741) بَعْدَ اسْوِدَادِهَا وَرُجُوعِ سَوَادِهَا بَعْدَ بَيَاضِهَا عِنْدَ شِبَعِهِ مِنَ الطَّعَامِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(739) في بعض النُّسَخ: (الحسن).
(740) في بعض النُّسَخ: (حاجب المقتدر بالله).
(741) العنفقة: الشعر الذي في الشفة السفلى، وقيل: الشعر الذي بينها وبين الذقن. (النهاية: ج 3/ ص 309).

(٣٠٣)

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ العَلَوِيُّ (رضي الله عنه): وَلَوْلَا أَنَّهُ حَدَّثَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مِنَ الأَشْرَافِ وَالحَاجِّ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ السَّلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الآفَاقِ، مَا حَدَّثْتُ عَنْهُ بِمَا سَمِعْتُ، وَسَمَاعِي مِنْهُ بِالمَدِينَةِ وَبِمَكَّةَ فِي دَارِ السَّهْمِيِّينَ فِي الدَّارِ المَعْرُوفَةِ بِالمُكَبَّرِيَّةِ، وَهِيَ دَارُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ الجَرَّاحِ، وَسَمِعْتُ مِنْهُ فِي مِضْرَبِ القَشُورِيِّ وَمِضْرَبِ المَاذَرَائِيِّ عِنْدَ بَابِ الصَّفَا، وَأَرَادَ القَشُورِيُّ أَنْ يَحْمِلَهُ وَوُلْدَهُ إِلَى مَدِينَةِ السَّلَامِ إِلَى المُقْتَدِرِ، فَجَاءَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَالُوا: أَيَّدَ اللهُ الأُسْتَاذَ، إِنَّا رُوِّينَا فِي الأَخْبَارِ المَأْثُورَةِ عَنِ السَّلَفِ أَنَّ المُعَمَّرَ المَغْرِبِيَّ إِذْ دَخَلَ مَدِينَةَ السَّلَامِ فَنِيَتْ وَخَرِبَتْ وَزَالَ المُلْكُ، فَلَا تَحْمِلْهُ وَرُدَّهُ إِلَى المَغْرِبِ. فَسَألنَا مَشَايِخَ أَهْلِ المَغْرِبِ وَمِصْرَ، فَقَالُوا: لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ بِهِ مِنْ آبَائِنَا وَمَشَايِخِنَا يَذْكُرُونَ اسْمَ هَذَا الرَّجُلِ، وَاسْمَ البَلْدَةِ الَّتِي هُوَ مُقِيمٌ فِيهَا طَنْجَةَ(742)، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ كَانَ يُحَدِّثُهُمْ بِأَحَادِيثَ قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِي كِتَابِنَا هَذَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ العَلَوِيُّ (رضي الله عنه): فَحَدَّثَنَا هَذَا الشَّيْخُ - أَعْنِي عَلِيَّ بْنَ عُثْمَانَ المَغْرِبِيَّ - بِبَدْءِ خُرُوجِهِ مِنْ بَلْدَةِ حَضْرَمَوْتَ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ خَرَجَ هُوَ وَعَمُّهُ مُحَمَّدٌ، وَخَرَجَا بِهِ مَعَهُمَا يُرِيدُونَ الحَجَّ وَزِيَارَةَ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَخَرَجُوا مِنْ بِلَادِهِمْ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَسَارُوا أَيَّاماً، ثُمَّ أَخْطَئُوا الطَّرِيقَ وَتَاهُوا فِي المَحَجَّةِ، فَأَقَامُوا تَائِهِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ لَيَالٍ عَلَى غَيْرِ مَحَجَّةٍ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذَا وَقَعُوا عَلَى جِبَالِ رَمْلٍ يُقَالُ لَهَا: رَمْلُ عَالِجٍ، مُتَّصِلٍ بِرَمْلِ إِرَمَ ذاتِ العِمادِ.
قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى أَثَرِ قَدَمٍ طَوِيلٍ، فَجَعَلْنَا نَسِيرُ عَلَى أَثَرِهَا، فَأَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ، وَإِذَا بِرَجُلَيْنِ قَاعِدَيْنِ عَلَى بِئْرٍ أَوْ عَلَى عَيْنٍ، قَالَ: فَلَمَّا نَظَرَا إِلَيْنَا قَامَ أَحَدُهُمَا فَأَخَذَ دَلْواً فَأَدْلَاهُ فَاسْتَقَى فِيهِ مِنْ تِلْكَ العَيْنِ أَوِ البِئْرِ، وَاسْتَقْبَلَنَا وَجَاءَ إِلَى أَبِي فَنَاوَلَهُ الدَّلْوَ، فَقَالَ أَبِي: قَدْ أَمْسَيْنَا نُنِيخُ(743) عَلَى هَذَا المَاءِ وَنُفْطِرُ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَصَارَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(742) بلدة بشاطئ بحر المغرب. (القاموس المحيط: ج 1/ ص 198).
(743) أناخ الجمل: أبركه.

(٣٠٤)

إِلَى عَمِّي وَقَالَ لَهُ: اشْرَبْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ كَمَا رَدَّ عَلَيْهِ أَبِي، فَنَاوَلَنِي وَقَالَ لِي اشْرَبْ: فَشَرِبْتُ، فَقَالَ لِي: هَنِيئاً لَكَ إِنَّكَ سَتَلْقَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَأَخْبِرْهُ أَيُّهَا الغُلَامُ بِخَبَرِنَا وَقُلْ لَهُ: الخَضِرُ وَاليَاسُ يُقْرِئَانِكَ السَّلَامَ، وَسَتُعَمَّرُ حَتَّى تَلْقَى المَهْدِيَّ وَعِيسَى بْنَ مَرْيَمَ (عليهما السلام)، فَإِذَا لَقِيتَهُمَا فَأَقْرِئْهُمَا مِنَّا السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَا: مَا يَكُونَانِ هَذَانِ مِنْكَ؟ فَقُلْتُ: أَبِي وَعَمِّي، فَقَالَا: أَمَّا عَمُّكَ فَلَا يَبْلُغُ مَكَّةَ، وَأَمَّا أَنْتَ وَأَبُوكَ فَسَتَبْلُغَانِ وَيَمُوتُ أَبُوكَ وَتُعَمَّرُ أَنْتَ، وَلَسْتُمْ تَلْحَقُونَ النَّبِيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لِأَنَّهُ قَدْ قَرُبَ أَجَلُهُ.
ثُمَّ مَرَّا فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أَيْنَ مَرَّا فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الأَرْضِ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا لَا بِئْرٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا مَاءٌ، فَسِرْنَا مُتَعَجِّبِينَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ رَجَعْنَا إِلَى نَجْرَانَ، فَاعْتَلَّ عَمِّي وَمَاتَ بِهَا، وَأَتْمَمْتُ أَنَا وَأَبِي حَجَّنَا وَوَصَلْنَا إِلَى المَدِينَةِ، فَاعْتَلَّ أَبِي وَمَاتَ، وَأَوْصَى بِي إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَأَخَذَنِي وَكُنْتُ مَعَهُ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَيَّامَ خِلَافَتِهِ حَتَّى قَتَلَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ (لَعَنَهُ اللهُ).
وَذَكَرَ أَنَّهُ لَـمَّا حُوصِرَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي دَارِهِ دَعَانِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَاباً وَنَجِيباً وَأَمَرَنِي بِالخُرُوجِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وَكَانَ غَائِباً بِيَنْبُعَ فِي ضِيَاعِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَأَخَذْتُ الكِتَابَ وَسِرْتُ حَتَّى إِذْ كُنْتُ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: جِدَارُ أَبِي عَبَايَةَ فَسَمِعْتُ قُرْآناً فَإِذَا أَنَا بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) يَسِيرُ مُقْبِلاً مِنْ يَنْبُعَ وَهُوَ يَقُولُ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ قَالَ: «يَا أَبَا الدُّنْيَا، مَا وَرَاءَكَ؟»، قُلْتُ: هَذَا كِتَابُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، فَأَخَذَهُ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ:

فَإِنْ كُنْتُ مَأْكُولاً فَكُنْ أَنْتَ آكِلي(744) * * * وَإِلَّا فَأَدْرِكْنِي وَلَـمَّا أُمَزَّقْ

فَإِذَا قَرَأَهُ قَالَ: «بَرَّ سَرَّ(745)»، فَدَخَلَ إِلَى المَدِينَةِ سَاعَةَ قَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(744) رواه الفيروزآبادي في القاموس المحيط (ج 3/ ص 283/ مادَّة مزق)، وفيه: (خير آكل).
(745) رجل برَّ سرَّ: أي يبرُّ ويسرُّ. (الصحاح للجوهري: ج 2/ ص 683/ مادَّة سرر).

(٣٠٥)

فَمَالَ (عليه السلام) إِلَى حَدِيقَةِ بَنِي النَّجَّارِ، وَعَلِمَ النَّاسُ بِمَكَانِهِ، فَجَاؤُوا إِلَيْهِ رَكْضاً، وَقَدْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى أَنْ يُبَايِعُوا طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ ارْفَضُّوا إِلَيْهِ ارْفِضَاضَ الغَنَمِ يَشُدُّ عَلَيْهَا السَّبُعُ، فَبَايَعَهُ طَلْحَةُ، ثُمَّ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ بَايَعَ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، فَأَقَمْتُ مَعَهُ أَخْدُمُهُ، فَحَضَرْتُ مَعَهُ الجَمَلَ وَصِفِّينَ، فَكُنْتُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَاقِفاً عَنْ يَمِينِهِ إِذَا سَقَطَ سَوْطُهُ مِنْ يَدِهِ، فَأَكْبَبْتُ آخُذُهُ وَأَدْفَعُهُ إِلَيْهِ وَكَانَ لِجَامُ دَابَّتِهِ حَدِيداً مُزَجَّجاً(746) فَرَفَعَ الفَرَسُ رَأْسَهُ فَشَجَّنِي هَذِهِ الشَّجَّةَ الَّتِي فِي صُدْغِي، فَدَعَانِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَتَفَلَ فِيهَا وَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ(747) فَتَرَكَهُ عَلَيْهَا، فَوَاللهِ مَا وَجَدْتُ لَهَا أَلَماً وَلَا وَجَعاً.
ثُمَّ أَقَمْتُ مَعَهُ (عليه السلام)، وَصَحِبْتُ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) حَتَّى ضُرِبَ بِسَابَاطِ المَدَائِنِ، ثُمَّ بَقِيتُ مَعَهُ بِالمَدِينَةِ أَخْدُمُهُ وَأَخْدُمُ الحُسَيْنَ (عليه السلام) حَتَّى مَاتَ الحَسَنُ (عليه السلام) مَسْمُوماً، سَمَّتْهُ جَعْدَةُ بِنْتُ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الكِنْدِيِّ (لَعَنَهَا اللهُ) دَسًّا مِنْ مُعَاوِيَةَ.
ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) حَتَّى حَضَرْتُ كَرْبَلَاءَ، وَقُتِلَ (عليه السلام) وَخَرَجْتُ هَارِباً مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأَنَا مُقِيمٌ بِالمَغْرِبِ أَنْتَظِرُ خُرُوجَ المَهْدِيِّ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ (عليه السلام).
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ العَلَوِيُّ (رضي الله عنه): وَمِنْ عَجِيبِ مَا رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الشَّيْخِ عَلِيِّ بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ فِي دَارِ عَمِّي طَاهِرِ بْنِ يَحْيَى (رضي الله عنه) وَهُوَ يُحَدِّثُ بِهَذِهِ الأَعَاجِيبِ وَبَدْءِ خُرُوجِهِ، فَنَظَرْتُ عَنْفَقَتَهُ قَدِ احْمَرَّتْ ثُمَّ ابْيَضَّتْ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي لِحْيَتِهِ وَلَا فِي رَأْسِهِ وَلَا فِي عَنْفَقَتِهِ بَيَاضٌ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى نَظَرِي إِلَى لِحْيَتِهِ وَإِلَى عَنْفَقَتِهِ وَقَالَ: أَمَا تَرَوْنَ أَنَّ هَذَا يُصِيبُنِي إِذَا جُعْتُ وَإِذَا شَبِعْتُ رَجَعَتْ إِلَى سَوَادِهَا، فَدَعَا عَمِّي بِطَعَامٍ فَأُخْرِجَ مِنْ دَارِهِ ثَلَاثُ مَوَائِدَ فَوُضِعَتْ وَاحِدَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(746) المزجَّج: المرقَّع الممدود. وفي بعض النُّسَخ: (مدمَّجا) أي مستحكماً.
(747) الحفنة: هي ملء الكفِّ.

(٣٠٦)

وَكُنْتُ أَنَا أَحَدَ مَنْ جَلَسَ عَلَيْهَا فَجَلَسْتُ مَعَهُ وَوُضِعَتِ المَائِدَتَانِ فِي وَسَطِ الدَّارِ، وَقَالَ عَمِّي لِلْجَمَاعَةِ: بِحَقِّي عَلَيْكُمْ إِلَّا أَكَلْتُمْ وَتَحَرَّمْتُمْ بِطَعَامِنَا، فَأَكَلَ قَوْمٌ وَامْتَنَعَ قَوْمٌ، وَجَلَسَ عَمِّي عَنْ يَمِينِ الشَّيْخِ يَأْكُلُ وَيُلْقِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَكَلَ أَكْلَ شَابٍّ وَعَمِّي يَحْلِفُ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى عَنْفَقَتِهِ تَسْوَدُّ حَتَّى عَادَتْ إِلَى سَوَادِهَا وَشَبِعَ(748).
[495/10] فَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ أَحَبَّ أَهْلَ اليَمَنِ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَقَدْ أَبْغَضَنِي».

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(748) رواه الكراجكي (رحمه الله) في كنز الفوائد (ص 263 - 265).

(٣٠٧)

الباب الحادي والخمسون: حديث عبيد بن شرية(749) الجرهمي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(749) في بعض النُّسَخ: (عبيد بن شريد)، وهو تصحيف.

(٣٠٩)

[496/1] وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ السِّجْزِيُّ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابٍ لِأَخِي أَبِي الحَسَنِ بِخَطِّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ العِلْمِ وَمِمَّنْ قَرَأَ الكُتُبَ وَسَمِعَ الأَخْبَارَ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ شَرْيَةِ الجُرْهُمِيَّ - وَهُوَ مَعْرُوفٌ - عَاشَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَأَدْرَكَ النَّبِيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَعُمِّرَ بَعْدَ مَا قُبِضَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حَتَّى قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَيَّامِ تَغَلُّبِهِ وَمُلْكِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَخْبِرْنِي يَا عُبَيْدُ عَمَّا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ وَمَنْ أَدْرَكْتَ وَكَيْفَ رَأَيْتَ الدَّهْرَ؟
فَقَالَ: أَمَّا الدَّهْرُ فَرَأَيْتُ لَيْلاً يُشْبِهُ لَيْلاً، وَنَهَاراً يُشْبِهُ نَهَاراً، وَمَوْلُوداً يُولَدُ، وَمَيِّتاً يَمُوتُ، وَلَمْ أُدْرِكْ أَهْلَ زَمَانٍ إِلَّا وَهُمْ يَذُمُّونَ زَمَانَهُمْ، وَأَدْرَكْتُ مَنْ قَدْ عَاشَ الفَ سَنَةٍ، فَحَدَّثَنِي عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ قَدْ عَاشَ ألفَيْ سَنَةٍ(750).
وَأَمَّا مَا سَمِعْتُ فَإِنَّهُ حَدَّثَنِي مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرٍ أَنَّ بَعْضَ المُلُوكِ التَّبَابِعَةِ(751) مِمَّنْ قَدْ دَانَتْ لَهُ البِلَادُ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ذُو سَرْحٍ، كَانَ أُعْطِيَ المُلْكَ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، سَخِيًّا فِيهِمْ مُطَاعاً، فَمَلَكَهُمْ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ كَثِيراً يَخْرُجُ فِي خَاصَّتِهِ إِلَى الصَّيْدِ وَالنُّزْهَةِ، فَخَرَجَ يَوْماً فِي بَعْضِ مُتَنَزَّهِهِ، فَأَتَى عَلَى حَيَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا سَبِيكَةُ فِضَّةٍ، وَالأُخْرَى سَوْدَاءُ كَأَنَّهَا حُمَمَةٌ(752)، وَهُمَا تَقْتَتِلَانِ، وَقَدْ غَلَبَتِ السَّوْدَاءُ عَلَى البَيْضَاءِ، فَكَادَتْ تَأْتِي عَلَى نَفْسِهَا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(750) راجع مكالمته مع معاوية كتاب المعمَّرون لأبي حاتم السجستاني (ص 7 و8/ الرقم 7).
(751) ملوك التبايعة هم بنو حمير كانوا باليمن، وإنَّما سُمُّوا تبابعة لأنَّه يتبع بعضهم بعضاً، كلَّما هلك واحد منهم قام بعده واحد آخر، ولم يكونوا يسمُّون المَلِك منهم بتبَّع حتَّى يملك اليمن.
(752) الحمم: الرماد والفحم وكلُّ ما احترق من النار، الواحدة حممة. (الصحاح للجوهري: ج 5/ ص 1905/ مادَّة حمم).

(٣١١)

فَأَمَرَ المَلِكُ بِالسَّوْدَاءِ فَقُتِلَتْ، وَأَمَرَ بِالبَيْضَاءِ فَاحْتُمِلَتْ حَتَّى انْتَهَى بِهَا إِلَى عَيْنٍ مِنْ مَاءٍ نَقِيٍّ عَلَيْهَا شَجَرَةٌ، فَأَمَرَ فَصُبَّ المَاءُ عَلَيْهَا وَسُقِيَتْ حَتَّى رَجَعَتْ إِلَيْهَا نَفَسُهَا فَأَفَاقَتْ، فَخَلَّى سَبِيلَهَا، فَانْسَابَتِ الحَيَّةُ فَمَضَتْ لِسَبِيلِهَا، وَمَكَثَ المَلِكُ يَوْمَئِذٍ فِي مُتَصَيَّدِهِ وَنُزْهَتِهِ، فَلَمَّا أَمْسَى رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ حَاجِبٌ وَلَا أَحَدٌ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ رَأَى شَابًّا أَخَذَ بِعِضَادَتَيِ البَابِ وَبِهِ مِنَ الشَّبَابِ وَالجَمَالِ شَيْءٌ لَا يُوصَفُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَذُعِرَ مِنْهُ المَلِكُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمَنْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّخُولِ إِلَيَّ فِي هَذَا المَوْضِعِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيَّ فِيهِ حَاجِبٌ وَلَا غَيْرُهُ؟ فَقَالَ لَهُ الفَتَى: لَا تَرُعْ أَيُّهَا المَلِكُ إِنِّي لَسْتُ بِإِنْسِيٍّ وَلَكِنِّي فَتًى مِنَ الجِنِّ، أَتَيْتُكَ لِأُجَازِيَكَ بِبَلَائِكَ الحَسَنِ الجَمِيلِ عِنْدِي، قَالَ المَلِكُ: وَمَا بَلَائِي عِنْدَكَ؟ قَالَ: أَنَا الحَيَّةُ الَّتِي أَحْيَيْتَنِي فِي يَوْمِكَ هَذَا، وَالأَسْوَدُ الَّذِي قَتَلْتَهُ وَخَلَّصْتَنِي مِنْهُ كَانَ غُلَاماً لَنَا تَمَرَّدَ عَلَيْنَا، وَقَدْ قَتَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي عِدَّةً، كَانَ إِذَا خَلَا بِوَاحِدٍ مِنَّا قَتَلَهُ، فَقَتَلْتَ عَدُوِّي وَأَحْيَيْتَنِي، فَجِئْتُكَ لِأُكَافِيَكَ بِبَلَائِكَ عِنْدِي، وَنَحْنُ أَيُّهَا المَلِكُ الجِنُّ لَا الجِنُّ، قَالَ لَهُ المَلِكُ: وَمَا الفَرْقُ بَيْنَ الجِنِّ وَالجِنِّ؟
ثُمَّ انْقَطَعَ الحَدِيثُ مِنَ الأَصْلِ الَّذِي كَتَبْتَهُ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَمَامُهُ.

* * *

(٣١٢)

[497/1] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى المُكَتِّبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّيِّبِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ دُرَيْدٍ الأَزْدِيُّ العُمَانِيُّ بِجَمِيعِ أَخْبَارِهِ وَكُتُبِهِ الَّتِي صَنَّفَهَا، وَوَجَدْنَا فِي أَخْبَارِهِ أَنَّهُ قَالَ: لَـمَّا وَفَدَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ قَدِمَ فِيمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبُعٍ الفَزَارِيُّ - وَكَانَ أَحَدَ المُعَمَّرِينَ -، وَمَعَهُ ابْنُ ابْنِهِ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الرَّبِيعِ شَيْخاً فَانِياً قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَقَدْ عَصَبَهُمَا، فَلَمَّا رَآهُ الآذِنُ وكَانُوا يَأْذَنُونَ النَّاسَ عَلَى أَسْنَانِهِمْ، قَالَ لَهُ: ادْخُلْ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَدَخَلَ يَدِبُّ عَلَى العَصَا يُقِيمُ بِهَا صُلْبَهُ وَكَشْحَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ عَبْدُ المَلِكِ رَقَّ لَهُ وَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَيَجْلِسُ الشَّيْخُ وَجَدُّهُ عَلَى البَابِ؟ قَالَ: فَأَنْتَ إِذَنْ مِنْ وُلْدِ الرَّبِيعِ بْنِ ضَبُعٍ؟ قَالَ: نَعَمْ أَنَا وَهْبُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ لِلْآذِنِ: ارْجِعْ فَأَدْخِلِ الرَّبِيعَ، فَخَرَجَ الآذِنُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى نَادَى: أَيْنَ الرَّبِيعُ؟ قَالَ: هَا أَنَا ذَا، فَقَامَ يُهَرْوِلُ فِي مِشْيَتِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عَبْدِ المَلِكِ سَلَّمَ، فَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ لِجُلَسَائِهِ: وَيْلَكُمْ إِنَّهُ لَأَشَبُّ الرَّجُلَيْنِ، يَا رَبِيعُ أَخْبِرْنِي عَمَّا أَدْرَكْتَ مِنَ العُمُرِ، وَالَّذِي رَأَيْتَ مِنَ الخُطُوبِ المَاضِيَةِ، قَالَ: أَنَا الَّذِي أَقُولُ:

هَا أَنَا ذَا آمُلُ الخُلُودَ وَقَدْ * * * أَدْرَكَ عُمْرِي(753) وَمَوْلِدِي حَجَرا
أَنَا امْرُؤُ القَيْسِ(754) قَدْ سَمِعْتَ بِهِ * * * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ طَالَ ذَا عُمُرا

فَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ: قَدْ رُوِّيتُ هَذَا مِنْ شِعْرِكَ وَأَنَا صَبِيٌّ، قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(753) في رواية: (أدرك عقلي).
(754) على سبيل التشبيه في الشعر. وفي المعمَّرون (ص 7): (أبا امرئ القيس).

(٣١٥)

إِذَا عَاشَ الفَتَى مِائَتَيْنِ عَاما * * * فَقَدْ ذَهَبَ اللَّذَاذَةُ والفَتَاءُ(755)

قَالَ عَبْدُ المَلِكِ: وَقَدْ رُوِّيتُ هَذَا أَيْضاً وَأَنَا غُلَامٌ، يَا رَبِيعُ لَقَدْ طَلَبَكَ جَدٌّ غَيْرُ عَاثِرٍ(756)، فَفَصِّلْ لِي عُمُرَكَ.
فَقَالَ: عِشْتُ مِائَتَيْ سَنَةٍ فِي الفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ (عليهما السلام)، وَمِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَسِتِّينَ سَنَةً فِي الإِسْلَامِ.
قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الفِتْيَةِ فِي قُرَيْشٍ المُتَوَاطِئِ الأَسْمَاءِ، قَالَ: سَلْ عَنْ أَيِّهِمْ شِئْتَ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَهْمٌ وَعِلْمٌ وَعَطَاءٌ وَحِلْمٌ وَمُقْرِي ضَخْمٍ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حِلْمٌ وَعِلْمٌ وَطَوْلٌ وَكَظْمٌ وَبُعْدٌ مِنَ الظُّلْمِ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: رَيْحَانَةٌ طَيِّبٌ رِيحُهَا، لَيِّنٌ مَسُّهَا، قَلِيلٌ عَلَى المُسْلِمِينَ ضَرَرُهَا.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: جَبَلٌ وَعْرٌ، يَنْحَدِرُ مِنْهُ الصَّخْرُ.
قَالَ: للهِ دَرُّكَ مَا أَخْبَرَكَ بِهِمْ، قَالَ: قَرُبَ جِوَارِي، وَكَثُرَ اسْتِخْبَارِي.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(755) في رواية: (فقد أودى المسرَّة والفتاء)، وفي بحار الأنوار (ج 51/ ص 235): (فقد ذهب اللذاذة والغناء)، ويُروى: (فقد ذهب التخيُّل والفتاء)، والفتاء مصدر الفتى. وكان قبل البيت بيتان هما:
إذا كان الشتاء فأدفئوني * * * فإنَّ الشيخ يهدمه الشتاءُ
فأمَّا حين يذهب كلُّ قُرٍّ * * * فسربال خفيف أو رداءُ
(756) الجَدُّ - بالفتح -: الحظُّ والبخت والغناء، أي طلبك بخت عظيم لم يعثر حتَّى وصل إليك، أو لم يعثر بك، بل نعتك في كلِّ الأحوال.

(٣١٦)

[498/1] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى المُكَتِّبُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّيِّبِ أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدٍ الوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ دُرَيْدٍ الأَزْدِيُّ العُمَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى أَبُو بَشِيرٍ العُقَيْليُّ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي قَبِيصَةَ، عَنِ ابْنِ الكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ شُيُوخاً مِنْ بَجِيلَةَ مَا رَأَيْتُ عَلَى سَرْوِهِمْ(757) وَلَا حُسْنِ هَيْأَتِهِمْ يُخْبَرُونَ أَنَّهُ عَاشَ شِقُّ الكَاهِنِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ، فَقَالُوا: أَوْصِنَا فَقَدْ آنَ أَنْ يَفُوتَنَا بِكَ الدَّهْرُ، فَقَالَ: تَوَاصَلُوا وَلَا تَقَاطَعُوا، وَتَقَابَلُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَبُلُّوا الأَرْحَامَ(758)، وَاحْفَظُوا الذِّمَامَ، وَسَوِّدُوا الحَلِيمَ، وَأَجِلُّوا الكَرِيمَ، وَوَقِّرُوا ذَا الشَّيْبَةِ، وَأَذِلُّوا اللَّئِيمَ، وَتَجَنَّبُوا الهَزْلَ فِي مَوَاضِعِ الجِدِّ، وَلَا تُكَدِّرُوا الإِنْعَامَ بِالمَنِّ، وَاعْفُوا إِذَا قَدَرْتُمْ، وَهَادِنُوا إِذَا عَجَزْتُمْ، وَأَحْسِنُوا إِذَا كُويِدْتُمْ(759)، وَاسْمَعُوا مِنْ مَشَايِخِكُمْ، وَاسْتَبِقُوا دَوَاعِيَ الصَّلَاحِ عِنْدَ إِحَنِ العَدَاوَةِ، فَإِنَّ بُلُوغَ الغَايَةِ فِي النِّكَايَةِ جُرْحٌ بَطِيءُ الاِنْدِمَالِ، وَإِيَّاكُمْ وَالطَّعْنَ فِي الأَنْسَابِ، لَا تَفْحَصُوا عَنْ مَسَاوِيكُمْ(760)، وَلَا تُودِعُوا عَقَائِلَكُمْ غَيْرَ مُسَاوِيكُمْ(761)، فَإِنَّهَا وَصْمَةٌ فَادِحَةٌ وَقَضَاءَةٌ فَاضِحَةٌ(762)، الرِّفْقَ الرِّفْقَ لَا الخُرْقَ فَإِنَّ الخُرْقَ مَنْدَمَةٌ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(757) السَّرو - بفتح السين المهملة وسكون الراء والواو آخراً -: المروءة في شرف.
(758) في النهاية (ج 1/ ص 153): (فيه: «بلُّوا أرحامكم ولو بالسلام»، أي ندوها بصلتها، وهم يُطلِقون النداوة على الصلة كما يُطلِقون اليبس على القطيعة).
(759) من الكيد.
(760) يعني مساوئ بني نوعكم.
(761) العقيلة: الكريمة، أي لا تُزوِّجوا بناتكم إلَّا ممَّن يساويكم في الشرف.
(762) الوصمة: العار والعيب. والفادح: الثقيل. وقضأة فاضحة: أي عيب وفساد، وتقضؤوا منه أنْ يُزوِّجوه: أي استخسُّوا حسبه.

(٣١٩)

العَوَاقِبِ، مَكْسَبَةٌ لِلْعَوَاتِبِ، الصَّبْرُ أَنْفَذُ عِتَابٍ(763)، وَالقَنَاعَةُ خَيْرُ مَالٍ، وَالنَّاسُ أَتْبَاعُ الطَّمَعِ، وَقَرَائِنُ الهَلَعِ، وَمَطَايَا الجَزَعِ، وَرُوحُ الذُّلِّ التَّخَاذُلُ، وَلَا تَزَالُونَ نَاظِرِينَ بِعُيُونٍ نَائِمَةٍ مَا اتَّصَلَ الرَّجَاءُ بِأَمْوَالِكُمْ وَالخَوْفُ بِمَحَالِّكُمْ.
ثُمَّ قَالَ: يَا لَهَا نَصِيحَةً زَلَّتْ عَنْ عَذْبَةٍ فَصِيحَةٍ إِذَا كَانَ وِعَاؤُهَا وَكِيعاً(764) وَمَعْدِنُهَا مَنِيعاً، ثُمَّ مَاتَ.
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): إنَّ مخالفينا يروون مثل هذه الأحاديث ويُصدِّقونها، ويروون حديث شدَّاد بن عاد بن إرم وأنَّه عُمِّر تسعمائة سنة، ويروون صفة الجنَّة وأنَّها مغيبة عن الناس فلا تُرى وأنَّها في الأرض، ولا يُصدِّقون بقائم آل محمّد (عليهم السلام)، ويُكذِّبون بالأخبار التي رُويت فيه جحوداً للحقِّ وعناداً لأهله.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(763) في بعض النُّسَخ: (أنفذ عتاد).
(764) وعاء وكيع: أي شديد متين.

(٣٢٠)

[499/1] أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الزَّنْجَانِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ أَبُو المُثَنَّى العَنْبَرِيُّ(765)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: إِنَّ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ قِلَابَةَ خَرَجَ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ قَدْ شَرَدَتْ، فَبَيْنَا هُوَ فِي صَحَارِي عَدَنٍ فِي تِلْكَ الفَلَوَاتِ إِذْ هُوَ وَقَعَ عَلَى مَدِينَةٍ عَلَيْهَا حِصْنٌ، حَوْلَ ذَلِكَ الحِصْنِ قُصُورٌ كَثِيرَةٌ وَأَعْلَامٌ طِوَالٌ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا ظَنَّ أَنَّ فِيهَا مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ إِبِلِهِ، فَلَمْ يَرَ دَاخِلاً وَلَا خَارِجاً، فَنَزَلَ عَنْ نَاقَتِهِ وَعَقَلَهَا وَسَلَّ سَيْفَهُ وَدَخَلَ مِنْ بَابِ الحِصْنِ، فَإِذَا هُوَ بِبَابَيْنِ عَظِيمَيْنِ لَمْ يَرَ فِي الدُّنْيَا بِنَاءً أَعْظَمَ مِنْهُمَا وَلَا أَطْوَلَ، وَإِذَا خَشَبُهَا مِنْ أَطْيَبِ عُودٍ وَعَلَيْهَا نُجُومٌ مِنْ يَاقُوتٍ أَصْفَرَ وَيَاقُوتٍ أَحْمَرَ، ضَوْؤُهَا قَدْ مَلَأَ المَكَانَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَعْجَبَهُ، فَفَتَحَ أَحَدَ البَابَيْنِ وَدَخَلَ، فَإِذَا هُوَ بِمَدِينَةٍ لَمْ يَرَ الرَّاؤُونَ مِثْلَهَا قَطُّ، وَإِذَا هُوَ بِقُصُورٍ، كُلُّ قَصْرٍ مِنْهَا مُعَلَّقٌ تَحْتَهُ أَعْمِدَةٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ، وَفَوْقَ كُلِّ قَصْرٍ مِنْهَا غُرَفٌ، وَفَوْقَ الغُرَفِ غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَاليَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، وَعَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ تِلْكَ القُصُورِ مَصَارِيعُ مِثْلُ مَصَارِيعِ بَابِ المَدِينَةِ مِنْ عُودٍ طَيِّبٍ، قَدْ نُضِّدَتْ عَلَيْهِ اليَوَاقِيتُ، وَقَدْ فُرِشَتْ تِلْكَ القُصُورُ بِاللُّؤْلُؤِ وَبَنَادِقِ المِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَعْجَبَهُ وَلَمْ يَرَ هُنَاكَ أَحَداً، فَأَفْزَعَهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الأَزِقَّةِ فَإِذَا فِي كُلِّ زُقَاقٍ مِنْهَا أَشْجَارٌ قَدْ أَثْمَرَتْ، تَحْتَهَا أَنْهَارٌ تَجْرِي، فَقَالَ: هَذِهِ الجَنَّةُ الَّتِي وَصَفَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لِعِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا، وَالحَمْدُ لِلهِ الَّذِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(765) هو معاذ بن معاذ العنبري قاضى البصرة عامّي، وثَّقه ابن معين وأبو حاتم. وعبد الله هو ابن أخ جويرية، وثَّقه أبو حاتم. وعمُّه جويرية وثَّقه أحمد. (تهذيب التهذيب).

(٣٢٣)

أَدْخَلَنِي الجَنَّةَ، فَحَمَلَ مِنْ لُؤْلُؤهَا وَمِنْ بَنَادِقِ المِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقْلَعَ مِنْ زَبَرْجَدِهَا وَمِنْ يَاقُوتِهَا لِأَنَّهُ كَانَ مُثْبَتاً فِي أَبْوَابِهَا وَجُدْرَانِهَا، وكَانَ اللُّؤْلُؤُ وَبَنَادِقُ المِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ مَنْثُوراً بِمَنْزِلَةِ الرَّمْلِ فِي تِلْكَ القُصُورِ وَالغُرَفِ كُلِّهَا، فَأَخَذَ مِنْهَا مَا أَرَادَ وَخَرَجَ حَتَّى أَتَى نَاقَتَهُ وَرَكِبَهَا، ثُمَّ سَارَ يَقْفُو أَثَرَ نَاقَتِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى اليَمَنِ وَأَظْهَرَ مَا كَانَ مَعَهُ وَأَعْلَمَ النَّاسَ أَمْرَهُ، وَبَاعَ بَعْضَ ذَلِكَ اللُّؤْلُؤِ، وَكَانَ قَدِ اصْفَارَّ وتَغَيَّرَ مِنْ طُولِ مَا مَرَّ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ، فَشَاعَ خَبَرُهُ وَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَرْسَلَ رَسُولاً إِلَى صَاحِبِ صَنْعَاءَ وَكَتَبَ بِإِشْخَاصِهِ، فَشَخَصَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَخَلَا بِهِ وسَأَلَهُ عَمَّا عَايَنَ، فَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَ المَدِينَةِ وَمَا رَأَى فِيهَا، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا حَمَلَهُ مِنْهَا مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَبَنَادِقِ المِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِثْلَ هَذِهِ المَدِينَةِ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى كَعْبِ الأَحْبَارِ فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، هَلْ بَلَغَكَ أَنَّ فِي الدُّنْيَا مَدِينَةً مَبْنِيَّةً بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَعُمُدُهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ وَاليَاقُوتِ، وَحَصَاءُ قُصُورِهَا وَغُرَفُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَأَنْهَارُهَا فِي الأَزِقَّةِ تَجْرِي تَحْتَ الأَشْجَارِ؟
قَالَ كَعْبٌ: أَمَّا هَذِهِ المَدِينَةُ فَصَاحِبُهَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ الَّذِي بَنَاهَا، وَأَمَّا المَدِينَةُ فَهِيَ إِرَمُ ذاتِ العِمادِ، وَهِيَ الَّتِي وَصَفَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي كِتَابِهِ المُنْزَلِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي البِلادِ.
قَالَ مُعَاوِيَةُ: حَدِّثْنَا بِحَدِيثِهَا، فَقَالَ: إِنَّ عَاداً الأُولَى - وَلَيْسَ بِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (عليه السلام) - كَانَ لَهُ ابْنَانِ سُمِّيَ أَحَدُهُمَا شَدِيداً وَالآخَرُ شَدَّاداً، فَهَلَكَ عَادٌ وَبَقِيَا وَمَلَكَا وَتَجَبَّرَا وَأَطَاعَهُمَا النَّاسُ فِي الشَّرْقِ وَالغَرْبِ، فَمَاتَ شَدِيدٌ وَبَقِيَ شَدَّادٌ، فَمَلَكَ وَحْدَهُ وَلَمْ يُنَازِعْهُ أَحَدٌ.
وَكَانَ مُولَعاً بِقِرَاءَةِ الكُتُبِ، وَكَانَ كُلَّمَا سَمِعَ بِذِكْرِ الجَنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ البُنْيَانِ وَاليَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ رَغِبَ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عُتُوًّا عَلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ)،

(٣٢٤)

فَجَعَلَ عَلَى صَنْعَتِهَا مِائَةَ رَجُلٍ تَحْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ألفٌ مِنَ الأَعْوَانِ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى أَطْيَبِ فَلَاةٍ فِي الأَرْضِ وَأَوْسَعِهَا، فَاعْمَلُوا لِي فِيهَا مَدِينَةً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَيَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ وَلُؤْلُؤٍ، وَاصْنَعُوا تَحْتَ تِلْكَ المَدِينَةِ أَعْمِدَةً مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَعَلَى المَدِينَةِ قُصُوراً، وَعَلَى القُصُورِ غُرَفاً، وَفَوْقَ الغُرَفِ غُرَفاً، وَاغْرِسُوا تَحْتَ القُصُورِ فِي أَزِقَّتِهَا أَصْنَافَ الثِّمَارِ كُلِّهَا، وأَجْرُوا فِيهَا الأَنْهَارَ حَتَّى يَكُونَ تَحْتَ أَشْجَارِهَا، فَإِنِّي قَرَأْتُ فِي الكُتُبِ صِفَةَ الجَنَّةِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَ مِثْلَهَا فِي الدُّنْيَا.
قَالُوا لَهُ: كَيْفَ نَقْدِرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ لَنَا مِنَ الجَوَاهِرِ وَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ حَتَّى يُمْكِنَنَا أَنْ نَبْنِيَ مَدِينَةً كَمَا وَصَفْتَ؟
قَالَ شَدَّادٌ: أَلَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مُلْكَ الدُّنْيَا بِيَدِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَانْطَلِقُوا إِلَى كُلِّ مَعْدِنٍ مِنْ مَعَادِنِ الجَوَاهِرِ وَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ فَوَكِّلُوا بِهَا حَتَّى تَجْمَعُوا مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَخُذُوا مَا تَجِدُونَهُ فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ.
فَكَتَبُوا إِلَى كُلِّ مَلِكٍ فِي الشَّرْقِ وَالغَرْبِ، فَجَعَلُوا يَجْمَعُونَ أَنْوَاعَ الجَوَاهِرِ عَشْرَ سِنِينَ، فَبَنَوْا لَهُ هَذِهِ المَدِينَةَ فِي مُدَّةِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَعُمُرُ شَدَّادٍ تِسْعُمِائَةِ سَنَةٍ، فَلَمَّا أَتَوْهُ وَأَخْبَرُوهُ بِفَرَاغِهِمْ مِنْهَا قَالَ: انْطَلِقُوا فَاجْعَلُوا عَلَيْهَا حِصْناً، وَاجْعَلُوا حَوْلَ الحِصْنِ الفَ قَصْرٍ، عِنْدَ كُلِّ قَصْرٍ الفَ عَلَمٍ، يَكُونُ فِي كُلِّ قَصْرٍ مِنْ تِلْكَ القُصُورِ وَزِيرٌ مِنْ وُزَرَائِي، فَرَجَعُوا وَعَمِلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ لَهُ، ثُمَّ أَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ بِالفَرَاغِ مِنْهَا كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالتَّجْهِيزِ إِلَى إِرَمَ ذاتِ العِمادِ، فَأَقَامُوا فِي جِهَازِهِمْ إِلَيْهَا عَشْرَ سِنِينَ.
ثُمَّ سَارَ المَلِكُ يُرِيدُ إِرَمَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ المَدِينَةِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَعَثَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانَ مَعَهُ صَيْحَةً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعاً، وَمَا دَخَلَ إِرَمَ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَهَذِهِ صِفَةُ إِرَمَ ذاتِ العِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي البِلادِ.

(٣٢٥)

وَإِنِّي لَأَجِدُ فِي الكُتُبِ أَنَّ رَجُلاً يَدْخُلُهَا وَيَرَى مَا فِيهَا ثُمَّ يَخْرُجُ وَيُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا يَرَى فَلَا يُصَدَّقُ، وَسَيَدْخُلُهَا أَهْلُ الدِّينِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ(766).
قال مصنَّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): إذا جاز أنْ يكون في الأرض جنَّة مغيَّبة عن أعين الناس لا يهتدي إلى مكانها أحد من الناس ولا يعلمون بها، ويعتقدون صحَّة كونها من طريق الأخبار، فكيف لا يقبلون من طريق الأخبار كون القائم (عليه السلام) الآن في غيبته؟ وإذا جاز أنْ يُعمِّر شدَّاد بن عاد تسعمائة سنة، فكيف لا يجوز أنْ يُعمِّر القائم (عليه السلام) مثلها أو أكثر منها؟
والخبر في شدَّاد بن عاد عن أبي وائل، والأخبار في القائم (عليه السلام) عن النبيِّ والأئمَّة (صلوات الله عليهم)، فهل ذلك إلَّا مكابرة في جحود الحقِّ؟
وَوَجَدْتُ فِي كِتَابِ المُعَمَّرِينَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعِيدٍ الرَّحَّالِ، قَالَ: إِنَّا وَجَدْنَا حَجَراً بِالإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَكْتُوباً فِيهِ: أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ، وَأَنَا الَّذِي شَيَّدْتُ العِمَادَ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي البِلادِ، وَجَنَّدْتُ الأَجْنَادَ، وَشَدَدْتُ بِسَاعِدِي الوَادَ، فَبَنَيْتُهُنَّ إِذْ لَا شَيْبَ وَلَا مَوْتَ، وَإِذِ الحِجَارَةُ فِي اللِّينِ مِثْلُ الطِّينِ، وَكَنَزْتُ كَنْزاً فِي البَحْرِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ مَنْزِلاً لَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ حَتَّى تُخْرِجَهُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ.
[ذكر المعمَّرين]:
وعاش أوس بن ربيعة بن كعب بن أُميَّة الأسلمي مائتين وأربع عشرة سنة، وقال في ذلك:

لقد عمرت حتَّى ملَّ أهلي * * * ثوائي عندهم وسئمت عمري(767)
وحقَّ لمن أتى مائتان عاماً * * * عليه وأربع من بعد عشرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(766) رواه الراوندي (رحمه الله) في قَصص الأنبياء (ص 97 - 99/ ح 88).
(767) ثوائي: أي إقامتي. وفي رواية: (فيهم) مكان (عندهم).

(٣٢٦)

يملُّ من الثواء وصبح يوم(768) * * * يغاديه وليل بعد يسري
فأبلى جدَّتي وتركت شِلواً(769) * * * وباح بما أُجِنُّ ضمير صدري

وعاش أبو زبيد واسمه البدر بن حرملة الطائي - وكان نصرانيًّا - خمسين ومائة سنة.
وعاش نصر بن دُهمان بن [بصار بن بكر بن] سُلَيم بن أشجع بن الريث بن غطفان مائة وتسعين سنة حتَّى سقطت أسنانه وخرف عقله وابيضَّ رأسه، فحزب قومه أمر(770) فاحتاجوا فيه إلى رأيه، ودعوا الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يردَّ إليه عقله وشبابه، فعاد إليه عقله وشبابه واسودَّ شعره.
فقال فيه سَلَمة بن الخُرشُب الأنماري من أنمار بن بغيض، ويقال: بل عياض مرداس السلمي:

لنصر بن دُهمانَ الهُنيدَةَ عاشها * * * وتسعين حولاً ثمّ قُوِّم فانصاتا(771)
وعاد سواد الرأس بعد بياضه(772) * * * وراجعه شرخ الشباب الذي فاتا(773)
وراجع عقلاً عند ما فات عقله * * * ولكنَّه من بعد ذا كلِّه ماتا

وعاش سويد بن حذَّاق العبدي(774) مائتي سنة.
وعاش الجُعشم بن عوف بن حذيمة دهراً طويلاً، فقال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(768) في نسخة: (وصبح ليل).
(769) الشلو - بالكسر -: بقيَّة الشيء، والمشلى من الرجال: الخفيف اللحم. وفي رواية: (وبقيت شلواً).
(770) حزبه أمر: أي نزل به مهمٌّ، أو أصابه غمٌّ.
(771) الهنيدة: المائة من الإبل وغيرها، وقال أبو عبيدة: هي اسم لكلِّ مائة. وانصات الرجل: إذا أجاب.
(772) في رواية: (بعد ابيضاضه).
(773) شرخ الشباب أوَّله أو نضارته.
(774) من عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن أسد بن ربيعة بن نزار.

(٣٢٧)

حتَّى متى الجُعشم في الأحياء * * * ليس بذي أيدٍ ولا غناءِ
هيهاتَ ما للموت من دواءِ

وعاش ثعلبة بن كعب بن زيد بن عبد الأشهل الأوسي(775) مائتي سنة، فقال:

لقد صاحبت أقواماً فأمسوا(776) * * * خُفاتاً ما يُجاب لهم دعاءُ
مضوا قصد السبيل وخلَّفوني * * * فطال عليَّ بعدهم الثواءُ
فأصبحت الغداة رهين بيتي * * * وأخلفني من الموت الرجاءُ

وعاش رداءة بن كعب(777) بن ذهل بن قيس النخعي ثلاثمائة سنة، وقال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(775) في بعض النُّسَخ: (الأشوس).
(776) في رواية السجستاني: (فأضحوا). (المعمَّرون: ص 72).
(777) في بعض النُّسَخ: (رداد بن كعب). وأورده أبو حاتم السجستاني في المعمَّرون (ص 42 و43/ الرقم 42) بعنوان جعفر بن قرط بن كعب بن قيس بن سعد، وذكر له شعراً، ولعلَّه كعب بن رداة النخعي كما ذكره ابن الكلبي على قول السجستاني.

(٣٢٨)

لم يبقَ يا خذلة من لداتي * * * أبو بنين لا ولا بناتِ(778)
ولا عقيم غير ذي سباتِ(779) * * * إلَّا يُعَدُّ اليوم في الأمواتِ
هل مشترٍ أبيعه حياتي

وعاش عدي بن حاتم طيء عشرين ومائة سنة.
وعاش أماباة بن قيس بن الحارث بن شيبان الكندي ستِّين ومائة سنة.
وعاش عميرة بن هاجر بن عمير بن عبد العزَّى بن قُمَير سبعين ومائة سنة، وقال:

بليت وأفناني الزمان وأصبحت * * * هُنَيدَةِ قد أبقيت(780) من بعدها عشرا
وأصبحت مثل الفرخ لا أنا ميِّت * * * فأُسلى(781) ولا حيٌّ فأُصدر لي أمرا
وقد عشت دهراً ما تجنُّ عشيرتي * * * لها ميِّتاً حتَّى أخطُّ به قبرا

وعاش العرَّام بن منذر(782) بن زبيد بن قيس بن حارثة بن لأم دهراً طويلاً في الجاهليَّة، وأدرك عمر بن عبد العزيز، وأُدخل عليه وقد اختلفت ترقوتاه وسقط حاجباه، فقيل له: ما أدركت؟ فقال:

ووالله ما أدري أأدركت أُمَّة * * * على عهد ذي القرنين أم كنت أقدما
متى تخلعا منِّي القميص تبيَّنا * * * جآجئ(783) لم يكسين لحماً ولا دما

وعاش سيف بن وهب بن جذيمة الطائي مائتي سنة، وقال:

ألَا إنَّني عاجلاً ذاهبُ * * * فلا تحسبوا أنَّني كاذبُ
لبست شبابي فأفنيته * * * وأدركني القدر الغالبُ
وخصم دفعت ومولى نفعـ * * * حتَّى يثوب له ثائبُ

وعاش أرطاة بن دشهبة المزني عشرين ومائة سنة، فكان يُكنَّى أبا الوليد، فقال له عبد المَلِك بن مروان: ما بقي من شعرك يا أرطاة؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنِّي لا أشرب ولا أطرب ولا أغضب، ولا يجيئني الشعراء إلَّا على أحد هذه الخصال، على أنِّي أقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(778) لِدة الرجل: تِربه، والجمع لِدات.
(779) السُّبات: النوم والراحة. وفي بعض النُّسَخ: (ذي بتات)، والبتات: متاع البيت. وفي رواية السجستاني: (من مسقط الشمس إلى الفرات).
(780) في رواية: (قد أنضيت).
(781) في بعض النُّسَخ: (فأبلى)، وفي بحار الأنوار (ج 51/ ص 238): (فأبكى). وزاد في كتاب أبي حاتم السجستاني (ص 73):
وقد كنت دهراً أهزم الجيش واحداً * * * وأعطى فلا منًّا عطائي ولا نزرا
(782) في بعض النُّسَخ والكُتُب: (عوام بن المنذر).
(783) جآجئ: جمع جؤجؤ، وهو الصدر، وقيل: عظامه، وهو المراد هنا.

(٣٢٩)

رأيت المرء تأكله الليالي * * * كأكل الأرض ساقطة الحديدِ
وما تُبقي المنيَّة حين تأتي * * * على نفس ابن آدم من مزيدِ
وأعلم أنَّها ستكرُّ حتَّى * * * تُوفِّي نذرها بأبي الوليدِ

فارتاع عبد المَلِك(784)، فقال: يا أرطاة، فقال أرطاة: يا أمير المؤمنين، إنِّي أُكنَّى أبا الوليد.
وعاش عبيد بن الأبرص(785) ثلاثمائة سنة، فقال:

فنيت وأفناني الزمان وأصبحت * * * لِداتي بنو نعش وزهر الفراقدِ(786)

ثمّ أخذه النعمان بن المنذر يوم بؤسه فقتله.
وعاش شريح بن هانئ عشرين ومائة سنة حتَّى قُتِلَ في زمن الحجَّاج بن يوسف، فقال في كبره وضعفه:

أصبحت ذا بثٍّ أُقاسي الكبرا * * * قد عشت بين المشركين أعصرا
ثمَّت أدركت النبيَّ المنذرا * * * وبعده صدِّيقه وعمرا
ويوم مهران ويوم تسترا * * * والجمع في صفِّينهم والنهرا(787)
هيهاتَ ما أطول هذا عمرا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(784) أي فزع لما ظنَّ أنَّه أراد بأبي الوليد إيَّاه.
(785) هو عبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر من بنى سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد، وقتله كما في هامش المعمَّرون (ص 60) المنذر بن ماء السماء، وهو أحد فحول الشعراء الجاهليَّة.
(786) الفراقد: جمع فرقد، وهو النجم الذي يُهتدى به.
(787) يوم مهران ويوم تستر يومان من أيَّام المسلمين المشهورة في تاريخ الفتوحات الإسلاميَّة ببلاد الفرس. والأشعار في كتاب السجستاني (ص 38 و39) مصرعها الأوَّل ساقط، وجعل المصراع الثاني مكانه، وهكذا إلى آخرها.

(٣٣٠)

وعاش رجل من بني ضبَّة يقال له: المسجاح بن سباع الضبِّي(788) دهراً طويلاً، فقال:

لقد طوَّفت في الآفاق حتَّى * * * بليت وقد أنى لي لو أبيدُ(789)
وأفناني ولو يفنى نهار * * * وليل كلَّما يمضي يعودُ
وشهر مستهلٌّ بعد شهر * * * وحول بعده حول جديدُ

وعاش لقمان العادي الكبير(790) خمسمائة وستِّين سنة، وعاش عمر سبعة أنسر، [عاش] كلُّ نسر منها ثمانين عاماً، وكان من بقيَّة عاد الأُولى.
وروي أنَّه عاش ثلاثة آلاف سنة وخمسمائة سنة، وكان من وفد عاد الذين بعثهم قومهم إلى الحرم ليستسقوا لهم، وكان أُعطي عمر سبعة أنسر، وكان يأخذ فرخ النسر الذَّكَر فيجعله في الجبل الذي هو في أصله، فيعيش النسر منها ما عاش، فإذا مات أخذ آخر فربَّاه، حتَّى كان آخرها لبد، وكان أطولها عمراً، فقيل فيه: (طال الأبد على لبد)(791).
وقد قيل فيه أشعار معروفة(792)، وأُعطي من القوَّة والسمع والبصر على قدر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(788) قال ابن دريد: مسحاج بن سباع. وفي المعمَّرون (ص 76/ الرقم 83): (مسجاح بن خالد بن الحارث بن قيس بن نصر بن عائذة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبَّة). وقال: (زعموا أنَّه قال...)، ثمّ ذكر ما في المتن من الشعر وزاد:
ومفقود عزيز الفقد تأتيمنيَّته ومأمول وليدُ
(789) في بعض النُّسَخ: (بليت وآن لي أنْ قد أبيدُ)، وكذا في المعمَّرون.
(790) هو غير لقمان الذي عاصر داود النبيِّ (عليه السلام).
(791) راجع: مجمع الأمثال (ص 443).
(792) قال لبيد بن ربيعة الجعفري من بنى كلاب فيه:
ولقد رأى لبد النسور تطايرت * * * رفع القوادم كالفقير الأعزلِ
من تحته لقمان يرجو نهضه * * * ولقد رأى لقمان ألَّا يأتلى
وقال الضبي فيه:
أو لم ترَ لقمان أهلكه * * * ما افتات من سنة ومن شهرِ
وبقاء نسر كلَّما انقرضت * * * أيَّامه عادت إلى نسرِ
وقال النابغة الذبياني:
أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا * * * أخنى عليها الذي أخنى على لبدِ
وأخنى: أي أفسد.

(٣٣١)

ذلك، وله أحاديث كثيرة.
وعاش زهير بن جناب(793) بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد الله بن رُفيدة بن ثور بن كلب الكلبي ثلاثمائة سنة(794).
وعاش مزيقيا واسمه عمر بن عامر، وهو ماء السماء لأنَّه كان حياة أينما نزل كمثل ماء السماء، وإنَّما سُمِّي مزيقيا لأنَّه عاش ثمانمائة سنة، أربعمائة سوقة، وأربعمائة مَلِكاً، وكان يلبس كلَّ يوم حُلَّتين، ثمّ يأمر بهما فيُمزَّقان حتَّى لا يلبسهما أحد غيره.
وعاش هبل بن عبد الله بن كنانة ستّمائة سنة(795).
وعاش أبو الطحمان القيني(796) مائة وخمسين سنة.
وعاش مستوغر بن ربيعة بن كعب بن زيد مناة بن تميم ثلاثمائة وثلاثين سنة، ثمّ أدرك الإسلام فلم يسلم، وله شعر معروف(797).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(793) في بعض النُّسَخ: (حباب).
(794) في المعمَّرون (ص 25): عاش أربعمائة سنة وعشرين سنة.
(795) قال السجستاني (ص 29): (سبعمائة)، وذكر له حكاية.
(796) اسمه حنظلة بن الشرقي، وهو من بنى كنانة بن القين. وفي المعمَّرون (ص 57): عاش مائتي سنة. وقد يظهر من القاموس (ج 1/ ص 238) كونه شاعراً.
(797) أوَّلها:
ولقد سئمت من الحياة وطولها * * * وعُمِّرت من عدد الستِّين مئينا

(٣٣٢)

وعاش دويد بن زيد بن نهد أربعمائة سنة وخمسين سنة، فقال في ذلك:

ألقى عليَّ الدهر رجلاً ويدا * * * والدهر ما أصلح يوماً أفسدا
يفسد ما أصلحه اليوم غدا

وجمع بنيه حين حضرته الوفاة فقال: يا بَنِيَّ، أُوصيكم بالناس شرًّا، لا تقبلوا لهم معذرةً، ولا تقيلوا لهم عثرةً(798).
وعاش تيم الله بن ثعلبة بن عكاية مائتي سنة(799).
وعاش ربيع بن ضبع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة مائتي وأربعين سنة(800)، وأدرك الإسلام فلم يسلم.
وعاش معديكرب الحميري من آل ذي يزن مائتي وخمسين سنة.
[قصَّة شرية بن عبد الله الجعفي]:
وعاش شرية بن عبد الله الجعفي ثلاثمائة سنة، فقَدِمَ على عمر بن الخطَّاب بالمدينة فقال: لقد رأيت هذا الوادي الذي أنتم فيه وما به قطرة ولا هضبة(801) ولا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(798) بقيَّة وصيَّته: (أُوصيكم بالناس شرًّا، طعناً وضرباً، قصِّروا الأعنَّة، واشرعوا الأسنَّة، وارعوا الكلاء وإنْ كان على الصفا، وما احتجتم إليه فصونوه، وما استغنيتم عنه فأفسدوه على من سواكم، فإنَّ غشَّ الناس يدعو إلى سوء الظنِّ، وسوء الظنِّ يدعو إلى الاحتراس) انتهى. راجع نسخة أُخرى من وصيَّة دويد أمالي المرتضى (ج 1/ ص 171).
ونظير ذلك الكلام وصيَّة جدِّه نهد بن زيد. وكأنَّ معاوية بن أبي سفيان قرأ هذه الوصية وعمل بها حين بعث سفيان بن عوف الغامدي إلى غارة الأنبار حيث أوصاه - كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 2/ ص 85 و86) - بأنْ اقتل من لقيت ممَّن ليس على مثل رأيك، وأخرب كلَّ ما مررت به من القرى وانتهب الأموال... إلخ. وكذا في وصيَّة يزيد ابنه حين بعث مسلم بن عقبة إلى المدينة في فتنة ابن الزبير.
(799) في المعمَّرون (ص 31): خمسمائة سنة، وقال: (كان من دهاة العرب في زمانه).
(800) في المعمَّرون (ص 6): عاش أربعين وثلاثمائة سنة.
(801) الهضبة: المطرة. وفي رواية: (قصبة).

(٣٣٣)

شجرة ولقد أدركت أُخريات قومي يشهدون شهادتكم هذه - يعني لا إله إلَّا الله - ومعه ابن له يهادي(802) قد خرف، فقيل له: يا شرية هذا ابنك قد خرف وبك بقيَّة؟ فقال: والله ما تزوَّجت أُمَّه حتَّى أتت عليَّ سبعون سنة، ولكنِّي تزوَّجتها عفيفة ستيرة إنْ رضيت رأيت ما تقرُّ به عيني وإنْ سخطت تأتَّت لي حتَّى أرضى، وإنَّ ابني هذا تزوَّج امرأة بذيَّة فاحشة إنْ رأى ما تقرُّ به عينه تعرَّضت له حتَّى يسخط وإنْ سخط تلغَّبته حتَّى يهلك(803).
[قصَّة الريَّان بن دومغ]:
حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ بْنِ نَصْرٍ السِّجْزِيُّ(804)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ(805) أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ زَيْدٍ الشَّعْرَانِيَّ مِنْ وُلْدِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ (رضي الله عنه) يَقُولُ: حَكَى لِي أَبُو القَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ القَاسِمِ المِصْرِيُ أَنَّ أَبَا الجَيْشِ(806) حَمَّادَوَيْهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ كَانَ قَدْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ كُنُوزِ مِصْرَ مَا لَمْ يُرْزَقْ أَحَدٌ قَبْلَهُ، فَغَزَا بِالهَرَمَيْنِ(807)، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جُلَسَاؤُهُ وَحَاشِيَتُهُ وَبِطَانَتُهُ بِأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِهَدْمِ الأَهْرَامِ فَإِنَّهُ مَا تَعَرَّضَ لِهَذِهِ أَحَدٌ فَطَالَ عُمُرُهُ، فَأَلَحَّ فِي ذَلِكَ وَأَمَرَ ألفاً مِنَ الفَعَلَةِ أَنْ يَطْلُبُوا البَابَ، فَكَانُوا يَعْمَلُونَ سَنَةً حَوَالَيْهِ حَتَّى ضَجِرُوا وَكَلُّوا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالاِنْصِرَافِ بَعْدَ الإِيَاسِ مِنْهُ وَتَرْكِ العَمَلِ وَجَدُوا سَرَباً، فَقَدَّرُوا أَنَّهُ البَابُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(802) أي يميل في المشي.
(803) اللغب: التعب والإعياء.
(804) في بعض النُّسَخ: (نصير الشجري).
(805) في بعض النُّسَخ: (سمعت أبا الحسين).
(806) في بعض النُّسَخ: (أبا الحسن)، وكذا فيما يأتي.
(807) الهَرَمان - بالتحريك -: بناءان أزليَّان بمصر بناهما إدريس (عليه السلام) لحفظ العلوم فيهما عن الطوفان، أو بناء سنان بن المشلشل، أو بناء الأوائل لما علموا بالطوفان من جهة النجوم، وفيهما كلُّ طبٍّ وسحر وطلسم. وهنالك أهرام صغار كثيرة. (القاموس المحيط: ج 4/ ص 189).

(٣٣٤)

الَّذِي يَطْلُبُونَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا آخِرَهُ وَجَدُوا بَلَاطَةً قَائِمَةً(808) مِنْ مَرْمَرٍ، فَقَدَّرُوا أَنَّهَا البَابُ فَاحْتَالُوا فِيهَا إِلَى أَنْ قَلَعُوهَا وَأَخْرَجُوهَا.
[قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ المُظَفَّرِ: وَجَدُوا مِنْ وَرَائِهَا بِنَاءً مُنْضَمًّا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَأَخْرَجُوهَا ثُمَّ نَظَّفُوهَا]، فَإِذَا عَلَيْهَا كِتَابَةٌ بِاليُونَانِيَّةِ، فَجَمَعُوا حُكَمَاءَ مِصْرَ وَعُلَمَاءَهَا مِنْ سَائِرِ الأَدْيَانِ، فَلَمْ يَهْتَدُوا لَهَا.
وَكَانَ [فِي القَوْمِ] رَجُلٌ يُعْرَفُ بِأَبِي عَبْدِ اللهِ المَدِينِيِّ أَحَدُ حُفَّاظِ الدُّنْيَا وَعُلَمَائِهَا، فَقَالَ لِأَبِي الجَيْشِ حَمَّادَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ: أَعْرِفُ فِي بَلَدِ الحَبَشَةِ أُسْقُفًّا قَدْ عُمِّرَ وَأَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً يَعْرِفُ هَذَا الخَطَّ، وَقَدْ كَانَ عَزَمَ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَنِيهِ، فَلِحِرْصِي عَلَى عِلْمِ العَرَبِ لَمْ أَقُمْ عِنْدَهُ، وَهُوَ بَاقٍ، فَكَتَبَ أَبُو الجَيْشِ إِلَى مَلِكِ الحَبَشَةِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَحْمِلَ هَذَا الأُسْقُفَّ إِلَيْهِ، فَأَجَابَهُ أَنَّ هَذَا شَيْخٌ قَدْ طُعِنَ فِي السِّنِّ، وَقَدْ حَطَمَهُ الزَّمَانُ، وَإِنَّمَا يَحْفَظُهُ هَذَا الهَوَاءُ وَهَذَا الإِقْلِيمُ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ إِنْ نُقِلَ إِلَى هَوَاءٍ آخَرَ وَإِقْلِيمٍ آخَرَ وَلَحِقَتْهُ حَرَكَةٌ وَتَعَبٌ وَمَشَقَّةُ السَّفَرِ أَنْ يَتْلَفَ، وَفِي بَقَائِهِ لَنَا شَرَفٌ وَفَرَحٌ وَسَكِينَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ شَيْءٌ يَقْرَؤُهُ أَوْ يُفَسِّرُهُ أَوْ مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُونَهُ فَاكْتُبْ لِي بِذَلِكَ، فَحُمِلَتِ البَلَاطَةُ فِي قَارِبٍ(809) إِلَى بَلَدِ أُسْوَانَ مِنَ الصَّعِيدِ الأَعْلَى، وَحُمِلَتْ مِنْ أُسْوَانَ عَلَى العَجَلَةِ إِلَى بَلَدِ الحَبَشَةِ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الأُسْوَانِ، فَلَمَّا وَصَلَتْ قَرَأَهَا الأُسْقُفُّ وَفَسَّرَ مَا كَانَ فِيهَا بِالحَبَشِيَّةِ، ثُمَّ نُقِلَتْ إِلَى العَرَبِيَّةِ، فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ: أَنَا الرَّيَّانُ بْنُ دَوْمَغٍ، فَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللهِ المَدِينِيُّ عَنِ الرَّيَّانِ مَنْ كَانَ؟ فَقَالَ: هُوَ وَالِدُ العَزِيزِ المَلِكِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِ يُوسُفَ النَّبِيِّ (عليه السلام)، وَاسْمُهُ الوَلِيدُ بْنُ الرَّيَّانِ بْنِ دَوْمَغٍ، وَكَانَ عُمُرُ العَزِيزِ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَعُمُرُ الرَّيَّانِ وَالِدِهِ الفَ وَسَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَعُمُرُ دَوْمَغٍ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَةٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(808) البلاط: الحجارة المفروشة في الدار.
(809) أي سفينة صغيرة.

(٣٣٥)

فَإِذَا فِيهَا: أَنَا الرَّيَّانُ بْنُ دَوْمَغٍ، خَرَجْتُ فِي طَلَبِ عِلْمِ النِّيلِ الأَعْظَمِ لِأَعْلَمَ فَيْضَهُ وَمَنْبَعَهُ إِذْ كُنْتُ أَرَى مُفِيضَهُ، فَخَرَجْتُ وَمَعِي مَنْ صَحِبَنِي أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ، فَسِرْتُ ثَمَانِينَ سَنَةً إِلَى أَنِ انْتَهَيْتُ إِلَى الظُّلُمَاتِ وَالبَحْرِ المُحِيطِ بِالدُّنْيَا، فَرَأَيْتُ النِّيلَ يَقْطَعُ البَحْرَ المُحِيطَ وَيَعْبَرُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لِي مَنْفَذٌ، وَتَمَاوَتَ أَصْحَابِي(810)، وَبَقِيتُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ، فَخَشِيتُ عَلَى مُلْكِي، فَرَجَعْتُ إِلَى مِصْرَ وَبَنَيْتُ الأَهْرَامَ وَالبَرَانِيَّ، وَبَنَيْتُ الهَرَمَيْنِ وَأَوْدَعْتُهُمَا كُنُوزِي وَذَخَائِرِي، وَقُلْتُ فِي ذَلِكَ:

وَأَدْرَكَ عِلْمِي بَعْضَ مَا هُوَ كَائِنٌ * * * وَلَا عِلْمَ لِي بِالغَيْبِ وَاللهُ أَعْلَمُ
وَأَتْقَنْتُ مَا حَاوَلْتُ إِتْقَانَ صُنْعِهِ * * * وَأَحْكَمْتُهُ وَاللهُ أَقْوَى وَأَحْكَمُ
وَحَاوَلْتُ عِلْمَ النِّيلِ مِنْ بَدْءِ فَيْضِهِ * * * فَأَعْجَزَنِي وَالمَرْءُ بِالعَجْزِ مُلْجَمُ
ثَمَانِينَ شَاهُوراً قَطَعْتُ مَسَايِحاً * * * وَحَوْلِي بَنوُ حُجْرٍ وَجَيْشٌ عَرَمْرَمُ(811)
إِلَى أَنْ قَطَعْتُ الإِنْسَ وَالجِنَّ كُلَّهُمْ * * * وَعَارَضَنِي لُجٌّ مِنَ البَحْرِ مُظْلِمُ
فَأَيْقَنْتُ أَنْ لَا مَنْفَذَ بَعْدَ مَنْزِلِي * * * لِذِي هِمَّةٍ(812) بَعْدِي وَلَا مُتَقَدِّمُ
فَأُبْتُ إِلَى مُلْكِي وَأَرْسَيْتُ ثَاوِياً * * * بِمِصْرَ وَلِلْأَيَّامِ بُؤْسٌ وَأَنْعُمُ
أَنَا صَاحِبُ الأَهْرَامِ فِي مِصْرَ كُلِّهَا * * * وَبَانِي بَرَانِيهَا بِهَا وَالمُقَدَّمُ
تَرَكْتُ بِهَا آثَارَ كَفِّي وَحِكْمَتِي * * * عَلَى الدَّهْرِ لَا تُبْلَى وَلَا تَتَهَدَّمُ(813)
وَفِيهَا كُنُوزٌ جَمَّةٌ وَعَجَائِبُ * * * وَلِلدَّهْرِ أَمْرٌ مَرَّةً وَتَجَهُّمُ(814)
سَيَفْتَحُ أَقْفَالِي وَيُبْدِي عَجَائِبِي * * * وَلِيٌّ لِرَبِّي آخِرَ الدَّهْرِ يَنْجُمُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(810) تماوت: تظاهر أنَّه مات، وأظهر التخافت والتضاعف.
(811) العرمرم: الحيش الكثير.
(812) في بعض النُّسَخ: (لذي نهبة)، وفي بعضها: (لذي هيبة).
(813) في بعض النُّسَخ: (تتثلَّم).
(814) في نسخة: (تهجم).

(٣٣٦)

بِأَكْنَافِ بَيْتِ اللهِ تَبْدُو أُمُورُهُ * * * فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلُوَ وَيَسْمُوَ بِهِ السِّمُ
ثَمَانٍ وَتِسْعٌ وَاثْنَتَانِ وَأَرْبَعٌ * * * وَتِسْعُونَ أُخْرَى مِنْ قَتِيلٍ وَمُلْجَمُ
وَمِنْ بَعْدِ هَذَا كَرَّ تِسْعُونَ تِسْعَةٌ * * * وَتِلْكَ البَرَانِيُّ تَسْتَخِرُّ وَتُهْدَمُ
وَتُبْدَى كُنُوزِي كُلُّهَا غَيْرَ أَنَّنِي * * * أَرَى كُلَّ هَذَا أَنْ يُفَرِّقَهَا الدَّمُ
زَبَرْتُ مَقَالِي فِي صُخُورٍ قَطَعْتُهَا * * * سَتَبْقَى وَأَفْنَى بَعْدَهَا ثُمَّ أُعْدَمُ

فَحِينَئِذٍ قَالَ أَبُو الجَيْشِ حَمَّادَوَيْهِ بْنُ أَحْمَدَ: هَذَا شَيْءٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ حِيلَةٌ إِلَّا القَائِمَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، وَرُدَّتِ البَلَاطَةُ كَمَا كَانَتْ مَكَانَهَا.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا الجَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ قَتَلَهُ طَاهِرٌ الخَادِمُ، [ذَبَحَهُ] عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ سَكْرَانُ، وَمِنْ ذَلِكَ الوَقْتِ عُرِفَ خَبَرُ الهَرَمَيْنِ وَمَنْ بَنَاهُمَا، فَهَذَا أَصَحُّ مَا يُقَالُ مِنْ خَبَرِ النِّيلِ وَالهَرَمَيْنِ.
وعاش ضبيرة بن [سعيد بن] سعد بن سهم القرشي مائة وثمانين سنة، وأدرك الإسلام فهلك فجأةً.
[قصَّة لبيد بن ربيعة الجعفري]:
وعاش لبيد بن ربيعة الجعفري مائة وأربعين سنة، وأدرك الإسلام فأسلم، فلمَّا بلغ سبعون سنة من عمره أنشأ يقول في ذلك:

كأنِّي وقد جاوزت سبعين حجَّة * * * خلعت بها عن منكبي ردائيا

فلمَّا بلغ سبعاً وسبعين سنة أنشأ يقول:

باتت تشكي إليَّ النفس مجهشة * * * وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا
فإنْ تزيدي ثلاثاً تبلغي أملا * * * وفي الثلاث وفاء للثمانينا

فلمَّا بلغ تسعين سنة أنشأ يقول:

كأنِّي وقد جاوزت تسعين حجَّة * * * خلعت بها عنِّي عذار لثامي

(٣٣٧)

رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى * * * وكيف بمن يُرمى وليس برامِ
فلو أنَّني أُرمى بنبل رأيتها * * * ولكنَّني أُرمى بغير سهامِ

فلمَّا بلغ مائة وعشر سنين أنشأ يقول:

أليس في مائة قد عاشها رجل * * * وفي تكامل عشر بعدها عمرُ

فلمَّا بلغ مائة وعشرين سنة أنشأ يقول:

قد عشت دهراً قبل مجرى داحس * * * لو كان للنفس اللجوج خلودُ

فلمَّا بلغ مائة وأربعين سنة أنشأ يقول:

ولقد سئمت من الحياة وطولها * * * وسؤال هذا الناس كيف لبيدُ
غلب الرجال وكان غير مغلَّب * * * دهر طويل دائم ممدودُ
يوماً إذا يأتي عليَّ وليلة * * * وكلاهما بعد المضيِّ يعودُ

فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّهُ فَنِيَ، فَإِذَا قُبِضَ أَبُوكَ فَأَغْمِضْهُ وَأَقْبِلْ بِهِ القِبْلَةَ وَسَجِّهِ بِثَوْبِهِ، وَلَا أَعْلَمَنَّ مَا صَرَخَتْ عَلَيْهِ صَارِخَةٌ أَوْ بَكَتْ عَلَيْهِ بَاكِيَةٌ، وَانْظُرْ جَفْنَتِيَ الَّتِي كُنْتُ أُضِيفُ بِهَا فَأَجِدْ صَنَعْتَهَا، ثُمَّ احْمِلْهَا إِلَى مَسْجِدِكَ وَإِلَى مَنْ كَانَ يَغْشَانِي عَلَيْهَا، فَإِذَا قَالَ الإِمَامُ: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) فَقَدِّمْهَا إِلَيْهِمْ يَأْكُلُوا مِنْهَا، فَإِذَا فَرَغُوا فَقُلْ: احْضُرُوا جَنَازَةَ أَخِيكُمْ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَدْ قَبَضَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ)، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

وَإِذَا دَفَنْتَ أَبَاكَ فَاجْعَـ * * * ـلْ فَوْقَهُ خَشَباً وطِينا
وَصَفَائِحَ صُمًّا رَوَا * * * شِنُهَا تُسَدِّدْنَ الغُصُونَا
لِيَقِينَ حَرَّ الوَجْهِ سَفْـ * * * ـسَافُ التُّرَابِ وَلَنْ يَقِينَا

وقَدْ وَرَدَ فِي الخَبَرِ فِي حَدِيثِ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي أَمْرِ الجَفْنَةِ غَيْرُ هَذَا، ذَكَرُوا أَنَّ لَبِيدَ بْنَ رَبِيعَةَ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ كُلَّمَا هَبَّتِ الشَّمَالُ أَنْ يَنْحَرَ جَزُوراً فَيَمْلَأَ الجَفْنَةَ الَّتِي حَكَوْا عَنْهَا فِي أَوَّلِ حَدِيثِهِ.

(٣٣٨)

فَلَمَّا وَلِيَ الوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الكُوفَةَ خَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللهَ (عزَّ وجلَّ) وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ عَلِمْتُمْ حَالَ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ الجَعْفَرِيِّ وَشَرَفَهُ وَمُرُوءَتَهُ وَمَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ كُلَّمَا هَبَّتِ الشَّمَالُ أَنْ يَنْحَرَ جَزُوراً، فَأَعِينُوا أَبَا عَقِيلٍ عَلَى مُرُوءَتِهِ، ثُمَّ نَزَلَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِخَمْسَةٍ مِنَ الجُزُرِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ فِيهَا:

أَرَى الجَزَّارَ يَشْحَذُ شَفْرَتَيْهِ * * * إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُ أَبِي عَقِيلِ
طَوِيلُ البَاعِ أَبْلَجُ جَعْفَرِيٍ * * * كَرِيمُ الجَدِّ كَالسَّيْفِ الصَّقِيلِ
وَفِي ابْنِ الجَعْفَرِيِّ بِمَا لَدَيْهِ * * * عَلَى العَلَّاتِ(815) وَالمَالِ القَلِيلِ

وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الجُزُرَ كَانَتْ عِشْرِينَ، فَلَمَّا أَتَتْهُ قَالَ: جَزَى اللهُ الأَمِيرَ خَيْراً قَدْ عَرَفَ أَنِّي لَا أَقُولُ الشِّعْرَ وَلَكِنْ اخْرُجِي يَا بُنَيَّةُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ بُنَيَّةٌ لَهُ خُمَاسِيَّةٌ، فَقَالَ لَهَا: أَجِيبِي الأَمِيرَ، فَأَقْبَلَتْ وَأَدْبَرَتْ ثُمَّ قَالَتْ: نَعَمْ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:

إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُ أَبِي عَقِيلِ * * * دَعَوْنَا عِنْدَ هَبَّتِهَا الوَلِيدَا
طَوِيلُ البَاعِ أَبْلَجُ عَبْشَمِيًّا(816) * * * أَعَانَ عَلَى مُرُوءَتِهِ لَبِيدا
بِأَمْثَالِ الهِضَابِ(817) كَأَنَّ رَكْباً * * * عَلَيْهَا مِنْ بَنِي حَامٍ قُعُودا
أَبَا وَهْبٍ جَزَاكَ اللهُ خَيْراً * * * نَحَرْنَاهَا وَأَطْعَمْنَا الثَّرِيدَا
فَعُدْ إِنَّ الكَرِيمَ لَهُ مُعَادٌ * * * وَعَهْدِي بِابْنِ أَرْوَى أَنْ تَعُودَا

فَقَالَ لَهَا: أَحْسَنْتِ يَا بُنَيَّةِ لَوْ لَا أَنَّكِ سَالتِ، قَالَتْ: إِنَّ المُلُوكَ لَا يُسْتَحْيَا مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ، قَالَ: وَأَنْتِ يَا بُنَيَّةِ أَشْعَرُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(815) على العلَّات: أي على كلِّ حالٍ.
(816) منسوب إلى عبد شمس بجوار أو ولاء أو حلف.
(817) شبَّه الجزور بالهضاب، وهو الحبل المنبسط.

(٣٣٩)

وعاش ذو الإصبع العدواني واسمه حُرثان بن الحارث بن محرَّث بن ربيعة ابن هبيرة بن ثعلبة بن الظرب بن عثمان ثلاثمائة سنة.
وعاش جعفر بن قبط(818) ثلاثمائة سنة، وأدرك الإسلام.
وعاش عامر بن الظرب العدواني ثلاثمائة سنة(819).
وعاش محصَّن بن عتبان بن ظالم بن عمرو بن قطيعة بن الحارث بن سَلَمة ابن مازن الزبيدي مائتين وخمسين سنة، وقال في ذلك:

ألَا يا سلم إنِّي لست منكم * * * ولكنِّي امرؤ قوتي سغوبُ(820)
دعاني الداعيان فقلت هيَّا(821) * * * فقالا كلُّ من يُدعى يُجيبُ
ألَا يا سلم أعياني قيامي * * * وأعيتني المكاسب والذهوبُ(822)
وصرت رذية(823) في البيت كلًّا * * * تأذَّى بي الأباعد والقريبُ
كذاك الدهر والأيَّام خون(824) * * * لها في كلِّ سائمة نصيبُ

[عمر عوف بن كنانة الكلبي ووصيَّته]:
وَعَاشَ عَوْفُ بْنُ كِنَانَةَ الكَلْبِيُّ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ جَمَعَ بَنِيهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(818) كذا، ولعلَّ الصواب: جعفر بن قُرط - بضمِّ القاف وسكون الراء -، وهو جعفر بن قُرط بن كعب بن قيس بن سعد. وذكر ابن الكلبي أنَّه جعفر بن قُرط بن عبد يغوث بن كعب بن ردَّة الشاعر. (راجع: نسب معد واليمن الكبير: ج 1/ ص 291).
(819) في المعمَّرون (ص 44): مائتي سنة.
(820) السغب: الجوع. وفي رواية: (ولكنِّي امرء قومي شعوب).
(821) في رواية: (إيهاً)، وكلاهما كلمة زجر.
(822) في بعض النُّسَخ: (الرهوب)، وفي بعضها: (الركوب).
(823) الرذى من أثقله المرض والضعيف من كلِّ شيء. (القاموس المحيط: ج 4/ ص 334).
(824) جمع الخوان: ما يُؤكَل عليه الطعام.

(٣٤٠)

فَأَوْصَاهُمْ، وهُوَ عَوْفُ بْنُ كِنَانَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبٍ، فَقَالَ: يَا بَنِيَّ، احْفَظُوا وَصِيَّتِي فَإِنَّكُمْ إِنْ حَفِظْتُمُوهَا سُدْتُمْ قَوْمَكُمْ مِنْ بَعْدِي:
إِلَهَكُمْ فَاتَّقُوهُ، وَلَا تَحْزَنُوا، وَلَا تَخُونُوا، وَلَا تُثِيرُوا السِّبَاعَ(825) مِنْ مَرَابِضِهَا فَتَنْدَمُوا، وَجَاوِزُوا النَّاسَ بِالكَفِّ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ فَتَسْلَمُوا وَتَصْلُحُوا، وَعِفُّوا عَنِ الطَّلَبِ إِلَيْهِمْ، وَلَا تَسْتَقِلُّوا(826)، وَالزَمُوا الصَّمْتَ إِلَّا مِنْ حَقٍّ تُحْمَدُوا، وَابْذُلُوا لَهُمُ المَحَبَّةَ تَسْلَمْ لَكُمُ الصُّدُورُ، وَلَا تُحَرِّمُوهُمُ المَنَافِعَ فَيَظْهَرُوا الشَّكَاةَ، وَتَكُونُوا مِنْهُمْ فِي سِتْرٍ يُنْعَمْ بَالُكُمْ، وَلَا تُكْثِرُوا مُجَالَسَتَهُمْ فَيَسْتَخِفَّ بِكُمْ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِكُمْ مُعْضِلَةٌ فَاصْبِرُوا لَهَا، وَالبَسُوا لِلدَّهْرِ أَثْوَابَهُ فَإِنَّ لِسَانَ الصِّدْقِ مَعَ المَسْكَنَةِ خَيْرٌ مِنْ سُوءِ الذِّكْرِ مَعَ المَيْسَرَةِ، وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى المَذَلَّةِ لِمَنْ تَذَلَّلَ لَكُمْ فَإِنَّ أَقْرَبَ الوَسَائِلِ المَوَدَّةُ، وَإِنْ أَتْعَبَتِ النُّشُبُ البِغْضَةَ، وَعَلَيْكُمْ بِالوَفَاءِ، وَتَنَكَّبُوا العُذْرَ يَأْمَنْ سَرْبُكُمْ، [وَأَصِيخُوا لِلْعَدْلِ]، وَأَحْيُوا الحَسَبَ بِتَرْكِ الكَذِبِ فَإِنَّ آفَةَ المُرُوءَةِ الكَذِبُ وَالخُلْفُ، لَا تُعْلِمُوا النَّاسَ إِقْتَارَكُمْ فَتَهُونُوا عَلَيْهِمْ وَتَخْمُلُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالغُرْبَةَ فَإِنَّهَا ذِلَّةٌ، وَلَا تَضَعُوا الكَرَائِمَ إِلَّا عِنْدَ الأَكْفَاءِ، وَابْتَغُوا لِأَنْفُسِكُمُ المَعَالِيَ، وَلَا يَخْتَلِجَنَّكُمْ جَمَالُ النِّسَاءِ عَنِ الصِّحَّةِ(827) فَإِنَّ نِكَاحَ الكَرَائِمِ مَدَارِجُ الشَّرَفِ، وَاخْضَعُوا لِقَوْمِكُمْ، وَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِمْ لِتَنَالُوا المَنَافِسَ، وَلَا تُخَالِفُوهُمْ فِيمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ الخِلَافَ يُزْرِي بِالرَّئِيسِ المُطَاعِ، وَلْيَكُنْ مَعْرُوفُكُمْ لِغَيْرِ قَوْمِكُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَلَا تُوحِشُوا أَفْنِيَتَكُمْ مِنْ أَهْلِهَا فَإِنَّ إِيحَاشَهَا إِخْمَادُ النَّارِ وَدَفْعُ الحُقُوقِ، وَارْفُضُوا النَّائِمَ بَيْنَكُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(825) في بعض النُّسَخ: (تستثيروا السباع).
(826) في بعض النُّسَخ: (لئلَّا تستثقلوا).
(827) في رواية: (عن صراحة النسب). وفي بعض النُّسَخ: (عن النصيحة). وفي وصيَّة أكثم بن صيفي: (يا بَنِىَّ، لا يغلبنَّكم جمال النساء عن صراحة النسب).

(٣٤١)

[تَسْلَمُوا]، وَكُونُوا أَعْوَاناً عِنْدَ المُلِمَّاتِ(828) تَغْلِبُوا، وَاحْذَرُوا النَّجْعَةَ(829) إِلَّا فِي مَنْفَعَةٍ لَا تُصَابُوا، وَأَكْرِمُوا الجَارَ يَخْصِبْ جَنَابُكُمْ، وَآثِرُوا حَقَّ الضَّعِيفِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَالزَمُوا مَعَ السُّفَهَاءِ الحِلْمَ تَقِلَّ هُمُومُكُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّهَا ذِلَّةٌ، وَلَا تُكَلِّفُوا أَنْفُسَكُمْ فَوْقَ طَاقَتِهَا إِلَّا المُضْطَرَّ فَإِنَّكُمْ لَنْ تُلَامُوا عِنْدَ اتِّضَاحِ العُذْرِ وَبِكُمْ قُوَّةٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَعَاوَنُوا فِي الِاضْطِرَارِ مِنْكُمْ إِلَيْهِمْ بِالمَعْذِرَةِ(830)، وَجِدُّوا وَلَا تُفْرِطُوا فَإِنَّ الجِدَّ مَانِعُ الضَّيْمِ، وَلْتَكُنْ كَلِمَتُكُمْ وَاحِدَةً تَعِزُّوا وَيُرْهَفْ حَدُّكُمْ، وَلَا تَبْذُلُوا الوُجُوهَ لِغَيْرِ مُكْرِمِيهَا فَتُكْلِحُوهَا، وَلَا تَجَشَّمُوهَا أَهْلَ الدَّنَاءَةِ فَتَقْصُرُوا بِهَا(831)، وَلَا تَحَاسَدُوا فَتَبُورُوا، وَاجْتَنِبُوا البُخْلَ فَإِنَّهُ دَاءٌ، وَابْنُوا المَعَالِيَ بِالجُودِ وَالأَدَبِ وَمُصَافَاةِ أَهْلِ الفَضْلِ وَالحِبَاءِ(832)، وَابْتَاعُوا المَحَبَّةَ بِالبَذْلِ، وَوَقِّرُوا أَهْلَ الفَضْلِ، وَخُذُوا عَنْ أَهْلِ التَّجَارِبِ، وَلَا يَمْنَعْكُمْ مِنْ مَعْرُوفٍ صِغَرُهُ فَإِنَّ لَهُ ثَوَاباً، وَلَا تُحَقِّرُوا الرِّجَالَ فَتَزْدَرُوا، فَإِنَّمَا المَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ ذَكَاءِ قَلْبِهِ وَلِسَانٍ يُعَبِّرُ عَنْهُ، وَإِذَا خُوِّفْتُمْ دَاهِيَةً فَعَلَيْكُمْ بِالتَّثَبُّتِ قَبْلَ العَجَلَةِ، وَالتَمِسُوا بِالتَّوَدُّدِ المَنْزِلَةَ عِنْدَ المُلُوكِ فَإِنَّهُمْ مَنْ وَضَعُوهُ اتَّضَعَ وَمَنْ رَفَعُوهُ ارْتَفَعَ، وَتَنَبَّلُوا تَسْمُ إِلَيْكُمُ الأَبْصَارُ، وَتَوَاضَعُوا بِالوَقَارِ لِيُحِبَّكُمْ ربُّكُمْ. ثُمَّ قَالَ:

وَمَا كُلُّ ذِي لُبٍّ بِمُؤْتِيكَ نُصْحَهُ * * * وَلَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ
وَلَكِنْ إِذَا مَا اسْتَجْمَعَا عِنْدَ وَاحِدٍ * * * فَحَقٌّ لَهُ مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(828) في رواية: (وكونوا أنجاداً عند الملمَّات تغلبوا).
(829) النجعة وزان الرقعة: طلب الكلاء في موضعه. وفي رواية: (واحذروا النجعة التي في المنعة).
(830) في رواية: (فلئن تلاموا وبكم قوَّة خير من أنْ تعاونوا بالعجز).
(831) في بعض النُّسَخ: (لغير مكرمة فتخلقوها، ولا تحتشموا أهل الدناءة فتقصروا بها)، وفي بعض النُّسَخ: (ولا تحتشموها). والتجشُّم: التكلُّف.
(832) في رواية: (وابتنوا المباني بالأدب ومصافاة أهل الحباء). والحباء: العطاء بلا جزاء.

(٣٤١)

وعاش صيفي بن رياح بن أكثم أحد بني أسد بن عمر بن تميم مائتين وسبعين سنة، وكان يقول: لك على أخيك سلطان في كلِّ حالٍ إلَّا في القتال، فإذا أخذ الرجل السلاح فلا سلطان لك عليه، وكفى بالمشرفيَّة واعظاً(833)، وترك الفخر أبقى للثناء، وأسرع الجرم عقوبةً البغي، وشرُّ النصرة التعدِّي، وألأم الأخلاق أضيقها، ومن سوء الأدب كثرة العتاب(834)، وأقرع الأرض بالعصا - فذهبت مثلاً(835) -.

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا * * * وما عُلِّم الإنسان إلَّا ليعلما

وعاش عبَّاد بن شدَّاد اليربوعيُّ مائة وخمسي سنة(836).
[قصَّة أكثم بن صيفي]:
وعاش أكثم بن صيفي أحد بني أسد بن عمرو بن تميم ثلاثمائة وستِّين سنة، وقال بعضهم: مائة وتسعين سنة، وأدرك الإسلام، فاختُلِفَ في إسلامه إلَّا أنَّ أكثرهم لا يشكُّ في أنَّه لم يسلم، فقال في ذلك:

وإنَّ امرءاً قد عاش تسعين حجَّة * * * إلى مائة لم يسأم العيش جاهلُ
خلت مائتان غير ستٍّ وأربع * * * وذلك من عدِّ الليالي قلائلُ

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: أَقْبَلَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ يُرِيدُ الإِسْلَامَ، فَقَتَلَهُ ابْنُهُ عَطَشاً، فَسَمِعْتُ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(833) المشرفيَّة سيوف جيِّدة تُنسَب إلى مشارف الشام.
(834) في بعض النُّسَخ: (ومن الأذى كثرة العتاب).
(835) القرع - بالفتح -: الضرب، والمراد أنْ يُنبِّه الإنسان صاحبه عند خطئه. وأصل المثل أنَّ عامر بن الظرب طعن في السنِّ وأنكر قومه من عقله شيئاً، فقال لبنيه: إذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا إلى المحجن بالعصا، فكانوا يقرعونه والأرض.
(836) في المعمَّرون (ص 58): (مائة وثمانين سنة)، وفي بعض النُّسَخ: (عاد بن شدَّاد).

(٣٤٣)

ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ [النساء: 100]، وَلَمْ تَكُنِ العَرَبُ تُقَدِّمُ عَلَيْهِ أَحَداً فِي الحِكْمَةِ، وَإِنَّهُ لَـمَّا سَمِعَ بِرَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بَعَثَ ابْنَهُ حُلَيْساً(837)، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي أَعِظُكَ بِكَلِمَاتٍ فَخُذْ بِهِنَّ مِنْ حِينَ تَخْرُجُ مِنْ عِنْدِي إِلَى أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ، ائْتِ نَصِيبَكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ فَلَا تَسْتَحِلَّهُ فَيُسْتَحَلَّ مِنْكَ، فَإِنَّ الحَرَامَ لَيْسَ يُحَرِّمُ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا يُحَرِّمُهُ أَهْلُهُ، وَلَا تُمَرِّنْ بِقَوْمٍ إِلَّا نَزَلْتَ عِنْدَ أَعَزِّهِمْ، وَأَحْدِثْ(838) عَقْداً مَعَ شَرِيفِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَالذَّلِيلَ فَإِنَّهُ أَذَلَّ نَفْسَهُ وَلَوْ أَعَزَّهَا لَأَعَزَّهُ قَوْمُهُ، فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُهُ وَعَرَفْتُ نَسَبَهُ وَهُوَ فِي بَيْتِ قُرَيْشٍ وَأَعَزِّ العَرَبِ وَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ إِمَّا ذُو نَفْسٍ أَرَادَ مُلْكاً، فَخَرَجَ لِلْمُلْكِ بِعِزِّهِ، فَوَقِّرْهُ وَشَرِّفْهُ وَقُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا تَجْلِسْ إِلَّا بِإِذْنِهِ حَيْثُ يَأْمُرُكَ وَيُشِيرُ إِلَيْكَ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ(839) كَانَ أَدْفَعَ لِشَرِّهِ عَنْكَ وَأَقْرَبَ لِخَيْرِهِ مِنْكَ، فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحَسُّ فَيُتَوَهَّمَ وَلَا يُنْظَرُ فَيُتَجَسَّمَ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الخِيَرَةَ حَيْثُ يَعْلَمُ(840) لَا يُخْطِئُ فَيُسْتَعْتَبَ إِنَّمَا أَمْرُهُ عَلَى مَا يُحِبُّ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَتَجِدُ أَمْرَهُ كُلَّهُ صَالِحاً وَخَبَرَهُ كُلَّهُ صَادِقاً، وَسَتَجِدُهُ مُتَوَاضِعاً فِي نَفْسِهِ مُتَذَلِّلًا لِرَبِّهِ، فَذِلَّ لَهُ فَلَا تُحْدِثَنَّ أَمْراً دُونِي، فَإِنَّ الرَّسُولَ إِذَا أَحْدَثَ الأَمْرَ مِنْ عِنْدِهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيِ الَّذِي أَرْسَلَهُ، وَاحْفَظْ مَا يَقُولُ لَكَ إِذَا رَدَّكَ إِلَيَّ فَإِنَّكَ لَوْ تَوَهَّمْتَ أَوْ نَسِيتَ جَشَمْتَنِي(841) رَسُولاً غَيْرَكَ.
وَكَتَبَ مَعَهُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ مِنَ العَبْدِ إِلَى العَبْدِ، أَمَّا بَعْدُ، فَأَبْلِغْنَا مَا بَلَغَكَ فَقَدْ أَتَانَا عَنْكَ خَبَرٌ لَا نَدْرِي مَا أَصْلُهُ، فَإِنْ كُنْتَ أُرِيتَ فَأَرِنَا، وَإِنْ كُنْتَ عُلِّمْتَ فَعَلِّمْنَا وَأَشْرِكْنَا فِي كَنْزِكَ، وَالسَّلَامُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(837) في بعض النُّسَخ: (حبيشاً).
(838) في بعض النُّسَخ: (وأخذت).
(839) أي إنْ كان مَلِكاً.
(840) لعلَّ المعنى: الله يعلم حيث يجعل رسالته.
(841) أي كلَّفتني.

(٣٤٤)

فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فِيمَا ذَكَرُوا: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، أَحْمَدُ اللهَ إِلَيْكَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَآمُرَ النَّاسَ بِقَوْلِهَا، وَالخَلْقُ خَلْقُ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَالأَمْرُ كُلُّهُ لِلهِ خَلَقَهُمْ وَأَمَاتَهُمْ، وَهُوَ يَنْشُرُهُمْ وَإِلَيْهِ المَصِيرُ، أَدَّبْتُكُمْ بِآدَابِ المُرْسَلِينَ، وَلَتُسْأَلُنَ عَنِ النَّبَأ العَظِيمِ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ».
فَلَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، مَا ذَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ وَيَنْهَى عَنْ مَلَائِمِهَا، فَجَمَعَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ إِلَيْهِ بَنِي تَمِيمٍ ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي تَمِيمٍ، لَا تُحْضِرُونِي سَفِيهاً فَإِنَّ مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ رَأْيٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّ السَّفِيهَ وَاهِنُ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ البَدَنِ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ.
يَا بَنِي تَمِيمٍ، كَبِرَتْ سِنِّي وَدَخَلَتْنِي ذِلَّةُ الكِبَرِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنِّي حَسَناً فَأْتُوهُ، وَإِذَا أَنْكَرْتُمْ مِنِّي شَيْئاً فَقَوِّمُونِي بِالحَقِّ أَسْتَقِمْ لَهُ، إِنَّ ابْنِي قَدْ جَاءَنِي وَقَدْ شَافَهَ هَذَا الرَّجُلَ فَرَآهُ يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، وَيَأْخُذُ بِمَحَاسِنِ الأَخْلَاقِ وَيَنْهَى عَنْ مَلَائِمِهَا، وَيَدْعُو إِلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهَ وَحْدَهُ وَتُخْلَعَ الأَوْثَانُ وَيُتْرَكَ الحَلْفُ بِالنِّيرَانِ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّ قَبْلَهُ رُسُلاً لَهُمْ كُتُبٌ، وَقَدْ عَلِمْتُ رَسُولاً قَبْلَهُ كَانَ يَأْمُرُ بِعِبَادَةِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَحْدَهُ، إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِمُعَاوَنَةِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَمُسَاعَدَتِهِ عَلَى أَمْرِهِ أَنْتُمْ، فَإِنْ يَكُنِ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ حَقًّا فَهُوَ لَكُمْ، وَإِنْ يَكُ بَاطِلاً كُنْتُمْ أَحَقَّ مَنْ كَفَّ عَنْهُ وَسَتَرَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ كَانَ أُسْقُفُّ نَجْرَانَ يُحَدِّثُ بِصِفَتِهِ، وَلَقَدْ كَانَ سُفْيَانُ بْنُ مُجَاشِعٍ قَبْلَهُ يُحَدِّثُ بِهِ، وَسَمَّى ابْنَهُ مُحَمَّداً، وَقَدْ عَلِمَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْكُمْ أَنَّ الفَضْلَ فِيمَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَيَأْمُرُ بِهِ، فَكُونُوا فِي أَمْرِهِ أَوَّلاً وَلَا تَكُونُوا أَخِيراً، اتَّبِعُوهُ تَشَرَّفُوا، وَتَكُونُوا سَنَامَ العَرَبِ، وَائْتُوهُ طَائِعِينَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتُوهُ كَارِهِينَ، فَإِنِّي أَرَى أَمْراً مَا هُوَ بِالهُوَيْنَا لَا يَتْرُكُ مَصْعَداً إِلَّا صَعِدَهُ وَلَا مَنْصُوباً إِلَّا بَلَغَهُ، إِنَّ هَذَا الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ

(٣٤٥)

دِيناً لَكَانَ فِي الأَخْلَاقِ حَسَناً، أَطِيعُونِي وَاتَّبِعُوا أَمْرِي أَسْال لَكُمْ مَا لَا يُنْزَعُ مِنْكُمْ أَبَداً، إِنَّكُمْ أَصْبَحْتُمْ أَكْثَرَ العَرَبِ عَدَداً، وَأَوْسَعَهُمْ بَلَداً، وَإِنِّي لَأَرَى أَمْراً لَا يَتَّبِعُهُ ذَلِيلٌ إِلَّا عَزَّ، وَلَا يَتْرُكُهُ عَزِيزٌ إِلَّا ذَلَّ، اتَّبِعُوهُ مَعَ عِزِّكُمْ تَزْدَادُوا عِزًّا، وَلَا يَكُنْ أَحَدٌ مِثْلَكُمْ، إِنَّ الأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلْآخِرِ شَيْئاً، وَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لِمَا هُوَ بَعْدَهُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ فَهُوَ البَاقِي، وَاقْتَدَى بِهِ الثَّانِي، فَأَصْرِمُوا أَمْرَكُمْ فَإِنَّ الصَّرِيمَةَ قُوَّةٌ، وَالاِحْتِيَاطَ عَجْزٌ(842).
فَقَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ: خَرِفَ شَيْخُكُمْ، فَقَالَ أَكْثَمُ: وَيْلٌ لِلشَّجَيِّ مِنَ الخَلَيِّ(843)، أَرَاكُمْ سُكُوتاً، وَإِنَّ آفَةَ المَوْعِظَةِ الإِعْرَاضُ عَنْهَا.
وَيْلَكَ يَا مَالِكُ إِنَّكَ هَالِكٌ، إِنَّ الحَقَّ إِذَا قَامَ وَقَعَ القَائِمُ مَعَهُ وَجَعَلَ الصَّرْعَى قِيَاماً، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، أَمَّا إِذَا سَبَقْتُمُونِي بِأَمْرِكُمْ فَقَرِّبُوا بَعِيرِي أَرْكَبْهُ، فَدَعَا بِرَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا فَتَبِعُوهُ بَنُوهُ وَبَنُو أَخِيهِ، فَقَالَ: لَهْفَي عَلَى أَمْرٍ لَنْ أُدْرِكَهُ وَلَمْ يَسْبِقْنِي.
وَكَتَبَتْ طَيِءٌ إِلَى أَكْثَمَ فَكَانُوا أَخْوَالَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَتَبَتْ بَنُو مُرَّةَ وَهُمْ أَخْوَالُهُ أَنْ أَحْدِثْ إِلَيْنَا مَا نَعِيشُ بِهِ، فَكَتَبَ:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ أَصْلُهَا وَتَنْبُتُ فَرْعُهَا، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا لَا يَثْبُتُ لَهَا أَصْلٌ وَلَا يَنْبُتُ لَهَا فَرْعٌ، وَإِيَّاكُمْ وَنِكَاحَ الحَمْقَاءِ فَإِنَّ مُبَاضَعَتَهَا قَذَرٌ وَوُلْدَهَا ضَيَاعٌ، وَعَلَيْكُمْ بِالإِبِلِ فَأَكْرِمُوهَا فَإِنَّهَا حُصُونُ العَرَبِ، وَلَا تَضَعُوا رِقَابَهَا إِلَّا فِي حَقِّهَا فَإِنَّ فِيهَا مَهْرَ الكَرِيمَةِ وَرَقُوءَ الدَّمِ(844)، وَبِألبَانِهَا يُتْحَفُ الكَبِيرُ وَيُغَذَّى الصَّغِيرُ، وَلَوْ كُلِّفَتِ الإِبِلُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(842) في بعض النُّسَخ: (فالاختلاط عجز). والصريمة: العزيمة في الشيء. والصرم: القطع.
(843) الخليُّ: الخالي من الهمِّ والحزن خلاف الشجىِّ، والمثل معروف، والمعنى أنِّي في همٍّ عظيم لهذا الأمر الذي أدعوكم إليه وأنتم فارغون غافلون فويل لي منكم. (بحار الأنوار: ج 51/ ص 257).
(844) رقأ الدم: جفَّ وسكن، والرقوء - كصبور -: ما يُوضَع على الدم ليرقئه. والمعنى أنَّها تُعطى في الديات فتُحقَن بها الدماء.

(٣٤٦)

الطَّحْنَ لَطَحَنَتْ، وَلَنْ يَهْلِكَ امْرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَالعُدْمُ عُدْمُ العَقْلِ(845)، وَالمَرْءُ الصَّالِحُ لَا يَعْدَمُ [مِنَ] المَالِ، وَرُبَّ رَجُلٍ خَيْرٌ مِنْ مِائَةٍ، وَرُبَّ فِئَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قَبِيلَتَيْنِ(846)، وَمَنْ عَتَبَ عَلَى الزَّمَانِ طَالَتْ مَعْتَبَتُهُ، وَمَنْ رَضِيَ بِالقَسْمِ طَابَتْ مَعِيشَتُهُ، آفَةُ الرَّأْيِ الهَوَى، وَالعَادَةُ أَمْلَكُ بِالأَدَبِ، وَالحَاجَةُ مَعَ المَحَبَّةِ خَيْرٌ مِنَ الغِنَى مَعَ البِغْضَةِ، وَالدُّنْيَا دُوَلٌ فَمَا كَانَ لَكَ مِنْهَا أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ وَإِنْ قَصُرْتَ فِي طَلَبِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ، وَسُوءُ حَمْلِ الفَاقَةِ(847) تَضَعُ الشَّرَفَ، وَالحَسَدُ دَاءٌ لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ، وَالشَّمَاتَةُ تُعْقِبُ، وَمَنْ بَرَّ يَوْماً بُرَّ بِهِ، وَاللَّوْمَةُ مَعَ السَّفَاهَةِ، وَدِعَامَةُ العَقْلِ الحِلْمُ، وَجِمَاعُ الأَمْرِ الصَّبْرُ، وَخَيْرُ الأُمُورِ مَغَبَّةُ العَفْوِ، وَأَبْقَى المَوَدَّةِ حُسْنُ التَّعَاهُدِ، وَمَنْ يَزُرْ غِبًّا يَزْدَدْ حُبًّا(848).
وصيَّة أكثم بن صيفي عند موته:
جَمَعَ أَكْثَمُ بَنِيهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَقَالَ: يَا بَنِيَّ، إِنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَيَّ دَهْرٌ طَوِيلٌ، وَأَنَا مُزَوِّدُكُمْ مِنْ نَفْسِي قَبْلَ المَمَاتِ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَعَلَيْكُمْ بِالبِرِّ فَإِنَّهُ يُنْمِي عَلَيْهِ العَدَدَ وَلَا يَبِيدُ عَلَيْهِ أَصْلٌ وَلَا يَهْتَصِرُ فَرْعٌ، فَأَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا أَصْلٌ وَلَا يَنْبُتُ عَلَيْهَا فَرْعٌ، كُفُّوا ألسِنَتَكُمْ فَإِنَّ مَقْتَلَ الرَّجُلِ بَيْنَ فَكَّيْهِ، إِنَّ قَوْلَ الحَقِّ لَمْ يَدَعْ لِي صَدِيقاً، انْظُرُوا أَعْنَاقَ الإِبِلِ وَلَا تَضَعُوهَا إِلَّا فِي حَقِّهَا فَإِنَّ فِيهَا مَهْرَ الكَرِيمَةِ وَرَقُوءَ الدَّمِ، وَإِيَّاكُمْ وَنِكَاحَ الحَمْقَاءِ فَإِنَّ نِكَاحَهَا قَذَرٌ وَوُلْدَهَا ضَيَاعٌ، الاِقْتِصَادُ فِي السَّفَرِ أَبْقَى لِلْجِمَامِ(849)، مَنْ لَمْ يَأْسَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(845) العدم - بالضمِّ وبضمَّتين وبالتحريك -: الفقدان، وغُلِّب على فقدان المال.
(846) في بعض النُّسَخ: (من فئتين).
(847) في بعض النُّسَخ: (الريبة).
(848) يعنى الزيارة يوماً، ويوماً لا موجبة للحبِّ.
(849) كذا، والظاهر: (الاقتصاد في السعي أبقى للجمال) كما في رواية السجستاني (ص 12). وأمَّا الجمام كما في الصلب: الراحة، والقوَّة.

(٣٤٧)

عَلَى مَا فَاتَهُ وَدَعَ بَدَنُهُ(850)، مَنْ قَنِعَ بِمَا هُوَ فِيهِ قَرَّتْ عَيْنُهُ، التَّقَدُّمُ قَبْلَ التَّنَدُّمِ، أَنْ أُصْبِحَ عِنْدَ رَأْسِ الأَمْرِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصْبِحَ عِنْدَ ذَنَبِهِ، لَمْ يَهْلِكِ امْرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَهُ، العَجْزُ عِنْدَ البَلَاءِ آفَةُ التَّجَمُّلِ(851)، لَمْ يَهْلِكْ مِنْ مَالِكَ مَا وَعَظَكَ، وَيْلٌ لِعَالِمِ أَمِنَ مِنْ جَهْلِهِ(852)، الوَحْشَةُ ذَهَابُ الأَعْلَامِ، يَتَشَابَهُ الأَمْرُ إِذَا أَقْبَلَ فَإِذَا أَدْبَرَ عَرَفَهُ الكَيِّسُ وَالأَحْمَقُ، البَطَرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ حُمْقٌ، وَفِي طَلَبِ المَعَالِي يَكُونُ العِزُّ، وَلَا تَغْضَبُوا مِنَ اليَسِيرِ فَإِنَّهُ يَجْنِي الكَثِيرَ، لَا تُجِيبُوا فِيمَا لَمْ تُسْأَلُوا(853) عَنْهُ، وَلَا تَضْحَكُوا مِمَّا لَا يُضْحَكُ مِنْهُ، تَبَارُّوا فِي الدُّنْيَا وَلَا تَبَاغَضُوا، الحَسَدُ فِي القُرْبِ فَإِنَّهُ مَنْ يَجْتَمِعْ يَتَقَعْقَعْ عُمُدُهُ(854)، يَتَقَرَّبُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي المَوَدَّةِ، لَا تَتَّكِلُوا عَلَى القَرَابَةِ فَتَقَاطَعُوا فَإِنَّ القَرِيبَ مَنْ قَرَّبَ نَفْسَهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالمَالِ فَأَصْلِحُوهُ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ الأَمْوَالُ إِلَّا بِإِصْلَاحِكُمْ، وَلَا يَتَّكِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى مَالِ أَخِيهِ يَرَى فِيهِ قَضَاءَ حَاجَتِهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَالقَابِضِ عَلَى المَاءِ، وَمَنِ اسْتَغْنَى كَرُمَ عَلَى أَهْلِهِ، وَأَكْرِمُوا الخَيْلَ، نِعْمَ لَهْوُ الحُرَّةِ المَغْزِلُ، وَحِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ الصَّبْرُ.
وعاش قردة بن ثعلبة بن نفاثة(855) السلولي مائة وثلاثين سنة في الجاهليَّة، ثمّ أدرك الإسلام فأسلم.
وعاش مصاد بن جناب بن مرارة من بني عمرو بن يربوع بن حنظلة بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(850) أي سكن. وفي بعض القراءات: (ودّع) أي راح نفسه.
(851) في بعض نُسَخ الحديث: (الجزع عند النازلة آفة التجمُّل).
(852) كذا، وفي جمهرة الأمثال (ج 1/ ص 493) ومجمع الأمثال (ص 219): (ويل لعالم أمر من جاهله).
(853) في بعض النُّسَخ: (عمَّا لا تسألوا).
(854) القعقعة: حكاية صوت السلاح، وقعقعت عمدهم تقعقعت وارتحلوا: يعنى إذا اجتمعوا وتقاربوا وقع بينهم الشرُّ فتفرَّقوا. أو معناه: لا بدَّ من الافتراق بعد الاجتماع. أو من غبط بكثرة العدد واتِّساق الأمر فهو بمعرض الزوال والانتشار.
(855) في أكثر النُّسَخ: (فروة بن ثعلبة بن نفاية)، والظاهر أنَّه تصحيف.

(٣٤٨)

زيد بن مناة أربعين ومائة سنة(856).
وعاش قُسُّ بن ساعدة الأياديُّ ستّمائة سنة، وهو الذي يقول:

هل الغيث مُعطي الأمن عند نزوله * * * بحال مسيء في الأُمور ومحسنِ
وما قد تولَّى وهو قد فات ذاهباً * * * فهل ينفعني ليتني ولو أنَّني

وكذلك يقول لبيد:

وأُخلف قُسًّا ليتني ولو أنَّني * * * وأعيا على لقمان حكم التدبُّرِ

وعاش الحارث بن كعب المذحجيُّ ستِّين ومائة سنة.
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): هذه الأخبار التي ذكرتها في المعمَّرين قد رواها مخالفونا أيضاً من طريق محمّد بن السائب الكلبي، ومحمّد بن إسحاق بن بشَّار(857)، وعوانة بن الحَكَم، وعيسى بن زيد بن آب(858)، والهيثم بن عدي الطائي، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنَّهُ قَالَ: «كُلَّمَا كَانَ فِي الأُمَمِ السَّالِفَةِ يَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مِثْلُهُ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ والقُذَّةِ بِالقُذَّةِ».
وقد صحَّ هذا التعمير فيمن تقدَّم، وصحَّت الغيبات الواقعة بحُجَج الله (عليهم السلام) فيما مضى من القرون.
فكيف السبيل إلى إنكار القائم (عليه السلام) لغيبته وطول عمره مع الأخبار الواردة فيه عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن الأئمَّة (عليهم السلام)؟ وهي التي قد ذكرناها في هذا الكتاب بأسانيدها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(856) وقال شعراً، منها:
إنَّ مصاد بن جناب قد ذهب * * * أدرك من طول الحياة ما طلب
والموت قدر يُدرك يوماً من هرب
(857) تقدَّم الاختلاف في جدِّه أهو يسار أو بشَّار، راجع (ص 98).
(858) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 252): (عيسى بن يزيد بن رئاب).

(٣٤٩)

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الكُوفِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَمِّهِ الحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «كُلَّمَا كَانَ فِي الأُمَمِ السَّالِفَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مِثْلُهُ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالقُذَّةِ بِالقُذَّةِ»(859).
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ القَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ السُّكَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيًّا وَبَشِيراً، لَتَرْكَبَنَّ أُمَّتِي سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهَا حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى لَوْ أَنَّ حَيَّةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَخَلَتْ فِي جُحْرٍ لَدَخَلَتْ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ حَيَّةٌ مِثْلُهَا».
حَدَّثَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ الله(860) (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الحَسَنُ بْنُ رِكَامٍ(861)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّوْفَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى الكِلَابِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ نَجِيحٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ العَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام) يَقُولُ: «فِي القَائِمِ مِنَّا سُنَنٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام)، سُنَّةٌ مِنْ نُوحٍ، وَسُنَّةٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُوسَى، وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَى، وَسُنَّةٌ مِنْ أَيُّوبَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ).
وَأَمَّا مِنْ نُوحٍ (عليه السلام) فَطُولُ العُمُرِ، وَأَمَّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَخَفَاءُ الوِلَادَةِ وَاعْتِزَالُ النَّاسِ، وَأَمَّا مِنْ مُوسَى فَالخَوْفُ وَالغَيْبَةُ، وَأَمَّا مِنْ عِيسَى فَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ، وَأَمَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(859) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 309).
(860) في بعض النُّسَخ: (عبد الله).
(861) في بعض النُّسَخ: (أبو عليّ بن همَّام).

(٣٥٠)

مِنْ أَيُّوبَ (عليه السلام) فَالفَرَجُ بَعْدَ البَلْوَى، وَأَمَّا مِنْ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فَالخُرُوجُ بِالسَّيْفِ»(862).
فمتى صحَّ التعمير لمن تقدَّم عصرنا وصحَّ الخبر بأنَّ السُّنَّة بذلك جارية في القائم (عليه السلام) الثاني عشر من الأئمَّة (عليهم السلام) لم يجز إلَّا أنْ يُعتَقد أنَّه لو بقي في غيبته ما بقي لم يكن القائم غيره، وَأنَّه لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ ذَلِكَ اليَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فَيَمْلَأَهَا قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَعَنِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) بَعْدَهُ.
ولا يحصل لنا الإسلام إلَّا بالتسليم لهم فيما يرد ويصحُّ عنهم، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.
وما في الأزمنة المتقدِّمة من أهل الدِّين والزهد والورع إلَّا مغيِّبين لأشخاصهم، مستترين لأمرهم، يظهرون عند الإمكان والأمن، ويغيبون عند العجز والخوف، وهذا سبيل الدنيا من ابتدائها إلى وقتنا هذا، فكيف صار أمر القائم (عليه السلام) في غيبته من دون جميع الأُمور منكراً؟ إلَّا لما في نفوس الجاحدين من الكفر والضلال وعداوة الدِّين وأهله وبغض النبيِّ والأئمَّة بعده (عليهم السلام).
[قصَّة مَلِك الهند]:
[حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ القَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ السُّكَّرِيُّ(863)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ]: فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ الهِنْدِ كَانَ كَثِيرَ الجُنْدِ وَاسِعَ المَمْلَكَةِ مَهِيباً فِي أَنْفُسِ النَّاسِ، مُظَفَّراً عَلَى الأَعْدَاءِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ عَظِيمَ النَّهْمَةِ(864) فِي شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَمَلَاهِيهَا، مُؤْثِراً لِهَوَاهُ مُطِيعاً لَهُ، وَكَانَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(862) قد مرَّ تحت الرقم (218/3)، فراجع.
(863) في بعض النُّسَخ: (العسكري)، وفي بعضها: (السكوني).
(864) النهمة - بفتح النون -: بلوغ الهمَّة والشهوة في الشيء، ويقال: له في هذا الأمر نهمة أي شهوة.

(٣٥١)

أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَنْصَحُهُمْ لَهُ فِي نَفْسِهِ مَنْ زَيَّنَ لَهُ حَالَهُ وَحَسَّنَ رَأْيَهُ، وَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَغَشُّهُمْ لَهُ فِي نَفْسِهِ مَنْ أَمَرَهُ بِغَيْرِهَا وَتَرَكَ أَمْرَهُ فِيهَا، وَكَانَ قَدْ أَصَابَ المُلْكَ فِيهَا فِي حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَعُنْفُوَانِ شَبَابِهِ، وَكَانَ لَهُ رَأْيٌ أَصِيلٌ وَلِسَانٌ بَلِيغٌ وَمَعْرِفَةٌ بِتَدْبِيرِ النَّاسِ وَضَبْطِهِمْ، فَعَرَفَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ فَانْقَادُوا لَهُ، وَخَضَعَ لَهُ كُلُّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ، وَاجْتَمَعَ لَهُ سُكْرُ الشَّبَابِ وَسُكْرُ السُّلْطَانِ وَالشَّهْوَةُ وَالعُجْبُ، ثُمَّ قَوَّى ذَلِكَ مَا أَصَابَ مِنَ الظَّفَرِ عَلَى مَنْ نَاصَبَهُ وَالقَهْرِ لِأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ وَانْقِيَادِ النَّاسِ لَهُ، فَاسْتَطَالَ عَلَى النَّاسِ وَاحْتَقَرَهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ عُجْباً بِرَأْيِهِ وَنَفْسِهِ لِمَا مَدَحَهُ النَّاسُ وَزَيَّنُوا أَمْرَهُ عِنْدَهُ، فَكَانَ لَا هِمَّةَ لَهُ إِلَّا الدُّنْيَا، وَكَانَتِ الدُّنْيَا لَهُ مُؤَاتِيَةً، لَا يُرِيدُ مِنْهَا شَيْئاً إِلَّا نَالَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ مِئْنَاثاً(865) لَا يُولَدُ لَهُ ذَكَرٌ، وَقَدْ كَانَ الدِّينُ فَشَا فِي أَرْضِهِ قَبْلَ مُلْكِهِ وَكَثُرَ أَهْلُهُ، فَزَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ عَدَاوَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ، وَأَضَرَّ بِأَهْلِ الدِّينِ فَأَقْصَاهُمْ مَخَافَةً عَلَى مُلْكِهِ، وَقَرَّبَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، وَصَنَعَ لَهُمْ أَصْنَاماً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَفَضَّلَهُمْ وَشَرَّفَهُمْ، وَسَجَدَ لِأَصْنَامِهِمْ.
فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ سَارَعُوا إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَالاِسْتِخْفَافِ بِأَهْلِ الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّ المَلِكَ سَأَلَ يَوْماً عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بِلَادِهِ كَانَتْ لَهُ مِنْهُ مَنْزِلَةٌ حَسَنَةٌ وَمَكَانَةٌ رَفِيعَةٌ، وَكَانَ أَرَادَ لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى بَعْضِ أُمُورِهِ وَيُحِبُّهُ وَيُكْرِمُهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنَّهُ قَدْ خَلَعَ الدُّنْيَا وَخَلَا مِنْهَا وَلَحِقَ بِالنُّسَّاكِ، فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى المَلِكِ وَشَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ فِي زِيِّ النُّسَّاكِ وَتَخَشُّعِهِمْ زَبَرَهُ وَشَتَمَهُ(866)، وَقَالَ لَهُ: بَيْنَا أَنْتَ مِنْ عَبِيدِي وَعُيُونِ أَهْلِ مَمْلَكَتِي وَوَجْهِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ إِذْ فَضَحْتَ نَفْسَكَ وَضَيَّعْتَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَاتَّبَعْتَ أَهْلَ البِطَالَةِ وَالخَسَارَةِ حَتَّى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(865) المئناث: التي اعتادت أنْ تلد الإناث، وكذلك الرجل، لأنَّهما يستويان في مفعال. ويقابله المذكار وهي التي تلد الذكور كثيراً.
(866) النُّسَّاك: العُبَّاد. وزبره: أي زجره.

(٣٥٢)

صِرْتَ ضُحْكَةً وَمَثَلاً، وقَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتُكَ لِمُهِمِّ أُمُورِي، وَالاِسْتِعَانَةِ بِكَ عَلَى مَا يَنُوبُنِي.
فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْكَ حَقٌّ فَلِعَقْلِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ، فَاسْتَمِعْ قَوْلِي بِغَيْرِ غَضَبٍ، ثُمَّ اؤْمُرْ بِمَا بَدَا لَكَ بَعْدَ الفَهْمِ وَالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّ الغَضَبَ عَدُوُّ العَقْلِ، وَلِذَلِكَ يَحُولُ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ الفَهْمِ.
قَالَ لَهُ المَلِكُ: قُلْ مَا بَدَا لَكَ.
قَالَ النَّاسِكُ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ أَيُّهَا المَلِكُ أَفِي ذَنْبِي عَلَى نَفْسِي عَتَبْتَ عَلَيَّ أَمْ فِي ذَنْبٍ مِنِّي إِلَيْكَ سَالِفٍ؟
قَالَ المَلِكُ: إِنَّ ذَنْبَكَ إِلَى نَفْسِكَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ عِنْدِي، وَلَيْسَ كُلَّمَا أَرَادَ رَجُلٌ مِنْ رَعِيَّتِي أَنْ يُهْلِكَ نَفْسَهُ أُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أَعُدُّ إِهْلَاكَهُ نَفْسَهُ كَإِهْلَاكِهِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ أَنَا وَلِيُّهُ وَالحَاكِمُ عَلَيْهِ وَلَهُ، فَأَنَا أَحْكُمُ عَلَيْكَ لِنَفْسِكَ وَآخُذُ لَهَا مِنْكَ إِذْ ضَيَّعْتَ أَنْتَ ذَلِكَ.
فَقَالَ لَهُ النَّاسِكُ: أَرَاكَ أَيُّهَا المَلِكُ لَا تَأْخُذُنِي إِلَّا بِحُجَّةٍ وَلَا نَفَاذَ لِحُجَّةٍ إِلَّا عِنْدَ قَاضٍ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنَ النَّاسِ قَاضٍ، لَكِنْ عِنْدَكَ قُضَاةٌ وَأَنْتَ لِأَحْكَامِهِمْ مُنْفِذٌ، وَأَنَا بِبَعْضِهِمْ رَاضٍ، وَمِنْ بَعْضِهِمْ مُشْفِقٌ.
قَالَ المَلِكُ: وَمَا أُولَئِكَ القُضَاةُ؟
قَالَ: أَمَّا الَّذِي أَرْضَى قَضَاءَهُ فَعَقْلُكَ، وَأَمَّا الَّذِي أَنَا مُشْفِقٌ مِنْهُ فَهَوَاكَ.
قَالَ المَلِكُ: قُلْ مَا بَدَا لَكَ وَاصْدُقْنِي خَبَرَكَ وَمَتَى كَانَ هَذَا رَأْيَكَ؟ وَمَنْ أَغْوَاكَ؟
قَالَ: أَمَّا خَبَرِي فَإِنِّي كُنْتُ سَمِعْتُ كَلِمَةً فِي حَدَاثَةِ سِنِّي وَقَعَتْ فِي قَلْبِي فَصَارَتْ كَالحَبَّةِ المَزْرُوعَةِ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تَنْمِي حَتَّى صَارَتْ شَجَرَةً إِلَى مَا تَرَى، وَذَلِكَ أَنِّي [كُنْتُ] قَدْ سَمِعْتُ قَائِلاً يَقُولُ: يَحْسَبُ الجَاهِلُ الأَمْرَ الَّذِي هُوَ لَا شَيْءَ شَيْئاً

(٣٥٣)

وَالأَمْرَ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ لَا شَيْءَ، وَمَنْ لَمْ يَرْفَضِ الأَمْرَ الَّذِي هُوَ لَا شَيْءَ لَمْ يَنَلِ الأَمْرَ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرِ الأَمْرَ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِرَفْضِ الأَمْرِ الَّذِي هُوَ لَا شَيْءَ. وَالشَّيْءُ هُوَ الآخِرَةُ، وَاللَّاشَيْءُ هُوَ الدُّنْيَا. فَكَانَ لِهَذِهِ الكَلِمَةِ عِنْدِي قَرَارٌ لِأَنِّي وَجَدْتُ الدُّنْيَا حَيَاتَهَا مَوْتاً، وَغَنَاهَا فَقْراً، وَفَرَحَهَا تَرَحاً، وَصِحَّتَهَا سُقْماً، وَقُوَّتَهَا ضَعْفاً، وَعِزَّهَا ذُلًّا، وَكَيْفَ لَا تَكُونُ حَيَاتُهَا مَوْتاً وَإِنَّمَا يَحْيَا فِيهَا صَاحِبُهَا لِيَمُوتَ، وَهُوَ مِنَ المَوْتِ عَلَى يَقِينٍ وَمِنَ الحَيَاةِ عَلَى قُلْعَةٍ؟ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ غَنَاؤُهَا فَقْراً وَلَيْسَ يُصِيبُ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئاً إِلَّا احْتَاجَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ يُصْلِحُهُ وَإِلَى أَشْيَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا؟ وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى دَابَّةٍ فَإِذَا أَصَابَهَا احْتَاجَ إِلَى عَلَفِهَا وَقَيِّمِهَا وَمَرْبَطِهَا(867) وَأَدَوَاتِهَا، ثُمَّ احْتَاجَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ يُصْلِحُهُ وَإِلَى أَشْيَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، فَمَتَى تَنْقَضِي حَاجَةُ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ وَفَاقَتُهُ؟
وَكَيْفَ لَا يَكُونُ فَرَحُهَا تَرَحاً وَهِيَ مَرْصَدَةٌ لِكُلِّ مَنْ أَصَابَ مِنْهَا قُرَّةَ عَيْنٍ أَنْ يَرَى مِنْ ذَلِكَ الأَمْرِ بِعَيْنِهِ أَضْعَافَهُ مِنَ الحُزْنِ، إِنْ رَأَى سُرُوراً فِي وَلَدِهِ فَمَا يَنْتَظِرُ مِنَ الأَحْزَانِ فِي مَوْتِهِ وَسُقْمِهِ وَجَائِحَةٌ إِنْ أَصَابَتْهُ أَعْظَمُ مِنْ سُرُورِهِ بِهِ، وَإِنْ رَأَى السُّرُورَ فِي مَالٍ فَمَا يَتَخَوَّفُ مِنَ التَّلَفِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ سُرُورِهِ بِالمَالِ؟ فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَحَقُّ النَّاسِ بِأَنْ لَا يَتَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمَنْ عَرَفَ هَذَا مِنْهَا.
وَكَيْفَ لَا يَكُونُ صِحَّتُهَا سُقْماً وَإِنَّمَا صِحَّتُهَا مِنْ أَخْلَاطِهَا، وَأَصَحُّ أَخْلَاطِهَا وَأَقْرَبُهَا مِنَ الحَيَاةِ الدَّمُ، وَأَظْهَرُ مَا يَكُونُ الإِنْسَانُ دَماً أَخْلَقُ مَا يَكُونُ صَاحِبُهُ بِمَوْتِ الفَجْأَةِ وَالذُّبْحَةِ وَالطَّاعُونِ(868) وَالآكِلَةِ وَالبِرْسَامِ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(867) المربط - بفتح الباء وكسرها -: موضع ربط الدوابِّ.
(868) الذبحة - بضمِّ الذال وفتح الباء، والعامَّة تسكن الباء -: ورم حارٌّ في العضلات من جانب الحلقوم التي بها يكون البلع. وقال العلَّامة: وقد تُطلَق الذبحة على الاختناق أيضاً. والشيخ لا يُفرِّق بينهما، وقيل: هي ورم اللوزتين. (بحر الجواهر: ص 175).

(٣٥٤)

وَكَيْفَ لَا يَكُونُ قُوَّتُهَا ضَعْفاً وَإِنَّمَا تَجْمَعُ القُوَى فِيهَا مَا يَضُرُّهُ وَيُوبِقُهُ؟
وَكَيْفَ لَا يَكُونُ عِزُّهَا ذُلًّا وَلَمْ يُرَ فِيهَا عِزٌّ قَطُّ إِلَّا أَوْرَثَ أَهْلَهُ ذُلًّا طَوِيلاً؟ غَيْرَ أَنَّ أَيَّامَ العِزِّ قَصِيرَةٌ وَأَيَّامَ الذُّلِّ طَوِيلَةٌ.
فَأَحَقُّ النَّاسِ بِذَمِّ الدُّنْيَا لَمَنْ بُسِطَتْ لَهُ الدُّنْيَا فَأَصَابَ حَاجَتَهُ مِنْهَا، فَهُوَ يَتَوَقَّعُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَسَاعَةٍ وَطَرْفَةِ عَيْنٍ أَنْ يُعْدَى عَلَى مَالِهِ فَيَحْتَاجَ، وَعَلَى حَمِيمِهِ فَيُخْتَطَفَ، وَعَلَى جَمْعِهِ فَيُنْهَبَ، وَأَنْ يُؤْتَى بُنْيَانُهُ مِنَ القَوَاعِدِ فَيُهْدَمَ، وَأَنْ يَدِبَّ المَوْتُ إِلَى حَشْدِهِ فَيُسْتَأْصَلَ، ويُفْجَعَ بِكُلِّ مَا هُوَ بِهِ ضَنِينٌ.
فَأَذُمُّ إِلَيْكَ أَيُّهَا المَلِكُ الدُّنْيَا الآخِذَةَ مَا تُعْطِي وَالمُوَرِّثَةَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّبِعَةَ، السَّلَّابَةَ لِمَنْ تَكْسُو وَالمُوَرِّثَةَ بَعْدَ ذَلِكَ العُرَى، المُوَاضِعَةَ لِمَنْ تَرْفَعُ وَالمُوَرِّثَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الجَزَعَ، التَّارِكَةَ لِمَنْ يَعْشَقُهَا وَالمُوَرِّثَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الشِّقْوَةَ، المُغْوِيَةَ لِمَنْ أَطَاعَهَا وَاغْتَرَّ بِهَا، الغَدَّارَةَ بِمَنِ ائْتَمَنَهَا وَرَكَنَ إِلَيْهَا، هِيَ المَرْكَبُ القَمُوصُ(869)، وَالصَّاحِبُ الخَئُونُ، وَالطَّرِيقُ الزَّلَقُ، وَالمَهْبَطُ المُهْوِي، هِيَ المَكْرُمَةُ الَّتِي لَا تُكْرِمُ أَحَداً إِلَّا أَهَانَتْهُ، المَحْبُوبَةُ الَّتِي لَا تُحِبُّ أَحَداً، المَلْزُومَةُ الَّتِي لَا تَلْزَمُ أَحَداً، يُوَفَّى لَهَا وَتَغْدِرُ، وَيُصْدَقُ لَهَا وَتَكْذِبُ، وَيُنْجَزُ لَهَا وَتُخْلِفُ، هِيَ المُعْوَجَّةُ لِمَنِ اسْتَقَامَ بِهَا، المُتَلَاعِبَةُ بِمَنِ اسْتَمْكَنَتْ(870) مِنْهُ.
بَيْنَا هِيَ تُطْعِمُهُ إِذْ حَوَّلَتْهُ مَأْكُولاً، وَبَيْنَا هِيَ تَخْدُمُهُ إِذْ جَعَلَتْهُ خَادِماً، وَبَيْنَا هِيَ تُضْحِكُهُ إِذْ ضَحِكَتْ مِنْهُ، وَبَيْنَا هِيَ تَشْمَتُهُ إِذْ شَمِتَتْ مِنْهُ(871)، وَبَيْنَا هِيَ تَبْكِيهِ إِذْ بَكَتْ عَلَيْهِ، وَبَيْنَا هِيَ قَدْ بُسِطَتْ يَدُهُ بِالعَطِيَّةِ إِذْ بَسَطَتْهَا بِالمَسْأَلَةِ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا عَزِيزٌ إِذْ أَذَلَّتْهُ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا مُكْرَمٌ إِذْ أَهَانَتْهُ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا مُعَظَّمٌ إِذْ صَارَ مَحْقُوراً،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(869) القموص - على وزان چموش - وبمعناه.
(870) في بعض النُّسَخ: (استمسكت).
(871) في بعض النُّسَخ: (وبينا هي تشتمه إذا شتمت منه). ولعلَّ الصواب: (بينا هي تُسمِنه إذ سمنت منه).

(١٦)

وَبَيْنَا هُوَ رَفِيعٌ إِذْ وَضَعَتْهُ، وَبَيْنَا هِيَ لَهُ مُطِيعَةٌ إِذْ عَصَتْهُ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا مَسْرُورٌ إِذْ أَحْزَنَتْهُ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا شَبْعَانُ إِذْ أَجَاعَتْهُ، وَبَيْنَا هُوَ فِيهَا حَيٌّ إِذْ أَمَاتَتْهُ.
فَأُفٍّ لَهَا مِنْ دَارٍ إِذْ كَانَ هَذَا فِعَالَهَا وَهَذِهِ صِفَتَهَا، تَضَعُ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ غُدْوَةً وَتُعَفِّرُ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ عَشِيَّةً، وَتُحَلِّي الأَيْدِيَ بِأَسْوِرَةِ الذَّهَبِ عَشِيَّةً وَتَجْعَلُهَا فِي الأَغْلَالِ غُدْوَةً، وتُقْعِدُ الرَّجُلَ عَلَى السَّرِيرِ غُدْوَةً وتَرْمِي بِهِ فِي السِّجْنِ عَشِيَّةً، تَفْرُشُ لَهُ الدِّيبَاجَ عَشِيَّةً وتَفْرُشُ لَهُ التُّرَابَ غُدْوَةً، وَتَجْمَعُ لَهُ المَلَاهِيَ وَالمَعَازِفَ غُدْوَةً وَتَجْمَعُ عَلَيْهِ النَّوَائِحَ وَالنَّوَادِبَ عَشِيَّةً، تُحَبِّبُ إِلَى أَهْلِهِ قُرْبَهُ عَشِيَّةً وَتُحَبِّبُ إِلَيْهِمْ بُعْدَهُ غُدْوَةً، تُطَيِّبُ رِيحَهُ غُدْوَةً وَتُنَتِّنُ رِيحَهُ عَشِيَّةً، فَهُوَ مُتَوَقِّعٌ لِسَطَوَاتِهَا غَيْرُ نَاجٍ مِنْ فِتْنَتِهَا وَبَلَائِهَا، تَمَتَّعُ نَفْسُهُ مِنْ أَحَادِيثِهَا، وَعَيْنُهُ مِنْ أَعَاجِيبِهَا، وَيَدُهُ مَمْلُوءَةٌ مِنْ جَمْعِهَا، ثُمَّ تُصْبِحُ الكَفُّ صِفْراً، وَالعَيْنُ هَامِدَةً، ذَهَبَ مَا ذَهَبَ، وَهَوَى مَا هَوَى، وَبَادَ مَا بَادَ، وَهَلَكَ مَا هَلَكَ، تَجِدُ فِي كُلٍّ مِنْ كُلٍّ خَلَفاً، وَتَرْضَى بِكُلٍّ مِنْ كُلٍّ بَدَلاً، تُسْكِنُ دَارَ كُلِّ قَرْنٍ قَرْناً، وَتُطْعِمُ سُؤْرَ كُلِّ قَوْمٍ قَوْماً، تُقْعِدُ الأَرَاذِلَ مَكَانَ الأَفَاضِلِ، وَالعَجَزَةَ مَكَانَ الحَزَمَةِ(872)، تَنْقُلُ أَقْوَاماً مِنَ الجَدْبِ إِلَى الخِصْبِ(873)، وَمِنَ الرِّجْلَةِ إِلَى المَرْكَبِ، وَمِنَ البُؤْسِ إِلَى النِّعْمَةِ، وَمِنَ الشِّدَّةِ إِلَى الرَّخَاءِ، وَمِنَ الشَّقَاءِ إِلَى الخَفْضِ وَالدَّعَةِ، حَتَّى إِذَا غَمَسَتْهُمْ فِي ذَلِكَ انْقَلَبَتْ بِهِمْ فَسَلَبَتْهُمُ الخِصْبَ، وَنَزَعَتْ مِنْهُمُ القُوَّةَ، فَعَادُوا إِلَى أَبْأَسِ البُؤْسِ، وَأَفْقَرِ الفَقْرِ، وَأَجْدَبِ الجَدْبِ.
فَأَمَّا قَوْلُكَ أَيُّهَا المَلِكُ فِي إِضَاعَةِ الأَهْلِ وَتَرْكِهِمْ فَإِنِّي لَمْ أُضَيِّعْهُمْ، وَلَمْ أَتْرُكْهُمْ بَلْ وَصَلْتُهُمْ وَانْقَطَعْتُ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي كُنْتُ وَأَنَا أَنْظُرُ بِعَيْنٍ مَسْحُورَةٍ لَا أَعْرِفُ بِهَا الأَهْلَ مِنَ الغُرَبَاءِ وَلَا الأَعْدَاءَ مِنَ الأَوْلِيَاءِ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنِّي السِّحْرُ اسْتَبْدَلْتُ بِالعَيْنِ المَسْحُورَةِ عَيْناً صَحِيحَةً، وَاسْتَبَنْتُ الأَعْدَاءَ مِنَ الأَوْلِيَاءِ، وَالأَقْرِبَاءَ مِنَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(872) في بعض النُّسَخ: (الفجرة) مكان (البررة).
(873) الجدب: القحط، مقابل الخصب.

(٣٥٦)

الغُرَبَاءِ، فَإِذَا الَّذِينَ كُنْتُ أَعُدُّهُمْ أَهْلِينَ وَأَصْدِقَاءَ وَإِخْوَاناً وَخُلَطَاءَ إِنَّمَا هُمْ سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ(874) لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْكُلَنِي وَتَأْكُلَ بِي، غَيْرَ أَنَّ اخْتِلَافَ مَنَازِلِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ القُوَّةِ، فَمِنْهُمْ كَالأَسَدِ فِي شِدَّةِ السَّوْرَةِ(875)، وَمِنْهُمْ كَالذِّئْبِ فِي الغَارَةِ وَالنُّهْبَةِ، ومِنْهُمْ كَالكَلْبِ فِي الهَرِيرِ وَالبَصْبَصَةِ، وَمِنْهُمْ كَالثَّعْلَبِ فِي الحِيلَةِ وَالسَّرِقَةِ، فَالطُّرُقُ وَاحِدَةٌ وَالقُلُوبُ مُخْتَلِفَةٌ.
فَلَوْ أَنَّكَ أَيُّهَا المَلِكُ فِي عَظِيمِ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ مُلْكِكَ، وَكَثْرَةِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْ أَهْلِكَ وَجُنُودِكَ وَحَاشِيَتِكَ وَأَهْلِ طَاعَتِكَ، نَظَرْتَ فِي أَمْرِكَ عَرَفْتَ أَنَّكَ فَرِيدٌ وَحِيدٌ، لَيْسَ مَعَكَ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ عَامَّةَ الأُمَمِ عَدُوٌّ لَكَ، وَأَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ الَّتِي أُوتِيتَ المُلْكَ عَلَيْهَا كَثِيرَةُ الحَسَدِ(876) مِنْ أَهْلِ العَدَاوَةِ وَالغِشِّ لَكَ الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ عَدَاوَةً لَكَ مِنَ السِّبَاعِ الضَّارِيَةِ، وَأَشَدُّ حَنَقاً عَلَيْكَ مِنْ كُلِّ الأُمَمِ الغَرِيبَةِ، وَإِذَا صِرْتَ إِلَى أَهْلِ طَاعَتِكَ وَمَعُونَتِكَ وَقَرَابَتِكَ وَجَدْتَ لَهُمْ قَوْماً يَعْمَلُونَ عَمَلاً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، يَحْرِصُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَنْقُصُوكَ مِنَ العَمَلِ فَيَزْدَادُوكَ مِنَ الأَجْرِ، وَإِذَا صِرْتَ إِلَى أَهْلِ خَاصَّتِكَ وَقَرَابَتِكَ صِرْتَ إِلَى قَوْمٍ جَعَلْتَ كَدَّكَ وَكَدْحَكَ(877) وَمُهَنَّأَكَ وكَسْبَكَ لَهُمْ، فَأَنْتَ تُؤَدِّي إِلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ الضَّرِيبَةَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ وَإِنْ وَزَعْتَ بَيْنَهُمْ جَمِيعَ كَدِّكَ عَنْكَ بِرَاضٍ فَإِنْ أَنْتَ حَبَسْتَ عَنْهُمْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ البَتَّةَ رَاضٍ، أَفَلَا تَرَى أَنَّكَ أَيُّهَا المَلِكُ وَحِيدٌ لَا أَهْلٌ لَكَ وَلَا مَالٌ؟
فَأَمَّا أَنَا فَإِنَّ لِي أَهْلاً وَمَالاً وَإِخْوَاناً وَأَخَوَاتٍ وَأَوْلِيَاءَ، لَا يَأْكُلُونِي، وَلَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(874) الضاري من الكلاب: ما لهج بالصيد وتعوَّد أكله.
(875) السَّورة - بالفتح -: الحدَّة.
(876) في بعض النُّسَخ: (الحشد)، وهو الجماعة.
(877) الكدُّ: السعي والجدُّ. والكدح في العمل: المجاهدة فيه.

(٣٥٧)

يَأْكُلُونَ بِي، وَيُحِبُّونِّي وَأُحِبُّهُمْ، فَلَا يُفْقَدُ الحُبُّ بَيْنَنَا، يَنْصَحُونِّي وَأَنْصَحُهُمْ فَلَا غِشَّ بَيْنَنَا، وَيَصْدُقُونِّي وَأَصْدُقُهُمْ فَلَا تَكَاذُبَ بَيْنَنَا، وَيُوَالُونِّي وَأُوَالِيهِمْ فَلَا عَدَاوَةَ بَيْنَنَا، يَنْصُرُونِّي وَأَنْصُرُهُمْ فَلَا تَخَاذُلَ بَيْنَنَا، يَطْلُبُونَ الخَيْرَ الَّذِي إِنْ طَلَبْتُهُ مَعَهُمْ لَمْ يَخَافُوا أَنْ أَغْلِبَهُمْ عَلَيْهِ أَوْ أَسْتَأْثِرَ بِهِ دُونَهُمْ، فَلَا فَسَادَ بَيْنَنَا وَلَا تَحَاسُدَ، يَعْمَلُونَ لِي وَأَعْمَلُ لَهُمْ بِأُجُورٍ لَا تَنْفَدُ وَلَا يَزَالُ العَمَلُ قَائِماً بَيْنَنَا، هُمْ هُدَاتِي إِنْ ضَلَلْتُ، وَنُورُ بَصَرِي إِنْ عَمِيتُ، وَحِصْنِي إِنْ أُتِيتُ، وَمِجَنِّي إِنْ رُمِيتُ(878)، وَأَعْوَانِي إِذَا فَزِعْتُ، وَقَدْ تَنَزَّهْنَا عَنِ البُيُوتِ وَالمَخَانِي(879) فَلَا نُرِيدُهَا، وتَرَكْنَا الذَّخَائِرَ وَالمَكَاسِبَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فَلَا تَكَاثُرَ بَيْنَنَا، وَلَا تَبَاغِيَ، وَلَا تَبَاغُضَ، وَلَا تَفَاسُدَ، وَلَا تَحَاسُدَ، وَلَا تَقَاطُعَ، فَهَؤُلَاءِ أَهْلِي أَيُّهَا المَلِكُ وَإِخْوَانِي وَأَقْرِبَائِي وَأَحِبَّائِي، أَحْبَبْتُهُمْ وَانْقَطَعْتُ إِلَيْهِمْ، وَتَرَكْتُ الَّذِينَ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بِالعَيْنِ المَسْحُورَةِ لَـمَّا عَرَفْتُهُمْ، والتَمَسْتُ السَّلَامَةَ مِنْهُمْ.
فَهَذِهِ الدُّنْيَا أَيُّهَا المَلِكُ الَّتِي أَخْبَرْتُكَ أَنَّهَا لَا شَيْءَ، فَهَذَا نَسَبُهَا وَحَسَبُهَا وَمَصِيرُهَا إِلَى مَا قَدْ سَمِعْتَ، وَقَدْ رَفَضْتُهَا لِمَا عَرَفْتُهَا، وَأَبْصَرْتُ الأَمْرَ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ، فَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَيُّهَا المَلِكُ أَنْ أَصِفَ لَكَ مَا أَعْرِفُ عَنْ أَمْرِ الآخِرَةِ الَّتِي هِيَ الشَّيْءُ فَاسْتَعِدَّ إِلَى السَّمَاعِ، تَسْمَعُ غَيْرَ مَا كُنْتَ تَسْمَعُ بِهِ الأَشْيَاءَ.
فَلَمْ يَزِدِ المَلِكُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ قَالَ لَهُ: كَذَبْتَ لَمْ تُصِبْ شَيْئاً، وَلَمْ تَظْفَرْ إِلَّا بِالشَّقَاءِ وَالعَنَاءِ، فَاخْرُجْ وَلَا تُقِيمَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَمْلَكَتِي، فَإِنَّكَ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ.
وَوُلِدَ لِلْمَلِكِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ بَعْدَ إِيَاسِهِ مِنَ الذُّكُورِ غُلَامٌ لَمْ يَرَ النَّاسُ مَوْلُوداً مِثْلَهُ قَطُّ حُسْناً وَجَمَالاً وَضِيَاءً، فَبَلَغَ السُّرُورُ مِنَ المَلِكِ مَبْلَغاً عَظِيماً كَادَ أَنْ يُشْرِفَ مِنْهُ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ مِنَ الفَرَحِ، وَزَعَمَ أَنَّ الأَوْثَانَ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا هِيَ الَّتِي وَهَبَتْ لَهُ الغُلَامَ، فَقَسَمَ عَامَّةَ مَا كَانَ فِي بُيُوتِ أَمْوَالِهِ عَلَى بُيُوتِ أَوْثَانِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(878) المجنُّ: الترس وكلُّ ما وقى من السلاح.
(879) لعلَّه جمع خان وهو الحانوت والفندق. وفي بعض النُّسَخ: (المخابي).

(٣٥٨)

بِالأَكْلِ وَالشُّرْبِ سَنَةً، وَسَمَّى الغُلَامَ يُوذَاسُفَ(880)، وَجَمَعَ العُلَمَاءَ وَالمُنَجِّمِينَ لِتَقْوِيمِ مِيلَادِهِ، فَرَفَعَ المُنَجِّمُونَ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ الغُلَامَ يَبْلُغُ مِنَ الشَّرَفِ وَالمَنْزِلَةِ مَا لَا يَبْلُغُهُ أَحَدٌ قَطُّ فِي أَرْضِ الهِنْدِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ جَمِيعاً، غَيْرَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: مَا أَظُنُّ الشَّرَفَ وَالمَنْزِلَةَ وَالفَضْلَ الَّذِي وَجَدْنَاهُ يَبْلُغُهُ هَذَا الغُلَامُ إِلَّا شَرَفَ الآخِرَةِ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَاماً فِي الدِّينِ وَالنُّسُكِ وَذَا فَضِيلَةٍ فِي دَرَجَاتِ الآخِرَةِ، لِأَنِّي أَرَى الشَّرَفَ الَّذِي تَبْلُغُهُ لَيْسَ يُشْبِهُ شَيْئاً مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا وَهُوَ شَبِيهٌ بِشَرَفِ الآخِرَةِ. فَوَقَعَ ذَلِكَ القَوْلُ مِنَ المَلِكِ مَوْقِعاً كَادَ أَنْ يُنَغِّصَهُ سُرُورَهُ بِالغُلَامِ، وَكَانَ المُنَجِّمُ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ المُنَجِّمِينَ فِي نَفْسِهِ وَأَعْلَمِهِمْ وَأَصْدَقِهِمْ عِنْدَهُ، وَأَمَرَ المَلِكُ لِلْغُلَامِ بِمَدِينَةٍ فَأَخْلَاهَا وَتَخَيَّرَ لَهُ مِنَ الظُّؤُورَةِ(881) وَالخَدَمِ كُلَّ ثِقَةٍ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يُذْكَرَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَوْتٌ وَلَا آخِرَةٌ وَلَا حُزْنٌ وَلَا مَرَضٌ وَلَا فَنَاءٌ حَتَّى تَعْتَادَ ذَلِكَ السِنَتُهُمْ وَتَنْسَاهُ قُلُوبُهُمْ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا بَلَغَ الغُلَامُ أَنْ لَا يَنْطِقُوا عِنْدَهُ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَخَوَّفُونَهُ عَلَيْهِ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيَةً إِلَى اهْتِمَامِهِ بِالدِّينِ وَالنُّسُكِ، وَأَنْ يَتَحَفَّظُوا وَيَتَحَرَّزُوا مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَفَقَّدَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
وَازْدَادَ المَلِكُ عِنْدَ ذَلِكَ حَنَقاً عَلَى النُّسَّاكِ مَخَافَةً عَلَى ابْنِهِ.
وَكَانَ لِذَلِكَ المَلِكُ وَزِيرٌ قَدْ كَفَلَ أَمْرَهُ وَحَمَلَ عَنْهُ مَؤُونَةَ سُلْطَانِهِ، وَكَانَ لَا يَخُونُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ وَلَا يَكْتُمُهُ وَلَا يُؤْثِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَوَانَى فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، وَلَا يُضَيِّعُهُ، وَكَانَ الوَزِيرُ مَعَ ذَلِكَ رَجُلاً لَطِيفاً طَلِقاً مَعْرُوفاً بِالخَيْرِ، يُحِبُّهُ النَّاسُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(880) كذا بالياء في جميع النُّسَخ، والمظنون أنَّه تصحيف، والصواب (بوذاسف)، والكلمة مركَّبة من (بوذا) و(سف)، وقيل: (بوذا) هو الاسم الدِّيني لمؤسِّس الديانة البوذيَّة، ومعناه باللغة السنسكريتيَّة: العالم الذي وصل الحصول على البوذة وهو العلم الكامل. لكن لم أجد في موضع يدخله أداة التعريف، وعلى ما قيل ليس باسم عَلَم بل هو صفة، وبناءً عليه يجوز أنْ يدخله (أل) ويقال: (البوذا)، والعلم عند الله.
(881) جمع الظئر: المرضعة.

(٣٥٩)

وَيَرْضَوْنَ بِهِ إِلَّا أَنَّ أَحِبَّاءَ المَلِكِ وَأَقْرِبَاءَهُ كَانُوا يَحْسُدُونَهُ، وَيَبْغُونَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَقِلُّونَ بِمَكَانِهِ(882).
ثُمَّ إِنَّ المَلِكَ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى الصَّيْدِ وَمَعَهُ ذَلِكَ الوَزِيرُ، فَأَتَى بِهِ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَصَابَتْهُ زَمَانَةٌ شَدِيدَةٌ فِي رِجْلَيْهِ، مُلْقًى فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ لَا يَسْتَطِيعُ بَرَاحاً(883)، فَسَأَلَهُ الوَزِيرُ عَنْ شَأْنِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ السِّبَاعَ أَصَابَتْهُ، فَرَقَّ لَهُ الوَزِيرُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ضُمَّنِي إِلَيْكَ وَاحْمِلْنِي إِلَى مَنْزِلِكَ فَإِنَّكَ تَجِدُ عِنْدِي مَنْفَعَةً، فَقَالَ الوَزِيرُ: إِنِّي لَفَاعِلٌ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ عِنْدَكَ مَنْفَعَةً، وَلَكِنْ يَا هَذَا مَا المَنْفَعَةُ الَّتِي تَعِدُنِيهَا، هَلْ تَعْمَلُ عَمَلاً أَوْ تُحْسِنُ شَيْئاً؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ أَنَا أَرْتِقُ الكَلَامَ(884)، فَقَالَ: وَكَيْفَ تَرْتِقُ الكَلَامَ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ فِيهِ فَتْقٌ أَرْتِقُهُ حَتَّى لَا يَجِيءَ مِنْ قِبَلِهِ فَسَادٌ، فَلَمْ يَرَ الوَزِيرُ قَوْلَهُ شَيْئاً، وَأَمَرَ بِحَمْلِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِمَا يُصْلِحُهُ حَتَّى إِذْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ احْتَالَ أَحِبَّاءُ المَلِكِ لِلْوَزِيرِ وَضَرَبُوا لَهُ الأُمُورَ ظَهْراً وَبَطْناً، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ دَسُّوا رَجُلاً مِنْهُمْ إِلَى المَلِكِ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا المَلِكُ إِنَّ هَذَا الوَزِيرَ يَطْمَعُ فِي مُلْكِكَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِكَ فَهُوَ يُصَانِعُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ دَائِباً، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ صِدْقَ ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَكَ أَنْ تَرْفِضَ المُلْكَ وَتَلْحَقَ بِالنُّسَّاكِ، فَإِنَّكَ سَتَرَى مِنْ فَرَحِهِ بِذَلِكَ مَا تَعْرِفُ بِهِ أَمْرَهُ، وَكَانَ القَوْمُ قَدْ عَرَفُوا مِنَ الوَزِيرِ رِقَّةً عِنْدَ ذِكْرِ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَالمَوْتِ وَلِيناً لِلنُّسَّاكِ وَحُبًّا لَهُمْ، فَعَمِلُوا فِيهِ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَظْفَرُونَ بِحَاجَتِهِمْ مِنْهُ، فَقَالَ المَلِكُ: لَئِنْ أَنَا هَجَمْتُ مِنْهُ عَلَى هَذَا لَمْ أَسْال عَمَّا سِوَاهُ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الوَزِيرُ قَالَ لَهُ المَلِكُ: إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ حِرْصِي عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبِ المُلْكِ، وَإِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ مَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ أَجِدْ مَعِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(882) في بعض النُّسَخ: (يستثقلون بمكانه).
(883) أي لا يستطيع تحوُّلاً.
(884) رتق الفتق: أصلحه، يقال: هو راتق، أي مصلح الأمر.

(٣٦٠)

مِنْهُ طَائِلاً، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ الَّذِي بَقِيَ مِنْهُ كَالَّذِي مَضَى، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَضِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِأَجْمَعِهِ، فَلَا يَصِيرَ فِي يَدِي مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَعْمَلَ فِي حَالِ الآخِرَةِ عَمَلاً قَوِيًّا عَلَى قَدْرِ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِي فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ الحَقَ بِالنُّسَّاكِ وَأُخَلِّيَ هَذَا العَمَلَ لِأَهْلِهِ، فَمَا رَأْيُكَ؟
قَالَ: فَرَقَّ الوَزِيرُ لِذَلِكَ رِقَّةً شَدِيدَةً حَتَّى عَرَفَ المَلِكُ ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا المَلِكُ إِنَّ البَاقِيَ وَإِنْ كَانَ عَزِيزاً لَأَهْلٌ أَنْ يُطْلَبَ، وَإِنَّ الفَانِيَ وَإِنِ اسْتَمْكَنْتَ مِنْهُ لَأَهْلٌ أَنْ يُرْفَضَ، وَنِعْمَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْمَعَ اللهُ لَكَ مَعَ الدُّنْيَا شَرَفَ الآخِرَةِ.
قَالَ: فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى المَلِكِ وَوَقَعَ مِنْهُ كُلَّ مَوْقِعٍ وَلَمْ يُبْدِ لَهُ شَيْئاً غَيْرَ أَنَّ الوَزِيرَ عَرَفَ الثِّقْلَ فِي وَجْهِهِ، فَانْصَرَفَ إِلَى أَهْلِهِ كَئِيباً حَزِيناً لَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُتِيَ وَلَا مَنْ دَهَاهُ(885)، وَلَا يَدْرِي مَا دَوَاءُ المَلِكِ فِيمَا اسْتَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَسَهَرَ لِذَلِكَ عَامَّةَ اللَّيْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ يَرْتِقُ الكَلَامَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ كُنْتَ ذَكَرْتَ لِي ذِكْراً مِنْ رَتْقِ الكَلَامِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَجَلْ، فَهَلِ احْتَجْتَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ الوَزِيرُ: نَعَمْ، أُخْبِرُكَ أَنِّي صَحِبْتُ هَذَا المَلِكَ قَبْلَ مُلْكِهِ وَمُنْذُ صَارَ مَلِكاً، فَلَمْ أَسْتَنْكِرْهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَطُّ لِمَا يَعْرِفُهُ مِنْ نَصِيحَتِي وَشَفَقَتِي وَإِيثَارِي إِيَّاهُ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، حَتَّى إِذَا كَانَ هَذَا اليَوْمُ اسْتَنْكَرْتُهُ اسْتِنْكَاراً شَدِيداً لَا أَظُنُّ لِي خَيْراً عِنْدَهُ بَعْدَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاتِقُ: هَلْ لِذَلِكَ سَبَبٌ أَوْ عِلَّةٌ؟ قَالَ الوَزِيرُ: نَعَمْ، دَعَانِي أَمْسِ وقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا، فَقُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: مِنْ هَاهُنَا جَاءَ الفَتْقُ، وَأَنَا أَرْتِقُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ.
اعْلَمْ أَنَّ المَلِكَ قَدْ ظَنَّ أَنَّكَ تُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّى هُوَ عَنْ مُلْكِهِ وَتَخْلُفَهُ أَنْتَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ فَاطْرَحْ عَنْكَ ثِيَابَكَ وَحِلْيَتَكَ وَالبَسْ أَوْضَعَ مَا تَجِدُهُ مِنْ ذِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(885) في بعض النُّسَخ: (ما دهاه).

(٣٦١)

النُّسَّاكِ وَأَشْهَرَهُ، ثُمَّ احْلِقْ رَأْسَكَ وَامْضِ عَلَى وَجْهِكَ إِلَى بَابِ المَلِكِ فَإِنَّ المَلِكَ سَيَدْعُو بِكَ وَيَسْأَلُكَ عَنِ الَّذِي صَنَعْتَ، فَقُلْ لَهُ: هَذَا الَّذِي دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُشِيرَ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ إِلَّا وَاسَاهُ فِيهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ، وَمَا أَظُنُّ الَّذِي دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ إِلَّا خَيْراً مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَقُمْ إِذَا بَدَا لَكَ، فَفَعَلَ الوَزِيرُ ذَلِكَ فَتَخَلَّى عَنْ نَفْسِ المَلِكِ مَا كَانَ فِيهَا عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَمَرَ المَلِكُ بِنَفْيِ النُّسَّاكِ مِنْ جَمِيعِ بِلَادِهِ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِالقَتْلِ، فَجَدُّوا فِي الهَرَبِ وَالاِسْتِخْفَاءِ.
ثُمَّ إِنَّ المَلِكَ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ مُتَصَيِّداً، فَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى شَخْصَيْنِ مِنْ بَعِيدٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا، فَأُتِيَ بِهِمَا، فَإِذَا هُمَا نَاسِكَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا بَالُكُمَا لَنْ تَخْرُجَا مِنْ بِلَادِي؟ قَالَا: قَدْ أَتَتْنَا رُسُلُكَ وَنَحْنُ عَلَى سَبِيلِ الخُرُوجِ، قَالَ: وَلِـمَ خَرَجْتُمَا رَاجِلَيْنِ؟ قَالَا: لِأَنَّا قَوْمٌ ضُعَفَاءُ لَيْسَ لَنَا دَوَابُّ وَلَا زَادٌ وَلَا نَسْتَطِيعُ الخُرُوجَ إِلَّا التَّقْصِيرِ، قَالَ المَلِكُ: إِنَّ مَنْ خَافَ المَوْتَ أَسْرَعَ بِغَيْرِ دَابَّةٍ وَلَا زَادٍ، فَقَالَا لَهُ: إِنَّا لَا نَخَافُ المَوْتَ، بَلْ لَا نَنْظُرُ قُرَّةَ عَيْنٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ إِلَّا فِيهِ.
قَالَ المَلِكُ: وَكَيْفَ لَا تَخَافَانِ المَوْتَ وَقَدْ زَعَمْتُمَا أَنَّ رُسُلَنَا لَـمَّا أَتَتْكُمُ وَأَنْتُمْ عَلَى سَبِيلِ الخُرُوجِ، أَفَلَيْسَ هَذَا هُوَ الهَرَبَ مِنَ المَوْتِ؟ قَالَا: إِنَّ الهَرَبَ مِنَ المَوْتِ لَيْسَ مِنَ الفَرَقِ(886)، فَلَا تَظُنَّ أَنَّا فَرَقْنَاكَ، وَلَكِنَّا هَرَبْنَا مِنْ أَنْ نُعِينَكَ عَلَى أَنْفُسِنَا، فَأَسِفَ المَلِكُ وَأَمَرَ بِهِمَا أَنْ يُحْرَقَا بِالنَّارِ، وَأَذِنَ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ بِأَخْذِ النُّسَّاكِ وَتَحْرِيقِهِمْ بِالنَّارِ، فَتَجَرَّدَ رُؤَسَاءُ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ فِي طَلَبِهِمْ وَأَخَذُوا مِنْهُمْ بَشَراً كَثِيراً وَأَحْرَقُوهُمْ بِالنَّارِ، فَمِنْ ثَمَّ صَارَ التَّحْرِيقُ سُنَّةً بَاقِيَةً فِي أَرْضِ الهِنْدِ، وَبَقِيَ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الأَرْضِ قَوْمٌ قَلِيلٌ مِنَ النُّسَّاكِ كَرِهُوا الخُرُوجَ مِنَ البِلَادِ، وَاخْتَارُوا الغَيْبَةَ وَالاِسْتِخْفَاءَ، لِيَكُونُوا دُعَاةً وَهُدَاةً لِمَنْ وَصَلُوا إِلَى كَلَامِهِمْ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(886) الفرق - محرَّكة -: الخوف.

(٣٦٢)

فَنَبَتَ ابْنُ المَلِكِ أَحْسَنَ نَبَاتٍ فِي جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَعِلْمِهِ وَرَأْيِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ مِنَ الآدَابِ إِلَّا بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ المُلُوكُ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ مَوْتٍ وَلَا زَوَالٍ وَلَا فَنَاءٍ، وَأُوتِيَ الغُلَامُ مِنَ العِلْمِ وَالحِفْظِ شَيْئاً كَانَ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ العَجَائِبِ، وَكَانَ أَبُوهُ لَا يَدْرِي أَيَفْرَحُ بِمَا أُوتِيَ ابْنُهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَحْزَنُ لَهُ لِمَا يَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَهُ ذَلِكَ إِلَى مَا قِيلَ فِيهِ.
فَلَمَّا فَطَنَ الغُلَامُ بِحَصْرِهِمْ إِيَّاهُ فِي المَدِينَةِ وَمَنْعِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ الخُرُوجِ وَالنَّظَرِ وَالاِسْتِمَاعِ وَتَحَفُّظِهِمْ عَلَيْهِ ارْتَابَ لِذَلِكَ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: هَؤُلَاءِ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُنِي مِنِّي حَتَّى إِذَا ازْدَادَ بِالسِّنِّ وَالتَّجْرِبَةِ عِلْماً قَالَ: مَا أَرَى لِهَؤُلَاءِ عَلَيَّ فَضْلاً، وَمَا أَنَا بِحَقِيقٍ أَنْ أُقَلِّدَهُمْ أَمْرِي، فَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَ أَبَاهُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلَهُ عَنْ سَبَبِ حَصْرِهِ إِيَّاهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا هَذَا الأَمْرُ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ، وَمَا كَانَ لِيُطْلِعَنِي عَلَيْهِ، وَلَكِنِّي حَقِيقٌ أَنْ التَمِسَ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَرْجُو إِدْرَاكَهُ، وَكَانَ فِي خَدَمِهِ رَجُلٌ كَانَ الطَفَهُمْ بِهِ وَأَرْأَفَهُمْ بِهِ، وَكَانَ الغُلَامُ إِلَيْهِ مُسْتَأْنِساً، فَطَمِعَ الغُلَامُ فِي إِصَابَةِ الخَبَرِ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَازْدَادَ لَهُ مُلَاطَفَةً وَبِهِ اسْتِينَاساً. ثُمَّ إِنَّ الغُلَامَ وَاضَعَهُ الكَلَامَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ بِاللِّينِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَالِدِهِ وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي لَأَظُنُّ هَذَا المُلْكَ صَائِراً لِي بَعْدَ وَالِدِي، وَأَنْتَ فِيهِ صَائِرٌ أَحَدَ رَجُلَيْنِ إِمَّا أَعْظَمَ النَّاسِ مِنْهُ مَنْزِلَةً، وَإِمَّا أَسْوَأَ النَّاسِ حَالاً، قَالَ لَهُ الحَاضِنُ(887): وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَتَخَوَّفُ فِي مُلْكِكَ سُوءَ الحَالِ؟ قَالَ: بِأَنْ تَكْتُمَنِي اليَوْمَ أَمْراً أَفْهَمُهُ غَداً مِنْ غَيْرِكَ، فَأَنْتَقِمَ مِنْكَ بِأَشَدِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْكَ، فَعَرَفَ الحَاضِنُ مِنْهُ الصِّدْقَ وَطَمَعَ مِنْهُ فِي الوَفَاءِ، فَأَفْشَى إِلَيْهِ خَبَرَهُ، وَالَّذِي قَالَ المُنَجِّمُونَ لِأَبِيهِ، وَالَّذِي حَذَّرَ أَبُوهُ مِنْ ذَلِكَ، فَشَكَرَ لَهُ الغُلَامُ ذَلِكَ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(887) الحاضن فاعل من حضنه أي جعله في حضنه، والحضن ما دون الإبط إلى الكشح أو الصدر والعضدان وما بينهما: أي الحافظ والمؤدِّب.

(٣٦٣)

أَبُوهُ قَالَ: يَا أَبَةِ، إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ صَبِيًّا فَقَدْ رَأَيْتُ فِي نَفْسِي وَاخْتِلَافِ حَالِي أَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَذْكُرُ وَأَعْرِفُ بِمَا لَا أَذْكُرُ مِنْهُ مَا أَعْرِفُ، وَأَنَا أَعْرِفُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى هَذَا المِثَالِ، وَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى هَذِهِ الحَالِ، وَلَا أَنْتَ كَائِنٌ عَلَيْهَا إِلَى الأَبَدِ، وَسَيُغَيِّرُكَ الدَّهْرُ عَنْ حَالِكَ هَذِهِ، فَلَئِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ أَنْ تُخْفِيَ عَنِّي أَمْرَ الزَّوَالِ فَمَا خَفِيَ عَلَيَّ ذَلِكَ، وَلَئِنْ كُنْتَ حَبَسْتَنِي عَنِ الخُرُوجِ وَحُلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ لِكَيْ لَا تَتُوقَ نَفْسِي إِلَى غَيْرِ مَا أَنَا فِيهِ لَقَدْ تَرَكْتَنِي بِحَصْرِكَ إِيَّايَ، وَإِنَّ نَفْسِي لَقَلِقَةٌ مِمَّا تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى مَا لِي هَمٌ غَيْرُهُ، وَلَا أَرَدْتُ سِوَاهُ، حَتَّى لَا يَطْمَئِنُّ قَلْبِي إِلَى شَيْءٍ مِمَّا أَنَا فِيهِ، وَلَا أَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا آلَفُهُ، فَخَلِّ عَنِّي وَأَعْلِمْنِي بِمَا تَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ وَتَحْذَرُهُ حَتَّى أَجْتَنِبَهُ وَأُوثِرَ مُوَافَقَتَكَ وَرِضَاكَ عَلَى مَا سِوَاهُمَا.
فَلَمَّا سَمِعَ المَلِكُ ذَلِكَ مِنِ ابْنِهِ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مَا الَّذِي يَكْرَهُهُ، وَأَنَّهُ مِنْ حَبْسِهِ وَحَصْرِهِ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا إِغْرَاءً وَحِرْصاً عَلَى مَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، مَا أَرَدْتُ بِحَصْرِي إِيَّاكَ إِلَّا أَنْ أُنَحِّيَ عَنْكَ الأَذَى، فَلَا تَرَى إِلَّا مَا يُوَافِقُكَ وَلَا تَسْمَعُ إِلَّا مَا يَسُرُّكَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ هَوَاكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ آثَرَ الأَشْيَاءِ عِنْدِي مَا رَضِيتَ وَهَوِيتَ.
ثُمَّ أَمَرَ المَلِكُ أَصْحَابَهُ أَنْ يُرْكِبُوهُ فِي أَحْسَنِ زِينَةٍ، وَأَنْ يُنَحُّوا عَنْ طَرِيقِهِ كُلَّ مَنْظَرٍ قَبِيحٍ، وَأَنْ يُعِدُّوا لَهُ المَعَازِفَ وَالمَلَاهِيَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَجَعَلَ بَعْدَ رَكْبَتِهِ تِلْكَ يُكْثِرُ الرُّكُوبَ، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى طَرِيقٍ قَدْ غَفَلُوا عَنْهُ، فَأَتَى عَلَى رَجُلَيْنِ مِنَ السُّؤَّالِ(888) أَحَدُهُمَا قَدْ تَوَرَّمَ وَذَهَبَ لَحْمُهُ، وَاصْفَرَّ جِلْدُهُ، وَذَهَبَ مَاءُ وَجْهِهِ، وَسَمُجَ مَنْظَرُهُ، وَالآخَرُ أَعْمَى يَقُودُهُ قَائِدٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ اقْشَعَرَّ مِنْهُمَا، وَسَأَلَ عَنْهُمَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذَا المُوَرَّمَ مِنْ سُقْمٍ بَاطِنٍ، وَهَذَا الأَعْمَى مِنْ زَمَانَةٍ، فَقَالَ ابْنُ المَلِكِ: وَإِنَّ هَذَا البَلَاءَ لَيُصِيبُ غَيْرَ وَاحِدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ يَأْمَنُ أَحَدٌ مِنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(888) في بعض النُّسَخ: (فأتى عليه رجلان من السُّؤَّال).

(٣٦٤)

نَفْسِهِ أَنْ يُصِيبَهُ مِثْلُ هَذَا؟ قَالُوا: لَا، وَانْصَرَفَ يَوْمَئِذٍ مَهْمُوماً ثَقِيلاً مَحْزُوناً بَاكِياً مُسْتَخِفًّا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ مُلْكِهِ وَمُلْكِ أَبِيهِ، فَلَبِثَ بِذَلِكَ أَيَّاماً.
ثُمَّ رَكِبَ رَكْبَةً فَأَتَى فِي مَسِيرِهِ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ قَدِ انْحَنَى مِنَ الكِبَرِ، وَتَبَدَّلَ خَلْقُهُ، وَابْيَضَّ شَعْرُهُ، وَاسْوَدَّ لَوْنُهُ، وَتَقَلَّصَ جِلْدُهُ(889)، وَقَصُرَ خَطْوُهُ، فَعَجِبَ مِنْهُ، وَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَذَا الهَرَمُ، فَقَالَ: وَفِي كَمْ تَبْلُغُ الرَّجُلُ مَا أَرَى؟ قَالُوا: فِي مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَ: فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: المَوْتُ، قَالَ: فَمَا يُخَلَّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنَ المُدَّةِ؟ قَالُوا: لَا، وَلَيَصِيرَنَّ إِلَى هَذَا فِي قَلِيلٍ مِنَ الأَيَّامِ، فَقَالَ: الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْماً، وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً، وَانْقِضَاءُ العُمُرِ مِائَةُ سَنَةٍ، فَمَا أَسْرَعَ اليَوْمَ فِي الشَّهْرِ، وَمَا أَسْرَعَ الشَّهْرَ فِي السَّنَةِ، وَمَا أَسْرَعَ السَّنَةَ فِي العُمُرِ، فَانْصَرَفَ الغُلَامُ وَهَذَا كَلَامُهُ يَبْدَؤُهُ وَيُعِيدُهُ مُكَرِّراً لَهُ.
ثُمَّ سَهَرَ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا، وَكَانَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ ذَكِيٌّ، وَعَقْلٌ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ نِسْيَاناً وَلَا غَفْلَةً، فَعَلَاهُ الحُزْنُ وَالاِهْتِمَامُ، فَانْصَرَفَ نَفْسُهُ عَنِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ يُدَارِي أَبَاهُ وَيَتَلَطَّفُ عِنْدَهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَصْغَى بِسَمْعِهِ إِلَى كُلِّ مُتَكَلِّمٍ بِكَلِمَةٍ طَمَعَ أَنْ يَسْمَعَ شَيْئاً يَدُلُّهُ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ، وَخَلَا بِحَاضِنِهِ الَّذِي كَانَ أَفْضَى إِلَيْهِ بِسِرِّهِ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُ مِنَ النَّاسِ أَحَداً شَأْنُهُ غَيْرُ شَأْنِنَا هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ كَانَ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ: النُّسَّاكُ، رَفَضُوا الدُّنْيَا وَطَلَبُوا الآخِرَةَ، وَلَهُمْ كَلَامٌ وَعِلْمٌ لَا يُدْرَى مَا هُوَ، غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ عَادُوهُمْ وَأَبْغَضُوهُمْ وَحَرَّقُوهُمْ وَنَفَاهُمُ المَلِكُ عَنْ هَذِهِ الأَرْضِ، فَلَا يُعْلَمُ اليَوْمَ بِبِلَادِنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَإِنَّهُمْ قَدْ غَيَّبُوا أَشْخَاصَهُمْ يَنْتَظِرُونَ الفَرَجَ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ فِي أَوْلِيَاءِ اللهِ قَدِيمَةٌ يَتَعَاطُونَهَا فِي دُوَلِ البَاطِلِ، فَاغْتَصَّ لِذَلِكَ الخَبَرِ فُؤَادُهُ، وَطَالَ بِهِ اهْتِمَامُهُ، وَصَارَ كَالرَّجُلِ المُلْتَمِسِ ضَالَّتَهُ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَذَاعَ خَبَرُهُ فِي آفَاقِ الأَرْضِ، وَشُهِرَ بِتَفَكُّرِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(889) تقلَّص: أي انضمَّ وانزوى.

(٣٦٥)

وَفَهْمِهِ وَعَقْلِهِ وَزَهَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَهَوَانِهَا عَلَيْهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَجُلاً مِنَ النُّسَّاكِ يُقَالُ لَهُ: بِلَوْهَرُ، بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: سَرَنْدِيبُ، كَانَ رَجُلاً نَاسِكاً حَكِيماً، فَرَكِبَ البَحْرَ حَتَّى أَتَى أَرْضَ سُولَابِطَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بَابِ ابْنِ المَلِكِ فَلَزِمَهُ وَطَرَحَ عَنْهُ زِيَّ النُّسَّاكِ وَلَبِسَ زِيَّ التُّجَّارِ، وَتَرَدَّدَ إِلَى بَابِ ابْنِ المَلِكِ حَتَّى عَرَفَ الأَهْلَ وَالأَحِبَّاءَ وَالدَّاخِلِينَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَانَ لَهُ لُطْفُ الحَاضِنِ بِابْنِ المَلِكِ وَحُسْنُ مَنْزِلَتِهِ مِنْهُ أَطَافَ بِهِ بِلَوْهَرُ حَتَّى أَصَابَ مِنْهُ خَلْوَةً، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَجُلٌ مِنْ تُجَّارِ سَرَنْدِيبَ، قَدِمْتُ مُنْذُ أَيَّامٍ، وَمَعِي سِلْعَةٌ عَظِيمَةٌ نَفِيسَةُ الثَّمَنِ، عَظِيمَةُ القَدْرِ، فَأَرَدْتُ الثِّقَةَ لِنَفْسِي فَعَلَيْكَ وَقَعَ اخْتِيَارِي، وَسِلْعَتِي خَيْرٌ مِنَ الكِبْرِيتِ الأَحْمَرِ، وَهِيَ تُبْصِرُ العُمْيَانَ، وَتُسْمِعُ الصُّمَّ، وَتُدَاوِي الأَسْقَامَ، وَتُقَوِّي مِنَ الضَّعْفِ، وَتَعْصِمُ مِنَ الجُنُونِ، وَتَنْصُرُ عَلَى العَدُوِّ، وَلَمْ أَرَ بِهَذَا أَحَداً هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ هَذَا الفَتَى، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَذْكُرَ لَهُ ذَلِكَ ذَكَرْتَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا حَاجَةٌ أَدْخَلْتَنِي عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَنْهُ فَضْلُ سِلْعَتِي لَوْ قَدْ نَظَر إِلَيْهَا، قَالَ الحَاضِنُ لِلْحَكِيمِ: إِنَّكَ لَتَقُولُ شَيْئاً مَا سَمِعْنَا بِهِ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَكَ، وَلَا أَرَى بِكَ بَأْساً، وَمَا مِثْلِي يَذْكُرُ مَا لَا يَدْرِي مَا هُوَ، فَاعْرِضْ عَلَيَّ سِلْعَتَكَ أَنْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنْ رَأَيْتَ شَيْئاً يَنْبَغِي لِي أَنْ أَذْكُرَهُ ذَكَرْتُهُ، قَالَ لَهُ بِلَوْهَرُ: إِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ، وَإِنِّي لَأَرَى فِي بَصَرِكَ ضَعْفاً، فَأَخَافُ إِنْ نَظَرْتَ إِلَى سِلْعَتِي أَنْ يَلْتَمِعَ بَصَرُكَ، وَلَكِنِ ابْنُ المَلِكِ صَحِيحُ البَصَرِ حَدَثُ السِّنِّ وَلَسْتُ أَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سِلْعَتِي، فَإِنْ رَأَى مَا يُعْجِبُهُ كَانَتْ لَهُ مَبْذُولَةً عَلَى مَا يُحِبُّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ مَؤُونَةٌ وَلَا مَنْقَصَةٌ، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَسَعُكَ أَنْ تُحْرِمَهُ إِيَّاهُ أَوْ تَطْوِيَهُ دُونَهُ، فَانْطَلَقَ الحَاضِنُ إِلَى ابْنِ المَلِكِ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ، فَحَسَّ قَلْبُ ابْنِ المَلِكِ بِأَنَّهُ قَدْ وَجَدَ حَاجَتَهُ، فَقَالَ: عَجِّلْ إِدْخَالَ الرَّجُلِ عَلَيَّ لَيْلاً، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي سِرٍّ وَكِتْمَانٍ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَتَهَاوَنُ بِهِ.
فَأَمَرَ الحَاضِنُ بِلَوْهَرَ بِالتَّهَيُّؤِ لِلدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَحَمَلَ مَعَهُ سَفَطاً فِيهِ كُتُبٌ لَهُ،

(٣٦٦)

فَقَالَ الحَاضِنُ: مَا هَذَا السَّفَطُ؟ قَالَ بِلَوْهَرُ: فِي هَذَا السَّفَطِ سِلْعَتِي، فَإِذَا شِئْتَ فَأَدْخِلْنِي عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّى أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ بِلَوْهَرُ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ، وَأَحْسَنَ ابْنُ المَلِكِ إِجَابَتَهُ، وَانْصَرَفَ الحَاضِنُ، وَقَعَدَ الحَكِيمُ عِنْدَ [اِبْنِ] المَلِكِ، فَأَوَّلُ مَا قَالَ لَهُ بِلَوْهَرُ: رَأَيْتُكَ يَا ابْنَ المَلِكِ زِدْتَنِي فِي التَّحِيَّةِ عَلَى مَا تَصْنَعُ بِغِلْمَانِكَ وَأَشْرَافِ أَهْلِ بِلَادِكَ، قَالَ ابْنُ المَلِكِ: ذَلِكَ لِعَظِيمِ مَا رَجَوْتُ عِنْدَكَ، قَالَ بِلَوْهَرُ: لَئِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِي فَقَدْ كَانَ رَجُلاً مِنَ المُلُوكِ فِي بَعْضِ الآفَاقِ يُعْرَفُ بِالخَيْرِ وَيُرْجَى، فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ يَوْماً فِي مَوْكِبِهِ إِذْ عَرَضَ لَهُ فِي مَسِيرِهِ رَجُلَانِ مَاشِيَانِ، لِبَاسُهُمَا الخَلِقَانِ، وَعَلَيْهِمَا أَثَرُ البُؤْسِ وَالضُّرِّ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمَا المَلِكُ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ وَقَعَ عَلَى الأَرْضِ فَحَيَّاهُمَا وَصَافَحَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ وُزَرَاؤُهُ اشْتَدَّ جَزَعُهُمْ مِمَّا صَنَعَ المَلِكُ، فَأَتَوْا أَخاً لَهُ وَكَانَ جَرِيًّا عَلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ المَلِكَ أَزْرَى بِنَفْسِهِ، وَفَضَحَ أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ، وَخَرَّ عَنْ دَابَّتِهِ لِإِنْسَانَيْنِ دَنِيَّيْنِ، فَعَاتِبْهُ عَلَى ذَلِكَ كَيْ لَا يَعُودَ، وَلُمهُ عَلَى مَا صَنَعَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَخُ المَلِكِ، فَأَجَابَهُ المَلِكُ بِجَوَابٍ لَا يَدْرِي مَا حَالُهُ فِيهِ، أَسَاخِطٌ عَلَيْهِ المَلِكُ أَمْ رَاضٍ عَنْهُ، فَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَمَرَ المَلِكُ مُنَادِياً، وَكَانَ يُسَمَّى: مُنَادِيَ المَوْتِ، فَنَادَى فِي فِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّتَهُمْ فِيمَنْ أَرَادُوا قَتْلَهُ، فَقَامَتِ النَّوَائِحُ وَالنَّوَادِبُ فِي دَارِ أَخِ المَلِكِ، وَلَبِسَ ثِيَابَ المَوْتَى وَانْتَهَى إِلَى بَابِ المَلِكِ وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءً شَدِيداً وَنَتَفَ شَعْرَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المَلِكَ دَعَا بِهِ، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ المَلِكُ دَخَلَ عَلَيْهِ وَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ وَنَادَى بِالوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَرَفَعَ يَدَهُ بِالتَّضَرُّعِ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: اقْتَرِبْ أَيُّهَا السَّفِيهُ أَنْتَ تَجْزَعُ مِنْ مُنَادٍ نَادَى عَلَى بَابِكَ بِأَمْرِ مَخْلُوقٍ وَلَيْسَ بِأَمْرِ خَالِقٍ، وَأَنَا أَخُوكَ وَقَدْ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ إِلَيَّ ذَنْبٌ أَقْتُلُكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَلُومُونَنِي عَلَى وُقُوعِي إِلَى الأَرْضِ حِينَ نَظَرْتُ إِلَى مُنَادِي رَبِّي إِلَيَّ وَأَنَا أَعْرَفُ مِنْكُمْ بِذُنُوبِي، فَاذْهَبْ فَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَفَزَّكَ وُزَرَائِي وَسَيَعْلَمُونَ خَطَأَهُمْ.

(٣٦٧)

ثُمَّ أَمَرَ المَلِكُ بِأَرْبَعَةِ تَوَابِيتَ فَصُنِعَتْ لَهُ مِنْ خَشَبٍ فَطَلَى تَابُوتَيْنِ مِنْهَا بِالذَّهَبِ وَتَابُوتَيْنِ بِالقَارِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا مَلَأَ تَابُوتَيِ القَارِ ذَهَباً وَيَاقُوتاً وَزَبَرْجَداً، وَمَلَأَ تَابُوتَيِ الذَّهَبِ جِيَفاً وَدَماً وَعَذِرَةً وَشَعْراً، ثُمَّ جَمَعَ الوُزَرَاءَ وَالأَشْرَافَ الَّذِينَ ظَنَّ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا صَنِيعَهُ بِالرَّجُلَيْنِ الضَّعِيفَيْنِ النَّاسِكَيْنِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ التَّوَابِيتَ الأَرْبَعَةَ وَأَمَرَهُمْ بِتَقْوِيمِهَا، فَقَالُوا: أَمَّا فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ وَمَا رَأَيْنَا وَمَبْلَغِ عَلِمْنَا فَإِنَّ تَابُوتَيِ الذَّهَبِ لَا ثَمَنَ لَهُمَا لِفَضْلِهِمَا، وَتَابُوتَيِ القَارِ لَا ثَمَنَ لَهُمَا لِرَذَالَتِهِمَا، فَقَالَ المَلِكُ: أَجَلْ هَذَا لِعِلْمِكُمْ بِالأَشْيَاءِ وَمَبْلَغِ رَأْيِكُمْ فِيهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِتَابُوتَيِ القَارِ فَنُزِعَتْ عَنْهُمَا صَفَائِحُهُمَا، فَأَضَاءَ البَيْتُ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الجَوَاهِرِ، فَقَالَ: هَذَانِ مَثَلُ الرَّجُلَيْنِ الَّذَيْنِ ازْدَرَيْتُمْ لِبَاسَهُمَا وَظَاهِرَهُمَا، وَهُمَا مَمْلُوءَانِ عِلْماً وَحِكْمَةً وَصِدْقاً وَبِرًّا وَسَائِرَ مَنَاقِبِ الخَيْرِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنَ اليَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالجَوْهَرِ وَالذَّهَبِ.
ثُمَّ أَمَرَ بِتَابُوتَيِ الذَّهَبِ فَنُزِعَ عَنْهُمَا أَثْوَابُهُمَا، فَاقْشَعَرَّ القَوْمُ مِنْ سُوءِ مَنْظَرِهِمَا وَتَأَذَّوْا بِرِيحِهِمَا وَنَتْنِهِمَا، فَقَالَ المَلِكُ: وَهَذَانِ مَثَلُ القَوْمِ المُتَزَيِّنِينَ بِظَاهِرِ الكِسْوَةِ وَاللِّبَاسِ وَأَجْوَافُهُمَا مَمْلُوءَةٌ جَهَالَةً وَعَمًى وَكَذِباً وَجَوْراً وَسَائِرَ أَنْوَاعِ الشَّرِّ الَّتِي هِيَ أَفْظَعُ وَأَشْنَعُ وَأَقْذَرُ مِنَ الجِيَفِ.
قَالَ القَوْمُ لِلْمَلِكِ: قَدْ فُقِّهْنَا وَاتَّعَظْنَا أَيُّهَا المَلِكُ.
ثُمَّ قَالَ بِلَوْهَرُ: هَذَا مَثَلُكَ يَا ابْنَ المَلِكِ فِيمَا تَلَقَّيْتَنِي بِهِ مِنَ التَّحِيَّةِ وَالبِشْرِ، فَانْتَصَبَ يُوذَاسُفُ - ابْنُ المَلِكِ - وَكَانَ مُتَّكِئاً، ثُمَّ قَالَ: زِدْنِي مَثَلاً، قَالَ الحَكِيمُ: إِنَّ الزَّارِعَ خَرَجَ بِبَذْرِهِ الطَّيِّبِ لِيَبْذُرَهُ، فَلَمَّا مَلَأَ كَفَّيْهِ وَنَثَرَهُ وَقَعَ بَعْضُهُ عَلَى حَافَّةِ الطَّرِيقِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنِ التَقَطَهُ الطَّيْرُ، وَوَقَعَ بَعْضُهُ عَلَى صَفَاةٍ قَدْ أَصَابَهَا نَدًى وَطِينٌ، فَمَكَثَ حَتَّى اهْتَزَّ، فَلَمَّا صَارَتْ عُرُوقُهُ إِلَى يُبْسِ الصَّفَاةِ مَاتَ وَيَبِسَ، وَوَقَعَ بَعْضُهُ بِأَرْضٍ ذَاتِ شَوْكٍ فَنَبَتَ حَتَّى سَنْبَلَ، وَكَادَ أَنْ يُثْمِرَ فَغَمَّهُ الشَّوْكُ فَأَبْطَلَهُ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ وَقَعَ فِي الأَرْضِ الطَّيِّبَةِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً فَإِنَّهُ سَلِمَ وَطَابَ وَزَكَى، فَالزَّارِعُ

(٣٦٨)

حَامِلُ الحِكْمَةِ، وَأَمَّا البَذْرُ فَفُنُونُ الكَلَامِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْهُ عَلَى حَافَّةِ الطَّرِيقِ فَالتَقَطَهُ الطَّيْرُ فَمَا لَا يُجَاوِزُ السَّمْعَ مِنْهُ حَتَّى يَمُرَّ صَفْحاً، وَأَمَّا مَا وَقَعَ عَلَى الصَّخْرَةِ فِي النَّدَى فَيَبِسَ حِينَ بَلَغَتْ عُرُوقُهُ الصَّفَاةَ فَمَا اسْتَحْلَاهُ صَاحِبُهُ حَتَّى سَمِعَهُ بِفَرَاغِ قَلْبِهِ وَعَرَفَهُ بِفَهْمِهِ وَلَمْ يَفْقَهْ بِحَصَافَةٍ وَلَا نِيَّةٍ، وَأَمَّا مَا نَبَتَ مِنْهُ وَكَادَ أَنْ يُثْمِرُ فَغَمَّهُ الشَّوْكُ فَأَهْلَكَهُ فَمَا وَعَاهُ صَاحِبُهُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ العَمَلِ بِهِ حَفَّتْهُ الشَّهَوَاتُ فَأَهْلَكَتْهُ، وَأَمَّا مَا زَكَى وَطَابَ وَسَلِمَ مِنْهُ وَانْتُفِعَ بِهِ فَمَا رَآهُ البَصَرُ وَوَعَاهُ الحِفْظُ وَأَنْفَذَهُ العَزْمُ بِقَمْعِ الشَّهَوَاتِ وَتَطْهِيرِ القُلُوبِ مِنْ دَنَسِهَا.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَا تَبْذُرُهُ أَيُّهَا الحَكِيمُ مَا يَزْكُو وَيَسْلَمُ وَيَطِيبُ، فَاضْرِبْ لِي مَثَلَ الدُّنْيَا وغُرُورِ أَهْلِهَا بِهَا.
قَالَ بِلَوْهَرُ: بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلاً حَمَلَ عَلَيْهِ فِيلٌ مُغْتَلِمٌ(890)، فَانْطَلَقَ مُوَلِّياً هَارِباً، وَاتَّبَعَهُ الفِيلُ حَتَّى غَشِيَهُ فَاضْطَرَّهُ إِلَى بِئْرٍ فَتَدَلَّى فِيهَا وَتَعَلَّقَ بِغُصْنَيْنِ نَابِتَيْنِ عَلَى شَفِيرِ البِئْرِ، وَوَقَعَتْ قَدَمَاهُ عَلَى رُؤُوسِ حَيَّاتٍ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالغُصْنَيْنِ فَإِذَا فِي أَصْلِهِمَا جُرَذَانِ يَقْرِضَانِ الغُصْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَبْيَضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى تَحْتِ قَدَمَيْهِ فَإِذَا رُؤُوسُ أَرْبَعِ أَفَاعٍ قَدْ طَلَعْنَ مِنْ جُحْرِهِنَّ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قَعْرِ البِئْرِ إِذَا بِتِنِّينٍ فَاغِرٍ فَاهُ(891) نَحْوَهُ يُرِيدُ التِقَامَهُ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى أَعْلَى الغُصْنَيْنِ إِذَا عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ عَسَلِ النَّحْلِ فَيَطْعَمُ مِنْ ذَلِكَ العَسَلِ، فَألهَاهُ مَا طَعِمَ مِنْهُ، وَمَا نَالَ مِنْ لَذَّةِ العَسَلِ وَحَلَاوَتِهِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الأَفَاعِي اللَّوَاتِي لَا يَدْرِي مَتَى يُبَادِرْنَهَ، وَالهَاهُ عَنِ التِّنِّينِ الَّذِي لَا يَدْرِي كَيْفَ مَصِيرُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي لَهَوَاتِهِ.
أَمَّا البِئْرُ فَالدُّنْيَا مَمْلُوءَةً آفَاتٍ وَبَلَايَا وَشُرُوراً، وَأَمَّا الغُصْنَانِ فَالعُمُرُ، وَأَمَّا الجُرَذَانِ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يُسْرِعَانِ فِي الأَجَلِ، وَأَمَّا الأَفَاعِي الأَرْبَعَةُ فَالأَخْلَاطُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(890) أي شديد الشهوة، يعني فيل مست. اغتلم الشراب: اشتدَّت سورته.
(891) الفاغر: الفاتح فاه.

(٣٦٩)

الأَرْبَعَةُ الَّتِي هِيَ السُّمُومُ القَاتِلَةُ مِنَ المِرَّةِ وَالبَلْغَمِ وَالرِّيحِ وَالدَّمِ الَّتِي لَا يَدْرِي صَاحِبُهَا مَتَى تُهَيِّجَ بِهِ، وَأَمَّا التِّنِّينُ الفَاغِرُ فَاهُ لِيَلْتَقِمَهُ فَالمَوْتُ الرَّاصِدُ الطَّالِبُ، وَأَمَّا العَسَلُ الَّذِي اغْتَرَّ بِهِ المَغْرُورُ فَمَا يَنَالُ النَّاسُ مِنْ لَذَّةِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَنَعِيمِهَا وَدَعَتِهَا مِنْ لَذَّةِ المَطْعَمِ وَالمَشْرَبِ وَالشَّمِّ وَاللَّمْسِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: إِنَّ هَذَا المَثَلَ عَجِيبٌ، وَإِنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ حَقٌّ، فَزِدْنِي مَثَلاً لِلدُّنْيَا وَصَاحِبِهَا المَغْرُورِ بِهَا المُتَهَاوِنِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِيهَا.
قَالَ بِلَوْهَرُ: زَعَمُوا أَنَّ رَجُلاً كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ قُرَنَاءَ، وَكَانَ قَدْ آثَرَ أَحَدَهُمْ عَلَى النَّاسِ جَمِيعاً، وَيَرْكَبُ الأَهْوَالَ وَالأَخْطَارَ بِسَبَبِهِ، وَيُغَرِّرُ بِنَفْسِهِ لَهُ، وَيُشْغَلُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فِي حَاجَتِهِ، وَكَانَ القَرِينُ الثَّانِي دُونَ الأَوَّلِ مَنْزِلَةً، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ حَبِيبٌ إِلَيْهِ أَمِيرٌ عِنْدَهُ، يُكْرِمُهُ وَيُلَاطِفُهُ وَيَخْدُمُهُ وَيُطِيعُهُ وَيَبْذُلُ لَهُ وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ، وَكَانَ القَرِينُ الثَّالِثُ مَجْفُوًّا مَحْقُوراً مُسْتَثْقِلاً، لَيْسَ لَهُ مِنْ وُدِّهِ وَمَالِهِ إِلَّا أَقَلُّهُ، حَتَّى إِذَا نَزَلَ بِالرَّجُلِ الأَمْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى قُرَنَائِهِ الثَّلَاثَةِ، فَأَتَاهُ زَبَانِيَةُ المَلِكِ لِيَذْهَبُوا بِهِ، فَفَزِعَ إِلَى قَرِينِهِ الأَوَّلِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ إِيثَارِي إِيَّاكَ وَبَذْلَ نَفْسِي لَكَ، وَهَذَا اليَوْمُ يَوْمُ حَاجَتِي إِلَيْكَ، فَمَا ذَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: مَا أَنَا لَكَ بِصَاحِبٍ، وَإِنَّ لِي أَصْحَاباً يَشْغَلُونِّي عَنْكَ، هُمُ اليَوْمَ أَوْلَى بِي مِنْكَ، وَلَكِنْ لَعَلِّي أُزَوِّدُكَ ثَوْبَيْنِ لِتَنْتَفِعَ بِهِمَا.
ثُمَّ فَزِعَ إِلَى قَرِينِهِ الثَّانِي ذِي المَحَبَّةِ وَاللُّطْفِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ كَرَامَتِي إِيَّاكَ وَلُطْفِي بِكَ وَحِرْصِي عَلَى مَسَرَّتِكَ، وَهَذَا يَوْمُ حَاجَتِي إِلَيْكَ، فَمَا ذَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَمْرَ نَفْسِي يَشْغَلُنِي عَنْكَ وَعَنْ أَمْرِكَ، فَاعْمِدْ لِشَأْنِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأَنَّ طَرِيقِي غَيْرُ طَرِيقِكَ إِلَّا أَنِّي لَعَلِّي أَخْطُو مَعَكَ خُطُوَاتٍ يَسِيرَةً لَا تَنْتَفِعُ بِهَا، ثُمَّ أَنْصَرِفُ إِلَى مَا هُوَ أَهُمُّ إِلَيَّ مِنْكَ.
ثُمَّ فَزِعَ إِلَى قَرِينِهِ الثَّالِثِ الَّذِي كَانَ يُحَقِّرُهُ وَيَعْصِيهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ أَيَّامَ رَخَائِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي مِنْكَ لمُسْتَحٍ، وَلَكِنَّ الحَاجَةَ اضْطَرَّتْنِي إِلَيْكَ، فَمَا ذَا لِي عِنْدَكَ؟

(٣٧٠)

قَالَ: لَكَ عِنْدِي المُوَاسَاةُ، وَالمُحَافَظَةُ عَلَيْكَ، وَقِلَّةُ الغَفْلَةِ عَنْكَ، فَأَبْشِرْ وَقَرَّ عَيْناً فَإِنِّي صَاحِبُكَ الَّذِي لَا يَخْذُلُكَ وَلَا يُسْلِمُكَ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ قِلَّةُ مَا أَسْلَفْتَنِي وَاصْطَنَعْتَ إِلَيَّ، فَإِنِّي قَدْ كُنْتُ أَحْفَظُ لَكَ ذَلِكَ وَأُوَفِّرُهُ عَلَيْكَ كُلَّهُ، ثُمَّ لَمْ أَرْضَ لَكَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى اتَّجَرْتُ لَكَ بِهِ فَرَبِحْتُ أَرْبَاحاً كَثِيرَةً، فَلَكَ اليَوْمَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَا وَضَعْتَ عِنْدِي مِنْهُ فَأَبْشِرْ، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ رِضَا المَلِكِ عَنْكَ اليَوْمَ وَفَرَجاً مِمَّا أَنْتَ فِيهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ عِنْدَ ذَلِكَ: مَا أَدْرِي عَلَى أَيِّ الأَمْرَيْنِ أَنَا أَشَدُّ حَسْرَةً عَلَيْهِ، عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي القَرِينِ الصَّالِحِ أَمْ عَلَى مَا اجْتَهَدْتُ فِيهِ مِنَ المَحَبَّةِ لِقَرِينِ السَّوْءِ؟
قَالَ بِلَوْهَرُ: فَالقَرِينُ الأَوَّلِ هُوَ المَالُ، وَالقَرِينُ الثَّانِي هُوَ الأَهْلُ وَالوَلَدُ، وَالقَرِينُ الثَّالِثُ هُوَ العَمَلُ الصَّالِحُ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: إِنَّ هَذَا هُوَ الحَقُّ المُبِينُ، فَزِدْنِي مَثَلاً لِلدُّنْيَا وَغُرُورِهَا وَصَاحِبِهَا المَغْرُورِ بِهَا، المُطْمَئِنِّ إِلَيْهَا.
قَالَ بِلَوْهَرُ: كَانَ أَهْلُ مَدِينَةٍ يَأْتُونَ الرَّجُلَ الغَرِيبَ الجَاهِلَ بِأَمْرِهِمْ فَيُمَلِّكُونَهُ عَلَيْهِمْ سَنَةً، فَلَا يَشُكُّ أَنَّ مِلْكَهُ دَائِمٌ عَلَيْهِمْ لِجَهَالَتِهِ بِهِمْ، فَإِذَا انْقَضَتِ السَّنَةُ أَخْرَجُوهُ مِنْ مَدِينَتِهِمْ عُرْيَاناً مُجَرَّداً سَلِيباً، فَيَقَعُ فِي بَلَاءٍ وَشَقَاءٍ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، فَصَارَ مَا مَضَى عَلَيْهِ مِنْ مُلْكِهِ وَبَالاً وَخِزْياً وَمُصِيبَةً وَأَذًى، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ تِلْكَ المَدِينَةِ أَخَذُوا رَجُلاً آخَرَ فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ غُرْبَتَهُ فِيهِمْ لَمْ يَسْتَأْنِسْ بِهِمْ وَطَلَبَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ أَرْضِهِ خَبِيراً بِأَمْرِهِمْ حَتَّى وَجَدَهُ فَأَفْضَى إِلَيْهِ بِسِرِّ القَوْمِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الأَمْوَالِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ فَيُخْرِجَ مِنْهَا مَا اسْتَطَاعَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ حَتَّى يُحْرِزَهُ فِي المَكَانِ الَّذِي يُخْرِجُونَهُ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ القَوْمُ صَارَ إِلَى الكِفَايَةِ وَالسَّعَةِ بِمَا قَدَّمَ وَأَحْرَزَ، فَفَعَلَ مَا قَالَ لَهُ الرَّجُلُ وَلَمْ يُضَيِّعْ وَصِيَّتَهُ.
قَالَ بِلَوْهَرُ: وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ يَا ابْنَ المَلِكِ الَّذِي لَمْ

(٣٧١)

يَسْتَأْنِسْ بِالغُرَبَاءِ وَلَمْ يَغْتَرَّ بِالسُّلْطَانِ، وَأَنَا الرَّجُلُ الَّذِي طَلَبْتَ، وَلَكَ عِنْدِي الدَّلَالَةُ وَالمَعْرِفَةُ وَالمَعُونَةُ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: صَدَقْتَ أَيُّهَا الحَكِيمُ، أَنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ وَأَنْتَ طَلِبَتِيَ الَّتِي كُنْتُ طَلَبْتُهَا، فَصِفْ لِي أَمْرَ الآخِرَةِ تَامًّا، فَأَمَّا الدُّنْيَا فَلَعَمْرِي لَقَدْ صَدَقْتَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ مِنْهَا مَا يَدُلُّنِي عَلَى فَنَائِهَا وَيُزَهِّدُنِي فِيهَا، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهَا حَقِيراً عِنْدِي.
قَالَ بِلَوْهَرُ: إِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا يَا ابْنَ المَلِكِ مِفْتَاحُ الرَّغْبَةِ فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الآخِرَةَ فَأَصَابَ بَابَهَا دَخَلَ مَلَكُوتَهَا، وَكَيْفَ لَا تَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا يَا ابْنَ المَلِكِ وَقَدْ آتَاكَ اللهُ مِنَ العَقْلِ مَا آتَاكَ؟ وَقَدْ تَرَى أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ إِنَّمَا يَجْمَعُهَا أَهْلُهَا لِهَذِهِ الأَجْسَادِ الفَانِيَةِ، وَالجَسَدُ لَا قِوَامَ لَهُ، وَلَا امْتِنَاعَ بِهِ، فَالحَرُّ يُذِيبُهُ، وَالبَرْدُ يُجْمِدُهُ، وَالسَّمُومُ تَتَخَلَّلُهُ، وَالمَاءُ يُغْرِقُهُ، وَالشَّمْسُ تُحْرِقُهُ، وَالهَوَاءُ يُسْقِمُهُ، وَالسِّبَاعُ تَفْتَرِسُهُ، وَالطَّيْرُ تَنْقُرُهُ، وَالحَدِيدُ يَقْطَعُهُ، وَالصِّدَامُ يَحْطِمُهُ، ثُمَّ هُوَ مَعْجُونٌ بِطِيْنَةٍ مِنْ الوَانِ الأَسْقَامِ وَالأَوْجَاعِ وَالأَمْرَاضِ، فَهُوَ مُرْتَهَنٌ بِهَا، مُتَرَقِّبٌ لَهَا، وَجِلٌ مِنْهَا، غَيْرُ طَامِعٍ فِي السَّلَامَةِ مِنْهَا، ثُمَّ هُوَ مُقَارِنُ الآفَاتِ السَّبْعِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهَا ذُو جَسَدٍ، وَهِيَ: الجُوعُ، وَالظَّمَأُ، وَالحَرُّ، وَالبَرْدُ، وَالوَجَعُ، وَالخَوْفُ، وَالمَوْتُ.
فَأَمَّا مَا سَالتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَجِدَ مَا تَحْسَبُهُ بَعِيداً قَرِيباً، وَمَا كُنْتَ تَحْسَبُهُ عَسِيراً يَسِيراً، وَمَا كُنْتَ تَحْسَبُهُ قَلِيلاً كَثِيراً.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَيُّهَا الحَكِيمُ، أَرَأَيْتَ القَوْمَ الَّذِينَ كَانَ وَالِدِي حَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ وَنَفَاهُمْ، أَهُمْ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ بِلَوْهَرُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ وَسُوءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، قَالَ بِلَوْهَرُ: نَعَمْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ، قَالَ: فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ أَيُّهَا الحَكِيمُ؟ قَالَ بِلَوْهَرُ: أَمَّا قَوْلُكَ يَا ابْنَ المَلِكِ فِي سُوءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، فَمَا عَسَى أَنْ يَقُولُوا فِيمَنْ يَصْدُقُ وَلَا يَكْذِبُ، وَيَعْلَمُ وَلَا يَجْهَلُ، وَيَكُفُّ وَلَا يُؤْذِي، وَيُصَلِّي وَلَا

(٣٧٢)

يَنَامُ، وَيَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ، وَيُبْتَلَى فَيَصْبِرُ، وَيَتَفَكَّرُ فَيَعْتَبِرُ، وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ عَنِ الأَمْوَالِ وَالأَهْلِينَ، وَلَا يَخَافُهُمُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ؟
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَكَيْفَ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ وَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُخْتَلِفُونَ؟
قَالَ بِلَوْهَرُ: مَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلُ كِلَابٍ اجْتَمَعُوا عَلَى جِيفَةٍ تَنْهَشُهَا وَيُهَارُّ بَعْضُهَا بَعْضاً، مُخْتَلِفَةَ الالوَانِ وَالأَجْنَاسِ، فَبَيْنَا هِيَ تُقْبِلُ عَلَى الجِيفَةِ إِذْ دَنَا رَجُلٌ مِنْهُمْ فَتَرَكَ بَعْضُهُنَّ بَعْضاً وَأَقْبَلْنَ عَلَى الرَّجُلِ فَيَهِرُّنَّ عَلَيْهِ جَمِيعاً مُتَعَاوِيَاتٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ فِي جِيفَتِهِنَّ حَاجَةٌ، وَلَا أَرَادَ أَنْ يُنَازِعَهُنَّ فِيهَا، وَلَكِنَّهُنَّ عَرَفْنَ غُرْبَتَهُ مِنْهُنَّ فَاسْتَوْحَشْنَ مِنْهُ وَاسْتَأْنَسَ بَعْضُهُنَّ بِبَعْضٍ وَإِنْ كُنَّ مُخْتَلِفَاتٍ مُتَعَادِيَاتٍ فِيمَا بَيْنَهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرِدَ الرَّجُلُ عَلَيْهِنَّ.
قَالَ بِلَوْهَرُ: فَمَثَلُ الجِيفَةِ مَتَاعُ الدُّنْيَا، وَمَثَلُ صُنُوفِ الكِلَابِ ضُرُوبُ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَقْتَتِلُونَ عَلَى الدُّنْيَا وَيُهْرِقُونَ دِمَاءَهُمْ وَيُنْفِقُونَ لَهَا أَمْوَالَهُمْ، وَمَثَلُ الرَّجُلِ الَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الكِلَابُ وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي جِيَفِهِنَّ كَمَثَلِ صَاحِبِ الدِّينِ الَّذِي رَفَضَ الدُّنْيَا وَخَرَجَ مِنْهَا، فَلَيْسَ يُنَازِعُ فِيهَا أَهْلَهَا وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ النَّاسَ مِنْ أَنْ يُعَادُونَهُ لِغُرْبَتِهِ عِنْدَهُمْ، فَإِنْ عَجِبْتَ فَاعْجَبْ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَّا الدُّنْيَا وَجَمْعُهَا وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّفَاخُرُ وَالتَّغَالُبُ عَلَيْهَا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَنْ قَدْ تَرَكَهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَتَخَلَّى عَنْهَا كَانُوا لَهُ أَشَدَّ حَنَقاً مِنْهُمْ لِلَّذِي يُشَاحُّهُمْ عَلَيْهَا، فَأَيُّ حُجَّةٍ يَا ابْنَ المَلِكِ أَدْحَضُ مِنْ تَعَاوُنِ المُخْتَلِفِينَ عَلَى مَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَيْهِ؟
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: اعْمِدْ لِحَاجَتِي.
قَالَ بِلَوْهَرُ: إِنَّ الطَّبِيبَ الرَّفِيقَ إِذْ رَأَى الجَسَدَ قَدْ أَهْلَكَتْهُ الأَخْلَاطُ الفَاسِدَةُ فَأَرَادَ أَنْ يُقَوِّيَهُ وَيُسْمِنَهُ لَمْ يُغَذِّهِ بِالطَّعَامِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالقُوَّةُ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى أَدْخَلَ الطَّعَامَ عَلَى الأَخْلَاطِ الفَاسِدَةِ أَضَرَّ بِالجَسَدِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ وَلَمْ يُقَوِّهِ، وَلَكِنْ يَبْدَأُ بِالأَدْوِيَةِ وَالحِمْيَةِ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِذَا أَذْهَبَ مِنْ جَسَدِهِ الأَخْلَاطَ الفَاسِدَةَ

(٣٧٣)

أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِمَا يُصْلِحُهُ مِنَ الطَّعَامِ، فَحِينَئِذٍ يَجِدُ طَعْمَ الطَّعَامِ وَيَسْمَنُ وَيَقْوَى وَيَحْمِلُ الثَّقَلَ بِمَشِيئَةِ اللهِ (عزَّ وجلَّ).
وَقَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَيُّهَا الحَكِيمُ، أَخْبِرْنِي مَا ذَا تُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؟
قَالَ الحَكِيمُ: زَعَمُوا أَنَّ مَلِكاً مِنَ المُلُوكِ كَانَ عَظِيمَ المُلْكِ كَثِيرَ الجُنْدِ وَالأَمْوَالِ، وَأَنَّهُ بَدَا لَهُ أَنْ يَغْزُوَ مَلِكاً آخَرَ لِيَزْدَادَ مُلْكاً إِلَى مُلْكِهِ وَمَالاً إِلَى مَالِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِالجُنُودِ وَالعِدَدِ وَالعُدَّةِ وَالنِّسَاءِ وَالأَوْلَادِ وَالأَثْقَالِ، فَأَقْبَلُوا نَحْوَهُ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِ، وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُ، فَهَرَبَ وَسَاقَ امْرَأَتَهُ وَأَوْلَادَهُ صِغَاراً، فَألجَأَهُ الطَّلَبُ عِنْدَ المَسَاءِ إِلَى أَجَمَةٍ عَلَى شَاطِئِ النَّهَرِ، فَدَخَلَهَا مَعَ أَهْلِهِ وَوُلْدِهِ وَسَيَّبَ دَوَابَّهُ مَخَافَةَ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ بِصَهِيلِهَا، فَبَاتُوا فِي الأَجَمَةِ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَقْعَ حَوَافِرِ الخَيْلِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَصْبَحَ الرَّجُلُ لَا يُطِيقُ بَرَاحاً، وَأَمَّا النَّهَرُ فَلَا يَسْتَطِيعُ عُبُورَهُ، وَأَمَّا الفَضَاءُ فَلَا يَسْتَطِيعُ الخُرُوجَ إِلَيْهِ لِمَكَانِ العَدُوِّ، فَهُمْ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ قَدْ آذَاهُمُ البَرْدُ وَأَهْجَرَهُمُ الخَوْفُ وَطَوَاهُمُ الجُوعُ، وَلَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ وَلَا مَعَهُمْ زَادٌ وَلَا إِدَامٌ، وَأَوْلَادُهُ صِغَارٌ جِيَاعٌ يَبْكُونَ مِنَ الضُّرِّ الَّذِي قَدْ أَصَابَهُمْ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ بَنِيهِ مَاتَ فَالقَوْهُ فِي النَّهَرِ، فَمَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ يَوْماً آخَرَ، فَقَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إِنَّا مُشْرِفُونَ عَلَى الهَلَاكِ جَمِيعاً، وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُنَا وَهَلَكَ بَعْضُنَا كَانَ خَيْراً مِنْ أَنْ نَهْلِكَ جَمِيعاً، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أُعَجِّلَ ذِبْحَ صَبِيٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانِ فَنَجْعَلَهُ قُوتاً لَنَا وَلِأَوْلَادِنَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِالفَرَجِ، فَإِنْ أَخَّرْنَا ذَلِكَ هَزَلَ الصِّبْيَانُ حَتَّى لَا يُشْبِعَ لُحُومُهُمْ وَنَضْعُفُ حَتَّى لَا نَسْتَطِيعَ الحَرَكَةَ إِنْ وَجَدْنَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً، وَطَاوَعَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَذَبَحَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ وَوَضَعُوهُ بَيْنَهُمْ يَنْهَشُونَهُ، فَمَا ظَنُّكَ يَا ابْنَ المَلِكِ بِذَلِكَ المُضْطَرِّ؟ أَكْلَ الكَلْبِ المُسْتَكْثِرِ يَأْكُلُ، أَمْ أَكْلَ المُضْطَرِّ المُسْتَقِلِّ؟
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: بَلْ أَكْلَ المُسْتَقِلِّ.
قَالَ الحَكِيمُ: كَذَلِكَ أَكْلِي وَشُرْبِي يَا ابْنَ المَلِكِ فِي الدُّنْيَا.

(٣٧٤)

فَقَالَ لَهُ ابْنُ المَلِكِ: أَرَأَيْتَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ أَيُّهَا الحَكِيمُ أَهُوَ شَيْءٌ نَظَرَ النَّاسُ فِيهِ بِعُقُولِهِمْ وَالبَابِهِمْ حَتَّى اخْتَارُوهُ عَلَى مَا سِوَاهُ لِأَنْفُسِهِمْ، أَمْ دَعَاهُمُ اللهُ إِلَيْهِ فَأَجَابُوا؟
قَالَ الحَكِيمُ: عَلَا هَذَا الأَمْرُ وَلَطُفَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ أَوْ بِرَأْيِهِمْ دَبَّرُوهُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ لَدَعَوْا إِلَى عَمَلِهَا وَزِينَتِهَا وَحِفْظِهَا وَدَعَتِهَا وَنَعِيمِهَا وَلَذَّتِهَا وَلَهْوِهَا وَلَعِبِهَا وَشَهَوَاتِهَا، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ غَرِيبٌ وَدَعْوَةٌ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) سَاطِعَةٌ، وَهُدًى مُسْتَقِيمٌ، نَاقِضٌ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا أَعْمَالَهُمْ، مُخَالِفٌ لَهُمْ، عَائِبٌ عَلَيْهِمْ، وَطَاعِنٌ نَاقِلٌ لَهُمْ عَنْ أَهْوَائِهِمْ، دَاعٍ لَهُمْ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَبَيِّنٌ لِمَنْ تَنَبَّهَ، مَكْتُومٌ عِنْدَهُ عَنْ غَيْرِ أَهْلِهِ حَتَّى يُظْهِرَ اللهُ الحَقَّ بَعْدَ خَفَائِهِ وَيَجْعَلَ كَلِمَتَهُ العُلْيَا وَكَلِمَةَ الَّذِينَ جَهِلُوا السُّفْلَى.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: صَدَقْتَ أَيُّهَا الحَكِيمُ.
ثُمَّ قَالَ الحَكِيمُ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَفَكَّرَ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ (عليهم السلام) فَأَصَابَ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَعَتْهُ الرُّسُلُ بَعْدَ مَجِيئِهَا فَأَجَابَ، وَأَنْتَ يَا ابْنَ المَلِكِ مِمَّنْ تَفَكَّرَ بِعَقْلِهِ فَأَصَابَ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَهَلْ تَعْلَمُ أَحَداً مِنَ النَّاسِ يَدْعُو إِلَى التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا غَيْرَكُمْ؟
قَالَ الحَكِيمُ: أَمَّا فِي بِلَادِكُمْ هَذِهِ فَلَا، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الأُمَمِ فَفِيهِمْ قَوْمٌ يَنْتَحِلُونَ الدِّينَ بِألسِنَتِهِمْ وَلَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِأَعْمَالِهِمْ، فَاخْتَلَفَ سَبِيلُنَا وَسَبِيلُهُمْ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: كَيْفَ صِرْتُمْ أَوْلَى بِالحَقِّ مِنْهُمْ(892)، وَإِنَّمَا أَتَاكُمْ هَذَا الأَمْرُ الغَرِيبُ مِنْ حَيْثُ أَتَاهُمْ؟
قَالَ الحَكِيمُ: الحَقُّ كُلُّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَإِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى دَعَا العِبَادَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(892) في بعض النُّسَخ: (فيما جعلكم الله أولى بالحقِّ منهم).

(٣٧٥)

إِلَيْهِ، فَقَبِلَهُ قَوْمٌ بِحَقِّهِ وَشُرُوطِهِ حَتَّى أَدَّوْهُ إِلَى أَهْلِهِ كَمَا أُمِرُوا، لَمْ يَظْلِمُوا وَلَمْ يُخْطِئُوا وَلَمْ يُضَيِّعُوا، وَقَبِلَهُ آخَرُونَ فَلَمْ يَقُومُوا بِحَقِّهِ وَشُرُوطِهِ، وَلَمْ يُؤَدُّوهُ إِلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ عَزِيمَةٌ، وَلَا عَلَى العَمَلِ بِهِ نِيَّةُ ضَمِيرٍ، فَضَيَّعُوهُ وَاسْتَثْقَلُوهُ، فَالمُضَيِّعُ لَا يَكُونُ مِثْلَ الحَافِظِ، وَالمُفْسِدُ لَا يَكُونُ كَالمُصْلِحِ، وَالصَّابِرُ لَا يَكُونُ كَالجَازِعِ، فَمِنْ هَاهُنَا كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ وَأَوْلَى.
ثُمَّ قَالَ الحَكِيمُ: إِنَّهُ لَيْسَ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنَ الدِّينِ وَالتَّزْهِيدِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الآخِرَةِ إِلَّا وَقَدْ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ أَصْلِ الحَقِّ(893) الَّذِي عَنْهُ أَخَذْنَا، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَحْدَاثُهُمُ الَّتِي أَحْدَثُوا، وَابْتِغَاؤُهُمُ الدُّنْيَا وَإِخْلَادُهُمْ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ لَمْ تَزَلْ تَأْتِي وَتَظْهَرُ فِي الأَرْضِ مَعَ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ) فِي القُرُونِ المَاضِيَةِ عَلَى السِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَكَانَ أَهْلُ دَعْوَةِ الحَقِّ أَمْرُهُمْ مُسْتَقِيمٌ، وَطَرِيقُهُمْ وَاضِحٌ، وَدَعْوَتُهُمْ بَيِّنَةٌ، لَا فُرْقَةَ بَيْنَهُمْ وَلَا اخْتِلَافَ، فَكَانَتِ الرُّسُلُ (عليهم السلام) إِذَا بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَاحْتَجُّوا لِلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِحُجَّتِهِ وَإِقَامَةِ مَعَالِمِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ، قَبَضَهُمُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَيْهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ وَمُنْتَهَى مُدَّتِهِمْ، وَمَكَثَتِ الأُمَّةُ مِنَ الأُمَمِ بَعْدَ نَبِيِّهَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهَا لَا تَغَيُّرٌ وَلَا تَبَدُّلٌ، ثُمَّ صَارَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْدِثُونَ الأَحْدَاثَ وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَيُضَيِّعُونَ العِلْمَ، فَكَانَ العَالِمُ البَالِغُ المُسْتَبْصِرُ مِنْهُمْ يُخْفِي شَخْصَهُ وَلَا يُظْهِرُ عِلْمَهُ، فَيَعْرِفُونَهُ بِاسْمِهِ وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَكَانِهِ، وَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ إِلَّا الخَسِيسُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، يَسْتَخِفُّ بِهِ أَهْلُ الجَهْلِ وَالبَاطِلِ، فَيَخْمُلُ العِلْمُ وَيَظْهَرُ الجَهْلُ، وَيَتَنَاسَلُ القُرُونُ فَلَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الجَهْلَ وَالبَاطِلَ، وَيَزْدَادُ الجُهَّالُ اسْتِعْلَاءً وَكَثْرَةً، وَالعُلَمَاءُ خُمُولاً وَقِلَّةً، فَحَوَّلُوا مَعَالِمَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ وُجُوهِهَا، وَتَرَكُوا قَصْدَ سَبِيلِهَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُقِرُّونَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(893) في بعض النُّسَخ: (أهل الحقِّ).

(٣٧٦)

بِتَنْزِيلِهِ، مُتَّبِعُونَ شِبْهَهُ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، مُتَعَلِّقُونَ بِصِفَتِهِ، تَارِكُونَ لِحَقِيقَتِهِ، نَابِذُونَ لِأَحْكَامِهِ، فَكُلُّ صِفَةٍ جَاءَتِ الرُّسُلُ تَدْعُوا إِلَيْهَا فَنَحْنُ لَهُمْ مُوَافِقُونَ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ، مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي أَحْكَامِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ، وَلَسْنَا نُخَالِفُهُمْ فِي شَيْءٍ إِلَّا وَلَنَا عَلَيْهِمُ الحُجَّةُ الوَاضِحَةُ وَالبَيِّنَةُ العَادِلَةُ مِنْ نَعْتِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الكُتُبِ المُنْزَلَةِ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، فَكُلُّ مُتَكَلِّمٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ مِنَ الحِكْمَةِ، فَهِيَ لَنَا وَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ تَشْهَدُ لَنَا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهَا تُوَافِقُ صِفَتَنَا وَسِيرَتَنَا وَحُكْمَنَا، وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَ مِنَ الكِتَابِ إِلَّا وَصْفَهُ، وَلَا مِنَ الدِّينِ إِلَّا اسْمَهُ، فَلَيْسُوا بِأَهْلِ الكِتَابِ حَقِيقَةً حَتَّى يُقِيمُوهُ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَمَا بَالُ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ (عليهم السلام) يَأْتُونَ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ؟
قَالَ الحَكِيمُ: إِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ مَوَاتٌ لَا عُمْرَانَ فِيهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهَا بِعِمَارَتِهِ أَرْسَلَ إِلَيْهَا رَجُلاً جَلْداً أَمِيناً نَاصِحاً، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمُرَ تِلْكَ الأَرْضَ وَأَنْ يَغْرِسَ فِيهَا صُنُوفَ الشَّجَرِ وَأَنْوَاعَ الزَّرْعِ، ثُمَّ سَمَّى لَهُ المَلِكُ الوَاناً مِنَ الغَرْسِ مَعْلُومَةً، وَأَنْوَاعاً مِنَ الزَّرْعِ مَعْرُوفَةً، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ لَا يَعْدُوَ مَا سَمَّى لَهُ، وَأَنْ لَا يُحْدِثَ فِيهَا مِنْ قِبَلِهِ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ أَمَرَهُ بِهِ سَيِّدُهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْرِجَ لَهَا نَهَراً، وَيَسُدَّ عَلَيْهَا حَائِطاً، وَيَمْنَعَهَا مِنْ أَنْ يُفْسِدَهَا مُفْسِدٌ، فَجَاءَ الرَّسُولُ الَّذِي أَرْسَلَهُ المَلِكُ إِلَى تِلْكَ الأَرْضِ فَأَحْيَاهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَعَمَرَهَا بَعْدَ خَرَابِهَا، وَغَرَسَ فِيهَا وَزَرَعَ مِنَ الصُّنُوفِ الَّتِي أَمَرَهُ بِهَا، ثُمَّ سَاقَ المَاءَ إِلَيْهَا حَتَّى نَبَتَ الغَرْسُ وَاتَّصَلَ الزَّرْعُ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ قَلِيلاً حَتَّى مَاتَ قَيِّمُهَا، وَأَقَامَ بَعْدَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِ خَلَفٌ خَالَفُوا مَنْ أَقَامَهُ القَيِّمُ بَعْدَهُ وَغَلَبُوهُ عَلَى أَمْرِهِ، فَأَخْرَبُوا العُمْرَانَ، وَطَمُّوا الأَنْهَارَ، فَيَبِسَ الغَرْسُ، وَهَلَكَ الزَّرْعُ، فَلَمَّا بَلَغَ المَلِكَ خِلَافُهُمْ عَلَى القَيِّمِ بَعْدَ رَسُولِهِ وَخَرَابُ أَرْضِهِ أَرْسَلَ إِلَيْهَا رَسُولاً آخَرَ يُحْيِيهَا وَيُعِيدُهَا وَيُصْلِحُهَا كَمَا

(٣٧٧)

كَانَتْ فِي مَنْزِلَتِهَا الأُولَى، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ (عليهم السلام) يَبْعَثُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) مِنْهُمْ الوَاحِدَ بَعْدَ الوَاحِدِ، فَيُصْلِحُ أَمْرَ النَّاسِ بَعْدَ فَسَادِهِ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَيَخُصُّ الأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ (عليهم السلام) إِذَا جَاءَتْ بِمَا يَبْعَثُ بِهِ أَمْ تُعَمُّ؟
قَالَ بِلَوْهَرُ: إِنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إِذَا جَاءَتْ تَدْعُوا عَامَّةَ النَّاسِ، فَمَنْ أَطَاعَهُمْ كَانَ مِنْهُمْ، وَمَنْ عَصَاهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَمَا تَخْلُو الأَرْضُ قَطُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلهِ (عزَّ وجلَّ) فِيهَا مُطَاعٌ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَمِنْ أَوْصِيَائِهِ، وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ طَائِرٍ كَانَ فِي سَاحِلِ البَحْرِ يُقَالُ لَهُ: قدمٌ(894) يَبِيضُ بَيْضاً كَثِيراً، وَكَانَ شَدِيدَ الحُبِّ لِلْفِرَاخِ وَكَثْرَتِهَا، وَكَانَ يَأْتِي عَلَيْهِ زَمَانٌ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِيهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنِ اتِّخَاذِ أَرْضٍ أُخْرَى حَتَّى يَذْهَبَ ذَلِكَ الزَّمَانُ فَيَأْخُذُ بَيْضَهُ مَخَافَةً عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَهْلِكَ مِنْ شَفَقَتِهِ فَيُفَرِّقُهُ فِي أَعْشَاشِ الطَّيْرِ فَتَحْضُنُ الطَّيْرُ بَيْضَهُ مَعَ بَيْضَتِهَا وَتُخْرِجُ فِرَاخَهُ مَعَ فِرَاخِهَا. فَإِذَا طَالَ مَكْثُ فِرَاخِ قدمٍ مَعَ فِرَاخِ الطَّيْرِ أَلِفَهَا بَعْضُ فِرَاخِ الطَّيْرِ وَاسْتَأْنَسَ بِهَا، فَإِذَا كَانَ الزَّمَانُ الَّذِي يَنْصَرِفُ فِيهِ قدمٌ إِلَى مَكَانِهِ مَرَّ بِأَعْشَاشِ الطَّيْرِ وَأَوْكَارِهَا بِاللَّيْلِ فَأَسْمَعَ فِرَاخَهُ وَغَيْرَهَا صَوْتَهُ، فَإِذَا سَمِعَتْ فِرَاخُهُ صَوْتَهُ تَبِعَتْهُ وَتَبِعَ فِرَاخَهُ مَا كَانَ أَلِفَهَا مِنْ فِرَاخِ سَائِرِ الطَّيْرِ وَلَمْ يُجِبْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ فِرَاخِهِ وَلَا مَا لَمْ يَكُنْ أَلِفَ فِرَاخَهُ، وَكَانَ قَدْ يَضُمُّ إِلَيْهِ مَنْ أَجَابَهُ مِنْ فِرَاخِهِ حُبًّا لِلْفِرَاخِ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ إِنَّمَا يَسْتَعْرِضُونَ النَّاسَ جَمِيعاً بِدُعَائِهِمْ فَيُجِيبُهُمْ أَهْلُ الحِكْمَةِ وَالعَقْلِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِفَضْلِ الحِكْمَةِ، فَمَثَلُ الطَّيْرِ الَّذِي دَعَا بِصَوْتِهِ مَثَلُ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ الَّتِي تَعُمُّ النَّاسَ بِدُعَائِهِمْ، وَمَثَلُ البَيْضِ المُتَفَرِّقِ فِي أَعْشَاشِ الطَّيْرِ مَثَلُ الحِكْمَةِ، وَمَثَلُ سَائِرِ فِرَاخِ الطَّيْرِ الَّتِي أَلِفَتْ مَعَ فِرَاخِ قدمٍ مَثَلُ مَنْ أَجَابَ الحُكَمَاءَ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ، لِأَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) جَعَلَ لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الفَضْلِ وَالرَّأْيِ مَا لَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(894) في بعض النُّسَخ: (قرم)، ولعلَّ الصواب: (قرلي).

(٣٧٨)

مِنَ النَّاسِ، وَأَعْطَاهُمْ مِنَ الحُجَجِ وَالنُّورِ وَالضِّيَاءِ مَا لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُمْ، وَذَلِكَ لِمَا يُرِيدُ مِنْ بُلُوغِ رِسَالَتِهِ وَمَوَاقِعِ حُجَجِهِ، وَكَانَتِ الرُّسُلُ إِذَا جَاءَتْ وَأَظْهَرَتْ دَعْوَتَهَا أَجَابَهُمْ مِنَ النَّاسِ أَيْضاً مَنْ لَمْ يَكُنْ أَجَابَ الحُكَمَاءَ، وَذَلِكَ لِمَا جَعَلَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَى دَعْوَتِهِمْ مِنَ الضِّيَاءِ وَالبُرْهَانِ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَفَرَأَيْتَ مَا يَأْتِي بِهِ الرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ إِذْ زَعَمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ النَّاسِ، وَكَلَامُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) هُوَ كَلَامٌ وَكَلَامُ مَلَائِكَتِهِ كَلَامٌ؟
قَالَ الحَكِيمُ: أَمَا رَأَيْتَ النَّاسَ لَـمَّا أَرَادُوا أَنْ يُفْهِمُوا بَعْضَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ مَا يُرِيدُونَ مِنْ تَقَدُّمِهَا وَتَأَخُّرِهَا وَإِقْبَالِهَا وَإِدْبَارِهَا لَمْ يَجِدُوا الدَّوَابَّ وَالطَّيْرَ تَحْمِلُ كَلَامَهُمُ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُمْ، فَوَضَعُوا مِنَ النَّقْرِ وَالصَّفِيرِ وَالزَّجْرِ مَا يَبْلُغُوا بِهِ حَاجَتَهُمْ وَمَا عَرَفُوا أَنَّهَا تُطِيقُ حَمْلَهُ، وَكَذَلِكَ العِبَادُ يَعْجَزُونَ أَنْ يَعْلَمُوا كَلَامَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَكَلَامَ مَلَائِكَتِهِ عَلَى كُنْهِهِ وَكَمَالِهِ وَلُطْفِهِ وَصِفَتِهِ، فَصَارَ مَا تَرَاجَعَ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنَ الأَصْوَاتِ الَّتِي سَمِعُوا بِهَا الحِكْمَةَ شَبِيهاً بِمَا وَضَعَ النَّاسُ لِلدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الصَّوْتُ مَكَانَ الحِكْمَةِ المُخْبِرَةِ فِي تِلْكَ الأَصْوَاتِ مِنْ أَنْ تَكُونَ الحِكْمَةُ وَاضِحَةً بَيْنَهُمْ، قَوِيَّةً مُنِيرَةً شَرِيفَةً عَظِيمَةً، وَلَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ وُقُوعِ مَعَانِيهَا عَلَى مَوَاقِعِهَا وَبُلُوغِ مَا احْتَجَّ بِهِ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَى العِبَادِ فِيهَا، وَكَانَ الصَّوْتُ لِلْحِكْمَةِ جَسَداً وَمَسْكَناً، وَكَانَتِ الحِكْمَةُ لِلصَّوْتِ نَفْساً وَرُوحاً، وَلَا طَاقَةَ لِلنَّاسِ أَنْ يُنْفِذُوا غَوْرَ كَلَامِ الحِكْمَةِ، وَلَا يُحِيطُوا بِهِ بِعُقُولِهِمْ، فَمِنْ قِبَلِ ذَلِكَ تَفَاضَلَتِ العُلَمَاءُ فِي عِلْمِهِمْ، فَلَا يَزَالُ عَالِمٌ يَأْخُذُ عِلْمَهُ مِنْ عَالِمٍ حَتَّى يَرْجِعَ العِلْمُ إِلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ، وَكَذَلِكَ العُلَمَاءُ قَدْ يُصِيبُونَ مِنَ الحِكْمَةِ وَالعِلْمِ مَا يُنْجِيهِمْ مِنَ الجَهْلِ، وَلَكِنْ لِكُلِّ ذِي فَضْلٍ فَضْلُهُ، كَمَا أَنَّ النَّاسَ يَنَالُونَ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُنْفِذُوهَا بِأَبْصَارِهِمْ، فَهِيَ كَالعَيْنِ الغَزِيرَةِ، الظَّاهِرِ مَجْرَاهَا، المَكْنُونِ عُنْصُرُهَا، فَالنَّاسُ قَدْ يُجِيبُونَ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ

(٣٧٩)

مَائِهَا، وَلَا يُدْرِكُونَ غَوْرَهَا، وَهِيَ كَالنُّجُومِ الزَّاهِرَةِ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ، وَلَا يَعْلَمُونَ مَسَاقِطَهَا، فَالحِكْمَةُ أَشْرَفُ وَأَرْفَعُ وَأَعْظَمُ مِمَّا وَصَفْنَاهَا بِهِ كُلِّهِ، هِيَ مِفْتَاحُ بَابِ كُلِّ خَيْرٍ يُرْتَجَى، وَالنَّجَاةُ مِنْ كُلِّ شَرٍّ يُتَّقَى، وَهِيَ شَرَابُ الحَيَاةِ الَّتِي مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَمُتْ أَبَداً، وَالشِّفَاءُ لِلسَّقَمِ الَّذِي مَنِ اسْتَشْفَى بِهِ لَمْ يَسْقُمْ أَبَداً، وَالطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنْ سَلَكَهُ لَمْ يَضِلَّ أَبَداً، هِيَ حَبْلُ اللهِ المَتِينُ الَّذِي لَا يُخْلِقُهُ طُولُ التَّكْرَارِ، مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ انْجَلَى عَنْهُ العَمَى، وَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ فَازَ وَاهْتَدَى، وَأَخَذَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَمَا بَالُ هَذِهِ الحِكْمَةِ الَّتِي وَصَفْتَ بِمَا وَصَفْتَ مِنَ الفَضْلِ وَالشَّرَفِ وَالاِرْتِفَاعِ وَالقُوَّةِ وَالمَنْفَعَةِ وَالكَمَالِ وَالبُرْهَانِ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ جَمِيعاً؟
قَالَ الحَكِيمُ: إِنَّمَا مَثَلُ الحِكْمَةِ كَمَثَلِ الشَّمْسِ الطَّالِعَةِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الأَبْيَضِ وَالأَسْوَدِ مِنْهُمْ، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، فَمَنْ أَرَادَ الاِنْتِفَاعَ بِهَا لَمْ تَمْنَعْهُ وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِنْ أَقْرَبِهِمْ وَأَبْعَدِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يُرِدِ الاِنْتِفَاعَ بِهَا فَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا تَمْنَعُ الشَّمْسُ عَلَى النَّاسِ جَمِيعاً، وَلَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَكَذَلِكَ الحِكْمَةُ وَحَالُهَا بَيْنَ النَّاسِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالحِكْمَةُ قَدْ عَمَّتِ النَّاسَ جَمِيعاً إِلَّا أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي ذَلِكَ، وَالشَّمْسُ ظَاهِرَةٌ إِذْ طَلَعَتْ عَلَى الأَبْصَارِ النَّاظِرَةِ فَرَّقَتْ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ، فَمِنْهُمُ الصَّحِيحُ البَصَرِ الَّذِي يَنْفَعُهُ الضَّوْءُ وَيَقْوَى عَلَى النَّظَرِ، وَمِنْهُمُ الأَعْمَى القَرِيبُ مِنَ الضَّوْءِ الَّذِي لَوْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسٌ أَوْ شُمُوسٌ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ شَيْئاً، وَمِنْهُمُ المَرِيضُ البَصَرِ الَّذِي لَا يُعَدُّ فِي العُمْيَانِ وَلَا فِي أَصْحَابِ البَصَرِ، كَذَلِكَ الحِكْمَةُ هِيَ شَمْسُ القُلُوبِ إِذَا طَلَعَتْ تَفَرَّقَ عَلَى ثَلَاثِ مَنَازِلَ: مَنْزِلٍ لِأَهْلِ البَصَرِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ الحِكْمَةَ فَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِهَا، وَيَعْمَلُونَ بِهَا، وَمَنْزِلٍ لِأَهْلِ العَمَى الَّذِينَ تَنْبُو الحِكْمَةُ عَنْ قُلُوبِهِمْ لِإِنْكَارِهِمُ الحِكْمَةَ وَتَرْكِهِمْ

(٣٨٠)

قَبُولَهَا كَمَا يَنْبُو ضَوْءُ الشَّمْسِ عَنِ العُمْيَانِ، وَمَنْزِلٍ لِأَهْلِ مَرَضِ القُلُوبِ الَّذِينَ يَقْصُرُ عِلْمُهُمْ وَيَضْعُفُ عَمَلُهُمْ وَيَسْتَوِي فِيهِمُ السَّيِّئُ وَالحَسَنُ، وَالحَقُّ وَالبَاطِلُ، وَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهِيَ الحِكْمَةُ مِمَّنْ يَعْمَى عَنْهَا.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَهَلْ يَسَعُ الرَّجُلَ الحِكْمَةُ فَلَا يُجِيبُ إِلَيْهَا حَتَّى يَلْبَثَ زَمَاناً نَاكِباً عَنْهَا، ثُمَّ يُجِيبُ وَيُرَاجِعُهَا؟
قَالَ بِلَوْهَرُ: نَعَمْ هَذَا أَكْثَرُ حَالَاتِ النَّاسِ فِي الحِكْمَةِ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: تَرَى وَالِدِي سَمِعَ شَيْئاً مِنْ هَذَا الكَلَامِ قَطُّ؟
قَالَ بِلَوْهَرُ: لَا أَرَاهُ سَمِعَ سَمَاعاً صَحِيحاً رَسَخَ فِي قَلْبِهِ وَلَا كَلَّمَهُ فِيهِ نَاصِحٌ شَفِيقٌ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: وَكَيْفَ تَرَكَ ذَلِكَ الحُكَمَاءُ مِنْهُ طُولَ دَهْرِهِمْ؟
قَالَ بِلَوْهَرُ: تَرَكُوهُ لِعِلْمِهِمْ بِمَوَاضِعِ كَلَامِهِمْ، فَرُبَّمَا تَرَكُوا ذَلِكَ مِمَّنْ هُوَ أَحْسَنُ إِنْصَافاً وَاليَنُ عَرِيكَةً وَأَحْسَنُ اسْتِمَاعاً مِنْ أَبِيكَ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعَايِشُ الرَّجُلَ طُولَ عُمُرِهِ وَبَيْنَهُمَا الاِسْتِينَاسُ وَالمَوَدَّةُ وَالمُفَاوَضَةُ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ إِلَّا الدِّينُ وَالحِكْمَةُ، وَهُوَ مُتَفَجِّعٌ عَلَيْهِ، مُتَوَجِّعٌ لَهُ، ثُمَّ لَا يُفْضِي إِلَيْهِ أَسْرَارَ الحِكْمَةِ إِذْ لَمْ يَرَهُ لَهَا مَوْضِعاً.
وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ مَلِكاً مِنَ المُلُوكِ كَانَ عَاقِلاً قَرِيباً مِنَ النَّاسِ، مُصْلِحاً لِأُمُورِهِمْ، حَسَنَ النَّظَرِ وَالإِنْصَافِ لَهُمْ، وَكَانَ لَهُ وَزِيرُ صِدْقٍ صَالِحٌ يُعِينُهُ عَلَى الإِصْلَاحِ وَيَكْفِيهِ مَؤُونَتَهُ وَيُشَاوِرُهُ فِي أُمُورِهِ، وَكَانَ الوَزِيرُ أَدِيباً عَاقِلاً، لَهُ دِينٌ وَوَرَعٌ وَنَزَاهَةٌ عَلَى الدُّنْيَا(895)، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ أَهْلَ الدِّينِ، وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ، وَعَرَفَ فَضْلَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ وَانْقَطَعَ إِلَيْهِمْ بِإِخَائِهِ وَوُدِّهِ، وَكَانَتْ لَهُ مِنَ المَلِكِ مَنْزِلَةٌ حَسَنَةٌ وَخَاصَّةٌ، وَكَانَ المَلِكُ لَا يَكْتُمُهُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِهِ، وَكَانَ الوَزِيرُ أَيْضاً لَهُ بِتِلْكَ المَنْزِلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُطْلِعَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(895) في بعض النُّسَخ: (وزهادة عن الدنيا).

(٣٨١)

عَلَى أَمْرِ الدِّينِ، وَلَا يُفَاوِضُهُ أَسْرَارَ الحِكْمَةِ، فَعَاشَا بِذَلِكَ زَمَاناً طَوِيلاً، وَكَانَ الوَزِيرُ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَى المَلِكِ سَجَدَ لِلْأَصْنَامِ وَعَظَّمَهَا وَأَخَذَ شَيْئاً فِي طَرِيقِ الجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ تَقِيَّةً لَهُ، فَأَشْفَقَ الوَزِيرُ عَلَى المَلِكِ مِنْ ذَلِكَ، وَاهْتَمَّ بِهِ، وَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابَهُ وَإِخْوَانَهُ، فَقَالُوا لَهُ: انْظُرْ لِنَفْسِكَ وَأَصْحَابِكَ فَإِنْ رَأَيْتَهُ مَوْضِعاً لِلْكَلَامِ فَكَلِّمْهُ وَفَاوِضْهُ وَإِلَّا فَإِنَّكَ إِنَّمَا تُعِينُهُ عَلَى نَفْسِكَ، وَتُهَيِّجُهُ عَلَى أَهْلِ دِينِكَ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ لَا يَغْتَرُّ بِهِ، وَلَا تُؤْمَنُ سَطْوَتَهُ، فَلَمْ يَزَلِ الوَزِيرُ عَلَى اهْتِمَامِهِ بِهِ مُصَافِياً لَهُ، رَفِيقاً بِهِ، رَجَاءَ أَنْ يَجِدَ فُرْصَةً فَيَنْصَحَهُ أَوْ يَجِدَ لِلْكَلَامِ مَوْضِعاً فَيُفَاوِضَهُ، وَكَانَ المَلِكُ مَعَ ضَلَالَتِهِ مُتَوَاضِعاً سَهْلاً قَرِيباً، حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ، حَرِيصاً عَلَى إِصْلَاحِهِمْ، مُتَفَقِّداً لِأُمُورِهِمْ، فَاصْطَحَبَ الوَزِيرُ [مَعَ] المَلِكِ عَلَى هَذَا بُرْهَةً مِنْ زَمَانِهِ.
ثُمَّ إِنَّ المَلِكَ قَالَ لِلْوَزِيرِ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي بَعْدَ مَا هَدَأَتِ العُيُونُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَرْكَبَ فَنَسِيرَ فِي المَدِينَةِ فَنَنْظُرَ إِلَى حَالِ النَّاسِ وَآثَارِ الأَمْطَارِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ؟
فَقَالَ الوَزِيرُ: نَعَمْ، فَرَكِبَا جَمِيعاً يَجُولَانِ فِي نَوَاحِي المَدِينَةِ، فَمَرَّا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ عَلَى مَزْبَلَةٍ تُشْبِهُ الجَبَلَ، فَنَظَرَ المَلِكُ إِلَى ضَوْءِ النَّارِ تَبْدُو فِي نَاحِيَةِ المَزْبَلَةِ، فَقَالَ لِلْوَزِيرِ: إِنَّ لِهَذِهِ لَقِصَّةً، فَانْزِلْ بِنَا نَمْشِي حَتَّى نَدْنُوَ مِنْهَا فَنَعْلَمَ خَبَرَهَا، فَفَعَلَا ذَلِكَ، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى مَخْرَجِ الضَّوْءِ وَجَدَا نَقْباً شَبِيهاً بِالغَارِ، وَفِيهِ مِسْكِينٌ مِنَ المَسَاكِينِ ثُمَّ نَظَرَا فِي الغَارِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمَا الرَّجُلُ، فَإِذَا الرَّجُلُ مُشَوَّهُ الخَلْقِ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ خُلْقَانٌ مِنْ خُلْقَانِ المَزْبَلَةِ، مُتَّكِئٌ عَلَى مُتَّكَاه قَدْ هَيَّأَهُ مِنَ الزِّبْلِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ إِبْرِيقٌ فَخَّارٌ، فِيهِ شَرَابٌ، وَفِي يَدِهِ طُنْبُورٌ يَضْرِبُ بِيَدِهِ، وَامْرَأَتُهُ فِي مِثْلِ خَلْقِهِ وَلِبَاسِهِ قَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ تَسْقِيهِ إِذَا اسْتَسْقَى مِنْهَا، وَتَرْقُصُ لَهُ إِذَا ضَرَبَ، وَتُحَيِّيهِ بِتَحِيَّةِ المُلُوكِ كُلَّمَا شَرِبَ، وَهُوَ يُسَمِّيهَا سَيِّدَةَ النِّسَاءِ، وَهُمَا يَصِفَانِ أَنْفُسَهُمَا بِالحُسْنِ وَالجَمَالِ، وَبَيْنَهُمَا

(٣٨٢)

مِنَ السُّرُورِ وَالضَّحِكِ وَالطَّرَبِ مَا لَا يُوصَفُ، فَقَامَ المَلِكُ عَلَى رِجْلَيْهِ مَلِيًّا وَالوَزِيرُ يَنْظُرُ كَذَلِكَ، وَيَتَعَجَّبَانِ مِنْ لَذَّتِهِمَا وَإِعْجَابِهِمَا بِمَا هُمَا فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ المَلِكُ وَالوَزِيرُ، فَقَالَ المَلِكُ: مَا أَعْلَمَنِي وَإِيَّاكَ أَصَابَنَا الدَّهْرُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالفَرَحِ مِثْلَ مَا أَصَابَ هَذَيْنِ اللَّيْلَةَ مَعَ أَنِّي أَظُنُّهُمَا يَصْنَعَانِ كُلَّ لَيْلَةٍ مِثْلَ هَذَا، فَاغْتَنَمَ الوَزِيرُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَوَجَدَ فُرْصَةً، فَقَالَ لَهُ: أَخَافُ أَيُّهَا المَلِكُ أَنْ يَكُونَ دُنْيَانَا هَذِهِ مِنَ الغُرُورِ، وَيَكُونَ مُلْكُكَ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ البَهْجَةِ وَالسُّرُورِ فِي أَعْيُنِ مَنْ يَعْرِفُ المَلَكُوتَ الدَّائِمَ مِثْلَ هَذِهِ المَزْبَلَةِ، وَمِثْلَ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ اللَّذَيْنِ رَأَيْنَاهُمَا، وَتَكُونَ مَسَاكِنُنَا وَمَا شَيَّدْنَا مِنْهَا عِنْدَ مَنْ يَرْجُو مَسَاكِنَ السَّعَادَةِ وَثَوَابَ الآخِرَةِ مِثْلَ هَذَا الغَارِ فِي أَعْيُنِنَا، وَتَكُونَ أَجْسَادُنَا عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ الطَّهَارَةَ وَالنَّضَارَةَ وَالحُسْنَ وَالصِّحَّةَ مِثْلَ جَسَدِ هَذَا المُشَوَّهِ الخَلْقِ فِي أَعْيُنِنَا، وَيَكُونَ تَعَجُّبُهُمْ عَنْ إِعْجَابِنَا بِمَا نَحْنُ فِيهِ كَتَعَجُّبِنَا مِنْ إِعْجَابِ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ بِمَا هُمَا فِيهِ.
قَالَ المَلِكُ: وَهَلْ تَعْرِفُ لِهَذِهِ الصِّفَةِ أَهْلاً؟ قَالَ الوَزِيرُ: نَعَمْ، قَالَ المَلِكُ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ الوَزِيرُ: أَهْلُ الدِّينِ الَّذِينَ عَرَفُوا مُلْكَ الآخِرَةِ وَنَعِيمَهَا فَطَلَبُوهُ، قَالَ المَلِكُ: وَمَا مُلْكُ الآخِرَةِ؟ قَالَ الوَزِيرُ: هُوَ النَّعِيمُ الَّذِي لَا بُؤْسَ بَعْدَهُ، وَالغِنَى الَّذِي لَا فَقْرَ بَعْدَهُ، وَالفَرَحُ الَّذِي لَا تَرَحَ بَعْدَهُ، وَالصِّحَّةُ الَّتِي لَا سُقْمَ بَعْدَهَا، وَالرِّضَا الَّذِي لَا سَخَطَ بَعْدَهُ، وَالأَمْنُ الَّذِي لَا خَوْفَ بَعْدَهُ، وَالحَيَاةُ الَّتِي لَا مَوْتَ بَعْدَهَا، وَالمُلْكُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ. هِيَ دَارُ البَقَاءِ، وَدَارُ الحَيَوَانِ، الَّتِي لَا انْقِطَاعَ لَهَا، وَلَا تَغَيُّرَ فِيهَا، رَفَعَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَنْ سَاكِنِيهَا فِيهَا السُّقْمَ وَالهَرَمَ وَالشَّقَاءَ وَالنَّصَبَ وَالمَرَضَ وَالجُوعَ وَالظَّمَأَ وَالمَوْتَ، فَهَذِهِ صِفَةُ مُلْكِ الآخِرَةِ وَخَبَرُهَا أَيُّهَا المَلِكُ.
قَالَ المَلِكُ: وَهَلْ تُدْرِكُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ مَطْلَباً وَإِلَى دُخُولِهَا سَبِيلاً؟ قَالَ الوَزِيرُ: نَعَمْ، هِيَ مُهَيَّأَةٌ لِمَنْ طَلَبَهَا مِنْ وَجْهِ مَطْلَبِهَا، وَمَنْ أَتَاهَا مِنْ بَابِهَا ظَفِرَ بِهَا.

(٣٨٣)

قَالَ المَلِكُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنِي بِهَذَا قَبْلَ اليَوْمِ؟ قَالَ الوَزِيرُ: مَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ إِجْلَالُكَ وَالهَيْبَةُ لِسُلْطَانِكَ.
قَالَ المَلِكُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا الأَمْرُ الَّذِي وَصَفْتَ يَقِيناً فَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُضَيِّعَهُ وَلَا نَتْرُكَ العَمَلَ بِهِ فِي إِصَابَتِهِ، وَلَكِنَّا نَجْتَهِدُ حَتَّى يَصِحَّ لَنَا خَبَرُهُ، قَالَ الوَزِيرُ: أَفَتَأْمُرُنِي أَيُّهَا المَلِكُ أَنْ أُوَاظِبَ عَلَيْكَ فِي ذِكْرِهِ وَالتَّكْرِيرِ لَهُ؟ قَالَ المَلِكُ: بَلْ آمُرُكَ أَنْ لَا تَقْطَعَ عَنِّي ذِكْرَهُ لَيْلاً وَلَا نَهَاراً، وَلَا تُرِيحَنِي وَلَا تُمْسِكَ عَنِّي ذِكْرَهُ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ لَا يُتَهَاوَنُ بِهِ، وَلَا يُغْفَلُ عَنْ مِثْلِهِ.
وَكَانَ سَبِيلُ ذَلِكَ المَلِكِ وَالوَزِيرِ إِلَى النَّجَاةِ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: مَا أَنَا بِشَاغِلٍ نَفْسِي بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ عَنْ هَذَا السَّبِيلِ، وَلَقَدْ حَدَّثْتُ نَفْسِي بِالهَرَبِ مَعَكَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ حَيْثُ بَدَا لَكَ أَنْ تَذْهَبَ.
قَالَ بِلَوْهَرُ: وَكَيْفَ تَسْتَطِيعُ الذَّهَابَ مَعِي وَالصَّبْرَ عَلَى صُحْبَتِي وَلَيْسَ لِي جُحْرٌ يَأْوِينِي، وَلَا دَابَّةٌ تَحْمِلُنِي، وَلَا أَمْلِكُ ذَهَباً وَلَا فِضَّةً، وَلَا أَدَّخِرُ غِذَاءَ العِشَاءِ، وَلَا يَكُونُ عِنْدِي فَضْلُ ثَوْبٍ، وَلَا أَسْتَقِرُّ بِبَلْدَةٍ إِلَّا قَلِيلاً حَتَّى أَتَحَوَّلَ عَنْهَا، وَلَا أَتَزَوَّدُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى رَغِيفاً أَبَداً.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ يُقَوِّيَنِي الَّذِي قَوَّاكَ.
قَالَ بِلَوْهَرُ: أَمَا إِنَّكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا صُحْبَتِي كُنْتَ خَلِيقاً أَنْ تَكُونَ كَالغَنِيِّ الَّذِي صَاهَرَ الفَقِيرَ.
قَالَ يُوذَاسُفُ: وَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟
قَالَ بِلَوْهَرُ: زَعَمُوا أَنَّ فَتًى كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الأَغْنِيَاءِ، فَأَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَةَ عَمٍّ لَهُ ذَاتَ جَمَالٍ وَمَالٍ، فَلَمْ يُوَافِقْ ذَلِكَ الفَتَى وَلَمْ يُطْلِعْ أَبَاهُ عَلَى كَرَاهَتِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مُتَوَجِّهاً إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى، فَمَرَّ فِي طَرِيقِهِ عَلَى جَارِيَةٍ عَلَيْهَا ثِيَابٌ خُلْقَانٌ لَهَا، قَائِمَةٍ عَلَى بَابِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ المَسَاكِينِ، فَأَعْجَبَتْهُ الجَارِيَةُ، فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنْتِ

(٣٨٤)

أَيَّتُهَا الجَارِيَةُ؟ قَالَتْ: أَنَا ابْنَةُ شَيْخٍ كَبِيرٍ فِي هَذَا البَيْتِ، فَنَادَى الفَتَى الشَّيْخَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تُزَوِّجُنِي ابْنَتَكَ هَذِهِ؟ قَالَ: مَا أَنْتَ بِمُتَزَوِّجٍ لِبَنَاتِ الفُقَرَاءِ وَأَنْتَ فَتًى مِنَ الأَغْنِيَاءِ، قَالَ: أَعْجَبَتْنِي هَذِهِ الجَارِيَةُ، وَلَقَدْ خَرَجْتُ هَارِباً مِنِ امْرَأَةٍ ذَاتِ حَسَبٍ وَمَالٍ أَرَادُوا مِنِّي تَزْوِيجَهَا، فَكَرِهْتُهَا، فَزَوِّجْنِي ابْنَتَكَ فَإِنَّكَ وَاجِدٌ عِنْدِي خَيْراً إِنْ شَاءَ اللهُ.
قَالَ الشَّيْخُ: كَيْفَ أُزَوِّجُكَ ابْنَتِي وَنَحْنُ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُنَا أَنْ تَنَقُلَهَا عَنَّا، وَلَا أَحْسَبُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَكَ يَرْضَوْنَ أَنْ تَنْقُلَهَا إِلَيْهِمْ؟ قَالَ الفَتَى: فَنَحْنُ مَعَكُمْ فِي مَنْزِلِكُمْ هَذَا، قَالَ الشَّيْخُ: إِنْ صَدَقْتَ فِيمَا تَقُولُ فَاطْرَحْ عَنْكَ زِيَّكَ وَحِلْيَتَكَ هَذِهِ، قَالَ: فَفَعَلَ الفَتَى ذَلِكَ وَأَخَذَ أَطْمَاراً رِثَّةً مِنْ أَطْمَارِهِمْ، فَلَبِسَهَا وَقَعَدَ مَعَهُمْ، فَسَأَلَهُ الشَّيْخُ عَنْ شَأْنِهِ وَعَرَضَ لَهُ بِالحَدِيثِ حَتَّى فَتَّشَ عَقْلَهُ، فَعَرَفَ أَنَّهُ صَحِيحُ العَقْلِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى مَا صَنَعَ السَّفَهُ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: أَمَّا إِذَا اخْتَرْتَنَا وَرَضِيتَ بِنَا فَقُمْ مَعِي إِلَى هَذَا السَّرْبِ، فَأَدْخَلَهُ فَإِذَا خَلْفَ مَنْزِلِهِ بُيُوتٌ وَمَسَاكِنُ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ سَعَةً وَحُسْناً، وَلَهُ خَزَائِنُ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ مَفَاتِيحَهُ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ كُلَّ مَا هَاهُنَا لَكَ فَاصْنَعْ بِهِ مَا أَحْبَبْتَ، فَنِعْمَ الفَتَى أَنْتَ، وَأَصَابَ الفَتَى مَا كَانَ يُرِيدُهُ.
قَالَ يُوذَاسُفُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَ هَذَا المَثَلِ، إِنَّ الشَّيْخَ فَتَّشَ عَقْلَ هَذَا الغُلَامَ حَتَّى وَثِقَ بِهِ، فَلَعَلَّكَ تَطَوَّلُ بِي عَلَى تَفْتِيشِ عَقْلِي فَأَعْلِمْنِي مَا عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الحَكِيمُ: لَوْ كَانَ هَذَا الأَمْرُ إِلَيَّ لَاكْتَفَيْتُ مِنْكَ بِأَدْنَى المُشَافَهَةِ، وَلَكِنَّ فَوْقَ رَأْسِي سُنَّةً قَدْ سَنَّهَا أَئِمَّةُ الهُدَى فِي بُلُوغِ الغَايَةِ فِي التَّوْفِيقِ، وَعِلْمِ مَا فِي الصُّدُورِ، فَأَنَا أَخَافُ إِنْ خَالَفْتُ السُّنَّةَ أَنْ أَكُونَ قَدْ أَحْدَثْتُ بِدْعَةً، وَأَنَا مُنْصَرِفٌ عَنْكَ اللَّيْلَةَ وَحَاضِرٌ بَابَكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَفَكِّرْ فِي نَفْسِكَ بِهَذَا وَاتَّعِظْ بِهِ، وَلْيَحْضُرْكَ فَهْمُكَ وَتَثَبَّتَ، وَلَا تَعْجَلْ بِالتَّصْدِيقِ لِمَا يُورِدُهُ عَلَيْكَ هَمُّكَ حَتَّى تَعْلَمَهُ بَعْدَ التُّؤَدَةِ

(٣٨٥)

والأَنَاةِ، وَعَلَيْكَ بِالاِحْتِرَاسِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَغْلِبَكَ الهَوَى وَالمَيْلُ إِلَى الشُّبْهَةِ وَالعَمَى، وَاجْتَهِدْ فِي المَسَائِلِ الَّتِي تَظُنُّ أَنَ فِيهَا شُبْهَةً، ثُمَّ كَلِّمْنِي فِيهَا وَأَعْلِمْنِي رَأْيَكَ فِي الخُرُوجِ إِذَا أَرَدْتَ، وَافْتَرَقَا عَلَى هَذَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
ثُمَّ عَادَ الحَكِيمُ إِلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ، ثُمَّ جَلَسَ، فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ أَنْ قَالَ: أَسْأَلُ اللهَ الأَوَّلَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَالآخِرَ الَّذِي لَا يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ، وَالبَاقِيَ الَّذِي لَا مُنْتَهَى لَهُ، وَالوَاحِدَ الفَرْدَ الصَّمَدَ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَالقَاهِرَ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، البَدِيعَ الَّذِي لَا خَالِقَ مَعَهُ، القَادِرَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ، الصَّمَدَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ نِدٌّ، المَلِكَ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ أَنْ يَجْعَلَكَ مَلِكاً عَدْلاً، إِمَاماً فِي الهُدَى، قَائِداً إِلَى التَّقْوَى، وَمُبْصِراً مِنَ العَمَى، وَزَاهِداً فِي الدُّنْيَا، وَمُحِبًّا لِذَوِي النُّهَى، وَمُبْغِضاً لِأَهْلِ الرَّدَى حَتَّى يُفْضِيَ بِنَا وَبِكَ إِلَى مَا وَعَدَ اللهُ أَوْلِيَاءَهُ عَلَى السِنَةِ أَنْبِيَائِهِ مِنْ جَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ، فَإِنَّ رَغْبَتَنَا إِلَى اللهِ فِي ذَلِكَ سَاطِعَةٌ، وَرَهْبَتَنَا مِنْهُ بَاطِنَةٌ، وَأَبْصَارَنَا إِلَيْهِ شَاخِصَةٌ(896)، وَأَعْنَاقَنَا لَهُ خَاضِعَةٌ، وَأُمُورَنَا إِلَيْهِ صَائِرَةٌ.
فَرَقَّ ابْنُ المَلِكِ لِذَلِكَ الدُّعَاءِ رِقَّةً شَدِيدَةً، وَازْدَادَ فِي الخَيْرِ رَغْبَةً، وَقَالَ مُتَعَجِّباً مِنْ قَوْلِهِ: أَيُّهَا الحَكِيمُ، أَعْلِمْنِي كَمْ أَتَى لَكَ مِنَ العُمُرِ؟ فَقَالَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، وَقَالَ: ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً طِفْلٌ وَأَنْتَ مَعَ مَا أَرَى مِنَ التَّكَهُّلِ لِابْنِ سِتِّينَ سَنَةً.
قَالَ الحَكِيمُ: أَمَّا المَوْلِدُ فَقَدْ رَاهَقَ السِّتِّينَ سَنَةً، وَلَكِنَّكَ سَألتَنِي عَنِ العُمُرِ وَإِنَّمَا العُمُرُ الحَيَاةُ، وَلَا حَيَاةَ إِلَّا فِي الدِّينِ وَالعَمَلِ بِهِ، وَالتَّخَلِّي مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِي إِلَّا مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنِّي كُنْتُ مَيِّتاً، وَلَسْتُ أَعْتَدُّ فِي عُمُرِي بِأَيَّامِ المَوْتِ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: كَيْفَ تَجْعَلُ الآكِلَ وَالشَّارِبَ وَالمُتَقَلِّبَ مَيِّتاً؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(896) في بعض النُّسَخ: (وأبصارنا إليه خاشعة).

(٣٨٦)

قَالَ الحَكِيمُ: لِأَنَّهُ شَارَكَ المَوْتَى فِي العَمَى وَالصَّمِّ وَالبَكَمِ وَضَعْفِ الحَيَاةِ وَقِلَّةِ الغِنَى، فَلَمَّا شَارَكَهُمْ فِي الصِّفَةِ وَافَقَهُمْ فِي الاِسْمِ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: لَئِنْ كُنْتَ لَا تَعُدَّ حَيَاةً وَلَا غِبْطَةً مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعُدَّ مَا يَتَوَقَّعُ مِنَ المَوْتِ مَوْتاً، وَلَا تَرَاهُ مَكْرُوهاً.
قَالَ الحَكِيمُ: تَغْرِيرِي فِي الدُّخُولِ عَلَيْكَ بِنَفْسِي يَا ابْنَ المَلِكِ مَعَ عِلْمِي لِسَطْوَةِ أَبِيكَ عَلَى أَهْلِ دِينِي يَدُلُّكَ عَلَى أَنِّي [لَا أَرَى المَوْتَ مَوْتاً] وَلَا أَرَى هَذِهِ الحَيَاةَ حَيَاةً، وَلَا مَا أَتَوَقَّعُ مِنَ المَوْتِ مَكْرُوهاً، فَكَيْفَ يَرْغَبُ فِي الحَيَاةِ مَنْ قَدْ تَرَكَ حَظَّهُ مِنْهَا؟ أَوْ يَهْرُبُ مِنَ المَوْتِ مَنْ قَدْ أَمَاتَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ؟ أَوَلَا تَرَى يَا ابْنَ المَلِكِ أَنَّ صَاحِبَ الدِّينِ قَدْ رَفَضَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَمَا لَا يَرْغَبُ فِي الحَيَاةِ إِلَّا لَهُ(897) وَاحْتَمَلَ مِنْ نَصَبِ العِبَادَةِ مَا لَا يُرِيحُهُ مِنْهُ إِلَّا المَوْتُ، فَمَا حَاجَةُ مَنْ لَا يَتَمَتَّعُ بِلَذَّةِ الحَيَاةِ إِلَى الحَيَاةِ؟ أَوْ مَهْرَبُ مَنْ لَا رَاحَةَ لَهُ إِلَّا فِي المَوْتِ مِنَ المَوْتِ؟
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: صَدَقْتَ أَيُّهَا الحَكِيمُ، فَهَلْ يَسُرُّكَ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ المَوْتُ مِنْ غَدٍ؟
قَالَ الحَكِيمُ: بَلْ يَسُرُّنِي أَنْ يَنْزِلَ بِيَ اللَّيْلَةَ دُونَ غَدٍ، فَإِنَّهُ مَنْ عَرَفَ السَّيِّئَ وَالحَسَنَ وَعَرَفَ ثَوَابَهُمَا مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) تَرَكَ السَّيِّئَ مَخَافَةَ عِقَابِهِ، وَعَمِلَ بِالحَسَنِ رَجَاءَ ثَوَابِهِ، وَمَنْ كَانَ مُوقِناً بِاللهِ وَحْدَهُ مُصَدِّقاً بِوَعْدِهِ فَإِنَّهُ يُحِبُّ المَوْتَ لِمَا يَرْجُو بَعْدَ المَوْتِ مِنَ الرَّخَاءِ وَيَزْهَدُ فِي الحَيَاةِ لِمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَالمَعْصِيَةِ لِلهِ فِيهَا، فَهُوَ يُحِبُّ المَوْتَ مُبَادِرَةً مِنْ ذَلِكَ.
فَقَالَ ابْنُ المَلِكِ: إِنَّ هَذَا لَخَلِيقٌ أَنْ يُبَادِرَ الهَلَكَةَ لِمَا يَرْجُو فِي ذَلِكَ مِنَ النَّجَاةِ، فَاضْرِبْ لِي مَثَلَ أُمَّتِنَا هَذِهِ وَعُكُوفِهَا عَلَى أَصْنَامِهَا.
قَالَ الحَكِيمُ: إِنَّ رَجُلاً كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ يَعْمُرُهُ وَيُحْسِنُ القِيَامَ عَلَيْهِ إِذْ رَأَى فِي بُسْتَانِهِ ذَاتَ يَوْمٍ عُصْفُوراً وَاقِعاً عَلَى شَجَرَةٍ مِنْ شَجَرِ البُسْتَانِ يُصِيبُ مِنْ ثَمَرِهَا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(897) في بعض النُّسَخ: (ما لا يرغب فيها مالاً إلَّا له).

(٣٨٧)

فَغَاضَهُ ذَلِكَ، فَنَصَبَ فَخًّا فَصَادَهُ، فَلَمَّا هَمَّ بِذَبْحِهِ أَنْطَقَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِقُدْرَتِهِ، فَقَالَ لِصَاحِبِ البُسْتَانِ: إِنَّكَ تَهْتَمُّ بِذَبْحِي وَلَيْسَ فِيَّ مَا يُشْبِعُكَ مِنْ جُوعٍ وَلَا يُقَوِّيكَ مِنْ ضَعْفٍ، فَهَلْ لَكَ فِيَّ خَيْرٌ مِمَّا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ؟ قَالَ العُصْفُورُ: تُخَلِّي سَبِيلِي وَأُعَلِّمُكَ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ إِنْ أَنْتَ حَفِظْتَهُنَّ كُنَّ خَيْراً لَكَ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ هُوَ لَكَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ فَأَخْبِرْنِي بِهِنَّ، قَالَ العُصْفُورُ: احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: لَا تَأْسَ عَلَى مَا فَاتَكَ، وَلَا تُصَدِّقَنَّ بِمَا لَا يَكُونُ، وَلَا تَطْلُبَنَّ مَا لَا تُطِيقُ، فَلَمَّا قَضَى الكَلِمَاتِ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى بَعْضِ الأَشْجَارِ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: لَوْ تَعْلَمُ مَا فَاتَكَ مِنِّي لَعَلِمْتَ أَنَّكَ قَدْ فَاتَكَ مِنِّي عَظِيمٌ جَسِيمٌ مِنَ الأَمْرِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ العُصْفُورُ: لَوْ كُنْتَ مَضَيْتَ عَلَى مَا هَمَمْتَ بِهِ مِنْ ذَبْحِي لَاسْتَخْرَجْتَ مِنْ حَوْصَلَتِي دُرَّةً كَبَيْضَةِ الوَزَّةِ، فَكَانَ لَكَ فِي ذَلِكَ غِنَى الدَّهْرِ، فَلَمَّا سَمِعَ الرَّجُلُ مِنْهُ ذَلِكَ أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ نَدَماً عَلَى مَا فَاتَهُ، وَقَالَ: دَعْ عَنْكَ مَا مَضَى، وَهَلُمَّ أَنْطَلِقْ بِكَ إِلَى مَنْزِلِي فَأُحْسِنَ صُحْبَتَكَ وَأُكْرِمَ مَثْوَاكَ، فَقَالَ لَهُ العُصْفُورُ: أَيُّهَا الجَاهِلُ، مَا أَرَاكَ حَفِظْتَنِي إِذَا ظَفِرْتَ بِي، وَلَا انْتَفَعْتَ بِالكَلِمَاتِ الَّتِي افْتَدَيْتُ بِهَا مِنْكَ نَفْسِي، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكَ أَلَّا تَأْسَ عَلَى مَا فَاتَكَ، وَلَا تُصَدِّقْ مَا لَا يَكُونُ، وَلَا تَطْلُبْ مَا لَا يُدْرَكُ؟ أَمَّا أَنْتَ مُتَفَجِّعٌ عَلَى مَا فَاتَكَ وَتَلْتَمِسُ مِنِّي رَجْعَتِي إِلَيْكَ وَتَطْلُبُ مَا لَا تُدْرِكُ وَتُصَدِّقُ أَنَّ فِي حَوْصَلَتِي دُرَّةً كَبَيْضَةِ الوَزَّةِ وَجَمِيعِي أَصْغَرُ مِنْ بَيْضِهَا، وَقَدْ كُنْتُ عَهِدْتُ إِلَيْكَ أَنْ لَا تُصَدِّقَ بِمَا لَا يَكُونُ، وَأَنَّ أُمَّتَكُمْ صَنَعُوا أَصْنَامَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي خَلَقَتْهُمْ، وَحَفِظُوهَا مِنْ أَنْ تُسْرَقَ مَخَافَةً عَلَيْهَا وَزَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحْفَظُهُمْ، وَأَنْفَقُوا عَلَيْهَا مِنْ مَكَاسِبِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَزَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَرْزُقُهُمْ، فَطَلَبُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُدْرَكُ، وَصَدَّقُوا بِمَا لَا يَكُونُ، فَلَزِمَهُمْ مِنْهُ مَا لَزِمَ صَاحِبَ البُسْتَانِ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: صَدَقْتَ أَمَّا الأَصْنَامُ فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ عَارِفاً بِأَمْرِهَا، زَاهِداً فِيهَا، آيِساً مِنْ خَيْرِهَا، فَأَخْبِرْنِي بِالَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ وَالَّذِي ارْتَضَيْتَهُ لِنَفْسِكَ مَا هُوَ؟

(٣٨٨)

قَالَ بِلَوْهَرُ: جِمَاعُ الدِّينِ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا مَعْرِفَةُ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَالآخَرُ العَمَلُ بِرِضْوَانِهِ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: وَكَيْفَ مَعْرِفَةُ اللهِ (عزَّ وجلَّ)؟
قَالَ الحَكِيمُ: أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، لَمْ يَزَلْ فَرْداً رَبًّا وَمَا سِوَاهُ مَرْبُوبٌ، وَأَنَّهُ خَالِقٌ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّهُ قَدِيمٌ وَمَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ، وَأَنَّهُ صَانِعٌ وَمَا سِوَاهُ مَصْنُوعٌ، وَأَنَّهُ مُدَبِّرٌ وَمَا سِوَاهُ مُدَبَّرٌ، وَأَنَّهُ بَاقٍ وَمَا سِوَاهُ فَانٍ، وَأَنَّهُ عَزِيزٌ وَمَا سِوَاهُ ذَلِيلٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنَامُ وَلَا يَغْفُلُ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَضْعُفُ وَلَا يُغْلَبُ وَلَا يَضْجَرُ، وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، لَمْ تَمْتَنِعْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَالهَوَاءُ وَالبَرُّ وَالبَحْرُ، وَأَنَّهُ كَوَّنَ الأَشْيَاءَ لَا مِنْ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَلَا تُحْدِثُ فِيهِ الحَوَادِثُ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الأَحْوَالُ، وَلَا تُبَدِّلُهُ الأَزْمَانُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ مَكَانٌ، وَلَا يَكُونُ مِنْ مَكَانٍ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى مَكَانٍ، وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، عَالِمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، قَدِيرٌ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَأَنْ تَعْرِفَهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالعَدْلِ، وَأَنَّ لَهُ ثَوَاباً أَعَدَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَعَذَاباً أَعَدَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ، وَأَنْ تَعْمَلَ لِلهِ بِرِضَاهُ، وَتَجْتَنِبَ سَخَطَهُ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَمَا رِضَا الوَاحِدِ الخَالِقِ مِنَ الأَعْمَالِ؟
قَالَ الحَكِيمُ: يَا ابْنَ المَلِكِ، رِضَاهُ أَنْ تُطِيعَهُ وَلَا تَعْصِيَهُ، وَأَنْ تَأْتِيَ إِلَى غَيْرِكَ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ، وَتَكُفَّ عَنْ غَيْرِكَ مَا تُحِبُّ أَنْ يُكَفَّ عَنْكَ فِي مِثْلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَدْلٌ وَفِي العَدْلِ رِضَاهُ، وَفِي اتِّبَاعِ آثَارِ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ بِأَنْ لَا تَعْدُوَ سُنَّتَهُمْ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: زِدْنِي أَيُّهَا الحَكِيمُ تَزْهِيداً فِي الدُّنْيَا وَأَخْبِرْنِي بِحَالِهَا.
قَالَ الحَكِيمُ: إِنِّي لَـمَّا رَأَيْتُ الدُّنْيَا دَارَ تَصَرُّفٍ وَزَوَالٍ وَتَقَلُّبٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَرَأَيْتُ أَهْلَهَا فِيهَا أَغْرَاضاً لِلْمَصَائِبِ، وَرَهَائِنَ لِلْمَتَالِفِ، وَرَأَيْتُ صِحَّةً بَعْدَهَا سُقْماً، وَشَبَاباً بَعْدَهُ هَرَماً، وَغِنًى بَعْدَهُ فَقْراً، وَفَرَحاً بَعْدَهُ حُزْناً، وَعِزًّا بَعْدَهُ

(٣٨٩)

ذُلًّا، وَرَخَاءً بَعْدَهُ شِدَّةً، وَأَمْناً بَعْدَهُ خَوْفاً، وَحَيَاةً بَعْدَهَا مَمَاتاً، وَرَأَيْتُ أَعْمَاراً قَصِيرَةً، وَحُتُوفاً رَاصِدَةً(898)، وَسِهَاماً قَاصِدَةً، وَأَبْدَاناً ضَعِيفَةً مُسْتَسْلِمَةً غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ وَلَا حَصِينَةٍ، عَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ بَالِيَةٌ فَانِيَةٌ، وَعَرَفْتُ بِمَا ظَهَرَ لِي مِنْهَا مَا غَابَ عَنِّي مِنْهَا، وَعَرَفْتُ بِظَاهِرِهَا بَاطِنَهَا، وَغَامِضَهَا بِوَاضِحِهَا، وَسِرَّهَا بِعَلَانِيَتِهَا، وَصُدُورَهَا بِوُرُودِهَا، فَحَذَرْتُهَا لِمَا عَرَفْتُهَا، وَفَرَرْتُ مِنْهَا لِمَا أَبْصَرْتُهَا، بَيْنَا تَرَى المَرْءَ فِيهَا مُغْتَبِطاً مَحْبُوراً(899) وَمَلِكاً مَسْرُوراً(900) فِي خَفْضٍ وَدَعَةٍ وَنِعْمَةٍ وَسَعَةٍ فِي بَهْجَةٍ مِنْ شَبَابِهِ، وَحَدَاثَةٍ مِنْ سِنِّهِ، وَغِبْطَةٍ مِنْ مُلْكِهِ، وَبَهَاءٍ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَصِحَّةٍ مِنْ بَدَنِهِ إِذَا انْقَلَبَتِ الدُّنْيَا بِهِ أَسَرَّ مَا كَانَ فِيهَا نَفْساً، وَأَقَرَّ مَا كَانَ فِيهَا عَيْناً، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ مُلْكِهَا وَغِبْطَتِهَا وَخَفْضِهَا وَدَعَتِهَا وَبَهْجَتِهَا، فَأَبْدَلَتْهُ بِالعِزِّ ذُلًّا، وَبِالفَرَحِ تَرَحاً، وَبِالسُّرُورِ حُزْناً، وَبِالنِّعْمَةِ بُؤْساً، وَبِالغِنَى فَقْراً، وَبِالسَّعَةِ ضِيقاً، وَبِالشَّبَابِ هَرَماً، وَبِالشَّرَفِ ضَعَةً، وَبِالحَيَاةِ مَوْتاً، فَدَلَّتْهُ فِي حُفْرَةٍ ضَيِّقَةٍ شَدِيدَةِ الوَحْشَةِ، وَحِيداً فَرِيداً غَرِيباً قَدْ فَارَقَ الأَحِبَّةَ وَفَارَقُوهُ، وَخَذَلَهُ إِخْوَانُهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ مَنْعاً، وَغَرَّهُ أَعْدَاؤُهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ دَفْعاً، وَصَارَ عِزُّهُ وَمُلْكُهُ وَأَهْلُهُ وَمَالُهُ نُهْبَةً مِنْ بَعْدِهِ، كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا سَاعَةً قَطُّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا خَطَرٌ، وَلَمْ يَمْلِكْ مِنَ الأَرْضِ حَظًّا قَطُّ، فَلَا تَتَّخِذُهَا يَا ابْنَ المَلِكِ دَاراً، وَلَا تَتَّخِذَنَّ فِيهَا عُقْدَةً(901) وَلَا عَقَاراً، فَأُفٍّ لَهَا وَتُفٍّ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أُفٍّ لَهَا وَلِمَنْ يَغْتَرُّ بِهَا إِذَا كَانَ هَذَا حَالَهَا.
وَرَقَّ ابْنُ المَلِكِ وَقَالَ: زِدْنِي أَيُّهَا الحَكِيمُ مِنْ حَدِيثِكَ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي صَدْرِي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(898) الحتف: الموت من غير قتل، والجمع حتوف. والراصد: المراقب.
(899) أي مسروراً. والحبر - بفتح الحاء وكسرها -: السرور، والجمع حبور وأحبار.
(900) في بعض النُّسَخ: (مشعوفاً).
(901) العقدة: الضيعة، وهي المتاع والعقار.

(٣٩٠)

قَالَ الحَكِيمُ: إِنَّ العُمُرَ قَصِيرٌ، وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يُسْرِعَانِ فِيهِ، وَالاِرْتِحَالَ مِنَ الدُّنْيَا حَثِيثٌ قَرِيبٌ، وَإِنَّهُ وَإِنْ طَالَ العُمُرُ فِيهَا فَإِنَّ المَوْتَ نَازِلٌ، وَالظَّاعِنَ لَا مَحَالَةَ رَاحِلٌ، فَيَصِيرُ مَا جَمَعَ فِيهَا مُفَرَّقاً، وَمَا عَمِلَ فِيهَا مُتَبَّراً، وَمَا شَيَّدَ فِيهَا خَرَاباً، وَيَصِيرُ اسْمُهُ مَجْهُولاً، وَذِكْرُهُ مَنْسِيًّا، وَحَسَبُهُ خَامِلاً، وَجَسَدُهُ بَالِياً، وَشَرَفُهُ وَضِيعاً، وَنِعْمَتُهُ وَبَالاً، وَكَسْبُهُ خَسَاراً، وَيُورَثُ سُلْطَانُهُ، وَيُسْتَذَلُّ عَقِبُهُ، وَيُسْتَبَاحُ حَرِيمُهُ، وَتُنْقَضُ عُهُودُهُ، وَتُخْفَرُ ذِمَّتُهُ، وَتُدْرَسُ آثَارُهُ، وَيُوَزَّعُ مَالُهُ، وَيُطْوَى رَحْلُهُ، وَيَفْرَحُ عَدُوُّهُ، وَيَبِيدُ مُلْكُهُ، وَيُورَثُ تَاجُهُ، وَيُخْلَفُ عَلَى سَرِيرِهِ، وَيُخْرَجُ مِنْ مَسَاكِنِهِ مَسْلُوباً مَخْذُولاً، فَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى قَبْرِهِ، فَيُدْلَى فِي حُفْرَتِهِ فِي وَحْدَةٍ وَغُرْبَةٍ وَظُلْمَةٍ وَوَحْشَةٍ وَمَسْكَنَةٍ وَذِلَّةٍ، قَدْ فَارَقَ الأَحِبَّةَ وَأَسْلَمَتْهُ العَصَبَةُ، فَلَا تُؤْنَسُ وَحْشَتُهُ أَبَداً، وَلَا تُرَدُّ غُرْبَتُهُ أَبَداً، وَاعْلَمْ أَنَّهَا يَحِقُّ عَلَى المَرْءِ اللَّبِيبِ مِنْ سِيَاسَةِ نَفْسِهِ خَاصَّةً كَسِيَاسَةِ الإِمَامِ العَادِلِ الحَازِمِ الَّذِي يُؤَدِّبُ العَامَّةَ، وَيَسْتَصْلِحُ الرَّعِيَّةَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ، ثُمَّ يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ مِنْهُمْ، وَيُكْرِمُ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ لِلرَّجُلِ اللَّبِيبِ أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ فِي جَمِيعِ أَخْلَاقِهَا وَأَهْوَائِهَا وَشَهَوَاتِهَا وَأَنْ تَحْمِلَهَا وَإِنْ كَرِهَتْ عَلَى لُزُومِ مَنَافِعِهَا فِيمَا أَحَبَّتْ وَكَرِهَتْ، وَعَلَى اجْتِنَابِ مَضَارِّهَا، وَأَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ ثَوَاباً وَعِقَاباً مِنْ مَكَانِهَا مِنَ السُّرُورِ إِذَا أَحْسَنَتْ، وَمِنْ مَكَانِهَا مِنَ الغَمِّ إِذَا أَسَاءَتْ، وَمِمَّا يَحِقُّ عَلَى ذِي العَقْلِ النَّظَرُ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِ، وَالأَخْذُ بِصَوَابِهَا، وَيَنْهَى نَفْسَهُ عَنْ خَطَائِهَا، وَأَنْ يَحْتَقِرَ عَمَلَهُ وَنَفْسَهُ فِي رَأْيِهِ لِكَيْ لَا يَدْخُلَهُ عُجْبٌ، فَإِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) قَدْ مَدَحَ أَهْلَ العَقْلِ وَذَمَّ أَهْلَ العُجْبِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، وَبِالعَقْلِ يُدْرَكُ كُلُّ خَيْرٍ بِإِذْنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَبِالجَهْلِ تَهْلِكُ النُّفُوسُ، وَإِنَّ مِنْ أَوْثَقِ الثِّقَاتِ عِنْدَ ذَوِي الألبَابِ مَا أَدْرَكَتْهُ العُقُولُ، وَبَلَغَتْهُ تَجَارِبُهُمْ، وَنَالَتْهُ أَبْصَارُهُمْ فِي التَّرْكِ لِلْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَلَيْسَ ذُو العَقْلِ بِجَدِيرٍ أَنْ يَرْفُضَ مَا قَوِيَ عَلَى حِفْظِهِ مِنَ العَمَلِ احْتِقَاراً لَهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ

(٣٩١)

أَسْلِحَةِ الشَّيْطَانِ الغَامِضَةِ الَّتِي لَا يُبْصِرُهَا إِلَّا مَنْ تَدَبَّرَهَا، وَلَا يَسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ مِنْهَا، وَمِنْ رَأْسِ أَسْلِحَتِهِ سِلَاحَانِ أَحَدُهُمَا إِنْكَارُ العَقْلِ أَنْ يُوقِعَ فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ العَاقِلِ أَنَّهُ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا بَصَرَ وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي عَقْلِهِ وَبَصَرِهِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَصُدَّهُ عَنْ مَحَبَّةِ العِلْمِ وَطَلَبِهِ، ويُزَيِّنَ لَهُ الاِشْتِغَالَ بِغَيْرِهِ مِنْ مَلَاهِي الدُّنْيَا، فَإِنِ اتَّبَعَهُ الإِنْسَانُ مِنْ هَذَا الوَجْهِ فَهُوَ ظَفَرُهُ، وَإِنْ عَصَاهُ وَغَلَبَهُ فَزِعَ إِلَى السِّلَاحِ الآخَرِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الإِنْسَانَ إِذَا عَمِلَ شَيْئاً وَأَبْصَرَ عَرَضَ لَهُ بِأَشْيَاءَ لَا يُبْصِرُهَا لِيَغُمَّهُ وَيُضْجِرَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ حَتَّى يُبَغِّضَ إِلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ بِتَضْعِيفِ عَقْلِهِ عِنْدَهُ، وَبِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَيَقُولُ: أَلَسْتَ تَرَى أَنَّكَ لَا تَسْتَكْمِلُ هَذَا الأَمْرَ وَلَا تُطِيقُهُ أَبَداً، فَبِمَ تَعْنِي نَفْسَكَ وَتُشْقِيهَا فِيمَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ، فَبِهَذَا السِّلَاحِ صَرَعَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ، فَاحْتَرِسْ مِنْ أَنْ تَدَعَ اكْتِسَابَ عِلْمِ مَا تَعْلَمُهُ وَأَنْ تُخْدَعَ عَمَّا اكْتَسَبْتَ مِنْهُ، فَإِنَّكَ فِي دَارٍ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى أَكْثَرِ أَهْلِهَا الشَّيْطَانُ بِألوَانِ حِيَلِهِ وَوُجُوهِ ضَلَالَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ ضَرَبَ عَلَى سَمْعِهِ وَعَقْلِهِ وَقَلْبِهِ فَتَرَكَهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئاً، وَلَا يَسْأَلُ عَنْ عِلْمِ مَا يَجْهَلُ مِنْهُ كَالبَهِيمَةِ، وَإِنَّ لِعَامَّتِهِمْ أَدْيَاناً مُخْتَلِفَةً، فَمِنْهُمُ المُجْتَهِدُونَ فِي الضَّلَالَةِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَسْتَحِلُّ دَمَ بَعْضٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَيُمَوِّهُ ضَلَالَتَهُمْ بِأَشْيَاءَ مِنَ الحَقِّ لِيَلْبِسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَيُزَيِّنَهُ لِضَعِيفِهِمْ، وَيَصُدَّهُمْ عَنِ الدِّينِ القَيِّمِ، فَالشَّيْطَانُ وَجُنُودُهُ دَائِبُونَ فِي إِهْلَاكِ النَّاسِ، وَتَضْلِيلِهِمْ لَا يَسْأَمُونَ، وَلَا يَفْتُرُونَ وَلَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ، وَلَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُ مَكَائِدِهِمْ إِلَّا بِعَوْنٍ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَالاِعْتِصَامِ بِدِينِهِ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَوْفِيقاً لِطَاعَتِهِ وَنَصْراً عَلَى عَدُوِّنَا، فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: صِفْ لِيَ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَتَّى كَأَنِّي أَرَاهُ.
قَالَ: إِنَّ اللهَ تَقَدَّسَ ذِكْرُهُ لَا يُوصَفُ بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا يُبْلَغُ بِالعُقُولِ كُنْهَ صِفَتِهِ، وَلَا تَبْلُغُ الألسُنُ كُنْهَ مِدْحَتِهِ، وَلَا يُحِيطُ العِبَادُ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا عَلَّمَهُمْ مِنْهُ عَلَى

(٣٩٢)

السِنَةِ أَنْبِيَائِهِ (عليهم السلام) بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا تُدْرِكُ الأَوْهَامُ عِظَمَ رُبُوبِيَّتِهِ، هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ وَأَعَزُّ وَأَعْظَمُ وَأَمْنَعُ وَألطَفُ، فَبَاحَ لِلْعِبَادِ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا أَحَبَّ، وَأَظْهَرَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ عَلَى مَا أَرَادَ، وَدَلَّهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ رُبُوبِيَّتِهِ بِإِحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُنْ، وَإِعْدَامِ مَا أَحْدَثَ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: وَمَا الحُجَّةُ؟
قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ شَيْئاً مَصْنُوعاً غَابَ عَنْكَ صَانِعُهُ عَلِمْتَ بِعَقْلِكَ أَنَّ لَهُ صَانِعاً، فَكَذَلِكَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَأَيُّ حَجَّةٍ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: فَأَخْبِرْنِي أَيُّهَا الحَكِيمُ أَبِقَدَرٍ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) يُصِيبُ النَّاسَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الأَسْقَامِ وَالأَوْجَاعِ وَالفَقْرِ وَالمَكَارِهِ أَوْ بِغَيْرِ قَدَرٍ.
قَالَ بِلَوْهَرُ: لَا بَلْ بِقَدَرٍ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ.
قَالَ: إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) مِنْ سَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ بَرِيءٌ، وَلَكِنَّهُ (عزَّ وجلَّ) أَوْجَبَ الثَّوَابَ العَظِيمَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَالعِقَابَ الشَّدِيدَ لِمَنْ عَصَاهُ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَنْ أَعْدَلُ النَّاسِ، وَمَنْ أَجْوَرُهُمْ، وَمَنْ أَكْيَسُهُمْ، وَمَنْ أَحْمَقُهُمْ، وَمَنْ أَشْقَاهُمْ، وَمَنْ أَسْعَدُهُمْ؟
قَالَ: أَعْدَلُهُمْ أَنْصَفُهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَجْوَرُهُمْ مَنْ كَانَ جَوْرُهُ عِنْدَهُ عَدْلاً وَعَدْلُ أَهْلِ العَدْلِ عِنْدَهُ جَوْراً، وَأَمَّا أَكْيَسُهُمْ فَمَنْ أَخَذَ لِآخِرَتِهِ أُهْبَتَهَا(902)، وَأَحْمَقُهُمْ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، وَالخَطَايَا عَمَلَهُ، وَأَسْعَدُهُمْ مَنْ خُتِمَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ بِخَيْرٍ، وَأَشْقَاهُمْ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِمَا يُسْخِطُ اللهَ (عزَّ وجلَّ).
ثُمَّ قَالَ: مَنْ دَانَ النَّاسَ بِمَا إِنْ دُيِّنَ بِمِثْلِهِ هَلَكَ، فَذَلِكَ المُسْخِطُ للهِ المُخَالِفُ لِمَا يُحِبُّ، وَمَنْ دَانَهُمْ بِمَا إِنْ دُيِّنَ بِمِثْلِهِ صَلَحَ، فَذَلِكَ المُطِيعُ لِلهِ المُوَافِقُ لِمَا يُحِبُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(902) الأُهبة: العدَّة، يقال: أخذ للسفر أُهبته أي أسبابه.

(٣٩٣)

المُجْتَنِبُ لِسَخَطِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَسْتَقْبِحَنَّ الحَسَنَ وَإِنْ كَانَ فِي الفُجَّارِ، وَلَا تَسْتَحْسِنَنَّ القَبِيحَ وَإِنْ كَانَ فِي الأَبْرَارِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي أَيُّ النَّاسِ أَوْلَى بِالسَّعَادَةِ؟ وَأَيُّهُمْ أَوْلَى بِالشَّقَاوَةِ؟
قَالَ بِلَوْهَرُ: أَوْلَاهُمْ بِالسَّعَادَةِ المُطِيعُ لِلهِ (عزَّ وجلَّ) فِي أَوَامِرِهِ، وَالمُجْتَنِبُ لِنَوَاهِيهِ، وَأَوْلَاهُمْ بِالشَّقَاوَةِ العَامِلُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، التَّارِكُ لِطَاعَتِهِ، المُؤْثِرُ لِشَهْوَتِهِ عَلَى رِضَا اللهِ (عزَّ وجلَّ).
قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ أَطْوَعُهُمْ لِلهِ (عزَّ وجلَّ)؟
قَالَ: أَتْبَعُهُمْ لِأَمْرِهِ، وَأَقْوَاهُمْ فِي دِينِهِ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنَ العَمَلِ بِالسَّيِّئَاتِ.
قَالَ: فَمَا الحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ؟
قَالَ: الحَسَنَاتُ صِدْقُ النِّيَّةِ وَالعَمَلِ، وَالقَوْلُ الطَّيِّبُ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالسَّيِّئَاتُ سُوءُ النِّيَّةِ، وَسُوءُ العَمَلِ، وَالقَوْلُ السَّيِّئُ.
قَالَ: فَمَا صِدْقُ النِّيَّةِ؟
قَالَ: الاِقْتِصَادُ فِي الهِمَّةِ.
قَالَ: فَمَا سُوءُ(903) القَوْلِ؟
قَالَ: الكَذِبُ.
قَالَ: فَمَا سُوءُ العَمَلِ؟
قَالَ: مَعْصِيَةُ اللهِ (عزَّ وجلَّ).
قَالَ: أَخْبِرْنِي كَيْفَ الِاقْتِصَادُ فِي الهِمَّةِ؟
قَالَ: التَّذَكُّرُ لِزَوَالِ الدُّنْيَا وَانْقِطَاعِ أَمْرِهَا، وَالكَفُّ عَنِ الأُمُورِ الَّتِي فِيهَا النَّقِمَةُ وَالتَّبِعَةُ فِي الآخِرَةِ.
قَالَ: فَمَا السَّخَاءُ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(903) في بعض النُّسَخ: (شرٌّ) مكان (سوء)، وكذا ما يأتي.

(٣٩٤)

قَالَ: إِعْطَاءُ المَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ).
قَالَ: فَمَا الكَرَمُ؟
قَالَ: التَّقْوَى.
قَالَ: فَمَا البُخْلُ؟
قَالَ: مَنْعُ الحُقُوقِ عَنْ أَهْلِهَا، وَأَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا.
قَالَ: فَمَا الحِرْصُ؟
قَالَ: الإِخْلَادُ إِلَى الدُّنْيَا، وَالطِّمَاحُ إِلَى الأُمُورِ الَّتِي فِيهَا الفَسَادُ، وَثَمَرَتُهَا عُقُوبَةُ الآخِرَةِ.
قَالَ: فَمَا الصِّدْقُ؟
قَالَ: الطَّرِيقَةُ فِي الدِّينِ بِأَنْ لَا يُخَادِعَ المَرْءُ نَفْسَهُ وَلَا يَكْذِبَهَا.
قَالَ: فَمَا الحُمْقُ؟
قَالَ: الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى الدُّنْيَا، وَتَرْكُ مَا يَدُومُ وَيَبْقَى.
قَالَ: فَمَا الكَذِبُ؟
قَالَ: أَنْ يَكْذِبَ المَرْءُ نَفْسَهُ، فَلَا يَزَالُ بِهَوَاهُ شَغِفاً وَلِدِينِهِ مُسَوِّفاً.
قَالَ: أَيُّ الرِّجَالِ أَكْمَلُهُمْ فِي الصَّلَاحِ؟
قَالَ: أَكْمَلُهُمْ فِي العَقْلِ، وَأَبْصَرُهُمْ بِعَوَاقِبِ الأُمُورِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِخُصُومِهِ، وَأَشَدُّهُمْ مِنْهُمُ احْتِرَاساً.
قَالَ: أَخْبِرْنِي مَا تِلْكَ العَاقِبَةُ، وَمَا أُولَئِكَ الخُصَمَاءُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمُ العَاقِلُ فَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ؟
قَالَ: العَاقِبَةُ الآخِرَةُ، وَالفَنَاءُ الدُّنْيَا.
قَالَ: فَمَا الخُصَمَاءُ؟
قَالَ: الحِرْصُ، وَالغَضَبُ، وَالحَسَدُ، وَالحَمِيَّةُ، وَالشَّهْوَةُ، وَالرِّيَاءُ، وَاللَّجَاجَةُ.

(٣٩٥)

قَالَ: أَيُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَدَدْتَ أَقْوَى وَأَجْدَرُ أَنْ يُسْلَمَ مِنْهُ؟
قَالَ: الحِرْصُ أَقَلُّ رِضاً وَأَفْحَشُ غَضَباً، وَالغَضَبُ أَجْوَرُ سُلْطَاناً وَأَقَلُّ شُكْراً وَأَكْسَبُ لِلْبَغْضَاءِ، وَالحَسَدُ أَسْوَأُ الخَيْبَةِ لِلنِّيَّةِ وَأَخْلَفُ لِلظَّنِّ، وَالحَمِيَّةُ أَشَدُّ لَجَاجَةً وَأَفْظَعُ مَعْصِيَةً، وَالحِقْدُ أَطْوَلُ تَوَقُّداً وَأَقَلُّ رَحْمَةً وَأَشَدُّ سَطْوَةً، وَالرِّيَاءُ أَشَدُّ خَدِيعَةً وَأَخْفَى اكْتِتَاماً وَأَكْذَبُ، وَاللَّجَاجَةُ أَعْيَا خُصُومَةً وَأَقْطَعُ مَعْذِرَةً.
قَالَ: أَيُّ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ لِلنَّاسِ فِي هَلَاكِهِمْ أَبْلَغُ؟
قَالَ: تَعْمِيَتُهُ عَلَيْهِمُ البِرَّ وَالإِثْمَ وَالثَّوَابَ وَالعِقَابَ وَعَوَاقِبَ الأُمُورِ فِي ارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ.
قَالَ: أَخْبِرْنِي بِالقُوَّةِ الَّتِي قَوَّى اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهَا العِبَادَ فِي تَغَالُبِ تِلْكَ الأُمُورِ السَّيِّئَةِ وَالأَهْوَاءِ المُرْدِيَةِ.
قَالَ: العِلْمُ وَالعَقْلُ وَالعَمَلُ بِهِمَا، وَصَبْرُ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَالرَّجَاءُ لِلثَّوَابِ فِي الدِّينِ، وَكَثْرَةُ الذِّكْرِ لِفَنَاءِ الدُّنْيَا، وَقُرْبِ الأَجَلِ، وَالاِحْتِفَاظُ مِنْ أَنْ يَنْقُضَ مَا يَبْقَى بِمَا يَفْنَى، فَاعْتِبَارُ مَاضِي الأُمُورِ بِعَاقِبَتِهَا، وَالاِحْتِفَاظُ بِمَا لَا يَعْرِفُ إِلَّا عِنْدَ ذَوِي العُقُولِ وَكَفُّ النَّفْسِ عَنِ العَادَةِ السَّيِّئَةِ وَحَمْلُهَا عَلَى العَادَةِ الحَسَنَةِ وَالخُلُقِ المَحْمُودِ، وَأَنْ يَكُونَ أَمَلُ المَرْءِ بِقَدْرِ عَيْشِهِ حَتَّى يَبْلُغَ غَايَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ القُنُوعُ وَعَمَلُ الصَّبْرِ وَالرِّضَا بِالكَفَافِ وَاللُّزُومُ لِلْقَضَاءِ وَالمَعْرِفَةُ بِمَا فِيهِ فِي الشِّدَّةِ مِنَ التَّعَبِ وَمَا فِي الإِفْرَاطِ مِنَ الاِقْتِرَافِ، وَحُسْنِ العَزَاءِ عَمَّا فَاتَ، وَطِيبُ النَّفْسِ عَنْهُ، وَتَرْكُ مُعَالَجَةِ مَا لَا يَتِمُّ، وَالصَّبْرُ بِالأُمُورِ الَّتِي إِلَيْهَا يُرَدُّ، وَاخْتِيَارُ سَبِيلِ الرُّشْدِ عَلَى سَبِيلِ الغَيِّ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَمِلَ خَيْراً أُجْزِيَ بِهِ، وَإِنْ عَمِلَ شَرًّا أُجْزِيَ بِهِ، وَالمَعْرِفَةُ بِالحُقُوقِ وَالحُدُودِ فِي التَّقْوَى، وَعَمَلُ النَّصِيحَةِ، وَكَفُّ النَّفْسِ عَنِ اتِّبَاعِ الهَوَى، وَرُكُوبُ الشَّهَوَاتِ، وَحَمْلُ الأُمُورِ عَلَى الرَّأْيِ، وَالأَخْذُ بِالحَزْمِ وَالقُوَّةِ، فَإِنْ أَتَاهُ البَلَاءُ أَتَاهُ وَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مَلُومٍ.

(٣٩٦)

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَيُّ الأَخْلَاقِ أَكْرَمُ وَأَعَزُّ؟
قَالَ: التَّوَاضُعُ وَلِينُ الكَلِمَةِ لِلْإِخْوَانِ فِي اللهِ (عزَّ وجلَّ).
قَالَ: أَيُّ العِبَادَةِ أَحْسَنُ؟
قَالَ: الوَقَارُ وَالمَوَدَّةُ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي أَيُّ الشِّيَمِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: حُبُّ الصَّالِحِينَ.
قَالَ: أَيُّ الذِّكْرِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: مَا كَانَ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ.
قَالَ: فَأَيُّ الخُصُومِ أَلَدُّ؟
قَالَ: ارْتِكَابُ الذُّنُوبِ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَخْبِرْنِي أَيُّ الفَضْلِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: الرِّضَا بِالكَفَافِ.
قَالَ: أَخْبِرْنِي أَيُّ الأَدَبِ أَحْسَنُ؟
قَالَ: أَدَبُ الدِّينِ.
قَالَ: أَيُّ الشَّيْءِ أَجْفَى؟
قَالَ: السُّلْطَانُ العَاتِي، وَالقَلْبُ القَاسِي.
قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَبْعَدُ غَايَةً؟
قَالَ: عَيْنُ الحَرِيصِ الَّتِي لَا تَشْبَعُ مِنَ الدُّنْيَا.
قَالَ: أَيُّ الأُمُورِ أَخْبَثُ عَاقِبَةً؟
قَالَ: التِمَاسُ رِضَا النَّاسِ فِي سَخَطِ الرَّبِّ (عزَّ وجلَّ).
قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَسْرَعُ تَقَلُّباً؟
قَالَ: قُلُوبُ المُلُوكِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا.

(٣٩٧)

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي أَيُّ الفُجُورِ أَفْحَشُ؟
قَالَ: إِعْطَاءُ عَهْدِ اللهِ وَالغَدْرُ فِيهِ.
قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَسْرَعُ انْقِطَاعاً؟
قَالَ: مَوَدَّةُ الفَاسِقِ.
قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَخْوَنُ؟
قَالَ: لِسَانُ الكَاذِبِ.
قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ اكْتِتَاماً؟
قَالَ: شَرُّ المُرَائِي المُخَادِعِ.
قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَشْبَهُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا؟
قَالَ: أَحْلَامُ النَّائِمِ.
قَالَ: أَيُّ الرِّجَالِ أَفْضَلُ رِضًا؟
قَالَ: أَحْسَنُهُمْ ظَنًّا بِاللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَأَتْقَاهُمْ وَأَقَلُّهُمْ غَفْلَةً عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَذِكْرِ المَوْتِ وَانْقِطَاعِ المُدَّةِ.
قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا أَقَرُّ لِلْعَيْنِ؟
قَالَ: الوَلَدُ الأَدِيبُ، وَالزَّوْجَةُ المُوَافِقَةُ المُؤَاتِيَةُ المُعِينَةُ عَلَى أَمْرِ الآخِرَةِ.
قَالَ: أَيُّ الدَّاءِ الزَمُ فِي الدُّنْيَا؟
قَالَ: الوَلَدُ السَّوْءُ وَالزَّوْجَةُ السَّوْءُ اللَّذَيْنِ لَا يَجِدُ مِنْهُمَا بُدًّا.
قَالَ: أَيُّ الخَفْضِ أَخْفَضُ؟
قَالَ: رِضَا المَرْءِ بِحَظِّهِ، وَاسْتِينَاسُهُ بِالصَّالِحِينَ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ المَلِكِ لِلْحَكِيمِ: فَرِّغْ لِي ذِهْنَكَ، فَقَدْ أَرَدْتُ مُسَاءَلَتَكَ عَنْ أَهَمِّ الأَشْيَاءِ إِلَيَّ بَعْدَ إِذْ بَصَّرَنِيَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) مِنْ أَمْرِي مَا كُنْتُ بِهِ جَاهِلاً، وَرَزَقَنِي مِنَ الدِّينِ مَا كُنْتُ مِنْهُ آيِساً.

(٣٩٨)

قَالَ الحَكِيمُ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: أَرَأَيْتَ مَنْ أُوتِيَ المُلْكَ طِفْلاً وَدِينُهُ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ وَقَدْ غُذِّيَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَاعْتَادَهَا وَنَشَأَ فِيهَا إِلَى أَنْ كَانَ رَجُلاً وَكَهْلاً، لَا يَنْتَقِلُ مِنْ حَالَتِهِ تِلْكَ فِي جَهَالَتِهِ بِاللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَإِعْطَائِهِ نَفْسَهُ شَهَوَاتِهَا مُتَجَرِّداً لِبُلُوغِ الغَايَةِ فِيمَا زُيِّنَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ مُشْتَغِلاً بِهَا، مُؤْثِراً لَهَا، جَرِيًّا عَلَيْهَا، لَا يَرَى الرُّشْدَ إِلَّا فِيهَا، وَلَا تَزِيدُهُ الأَيَّامُ إِلَّا حُبًّا لَهَا وَاغْتِرَاراً بِهَا، وَعَجَباً وَحُبًّا لِأَهْلِ مِلَّتِهِ وَرَأْيِهِ.
وَقَدْ دَعَتْهُ بَصِيرَتُهُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ جَهِلَ أَمْرَ آخِرَتِهِ وَأَغْفَلَهَا، فَاسْتَخَفَ بِهَا وَسَهَا عَنْهَا قَسَاوَةَ قَلْبٍ وَخُبْثَ نِيَّةٍ وَسُوءَ رَأْيٍ، وَاشْتَدَّتْ عَدَاوَتُهُ لِمَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالاِسْتِخْفَاءِ بِالحَقِّ وَالمُغَيِّبِينَ لِأَشْخَاصِهِمْ انْتِظَاراً لِلْفَرَجِ مِنْ ظُلْمِهِ وَعَدَاوَتِهِ، هَلْ يَطْمَعُ لَهُ إِنْ طَالَ عُمُرُهُ فِي النُّزُوعِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، وَالخُرُوجِ مِنْهُ إِلَى مَا الفَضْلُ فِيهِ بَيِّنٌ وَالحُجَّةُ فِيهِ وَاضِحَةٌ، وَالحَظُّ جَزِيلٌ مِنْ لُزُومِ مَا أُبْصِرَ مِنَ الدِّينِ فَيَأْتِي مَا يُرْجَى لَهُ [بِهِ] مَغْفِرَةً لِمَا قَدْ سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَحُسْنِ الثَّوَابِ فِي مَآبِهِ؟
قَالَ الحَكِيمُ: قَدْ عَرَفْتُ هَذِهِ الصِّفَةَ، وَمَا دَعَاكَ إِلَى هَذِهِ المَسْأَلَةِ؟
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: مَا ذَاكَ مِنْكَ بِمُسْتَنْكَرٍ لِفَضْلِ مَا أُوتِيتَ مِنَ الفَهْمِ وَخُصِّصْتَ بِهِ مِنَ العِلْمِ.
قَالَ الحَكِيمُ: أَمَّا صَاحِبُ هَذِهِ الصِّفَةِ فَالمَلِكُ، وَالَّذِي دَعَاكَ إِلَيْهِ العِنَايَةُ بِمَا سَالتَ عَنْهُ، وَالاِهْتِمَامُ بِهِ مِنْ أَمْرِهِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ مَا أَوْعَدَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ وَطَبْعِهِ وَهَوَاهُ، مَعَ مَا نَوَيْتَ مِنْ ثَوَابِ اللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي أَدَاءِ حَقِّ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْكَ لَهُ، وَأَحْسَبُكَ تُرِيدُ بُلُوغَ غَايَةِ العُذْرِ فِي التَّلَطُّفِ لِإِنْقَاذِهِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْ عَظِيمِ الهَوْلِ وَدَائِمِ البَلَاءِ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ إِلَى السَّلَامَةِ وَرَاحَةِ الأَبَدِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ.

(٣٩٩)

قَالَ ابْنُ المَلِكِ: لَمْ تَجْرِمْ(904) حَرْفاً عَمَّا أَرَدْتُ، فَأَعْلِمْنِي رَأْيَكَ فِيمَا عَنَيْتُ مِنْ أَمْرِ المَلِكِ وَحَالِهِ الَّتِي أَتَخَوَّفُ أَنْ يُدْرِكَهُ المَوْتُ عَلَيْهَا فَتُصِيبَهُ الحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ حِينَ لَا أُغْنِي عَنْهُ شَيْئاً، فَاجْعَلْنِي مِنْهُ عَلَى يَقِينٍ، وَفَرِّجْ عَمَّا أَنَا بِهِ مَغْمُومٌ شَدِيدُ الاِهْتِمَامِ بِهِ فَإِنِّي قَلِيلُ الحِيلَةِ فِيهِ.
قَالَ الحَكِيمُ: أَمَّا رَأْيُنَا فَإِنَّا لَا نُبَعِّدُ مَخْلُوقاً مِنْ رَحْمَةِ اللهِ خَالِقِهِ (عزَّ وجلَّ)، وَلَا نَأْيَسُ لَهُ مِنْهَا مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ، وَإِنْ كَانَ عَاتِياً طَاغِياً ضَالًّا لِمَا قَدْ وَصَفَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ مِنَ التَّحَنُّنِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الإِيمَانِ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الاِسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ، وَفِي هَذَا فَضْلُ الطَّمَعِ لَكَ فِي حَاجَتِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ.
وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنٍ مِنَ الأَزْمَانِ مَلِكٌ عَظِيمُ الصَّوْتِ فِي العِلْمِ، رَفِيقٌ سَائِسٌ، يُحِبُّ العَدْلَ فِي أُمَّتِهِ وَالإِصْلَاحَ لِرَعِيَّتِهِ، عَاشَ بِذَلِكَ زَمَاناً بِخَيْرِ حَالٍ، ثُمَّ هَلَكَ، فَجَزِعَتْ عَلَيْهِ أُمَّتُهُ، وَكَانَ بِامْرَأَةٍ لَهُ حَمْلٌ، فَذَكَرَ المُنَجِّمُونَ وَالكَهَنَةُ أَنَّهُ غُلَامٌ، وَكَانَ يُدَبِّرُ مُلْكَهُمْ مَنْ كَانَ يَلِي ذَلِكَ فِي زَمَانِ مُلْكِهِمْ، فَاتَّفَقَ الأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ المُنَجِّمُونَ وَالكَهَنَةُ، وَوُلِدَ مِنْ ذَلِكَ الحَمْلِ غُلَامٌ، فَأَقَامُوا عِنْدَ مِيلَادِهِ سَنَةً بِالمَعَازِفِ وَالمَلَاهِي وَالأَشْرِبَةِ وَالأَطْعِمَةِ.
ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ العِلْمِ مِنْهُمْ وَالفِقْهِ وَالرَّبَّانِيِّينَ قَالُوا لِعَامَّتِهِمْ: إِنَّ هَذَا المَوْلُودَ إِنَّمَا هُوَ هِبَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ جَعَلْتُمُ الشُّكْرَ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ هِبَةً مِنْ غَيْرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) فَقَدْ أَدَّيْتُمُ الحَقَّ إِلَى مَنْ أَعْطَاكُمُوهُ وَاجْتَهَدْتُمْ فِي الشُّكْرِ لِمَنْ رَزَقَكُمُوهُ.
فَقَالَ لَهُمُ العَامَّةُ: مَا وَهَبَهُ لَنَا إِلَّا اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْنَا غَيْرُهُ.
قَالَ العُلَمَاءُ: فَإِنْ كَانَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) هُوَ الَّذِي وَهَبَهُ لَكُمْ فَقَدْ أَرْضَيْتُمْ غَيْرَ الَّذِي أَعْطَاكُمْ وَأَسْخَطْتُمُ اللهَ الَّذِي وَهَبَهُ لَكُمْ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(904) هذه اللفظة يمكن أنْ يكون بالجيم والراء، أي لم تخطأ. أو بالحاء المهملة على صيغة المفعول، أي لم تمنع من فهمه. أو بالخاء المعجمة، أي لم تترك. أو بالزاي، أي لم تشكّ.

(٤٠٠)

فَقَالَتْ لَهُمُ الرَّعِيَّةُ: فَأَشِيرُوا لَنَا أَيُّهَا الحُكَمَاءُ وَأَخْبِرُونَا أَيُّهَا العُلَمَاءُ فَنَتَّبِعَ قَوْلَكُمْ وَنَتَقَبَّلَ نَصِيحَتَكُمْ، وَمُرُونَا بِأَمْرِكُمْ.
قَالَتِ العُلَمَاءُ: فَإِنَّا نَرَى لَكُمْ أَنْ تَعْدِلُوا عَنِ اتِّبَاعِ مَرْضَاةِ الشَّيْطَانِ بِالمَعَازِفِ وَالمَلَاهِي وَالمُسْكِرِ إِلَى ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَشُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ أَضْعَافَ شُكْرِكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَتَّى يُغْفَرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنْكُمْ.
قَالَتِ الرَّعِيَّةُ: لَا تَحْمِلُ أَجْسَادُنَا كُلَّ الَّذِي قُلْتُمْ وَأَمَرْتُمْ بِهِ.
قَالَتِ العُلَمَاءُ: يَا أُولِي الجَهْلِ، كَيْفَ أَطَعْتُمْ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْكُمْ وَتَعْصُونَ مَنْ لَهُ الحَقُّ الوَاجِبُ عَلَيْكُمْ؟ وَكَيْفَ قَوِيتُمْ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي وَتَضْعُفُونَ عَمَّا يَنْبَغِي؟!
قَالُوا لَهُمْ: يَا أَئِمَّةَ الحُكَمَاءِ، عَظُمَتْ فِينَا الشَّهَوَاتُ، وَكَثُرَتْ فِينَا اللَّذَّاتُ، فَقَوِينَا بِمَا عَظُمَ فِينَا مِنْهَا عَلَى العَظِيمِ مِنْ شَكْلِهَا، وَضَعُفَتْ مِنَّا النِّيَّاتُ، فَعَجَزْنَا عَنْ حَمْلِ المُثْقِلَاتِ، فَارْضَوْا مِنَّا فِي الرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ يَوْماً فَيَوْماً، وَلَا تُكَلِّفُونَا كُلَّ هَذَا الثِّقْلِ.
قَالُوا لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ السُّفَهَاءِ، أَلَسْتُمْ أَبْنَاءَ الجَهْلِ وَإِخْوَانَ الضَّلَالِ حِينَ خَفَّتْ عَلَيْكُمُ الشِّقْوَةُ وَثَقُلَتْ عَلَيْكُمُ السَّعَادَةُ؟
قَالُوا لَهُمْ: أَيُّهَا السَّادَةُ الحُكَمَاءُ وَالقَادَةُ العُلَمَاءُ، إِنَّا نَسْتَجِيرُ مِنْ تَعْنِيفِكُمْ إِيَّانَا بِمَغْفِرَةِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَنَسْتَتِرُ مِنْ تَعْيِيرِكُمْ لَنَا بِعَفْوِهِ، فَلَا تُؤَنِّبُونَا(905) وَلَا تُعَيِّرُونَا بِضَعْفِنَا وَلَا تَعِيبُوا الجَهَالَةَ عَلَيْنَا، فَإِنَّا إِنْ أَطَعْنَا اللهَ مَعَ عَفْوِهِ وَحِلْمِهِ وَتَضْعِيفِهِ الحَسَنَاتِ وَاجْتَهَدْنَا فِي عِبَادَتِهِ مِثْلَ الَّذِي بَذَلْنَا لِهَوَانَا مِنَ البَاطِلِ بَلَغْنَا حَاجَتَنَا وَبَلَّغَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِنَا غَايَتَنَا وَرَحِمَنَا كَمَا خَلَقَنَا.
فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَقَرَّ لَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَرَضُوا قَوْلَهُمْ، فَصَلُّوا وَصَامُوا وَتَعَبَّدُوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(905) أنَّبه - بشدِّ النون -: عنَّفه ولامه.

(٤٠١)

وَأَعْظَمُوا الصَّدَقَاتِ سَنَةً كَامِلَةً، فَلَمَّا انْقَضَى ذَلِكَ مِنْهُمْ قَالَتِ الكَهَنَةُ: إِنَّ الَّذِي صَنَعَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى هَذَا المَوْلُودِ يُخْبِرُ أَنَّ هَذَا المَلِكَ يَكُونُ فَاجِراً وَيَكُونُ بَارًّا، وَيَكُونُ مُتَجَبِّراً وَيَكُونُ مُتَوَاضِعاً، وَيَكُونُ مُسِيئاً وَيَكُونُ مُحْسِناً، وَقَالَ المُنَجِّمُونَ مِثْلَ ذَلِكَ.
فَقِيلَ لَهُمْ: كَيْفَ قُلْتُمْ ذَلِكَ؟ قَالَ الكَهَنَةُ: قُلْنَا هَذَا مِنْ قِبَلِ اللَّهْوِ وَالمَعَازِفِ وَالبَاطِلِ الَّذِي صُنِعَ عَلَيْهِ، وَمَا صُنِعَ عَلَيْهِ مِنْ ضِدِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ المُنَجِّمُونَ: قُلْنَا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اسْتِقَامَةِ الزُّهْرَةِ وَالمُشْتَرِي.
فَنَشَأَ الغُلَامُ بِكِبْرٍ لَا تُوصَفُ عَظَمَتُهُ، وَمَرَحٍ لَا يُنْعَتُ، وَعُدْوَانٍ لَا يُطَاقُ، فَعَسَفَ وَجَارَ وَظَلَمَ فِي الحُكْمِ وَغَشَمَ وَكَانَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ مَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيْهِ مَنْ خَالَفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاغْتَرَّ بِالشَّبَابِ وَالصِّحَّةِ وَالقُدْرَةِ وَالظَّفَرِ وَالنَّظَرِ، فَامْتَلَأَ سُرُوراً وَإِعْجَاباً بِمَا هُوَ فِيهِ، وَرَأَى كُلَّمَا يُحِبُّ وَسَمِعَ كُلَّمَا اشْتَهَى حَتَّى بَلَغَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ جَمَعَ نِسَاءً مِنْ بَنَاتِ المُلُوكِ وَصِبْيَاناً وَالجَوَارِيَ وَالمُخَدَّرَاتِ وَخَيْلَهُ المُطَهَّمَاتِ العَنَاقَ(906) وَالوَانَ مَرَاكِبِهِ الفَاخِرَةِ وَوَصَائِفَهُ وَخُدَّامَهُ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي خِدْمَتِهِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْبَسُوا أَجَدَّ ثِيَابِهِمْ وَيَتَزَيَّنُوا بِأَحْسَنِ زِينَتِهِمْ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ مَجْلِسٍ مُقَابِلَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ صَفَائِحُ أَرْضِهِ الذَّهَبُ، مُفَضَّضاً بِأَنْوَاعِ الجَوَاهِرِ، طُولُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعاً وَعَرْضُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً، مُزَخْرَفاً سَقْفُهُ وَحِيطَانُهُ، قَدْ زُيِّنَ بِكَرَائِمِ الحُلِيِّ وَصُنُوفِ الجَوْهَرِ وَاللُّؤْلُؤِ النَّظِيمِ وَفَاخِرِهِ، وَأَمَرَ بِضُرُوبِ الأَمْوَالِ فَأُخْرِجَتْ مِنَ الخَزَائِنِ وَنُضِّدَتْ سِمَاطَيْنِ(907) أَمَامَ مَجْلِسِهِ، وَأَمَرَ جُنُودَهُ وَأَصْحَابَهُ وَقُوَّادَهُ وَكُتَّابَهُ وَحُجَّابَهُ وَعُظَمَاءَ أَهْلِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(906) أي تامُّ الحسن.
(907) نضد المتاع - بشدِّ الضاد وتخفيفها -: رتَّبه وضمَّ بعضه إلى بعض متَّسقاً أو مركوماً. والسماط: الشيء المصطفُّ، وسماط الطريق جانباه.

(٤٠٢)

بِلَادِهِ وَعُلَمَاءَهُمْ، فَحَضَرُوا فِي أَحْسَنِ هَيْأَتِهِمْ وَأَجْمَلِ جَمَالِهِمْ، وَتَسَلَّحَ فُرْسَانُهُ وَرَكِبَتْ خُيُولُهُ فِي عُدَّتِهِمْ، ثُمَّ وَقَفُوا عَلَى مَرَاكِزِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ صُفُوفاً وَكَرَادِيسَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِزَعْمِهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْظَرٍ رَفِيعٍ حَسَنٍ تَسُرُّ بِهِ نَفْسُهُ وَتَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَعِدَ إِلَى مَجْلِسِهِ فَأَشْرَفَ عَلَى مَمْلَكَتِهِ، فَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً، فَقَالَ لِبَعْضِ غِلْمَانِهِ: قَدْ نَظَرْتُ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِي إِلَى مَنْظَرٍ حَسَنٍ، وَبَقِيَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى صُورَةِ وَجْهِي، فَدَعَا بِمِرْآةٍ، فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ، فَبَيْنَا هُوَ يَقْلِبُ طَرْفَهُ فِيهَا إِذْ لَاحَتْ لَهُ شَعْرَةٌ بَيْضَاءُ مِنْ لِحْيَتِهِ كَغُرَابٍ أَبْيَضَ بَيْنَ غُرْبَانٍ سُودٍ، وَاشْتَدَّ مِنْهَا ذُعْرُهُ وَفَزَعُهُ(908)، وتَغَيَّرَ فِي عَيْنِهِ حَالُهُ، وَظَهَرَتِ الكَآبَةُ والحُزْنُ فِي وَجْهِهِ، وَتَوَلَّى السُّرُورُ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِهِ: هَذَا حِينَ نُعِيَ إِلَيَّ شَبَابِي، وَبُيِّنَ لِي أَنَّ مُلْكِي فِي ذَهَابٍ، وَأُوذِنْتُ بِالنُّزُولِ عَنْ سَرِيرِ مُلْكِي.
ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ مُقَدِّمَةُ المَوْتِ، وَرَسُولُ البِلَى(909)، لَمْ يَحْجُبْهُ عَنِّي حَاجِبٌ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ عَنِّي حَارِسٌ، فَنُعِيَ إِلَيَّ نَفْسِي وَآذَنَنِي بِزَوَالِ مُلْكِي، فَمَا أَسْرَعَ هَذَا فِي تَبْدِيلِ بَهْجَتِي وَذَهَابِ سُرُورِي وَهَدْمِ قُوَّتِي، لَمْ يَمْنَعْهُ مِنِّي الحُصُونُ وَلَمْ تَدْفَعْهُ عَنِّي الجُنُودُ، هَذَا سَالِبُ الشَّبَابِ وَالقُوَّةِ، وَمَاحِقُ العِزِّ وَالثَّرْوَةِ، وَمُفَرِّقُ الشَّمْلِ وَقَاسِمُ التُّرَاثِ بَيْنَ الأَوْلِيَاءِ وَالأَعْدَاءِ، مُفْسِدُ المَعَاشِ، وَمُنَغِّصُ اللَّذَّاتِ، وَمُخَرِّبُ العِمَارَاتِ، وَمُشَتِّتُ الجَمْعِ، وَوَاضِعُ الرَّفِيعِ، وَمُذِلُّ المَنِيعِ، قَدْ أَنَاخَتْ بِي أَثْقَالُهُ(910)، وَنُصِبَ لِي حِبَالُهُ.
ثُمَّ نَزَلَ عَنْ مَجْلِسِهِ حَافِياً مَاشِياً، وَقَدْ صَعِدَ إِلَيْهِ مَحْمُولاً، ثُمَّ جَمَعَ إِلَيْهِ جُنُودَهُ وَدَعَا إِلَيْهِ ثِقَاتَهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا المَلَأُ، مَا ذَا صَنَعْتُ فِيكُمْ؟ وَمَا [ذَا] أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ مُنْذُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(908) الذعر: الخوف والفزع.
(909) في بعض النُّسَخ: (رسول البلاء).
(910) أناخ البلاء على فلان: أقام عليه، وأناخ به الحاجة: أنزلها به، أناخ الجمل: أبركه.

(٤٠٣)

مَلَكْتُكُمْ وَوُلِّيتُ أُمُورَكُمْ؟ قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا المَلِكُ المَحْمُودُ، عَظُمَ بَلَاؤُكَ عِنْدَنَا، وَهَذِهِ أَنْفُسُنَا مَبْذُولَةٌ فِي طَاعَتِكَ، فَمُرْنَا بِأَمْرِكَ، قَالَ: طَرَقَنِي عَدُوٌّ مُخِيفٌ(911) لَمْ تَمْنَعُونِي مِنْهُ حَتَّى نَزَلَ بِي وَكُنْتُمْ عُدَّتِي وَثِقَاتِي، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، أَيْنَ هَذَا العَدُوُّ؟ أَيُرَى أَمْ لَا يُرَى؟ قَالَ: يُرَى بِأَثَرٍ وَلَا يُرَى عَيْنُهُ، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، هَذِهِ عُدَّتُنَا كَمَا تَرَى وَعِنْدَنَا سَكَنٌ وَفِينَا ذَوُو الحِجَى وَالنُّهَى، فَأَرِنَاهُ نَكْفِكَ مَا مِثْلُهُ يُكْفَى، قَالَ: قَدْ عَظُمَ الاِغْتِرَارُ مِنِّي بِكُمْ، وَوَضَعْتُ الثِّقَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا حِينَ اتَّخَذْتُكُمْ وَجَعَلْتُكُمْ لِنَفْسِي جُنَّةً، وَإِنَّمَا بَذَلْتُ لَكُمُ الأَمْوَالَ وَرَفَعْتُ شَرَفَكُمْ وَجَعَلْتُكُمُ البِطَانَةَ دُونَ غَيْرِكُمْ لِتَحْفَظُونِي مِنَ الأَعْدَاءِ وَتَحْرُسُونِي مِنْهُمْ، ثُمَّ أَيَّدْتُكُمْ عَلَى ذَلِكَ بِتَشْيِيدِ البُلْدَانِ وَتَحْصِينِ المَدَائِنِ وَالثِّقَةِ مِنَ السِّلَاحِ، وَنَحَّيْتُ عَنْكُمُ الهُمُومَ(912)، وَفَرَّغْتُكُمْ لِلنَّجْدَةِ وَالاِحْتِفَاظِ، وَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى أَنْ أُرَاعَ مَعَكُمْ وَلَا أَتَخَوَّفُ المَنُونَ عَلَى بُنْيَانِي وَأَنْتُمْ عُكُوفٌ مُطِيفُونَ بِهِ، فَطُرِقْتُ وَأَنْتُمْ حَوْلِي وَأُتِيتُ وَأَنْتُمْ مَعِي، فَلَئِنْ كَانَ هَذَا ضَعْفٌ مِنْكُمْ فَمَا أَخَذْتُ أَمْرِي بِثِقَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ غَفَلَةً مِنْكُمْ فَمَا أَنْتُمْ بِأَهْلِ النَّصِيحَةِ وَلَا عَلَيَّ بِأَهْلِ الشَّفَقَةِ، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، أَمَّا شَيْءٌ نُطِيقُ دَفْعَهُ بِالخَيْلِ وَالقُوَّةِ فَلَيْسَ بِوَاصِلٍ إِلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللهُ وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ، وَأَمَّا مَا لَا يُرَى فَقَدْ غُيِّبَ عَنَّا عِلْمُهُ وَعَجَزَتْ قُوَّتُنَا عَنْهُ.
قَالَ: أَلَيْسَ اتَّخَذْتُكُمْ لِتَمْنَعُونِي مِنْ عَدُوِّي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَمِنْ أَيِّ عَدُوٍّ تَحْفَظُونِي مِنَ الَّذِي يَضُرُّنِي أَوْ مِنَ الَّذِي لَا يَضُرُّنِي؟ قَالُوا: مِنَ الَّذِي يَضُرُّكَ، قَالَ: أَفَمِنْ كُلِّ ضَارٍّ لِي أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ؟ قَالُوا: مِنْ كُلِّ ضَارٍّ، قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ البِلَى قَدْ أَتَانِي يَنْعَى إِلَيَّ نَفْسِي وَمُلْكِي وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُرِيدُ خَرَابَ مَا عُمِّرْتُ وَهَدْمَ مَا بَنَيْتُ وَتَفْرِيقَ مَا جَمَعْتُ وَفَسَادَ مَا أَصْلَحْتُ وَتَبْذِيرَ مَا أَحْرَزْتُ وَتَبْدِيلَ مَا عَمِلْتُ وَتَوْهِينَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(911) طرق القوم: أتاهم ليلاً.
(912) نحَّاه عنه أي أبعده عنه وأزاله. والنجدة: الشجاعة والشدَّة والبأس.

(٤٠٤)

مَا وَثِقْتُ، وَزَعَمَ أَنَّ مَعَهُ الشَّمَاتَةَ مِنَ الأَعْدَاءِ، وَقَدْ قَرَّتْ بِي أَعْيُنُهُمْ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنِّي شِفَاءَ صُدُورِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَيَهْزِمُ جَيْشِي وَيُوحِشُ أُنْسِي وَيُذْهِبُ عِزِّي وَيُؤْتِمُ وُلْدِي وَيُفَرِّقُ جُمُوعِي، يُفْجِعُ بِي إِخْوَانِي وَأَهْلِي وَقَرَابَتِي، وَيَقْطَعُ أَوْصَالِي وَيَسْكُنُ مَسَاكِنِي أَعْدَائِي، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنَّمَا نَمْنَعُكَ مِنَ النَّاسِ وَالسِّبَاعِ وَالهَوَامِّ وَدَوَابِّ الأَرْضِ، فَأَمَّا البِلَى فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَلَا قُوَّةَ لَنَا عَلَيْهِ وَلَا امْتِنَاعَ لَنَا مِنْهُ، فَقَالَ: فَهَلْ مِنْ حِيلَةٍ فِي دَفْعِ ذَلِكَ عَنِّي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَشَيْءٌ دُونَ ذَلِكَ تُطِيقُونَهُ، قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الأَوْجَاعُ وَالأَحْزَانُ وَالهُمُومُ، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنَّمَا قَدْ قَدَّرَ هَذِهِ الأَشْيَاءَ قَوِيٌّ لَطِيفٌ، وَذَلِكَ يَثُورُ مِنَ الجِسْمِ وَالنَّفْسِ، وَهُوَ يَصِلُ إِلَيْكَ إِذَا لَمْ يُوصَلْ، وَلَا يُحْجَبُ عَنْكَ وَإِنْ حُجِبَ(913).
قَالَ: فَأَمْرٌ دُونَ ذَلِكَ، قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: مَا قَدْ سَبَقَ مِنَ القَضَاءِ، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، وَمَنْ ذَا غَالَبَ القَضَاءَ فَلَمْ يُغْلَبْ؟ وَمَنْ ذَا كَابَرَهُ فَلَمْ يُقْهَرْ؟ قَالَ: فَمَا ذَا عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا: مَا نَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ القَضَاءِ، وَقَدْ أَصَبْتَ التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ، فَمَا ذَا الَّذِي تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَصْحَاباً يَدُومُ عَهْدُهُمْ، وَيَفُوا لِي، وَتَبْقَى لِي أُخُوَّتُهُمْ، وَلَا يَحْجُبُهُمْ عَنِّي المَوْتُ، وَلَا يَمْنَعُهُمُ البِلَى عَنْ صُحْبَتِي، وَلَا يَسْتَحِيلُ(914) بِهِمُ الاِمْتِنَاعُ عَنْ صُحْبَتِي(915)، وَلَا يُفْرِدُونِي إِنْ مِتُّ، وَلَا يُسَلِّمُونِي إِنْ عِشْتُ، وَيَدْفَعُونَ عَنِّي مَا عَجَزْتُمْ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ المَوْتِ.
قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، وَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتَ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ أَفْسَدْتُهُمْ بِاسْتِصْلَاحِكُمْ، قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، أَفَلَا تَصْطَنِعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ مَعْرُوفاً، فَإِنَّ أَخْلَاقَكَ تَامَّةٌ وَرَأْفَتَكَ عَظِيمَةٌ، قَالَ: إِنَّ فِي صُحْبَتِكُمْ إِيَّايَ السَّمَّ القَاتِلَ، وَالصَّمَمَ وَالعَمَى فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(913) في بعض النُّسَخ: (وإنْ حُجِبَ لم يحتجب).
(914) يشتمل (خ ل).
(915) في بعض النُّسَخ: (ولا يستحيل بهم الأطماع عن نصيحتي)، وفي بعضها: (لا يستميل).

(٤٠٥)

طَاعَتِكُمْ، وَالبُكْمَ مِنْ مُوَافَقَتِكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ ذَاكَ أَيُّهَا المَلِكُ؟ قَالَ: صَارَتْ صُحْبَتُكُمْ إِيَّايَ فِي الاِسْتِكْثَارِ وَمُوَافَقَتُكُمْ عَلَى الجَمْعِ، وَطَاعَتُكُمْ إِيَّايَ فِي الاِغْتِفَالِ فَبَطَّأْتُمُونِي عَنِ المَعَادِ، وَزَيَّنْتُمْ لِيَ الدُّنْيَا، وَلَوْ نَصَحْتُمُونِي ذَكَّرْتُمُونِيَ المَوْتَ، وَلَوْ أَشْفَقْتُمْ عَلَيَّ ذَكَّرْتُمُونِيَ البِلَى، وَجَمَعْتُمْ لِي مَا يَبْقَى، وَلَمْ تَسْتَكْثِرُوا لِي مَا يَفْنَى، فَإِنَّ تِلْكَ المَنْفَعَةَ الَّتِي ادَّعَيْتُمُوهَا ضَرَرٌ، وَتِلْكَ المَوَدَّةَ عَدَاوَةٌ، وَقَدْ رَدَدْتُهَا عَلَيْكُمْ لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا مِنْكُمْ.
قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ الحَكِيمُ المَحْمُودُ، قَدْ فَهِمْنَا مَقَالَتَكَ، وَفِي أَنْفُسِنَا إِجَابَتُكَ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَحْتَجَّ عَلَيْكَ، فَقَدْ رَأَيْنَا مَكَانَ الحُجَّةِ، فَسُكُوتُنَا عَنْ حُجَّتِنَا فَسَادٌ لِمُلْكِنَا، وَهَلَاكٌ لِدُنْيَانَا وَشَمَاتَةٌ لِعَدُوِّنَا، وَقَدْ نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ عَظِيمٌ بِالَّذِي تَبَدَّلَ مِنْ رَأْيِكَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَمْرُكَ.
قَالَ: قُولُوا: آمِنِينَ وَاذْكُرُوا مَا بَدَا لَكُمْ غَيْرَ مَرْعُوبِينَ، فَإِنِّي كُنْتُ إِلَى اليَوْمِ مَغْلُوباً بِالحَمِيَّةِ وَالأَنَفَةِ وَأَنَا اليَوْمَ غَالِبٌ لَهُمَا، وَكُنْتُ إِلَى اليَوْمِ مَقْهُوراً لَهُمَا، وَأَنَا اليَوْمَ قَاهِرٌ لَهُمَا، وَكُنْتُ إِلَى اليَوْمِ مَلِكاً عَلَيْكُمْ فَقَدْ صِرْتُ عَلَيْكُمْ مَمْلُوكاً، وَأَنَا اليَوْمَ عَتِيقٌ وَأَنْتُمْ مِنْ مَمْلَكَتِي طُلَقَاءُ.
قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، مَا الَّذِي كُنْتَ لَهُ مَمْلُوكاً إِذْ كُنْتَ عَلَيْنَا مَلِكاً؟
قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكاً لِهَوَايَ، مَقْهُوراً بِالجَهْلِ، مُسْتَعْبِداً لِشَهَوَاتِي، فَقَدْ قَطَعْتُ تِلْكَ الطَّاعَةَ عَنِّي، وَنَبَذْتُهَا خَلْفَ ظَهْرِي.
قَالُوا: فَقُلْ مَا أَجْمَعْتَ عَلَيْهِ أَيُّهَا المَلِكُ؟
قَالَ: القُنُوعَ، وَالتَّخَلِّيَ لِآخِرَتِي، وَتَرْكَ هَذَا الغُرُورِ، وَنَبْذَ هَذَا الثَّقَلِ عَنْ ظَهْرِي، وَالاِسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ، وَالتَّأَهُّبَ لِلْبَلَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَهُ عِنْدِي قَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِمُلَازَمَتِي وَالإِقَامَةِ مَعِي حَتَّى يَأْتِيَنِي المَوْتُ.
فَقَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، وَمَنْ هَذَا الرَّسُولُ الَّذِي قَدْ أَتَاكَ وَلَمْ نَرَهُ وَهُوَ مُقَدِّمَةُ المَوْتِ الَّذِي لَا نَعْرِفُهُ؟

(٤٠٦)

قَالَ: أَمَّا الرَّسُولُ فَهَذَا البَيَاضُ الَّذِي يَلُوحُ بَيْنَ السَّوَادِ، وَقَدْ صَاحَ فِي جَمِيعِهِ بِالزَّوَالِ، فَأَجَابُوا وَأَذْعَنُوا، وَأَمَّا مُقَدِّمَةُ المَوْتِ فَالبِلَى الَّذِي هَذَا البَيَاضُ طُرُقُهُ.
قَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ، أَفَتَدَعُ مَمْلَكَتَكَ وَتُهْمِلُ رَعِيَّتَكَ؟ وَكَيْفَ لَا تَخَافُ الإِثْمَ فِي تَعْطِيلِ أُمَّتِكَ؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ أَعْظَمَ الأَجْرِ فِي اسْتِصْلَاحِ النَّاسِ، وَأَنَّ رَأْسَ الصَّلَاحِ الطَّاعَةُ لِلْأُمَّةِ وَالجَمَاعَةِ؟ فَكَيْفَ لَا تَخَافُ مِنَ الإِثْمِ وَفِي هَلَاكِ العَامَّةِ مِنَ الإِثْمِ فَوْقَ الَّذِي تَرْجُو مِنَ الأَجْرِ فِي صَلَاحِ الخَاصَّةِ؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ أَفْضَلَ العِبَادَةِ العَمَلُ، وَأَنَّ أَشَدَّ العَمَلِ السِّيَاسَةُ؟ فَإِنَّكَ أَيُّهَا المَلِكُ [مَا فِي يَدَيْكَ] عَدْلٌ عَلَى رَعِيَّتِكَ، مُسْتَصْلِحٌ لَهَا بِتَدْبِيرِكَ، فَإِنَّ لَكَ مِنَ الأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَصْلَحْتَ، أَلَسْتَ أَيُّهَا المَلِكُ إِذَا خَلَّيْتَ مَا فِي يَدَيْكَ مِنْ صَلَاحِ أُمَّتِكَ فَقَدْ أَرَدْتَ فَسَادَهُمْ فَقَدْ حَمَلْتَ مِنَ الإِثْمِ فِيهِمْ أَعْظَمَ مِمَّا أَنْتَ مُصِيبٌ مِنَ الأَجْرِ فِي خَاصَّةِ يَدَيْكَ؟ أَلَسْتَ أَيُّهَا المَلِكُ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ العُلَمَاءَ قَالُوا: مَنْ أَتْلَفَ نَفْساً فَقَدِ اسْتَوْجَبَ لِنَفْسِهِ الفَسَادَ، وَمَنْ أَصْلَحَهَا فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الصَّلَاحَ لِبَدَنِهِ؟ وَأَيُّ فَسَادٍ أَعْظَمُ مِنْ رَفْضِ هَذِهِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَنْتَ إِمَامُهَا، وَالإِقَامَةِ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي أَنْتَ نِظَامُهَا؟ حَاشَا لَكَ أَيُّهَا المَلِكُ أَنْ تَخْلَعَ عَنْكَ لِبَاسَ المُلْكِ الَّذِي هُوَ الوَسِيلَةُ إِلَى شَرَفِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
قَالَ: قَدْ فَهِمْتُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، وَعَقَلْتُ الَّذِي وَصَفْتُمْ، فَإِنْ كُنْتُ إِنَّمَا أَطْلُبُ المُلْكَ عَلَيْكُمْ لِلْعَدْلِ فِيكُمْ وَالأَجْرِ مِنَ اللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي اسْتِصْلَاحِكُمْ بِغَيْرِ أَعْوَانٍ يَرْفِدُونَنِي وَوُزَرَاءَ يَكْفُونَنِي، فَمَا عَسَيْتُ أَنْ أَبْلُغَ بِالوَحْدَةِ فِيكُمْ؟ أَلَسْتُمْ جَمِيعاً نُزُعاً إِلَى الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا؟ وَلَا آمَنُ أَنْ أَخْلُدَ إِلَى الحَالِ(916) الَّتِي أَرْجُو أَنْ أَدَعَهَا وَأَرْفِضَهَا، فَإِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ أَتَانِي المَوْتُ عَلَى غِرَّةٍ، فَأَنْزَلَنِي عَنْ سَرِيرِ مُلْكِي إِلَى بَطْنِ الأَرْضِ، وَكَسَانِي التُّرَابَ بَعْدَ الدِّيبَاجِ وَالمَنْسُوجِ بِالذَّهَبِ وَنَفِيسِ الجَوْهَرِ، وَضَمَّنِي إِلَى الضِّيقِ بَعْدَ السَّعَةِ، وَالبَسَنِي الهَوَانَ بَعْدَ الكَرَامَةِ، فَأَصِيرُ فَرِيداً بِنَفْسِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(916) في بعض النُّسَخ: (إلى الدنيا).

(٤٠٧)

لَيْسَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي الوَحْدَةِ، قَدْ أَخْرَجْتُمُونِي مِنَ العُمْرَانِ، وَأَسْلَمْتُمُونِي إِلَى الخَرَابِ، وَخَلَّيْتُمْ بَيْنَ لَحْمِي وَبَيْنَ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَحَشَرَاتِ الأَرْضِ، فَأَكَلَتْ مِنِّي النَّمْلَةُ فَمَا فَوْقَهَا مِنَ الهَوَامِّ وَصَارَ جَسَدِي دُوداً وَجِيفَةً قَذِرَةً، الذُّلُّ لِي حَلِيفٌ، وَالعِزُّ مِنِّي غَرِيبٌ، أَشَدُّكُمْ حُبًّا لِي أَسْرَعُكُمْ إِلَى دَفْنِي، وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنِي وَبَيْنَ مَا قَدَّمْتُ مِنْ عَمَلِي وَأَسْلَفْتُ مِنْ ذُنُوبِي، فَيُورِثُنِي ذَلِكَ الحَسْرَةَ، وَيُعْقِبُنِي النَّدَامَةَ، وَقَدْ كُنْتُمْ وَعَدْتُمُونِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِنْ عَدُوِّي الضَّارِّ، فَإِذَا أَنْتُمْ لَا مَنْعَ عِنْدَكُمْ وَلَا قُوَّةَ عَلَى ذَلِكَ لَكُمْ وَلَا سَبِيلَ، أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي مُحْتَالٌ لِنَفْسِي إِذْ جِئْتُمْ بِالخِدَاعِ، وَنَصَبْتُمْ لِي شِرَاكَ الغُرُورِ(917).
فَقَالُوا: أَيُّهَا المَلِكُ المَحْمُودُ، لَسْنَا الَّذِي كُنَّا كَمَا أَنَّكَ لَسْتَ الَّذِي كُنْتَ، وَقَدْ أَبْدَلَنَا الَّذِي أَبْدَلَكَ، وَغَيَّرَنَا الَّذِي غَيَّرَكَ، فَلَا تَرُدَّ عَلَيْنَا تَوْبَتَنَا وَبَذْلَ نَصِيحَتِنَا، قَالَ: أَنَا مُقِيمٌ فِيكُمْ مَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ وَمُفَارِقُكُمْ إِذَا خَالَفْتُمُوهُ.
فَأَقَامَ ذَلِكَ المَلِكُ فِي مُلْكِهِ وَأَخَذَ جُنُودُهُ بِسِيرَتِهِ وَاجْتَهَدُوا فِي العِبَادَةِ، فَخَصَبَ بِلَادُهُمْ وَغَلَبُوا عَدُوَّهُمْ وَازْدَادَ مُلْكُهُمْ حَتَّى هَلَكَ ذَلِكَ المَلِكُ، وَقَدْ صَارَ فِيهِمْ بِهَذِهِ السِّيرَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَكَانَ جَمِيعُ مَا عَاشَ أَرْبَعاً وَسِتِّينَ سَنَةً.
قَالَ يُوذَاسُفُ: قَدْ سُرِرْتُ بِهَذَا الحَدِيثِ جِدًّا، فَزِدْنِي مِنْ نَحْوِهِ أَزْدَدْ سُرُوراً وَلِرَبِّي شُكْراً.
قَالَ الحَكِيمُ: زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ لَهُ جُنُودٌ يَخْشَوْنَ اللهَ (عزَّ وجلَّ) وَيَعْبُدُونَهُ، وَكَانَ فِي مُلْكِ أَبِيهِ شِدَّةٌ مِنْ زَمَانِهِمْ، وَالتَّفَرُّقُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَنْقُصُ العَدُوُّ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَكَانَ يَحُثُّهُمْ عَلَى تَقْوَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَخَشْيَتِهِ وَالاِسْتِعَانَةِ بِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَالفَزَعِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا مَلَكَ ذَلِكَ المَلِكُ قَهَرَ عَدُوَّهُ وَاسْتَجْمَعَتْ رَعِيَّتُهُ وَصَلَحَتْ بِلَادُهُ وَانْتَظَمَ لَهُ المُلْكُ، فَلَمَّا رَأَى مَا فَضَّلَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ أَتْرَفَهُ ذَلِكَ وَأَبْطَرَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(917) الشراك: آلة الصيد.

(٤٠٨)

وَأَطْغَاهُ حَتَّى تَرَكَ عِبَادَةَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَكَفَرَ نِعَمَهُ، وَأَسْرَعَ فِي قَتْلِ مَنْ عَبَدَ اللهِ، وَدَامَ مُلْكُهُ وَطَالَتْ مُدَّتُهُ حَتَّى ذَهَلَ النَّاسُ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ قَبْلَ مُلْكِهِ وَنُشُوِّهِ، وَأَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَأَسْرَعُوا إِلَى الضَّلَالَةِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ فَنَشَأَ فِيهِ الأَوْلَادُ وَصَارَ لَا يُعْبَدُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِيهِمْ وَلَا يُذْكَرُ بَيْنَهُمْ اسْمُهُ، وَلَا يَحْسَبُونَ أَنَّ لَهُمْ إِلَهاً غَيْرَ المَلِكِ، وَكَانَ ابْنُ المَلِكِ قَدْ عَاهَدَ اللهَ (عزَّ وجلَّ) فِي حَيَاةِ أَبِيهِ إنْ هُوَ مَلَكَ يَوْماً أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) بِأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ المُلُوكِ يَعْمَلُونَ بِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَهُ، فَلَمَّا مَلَكَ أَنْسَاهُ المُلْكُ رَأْيَهُ الأَوَّلَ وَنِيَّتَهُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَسَكِرَ سُكْرَ صَاحِبِ الخَمْرِ، فَلَمْ يَكُنْ يَصْحُو وَيُفِيقُ(918). وَكَانَ مِنْ أَهْلِ لُطْفِ المَلِكِ رَجُلٌ صَالِحٌ أَفْضَلُ أَصْحَابِهِ مَنْزِلَةً عِنْدَهُ، فَتَوَجَّعَ لَهُ مِمَّا رَأَى مِنْ ضَلَالَتِهِ فِي دِينِهِ وَنِسْيَانِهِ مَا عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَعِظَهُ ذَكَرَ عُتُوَّهُ وَجَبَرُوتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ تِلْكَ الأُمَّةِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ رَجُلٍ آخَرَ فِي نَاحِيَةِ أَرْضِ المَلِكِ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ وَلَا يُدْعَى بِاسْمِهِ.
فَدَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى المَلِكِ بِجُمْجُمَةٍ قَدْ لَفَّهَا فِي ثِيَابِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ عَنْ يَمِينِ المَلِكِ انْتَزَعَهَا عَنْ ثِيَابِهِ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَطِئَهَا بِرِجْلِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَفْرُكُهَا(919) بَيْنَ يَدَيِ المَلِكِ وَعَلَى بِسَاطِهِ حَتَّى دَنِسَ مَجْلِسُ المَلِكِ بِمَا تَحَاتُّ مِنْ تِلْكَ الجُمْجُمَةِ، فَلَمَّا رَأَى المَلِكُ مَا صَنَعَ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَباً شَدِيداً، وَشَخَصَتْ إِلَيْهِ أَبْصَارُ جُلَسَائِهِ، وَاسْتَعَدَّتِ الحَرَسُ بِأَسْيَافِهِمْ انْتِظَاراً لِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِقَتْلِهِ، وَالمَلِكُ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ لِغَضَبِهِ، وَقَدْ كَانَتِ المُلُوكُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى جَبَرُوتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ذَوِي أَنَاةٍ وَتُؤَدَةٍ، اسْتِصْلَاحاً لِلرَّعِيَّةِ عَلَى عِمَارَةِ أَرْضِهِمْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْوَنَ لِلْجَلْبِ وَأَدَّى لِلْخَرَاجِ، فَلَمْ يَزَلِ المَلِكُ سَاكِتاً عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَفَّ تِلْكَ الجُمْجُمَةَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي اليَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ المَلِكَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْ تِلْكَ الجُمْجُمَةِ، وَلَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(918) صحا السكران: ذهب سكره وأفاق.
(919) فرك الثوب: دلكه، الشيء عن الثوب أزاله وحكَّه حتَّى تفتَّت.

(٤٠٩)

يَسْتَنْطِقُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهَا أَدْخَلَ مَعَ تِلْكَ الجُمْجُمَةِ مِيزَاناً وَقَلِيلاً مِنْ تُرَابٍ، فَلَمَّا صَنَعَ بِالجُمْجُمَةِ مَا كَانَ يَصْنَعُ أَخَذَ المِيزَانَ وَجَعَلَ فِي إِحْدَى كَفَّتَيْهِ دِرْهَماً وَفِي الأُخْرَى بِوَزْنِهِ تُرَاباً، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ التُّرَابَ فِي عَيْنِ تِلْكَ الجُمْجُمَةِ، ثُمَّ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَوَضَعَهَا فِي مَوْضِعِ الفَمِ مِنْ تِلْكَ الجُمْجُمَةِ.
فَلَمَّا رَأَى المَلِكُ مَا صَنَعَ قَلَّ صَبْرُهُ وَبَلَغَ مَجْهُودَهُ، فَقَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ إِنَّمَا اجْتَرَأْتَ عَلَى مَا صَنَعْتَ لِمَكَانِكَ مِنِّي وَإِدْلَالِكَ عَلَيَّ، وَفَضْلِ مَنْزِلَتِكَ عِنْدِي، وَلَعَلَّكَ تُرِيدُ بِمَا صَنَعْتَ أَمْراً.
فَخَرَّ الرَّجُلُ لِلْمَلِكِ سَاجِداً وَقَبَّلَ قَدَمَيْهِ، وَقَالَ: أَيُّهَا المَلِكُ، أَقْبِلْ عَلَيَّ بِعَقْلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّ مَثَلَ الكَلِمَةِ مَثَلُ السَّهْمِ إِذَا رُمِيَ بِهِ فِي أَرْضٍ لَيِّنَةٍ ثَبَتَ فِيهَا وَإِذَا رُمِيَ بِهِ فِي الصَّفَا لَمْ يَثْبُتْ، وَمَثَلُ الكَلِمَةِ كَمَثَلِ المَطَرِ إِذَا أَصَابَ أَرْضاً طَيِّبَةً مَزْرُوعَةً نَبَتَ فِيهَا وَإِذَا أَصَابَ السِّبَاخَ لَمْ يَنْبُتْ، وَإِنَّ أَهْوَاءَ النَّاسِ مُتَفَرِّقَةٌ، وَالعَقْلُ وَالهَوَى يَصْطَرِعَانِ فِي القَلْبِ، فَإِنْ غَلَبَ هَوًى العَقْلَ عَمِلَ الرَّجُلُ بِالطَّيْشِ وَالسَّفَهِ، وَإِنْ كَانَ الهَوَى هُوَ المَغْلُوبُ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرِ الرَّجُلِ سَقْطَةٌ، فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ مُنْذُ كُنْتُ غُلَاماً أُحِبُّ العِلْمَ وَأَرْغَبُ فِيهِ وَأُوثِرُهُ عَلَى الأُمُورِ كُلِّهَا، فَلَمْ أَدَعْ عِلْماً إِلَّا بَلَغْتُ مِنْهُ أَفْضَلَ مَبْلَغٍ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ أَطُوفُ بَيْنَ القُبُورِ إِذْ قَدْ بَصُرْتُ بِهَذِهِ الجُمْجُمَةِ بَارِزَةً مِنْ قُبُورِ المُلُوكِ، فَغَاظَنِي مَوْقِعُهَا وَفِرَاقُهَا جَسَدَهَا غَضَباً لِلْمُلُوكِ، فَضَمَمْتُهَا إِلَيَّ وَحَمَلْتُهَا إِلَى مَنْزِلِي فَألبَسْتُهَا الدِّيبَاجَ وَنَضَحْتُهَا بِمَاءِ الوَرْدِ وَالطِّيبِ وَوَضَعْتُهَا عَلَى الفُرُشِ، وَقُلْتُ: إِنْ كَانَتْ مِنْ جَمَاجِمِ المُلُوكِ فَسَيُؤْثِرُ فِيهَا إِكْرَامِي إِيَّاهَا وَتَرْجِعُ إِلَى جَمَالِهَا وَبَهَائِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جَمَاجِمِ المَسَاكِينِ فَإِنَّ الكَرَامَةَ لَا تَزِيدُهَا شَيْئاً، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ بِهَا أَيَّاماً، فَلَمْ أَسْتَنْكِرْ مِنْ هَيْأَتِهَا شَيْئاً، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ دَعَوْتُ عَبْداً هُوَ أَهْوَنُ عَبِيدِي عِنْدِي فَأَهَانَهَا، فَإِذَا هِيَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الإِهَانَةِ وَالإِكْرَامِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَتَيْتُ الحُكَمَاءَ فَسَألتُهُمْ عَنْهَا فَلَمْ أَجِدْ عِنْدَهُمْ عِلْماً بِهَا، ثُمَّ عَلِمْتُ أَنَّ المَلِكَ مُنْتَهَى العِلْمِ

(٤١٠)

وَمَأْوَى الحِلْمِ، فَأَتَيْتُكَ خَائِفاً عَلَى نَفْسِي وَلَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى تَبْدَأَنِي بِهِ، وَأُحِبُّ أَنْ تُخْبِرَنِي أَيُّهَا المَلِكُ أَجُمْجُمَةُ مَلِكٍ هِيَ أَمْ جُمْجُمَةُ مِسْكِينٍ؟ فَإِنَّهَا لَـمَّا أَعْيَانِي أَمْرُهَا تَفَكَّرْتُ فِي أَمْرِهَا وَفِي عَيْنِهَا الَّتِي كَانَتْ لَا يَمْلَؤُهَا شَيْءٌ حَتَّى لَوْ قَدَرَتْ عَلَى مَا دُونَ السَّمَاءِ مِنْ شَيْءٍ تَطَلَّعَتْ إِلَى أَنْ تَتَنَاوَلَ مَا فَوْقَ السَّمَاءِ، فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ مَا الَّذِي يَسُدُّهَا وَيَمْلَؤُهَا، فَإِذَا وَزْنُ دِرْهَمٍ مِنْ تُرَابٍ قَدْ سَدَّهَا وَمَلَأَهَا، وَنَظَرْتُ إِلَى فِيهَا(920) الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَمْلَؤُهُ شَيْءٌ فَمَلَأَتْهُ قَبْضَةٌ مِنْ تُرَابٍ، فَإِنْ أَخْبَرْتَنِي أَيُّهَا المَلِكُ أَنَّهَا جُمْجُمَةُ مِسْكِينٍ احْتَجَجْتُ عَلَيْكَ بِأَنِّي قَدْ وَجَدْتُهَا وَسْطَ قُبُورِ المُلُوكِ، ثُمَّ اجْمَعْ جَمَاجِمَ مُلُوكٍ وَجَمَاجِمَ مَسَاكِينَ فَإِنْ كَانَ لِجَمَاجِمِكُمْ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَهُوَ كَمَا قُلْتَ، وَإِنْ أَخْبَرْتَنِي بِأَنَّهَا مِنْ جَمَاجِمِ المُلُوكِ أَنْبَأْتُكَ أَنَّ ذَلِكَ المَلِكَ الَّذِي كَانَتْ هَذِهِ جُمْجُمَتَهُ قَدْ كَانَ مِنْ بَهَاءِ المَلِكِ وَجَمَالِهِ وَعِزَّتِهِ فِي مِثْلِ مَا أَنْتَ فِيهِ اليَوْمَ، فَحَاشَاكَ أَيُّهَا المَلِكُ أَنْ تَصِيرَ إِلَى حَالِ هَذِهِ الجُمْجُمَةِ فَتُوطَأَ بِالأَقْدَامِ وَتُخْلَطَ بِالتُّرَابِ وَيَأْكُلَكَ الدُّودُ وَتُصْبِحَ بَعْدَ الكَثْرَةِ قَلِيلاً وَبَعْدَ العِزَّةِ ذَلِيلاً، وَتَسَعَكَ حُفْرَةٌ طُولُهَا أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، وَيُورَثَ مُلْكُكَ وَيَنْقَطِعَ ذِكْرُكَ وَيَفْسُدَ صَنَائِعُكَ وَيُهَانَ مَنْ أَكْرَمْتَ وَيُكْرَمَ مَنْ أَهَنْتَ، وَتَسْتَبْشِرَ أَعْدَاؤُكَ ويَضِلَّ أَعْوَانُكَ وَيَحُولَ التُّرَابُ دُونَكَ، فَإِنْ دَعَوْنَاكَ لَمْ تَسْمَعْ، وَإِنْ أَكْرَمْنَاكَ لَمْ تَقْبَلْ، وَإِنْ أَهَنَّاكَ لَمْ تَغْضَبْ، فَيَصِيرَ بَنُوكَ يَتَامَى وَنِسَاؤُكَ أَيَامَى(921) وَأَهْلُكَ يُوشِكُ أَنْ يَسْتَبْدِلْنَ أَزْوَاجاً غَيْرَكَ.
فَلَمَّا سَمِعَ المَلِكُ ذَلِكَ فَزِعَ قَلْبُهُ وَانْسَكَبَتْ عَيْنَاهُ يَبْكِي وَيَعُولُ وَيَدْعُو بِالوَيْلِ، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ قَدِ اسْتَمْكَنَ مِنَ المَلِكِ، وَقَوْلَهُ قَدْ أَنْجَعَ فِيهِ زَادَهُ ذَلِكَ جُرْأَةً عَلَيْهِ وَتَكْرِيراً لِمَا قَالَ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: جَزَاكَ اللهُ عَنِّي خَيْراً وَجَزَى مَنْ حَوْلِي مِنَ العُظَمَاءِ شَرًّا، لَعَمْرِي لَقَدْ عَلِمْتُ مَا أَرَدْتَ بِمَقَالَتِكَ هَذِهِ، وَقَدْ أَبْصَرْتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(920) يعني فمها.
(921) أي لا زوج لهنَّ.

(٤١١)

أَمْرِي، فَسَمِعَ النَّاسُ خَبَرَهُ، فَتَوَجَّهُوا أَهْلُ الفَضْلِ نَحْوَهُ، وَخُتِمَ لَهُ بِالخَيْرِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا.
قَالَ ابْنُ المَلِكِ: زِدْنِي مِنْ هَذَا المَثَلِ.
قَالَ الحَكِيمُ: زَعَمُوا أَنَّ مَلِكاً كَانَ فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ، وَكَانَ حَرِيصاً عَلَى أَنْ يُولَدَ لَهُ، وَكَانَ لَا يَدَعُ شَيْئاً مِمَّا يُعَالِجُ بِهِ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَتَاهُ وَصَنَعَهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ حَمَلَتْ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْ نِسَائِهِ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَاماً، فَلَمَّا نَشَأَ وَتَرَعْرَعَ(922) خَطَا ذَاتَ يَوْمٍ خُطْوَةً فَقَالَ: مَعَادَكُمْ تَجْفُونَ، ثُمَّ خَطَا أُخْرَى فَقَالَ: تَهْرَمُونَ، ثُمَّ خَطَا الثَّالِثَةَ فَقَالَ: ثُمَّ تَمُوتُونَ، ثُمَّ عَادَ كَهَيْأَتِهِ يَفْعَلُ كَمَا يَفْعَلُ الصَّبِيُّ.
فَدَعَا المَلِكُ العُلَمَاءَ وَالمُنَجِّمِينَ، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي خَبَرَ ابْنِي هَذَا، فَنَظَرُوا فِي شَأْنِهِ وَأَمْرِهِ، فَأَعْيَاهُمْ أَمْرُهُ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ عِلْمٌ، فَلَمَّا رَأَى المَلِكُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ فِيهِ عِلْمٌ دَفَعَهُ إِلَى المُرْضِعَاتِ فَأَخَذْنَ فِي إِرْضَاعِهِ إِلَّا أَنَّ مُنَجِّماً مِنْهُمْ قَالَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ إِمَاماً، وَجَعَلَ عَلَيْهِ حُرَّاساً لَا يُفَارِقُونَهُ حَتَّى إِذَا شَبَّ انْسَلَّ يَوْماً مِنْ عِنْدِ مُرْضِعِيهِ وَالحَرَسِ، فَأَتَى السُّوقَ، فَإِذَا هُوَ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: إِنْسَاناً مَاتَ، قَالَ: مَا أَمَاتَهُ؟ قَالُوا: كَبُرَ وَفَنِيَتْ أَيَّامُهُ وَدَنَا أَجَلُهُ فَمَاتَ، قَالَ: وَكَانَ صَحِيحاً حَيًّا يَمْشِي وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
ثُمَّ مَضَى فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ شَيْخٍ كَبِيرٍ، فَقَامَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مُتَعَجِّباً مِنْهُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: رَجُلٌ شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ فَنِيَ شَبَابُهُ وَكَبِرَ، قَالَ: وَكَانَ صَغِيراً ثُمَّ شَابَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
ثُمَّ مَضَى فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مَرِيضٍ مُسْتَلْقًى عَلَى ظَهْرِهِ، فَقَامَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ، فَسَأَلَهُمْ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: رَجُلٌ مَرِيضٌ، فَقَالَ: أَوَكَانَ هَذَا صَحِيحاً ثُمَّ مَرِضَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وَاللهِ لَئِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنَّ النَّاسَ لَمَجْنُونُونَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(922) ترعرع الصبيُّ: نشأ وشبَّ.

(٤١٢)

فَافْتُقِدَ الغُلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ فَطُلِبَ فَإِذَا هُوَ بِالسُّوقِ فَأَتَوْهُ فَأَخَذُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ فَأَدْخَلُوهُ البَيْتَ، فَلَمَّا دَخَلَ البَيْتَ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ يَنْظُرُ إِلَى خَشَبِ سَقْفِ البَيْتِ وَيَقُولُ: كَيْفَ كَانَ هَذَا؟ قَالُوا: كَانَتْ شَجَرَةً ثُمَّ صَارَتْ خَشَباً ثُمَّ قُطِعَ ثُمَّ بُنِيَ هَذَا البَيْتُ ثُمَ جُعِلَ هَذَا الخَشَبُ عَلَيْهِ، فَبَيْنَا هُوَ فِي كَلَامِهِ إِذْ أَرْسَلَ المَلِكُ إِلَى المُوَكَّلِينَ بِهِ: انْظُرُوا هَلْ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَقُولُ شَيْئاً؟ قَالُوا: نَعَمْ، وقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامٍ مَا نَظُنُّهُ إِلَّا وَسْوَاساً، فَلَمَّا رَأَى المَلِكُ ذَلِكَ وَسَمِعَ جَمِيعَ مَا لَفَظَ بِهِ الغُلَامُ، دَعَا العُلَمَاءَ فَسَأَلَهُمْ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ عِنْدَهُمْ عِلْماً إِلَّا الرَّجُلَ الأَوَّلَ، فَأَنْكَرَ قَوْلَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيُّهَا المَلِكُ، لَوْ زَوَّجْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي تَرَى وَأَقْبَلَ وَعَقَلَ وَأَبْصَرَ، فَبَعَثَ المَلِكُ فِي الأَرْضِ يَطْلُبُ وَيَلْتَمِسُ لَهُ امْرَأَةً، فَوُجِدَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَأَجْمَلِهِمْ، فَزَوَّجَهَا مِنْهُ، فَلَمَّا أَخَذُوا فِي وَلِيمَةِ عُرْسِهِ أَخَذَ اللَّاعِبُونَ يَلْعَبُونَ وَالزَّمَّارُونَ يُزَمِّرُونَ، فَلَمَّا سَمِعَ الغُلَامُ جَلَبَتَهُمْ(923) وَأَصْوَاتَهُمْ قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَؤُلَاءِ لَعَّابُونَ وَزَمَّارُونَ جُمِعُوا لِعُرْسِكَ، فَسَكَتَ الغُلَامُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ العُرْسِ وَأَمْسَوْا دَعَا المَلِكُ امْرَأَةَ ابْنِهِ فَقَالَ لَهَا: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِي وَلَدٌ غَيْرُ هَذَا الغُلَامِ، فَإِذَا دَخَلْتِ عَلَيْهِ فَالطُفِي بِهِ وَاقْرُبِي مِنْهُ وَتَحَبَّبِي إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ المَرْأَةُ عَلَيْهِ أَخَذَتْ تَدْنُو مِنْهُ وَتَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ الغُلَامُ: عَلَى رِسْلِكِ(924) فَإِنَّ اللَّيْلَ طَوِيلٌ، بَارَكَ اللهُ فِيكِ، وَاصْبِرِي حَتَّى نَأْكُلَ وَنَشْرَبَ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ، فَلَمَّا فَرَغَ جَعَلَتِ المَرْأَةُ تَشْرَبُ، فَلَمَّا أُخِذَ الشَّرَابُ مِنْهَا نَامَتْ.
فَقَامَ الغُلَامُ فَخَرَجَ مِنَ البَيْتِ، وَانْسَلَّ مِنَ الحَرَسِ وَالبَوَّابِينَ حَتَّى خَرَجَ وَتَرَدَّدَ فِي المَدِينَةِ، فَلَقِيَهُ غُلَامٌ مِثْلُهُ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، فَاتَّبَعَهُ وَألقَى ابْنُ المَلِكِ عَنْهُ تِلْكَ الثِّيَابَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَلَبِسَ ثِيَابَ الغُلَامِ وَتَنَكَّرَ جُهْدَهُ، وَخَرَجَا جَمِيعاً مِنَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(923) جلب القوم: ضجُّوا واختلطت أصواتهم. والجلّاب والمجلّب - بشدِّ اللَّام -: المصوت.
(924) أي على مهلك، يعني امهل وتأنَّ.

(٤١٣)

المَدِينَةِ، فَسَارَا لَيْلَتَهُمَا حَتَّى إِذَا قَرُبَ الصُّبْحُ خَشِيَا الطَّلَبَ فَكَمَنَا، فَأُتِيَتِ الجَارِيَةُ عِنْدَ الصُّبْحِ فَوَجَدُوهَا نَائِمَةً، فَسَأَلُوهَا: أَيْنَ زَوْجُكِ؟ قَالَتْ: كَانَ عِنْدِي السَّاعَةَ، فَطُلِبَ الغُلَامُ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَمْسَى الغُلَامُ وَصَاحِبُهُ سَارَا ثُمَّ جَعَلَا يَسِيرَانِ اللَّيْلَ وَيَكْمُنَانِ النَّهَارَ حَتَّى خَرَجَا مِنْ سُلْطَانِ أَبِيهِ وَوَقَعَا فِي مُلْكِ سُلْطَانٍ آخَرَ.
وَقَدْ كَانَ لِذَلِكَ المَلِكِ الَّذِي صَارَا إِلَى سُلْطَانِهِ ابْنَةٌ قَدْ جَعَلَ لَهَا أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا أَحَداً إِلَّا مَنْ هَوِيَتْهُ وَرَضِيَتْهُ، وَبَنَى لَهَا غُرْفَةً عَالِيَةً مُشْرِفَةً عَلَى الطَّرِيقِ، فَهِيَ فِيهَا جَالِسَةٌ تَنْظُرُ إِلَى كُلِّ مَنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ إِذْ نَظَرَتْ إِلَى الغُلَامِ يَطُوفُ فِي السُّوقِ وَصَاحِبُهُ مَعَهُ فِي خُلْقَانِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى أَبِيهَا: إِنِّي قَدْ هَوِيتُ رَجُلاً، فَإِنْ كُنْتَ مُزَوِّجِي أَحَداً مِنَ النَّاسِ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ، وَأُتِيَتْ أُمُّ الجَارِيَةِ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّ ابْنَتَكِ قَدْ هَوِيَتْ رَجُلاً، وَهِيَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهَا فَرِحَةً حَتَّى تَنْظُرَ إِلَى الغُلَامِ، فَأَرَوْهَا إِيَّاهُ، فَنَزَلَتْ أُمُّهَا مُسْرِعَةً حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى المَلِكِ، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنَتَكَ قَدْ هَوِيَتْ رَجُلاً، فَأَقْبَلَ المَلِكُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرُونِيهِ، فَأَرَوْهُ مِنْ بُعْدٍ، فَأَمَرَ أَنْ يُلْبَسَ ثِيَاباً أُخْرَى وَنَزَلَ فَسَأَلَهُ وَاسْتَنْطَقَهُ وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ الغُلَامُ: وَمَا سُؤَالُكَ عَنِّي؟ أَنَا رَجُلٌ مِنْ مَسَاكِينِ النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَغَرِيبٌ، وَمَا يُشْبِهُ لَوْنُكَ الوَانَ أَهْلِ هَذِهِ المَدِينَةِ، فَقَالَ الغُلَامُ: مَا أَنَا بِغَرِيبٍ، فَعَالَجَهُ المَلِكُ أَنْ يَصْدُقَهُ قِصَّتَهُ فَأَبَى، فَأَمَرَ المَلِكُ أُنَاساً أَنْ يَحْرُسُوهُ وَيَنْظُرُوا أَيْنَ يَأْخُذُ، وَلَا يَعْلَمُ بِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ المَلِكُ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَجُلاً كَأَنَّهُ ابْنُ مَلِكٍ وَمَا لَهُ حَاجَةٌ فِيمَا تُرَاوِدُونَهُ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ المَلِكَ يَدْعُوكَ، فَقَالَ الغُلَامُ: وَمَا أَنَا وَالمَلِكُ؟ يَدْعُونِّي وَمَا لِي إِلَيْهِ حَاجَةٌ وَمَا يَدْرِي مَنْ أَنَا، فَانْطُلِقَ بِهِ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى المَلِكِ، فَأَمَرَ بِكُرْسِيٍّ فَوُضِعَ لَهُ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَدَعَا المَلِكُ امْرَأَتَهُ وَابْنَتَهُ فَأَجْلَسَهُمَا مِنْ وَرَاءِ الحِجَابِ خَلْفَهُ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: دَعَوْتُكَ لِخَيْرٍ، إِنَّ لِيَ ابْنَةً قَدْ رَغِبَتْ فِيكَ أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَهَا مِنْكَ، فَإِنْ كُنْتَ مِسْكِيناً فَأَغْنَيْنَاكَ وَرَفَعْنَاكَ وَشَرَّفْنَاكَ، قَالَ الغُلَامُ: مَا لِي فِيمَا تَدْعُونِي إِلَيْهِ حَاجَةٌ، فَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتُ لَكَ مَثَلاً أَيُّهَا المَلِكُ، قَالَ: فَافْعَلْ.

(٤١٤)

قَالَ الغُلَامُ: زَعَمُوا أَنَّ مَلِكاً مِنَ المُلُوكِ كَانَ لَهُ ابْنٌ، وَكَانَ لِابْنِهِ أَصْدِقَاءُ صَنَعُوا لَهُ طَعَاماً وَدَعَوْهُ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ مَعَهُمْ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّى سَكِرُوا فَنَامُوا، فَاسْتَيْقَظَ ابْنُ المَلِكِ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ فَذَكَرَ أَهْلَهُ فَخَرَجَ عَامِداً إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلَمْ يُوقِظْ أَحَداً مِنْهُمْ، فَبَيْنَا هُوَ فِي مَسِيرِهِ إِذْ بَلَغَ مِنْهُ الشَّرَابُ فَبَصُرَ بِقَبْرٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَظَنَّ أَنَّهُ مَدْخَلُ بَيْتِهِ فَدَخَلَهُ، فَإِذَا هُوَ بِرِيحِ المَوْتَى، فَحَسِبَ ذَلِكَ لِمَا كَانَ بِهِ السُّكْرُ أَنَّهُ رِيَاحٌ طَيِّبَةٌ، فَإِذَا هُوَ بِعِظَامٍ لَا يَحْسَبُهَا إِلَّا فُرُشَهُ المُمَهَّدَةَ، فَإِذَا هُوَ بِجَسَدٍ قَدْ مَاتَ حَدِيثاً وَقَدْ أَرْوَحَ فَحَسِبَهُ أَهْلَهُ، فَقَامَ إِلَى جَانِبِهِ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ وَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ عَامَّةَ لَيْلِهِ، فَأَفَاقَ حِينَ أَفَاقَ وَنَظَرَ حِينَ نَظَرَ، فَإِذَا هُوَ عَلَى جَسَدٍ مَيِّتٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ قَدْ دَنِسَ ثِيَابُهُ وَجِلْدُهُ، وَنَظَرَ إِلَى القَبْرِ وَمَا فِيهِ مِنَ المَوْتَى، فَخَرَجَ وَبِهِ مِنَ السُّوءِ مَا يَخْتَفِى بِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْهِ مُتَوَجِّهاً إِلَى بَابِ المَدِينَةِ، فَوَجَدَهُ مَفْتُوحاً، فَدَخَلَهُ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ فَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ، فَألقَى عَنْهُ ثِيَابَهُ تِلْكَ وَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ لِبَاساً أُخْرَى وَتَطَيَّبَ.
عَمَّرَكَ اللهُ أَيُّهَا المَلِكُ أَتَرَاهُ رَاجِعاً إِلَى مَا كَانَ فِيهِ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، فَالتَفَتَ المَلِكُ إِلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ، وَقَالَ لَهُمَا: قَدْ أَخْبَرْتُكُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيمَا تَدْعُونَهُ رَغْبَةٌ، قَالَتْ أُمُّهَا: لَقَدْ قَصَّرْتَ فِي النَّعْتِ لِابْنَتِي وَالوَصْفِ لَهَا أَيُّهَا المَلِكُ، وَلَكِنِّي خَارِجَةٌ إِلَيْهِ وَمُكَلِّمَةٌ لَهُ، فَقَالَ المَلِكُ لِلْغُلَامِ: إِنَّ امْرَأَتِي تُرِيدُ أَنْ تُكَلِّمَكَ وَتَخْرُجَ إِلَيْكَ وَلَمْ تَخْرُجْ إِلَى أَحَدٍ قَبْلَكَ، فَقَالَ الغُلَامُ: لِتَخْرُجْ إِنْ أَحَبَّتْ، فَخَرَجَتْ وَجَلَسَتْ، فَقَالَتْ لِلْغُلَامِ: تَعَالِ إِلَى مَا قَدْ سَاقَ اللهُ إِلَيْكَ مِنَ الخَيْرِ وَالرِّزْقِ فَأُزَوِّجَكَ ابْنَتِي فَإِنَّكَ لَوْ قَدْ رَأَيْتَهَا وَمَا قَسَمَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهَا مِنَ الجَمَالِ وَالهَيْأَةِ لَاغْتَبَطْتَ، فَنَظَرَ الغُلَامُ إِلَى المَلِكِ فَقَالَ: أَفَلَا أَضْرِبُ لَكَ مَثَلاً؟ قَالَ: بَلَى.
قَالَ: إِنَّ سُرَّاقاً تَوَاعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا خِزَانَةَ المَلِكِ لِيَسْرِقُوا، فَنَقَبُوا حَائِطَ الخِزَانَةِ فَدَخَلُوهَا، فَنَظَرُوا إِلَى مَتَاعٍ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ، وَإِذَا هُمْ بِقُلَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ مَخْتُومَةٍ

(٤١٥)

بِالذَّهَبِ، فَقَالُوا: لَا نَجِدُ شَيْئاً أَعْلَى مِنْ هَذِهِ القُلَّةِ، هِيَ ذَهَبٌ مَخْتُومَةٌ بِالذَّهَبِ، وَالَّذِي فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي رَأَيْنَا، فَاحْتَمَلُوهَا وَمَضَوْا بِهَا حَتَّى دَخَلُوا غَيْضَةً لَا يَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَلَيْهَا، فَفَتَحُوهَا فَإِذَا فِي وَسَطِهَا أَفَاعٍ، فَوَثَبْنَ فِي وُجُوهِهِمْ فَقَتَلَتْهُمْ أَجْمَعِينَ.
عَمَّرَكَ اللهُ أَيُّهَا المَلِكُ أَفَتَرَى أَحَداً عَلِمَ بِمَا أَصَابَهُمْ وَمَا لَقُوهُ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي تِلْكَ القُلَّةِ وَفِيهَا مِنْ الأَفَاعِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، فَقَالَتِ الجَارِيَةُ لِأَبِيهَا: ائْذَنْ لِي فَأَخْرُجَ إِلَيْهِ بِنَفْسِي وَأُكَلِّمَهُ فَإِنَّهُ لَوْ قَدْ نَظَرَ إِلَيَّ وَإِلَى جَمَالِي وَحُسْنِي وَهَيْأَتِي وَمَا قَسَمَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لِي مِنَ الجَمَالِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ يُجِيبَ.
فَقَالَ المَلِكُ لِلْغُلَامِ: إِنَّ ابْنَتِي تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْكَ وَلَمْ تَخْرُجْ إِلَى رَجُلٍ قَطُّ، قَالَ: لِتَخْرُجْ إِنْ أَحَبَّتْ، فَخَرَجَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهاً وَقَدًّا وَطَرَفاً وَهَيْكَلاً، فَسَلَّمَتْ عَلَى الغُلَامِ، وَقَالَتْ لِلْغُلَامِ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلِي قَطُّ أَوْ أَتَمَّ أَوْ أَجْمَلَ أَوْ أَكْمَلَ أَوْ أَحْسَنَ؟ وَقَدْ هَوِيتُكَ وَأَحْبَبْتُكَ، فَنَظَرَ الغُلَامُ إِلَى المَلِكِ فَقَالَ: أَفَلَا أَضْرِبُ لَهَا مَثَلاً؟ قَالَ: بَلَى.
قَالَ الغُلَامُ: زَعَمُوا أَيُّهَا المَلِكُ أَنَّ مَلِكاً لَهُ ابْنَانِ، فَأَسَرَ أَحَدَهُمَا مَلِكٌ آخَرُ فَحَبَسَهُ فِي بَيْتٍ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا رَمَاهُ بِحَجَرٍ، فَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ حِيناً، ثُمَّ إِنَّ أَخَاهُ قَالَ لِأَبِيهِ: ائْذَنْ لِي فَأَنْطَلِقَ إِلَى أَخِي فَأَفْدِيَهُ وَأَحْتَالَ لَهُ، قَالَ المَلِكُ: فَانْطَلِقْ وَخُذْ مَعَكَ مَا شِئْتَ مِنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ وَدَوَابَّ، فَاحْتَمَلَ مَعَهُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ المُغَنِّيَاتُ وَالنَّوَائِحُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَدِينَةِ ذَلِكَ المَلِكِ أُخْبِرَ المَلِكُ بِقُدُومِهِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالخُرُوجِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِمَنْزِلٍ خَارِجٍ مِنَ المَدِينَةِ، فَنَزَلَ الغُلَامُ فِي ذَلِكَ المَنْزِلِ، فَلَمَّا جَلَسَ فِيهِ وَنَشَرَ مَتَاعَهُ وَأَمَرَ غِلْمَانَهُ أَنْ يَبِيعُوا النَّاسَ وَيُسَاهِلُوهُمْ فِي بَيْعِهِمْ وَيُسَامِحُوهُمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ شُغِلُوا بِالبَيْعِ انْسَلَّ وَدَخَلَ المَدِينَةَ وَقَدْ عَلِمَ أَيْنَ سِجْنُ أَخِيهِ، ثُمَّ أَتَى السِّجْنَ فَأَخَذَ حَصَاةً فَرَمَى بِهَا لِيَنْظُرَ مَا

(٤١٦)

بَقِيَ مِنْ نَفَسِ أَخِيهِ، فَصَاحَ حِينَ أَصَابَتْهُ الحَصَاةُ، وَقَالَ: قَتَلْتَنِي، فَفَزِعَ الحَرَسُ عِنْدَ ذَلِكَ وَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَسَأَلُوهُ: لِـمَ صِحْتَ؟ وَمَا شَأْنُكَ؟ وَمَا بَدَا لَكَ؟ وَمَا رَأَيْنَاكَ تَكَلَّمْتَ وَنَحْنُ نُعَذِّبُكَ مُنْذُ حِينٍ وَيَضْرِبُكَ وَيَرْمِيكَ كُلُّ مَنْ يَمُرُّ بِكَ بِحَجَرٍ، وَرَمَاكَ هَذَا الرَّجُلُ بِحَصَاةٍ فَصِحْتَ مِنْهَا، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا مِنْ أَمْرِي عَلَى جَهَالَةٍ، وَرَمَانِي هَذَا عَلَى عِلْمٍ، فَانْصَرَفَ أَخُوهُ رَاجِعاً إِلَى مَنْزِلِهِ وَمَتَاعِهِ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: إِذَا كَانَ غَداً فَأْتُونِي أَنْشُرْ عَلَيْكُمْ بَزًّا وَمَتَاعاً لَمْ تَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ، فَانْصَرَفُوا يَوْمَئِذٍ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الغَدِ غَدَوْا عَلَيْهِ بِأَجْمَعِهِمْ، فَأَمَرَ بِالبَزِّ فَنُشِرُوا، وَأَمَرَ بِالمُغَنِّيَاتِ وَالنَّائِحَاتِ وَكُلِّ صِنْفٍ مَعَهُ مِمَّا يُلْهَى بِهِ النَّاسُ، فَأَخَذُوا فِي شَأْنِهِمْ فَاشْتَغَلَ النَّاسُ، فَأَتَى أَخَاهُ فَقَطَعَ عَنْهُ أَغْلَالَهُ، وَقَالَ: أَنَا أُدَاوِيكَ، فَاخْتَلَسَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنَ المَدِينَةِ، فَجَعَلَ عَلَى جِرَاحَاتِهِ دَوَاءً كَانَ مَعَهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَ رَاحَةً أَقَامَهُ عَلَى الطَّرِيقِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: انْطَلِقْ فَإِنَّكَ سَتَجِدُ سَفِينَةً قَدْ سُيِّرَتْ لَكَ فِي البَحْرِ، فَانْطَلَقَ سَائِراً، فَوَقَعَ فِي جُبٍّ فِيهِ تِنِّينٌ وَعَلَى الجُبِّ شَجَرَةٌ نَابِتَةٌ، فَنَظَرَ إِلَى الشَّجَرَةِ فَإِذَا عَلَى رَأْسِهَا اثْنَا عَشَرَ غُولاً وَفِي أَسْفَلِهَا اثْنَا عَشَرَ سَيْفاً، وَتِلْكَ السُّيُوفُ مَسْلُولَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَحَمَّلُ وَيَحْتَالُ حَتَّى أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنَ الشَّجَرَةِ فَتَعَلَّقَ بِهِ وَتَخَلَّصَ وَسَارَ حَتَّى أَتَى البَحْرَ فَوَجَدَ سَفِينَةً قَدْ أُعِدَّتْ لَهُ إِلَى جَانِبِ السَّاحِلِ فَرَكِبَ فِيهَا حَتَّى أَتَوْا بِهِ أَهْلَهُ.
عَمَّرَكَ اللهُ أَيُّهَا المَلِكُ أَ تَرَاهُ عَائِداً إِلَى مَا قَدْ عَايَنَ وَلَقِيَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، فَيَئِسُوا مِنْهُ، فَجَاءَ الغُلَامُ الَّذِي صَحِبَهُ مِنَ المَدِينَةِ فَسَارَّهُ، وَقَالَ: اذْكُرْنِي لَهَا وَأَنْكِحْنِيهَا، فَقَالَ الغُلَامُ لِلْمَلِكِ: إِنَّ هَذَا يَقُولُ: إِنِّي أُحِبُّ المَلِكَ أَنْ يُنْكِحَنِيهَا، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، قَالَ: أَفَلَا أَضْرِبُ لَكَ مَثَلاً؟ قَالَ: بَلَى.
قَالَ: إِنَّ رَجُلاً كَانَ فِي قَوْمٍ، فَرَكِبُوا سَفِينَةً فَسَارُوا فِي البَحْرِ لَيَالِيَ وَأَيَّاماً، ثُمَّ انْكَسَرَتْ سَفِينَتُهُمْ بِقُرْبِ جَزِيرَةٍ فِي البَحْرِ فِيهَا الغِيلَانُ، فَغَرِقُوا كُلُّهُمْ سِوَاهُ، وَالقَاهُ

(٤١٧)

البَحْرُ إِلَى الجَزِيرَةِ، وَكَانَتِ الغِيلَانُ يُشْرِفْنَ مِنَ الجَزِيرَةِ إِلَى البَحْرِ، فَأَتَى غُولاً فَهَوِيَهَا وَنَكَحَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ مَعَ الصُّبْحِ قَتَلَتْهُ وَقَسَمَتْ أَعْضَاءَهُ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا، وَاتَّفَقَ مِثْلُ ذَلِكَ لِرَجُلٍ آخَرَ، فَأَخَذَتْهُ ابْنَةُ مَلِكِ الغِيلَانِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ فَبَاتَ مَعَهَا يَنْكِحُهَا، وَقَدْ عَلِمَ الرَّجُلُ مَا لَقِيَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ فَلَيْسَ يَنَامُ حَذَراً حَتَّى إِذَا كَانَ مَعَ الصُّبْحِ نَامَتِ الغُولُ فَانْسَلَّ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى السَّاحِلَ فَإِذَا هُوَ بِسَفِينَةٍ فَنَادَى أَهْلَهَا وَاسْتَغَاثَ بِهِمْ فَحَمَلُوهُ حَتَّى أَتَوْا بِهِ أَهْلَهُ، فَأَصْبَحَتِ الغِيلَانُ فَأَتَوُا الغُولَةَ الَّتِي بَاتَتْ مَعَهُ، فَقَالُوا لَهَا: أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي بَاتَ مَعَكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ قَدْ فَرَّ مِنِّي، فَكَذَّبُوهَا وَقَالُوا: أَكَلْتِيهِ وَاسْتَأْثَرْتِ بِهِ عَلَيْنَا، فَلَنَقْتُلَنَّكِ إِنْ لَمْ تَأْتِنَا بِهِ، فَمَرَّتْ فِي المَاءِ حَتَّى أَتَتْهُ فِي مَنْزِلِهِ وَرَحْلِهِ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ وَجَلَسَتْ عِنْدَهُ وَقَالَتْ لَهُ: مَا لَقِيتَ فِي سَفَرِكَ هَذَا؟ قَالَ: لَقِيتُ بَلَاءً خَلَّصَنِيَ اللهُ مِنْهُ، وَقَصَّ عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: وَقَدْ تَخَلَّصْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: أَنَا الغُولَةُ وَجِئْتُ لِآخُذَكَ، فَقَالَ لَهَا: أَنْشُدُكِ اللهَ أَنْ تُهْلِكِينِي فَإِنِّي أَدُلُّكِ عَلَى مَكَانِ رَجُلٍ، قَالَتْ: إِنِّي أَرْحَمُكَ، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا دَخَلَا عَلَى المَلِكِ قَالَتْ: اسْمَعْ مِنَّا أَصْلَحَ اللهُ المَلِكَ إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِهَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، ثُمَّ إِنَّهُ كَرِهَنِي وَكَرِهَ صُحْبَتِي، فَانْظُرْ فِي أَمْرِنَا، فَلَمَّا رَآهَا المَلِكُ أَعْجَبَهُ جَمَالُهَا فَخَلَا بِالرَّجُلِ فَسَارَّهُ وَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَتْرُكَهَا فَأَتَزَوَّجَهَا، قَالَ: نَعَمْ أَصْلَحَ اللهُ المَلِكَ مَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، فَتَزَوَّجَ بِهَا المَلِكُ، وَبَاتَ مَعَهَا حَتَّى إِذَا كَانَتْ مَعَ السَّحَرِ ذَبَحَتْهُ وَقَطَعَتْ أَعْضَاءَهُ وَحَمَلَتْهُ إِلَى صَوَاحِبَاتِهَا. أَفَتَرَى أَيُّهَا المَلِكُ أَحَداً يَعْلَمُ بِهَذَا ثُمَّ يَنْطَلِقُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ الخَاطِبُ لِلْغُلَامِ: فَإِنِّي لَا أُفَارِقُكَ وَلَا حَاجَةَ لِي فِيمَا أَرَدْتُ.
فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِ المَلِكِ يَعْبُدَانِ اللهَ (جلّ جلاله) وَيَسِيحَانِ فِي الأَرْضِ، فَهَدَى اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِمَا أُنَاساً كَثِيراً، وَبَلَغَ شَأْنُ الغُلَامِ وَارْتَفَعَ ذِكْرُهُ فِي الآفَاقِ، فَذَكَرَ وَالِدَهُ وَقَالَ: لَوْ بَعَثْتُ إِلَيْهِ فَاسْتَنْقَذْتُهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولاً، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَهُ وَأَمْرَهُ، فَأَتَاهُ وَالِدُهُ وَأَهْلُهُ فَاسْتَنْقَذَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ.

(٤١٨)

ثُمَّ إِنَّ بِلَوْهَرَ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَاخْتَلَفَ إِلَى يُوذَاسُفَ أَيَّاماً حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ فُتِحَ لَهُ البَابُ وَدَلَّهُ عَلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ تِلْكَ البِلَادِ إِلَى غَيْرِهَا، وَبَقِيَ يُوذَاسُفُ حَزِيناً مُغْتَمّاً، فَمَكَثَ بِذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ وَقْتُ خُرُوجِهِ إِلَى النُّسَّاكِ لِيُنَادِيَ بِالحَقِّ وَيَدْعُوَ إِلَيْهِ أَرْسَلَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) مَلَكاً مِنَ المَلَائِكَةِ، فَلَمَّا رَأَى مِنْهُ خَلْوَةً ظَهَرَ لَهُ وَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَكَ الخَيْرُ وَالسَّلَامَةُ، أَنْتَ إِنْسَانٌ بَيْنَ البَهَائِمِ الظَّالِمِينَ الفَاسِقِينَ مِنَ الجُهَّالِ، أَتَيْتُكَ بِالتَّحِيَّةِ مِنَ الحَقِّ وَإِلَهُ الخَلْقِ، بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِأُبَشِّرَكَ وَأَذْكُرَ لَكَ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، فَاقْبَلْ بِشَارَتِي وَمَشُورَتِي وَلَا تَغْفَلْ عَنْ قَوْلِي، اخْلَعْ عَنْكَ الدُّنْيَا، وَانْبِذْ عَنْكَ شَهَوَاتِهَا، وَازْهَدْ فِي المُلْكِ الزَّائِلِ، وَالسُّلْطَانِ الفَانِي الَّذِي لَا يَدُومُ وَعَاقِبَتُهُ النَّدَمُ وَالحَسْرَةُ، وَاطْلُبِ المُلْكَ الَّذِي لَا يَزُولُ وَالفَرَحَ الَّذِي لَا يَنْقَضِي وَالرَّاحَةَ الَّتِي لَا يَتَغَيَّرُ، وَكُنْ صَدِيقاً مُقْسِطاً، فَإِنَّكَ تَكُونُ إِمَامَ النَّاسِ تَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ.
فَلَمَّا سَمِعَ يُوذَاسُفُ كَلَامَهُ خَرَّ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) سَاجِداً، وَقَالَ: إِنِّي لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى مُطِيعٌ، وَإِلَى وَصِيَّتِهِ مُنْتَهٍ، فَمُرْنِي بِأَمْرِكَ فَإِنِّي لَكَ حَامِدٌ وَلِمَنْ بَعَثَكَ إِلَيَّ شَاكِرٌ، فَإِنَّهُ رَحِمَنِي وَرَؤُوفٌ بِي، وَلَمْ يَرْفُضْنِي بَيْنَ الأَعْدَاءِ، فَإِنِّي كُنْتُ بِالَّذِي أَتَيْتَنِي بِهِ مُهْتَمًّا.
قَالَ المَلَكُ: إِنِّي أَرْجِعُ إِلَيْكَ بَعْدَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أُخْرِجُكَ فَتَهَيَّأْ لِذَلِكَ وَلَا تَغْفَلْ عَنْهُ، فَوَطَّنَ يُوذَاسُفُ نَفْسَهُ عَلَى الخُرُوجِ، وَجَعَلَ هِمَّتَهُ كُلَّهُ فِيهِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ أَحَداً حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتُ خُرُوجِهِ أَتَاهُ المَلَكُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، فَقَالَ لَهُ: قُمْ فَاخْرُجْ وَلَا تُؤَخِّرْ ذَلِكَ، فَقَامَ وَلَمْ يُفْشِ سِرَّهُ إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرِ وَزِيرِهِ، فَبَيْنَا هُوَ يُرِيدُ الرُّكُوبَ إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ شَابٌّ جَمِيلٌ كَانَ قَدْ مَلَكَهُمْ بِلَادَهُ فَسَجَدَ لَهُ.
وَقَالَ: أَيْنَ تَذْهَبُ يَا ابْنَ المَلِكِ وَقَدْ أَصَابَنَا العُسْرُ أَيُّهَا المُصْلِحُ الحَكِيمُ الكَامِلُ وَتَتْرُكُنَا لَهُ وَتَتْرُكُ مُلْكَكَ وَبِلَادَكَ؟ أَقِمْ عِنْدَنَا فَإِنَّا كُنَّا مُنْذُ وُلِدْتَ فِي رَخَاءٍ وَكَرَامَةٍ وَلَمْ تَنْزِلْ بِنَا عَاهَةٌ وَلَا مَكْرُوهٌ، فَسَكَّتَهُ يُوذَاسُفُ وَقَالَ لَهُ: امْكُثْ أَنْتَ فِي

(٤١٩)

بِلَادِكَ وَدَارِ(925) أَهْلَ مَمْلَكَتِكَ، فَأَمَّا أَنَا فَذَاهِبٌ حَيْثُ بُعِثْتُ وَعَامِلٌ مَا أُمِرْتُ بِهِ فَإِنْ أَنْتَ أَعَنْتَنِي كَانَ لَكَ فِي عَمَلِي نَصِيباً.
ثُمَّ إِنَّهُ رَكِبَ فَسَارَ مَا قَضَى اللهُ لَهُ أَنْ يَسِيرَ، ثُمَّ إِنَّهُ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَوَزِيرُهُ يَقُودُ فَرَسَهُ وَيَبْكِي أَشَدَّ البُكَاءِ، وَيَقُولُ لِيُوذَاسُفَ: بِأَيِّ وَجْهٍ أَسْتَقْبِلُ أَبَوَيْكَ؟ وَبِمَا أُجِيبُهُمَا عَنْكَ؟ وَبِأَيِّ عَذَابٍ أَوْ مَوْتٍ يَقْتُلَانِّي؟ وَأَنْتَ كَيْفَ تُطِيقُ العُسْرَ وَالأَذَى الَّذِي لَمْ تَتَعَوَّدْهُ؟ وَكَيْفَ لَا تَسْتَوْحِشُ وَأَنْتَ لَمْ تَكُنْ وَحْدَكَ يَوْماً قَطُّ؟ وَجَسَدُكَ كَيْفَ تَحَمَّلَ الجُوعَ وَالظَّمَأَ وَالتَّقَلُّبَ عَلَى الأَرْضِ وَالتُّرَابِ؟ فَسَكَّتَهُ وَعَزَّاهُ وَوَهَبَ لَهُ فَرَسَهُ وَالمِنْطَقَةَ، فَجَعَلَ يُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَيَقُولُ: لَا تَدَعْنِي وَرَاءَكَ يَا سَيِّدِي اذْهَبْ بِي مَعَكَ حَيْثُ خَرَجْتَ فَإِنَّهُ لَا كَرَامَةَ لِي بَعْدَكَ، وَإِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَنِي وَلَمْ تَذْهَبْ بِي مَعَكَ أَخْرُجْ فِي الصَّحْرَاءِ وَلَمْ أَدْخُلْ مَسْكَناً فِيهِ إِنْسَانٌ أَبَداً، فَسَكَّتَهُ أَيْضاً وَعَزَّاهُ وَقَالَ: لَا تَجْعَلْ فِي نَفْسِكَ إِلَّا خَيْراً، فَإِنِّي بَاعِثٌ إِلَى المَلِكِ وَمُوصِيهِ فِيكَ أَنْ يُكْرِمَكَ وَيُحْسِنَ إِلَيْكَ.
ثُمَّ نَزَعَ عَنْهُ لِبَاسَ المُلْكِ وَدَفَعَهُ إِلَى وَزِيرِهِ، وَقَالَ لَهُ: البَسْ ثِيَابِي، وَأَعْطَاهُ اليَاقُوتَةَ الَّتِي كَانَ يَجْعَلُهَا فِي رَأْسِهِ، وَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ بِهَا مَعَكَ وَفَرَسِي، وَإِذَا أَتَيْتَهُ فَاسْجُدْ لَهُ وَأَعْطِهِ هَذِهِ اليَاقُوتَةَ وَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ ثُمَّ الأَشْرَافَ وَقُلْ لَهُمْ: إِنِّي لَـمَّا نَظَرْتُ فِيمَا بَيْنَ البَاقِي وَالزَّائِلِ رَغِبْتُ فِي البَاقِي وَزَهِدْتُ فِي الزَّائِلِ، وَلَـمَّا اسْتَبَانَ لِي أَصْلِي وَحَسَبِي وَفَصَلْتُ بَيْنَهُمَا وبَيْنَ الأَعْدَاءِ وَالأَقْرِبَاءِ رَفَضْتُ الأَعْدَاءَ وَالأَقْرِبَاءَ وَانْقَطَعْتُ إِلَى أَصْلِي وَحَسَبِي، فَأَمَّا وَالِدِي فَإِنَّهُ إِذَا أَبْصَرَ اليَاقُوتَةَ طَابَتْ نَفْسُهُ، فَإِذَا أَبْصَرَ كِسْوَتِي عَلَيْكَ ذَكَرَنِي وَذَكَرَ حُبِّي لَكَ وَمَوَدَّتِي إِيَّاكَ، فَمَنَعَهُ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْكَ مَكْرُوهاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(925) من المداراة.

(٤٢٠)

ثُمَّ رَجَعَ وَزِيرُهُ وَتَقَدَّمَ يُوذَاسُفُ أَمَامَهُ يَمْشِي حَتَّى بَلَغَ فَضَاءً وَاسِعاً فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَرَأَى شَجَرَةً عَظِيمَةً عَلَى عَيْنٍ مِنْ مَاءٍ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّجَرِ وَأَكْثَرَهَا فَرْعاً وَغُصْناً وَأَحْلَاهَا ثَمَراً، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهَا مِنَ الطَّيْرِ مَا لَا يُعَدُّ كَثْرَةً، فَسُرَّ بِذَلِكَ المَنْظَرِ وَفَرِحَ بِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ حَتَّى دَنَا مِنْهُ، وَجَعَلَ يُعَبِّرُهُ فِي نَفْسِهِ وَيُفَسِّرُهُ، فَشَبَّهَ الشَّجَرَ بِالبُشْرَى الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا، وَعَيْنَ المَاءِ بِالحِكْمَةِ وَالعِلْمِ، وَالطَّيْرَ بِالنَّاسِ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ وَيَقْبَلُونَ مِنْهُ الدِّينَ، فَبَيْنَا هُوَ قَائِمٌ إِذَا أَتَاهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ المَلَائِكَةِ (عليهم السلام) يَمْشُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاتَّبَعَ آثَارَهُمْ حَتَّى رَفَعُوهُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، وَأُوتِيَ مِنَ العِلْمِ وَالحِكْمَةِ مَا عَرَفَ بِهِ الأُولَى وَالوُسْطَى وَالأُخْرَى وَالَّذِي هُوَ كَائِنٌ، ثُمَّ أَنْزَلُوهُ إِلَى الأَرْضِ وَقَرَّنُوا مَعَهُ قَرِيناً مِنَ المَلَائِكَةِ الأَرْبَعَةِ، فَمَكَثَ فِي تِلْكَ البِلَادِ حِيناً.
ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى أَرْضَ سُولَابِطَ، فَلَمَّا بَلَغَ وَالِدَهُ قُدُومُهُ خَرَجَ يَسِيرُ هُوَ وَالأَشْرَافُ، فَأَكْرَمُوهُ وَقَرَّبُوهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُ بَلَدِهِ مَعَ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَحَشَمِهِ وَقَعَدُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَكَلَّمَهُمُ الكَلَامَ الكَثِيرَ وَفَرَشَ لَهُمُ الأَسَاسَ وَقَالَ لَهُمْ: اسْمَعُوا إِلَيَّ بِأَسْمَاعِكُمْ، وَفَرِّغُوا إِلَيَّ قُلُوبَكُمْ لِاسْتِمَاعِ حِكْمَةِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) الَّتِي هِيَ نُورُ الأَنْفُسِ، وَثِقُوا بِالعِلْمِ الَّذِي هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، وَأَيْقِظُوا عُقُولَكُمْ وَافْهَمُوا الفَصْلَ الَّذِي بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ وَالضَّلَالِ وَالهُدَى.
واعْلَمُوا أَنَّ هَذَا هُوَ دَيْنُ الحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ (عليهم السلام) وَالقُرُونِ الأُولَى، فَخَصَّنَا اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ فِي هَذَا القَرْنِ بِرَحْمَتِهِ بِنَا وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَتَحَنُّنِهِ عَلَيْنَا، وَفِيهِ خَلَاصٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنَالُ الإِنْسَانُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَلَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا بِالإِيمَانِ وَعَمَلِ الخَيْرِ، فَاجْتَهِدُوا فِيهِ لِتُدْرِكُوا بِهِ الرَّاحَةَ الدَّائِمَةَ وَالحَيَاةَ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ أَبَداً، وَمَنْ آمَنَ مِنْكُمْ بِالدِّينِ فَلَا يَكُونَنَّ إِيمَانُهُ طَمَعاً فِي الحَيَاةِ وَرَجَاءً لِمُلْكِ الأَرْضِ وَطَلَبِ مَوَاهِبِ الدُّنْيَا، وَلْيَكُنْ إِيمَانُكُمْ بِالدِّينِ طَمَعاً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَرَجَاءً لِلْخَلَاصِ وَطَلَبِ النَّجَاةِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَبُلُوغِ الرَّاحَةِ

(٤٢١)

وَالفَرَجِ فِي الآخِرَةِ، فَإِنَّ مُلْكَ الأَرْضِ وَسُلْطَانَهَا زَائِلٌ، وَلَذَّاتِهَا مُنْقَطِعَةٌ، فَمَنِ اغْتَرَّ بِهَا هَلَكَ وَافْتَضَحَ، لَوْ قَدْ وَقَفَ عَلَى دَيَّانِ الدِّينِ الَّذِي لَا يَدِينُ إِلَّا بِالحَقِّ، فَإِنَّ المَوْتَ مَقْرُونٌ مَعَ أَجْسَادِكُمْ، وَهُوَ يَتَرَاصَدُ أَرْوَاحَكُمْ أَنْ يُكَبْكِبَهَا مَعَ الأَجْسَادِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الطَّيْرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الحَيَاةِ وَالنَّجَاةُ مِنَ الأَعْدَاءِ مِنَ اليَوْمِ إِلَى غَدٍ إِلَّا بِقُوَّةٍ مِنَ البَصَرِ وَالجَنَاحَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَكَذَلِكَ الإِنْسَانُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الحَيَاةِ وَالنَّجَاةِ إِلَّا بِالعَمَلِ وَالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَفْعَالِ الخَيْرِ الكَامِلَةِ، فَتَفَكَّرْ أَيُّهَا المَلِكُ أَنْتَ وَالأَشْرَافُ فِيمَا تَسْمَعُونَ وَافْهَمُوا وَاعْتَبِرُوا، وَاعْبِرُوا البَحْرَ مَا دَامَتِ السَّفِينَةُ، وَاقْطَعُوا المَفَازَةَ مَا دَامَ الدَّلِيلُ وَالظَّهْرُ وَالزَّادُ، وَاسْلُكُوا سَبِيلَكُمْ مَا دَامَ المِصْبَاحُ، وَأَكْثِرُوا مِنْ كُنُوزِ البِرِّ مَعَ النُّسَّاكِ، وَشَارِكُوهُمْ فِي الخَيْرِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَصْلِحُوا التَّبَعَ وَكُونُوا لَهُمْ أَعْوَاناً، وَمُرُوهُمْ بِأَعْمَالِكُمْ لِيَنْزِلُوا مَعَكُمْ مَلَكُوتَ النُّورِ، وَاقْبَلُوا النُّورَ، وَاحْتَفِظُوا بِفَرَائِضِكُمْ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَتَوَثَّقُوا إِلَى أَمَانِيِّ الدُّنْيَا وَشُرْبِ الخُمُورِ وَشَهْوَةِ النِّسَاءِ مِنْ كُلِّ ذَمِيمَةٍ وَقَبِيحَةٍ مُهْلِكَةٍ لِلرُّوحِ وَالجَسَدِ، وَاتَّقُوا الحَمِيَّةَ وَالغَضَبَ وَالعَدَاوَةَ وَالنَّمِيمَةَ، وَمَا لَمْ تَرْضَوْهُ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكُمْ فَلَا تَأْتُوهُ إِلَى أَحَدٍ، وَكُونُوا طَاهِرِي القُلُوبِ، صَادِقِي النِّيَّاتِ، لِتَكُونُوا عَلَى المِنْهَاجِ إِذَا أَتَاكُمُ الأَجَلُ.
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ أَرْضِ سُولَابِطَ وَسَارَ فِي بِلَادٍ وَمَدَائِنَ كَثِيرَةٍ حَتَّى أَتَى أَرْضاً تُسَمَّى: قِشْمِيرَ، فَسَارَ فِيهَا وَأَحْيَا مَيِّتَهَا وَمَكَثَ حَتَّى أَتَاهُ الأَجَلُ الَّذِي خَلَعَ الجَسَدَ، وَارْتَفَعَ إِلَى النُّورِ، وَدَعَا قَبْلَ مَوْتِهِ تِلْمِيذاً لَهُ اسْمُهُ: أَيَابِذُ الَّذِي كَانَ يَخْدُمُهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَجُلاً كَامِلاً فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَوْصَى إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ دَنَا ارْتِفَاعِي عَنِ الدُّنْيَا، وَاحْتَفِظُوا بِفَرَائِضِكُمْ، وَلَا تَزِيغُوا عَنِ الحَقِّ، وَخُذُوا بِالتَّنَسُّكِ، ثُمَّ أَمَرَ أَيَابِذَ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ مَكَاناً، فَبَسَطَ هُوَ رِجْلَيْهِ وَهَيَّأَ رَأْسَهُ إِلَى المَغْرِبِ وَوَجْهَهُ إِلَى المَشْرِقِ، ثُمَّ قَضَى نَحْبَهُ.

(٤٢٢)

[وجه إيراد القَصص في الكتاب]:
قال مصنِّف هذا الكتاب: ليس هذا الحديث وما شاكله من أخبار المعمَّرين وغيرهم ممَّا أعتمده في أمر الغيبة ووقوعها، لأنَّ الغيبة إنَّما صحَّت لي بما صحَّ عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام) من ذلك بالأخبار التي بمثلها صحَّ الإسلام وشرائعه وأحكامه، ولكنِّي أرى الغيبة لكثير من أنبياء الله ورُسُله (صلوات الله عليهم) ولكثير من الحُجَج بعدهم (عليهم السلام) ولكثير من الملوك الصالحين من قِبَل الله تبارك وتعالى، ولا أجد لها منكراً من مخالفينا، وجميعها في الصحَّة من طريق الرواية دون ما قد صحَّ بالأخبار الكثيرة الواردة الصحيحة عن النبيِّ والأئمَّة (صلوات الله عليهم) في أمر القائم الثاني عشر من الأئمَّة (عليهم السلام) وغيبته حتَّى يطول الأمد وتقسو القلوب ويقع اليأس من ظهوره، ثمّ يُطلِعه الله وتشرق الأرض بنوره ويرتفع الظلم والجور بعدله، فليس في التكذيب بذلك مع الإقرار بنظائره إلَّا القصد إلى إطفاء نور الله وإبطال دينه، ويَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ويُعلي كلمته ويُحِقَّ الحَقَ ويُبْطِلَ الباطِلَ ولو كره المخالفون المكذِّبون بما وعد الله الصالحين على لسان خير النبيِّين صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين.
ولإيرادي هذا الحديث وما يشاكله في هذا الكتاب معنى آخر، وهو أنَّ جميع أهل الوفاق والخلاف يميلون إلى مثله من الأحاديث، فإذا ظفروا به من هذا الكتاب حرصوا على الوقوف على سائر ما فيه، فهم بالوقوف عليه من بين منكر وناظر وشاكٍّ ومقرٍّ، فالمقرُّ يزداد به بصيرةً، والمنكر تتأكَّد عليه من الله الحجَّة، والواقف الشاكُّ يدعوه وقوفه بين الإقرار والإنكار إلى البحث والتنقيب(926) إلى أمر الغائب وغيبته، فتُرجى له الهداية، لأنَّ الصحيح من الأُمور لا يزيده البحث والتنقيب إلَّا تأكيداً كالذهب الذي كلَّما دخل النار ازداد صفاءً وجودةً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(926) في بعض النُّسَخ المصحَّحة: (التنقير)؛ وكذا ما يأتي. والتنقير: التفتيش، كما في النهاية (ج 5/ ص 105).

(٤٢٣)

[علَّة الأحرف المقطَّعة في القرآن]:
وقد غيب الله تبارك وتعالى اسمه الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب وإذا سُئِلَ به أعطى في أوائل سور من القرآن.
فقال (عزَّ وجلَّ): الم، والمر، والر، والمص، وكهيعص، وحم عسق، وطسم، وطس، ويس، وما أشبه ذلك لعلَّتين:
إحداهما: أنَّ الكُفَّار والمشركين كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله وهو النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بدليل قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً﴾ [الطلاق: 10 و11]، وكانوا لا يستطيعون للقرآن سمعاً، فأنزل الله (عزَّ وجلَّ) أوائل سور منه اسم الأعظم بحروف مقطوعة هي من حروف كلامهم ولغتهم ولم تجرِ عادتهم بذكرها مقطوعة، فلمَّا سمعوها تعجَّبوا منها، وقالوا: نسمع ما بعدها تعجُّباً، فاستمعوا إلى ما بعدها فتأكَّدت الحجَّة على المنكرين، وازداد أهل الإقرار به بصيرةً، وتوقَّف الباقون شُكَّاكاً لا همَّة لهم إلَّا البحث عمَّا شكُّوا فيه، وفي البحث الوصول إلى الحقِّ.
والعلَّة الأُخرى في إنزال أوائل هذه السور بالحروف المقطوعة ليخصَّ بمعرفتها أهل العصمة والطهارة، فيقيمون بها الدلائل ويُظهِرون بها المعجزات، ولو عمَّ الله تعالى بمعرفتها جميع الناس لكان في ذلك ضدُّ الحكمة وفساد التدبير، وكان لا يؤمن من غير المعصوم أنْ يدعو بها على نبيٍّ مرسَل أو مؤمن ممتحن، ثمّ لا يجوز أنْ يقع الإجابة بها مع وعده واتِّصافه بأنَّه لا يُخْلِفُ المِيعادَ، على أنَّه يجوز أنْ يُعطي المعرفة ببعضها من يجعله عبرةً لخلقه متى تعدَّى فيها حدَّه كبلعم بن باعوراء حين أراد أنْ يدعو على كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام)، فأنسى ما كان أُوتي من الاسم، فانسلخ منها، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ) في كتابه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ

(٤٢٤)

[الأعراف: 175]، وإنَّما فعل (عزَّ وجلَّ) ذلك ليعلم الناس أنَّه ما اختصَّ بالفضل إلَّا من علم أنَّه مستحقٌّ للفضل، وأنَّه لو عمَّ لجاز منهم وقوع ما وقع من بلعم.
وإذا جاز أنْ يُغيِّب الله (عزَّ وجلَّ) اسمه الأعظم في الحروف المقطوعة في كتابه الذي هو حجَّته وكلامه، فكذلك جائز أنْ يُغيِّب حجَّته في الناس عن عباده المؤمنين وغيرهم، لعلمه (عزَّ وجلَّ) أنَّه متى أظهره وقع من أكثر الناس التعدِّي لحدود الله في شأنه فيستحقُّون بذلك القتل، فإنْ قتلهم لم يجز وفي أصلابهم مؤمنون، وإنْ لم يقتلهم لم يجز وقد استحقُّوا القتل.
فالحكمة للغيبة في مثل هذه الحالة موجبة، فإذا تزيَّلوا ولم يبقَ في أصلابهم مؤمن أظهره الله (عزَّ وجلَّ) فخسف بأعدائه وأبادهم(927)، ألا ترى المحصنة إذا زنت وهي حُبلى لم تُرجَم حتَّى تضع ولدها وترضعه إلَّا أنْ يتكفَّل برضاعه رجل من المسلمين؟ فهذا سبيل من في صلبه مؤمن إذا وجب عليه القتل لم يُقتَل حتَّى يزايله، ولا يعلم ذلك إلَّا من يكون حجَّة من قِبَل علَّام الغيوب، ولهذا لا يقيم الحدود إلَّا هو، وهذه هي العلَّة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين (عليه السلام) مجاهدة أهل الخلاف خمساً وعشرين سنة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا بَالُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لَمْ يُقَاتِلْ مُخَالِفِيهِ فِي الأَوَّلِ؟ قَالَ: «لِآيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الفتح: 25]»، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا يَعْنِي بِتَزَايُلِهِمْ؟ قَالَ: «وَدَائِعُ مُؤْمِنُونَ فِي أَصْلَابِ قَوْمٍ كَافِرِينَ. وكَذَلِكَ القَائِمُ (عليه السلام) لَمْ يَظْهَرْ أَبَداً حَتَّى تَخْرُجَ وَدَائِعُ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، فَإِذَا خَرَجَتْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ ظَهَرَ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) فَقَتَلَهُمْ»(928).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(927) أباده: أي أهلكه.
(928) رواه المصنِّف (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 147/ باب 122/ ح 2).

(٤٢٥)

حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيِّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الكَرْخِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) - أَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ -: أَصْلَحَكَ اللهُ أَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ (عليه السلام) قَوِيًّا فِي دِينِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: فَكَيْفَ ظَهَرَ عَلَيْهِ القَوْمُ؟ وَكَيْفَ لَمْ يَدْفَعْهُمْ؟ وَمَا يَمْنَعُهُ(929) مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) مَنَعَتْهُ، قَالَ: قُلْتُ: وَأَيَّةُ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الفتح: 25]، إِنَّهُ كَانَ لِلهِ (عزَّ وجلَّ) وَدَائِعُ مُؤْمِنُونَ فِي أَصْلَابِ قَوْمٍ كَافِرِينَ وَمُنَافِقِينَ، فَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ (عليه السلام) لِيَقْتُلَ الآبَاءَ حَتَّى يَخْرُجَ الوَدَائِعُ، فَلَمَّا خَرَجَتِ الوَدَائِعُ ظَهَرَ عَلَى مَنْ ظَهَرَ فَقَاتَلَهُ، وَكَذَلِكَ قَائِمُنَا أَهْلَ البَيْتِ لَنْ يَظْهَرَ أَبَداً حَتَّى تَظْهَرَ وَدَائِعُ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، فَإِذَا ظَهَرَتْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَظْهَرُ فَقَتَلَهُ»(930).
حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ السَّمَرْقَنْدِيُّ العَلَوِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَبْرَئِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الفتح: 25]: «لَوْ أَخْرَجَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) مَا فِي أَصْلَابِ المُؤْمِنِينَ مِنَ الكَافِرِينَ وَمَا فِي أَصْلَابِ الكَافِرِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ لَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا»(931).
وَ(932) حَدَّثَنَا أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ الفَقِيهُ الأَسْوَارِيُّ بِإِيلَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ أَحْمَدَ البَرْذَعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الطَّرَسُوسِيَّ يَقُولُ - وَكَانَ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ سَبْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً عَلَى بَابِ يَحْيَى بْنِ مَنْصُورٍ -، قَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(929) في بعض النُّسَخ: (لم يمنعهم وما منعه).
(930) رواه المصنِّف (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 147/ باب 122/ ح 3).
(931) رواه المصنِّف (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 147 و148/ باب 122/ ح 4).
(932) عطف على ما سبق من أخبار المعمَّرين.

(٤٢٦)

رَأَيْتُ سَرْبَانَكَ مَلِكَ الهِنْدِ فِي بَلْدَةٍ تُسَمَّى: (قَنُّوجَ)(933)، فَسَالنَاهُ: كَمْ أَتَى عَلَيْكَ مِنَ السِّنِينَ؟ فَقَالَ: تِسْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنْفَذَ إِلَيْهِ عَشَرَةً مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ وَعَمْرُو بْنُ العَاصِ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ وَسَفِينَةُ وَغَيْرُهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى الإِسْلَامِ، فَأَجَابَ وَأَسْلَمَ وَقَبَّلَ كِتَابَ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تُصَلِّي مَعَ هَذَا الضَّعْفِ؟ فَقَالَ لِي: قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ...﴾ الآيَةَ [آل عمران: 191]، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا طَعَامُكَ؟ فَقَالَ: آكُلُ مَاءَ اللَّحْمِ وَالكُرَّاثَ، وَسَالتُهُ: هَلْ يَخْرُجُ مِنْكَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً شَيْءٌ يَسِيرٌ، قَالَ: وَسَالتُهُ عَنْ أَسْنَانِهِ، فَقَالَ: أَبْدَلْتُهَا عِشْرِينَ مَرَّةً، وَرَأَيْتُ [لَهُ] فِي إِصْطَبْلِهِ شَيْئاً مِنَ الدَّوَابِّ أَكْبَرَ مِنَ الفِيلِ يُقَالُ لَهُ: زَنْدَفِيلُ، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ بِهَذَا؟ قَالَ: يُحْمَلُ بِهَا ثِيَابُ الخَدَمِ إِلَى القَصَّارِ، وَمَمْلَكَتُهُ مَسِيرَةُ أَرْبَعِ سِنِينَ فِي مِثْلِهَا، وَمَدِينَتُهُ طُولُهَا خَمْسُونَ فَرْسَخاً فِي مِثْلِهَا، وَعَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْهَا عَسْكَرٌ فِي مِائَةِ الفٍ وَعِشْرِينَ الفاً، إِذَا وَقَعَ فِي أَحَدٍ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ حَدَثٌ خَرَجَتْ تِلْكَ الفِرْقَةُ إِلَى الحَرْبِ لَا يُسْتَعَانُ بِغَيْرِهَا، وَهُوَ فِي وَسَطِ المَدِينَةِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: دَخَلْتُ المَغْرِبَ(934)، فَبَلَغْتُ إِلَى الرَّمْلِ - رَمْلِ العَالِجِ - وَصِرْتُ إِلَى قَوْمِ مُوسَى (عليه السلام)، فَرَأَيْتُ سُطُوحَ بُيُوتِهِمْ مُسْتَوِيَةً، وَبَيْدَرَ الطَّعَامِ(935) خَارِجَ القَرْيَةِ يَأْخُذُونَ مِنْهُ القُوتَ وَالبَاقِي يَتْرُكُونَهُ هُنَاكَ وَقُبُورُهُمْ فِي دُورِهِمْ وَبَسَاتِينُهُمْ مِنَ المَدِينَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ لَيْسَ فِيهِمْ شَيْخٌ وَلَا شَيْخَةٌ، وَلَمْ أَرَ فِيهِمْ عِلَّةً، وَلَا يَعْتَلُّونَ إِلَى أَنْ يَمُوتُوا، وَلَهُمْ أَسْوَاقٌ إِذَا أَرَادَ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ شِرَاءَ شَيْءٍ صَارَ إِلَى السُّوقِ فَوَزَنَ لِنَفْسِهِ وَأَخَذَ مَا يُصِيبُهُ وَصَاحِبُهُ غَيْرُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(933) بفتح القاف وتشديد النون وآخره جيم، موضع في بلاد الهند. (مراصد الاطِّلاع: ج 3/ ص 1129).
(934) في بعض النُّسَخ: (دخلت إلى العرب).
(935) يعني الموضع الذي يُجمَع فيه الحصيد والقمح ويُداس.

(٤٢٧)

حَاضِرٍ، وَإِذَا أَرَادُوا الصَّلَاةَ حَضَرُوا فَصَلُّوا وَانْصَرَفُوا، لَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ خُصُومَةٌ أَبَداً، وَلَا كَلَامٌ يُكْرَهُ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَالصَّلَاةَ وَذِكْرَ المَوْتِ.
قال مصنِّف هذا الكتاب (رحمه الله): فإذا كان جاز عند مخالفينا مثل هذه الحال لسربانك مَلِك الهند فينبغي أنْ لا يحيلوا مثل ذلك في حجَّة الله في التعمير، ولا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.

* * *

(٤٢٨)

 [500/1] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرٍ المُظَفَّرُ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ(936)، قَالَ: حَدَّثَنِي العَمْرَكِيُّ بْنُ عَلِيٍّ البُوفَكِيُّ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُوسَى النُّمَيْرِيِّ(937)، عَنِ العَلَاءِ بْنِ سَيَابَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ مُنْتَظِراً لَهُ كَانَ كَمَنْ كَانَ فِي فُسْطَاطِ القَائِمِ (عليه السلام)»(938).
[501/2] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ الوَاسِطِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ البَاقِرِ (عليهما السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللهُ لَقَدْ تَرَكْنَا أَسْوَاقَنَا انْتِظَاراً لِهَذَا الأَمْرِ، فَقَالَ (عليه السلام): «يَا عَبْدَ الحَمِيدِ، أَتَرَى مَنْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) لَا يَجْعَلُ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً؟ بَلَى وَاللهِ لَيَجْعَلَنَّ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً، رَحِمَ اللهُ عَبْداً حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَيْنَا، رَحِمَ اللهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا»، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ مِتُّ قَبْلَ أَنْ أُدْرِكَ القَائِمَ؟ قَالَ: «القَائِلُ مِنْكُمْ أَنْ لَوْ أَدْرَكْتُ قَائِمَ آلِ مُحَمَّدٍ نَصَرْتُهُ، كَانَ كَالمُقَارِعِ بَيْنَ يَدَيْهِ بِسَيْفِهِ، لَا بَلْ كَالشَّهِيدِ مَعَهُ»(939).
[502/3] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَعْرُوفٍ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(936) كذا في بعض النُّسَخ، وفي بعضها: (جعفر بن أحمد)، ولعلَّ الصواب: (جعفر بن معروف).
(937) هو موسى بن أكيل النميري، من أصحاب الصادق (عليه السلام)، ثقة. وصُحِّف في بعض النُّسَخ بالهرمزي، وفي بعضها بالبربري، وفي بعضها بالنهريري.
(938) رواه البرقي (رحمه الله) في المحاسن (ج 1/ ص 173/ ح 147)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 206 و207/ باب 11/ ح 15) بسند آخر.
(939) رواه بتفاوت البرقي (رحمه الله) في المحاسن (ج 1/ ص 173/ ح 148)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 8/ ص 80 و81/ ح 37).

(٤٣١)

قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ بَكْرٍ الوَاسِطِيِّ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَالَ: «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي انْتِظَارُ الفَرَجِ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ)»(940).
[503/4] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الحَمِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الفُضَيْلِ(941)، عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام)، قَالَ: سَالتُهُ عَنِ الفَرَجِ، قَالَ: «إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: 71](942)».
[504/5] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ خَلَفُ بْنُ حَمَّادٍ الكَشِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ(943)، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، قَالَ: قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): «مَا أَحْسَنَ الصَّبْرَ وَانْتِظَارَ الفَرَجِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ [هود: 93]، ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: 71]؟ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ الفَرَجُ عَلَى اليَأْسِ، فَقَدْ كَانَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَصْبَرَ مِنْكُمْ»(944).
[505/6] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنِ القَاسِمِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(940) رواه المصنِّف (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 2/ ص 39/ ح 87) بتفاوت يسير.
(941) محمّد بن الفضيل، من أصحاب الرضا (عليه السلام)، أزدي صيرفي، يُرمى بالغلوِّ. (خلاصة الأقوال: ص 395/ الرقم 19). وقال الطوسي (رحمه الله) في رجاله (ص 343/ الرقم 5124/25): (محمّد بن الفضيل الكوفي الأزدي، ضعيف).
(942) الظاهر من السياق المراد انتظار العذاب. والتأويل بالصاحب (عليه السلام) غريب جدًّا، والعلم عند الله.
(943) سهل بن زياد أبو سعيد الآدمي الرازي كان ضعيفاً في الحديث، غير معتمد عليه، وكان أحمد بن محمّد بن عيسى يشهد عليه بالغلوِّ والكذب، وأخرجه من قم إلى الريِّ. (رجال النجاشي: ص 185/ الرقم 490).
(944) رواه الحميري (رحمه الله) في قرب الإسناد (ص 380 و381/ ح 1343).

(٤٣٢)

جَدِّهِ الحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليهم السلام)، قَالَ: «المُنْتَظِرُ لِأَمْرِنَا كَالمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ»(945).
[506/7] حَدَّثَنَا المُظَفَّرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ المُظَفَّرِ العَلَوِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيْدَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا القَاسِمُ بْنُ هِشَامٍ اللُّؤْلُؤِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): العِبَادَةُ مَعَ الإِمَامِ مِنْكُمُ المُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ البَاطِلِ أَفْضَلُ، أَمِ العِبَادَةُ فِي ظُهُورِ الحَقِّ وَدَوْلَتِهِ مَعَ الإِمَامِ الظَّاهِرِ مِنْكُمْ؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّارُ، الصَّدَقَةُ وَاللهِ فِي السِّرِّ [فِي دَوْلَةِ البَاطِلِ] أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي العَلَانِيَةِ، وَكَذَلِكَ عِبَادَتُكُمْ فِي السِّرِّ مَعَ إِمَامِكُمُ المُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ البَاطِلِ أَفْضَلُ لِخَوْفِكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فِي دَوْلَةِ البَاطِلِ وَحَالِ الهُدْنَةِ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللهَ (عزَّ وجلَّ) فِي ظُهُورِ الحَقِّ مَعَ الإِمَامِ الظَّاهِرِ فِي دَوْلَةِ الحَقِّ، وَلَيْسَ العِبَادَةُ مَعَ الخَوْفِ وَفِي دَوْلَةِ البَاطِلِ مِثْلَ العِبَادَةِ مَعَ الأَمْنِ فِي دَوْلَةِ الحَقِّ، اعْلَمُوا أَنَّ مَنْ صَلَّى مِنْكُمْ صَلَاةً فَرِيضَةً وُحْدَاناً مُسْتَتِراً بِهَا مِنْ عَدُوِّهِ فِي وَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ بِهَا خَمْساً وَعِشْرِينَ صَلَاةً فَرِيضَةً وَحْدَانِيَّةً، وَمَنْ صَلَّى مِنْكُمْ صَلَاةً نَافِلَةً فِي وَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ بِهَا عَشْرَ صَلَوَاتٍ نَوَافِلَ، وَمَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ حَسَنَةً كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا عِشْرِينَ حَسَنَةً، وَيُضَاعِفُ اللهُ حَسَنَاتِ المُؤْمِنِ مِنْكُمْ إِذَا أَحْسَنَ أَعْمَالَهُ وَدَانَ اللهَ (عزَّ وجلَّ) بِالتَّقِيَّةِ عَلَى دِينِهِ وَعَلَى إِمَامِهِ وَعَلَى نَفْسِهِ وَأَمْسَكَ مِنْ لِسَانِهِ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً كَثِيرَةً، إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) كَرِيمٌ»، قَالَ: فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ رَغَّبْتَنِي فِي العَمَلِ وَحَثَثْتَنِي عَلَيْهِ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَعْلَمَ كَيْفَ صِرْنَا اليَوْمَ أَفْضَلَ أَعْمَالًا مِنْ أَصْحَابِ الإِمَامِ مِنْكُمْ الظَّاهِرِ فِي دَوْلَةِ الحَقِّ وَنَحْنُ وَهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَهُوَ دِينُ اللهِ (عزَّ وجلَّ)؟ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(945) رواه المصنِّف (رحمه الله) في الخصال (ص 625/ حديث أربعمائة)، وفرات الكوفي (رحمه الله) في تفسيره (ص 367/ ح 499/10)، وابن شعبة (رحمه الله) في تُحَف العقول (ص 115).

(٤٣٣)

سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَإِلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالحَجِّ وَإِلَى كُلِّ فِقْهٍ وَخَيْرٍ وَإِلَى عِبَادَةِ اللهِ سِرًّا مَعَ عَدُوِّكُمْ مَعَ الإِمَامِ المُسْتَتِرِ، مُطِيعُونَ لَهُ، صَابِرُونَ مَعَهُ، مُنْتَظِرُونَ لِدَوْلَةِ الحَقِّ، خَائِفُونَ عَلَى إِمَامِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ مِنَ المُلُوكِ، تَنْظُرُونَ إِلَى حَقِّ إِمَامِكُمْ وَحَقِّكُمْ فِي أَيْدِي الظَّلَمَةِ قَدْ مَنَعُوكُمْ ذَلِكَ وَاضْطَرُّوكُمْ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا(946) وَطَلَبِ المَعَاشِ مَعَ الصَّبْرِ عَلَى دِينِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ وَطَاعَةِ إِمَامِكُمْ وَالخَوْفِ مِنْ عَدُوِّكُمْ، فَبِذَلِكَ ضَاعَفَ اللهُ أَعْمَالَكُمْ، فَهَنِيئاً لَكُمْ هَنِيئاً»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا نَتَمَنَّى إِذًا أَنْ نَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الإِمَامِ القَائِمِ فِي ظُهُورِ الحَقِّ وَنَحْنُ اليَوْمَ فِي إِمَامَتِكَ وَطَاعَتِكَ أَفْضَلُ أَعْمَالاً مِنْ أَعْمَالِ أَصْحَابِ دَوْلَةِ الحَقِّ؟ فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ، أَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يُظْهِرَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) الحَقَّ وَالعَدْلَ فِي البِلَادِ، وَيُحْسِنَ حَالَ عَامَّةِ العِبَادِ(947)، وَيَجْمَعَ اللهُ الكَلِمَةَ، وَيُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَا يُعْصَى اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي أَرْضِهِ، وَيُقَامَ حُدُودُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَيَرُدَّ اللهُ الحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ فَيَظْهَرُوهُ حَتَّى لَا يُسْتَخْفَى بِشَيْءٍ مِنَ الحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ؟ أَمَا وَاللهِ يَا عَمَّارُ لَا يَمُوتُ مِنْكُمْ مَيِّتٌ عَلَى الحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً وَأُحُداً، فَأَبْشِرُوا».
[507/8] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ النَّخَعِيُّ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الكُوفِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فَكُنْتُ عِنْدَهُ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو الحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) وَهُوَ غُلَامٌ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ وَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ، أَمَا إِنَّهُ صَاحِبُكَ مِنْ بَعْدِي، أَمَا لَيَهْلِكَنَّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَيَسْعَدُ آخَرُونَ، فَلَعَنَ اللهُ قَاتِلَهُ وَضَاعَفَ عَلَى رُوحِهِ العَذَابَ، أَمَا لَيُخْرِجَنَّ اللهُ (عزَّ وجلَّ) مِنْ صُلْبِهِ خَيْرَ أَهْلِ الأَرْضِ فِي زَمَانِهِ بَعْدَ عَجَائِبَ تَمُرُّ بِهِ حَسَداً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(946) في بعض النُّسَخ: (إلى جدب الأرض).
(947) في بعض النُّسَخ: (عامَّة الناس).

(٤٣٤)

لَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى بالِغُ أَمْرِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ، يُخْرِجُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ صُلْبِهِ تَكْمِلَةَ اثْنَيْ عَشَرَ مَهْدِيًّا، اخْتَصَّهُمُ اللهُ بِكَرَامَتِهِ وَأَحَلَّهُمْ دَارَ قُدْسِهِ، المُنْتَظِرُ لِلثَّانِي عَشَرَ كَالشَّاهِرِ سَيْفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَذُبُّ عَنْهُ»، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ مَوَالِي بَنِي أُمَيَّةَ فَانْقَطَعَ الكَلَامُ، وَعُدْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً أُرِيدُ اسْتِتْمَامَ الكَلَامِ فَمَا قَدَرْتُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلٍ دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ، هُوَ المُفَرِّجُ لِلْكَرْبِ عَنْ شِيعَتِهِ بَعْدَ ضَنْكٍ شَدِيدٍ وَبَلَاءٍ طَوِيلٍ وَجَوْرٍ، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ، حَسْبُكَ اللهُ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ»، قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ: فَمَا رَجَعْتُ بِشَيْءٍ أَسَرَّ إِلَيَّ مِنْ هَذَا وَلَا أَفْرَحَ لِقَلْبِي مِنْهُ(948).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(948) تقدَّم هذا الخبر بتمامه تحت الرقم (246/5)، فراجع.

(٤٣٥)

[508/1] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «صَاحِبُ هَذَا الأَمْرِ رَجُلٌ لَا يُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ إِلَّا كَافِرٌ»(949).
[509/2] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ، عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ: سُئِلَ الرِّضَا (عليه السلام) عَنِ القَائِمِ (عليه السلام)، فَقَالَ: «لَا يُرَى جِسْمُهُ، وَلَا يُسَمَّى بِاسْمِهِ»(950).
[510/3] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرِ ابْنِ يَزِيدَ الجُعْفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «سَأَلَ عُمَرُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَنِ المَهْدِيِّ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَخْبِرْنِي عَنِ المَهْدِيِّ مَا اسْمُهُ؟ قَالَ: أَمَّا اسْمُهُ فَلَا، إِنَّ حَبِيبِي وَخَلِيلي عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لَا أُحَدِّثَ بِاسْمِهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ)، وَهُوَ مِمَّا اسْتَوْدَعَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) رَسُولَهُ فِي عِلْمِهِ»(951).
[511/4] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ العَلَوِيِّ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الجَعْفَرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ العَسْكَرِيَّ (عليه السلام)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(949) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 117/ ح 109).
(950) قد مرَّ تحت الرقم (304/2)، فراجع.
(951) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 117 و118/ ح 111)، ورواه بتفاوت الطوسي(رحمه الله) في الغيبة (ص 470/ ح 487).

(٤٣٩)

يَقُولُ: «الخَلَفُ مِنْ بَعْدِي الحَسَنُ ابْنِي، فَكَيْفَ لَكُمْ بِالخَلَفِ مِنْ بَعْدِ الخَلَفِ؟»، قُلْتُ: وَلِـمَ جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: «لِأَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ شَخْصَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ»، قُلْتُ: فَكَيْفَ نَذْكُرُهُ؟ فَقَالَ: «قُولُوا: الحُجَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ)»(952).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(952) قد مرَّ تحت الرقم (317/5)، فراجع.

(٤٤٠)

[512/1] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ أَخِيهِ عَلِيٍّ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مَيْمُونٍ البَانِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (عليه السلام)، قَالَ: «خَمْسٌ قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ (عليه السلام): اليَمَانِيُّ، وَالسُّفْيَانِيُّ، وَالمُنَادِي يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ، وَخَسْفٌ بِالبَيْدَاءِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ»(953).
[513/2] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنِ العَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الحَجَّالِ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ شُعَيْبٍ الحَذَّاءِ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى بَنِي العَذْرَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ الصَّادِقَ (عليه السلام) يَقُولُ: «لَيْسَ بَيْنَ قِيَامِ قَائِمِ آلِ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ قَتْلِ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ إِلَّا خَمْسَةَ عَشْرَةَ لَيْلَةً»(954).
[514/3] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الخَزَّازِ وَالعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ قُدَّامَ القَائِمِ عَلَامَاتٍ تَكُونُ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) لِلْمُؤْمِنِينَ»، قُلْتُ: وَمَا هِيَ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ يَعْنِي المُؤْمِنِينَ قَبْلَ خُرُوجِ القَائِمِ (عليه السلام)، ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(953) رواه المصنِّف (رحمه الله) في الخصال (ص 303/ ح 82)، وابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 128/ ح 131).
(954) رواه المفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 374) بتفاوت يسير، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 445/ ح 440)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1162).

(٤٤٣)

[البقرة: 155]»، قَالَ: «يَبْلُوهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ مِنْ مُلُوكِ بَنِي فُلَانٍ فِي آخِرِ سُلْطَانِهِمْ، وَالجُوعِ بِغَلَاءِ أَسْعَارِهِمْ، ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ﴾»، قَالَ: «كَسَادُ التِّجَارَاتِ وَقِلَّةُ الفَضْلِ، وَنَقْصٍ مِنَ الأَنْفُسِ»، قَالَ: «مَوْتٌ ذَرِيعٌ(955)، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ»، قَالَ: قِلَّةُ رَيْعِ مَا يُزْرَعُ، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ عِنْدَ ذَلِكَ بِتَعْجِيلِ خُرُوجِ القَائِمِ (عليه السلام)»، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا مُحَمَّدُ، هَذَا تَأْوِيلُهُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾ [آل عمران: 7]»(956).
[515/4] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى الحَلَبِيِّ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ البَصْرِيِّ، عَنْ مَيْمُونٍ البَانِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي فُسْطَاطِهِ، فَرَفَعَ جَانِبَ الفُسْطَاطِ، فَقَالَ: «إِنَّ أَمْرَنَا قَدْ كَانَ أَبْيَنَ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ»، ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ هُوَ الإِمَامُ بِاسْمِهِ، وَيُنَادِي إِبْلِيسُ (لَعَنَهُ اللهُ) مِنَ الأَرْضِ كَمَا نَادَى بِرَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لَيْلَةَ العَقَبَةِ».
[516/5] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عِيسَى بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ المُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ أَمْرَ السُّفْيَانِيِّ مِنَ الأَمْرِ المَحْتُومِ، وَخُرُوجُهُ فِي رَجَبٍ».
[517/6] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «الصَّيْحَةُ الَّتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَكُونُ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(955) الذريع: السريع.
(956) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 129/ ح 133)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 280 و281).

(٤٤٤)

[518/7] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ خَمْسُ عَلَامَاتٍ مَحْتُومَاتٍ: اليَمَانِيُّ، وَالسُّفْيَانِيُّ، وَالصَّيْحَةُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ، وَالخَسْفُ بِالبَيْدَاءِ»(957).
[519/8] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ بِاسْمِ القَائِمِ (عليه السلام)»، قُلْتُ: خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ؟ قَالَ: «عَامٌّ يَسْمَعُ كُلُّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ»، قُلْتُ: فَمَنْ يُخَالِفُ القَائِمَ (عليه السلام) وَقَدْ نُودِيَ بِاسْمِهِ؟ قَالَ: «لَا يَدَعُهُمْ إِبْلِيسُ حَتَّى يُنَادِيَ [فِي آخِرِ اللَّيْلِ](958) وَيُشَكِّكَ النَّاسَ»(959).
[520/9] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي القَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الكُوفِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «قَالَ أَبِي (عليه السلام): قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): يَخْرُجُ ابْنُ آكِلَةِ الأَكْبَادِ مِنَ الوَادِي اليَابِسِ، وَهُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ، وَحْشُ الوَجْهِ(960)، ضَخْمُ الهَامَةِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(957) روى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 8/ ص 310/ ح 483)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 261/ باب 14/ ح 9)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 436 و437/ ح 427).
(958) قال في بحار الأنوار (ج 52/ ص 205): الظاهر (في آخر النهار) كما سيأتي تحت الرقم (525/14)، ولعلَّه من النُّسَّاخ. ولم يكن في بعض النُّسَخ (في آخر الليل) أصلاً، فالزيادة من النُّسَّاخ.
(959) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 129 و130/ ح 133).
(960) أي يستوحش من يراه ولا يستأنس به. وفي بعض النُّسَخ: (وخش الوجه) بالخاء المعجمة، والوخش: الردي من كلِّ شيء، ورُذَّال الناس وسُقَّاطهم للواحد والجمع والمذكَّر والمؤنَّث. (القاموس المحيط: ج 2/ ص 292). وفي بعض النُّسَخ المصحَّحة: (خشن الوجه).

(٤٤٥)

بِوَجْهِهِ أَثَرُ جُدَرِيٍّ، إِذَا رَأَيْتَهُ حَسِبْتَهُ أَعْوَرَ، اسْمُهُ عُثْمَانُ وَأَبُوهُ عَنْبَسَةُ، وَهُوَ مِنْ وُلْدِ أَبِي سُفْيَانَ، حَتَّى يَأْتِيَ أَرْضاً ذَاتَ قَرَارٍ وَمَعِينٍ(961)، فَيَسْتَوِيَ عَلَى مِنْبَرِهَا»(962).
[521/10] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الهَمَدَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَمَّادِ ابْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ الصَّادِقُ (عليه السلام): «إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ السُّفْيَانِيَّ لَرَأَيْتَ أَخْبَثَ النَّاسِ، أَشْقَرَ أَحْمَرَ أَزْرَقَ، يَقُولُ: يَا رَبِّ ثَأْرِي ثَأْرِي ثُمَّ النَّارَ(963)، وَقَدْ بَلَغَ مِنْ خُبْثِهِ أَنَّهُ يَدْفِنُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهِيَ حَيَّةٌ مَخَافَةَ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ».
[522/11] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي القَاسِمِ مَاجِيلَوَيْهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الكُوفِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ البَجَلِيِّ، قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ اسْمِ السُّفْيَانِيِّ، فَقَالَ: «وَمَا تَصْنَعُ بِاسْمِهِ؟ إِذَا مَلَكَ كُوَرَ الشَّامِ الخَمْسَ: دِمَشْقَ، وَحِمْصَ، وَفِلَسْطِينَ، وَالأُرْدُنَّ، وَقِنَّسْرِينَ، فَتَوَقَّعُوا عِنْدَ ذَلِكَ الفَرَجَ»، قُلْتُ: يَمْلِكُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ يَمْلِكُ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ لَا يَزِيدُ يَوْماً»(964).
[523/12] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِي الصَّلْتِ الهَرَوِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا (عليه السلام): مَا عَلَامَاتُ القَائِمِ مِنْكُمْ إِذَا خَرَجَ؟ قَالَ: «عَلَامَتُهُ أَنْ يَكُونَ شَيْخَ السِّنِّ، شَابَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(961) يعنى الكوفة كما جاءت به الأخبار.
(962) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 282)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1150).
(963) في الغيبة للنعماني (ص 318/ باب 18/ ح 18) بسند آخر عنه (عليه السلام): «يا ربِّ ثاري والنار، يا ربِّ ثاري والنار»، ولعلَّ المعنى: يا ربِّ إنِّي أطلب ثاري ولو بدخول النار.
(964) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 130/ ح 134)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 282).

(٤٤٦)

المَنْظَرِ، حَتَّى إِنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهِ لَيَحْسَبُهُ ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْ دُونَهَا، وَإِنَّ مِنْ عَلَامَاتِهِ أَنْ لَا يَهْرَمَ بِمُرُورِ الأَيَّامِ وَاللَّيَالِي حَتَّى يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ»(965).
[524/13] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضي الله عنه)، عَنْ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي القَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الكُوفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي المَغْرَا، عَنِ المُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «صَوْتُ جَبْرَئِيلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَصَوْتُ إِبْلِيسَ مِنَ الأَرْضِ، فَاتَّبِعُوا الصَّوْتَ الأَوَّلَ، وَإِيَّاكُمْ وَالأَخِيرَ أَنْ تَفْتَتِنُوا بِهِ».
[525/14] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ [بْنِ مُحَمَّدِ] بْنِ عِيسَى، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ خُرُوجَ السُّفْيَانِيِّ مِنَ الأَمْرِ المَحْتُومِ»، قَالَ لِي: «نَعَمْ، وَاخْتِلَافُ وُلْدِ العَبَّاسِ مِنَ المَحْتُومِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ مِنَ المَحْتُومِ، وَخُرُوجُ القَائِمِ (عليه السلام) مِنَ المَحْتُومِ»، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ يَكُونُ [ذَلِكَ] النِّدَاءُ؟ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوَّلَ النَّهَارِ: أَلَا إِنَّ الحَقَّ فِي عَلِيٍّ وَشِيعَتِهِ، ثُمَّ يُنَادِي إِبْلِيسُ (لَعَنَهُ اللهُ) فِي آخِرِ النَّهَارِ: أَلَا إِنَّ الحَقَّ فِي السُّفْيَانِيِّ وَشِيعَتِهِ، فَيَرْتَابُ عِنْدَ ذَلِكَ المُبْطِلُونَ».
[526/15] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ الحَسَنِ ابْنِ أَبَانٍ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عِيسَى بْنَ أَعْيَنَ، عَنِ المُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ أَمْرَ السُّفْيَانِيِّ مِنَ المَحْتُومِ، وَخُرُوجَهُ فِي رَجَبٍ»(966).
[527/16] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(965) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 295)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1170 و1171).
(966) قد مرَّ تحت الرقم (516/5)، فراجع.

(٤٤٧)

عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «الصَّيْحَةُ الَّتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَكُونُ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ»(967).
[528/17] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي الجَارُودِ زِيَادِ بْنِ المُنْذِرِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ البَاقِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام)، قَالَ: «قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) - وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ -: يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَبْيَضُ اللَّوْنِ، مُشْرَبٌ بِالحُمْرَةِ، مُبْدَحُ البَطْنِ(968)، عَرِيضُ الفَخِذَيْنِ، عَظِيمٌ مُشَاشُ المَنْكِبَيْنِ(969)، بِظَهْرِهِ شَامَتَانِ: شَامَةٌ عَلَى لَوْنِ جِلْدِهِ(970)، وَشَامَةٌ عَلَى شِبْهِ شَامَةِ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لَهُ اسْمَانِ: اسْمٌ يَخْفَى وَاسْمٌ يَعْلُنُ، فَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى فَأَحْمَدُ، وَأَمَّا الَّذِي يَعْلُنُ فَمُحَمَّدٌ، إِذَا هَزَّ رَايَتَهُ أَضَاءَ لَهَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُؤُوسِ العِبَادِ فَلَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إِلَّا صَارَ قَلْبُهُ أَشَدَّ مِنْ زُبَرِ الحَدِيدِ، وَأَعْطَاهُ اللهُ تَعَالَى قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً، وَلَا يَبْقَى مَيِّتٌ إِلَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الفَرْحَةُ [فِي قَلْبِهِ] وَهُوَ فِي قَبْرِهِ، وَهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَيَتَبَاشَرُونَ بِقِيَامِ القَائِمِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ)»(971).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(967) قد مرَّ تحت الرقم (517/6)، فراجع.
(968) مبدح البطن: أي واسعه وعريضه. والبداح: المتَّسع من الأرض. والبدح - بالكسر -: الفضاء الواسع. وامرأة بيدح أي بادن. والأبدح: الرجل الطويل [السمين] والعريض الجنين من الدوابِّ. (القاموس المحيط: ج 1/ ص 215).
(969) (مشاش) جمع المُشاشة - بالضمِّ -، وهي رأس العظم الممكن المضغ.
(970) الشامة: علامة تخالف البدن الذي هي فيه إمَّا باللون أو التورُّم، وهي الخال.
(971) رواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 294 و295)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1149 و1150/ ح 58).

(٤٤٨)

[529/18] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ العِلْمَ بِكِتَابِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لَيَنْبُتُ فِي قَلْبِ مَهْدِيِّنَا كَمَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ عَلَى أَحْسَنِ نَبَاتِهِ، فَمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ حَتَّى يَرَاهُ فَلْيَقُلْ حِينَ يَرَاهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ الرَّحْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنَ العِلْمِ، وَمَوْضِعَ الرِّسَالَةِ»(972).
وَرُوِيَ أَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَى القَائِمِ (عليه السلام) أَنْ يُقَالَ لَهُ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بَقِيَّةَ اللهِ فِي أَرْضِهِ»(973).
[530/19] حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «يَخْرُجُ القَائِمُ (عليه السلام) يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمَ عَاشُورَا، يَوْمَ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الحُسَيْنُ (عليه السلام)».
[531/20] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): كَمْ يَخْرُجُ مَعَ القَائِمِ (عليه السلام)؟ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَخْرُجُ مَعَهُ مِثْلُ عِدَّةِ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً، قَالَ: «وَمَا يَخْرُجُ إِلَّا فِي أُولِي قُوَّةٍ، وَمَا تَكُونُ أُولُو القُوَّةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ»(974)،(975).
[532/21] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العَطَّارُ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(972) رواه عليِّ بن يوسف الحلِّي (رحمه الله) في العدد القويَّة (ص 65/ ح 90).
(973) راجع ما مرَّ تحت الرقم (240/16)، وانظر ما رواه العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 1/ ص 276/ ح 274)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 411 و412/ باب نادر/ ح 2)، وفرات الكوفي (رحمه الله) في تفسيره (ص 193/ ح 249/3).
(974) رواه عليُّ بن يوسف الحلِّي (رحمه الله) في العدد القويَّة (ص 65/ ح 92).
(975) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 323): (بيان: المعنى أنَّه (عليه السلام) لا تنحصر أصحابه في الثلاثمائة وثلاثة عشر، بل هذا العدد هم المجتمعون عنده في بدو خروجه).

(٤٤٩)

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ القَمَّاطِ، عَنْ ضُرَيْسٍ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الكَابُلِيِّ، عَنْ سَيِّدِ العَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليهما السلام)، قَالَ: «المَفْقُودُونَ عَنْ فُرُشِهِمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ، فَيُصْبِحُونَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً﴾ [البقرة: 148]، وَهُمْ أَصْحَابُ القَائِمِ (عليه السلام)»(976).
[533/22] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَنْدَلٍ(977)، عَنْ بَكَّارِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: ذَكَرْنَا خُرُوجَ القَائِمِ (عليه السلام) عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ لَنَا أَنْ نَعْلَمَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ وَتَحْتَ رَأْسِهِ صَحِيفَةٌ عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ»(978).
وَرُوِيَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي رَايَةِ المَهْدِيِّ (عليه السلام): «البَيْعَةُ لِلهِ (عزَّ وجلَّ)»(979).
[534/23] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي المِقْدَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ كَرِبٍ(980)، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لَنَا أَهْلَ البَيْتِ رَايَةً مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا مَحَقَ، وَمَنْ تَبِعَهَا(981) لَحِقَ»(982).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(976) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1156)، وعليُّ بن يوسف الحلِّي (رحمه الله) في العدد القويَّة (ص 65 و66/ ح 93).
(977) في أكثر النُّسَخ: (منذر).
(978) رواه عليُّ بن يوسف الحلِّي (رحمه الله) في العدد القويَّة (ص 66/ ح 94).
(979) راجع: الفتن للمروزي (ص 220)، وعقد الدُّرَر (ص 216).
(980) كذا، والظاهر أنَّه تصحيف، والصواب: عبيد الكندي الكوفي، ذكره ابن حبَّان في الثقات (ج 5/ ص 138).
(981) في بعض النُّسَخ: (من لزمها).
(982) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 132/ ح 141).

(٤٥٠)

[535/24] حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ البَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ البَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي المِقْدَامِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «يَمُوتُ سَفِيهٌ مِنْ آلِ العَبَّاسِ بِالسِّرِّ، يَكُونُ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ يَنْكِحُ خَصِيًّا فَيَقُومُ فَيَذْبَحُهُ وَيَكْتُمُ مَوْتَهُ أَرْبَعِينَ يَوْماً، فَإِذَا سَارَتِ الرُّكْبَانُ فِي طَلَبِ الخَصِيِّ لَمْ يَرْجِعْ أَوَّلُ مَنْ يَخْرُجُ [إِلَى آخِرِ مَنْ يَخْرُجُ] حَتَّى يَذْهَبَ مُلْكُهُمْ»(983).
[536/25] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ الحَسَنِ ابْنِ أَبَانٍ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى الحَلَبِيِّ، عَنِ الحَكَمِ الحَنَّاطِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هَمَّامٍ، عَنْ وَرْدٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «اثْنَانِ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الأَمْرِ: خُسُوفُ القَمَرِ لِخَمْسٍ، وَكُسُوفُ الشَّمْسِ لِخَمْسَ عَشْرَةَ، [وَ]لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنْذُ هَبَطَ آدَمُ (عليه السلام) إِلَى الأَرْضِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْقُطُ حِسَابُ المُنَجِّمِينَ(984)»(985).
[537/26] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى الحَلَبِيِّ، عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الكَابُلِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليهما السلام)، قَالَ: «إِذَا بَنَى بَنُو العَبَّاسِ مَدِينَةً عَلَى شَاطِئِ الفُرَاتِ كَانَ بَقَاؤُهُمْ بَعْدَهَا سَنَةً»(986).
[538/27] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَجَّاجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(983) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1160).
(984) ذلك لأنَّ الخسوف في أواسط الشهر والكسوف في أواخره كما هو المعهود.
(985) راجع ما رواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 280/ باب 14/ ح 46)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1158).
(986) رواه الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1156).

(٤٥١)

يَقُولُ: «قُدَّامَ القَائِمِ مَوْتَتَانِ: مَوْتٌ أَحْمَرُ وَمَوْتٌ أَبْيَضُ، حَتَّى يَذْهَبَ مِنْ كُلِّ سَبْعَةٍ خَمْسَةٌ، المَوْتُ الأَحْمَرُ السَّيْفُ، وَالمَوْتُ الأَبْيَضُ الطَّاعُونُ»(987).
[539/28] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ السَّعْدَآبَادِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ (عليه السلام)»(988).
[540/29] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «لَا يَكُونُ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثُ النَّاسِ»، فَقِيلَ لَهُ: إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ النَّاسِ فَمَا يَبْقَى؟ فَقَالَ (عليه السلام): «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا الثُّلُثَ البَاقِيَ؟»(989).
قال [أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن بابويه] مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): وقد أخرجت ما روي في علامات القائم (عليه السلام) وسيرته وما يجري في أيَّامه في الكتاب السرِّ المكتوم إلى الوقت المعلوم، [ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم].

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(987) راجع ما رواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 286/ باب 14/ ح 61)، والمفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 372)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 438/ ح 430).
(988) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 207): (بيان: يحتمل وقوعهما معاً، فلا تنافي، ولعلَّه سقط من الخبر شيء).
(989) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 339/ ح 286)، وفيه: (يذهب ثلثا الناس، فقيل له: إذا ذهب ثلثا الناس...)، وهو الصحيح بقرينة قوله (عليه السلام): «أمَا ترضون أن تكونوا الثلث الباقي؟».

(٤٥٢)

[541/1] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ القَاضِي(990) وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ وَعَلِيُّ ابْنُ الحُسَيْنِ بْنِ شَاذَوَيْهِ المُؤَدِّبُ (رضي الله عنهم)، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ جَامِعٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ الدَّقَّاقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَالتُ الصَّادِقَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، قَالَ (عليه السلام): «﴿العَصْرِ﴾ عَصْرُ خُرُوجِ القَائِمِ (عليه السلام)، ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ يَعْنِي أَعْدَاءَنَا، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يَعْنِي بِآيَاتِنَا، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ يَعْنِي بِمُوَاسَاةِ الإِخْوَانِ، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ﴾ يَعْنِي بِالإِمَامَةِ، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1- 3]، يَعْنِي فِي الفَتْرَةِ»(991)،(992).
قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): إنَّ قوماً قالوا بالفترة واحتجُّوا بها، وزعموا أنَّ الإمامة منقطعة كما انقطعت النبوَّة والرسالة من نبيٍّ إلى نبيٍّ ورسول إلى رسول بعد محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فأقول - وبالله التوفيق -: إنَّ هذا القول مخالف للحقِّ، لكثرة الروايات التي وردت أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة إلى يوم القيامة، ولم تخل من لدن آدم (عليه السلام) إلى هذا الوقت، وهذه الأخبار كثيرة شائعة(993) قد ذكرتها في هذا الكتاب،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(990) في بعض النُّسَخ: (الفامي).
(991) رواه عليُّ بن يوسف الحلِّي (رحمه الله) في العدد القويَّة (ص 67/ ح 98).
(992) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 24/ ص 214): (بيان: قوله (عليه السلام): «يعني أعداءنا»، أي الباقون بعد الاستثناء أعداؤنا، فلا ينافي كون الاستثناء متَّصلاً. قوله تعالى: ﴿وَتَواصَوْا﴾ أي وصَّى بعضهم بعضاً. قوله: «يعني بالفترة»، أي بالصبر على ما يلحقهم من الشُّبَه والفتن والحيرة والشدَّة في غيبة الإمام (عليه السلام)).
(993) في بعض النُّسَخ: (متتابعة).
 

(٤٥٥)

وهي شائعة في طبقات الشيعة وفِرَقها، لا يُنكِرها منهم منكر، ولا يجحدها جاحد، ولا يتأوَّلها متأوِّل، وإنَّ الأرض لا تخلو من إمام حيٍّ معروف إمَّا ظاهر مشهور أو خافٍ مستور، ولم يزل إجماعهم عليه إلى زماننا هذا، فالإمامة لا تنقطع ولا يجوز انقطاعها، لأنَّها متَّصلة ما اتَّصل الليل والنهار.
[542/2] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَكَمِ وَعَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ(994)، عَنْ نَافِعٍ الوَرَّاقِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ، قَالَ: قَالَ لِي هَارُونُ بْنُ سَعْدٍ العِجْلِيُّ(995): قَدْ مَاتَ إِسْمَاعِيلُ الَّذِي كُنْتُمْ تَمُدُّونَ أَعْنَاقَكُمْ إِلَيْهِ، وَجَعْفَرٌ شَيْخٌ كَبِيرٌ يَمُوتُ غَداً أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَتَبْقُونَ بِلَا إِمَامٍ، فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ لَهُ، فَأَخْبَرْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) بِمَقَالَتِهِ، فَقَالَ: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَبَى اللهُ وَاللهِ أَنْ يَنْقَطِعَ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَنْقَطِعَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ فَقُلْ لَهُ: هَذَا مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ يَكْبَرُ وَيُزَوِّجُهُ فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ فَيَكُونُ خَلَفاً إِنْ شَاءَ اللهُ»(996).
فهذا أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) يحلف بالله أنَّه لا ينقطع هذا الأمر حتَّى ينقطع الليل والنهار، والفترات بين الرُّسُل (عليهم السلام) كانت جائزة، لأنَّ الرُّسُل مبعوثة بشرائع الملَّة وتجديدها ونسخ بعضها بعضاً، وليس الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) كذلك، ولا لهم ذلك، لأنَّه لا يُنسَخ بهم شريعة ولا يُجدَّد بهم ملَّة، وقد علمنا أنَّه كان بين نوح وإبراهيم، وبين إبراهيم وموسى، وبين موسى وعيسى، وبين عيسى ومحمّد (عليهم السلام) أنبياء وأوصياء كثيرون(997)، وإنَّما كانوا مذكِّرين لأمر الله، مستحفظين مستودعين لما جعل الله تعالى عندهم من الوصايا والكُتُب والعلوم وما جاءت به

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(994) في بعض النُّسَخ: (عليُّ بن الحسين).
(995) زيدي. (رجال ابن داود: ص 283/ الرقم 540).
(996) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 41 و42/ ح 22).
(997) في بعض النُّسَخ: (يكثر عددهم).

(٤٥٦)

الرُّسُل عن الله (عزَّ وجلَّ) إلى أُمَمهم، وكان لكلِّ نبيٍّ منهم مذكِّر عنه ووصيٌّ يُؤدِّي ما استحفظه من علومه ووصاياه، فلمَّا ختم الله (عزَّ وجلَّ) الرُّسُل بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يجز أنْ يخلو الأرض من وصيٍّ هادٍ مذكِّر يقوم بأمره ويُؤدِّي عنه ما استودعه، حافظاً لما ائتمنه عليه من دين الله (عزَّ وجلَّ)، فجعل الله (عزَّ وجلَّ) ذلك سبباً لإمامة منسوقة منظومة متَّصلة ما اتَّصل أمر الله (عزَّ وجلَّ)، لأنَّه لا يجوز أنْ تندرس آثار الأنبياء والرُّسُل وأعلام محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وملَّته وشرائعه وفرائضه وسُنَنه وأحكامه أو تُنسَخ أو تُعفى(998) عليها آثار رسول آخر وشرائعه، إذ لا رسول بعده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا نبيٌّ.
والإمام ليس برسول ولا نبيٍّ ولا داعٍ إلى شريعة ولا ملَّة غير شريعة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وملَّته، فلا يجوز أنْ يكون بين الإمام والإمام الذي بعده فترة، فالفترات جائزة بين الرُّسُل (عليهم السلام)، وفي الإمامة غير جائزة، فلذلك وجب أنَّه لا بدَّ من إمام محجوج به.
ولا بدَّ أيضاً أنْ يكون بين الرسول والرسول - وإنْ كان بينهما فترة - إمام وصيٌّ يلزم الخلق حجَّته ويُؤدِّي عن الرُّسُل ما جاؤوا به عن الله تعالى، ويُنبِّه عباده على ما أغفلوا، ويُبيِّن لهم ما جهلوا، ليعلموا أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) لم يتركهم سدًى، ولم يضرب عنهم الذكر صفحاً، ولم يدعهم من دينهم في شبهة، ولا من فرائضه التي وظَّفها عليهم في حيرة، والنبوَّة والرسالة سُنَّة من الله (جلّ جلاله)، والإمامة فريضة، والسُّنَن تنقطع ويجوز تركها في حالات، والفرائض لا تزول ولا تنقطع بعد محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأجلُّ الفرائض وأعظمها خطراً الإمامة التي تُؤدَّى بها الفرائض والسُّنَن، وبها كمل الدِّين وتمَّت النعمة، فالأئمَّة من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لأنَّه لا نبيَّ بعده، ليحملوا العباد على محجَّة دينهم، ويلزموهم سبيل نجاتهم، ويُجنِّبوهم موارد هلكتهم، ويُبيِّنوا لهم من فرائض الله (عزَّ وجلَّ) ما شذَّ عن أفهامهم، ويهدوهم بكتاب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(998) كذا في جميع النُّسَخ، ولعلَّه: تقفي عليها.

(٤٥٧)

الله (عزَّ وجلَّ) إلى مراشد أُمورهم، فيكون الدِّين بهم محفوظاً لا تعترض فيه الشبهة، وفرائض الله (عزَّ وجلَّ) بهم مؤدَّاة لا يدخلها باطل، وأحكام الله ماضية لا يلحقها تبديل، ولا يزيلها تغيير.
فالرسالة والنبوَّة سُنَن، والإمامة فرض وفرائض الله (عزَّ وجلَّ) الجارية علينا بمحمّد، لازمة لنا، ثابتة لا تنقطع ولا تتغيَّر إلى يوم القيامة، مع أنَّا لا ندفع الأخبار التي رُويت أنَّه كان بين عيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فترة لم يكن فيها نبيٌّ ولا وصيٌّ ولا نُنكِرها، ونقول: إنَّها أخبار صحيحة، ولكنَّ تأويلها غير ما ذهب إليه مخالفونا من انقطاع الأنبياء والأئمَّة والرُّسُل (عليهم السلام).
وإنَّما معنى الفترة أنَّه لم يكن بينهما رسول ولا نبيٌّ ولا وصيٌّ ظاهر مشهور كمن كان قبله، وعلى ذلك دلَّ الكتاب المنزل أنَّ الله (جلَّ وعزَّ) بعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على حين فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، لا من الأنبياء والأوصياء، ولكن قد كان بينه وبين عيسى (عليهما السلام) أنبياء وأئمَّة مستورون خائفون، مِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ العَبْسِيُّ، نَبِيٌّ لَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ، وَلَا يُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ، لِتَوَاطُؤ الأَخْبَارِ بِذَلِكَ عِن الخَاصِّ وَالعَامِّ وَشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّ ابْنَتَهُ أَدْرَكَتْ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «هَذِهِ ابْنَةُ نَبِيٍّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ العَبْسِيِ»، وَكَانَ بَيْنَ مَبْعَثِهِ ومَبْعَثِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خَمْسُونَ سَنَةً، وهو خالِد بن سنان بن بعيث(999) بن مريطة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس، حدَّثني بذلك جماعة من أهل الفقه والعلم.
[543/3] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الوَلِيدِ الخَزَّازُ وَالسِّنْدِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ البَزَّازُ جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ الأَحْمَرِ، عَنْ بَشِيرٍ النَّبَّالِ، عَنْ أَبِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(999) في بعض النُّسَخ: (لعيث). وفي المعارف لابن قتيبة (ص 62): أتت ابنته رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فسمعته يقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾، فقالت: كان أبي يقول هذا.

(٤٥٨)

جَعْفَرٍ البَاقِرِ وَأَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (عليهما السلام)، قَالَا: «جَاءَتْ ابْنَةُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ العَبْسِيِّ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقَالَ لَهَا: مَرْحَباً يَا ابْنَةَ أَخِي، وَصَافَحَهَا وَأَدْنَاهَا وَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ، ثُمَّ أَجْلَسَهَا إِلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ ابْنَةُ نَبِيٍّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ العَبْسِيِ»(1000).
وكان اسمها محياة ابنة خالد بن سنان.
وبعد، فلو لا الكتاب المنزل وما أخبرنا الله تعالى به على لسان نبيِّنا المرسَل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما اجتمعت عليه الأُمَّة من النقل عنه (عليه السلام) في الخبر الموافق للكتاب أنَّه لا نبيَّ بعده، لكان الواجب اللازم في الحكمة أنْ لا يجوز أنْ يخلو العباد من رسول منذر ما دام التكليف لازماً لهم، وأنْ تكون الرُّسُل متواترة إليهم على ما قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً﴾ [المؤمنون: 44]، ولقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]، لأنَّ علَّتهم لا تنزاح إلَّا بذلك، كما حكى تبارك وتعالى عنهم في قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿لَوْ لَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: 134].
فكان من احتجاج الله (عزَّ وجلَّ) في جواب ذلك أنْ قال: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: 183]، فعلل العباد مع التكليف لا تنزاح(1001) إلَّا برسول منذر مبعوث إليهم ليقيم أودهم ويُخبرهم بمصالح أُمورهم ديناً ودنياً، وينصف مظلومهم من ظالمهم، ويأخذ حقَّ ضعيفهم من قويِّهم، وحجَّة الله (عزَّ وجلَّ) لا تلزمهم إلَّا بذلك.
فلمَّا أخبرنا (عزَّ وجلَّ) أنَّه قد ختم أنبياءه ورُسُله بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سلَّمنا لذلك وأيقنَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1000) روى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 8/ ص 342/ ح 540).
(1001) أي لا تبعد ولا تزول.

(٤٥٩)

أنَّه لا رسول بعده، وأنَّه لا بدَّ لنا ممَّن يقوم مقامه وتلزمنا حجَّة الله به، وتنزاح به علَّتنا، لأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قال في كتابه لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]، ولأنَّ الحاجة منَّا إلى ذلك دائمة فينا ثابتة إلى انقضاء الدنيا وزوال التكليف والأمر والنهي عنَّا، فإنَّ ذلك الهادي لا يكون مثل حالنا في الحاجة إلى من يُقوِّمه ويُؤدِّبه ويهديه إلى الحقِّ، ولا يحتاج إلى مخلوق منَّا في شيء من علم الشريعة ومصالح الدِّين والدنيا، بل مقوِّمه وهاديه الله (عزَّ وجلَّ) بما يلهمه كما ألهم أُمَّ موسى (عليه السلام) وهداها إلى ما كان فيه نجاتها ونجاة موسى (عليه السلام) من فرعون وقومه.
فعلم الإمام (عليه السلام) كلُّه من الله (عزَّ وجلَّ) ومن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فبذلك يكون عالماً بما في الكتاب المنزل وتنزيله وتفسيره وتأويله ومعانيه وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه وأوامره وزواجره ووعده ووعيده وأمثاله وقَصصه، لا برأي وقياس، كما قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83].
والدليل على ذلك ما اجتمعت الأُمَّة على نقله من قَوْلِ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ».
وَبِقَوْلِهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «الأَئِمَّةُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ».
فأعلمنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: إنَّه مخلِّف فينا من يقوم مقامه في هدايتنا وفي معرفته علم الكتاب، وإنَّ الأُمَّة ستفارقهما إلَّا من عصمه الله (جلّ جلاله) بلزومهما فأنقذه باتِّباعهما من الضلالة والردى، ضماناً منه صحيحاً يُؤدِّيه عن الله (عزَّ وجلَّ)، إذ لم يكن (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من المتكلِّفين، ولم يتَّبع إلَّا ما يُوحى إليه أنَّ من تمسَّك بهما لن يضلَّ، وأنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليه الحوض.

(٤٦٠)

وبقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنَّ أُمَّته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية، واثنتين وسبعين فرقة في النار».
فقد أخرج (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من تمسَّك بالكتاب والعترة من الفِرَق الهالكة وجعله من الناجية بما قَالَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إِنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِمَا لَنْ يَضِلَّ.
وَبِقَوْلِهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنَّ فِي أُمَّتِهِ مَنْ يَمْرُقُ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ قَدْ فَارَقَ الكِتَابَ وَالعِتْرَةَ.
فقد دلَّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما أعلمنا أنَّ فيما خلَّفه فينا غنًى عن إرسال الله (عزَّ وجلَّ) الرُّسُل إلينا وقطعاً لعذرنا وحجَّتنا، ووجدنا الأُمَّة بعد نبيِّها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد كثر اختلافها في القرآن وتنزيله وسوره وآياته وفي قراءته ومعانيه وتفسيره وتأويله، وكلٌّ منهم يحتجُّ لمذهبه بآيات منه، فعلمنا أنَّ الذي يعلم من القرآن ما يحتاج إليه هو الذي قرنه الله تبارك وتعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالكتاب الذي لا يفارقه إلى يوم القيامة.
ومع هذا فإنَّه لا بدَّ أنْ يكون مع هذا الهادي المقرون بالكتاب حجَّة ودلالة يبين بهما من الخلق المحجوجين به المحتاجين إليه، ويكون بهما في صفاته وعلمه وثباته خارجاً عن صفاتهم غنيًّا بما عنده عنهم، تثبت بذلك معرفتهم عند الخلق، دلالة معجزة وحجَّة لازمة يضطرُّ المحجوجين به إلى الإقرار بإمامته لكي يتبيَّن المؤمن المحقُّ [بذلك] من الكافر المبطل المعاند الملبِّس على الناس بالأكاذيب والمخاريق وزخرف القول وصنوف التأويلات للكتاب والأخبار، لأنَّ المعاند لا يقبل البرهان.
فإنْ احتجَّ محتجٌّ من أهل الإلحاد والعناد بالكتاب وأنَّه الحجَّة التي يُستغنى بها عن الأئمَّة الهداة، لأنَّ فيه تبياناً لكلِّ شيء، ولقول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38].
قلنا له: أمَّا الكتاب فهو على ما وصفت فيه تبيان كلِّ شيء، منه منصوص

(٤٦١)

مبيَّن، ومنه ما هو مختلف فيه، فلا بدَّ لنا من مبيِّن يُبيِّن لنا ما قد اختلفنا فيه، إذ لا يجوز فيه الاختلاف، لقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً﴾ [النساء: 82]، ولا بدَّ للمكلَّفين من مبيِّن يُبيِّن ببراهين واضحة تبهر العقول وتلزم بها الحجَّة، كما لم يكن فيما مضى بُدٌّ من مبيِّن لكلِّ أُمَّة ما اختُلِفَ فيه من كتابها بعد نبيِّها، ولم يكن ذلك لاستغناء أهل التوراة بالتوراة وأهل الزبور بالزبور وأهل الإنجيل بالإنجيل، وقد أخبرنا الله (عزَّ وجلَّ) عن هذه الكُتُب أنَّ فيها هدًى ونوراً يحكم بها النبيُّون، وأنَّ فيها حكم ما يحتاجون إليه.
ولكنَّه (عزَّ وجلَّ) لم يكلهم إلى علمهم بما فيها، وواتر الرُّسُل إليهم، وأقام لكلِّ رسول عَلَماً ووصيًّا وحجَّةً على أُمَّته، أمرهم بطاعته والقبول منه إلى ظهور النبيِّ الآخر، لئلَّا تكون لهم عليه حجَّة، وجعل أوصياء الأنبياء حُكَّاماً بما في كُتُبه، فقال تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ [المائدة: 44].
ثمّ إنَّه (عزَّ وجلَّ) قطع عنَّا بعد نبيِّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الرُّسُل (عليهم السلام)، وجعل لنا هداة من أهل بيته وعترته يهدوننا إلى الحقِّ، ويجلون عنَّا العمى، وينفون الاختلاف والفرقة، معصومين قد أمنَّا منهم الخطأ والزلل، وقرن بهم الكتاب، وأمرنا بالتمسُّك بهما، وأعلمنا على لسان نبيِّه (عليه السلام) أنَّا لا نضلُّ ما إنْ تمسَّكنا بهما، ولو لا ذلك ما كانت الحكمة توجب إلَّا بعثة الرُّسُل (عليهم السلام) إلى انقطاع التكليف عنَّا، وبيَّن الله (عزَّ وجلَّ) ذلك في قوله لنبيِّه: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]، فللّه الحجَّة البالغة علينا بذلك.
والرُّسُل والأنبياء والأوصياء (صلوات الله عليهم) لم تخل الأرض منهم، وقد كانت لهم فترات من خوف وأسباب لا يُظهِرون فيها دعوةً، ولا يبدون أمرهم إلَّا لمن أمنوه، حتَّى بعث الله (عزَّ وجلَّ) محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فكان آخر أوصياء عيسى (عليه السلام) رجل يقال له: (آبي)، وكان يقال له: (بالط) أيضاً.

(٤٦٢)

[544/4] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ وَيَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ الكَاتِبُ وَأَحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «الَّذِي تَنَاهَتْ إِلَيْهِ وَصِيَّةُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ (عليه السلام) رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: آبِيَ».
[545/5] وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ جَمِيعاً، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ الكَاتِبِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «كَانَ آخِرَ أَوْصِيَاءِ عِيسَى (عليه السلام) رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بالط»(1002).
[546/6] وَحَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الهَيْثَمُ بْنُ أَبِي مَسْرُوقٍ النَّهْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الجَبَّارِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ سَهْلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ الوَاسِطِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «كَانَ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ (رحمه الله) قَدْ أَتَى غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ العُلَمَاءِ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ أَتَى آبِيَ(1003)، فَمَكَثَ عِنْدَهُ مَا شَاءَ اللهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَالَ آبِي: يَا سَلْمَانُ، إِنَّ صَاحِبَكَ الَّذِي تَطْلُبُهُ بِمَكَّةَ قَدْ ظَهَرَ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ (رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ)»(1004).
[547/7] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الكُوفِيِّينَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ أُمَيَّةَ ابْنِ عَلِيٍّ القَيْسِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي دُرُسْتُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ الوَاسِطِيِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا الحَسَنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1002) قال المصنِّف (رحمه الله) في (ج 1/ ص 242): (قد ذكر قوم أنَّ آبي هو أبو طالب. وإنَّما اشتبه الأمر به لأنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سُئِلَ عن آخر أوصياء عيسى (عليه السلام) فقال: «آبي»، فصحَّفه الناس وقالوا: أبي). وأقول: (آبي) بمد الهمزة وإمالة الباء من ألقاب علماء النصارى.
(1003) كذا، ولعلَّ النكتة في عدم النصب حفظ صورة الكلمة لئلَّا يشتبه بأبي.
(1004) رواه عليُّ بن يوسف الحلِّي (رحمه الله) في العدد القويَّة (ص 68/ ح 100).

(٤٦٣)

الأَوَّلَ يَعْنِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليهما السلام): أَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَحْجُوجاً بِآبِي؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُسْتَوْدَعاً لِوَصَايَاهُ، فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ (عليه السلام)»، قَالَ: قُلْتُ: فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَحْجُوجاً بِهِ؟ فَقَالَ: «لَوْ كَانَ مَحْجُوجاً بِهِ لَمَا دَفَعَ إِلَيْهِ الوَصَايَا»، قُلْتُ: فَمَا كَانَ حَالُ آبِي؟ قَالَ: «أَقَرَّ بِالنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الوَصَايَا، وَمَاتَ آبِي مِنْ يَوْمِهِ»(1005).
فقد دلَّ ذلك على أنَّ الفترة هي الاختفاء والسرُّ والامتناع من الظهور وإعلان الدعوة لا ذهاب شخص وارتفاع عين الذات والإنّيَّة(1006)، وقد قال الله (عزَّ وجلَّ) في قصَّة الملائكة (عليهم السلام): ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: 20]، فلو كان الفتور ذهاباً عن الشيء وذاته لكانت الآية محالاً، لأنَّ الملائكة ينامون، والنائم في غاية الفتور، والنائم لا يُسبِّح، لأنَّه إذا نام فتر عن التسبيح، والنوم بمنزلة الموت، لأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: 42]، ويقول (عزَّ وجلَّ): ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ(1007) بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: 60]، والنائم فاتر بمنزلة الميِّت، والذي لا ينام ولا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ ولا يُدركه فتور هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، والخبر دليل على ذلك.
[548/8] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنِ العَبَّاسِ بْنِ مُوسَى الوَرَّاقِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ العَطَّارِ، قَالَ: قَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَخْبِرْنِي عَنِ المَلَائِكَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1005) رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 445/ أبواب التاريخ/ ح 18)، وفيه: (أبي طالب)، وقال محقِّقه في الهامش: (الظاهر أنَّ أبي طالب) مصحَّف (آبي بالط)، وآبي بإمالة الياء من ألقاب علماء النصارى، وبالط اسم ذلك الرجل كما هو كذلك في نسخ كمال الدِّين).
(1006) في بعض النُّسَخ: (الأينيَّة).
(1007) جرح واجترح: أي اكتسب.

(٤٦٤)

أَيَنَامُونَ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ: يَقُولُ اللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: 20]، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُطْرِفُكَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِيهِ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «مَا مِنْ حَيٍّ إِلَّا وَهُوَ يَنَامُ مَا خَلَا اللهَ وَحْدَهُ (عزَّ وجلَّ)، وَالمَلَائِكَةُ يَنَامُونَ»، فَقُلْتُ: يَقُولُ اللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾، فَقَالَ: «أَنْفَاسُهُمْ تَسْبِيحٌ».
فالفترة إنَّما هي الكفُّ عن إظهار الأمر والنهي.
واللغة تدلُّ على ذلك، يقال: فتر فلان عن طلب فلان، وفتر عن مطالبته، وفتر عن حاجته، وإنَّما ذلك تراخٍ عنه وكفٌّ لا بطلان الشخص والعين، ومنه قول الرجل: أصابتني فترة، أي ضعف.
وقد احتجَّ قوم بقول الله (عزَّ وجلَّ) لِنَبِيِّهِ: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [القَصص: 46]، وقول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾ [سبأ: 44]، فجعلوا هذا دليلاً على أنَّه لم يكن بين عيسى (عليه السلام) وبين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبيٌّ ولا رسول ولا حجَّة، وهذا تأويل بيِّن الخطأ، لأنَّ النُّذُر إنَّما هم الرُّسُل خاصَّة دون الأنبياء والأوصياء، لأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول لِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7].
فالنُّذُر هم الرُّسُل، والأنبياء والأوصياء هداة، وفي قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ دليل على أنَّه لم تخل الأرض من هداة في كلِّ قوم وكلِّ عصر تلزم العباد الحجَّة لله (عزَّ وجلَّ) بهم من الأنبياء والأوصياء.
فالهداة من الأنبياء والأوصياء لا يجوز انقطاعهم ما دام التكليف من الله (عزَّ وجلَّ) لازماً للعباد، لأنَّهم يُؤدُّون عن النُّذُر، وجائز أنْ تنقطع النُّذُر، كما انقطعت بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا نذير بعده.
[549/9] حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ،

(٤٦٥)

قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ وَيَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ جَمِيعاً، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)(1008) فِي قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾، فَقَالَ: «كُلُّ إِمَامٍ هَادٍ لِكُلِّ قَوْمٍ فِي زَمَانِهِمْ»(1009).
[550/10] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ بُرَيْدِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ العِجْلِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): مَا مَعْنَى ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾؟ فَقَالَ: «المُنْذِرُ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَعَلِيٌّ الهَادِي، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَانٍ إِمَامٌ مِنَّا يَهْدِيهِمْ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(1010).
والأخبار في هذا المعنى كثيرة، وإنَّما قال الله (عزَّ وجلَّ) لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [القَصص: 46]، أي ما جاءهم رسول قبلك بتبديل شريعة ولا تغيير ملَّة(1011)، ولم ينفِ عنهم الهداة والدعاة من الأوصياء(1012)، وكيف يكون ذلك وهو (عزَّ وجلَّ) يحكي عنهم في قوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً﴾ [فاطر: 42]؟ فهذا يدلُّ على أنَّه قد كان هناك هادٍ يدلُّهم على شرائع دينهم، لأنَّهم قالوا ذلك قبل أنْ يُبعَث محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(1013).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1008) في بعض النُّسَخ: (لأبي جعفر (عليه السلام)).
(1009) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 131 و132/ ح 139).
(1010) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 132/ ح 140)، وروى قريباً منه العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 204/ ح 8).
(1011) في بعض النُّسَخ: (ولا نسخ ملَّة).
(1012) في بعض النُّسَخ: (ولم ينفِ عنهم الهداية ولا عن الأوصياء).
(1013) في بعض النُّسَخ: (قبل أنْ يكون محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)).

(٤٦٦)

وممَّا يدلُّ على ذلك الأخبار التي ذكرناها في هذا المعنى في هذا الكتاب، ولا قوَّة إلَّا بالله.
[551/11] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ ظَرِيفٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام)، قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَالوَاقِفُ كَافِرٌ، وَالنَّاصِبُ مُشْرِكٌ».
[552/12] أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حَاتِمٍ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الحَسَنِ المِيثَمِيِّ، عَنْ سَمَاعَةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي القَائِمِ (عليه السلام): ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 16]».
[553/13] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الحَسَنِ المِيثَمِيِّ، عَنِ الحَسَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُؤْمِنِ الطَّاقِ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ المُسْتَنِيرِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد: 17]، قَالَ: «يُحْيِيهَا اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِالقَائِمِ (عليه السلام) بَعْدَ مَوْتِهَا، [يَعْنِي] بِمَوْتِهَا كُفْرَ أَهْلِهَا، وَالكَافِرُ مَيِّتٌ»(1014).
[554/14] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الجَلُودِيُّ البَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ ظَرِيفٍ، عَنِ الأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) يَقُولُ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1014) روى قريباً منه القاضي النعمان في شرح الأخبار (ج 3/ ص 356/ ح 1215).

(٤٦٧)

«سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَقُولُ: أَفْضَلُ الكَلَامِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَفْضَلُ الخَلْقِ أَوَّلُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ أَوَّلُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ قَالَ: أَنَا، وَأَنَا نُورٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ (جلّ جلاله) أُوَحِّدُهُ وَأُسَبِّحُهُ وَأُكَبِّرُهُ وَأُقَدِّسُهُ وَأُمَجِّدُهُ، وَيَتْلُونِي نُورٌ شَاهِدٌ مِنِّي، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الشَّاهِدُ مِنْكَ؟ فَقَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، أَخِي وَصَفِيِّي وَوَزِيرِي وَخَلِيفَتِي وَوَصِيِّي وَإِمَامُ أُمَّتِي وَصَاحِبُ حَوْضِي وَحَامِلُ لِوَائِي، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَنْ يَتْلُوهُ؟ فَقَالَ: الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ الأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ».
[555/15] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ الحَسَنِ ابْنِ أَبَانٍ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ الكِنَانِيِّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كِتَاباً قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ المَوْتُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا [ال]كِتَابُ وَصِيَّتُكَ إِلَى النَّجِيبِ مِنْ أَهْلِكَ، فَقَالَ: وَمَنِ النَّجِيبُ مِنْ أَهْلِي يَا جَبْرَئِيلُ؟ فَقَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ عَلَى الكِتَابِ خَوَاتِيمُ مِنْ ذَهَبٍ، فَدَفَعَهُ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِلَى عَلِيٍّ (عليه السلام) وَأَمَرَهُ أَنْ يَفُكَّ خَاتَماً وَيَعْمَلَ بِمَا فِيهِ، فَفَكَّ (عليه السلام) خَاتَماً وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى ابْنِهِ الحَسَنِ (عليه السلام)، فَفَكَّ خَاتَماً وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى الحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ أَنِ اخْرُجْ بِقَوْمِكَ إِلَى الشَّهَادَةِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ إِلَّا مَعَكَ وَاشْرِ نَفْسَكَ لِلهِ تَعَالَى، فَفَعَلَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليهما السلام)، فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ: اصْمُتْ وَالزَمْ مَنْزِلَكَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ، فَفَعَلَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ: حَدِّثِ النَّاسَ وَأَفْتِهِمْ وَلَا تَخَافَنَّ إِلَّا اللهَ (عزَّ وجلَّ) فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْكَ، ثُمَّ دَفَعَهُ، إِلَيَّ فَفَضَضْتُ خَاتَماً فَوَجَدْتُ فِيهِ: حَدِّثِ النَّاسَ وَأَفْتِهِمْ وَانْشُرْ عِلْمَ أَهْلِ بَيْتِكَ وَصَدِّقْ آبَاءَكَ الصَّالِحِينَ وَلَا تَخَافَنَّ إِلَّا اللهَ (عزَّ وجلَّ) وَأَنْتَ فِي حِرْزٍ وَأَمَانٍ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَدْفَعُهُ إِلَى

(٤٦٨)

مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، وَكَذَلِكَ يَدْفَعُهُ مُوسَى إِلَى [الَّذِي] مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَداً إِلَى يَوْمِ [قِيَامِ] المَهْدِيِّ (عليه السلام)»(1015).
[556/16] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ السَّعْدَآبَادِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ البَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33]، فَقَالَ: «وَاللهِ مَا نَزَلَ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ، وَلَا يَنْزِلُ تَأْوِيلُهَا حَتَّى يَخْرُجَ القَائِمُ (عليه السلام)، فَإِذَا خَرَجَ القَائِمُ (عليه السلام) لَمْ يَبْقَ كَافِرٌ بِاللهِ العَظِيمِ وَلَا مُشْرِكٌ بِالإِمَامِ إِلَّا كَرِهَ خُرُوجَهُ حَتَّى أَنْ لَوْ كَانَ كَافِراً أَوْ مُشْرِكاً فِي بَطْنِ صَخْرَةٍ لَقَالَتْ: يَا مُؤْمِنُ، فِي بَطْنِي كَافِرٌ فَاكْسِرْنِي وَاقْتُلْهُ»(1016).
[557/17] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى العَطَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الخَطَّابِ وَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى جَمِيعاً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي الجَارُودِ زِيَادِ بْنِ المُنْذِرِ(1017)، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1015) رواه المصنِّف (رحمه الله) في أماليه (ص 486/ ح 660/2)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 280 و281/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلَّا بعهد من الله (عزَّ وجلَّ).../ ح 2)، والطوسي (رحمه الله) في أماليه (ص 441 و442/ ح 990/47).
(1016) رواه فرات الكوفي (رحمه الله) في تفسيره (ص 481 و482/ ح 627/3) بتفاوت يسير.
(1017) قال العلَّامة في خلاصته في عنوانه في قسم الضعفاء (ص 348/ الرقم 1): (زياد بن المنذر أبو الجارود الهمداني - بالدال المهملة - الخارقي - بالخاء المعجمة بعدها ألف وراء مهملة وقاف -...، الكوفي الأعمى التابعي، زيدي المذهب، وإليه تُنسَب الجاروديَّة من الزيديَّة، كان من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام)، وروى عن الصادق (عليه السلام)، وتغيَّر لـمَّا خرج زيد (رضي الله عنه)، وروى عن زيد. وقال ابن الغضائري: حديثه في أصحابنا أكثر منه في الزيديَّة، وأصحابنا يكرهون ما رواه محمّد بن سنان عنه، ويعتمدون ما رواه محمّد بن بكر الأرجني. وقال الكشِّي: زياد بن المنذر أبو الجارود الأعمى السرحوب - بالسين المهملة المضمومة والراء والحاء المهملة والباء المنقَّطة تحتها نقطة واحدة بعد الواو - مذموم، ولا شبهة في ذمِّه، وسُمِّي سرحوباً باسم شيطان أعمى يسكن البحر)، وكان أبو الجارود مكفوفاً أعمى أعمى القلب. ثمّ روى الكشِّي في ذمِّه رويات تضمَّن بعضها كونها كذَّاباً كافراً. (راجع: اختيار معرفة الرجال: ج 2/ ص 495 - 498).

(٤٦٩)

«إِذَا خَرَجَ القَائِمُ (عليه السلام) مِنْ مَكَّةَ يُنَادِي مُنَادِيهِ: أَلَا لَا يَحْمِلَنَّ أَحَدُ[كُمْ] طَعَاماً وَلَا شَرَاباً، وَحَمَلَ مَعَهُ حَجَرَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام)، وَهُوَ وِقْرُ بَعِيرٍ، فَلَا يَنْزِلُ مَنْزِلاً إِلَّا انْفَجَرَتْ مِنْهُ عُيُونٌ، فَمَنْ كَانَ جَائِعاً شَبِعَ، وَمَنْ كَانَ ظَمْآنَ رَوِيَ، وَرَوِيَتْ دَوَابُّهُمْ، حَتَّى يَنْزِلُوا النَّجَفَ مِنْ ظَهْرِ الكُوفَةِ»(1018).
[558/18] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُ القَائِمَ (عليه السلام) جَبْرَئِيلُ يَنْزِلُ فِي صُورَةِ طَيْرٍ أَبْيَضَ فَيُبَايِعُهُ، ثُمَّ يَضَعُ رِجْلاً عَلَى بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ وَرِجْلاً عَلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ يُنَادِي بِصَوْتٍ طَلِقٍ تَسْمَعُهُ الخَلَائِقُ: ﴿أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: 1]»(1019).
[559/19] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ(عليه السلام): «سَيَأْتِي فِي مَسْجِدِكُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً - يَعْنِي مَسْجِدَ مَكَّةَ -، يَعْلَمُ أَهْلُ مَكَّةَ أَنَّهُ لَمْ يَلِدْهُمْ آبَاؤُهُمْ وَلَا أَجْدَادُهُمْ، عَلَيْهِمُ السُّيُوفُ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ سَيْفٍ(1020) كَلِمَةٌ تَفْتَحُ الفَ كَلِمَةٍ، فَيَبْعَثُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى رِيحاً فَتُنَادِي بِكُلِّ وَادٍ: هَذَا المَهْدِيُّ، يَقْضِي بِقَضَاءِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ (عليهما السلام)، [وَ]لَا يُرِيدُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً»(1021)،(1022).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1018) رواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 244/ باب 13/ ح 29) بسند آخر.
(1019) رواه العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 254/ ح 3).
(1020) في بعض النُّسَخ: (مكتوب عليها).
(1021) رواه المصنِّف (رحمه الله) في الخصال (ص 649/ ح 43)، والصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص 331/ ج 6/ باب 18/ ح 11)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 327 و328/ باب 20/ ح 5).
(1022) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 369): (بيان: قوله (عليه السلام): «يعلم أهل مكَّة» لعلَّه كناية عن أنَّهم لا يعرفونهم بوجه).

(٤٧٠)

[560/20] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ(عليه السلام): «إِذَا قَامَ القَائِمُ (عليه السلام) لَمْ يَقُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الرَّحْمَنِ إِلَّا عَرَفَهُ صَالِحٌ هُوَ أَمْ طَالِحٌ، لِأَنَّ فِيهِ آيَةً لِلْمُتَوَسِّمِينَ، وَهِيَ بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ».
[561/21] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «دَمَانِ فِي الإِسْلَامِ حَلَالٌ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) لَا يَقْضِي فِيهِمَا أَحَدٌ بِحُكْمِ اللهِ حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) القَائِمَ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ (عليهم السلام)، فَيَحْكُمُ فِيهِمَا بِحُكْمِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) لَا يُرِيدُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً: الزَّانِي المُحْصَنُ يَرْجُمُهُ، وَمَانِعُ الزَّكَاةِ يَضْرِبُ رَقَبَتَهُ»(1023).
[562/22] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى القَائِمِ (عليه السلام) عَلَى ظَهْرِ النَّجَفِ، فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِ النَّجَفِ رَكِبَ فَرَساً أَدْهَمَ أَبْلَقَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ شِمْرَاخٌ(1024)، ثُمَّ يَنْتَفِضُ بِهِ فَرَسُهُ، فَلَا يَبْقَى أَهْلُ بَلْدَةٍ إِلَّا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، فَإِذَا نَشَرَ رَايَةَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انْحَطَّ إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ الفَ مَلَكٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ مَلَكاً كُلُّهُمْ يَنْتَظِرُ القَائِمَ (عليه السلام)، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ (عليه السلام) فِي السَّفِينَةِ، وَالَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ (عليه السلام) حَيْثُ القِيَ فِي النَّارِ، وَكَانُوا مَعَ عِيسَى (عليه السلام) حَيْثُ رُفِعَ، وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ مُسَوِّمِينَ وَمُرْدِفِينَ، وَثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ مَلَكاً(1025) يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَرْبَعَةُ آلَافِ مَلَكٍ الَّذِينَ هَبَطُوا يُرِيدُونَ القِتَالَ مَعَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، فَصَعِدُوا فِي الاِسْتِئْذَانِ، وَهَبَطُوا وَقَدْ قُتِلَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1023) رواه المصنِّف (رحمه الله) في ثواب الأعمال (ص 235 و236)، وفي من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 11/ ح 1589)، والبرقي (رحمه الله) في المحاسن (ج 1/ ص 87/ ح 28)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 3/ ص 503/ باب مانع الزكاة/ ح 5).
(1024) الشمراخ: غرَّة الفرس.
(1025) كذا.

(٤٧١)

الحُسَيْنُ (عليه السلام)، فَهُمْ شُعْثٌ غُبْرٌ يَبْكُونَ عِنْدَ قَبْرِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَا بَيْنَ قَبْرِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) إِلَى السَّمَاءِ مُخْتَلَفُ المَلَائِكَةِ»(1026).
[563/23] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى القَائِمِ (عليه السلام) قَدْ ظَهَرَ عَلَى نَجَفِ الكُوفَةِ، فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى النَّجَفِ نَشَرَ رَايَةَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، [وَ]عَمُودُهَا مِنْ عُمُدِ عَرْشِ اللهِ تَعَالَى، وَسَائِرُهَا مِنْ نَصْرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَلَا تُهْوَى بِهَا إِلَى أَحَدٍ إِلَّا أَهْلَكَهُ اللهُ تَعَالَى»، قَالَ: قُلْتُ: أَوَتَكُونُ مَعَهُ أَوْ يُؤْتَى بِهَا؟ قَالَ: «بَلَى يُؤْتَى بِهَا، يَأْتِيهِ بِهَا جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)»(1027).
[564/24] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي القَاسِمِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الكُوفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي المُفْتَقِدِينَ مِنْ أَصْحَابِ القَائِمِ (عليه السلام)، قَوْلُهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً﴾ [البقرة: 148]، إِنَّهُمْ لَيَفْتَقِدُونَ عَنْ فُرُشِهِمْ لَيْلاً فَيُصْبِحُونَ بِمَكَّةَ، وَبَعْضُهُمْ يَسِيرُ فِي السَّحَابِ يُعْرَفُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَحِلْيَتِهِ وَنَسَبِهِ»، قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَيُّهُمْ أَعْظَمُ إِيمَاناً؟ قَالَ: «الَّذِي يَسِيرُ فِي السَّحَابِ نَهَاراً»(1028).
[565/25] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى القَائِمِ (عليه السلام) عَلَى مِنْبَرِ الكُوفَةِ وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ، وَهُمْ أَصْحَابُ الألوِيَةِ، وَهُمْ حُكَّامُ اللهِ فِي أَرْضِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1026) راجع ما رواه ابن قولويه (رحمه الله) في كامل الزيارات (ص 233 - 235/ ح 348/5)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 321 - 323/ باب 20/ ح 4 و5)، والطبري (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 457 و458/ ح 437/41).
(1027) المصدر السابق.
(1028) روى قريباً منه العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 1/ ص 67/ ح 118)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 326 و327/ باب 20/ ح 3).

(٤٧٢)

عَلَى خَلْقِهِ، حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنْ قَبَائِهِ كِتَاباً مَخْتُوماً بِخَاتَمٍ مِنْ ذَهَبٍ عَهْدٌ مَعْهُودٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَيُجْفِلُونَ عَنْهُ إِجْفَالَ الغَنَمِ البُكْمِ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ إِلَّا الوَزِيرُ وَأَحَدَ عَشَرَ نَقِيباً كَمَا بَقَوْا مَعَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام)، فَيَجُولُونَ فِي الأَرْضِ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَذْهَباً فَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَاللهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ الكَلَامَ الَّذِي يَقُولُهُ لَهُمْ فَيَكْفُرُونَ بِهِ»(1029)،(1030).
[566/26] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي هَرَاسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَمَّادٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «كَأَنِّي بِأَصْحَابِ القَائِمِ (عليه السلام) وَقَدْ أَحَاطُوا بِمَا بَيْنَ الخَافِقَيْنِ، فَلَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ مُطِيعٌ لَهُمْ حَتَّى سِبَاعُ الأَرْضِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ، يَطْلُبُ رِضَاهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى تَفْخَرُ الأَرْضُ عَلَى الأَرْضِ وَتَقُولُ: مَرَّ بِيَ اليَوْمَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ القَائِمِ (عليه السلام)»(1031).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1029) روى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 8/ ص 167/ ح 185).
(1030) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 12/ ص 196): (الكاف في «كأنِّي»: للتشبيه، وخبر (أنْ) محذوف، و(الباء) بمعنى (مع)، أي كأنِّي كائن مع القائم (عليه السلام) وناظر إليه، فقد شبَّه حالته العلميَّة بحالته البصريَّة في تحقُّق وقوعها وتيقُّنه. ويحتمل إرادة المماثلة بين الحالتين من غير تشبيه إحداهما بالأُخرى...، «فيجفلون عنه إجفال الغنم»: جفل الناس وأجفلوا وانجفلوا: أي ذهبوا مسرعين، وفي (المصباح): جفل الشيء جفلاً من بابي ضرب وقعد، ندَّ وشرد، فهو جافل، وجفَّال مبالغة، وجفَّلت الطائر أيضاً: نفَّرته، وفي طاوعه فأجفل هو بالألف جاء الثلاثي متعدّياً والرباعي لازماً عكس المشهور، يقال: أجفل القوم وانجفلوا وتجفَّلوا أسرعوا الهرب).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 26/ ص 36): (قوله (عليه السلام): «فيجفلون»: قال الجوهري: أجفل القوم أي هربوا مسرعين، ولعلَّ الكتاب يشتمل على لعن أئمَّة المخالفين أو على الأحكام التي يخالف ما عليه عامَّة الناس).
وقال (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 326): (توضيح: أجفل القوم: أي هربوا مسرعين).
(1031) رواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 131/ ح 138).

(٤٧٣)

[567/27] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَا كَانَ قَوْلُ لُوطٍ (عليه السلام) لِقَوْمِهِ: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود: 80]، إِلَّا تَمَنِّياً لِقُوَّةِ القَائِمِ (عليه السلام)، وَلَا ذَكَرَ إِلَّا شِدَّةَ أَصْحَابِهِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً، وَإِنَّ قَلْبَهُ لَأَشَدُّ مِنْ زُبَرِ الحَدِيدِ، وَلَوْ مَرُّوا بِجِبَالِ الحَدِيدِ لَقَلَعُوهَا، وَلَا يَكُفُّونَ سُيُوفَهُمْ حَتَّى يَرْضَى اللهُ (عزَّ وجلَّ)».
[568/28] حَدَّثَنَا أَبِي (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَنِيعِ بْنِ الحَجَّاجِ البَصْرِيِّ، عَنْ مُجَاشِعٍ، عَنْ مُعَلًّى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الفَيْضٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: «كَانَتْ عَصَا مُوسَى لِآدَمَ (عليهما السلام)، فَصَارَتْ إِلَى شُعَيْبٍ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَإِنَّهَا لَعِنْدَنَا، وَإِنَّ عَهْدِي بِهَا آنِفاً وَهِيَ خَضْرَاءُ كَهَيْأَتِهَا حِينَ انْتُزِعَتْ مِنْ شَجَرَتِهَا، وَإِنَّهَا لَتَنْطِقُ إِذَا اسْتُنْطِقَتْ، أُعِدَّتْ لِقَائِمِنَا (عليه السلام) يَصْنَعُ بِهَا مَا كَانَ يَصْنَعُ بِهَا مُوسَى [بْنُ عِمْرَانَ (عليه السلام)]، وَإِنَّهَا تَصْنَعُ مَا تُؤْمَرُ، وَإِنَّهَا حَيْثُ ألقِيَتْ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ بِلِسَانِهَا»(1032)،(1033).
[569/29] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ السَّرَّاجِ، عَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1032) رواه الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص 203 و204/ ج 4/ باب 4/ ح 36)، وابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 116/ ح 108)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 232/ باب ما عند الأئمَّة من آيات الأنبياء (عليهم السلام)/ ح 1)، والمفيد (رحمه الله) في الاختصاص (ص 269 و270).
(1033) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 5/ ص 230): (قوله: «وإنَّ عهدي بها آنفاً»: يقال: عهدته إذا لقيته وأدركته، وآنفاً كصاحب وكنف، وقُرِئَ بها أي مذ ساعة، أي في أوَّل وقت يقرب منَّا. قوله: «وهي خضراء»: إمَّا لبقاء الرُّطوبة التي كانت لها عند الانتزاع، أو لتجدُّد الرُّطوبة آناً فآناً بأمر الله تعالى. قوله: «من شجرتها»: قيل: هي شجرة الجنَّة).

(٤٧٤)

بِشْرِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَتَدْرِي مَا كَانَ قَمِيصُ يُوسُفَ (عليه السلام)؟»، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) لَـمَّا أُوقِدَتْ لَهُ النَّارُ أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) بِثَوْبٍ مِنْ ثِيَابِ الجَنَّةِ فَالبَسَهُ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَضُرَّهُ مَعَهَا حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ، فَلَمَّا حَضَرَ إِبْرَاهِيمَ المَوْتُ جَعَلَهُ فِي تَمِيمَةٍ(1034) وَعَلَّقَهُ عَلَى إِسْحَاقَ، وَعَلَّقَهُ إِسْحَاقُ عَلَى يَعْقُوبَ، فَلَمَّا وُلِدَ يُوسُفُ عَلَّقَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي عَضُدِهِ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، فَلَمَّا أَخْرَجَهُ يُوسُفُ بِمِصْرَ مِنَ التَّمِيمَةِ وَجَدَ يَعْقُوبُ (عليه السلام) رِيحَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ [يوسف: 94]، فَهُوَ ذَلِكَ القَمِيصُ الَّذِي أُنْزِلَ مِنَ الجَنَّةِ»، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَإِلَى مَنْ صَارَ هَذَا القَمِيصُ؟ قَالَ: «إِلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ مَعَ قَائِمِنَا إِذَا خَرَجَ»، ثُمَّ قَالَ: «كُلُّ نَبِيٍّ وَرِثَ عِلْماً أَوْ غَيْرَهُ فَقَدِ انْتَهَى إِلَى مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(1035).
[570/30] وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّهُ إِذَا تَنَاهَتِ الأُمُورُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ رَفَعَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ مُنْخَفِضٍ مِنَ الأَرْضِ، وَخَفَّضَ لَهُ كُلَّ مُرْتَفِعٍ مِنْهَا، حَتَّى تَكُونَ الدُّنْيَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ رَاحَتِهِ، فَأَيُّكُمْ لَوْ كَانَتْ فِي رَاحَتِهِ شَعْرَةٌ لَمْ يُبْصِرْهَا؟».
[571/31] حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ المُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ البَصْرِيِّ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الوَشَّاءِ، عَنْ مُثَنَّى الحَنَّاطِ، عَنْ قُتَيْبَةَ الأَعْشَى، عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ مَوْلًى لِبَنِي شَيْبَانَ(1036)، عَنْ أَبِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1034) التميمة: عوذة تُعلَّق على الإنسان. (الصحاح).
(1035) قد مرَّ ذكر مصادره في (ج 1/ ص 201)، فراجع.
(1036) قال المازندراني (رحمه الله) في شرح أُصول الكافي (ج 1/ ص 301 - 303): («إذا قام»: أي خرج بعد الغيبة المقدَّرة وظهر لإظهار دين الحقِّ وإعلاء كلمته. «قائمنا»: المهديُّ المنتظر الموعود بالنصر والظفر. وهذا القيام كائن قطعاً لروايات متواترة من طريق العامَّة والخاصَّة إلَّا أنَّ العامَّة يقولون: ←

(٤٧٥)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

→ إنَّه يُولَد في آخر الزَّمان من نسل عليٍّ وفاطمة وجدُّه الحسين (عليه السلام) كما صرَّح به الآبي في كتاب (إكمال الكمال)، ونحن نقول: هو حيٌّ موجودٌ قامت السماوات بوجوده ولولا وجوده لساخت الأرض بأهلها طرفة عين. «وضع الله يده»: أي قدرته أو شفقته أو نعمته أو إحسانه أو ولايته أو حفظه، والضمير عائد إلى الله أو إلى القائم (عليه السلام). «على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم»: ضمير التأنيث إمَّا عائد إلى اليد والباء للسببيَّة أو إلى الرؤوس والباء بمعنى (في)، وهذا الأخير يناسبه ما قيل من أنَّ العقل جوهر مضىء خلقه الله تعالى في الدِّماغ وجعل نوره في القلب يُدرك الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة. «وكملت به أحلامهم»: أي عقولهم، جمع حِلم بالكسر، وهو الأناة والتثبُّت في الأُمور، وذلك من شعار العقلاء، والمراد بجمع عقولهم رفع الانتشار والاختلاف بينهم وجمعهم على دين الحقِّ، وبكمال أحلامهم كمال عقل كلِّ واحد واحد بحيث ينقاد له القوَّة الشهويَّة والغضبيَّة ويحصل فضيلة العدل في جوهر البدن، والأمران يتحقَّقان في عهد صاحبنا (عليه السلام)، لأنَّه إذ خرج ينفخ الرُّوح في الإسلام ويدعو إلى الله بالسيف، فمن أبى قلته ومن نازع قهره حتَّى رفع المذاهب من الأرض فلا يبقى في وجهها إلَّا دين الحقِّ، فيملأها عدلاً وأمناً وإيماناً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً وطغياناً، فشهداؤه خير الشهداء، وأُمناؤه خير الأُمناء، وأصحابه العارفون بالله والقائمون بأمره والمشفقون على عباده والحافظون لبلاده والعاقلون العاملون الكاملون العابدون الناصحون له، فيعود الخلائق بعد التفرقة إلى الجمعيَّة وبعد التشتُّت إلى المعيَّة وبعد الكثرة إلى الوحدة وبعد التفارق إلى التوافق وبعد الجهل إلى العلم، وينظرون إلى الحقِّ بأعين سالمة من الرَّماد، ويسلكون إليه بأقدام ثابتة في سبيل الرَّشاد، وهذا معنى جمع عقولهم وكمال أحلامهم، لأنَّ كمالها بحسب ميلها ورجوعها إلى الحقِّ، فإذا تحقَّق الرُّجوع ثبت الكمال قطعاً. هذا، وقيل: المراد باليد هنا المَلَك الموكَّل بالقلب الذي يتوسَّطه يردُّ الجود الإلهي والفيض الرَّبَّاني عليه كما في قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرَّحمن يُقلِّبه كيف شاء». والمراد برؤوس العباد نفوسهم الناطقة وعقولهم الهيولانيَّة، والمراد بجمع الله عقولهم جمع الله بواسطة ذلك المَلَك القدسي والجوهر العقلي عقولهم من جهة التعليم والإلهام، فإنَّ العقول الإنسانيَّة في أوَّل نشأتها منغمرة في طبائع الأبدان، متفرِّقة في الحواسِّ، متشوِّقة إلى الأغراض والشهوات، محبوسة في سجون الأماني وشُعَب الرِّغبات، ثمّ إذا ساعده التوفيق وتنبَّه بأنَّ وراء هذه النشأة نشأة أُخرى علم ذاته وعرف نفسه واستكمل بالعلم والحال، وارتقى إلى معدنه الأصلي، وعاد من مقام التفرقة والكثرة إلى مقام الجمعيَّة والوحدة، ولـمَّا ثبت وتقرَّر أنَّ النفوس الإنسانيَّة من زمن آدم (عليه السلام) إلى الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت متدرِّجة في التلطُّف ومترقِّبة في الاستعداد، وكذلك كلَّما جاء رسول كانت معجزة المتأخِّر أقرب إلى المعقول من المحسوس من معجزة المتقدِّم، ولأجل ذلك كانت معجزة نبيِّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القرآن وهو أمر عقلي إنَّما يعرف كونه إعجازاً أصحاب العقول الذكيَّة، ولو كان منزلاً على الأُمَم السابقة لم يكن حجَّة عليهم، لعدم استعدادهم لدركه. ثمّ من بعثته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) آخر الزمان كانت الاستعدادات في الترقِّى والنفوس في التلطُّف والتذكِّي، ولهذا لا يحتاجون إلى رسول آخر يكون حجَّة الله عليهم، لأنَّ الحجَّة عليهم هي العقل الذي هو الرسول الداخلي، ففي آخر الزمان يترقَّى الاستعدادات من النفوس إلى حدٍّ لا يحتاجون إلى معلِّم من خارج على الرسم المعهود بين الناس، لأنَّهم مكتفون بالإلهام النفسي عن التأدُّب الوضعي وبالمدد الداخلي عن المؤدِّب الخارجي، وبالمكمِّل العقلي عن المعلِّم الحسِّي كما لسائر الأولياء. فيد الله وهو مَلَك روحاني يجمع عقولهم ويكمل أحلامهم. هذا كلامه، وفيه نظر، أمَّا أوَّلاً فلأنَّ ترقِّي العقول على الوجه المذكور غير مسلَّم، ولو كان كذلك لكان الاختلاف بعد نبيِّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أقلّ من الاختلاف في الأُمَم السالفة، وقد دلَّت الأخبار المتكاثرة على عكس ذلك. وأمَّا ثانياً فلأنَّ المقصود من هذا الحديث أنَّ تكميل العقول في آخر الزمان بواسطة معلِّم حسِّي وهو الصاحب (عليه السلام)، وما ذكره يدلُّ على أنَّهم لا يحتاجون إلى معلِّم حسِّي أصلاً. وأمَّا ثالثاً فلأنَّه وإنْ أمكن حمل اليد هنا على المَلَك لكن لا حاجة لنا تدعو إليه، لأنَّ إعانة أيِّ مَلَك وتسديده أقوى وأحسن من إعانة الصاحب وتسديده (عليه السلام)).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 1/ ص 80): (قوله (عليه السلام): «وضع الله يده»: الضمير في قوله: «يده»، إمَّا راجع إلى الله أو إلى القائم (عليه السلام)، وعلى التقديرين كناية عن الرحمة والشفقة أو القدرة والاستيلاء، وعلى الأخير يحتمل الحقيقة. قوله (عليه السلام): «فجمع بها عقولهم»، يحتمل وجهين: أحدهما: أنَّه يجعل عقولهم مجتمعة على الإقرار بالحقِّ فلا يقع بينهم اختلاف، ويتَّفقون على التصديق، وثانيهما: أنَّه يجتمع عقل كلِّ واحد منهم ويكون جمعه باعتبار مطاوعة القوى النفسانية للعقل، فلا يتفرَّق لتفرُّقها. كذا قيل، والأوَّل أظهر. والضمير في (بها) راجع إلى اليد، وفي (به) إلى الموضع، أو إلى القائم (عليه السلام). والأحلام جمع الحِلم - بالكسر -، وهو العقل).

(٤٧٦)

جَعْفَرٍ [البَاقِرِ] (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا قَامَ قَائِمُنَا (عليه السلام) وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُؤُوسِ العِبَادِ، فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ، وَكَمَلَتْ بِهَا أَحْلَامُهُمْ»(1037).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1037) أي زاد الله في دماغهم، فأكمل شعورهم وفكرهم بقدرته الكاملة. والخبر رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 25/ كتاب العقل والجهل/ ح 21)، والراوندي في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 840/ ح 57).

(٤٧٧)

[572/32] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ القَاسِمُ بْنُ العَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنِي القَاسِمُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ المَرْوَزِيُّ(1038)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدٍ(1039) عِمْرَانُ ابْنُ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ القَاسِمِ الرَّقَّامِ، قَالَ: حَدَّثَنِي القَاسِمُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ(1040)، قَالَ: كُنَّا فِي أَيَّامِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام)(1041) بِمَرْوَ، فَاجْتَمَعْنَا فِي الجَامِعِ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بَدْءِ مَقْدَمِنَا، فَأَدَارُوا أَمْرَ الإِمَامَةِ وَذَكَرُوا كَثْرَةَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا، فَدَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي (عليه السلام) فَأَعْلَمْتُهُ خَوَضَانَ النَّاسِ، فَتَبَسَّمَ (عليه السلام)، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَبْدَ العَزِيزِ بْنَ مُسْلِمٍ، جَهِلَ القَوْمُ وَخُدِعُوا عَنْ أَدْيَانِهِمْ، إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّهُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنَ فِيهِ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ، بَيَّنَ فِيهِ الحَلَالَ وَالحَرَامَ، وَالحُدُودَ وَالأَحْكَامَ، وجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ كَمَلاً، فَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، وَأَنْزَلَ فِي حِجَّةِ الوَدَاعِ وَهِيَ آخِرُ عُمُرِهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3]، فَأَمْرُ الإِمَامَةِ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ، وَلَمْ يَمْضِ (عليه السلام) حَتَّى بَيَّنَ لِأُمَّتِهِ مَعَالِمَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1038) في العيون: (أبو أحمد القاسم بن محمّد بن عليٍّ الهروي).
(1039) في بعض النُّسَخ: (أبو ماجد).
(1040) هو وأخوه مجهولان لا يُعرَفان ولا يُذكران إلَّا في طريق هذه الرواية. ويُعرَف منها مرتبتهما في التشيُّع سيّما عبد العزيز.
(1041) في بعض النُّسَخ: (كنَّا مع الرضا (عليه السلام)).

(٤٧٨)

دِينِهِمْ وَأَوْضَحَ لَهُمْ سَبِيلَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ عَلَى قَصْدِ الحَقِّ، وَأَقَامَ لَهُمْ عَلِيًّا (عليه السلام) عَلَماً وَإِمَاماً، وَمَا تَرَكَ شَيْئاً تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الأُمَّةُ إِلَّا بَيَّنَهُ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) لَمْ يُكْمِلْ دِينَهُ فَقَدْ رَدَّ كِتَابَ اللهِ العَزِيزِ، وَمَنْ رَدَّ كِتَابَ اللهِ [(عزَّ وجلَّ)] فَهُوَ كَافِرٌ، هَلْ تَعْرِفُونَ قَدْرَ الإِمَامَةِ وَمَحَلَّهَا مِنَ الأُمَّةِ فَيَجُوزُ فِيهَا اخْتِيَارُهُمْ؟
إِنَّ الإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً، وَأَعْظَمُ شَأْناً، وَأَعْلَى مَكَاناً، وَأَمْنَعُ جَانِباً، وَأَبْعَدُ غَوْراً مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ، إِنَّ الإِمَامَةَ خَصَّ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهَا إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلَ (عليه السلام) بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالخُلَّةِ مَرْتَبَةً ثَالِثَةً، وَفَضِيلَةً شَرَّفَهُ بِهَا وَأَشَادَ بِهَا ذِكْرَهُ(1042)، فَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾، فَقَالَ الخَلِيلُ (عليه السلام) سُرُوراً بِهَا: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]، فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ، ثُمَّ أَكْرَمَهَا اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِأَنْ جَعَلَهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ أَهْلِ الصَّفْوَةِ وَالطَّهَارَةِ، فَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 72 و73]، فَلَمْ يَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِ يَرِثُهَا بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّى وَرِثَهَا النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقَالَ اللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 68]، فَكَانَتْ لَهُ خَاصَّةً، فَقَلَّدَهَا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَلِيًّا (عليه السلام) بِأَمْرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) عَلَى رَسْمِ مَا فَرَضَهَا اللهُ (عزَّ وجلَّ)، فَصَارَتْ فِي ذُرِّيَّتِهِ الأَصْفِيَاءُ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللهُ العِلْمَ وَالإِيمَانَ، لِقَوْلِهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ [وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ]﴾ [الروم: 56]، فَهِيَ فِي وُلْدِ عَلِيٍّ (عليه السلام) خَاصَّةً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، إِذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَمِنْ أَيْنَ يَخْتَارُ هَؤُلَاءِ الجُهَّالُ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1042) الإشادة: رفع الصوت بالشيء.

(٤٧٩)

إِنَّ الإِمَامَةَ هِيَ مَنْزِلَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِرْثُ الأَوْصِيَاءِ، إِنَّ الإِمَامَةَ خِلَافَةُ اللهِ تَعَالَى وَخِلَافَةُ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَمَقَامُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، وَمِيرَاثُ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عليهم السلام).
إِنَّ الإِمَامَةَ زِمَامُ الدِّينِ، وَنِظَامُ المُسْلِمِينَ، وَصَلَاحُ الدُّنْيَا وَعِزُّ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ الإِمَامَةَ أُسُّ الإِسْلَامِ النَّامِي وَفَرْعُهُ السَّامِي، بِالإِمَامِ تَمَامُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالحَجِّ وَالجِهَادِ وَتَوْفِيرُ الفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ وَإِمْضَاءُ الحُدُودِ وَالأَحْكَامِ وَمَنْعُ الثُّغُورِ وَالأَطْرَافِ.
الإِمَامُ يُحِلُّ حَلَالَ اللهِ، وَيُحَرِّمُ حَرَامَ اللهِ، وَيُقِيمُ حُدُودَ اللهِ، وَيَذُبُّ عَنْ دِينِ اللهِ، وَيَدْعُو إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَالحُجَّةِ البَالِغَةِ.
الإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ لِلْعَالَمِ وَهِيَ فِي الأُفُقِ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهَا الأَيْدِي وَالأَبْصَارُ.
الإِمَامُ البَدْرُ المُنِيرُ، وَالسِّرَاجُ الزَّاهِرُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالنَّجْمُ الهَادِي فِي غَيَاهِبِ الدُّجَى(1043)، وَالبَلَدِ القِفَارِ(1044)، وَلُجَجِ البِحَارِ.
الإِمَامُ المَاءُ العَذْبُ عَلَى الظَّمَاءِ، وَالدَّالُّ عَلَى الهُدَى، وَالمُنْجِي مِنَ الرَّدَى.
الإِمَامُ النَّارُ عَلَى اليَفَاعِ، الحَارُّ لِمَنِ اصْطَلَى بِهِ(1045)، وَالدَّلِيلُ فِي المَهَالِكِ(1046)، مَنْ فَارَقَهُ فَهَالِكٌ.
الإِمَامُ السَّحَابُ المَاطِرُ، وَالغَيْثُ الهَاطِلُ(1047)، وَالشَّمْسُ المُضِيئَةُ، وَالسَّمَاءُ الظَّلِيلَةُ، وَالأَرْضُ البَسِيطَةُ، وَالعَيْنُ الغَزِيرَةُ، وَالغَدِيرُ وَالرَّوْضَةُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1043) الغيهب: الظلمة وشدَّة السواد. والدجى: الظلام.
(1044) القفر من الأرض: المفازة التي لا ماء فيها ولا نبات. وفي الكافي: (أجواز البلدان والقفار). وفي العيون: (البيد القفار). والبيداء: الفلاة.
(1045) اليفاع: ما ارتفع من الأرض.
(1046) في العيون: (المسالك).
(1047) الهاطل: المطر المتتابع المتفرِّق العظيم القطر.

(٤٨٠)

الإِمَامُ الأَمِينُ الرَّفِيقُ، وَالوَالِدُ الشَّفِيقُ(1048)، وَالأَخُ الشَّقِيقُ، وَمَفْزَعُ العِبَادِ فِي الدَّاهِيَةِ(1049).
الإِمَامُ أَمِينُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) فِي خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَخَلِيفَتُهُ فِي بِلَادِهِ، وَالدَّاعِي إِلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَالذَّابُّ عَنْ حُرَمِ اللهِ (عزَّ وجلَّ).
الإِمَامُ هُوَ المُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، المُبَرَّأُ مِنَ العُيُوبِ، مَخْصُوصٌ بِالعِلْمِ، مَوْسُومٌ بِالحِلْمِ، نِظَامُ الدِّينِ، وَعِزُّ المُسْلِمِينَ، وَغَيْظُ المُنَافِقِينَ، وَبَوَارُ الكَافِرِينَ.
الإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِهِ، لَا يُدَانِيهِ أَحَدٌ، وَلَا يُعَادِلُهُ عَالِمٌ، وَلَا يُوجَدُ مِنْهُ بَدَلٌ، وَلَا لَهُ مِثْلٌ وَلَا نَظِيرٌ، مَخْصُوصٌ بِالفَضْلِ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُ لَهُ وَلَا اكْتِسَابٍ، بَلِ اخْتِصَاصٌ مِنَ المُفْضِلِ الوَهَّابِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ أَوْ يُمْكِنُهُ اخْتِيَارُهُ؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، ضَلَّتِ العُقُولُ، وَتَاهَتِ الحُلُومُ، وَحَارَتِ الألبَابُ(1050)، وَحَسَرَتِ العُيُونُ، وَتَصَاغَرَتِ العُظَمَاءُ، وَتَحَيَّرَتِ الحُكَمَاءُ، وَحَصِرَتِ الخُطَبَاءُ، وَتَقَاصَرَتِ الحُلَمَاءُ، وَجَهِلَتِ الأَلِبَّاءُ، وَكَلَّتِ الشُّعَرَاءُ، وَعَجَزَتِ الأُدَبَاءُ، وَعَيِيَتِ البُلَغَاءُ، عَنْ وَصْفِ شَأْنٍ مِنْ شَأْنِهِ أَوْ فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ، فَأَقَرَّتْ بِالعَجْزِ [وَالتَّقْصِيرِ]، وَكَيْفَ يُوصَفُ أَوْ يُنْعَتُ بِكُنْهِهِ أَوْ يُفْهَمُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ أَوْ يَقُومُ أَحَدٌ مَقَامَهُ أَوْ يُغْنِي غِنَاهُ؟ لَا وَكَيْفَ وَأَنَّى وَهُوَ بِحَيْثُ النَّجْمُ مِنْ أَيْدِي المُتَنَاوِلِينَ، وَوَصْفِ الوَاصِفِينَ.
فَأَيْنَ الاِخْتِيَارُ مِنْ هَذَا؟ وَأَيْنَ العُقُولُ عَنْ هَذَا؟ وَأَيْنَ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا؟ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُوجَدُ فِي غَيْرِ آلِ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كَذَبَتْهُمْ وَاللهِ أَنْفُسُهُمْ، وَمَنَّتْهُمُ البَاطِلَ، فَارْتَقَوْا مُرْتَقاً صَعْباً دَحْضاً تَذُلُّ عَنْهُ إِلَى الحَضِيضِ أَقْدَامُهُمْ، وَرَامُوا إِقَامَةَ الإِمَامِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1048) في العيون: (والوالد الرقيق).
(1049) الداهية: الأمر العظيم.
(1050) الحلوم كالألباب: العقول. وضلَّت وحارت متقاربة المعنى.

(٤٨١)

بِعُقُولٍ حَائِرَةٍ نَاقِصَةٍ وَآرَاءٍ مُضِلَّةٍ، فَلَمْ يَزْدَادُوا مِنْهُ إِلَّا بُعْداً، قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
لَقَدْ رَامُوا صَعْباً، وَقَالُوا إِفْكاً، وَضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً، وَوَقَعُوا فِي الحَيْرَةِ إِذْ تَرَكُوا الإِمَامَ عَنْ بَصِيرَةٍ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ، رَغِبُوا عَنِ اخْتِيَارِ اللهِ وَاخْتِيَارِ رَسُولِهِ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَالقُرْآنُ يُنَادِيهِمْ: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القَصص: 68]، وَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36]، وَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ [القلم: 36 - 41]، وَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمّد: 24]، أَمْ طَبَعَ اللهُ ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 87]، أَمْ ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: 21 - 23]، أَمْ ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ [البقرة: 93]، بَلْ هُوَ بِفَضْلِ اللهِ ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الحديد: 21].
فَكَيْفَ لَهُمْ بِاخْتِيَارِ الإِمَامِ، وَالإِمَامُ عَالِمٌ لَا يَجْهَلُ، وَرَاعٍ لَا يَنْكُلُ(1051)، مَعْدِنُ القُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَالنُّسُكِ(1052) وَالزَّهَادَةِ، وَالعِلْمِ وَالعِبَادَةِ، مَخْصُوصٌ بِدَعْوَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1051) وراعٍ لا ينكل: أي حافظ للأُمَّة. وفي بعض النُّسَخ: (وداعٍ) بالدال. ولا ينكل: أي لا يضعف ولا يجبن.
(1052) في بعض النُّسَخ: (والسناء)، والصواب ما في المتن كما في الكافي والعيون.

(٤٨٢)

الرَّسُولِ، وَهُوَ نَسْلُ المُطَهَّرَةِ البَتُولِ، لَا مَغْمَزَ فِيهِ فِي نَسَبٍ، وَلَا يُدَانِيهِ [دَنَسٌ، لَهُ المَنْزِلَةُ الأَعْلَى لَا يَبْلُغُهَا] ذُو حَسَبٍ فِي البَيْتِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَالذِّرْوَةُ مِنْ هَاشِمٍ، وَالعِتْرَةُ مِنْ آلِ الرَّسُولِ، وَالرِّضَا مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، شَرَفُ الأَشْرَافِ، وَالفَرْعُ مِنْ آلِ عَبْدِ مَنَافٍ، نَامِي العِلْمِ(1053)، كَامِلُ الحِلْمِ، مُضْطَلِعٌ بِالإِمَامَةِ، عَالِمٌ بِالسِّيَاسَةِ، مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ، قَائِمٌ بِأَمْرِ اللهِ، نَاصِحٌ لِعِبَادِ اللهِ، حَافِظٌ لِدِينِ اللهِ (عزَّ وجلَّ).
إِنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالأَئِمَّةَ (عليهم السلام) يُوَفِّقُهُمُ اللهُ وَيُؤْتِيهِمْ مِنْ مَخْزُونِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَا يُؤْتِيهِ غَيْرَهُمْ، فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ فَوْقَ عِلْمِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ فِي قَوْلِهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس: 35]، وَقَوْلُهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الألبَابِ﴾ [البقرة: 269]، وَقَوْلُهُ (عزَّ وجلَّ) فِي طَالُوتَ: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 247]، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ [النساء: 113].
وَقَالَ (عزَّ وجلَّ) فِي الأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَعِتْرَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ(1054) (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ): ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً﴾ [النساء: 54 و55].
إِنَّ العَبْدَ إِذَا اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى لِأُمُورِ عِبَادِهِ يَشْرَحُ لِذَلِكَ صَدْرَهُ، وَأَوْدَعَ قَلْبَهُ يَنَابِيعَ الحِكْمَةِ، وَالهَمَهُ العِلْمَ الهَاماً، فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَهُ بِجَوَابٍ، وَلَا يُحِيرُ(1055) فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ، فَهُوَ مَعْصُومٌ مُؤَيَّدٌ، مُوَفَّقٌ، مُسَدَّدٌ، قَدْ أَمِنَ الخَطَأَ وَالزَّلَلَ وَالعِثَارَ، يَخُصُّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1053) في بعض النُّسَخ: (باقر العلم).
(1054) في بعض النُّسَخ: (وورَّاثه).
(1055) من أحار الجواب: أي لا يردُّه. وفي العيون: (ولا يحيد)، أي لا يميل.

(٤٨٣)

اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لِتَكُونَ حُجَّتَهُ البَالِغَةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَشَاهِدَهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الحديد: 21].
فَهَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَيَخْتَارُوهُ، أَوْ يَكُونُ خِيَارُهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيُقَدِّمُوهُ؟ تَعَدَّوْا - وَبَيْتِ اللهِ - الحَقَّ، وَنَبَذُوا كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَفِي كِتَابِ اللهِ الهُدَى وَالشِّفَاءُ، فَنَبَذُوهُ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ، فَذَمَّهُمُ اللهُ وَمَقَّتَهُمْ وَأَتْعَسَهُمْ.
فَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القَصص: 50]، وَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿فَتَعْساً(1056) لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمّد: 8]، وقَالَ: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: 35]»(1057).

* * *

هذا آخر الجزء الثاني من كتاب (كمال الدِّين وتمام النعمة في إثبات الغيبة وكشف الحيرة)، تصنيف الشيخ السعيد أبي جعفر محمّد بن عليِّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمِّي (قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه)، وبه كمل الكتاب وتمَّ.

والحمد لله ربِّ العالمين
وصلَّى الله على محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين المعصومين
وسلَّم تسليماً كثيراً
* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1056) التَّعس - بالفتح -: الهلاك.
(1057) رواه المصنِّف (رحمه الله) في أماليه (ص 773 - 779/ ح 1049/1)، ومعاني الأخبار (ص 96 -101/ ح 2)، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 195 - 200/ باب 20/ ح 1)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 198 - 203/ باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته/ ح 1)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 225 - 231/ باب 13/ ح 6)، وابن شعبة (رحمه الله) في تُحَف العقول (ص 436 - 442)، والطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 226 - 230).

(٤٨٤)

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.
2 - إثبات الوصيَّة للإمام عليِّ بن أبي طالب: عليُّ بن الحسين بن عليٍّ الهذلي المسعودي/ ط 3/ 1426هـ/ أنصاريان/ قم.
3 - الاحتجاج: أحمد بن عليٍّ الطبرسي/ تعليق وملاحظات: السيِّد محمّد باقر الخرسان/ 1386هـ/ دار النعمان/ النجف الأشرف.
4 - أخبار مكَّة وما جاء فيها من الآثار: محمّد بن عبد الله الأزرقي/ تحقيق: رشدي الصالح ملحس/ ط 1/ 1411هـ/ انتشارات الشريف الرضي.
5 - الاختصاص: الشيخ المفيد/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري والسيِّد محمود الزرندي/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد للطباعة والنشر/ بيروت.
6 - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): الشيخ الطوسي/ تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي/ 1404هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.
7 - إرشاد القلوب: الحسن بن محمّد الديلمي/ ط 2/ 1415هـ/ انتشارات الشريف الرضي.
8 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
9 - الاستبصار: الشيخ الطوسي/ تحقيق: حسن الخرسان/ ط 4/ 1363ش/ مطبعة خورشيد/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
10 - الاستنصار في النصِّ على الأئمَّة الأطهار: أبو الفتح محمّد بن عليِّبن عثمان الكراجكي/ ط 2/ 1405هـ/ دار الأضواء/ بيروت.

(٤٨٥)

11 - الاستيعاب: ابن عبد البرِّ/ تحقيق: عليّ محمّد البجاوي/ ط 1/ 1412هـ/ دار الجيل/ بيروت.
12 - أُسد الغابة: عزُّ الدِّين ابن الأثير/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
13 - الاعتقادات في دين الإماميَّة: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عصام عبد السيِّد/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
14 - أعلام النبوَّة: أبو حاتم الرازي/ ط 2/ 1381ش/ مؤسَّسة حكمت و فلسفة/ طهران.
15 - أعلام النبوَّة: عليُّ بن محمّد البغدادي الماوردي/ ط 1/ 1409هـ/ مكتبة الهلال/ بيروت.
16 - إعلام الورى بأعلام الهدى: الفضل بن الحسن الطبرسي/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
17 - الأغاني: أبو الفرج الأصفهاني/ دار إحياء التراث العربي.
18 - الأمالي: الشريف المرتضى/ ط 1/ 1325هـ/ تصحيح وتعليق: السيِّد محمّد بدر الدِّين النعساني الحلبي/ منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي.
19 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ ط 1/ 1417هـ/ مركز الطباعة والنشر في مؤسَّسة البعثة/ قم.
20 - الأمالي: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1414هـ/ دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع/ قم.
21 - الأمالي: الشيخ المفيد/ تحقيق: حسين الأُستادولي وعليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
22 - الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط 1/ 1404هـ/ مدرسة الإمام الهادي (عليه السلام)/ قم.

(٤٨٦)

23 - إمتاع الأسماع بما للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع: تقيُّ الدِّين أحمد بن عليّ بن عبد القادر بن محمّد المقريزي/ تحقيق وتعليق: محمّد عبد الحميد النميسي/ ط 1/ 1420هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
24 - الأمثال: أبو عبيد القاسم بن سلَّام/ حقَّقه وعلَّق عليه وقدَّم له: عبد المجيد قطامش/ ط 1/ 1400هـ/ دار المأمون للتراث.
25 - أنساب الأشراف: البلاذري/ تحقيق: محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1394هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
26 - الأوائل: أبو هلال العسكري/ تحقيق وتصحيح: محمّد السيِّد الوكيل/ ط 1/ 1408هـ/ دار البشير/ طنطا.
27 - إيضاح الاشتباه: العلَّامة الحلِّي/ تحقيق: الشيخ محمّد الحسُّون/ ط 1/ 1411هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
28 - بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار: العلَّامة المجلسي/ تحقيق: يحيى العابدي الزنجاني وعبد الرحيم الربَّاني الشيرازي/ ط 2/ 1403هـ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
29 - بحر الجواهر (معجم الطبّ الطبيعي): محمّد بن يوسف الهروي/ ط 1/ 1387هـ/ الناشر: جلال الدِّين/ قم.
30 - البداية والنهاية: ابن كثير/ تحقيق وتدقيق وتعليق: عليّ شيري/ ط 1/ 1408هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
31 - بشارة المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لشيعة المرتضى (عليه السلام): محمّد بن أبي القاسم الطبري/ تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني/ ط 1/ 1420هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
32 - بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمّد (عليهم السلام): محمّد بن الحسن

(٤٨٧)

ابن فرُّوخ (الصفَّار)/ تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا حسن كوجه باغي/ 1404هـ/ منشورات الأعلمي/ طهران.
33 - تاج العروس: مرتضى الزبيدي/ تحقيق: عليّ شيري/ 1414هـ/ دار الفكر/ بيروت.
34 - تاريخ آل زرارة: أبو غالب الزراري/ إعداد: السيِّد محمّد عليّ الموحِّد الأبطحي/ ط ربَّاني.
35 - تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس: الشيخ حسين بن الحسن الرياربكري/ دار الصادر/ بيروت.
36 - تاريخ الطبري (تاريخ الأُمَم والملوك): محمّد بن جرير الطبري/ ط 4/ 1403هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
37 - تاريخ اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب الكاتب العبَّاسي المعروف باليعقوبي/ دار صادر/ بيروت.
38 - تاريخ بغداد أو مدينة السلام: الخطيب البغدادي/ دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا/ ط 1/ 1417هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
39 - تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ تحقيق: عليّ شيري/ 1415هـ/ دار الفكر/ بيروت.
40 - تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة: السيِّد شرف الدِّين عليّ الحسيني الأسترآبادي/ ط 1/ 1407هـ/ مدرسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
41 - تُحَف العقول عن آل الرسول: ابن شعبة الحرَّاني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
42 - التدوين في أخبار قزوين: عبد الكريم الرافعي/ تحقيق: عزيز الله عطاردي قوچاني/ ط 1/ 1408هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

(٤٨٨)

43 - تذكرة الخواصِّ: سبط ابن الجوزي/ ط 1/ 1418هـ/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
44 - تصحيح اعتقادات الإماميَّة: الشيخ المفيد/ تحقيق: حسين دركاهي/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
45 - تفسير الثعلبي (الكشف والبيان عن تفسير القرآن): الثعلبي/ تحقيق: أبو محمّد بن عاشور/ مراجعة وتدقيق: نظير الساعدي/ ط 1/ 1422هـ/ دار إحياء التراث العربي.
46 - تفسير الطبراني: الطبراني/ ط 1/ 2008م/ دار الكتاب الثقافي/ الأُردن.
47 - تفسير العيَّاشي: محمّد بن مسعود العيَّاشي/ تحقيق: السيِّد هاشم الرسولي المحلَّاتي/ المكتبة العلميَّة الإسلاميَّة/ طهران.
48 - تفسير القمِّي: عليُّ بن إبراهيم القمِّي/ تصحيح وتعليق وتقديم: السيِّد طيِّب الموسوي الجزائري/ ط 3/ 1404هـ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.
49 - تفسير فرات الكوفي: فرات بن إبراهيم الكوفي/ تحقيق: محمّد كاظم/ ط 1/ 1410هـ/ مؤسَّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي/ طهران.
50 - تقريب التهذيب: ابن حجر العسقلاني/ دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا/ ط 2/ 1415هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
51 - تقريب المعارف: أبو الصلاح الحلبي/ تحقيق: فارس الحسُّون/ ط 1417هـ.
52 - تلبيس إبليس: ابن الجوزي/ دراسة وتحقيق: أحمد بن عثمان المزيد/ ط 1/ 1423هـ/ دار الوطن/ الرياض.

(٤٨٩)

53 - تنبيه الخواطر (مجموعة ورَّام): ورَّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ دار الكُتُب الإسلاميَّة.
54 - تنقيح المقال في علم الرجال: عبد الله المامقاني/ تحقيق: الشيخ محمّد رضا المامقاني/ ط 1/ 1431هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
55 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ تحقيق وتعليق: السيِّد حسن الموسوي الخرسان/ ط 3/ 1364هـ/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
56 - تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني/ ط 1/ 1404هـ/ دار الفكر/ بيروت.
57 - تهذيب اللغة: أبو منصور محمّد بن أحمد الأزهري/ ط 1/ 1421هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
58 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ تحقيق وتصحيح: هاشم حسيني طهراني/ ط 1/ جماعة المدرِّسين في الحوزة العلميَّة/ قم.
59 - الثاقب في المناقب: ابن حمزة الطوسي/ تحقيق: نبيل رضا علوان/ ط 2/ 1412هـ/ مؤسَّسة أنصاريان/ قم.
60 - الثقات: محمّد بن حبَّان بن أحمد أبي حاتم التميمي البستي/ ط 1/ 1393هـ/ مؤسَّسة الكُتُب الثقافيَّة.
61 - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد مهدي الخرسان/ ط 2/ 1368ش/ مطبعة أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
62 - جامع الرواة وإزاحة الشُّبُهات عن الطُّرُق والإسناد: محمّد بن عليٍّ الأردبيلي الغروي الحائري/ مكتبة المحمّدي.
63 - الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير: جلال الدِّين السيوطي/ ط 1/ 1401هـ/ دار الفكر/ بيروت.

(٤٩٠)

64 - جمهرة الأمثال: أبو هلال العسكري/ تحقيق وتصحيح: محمّد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش/ 1420هـ/ دار الفكر ودار الجيل/ بيروت.
65 - الحكمة الخالدة (جاويدان خرد): أحمد بن محمّد مسكويه الرازي/ ط 1/ 1358هـ/ طهران.
66 - الخرائج والجرائح: قطب الدِّين الراوندي/ بإشراف: السيِّد محمّد باقر الموحِّد الأبطحي/ ط 1/ 1409هـ/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
67 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1362ش/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
68 - خصائص الأئمَّة (عليهم السلام): الشريف الرضي/ تحقيق: محمّد هادي الأميني/ 1406هـ/ مجمع البحوث الإسلاميَّة/ الآستانة الرضويَّة المقدَّسة/ مشهد.
69 - خلاصة الأقوال: العلاَّمة الحلِّي/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة نشر الفقاهة.
70 - خلاصة تهذيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال: صفي الدِّين أحمد ابن عبد الله الخزرجي الأنصاري اليمني/ قدَّم له واعتنى بنشره: عبد الفتَّاح أبو غدَّة/ ط 4/ 1411هـ/ مكتب المطبوعات الإسلاميَّة بحلب/ دار البشائر الإسلاميَّة.
71 - الدُّرُّ المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدِّين السيوطي/ دار المعرفة/ بيروت.
72 - الدُّرُّ النظيم: يوسف بن حاتم الشامي المشغري العاملي/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

(٤٩١)

73 - دلائل الإمامة: محمّد بن جرير الطبري الشيعي/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسَّسة البعثة/ قم.
74 - دلائل النبوَّة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: أحمد بن الحسين البيهقي/ وثَّق أُصوله وخرَّج حديثه وعلَّق عليه: عبد المعطي قلعجي/ ط 1/ 1405هـ/ دار الكتب العلميَّة/ بيروت.
75 - ديوان السيِّد الحميري: السيِّد الحميري/ تحقيق وتصحيح: ضياء حسين الأعلمي/ ط 1/ 1420هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
76 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة: آغا بزرك الطهراني/ ط 3/ 1403هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
77 - رجال ابن داود: ابن داود الحلِّي/ تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم/ 1392هـ/ منشورات المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
78 - رجال الطوسي: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.
79 - رجال النجاشي (فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة): أبو العبَّاس أحمد ابن عليّ بن أحمد بن العبَّاس النجاشي الأسدي الكوفي/ ط 5/ 1416هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
80 - الرجال: ابن الغضائري/ تحقيق: السيِّد محمّد رضا الجلالي/ ط 1/ 1422هـ/ دار الحديث.
81 - الرسالة العلويَّة في فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) على سائر البريَّة: أبو الفتح الكراجكي/ تحقيق: السيِّد عبد العزيز الحكيمي/ ط 1/ 1427هـ/ دليل ما/ قم.
82 - روضة المتَّقين في شرح من لا يحضره الفقيه: محمّد تقي المجلسي

(٤٩٢)

(الأوَّل)/ نمَّقه وعلَّق عليه وأشرف على طبعه: السيِّد حسين الموسوي الكرماني والشيخ عليّ پناه الاشتهاردي/ بنياد فرهنگ إسلامي حاجّ محمّد حسين كوشانپور.
83 - روضة الواعظين: محمّد بن الفتَّال النيسابوري/ تقديم: السيِّد محمّد مهدي السيِّد حسن الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
84 - السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان: السيِّد بهاء الدِّين عليّ بن عبد الكريم بن عبد الحميد الحسيني النيلي النجفي/ تحقيق: قيس العطَّار/ ط 1/ 1426هـ/ دليل ما/ قم.
85 - سُنَن ابن ماجة: أبو عبد الله محمّد بن يزيد القزويني (ابن ماجة)/ تحقيق وترقيم وتعليق: محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر.
86 - سُنَن البيهقي: البيهقي/ دار الفكر/ بيروت.
87 - سُنَن الترمذي: أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي/ تحقيق وتصحيح: عبد الوَّهاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1403هـ/ دار الفكر/ بيروت.
88 - سُنَن الدارقطني: عليُّ بن عمر الدارقطني/ تعليق وتخريج: مجدي بن منصور سيِّد الشوري/ ط 1/ 1417هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
89 - سُنَن النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن عليّ بن بحر النسائي/ ط 1/ 1348هـ/ دار الفكر/ بيروت.
90 - سيرة ابن إسحاق (السِّيَر والمغازي): محمّد بن إسحاق المطلبي (ابن إسحاق)/ تحقيق: محمّد حميد الله/ معهد الدراسات والأبحاث للتعريف.
91 - السيرة النبويَّة: ابن هشام الحميري/ تحقيق وضبط وتعليق: محمّد محيي الدِّين عبد الحميد/ 1383هـ/ مكتبة محمّد عليّ صبيح وأولاده/ مصر.
92 - السيرة النبويَّة: أبو الفداء إسماعيل بن كثير/ تحقيق: مصطفى عبد

(٤٩٣)

الواحد/ 1396هـ/ دار المعرفة/ بيروت.
93 - شرح أُصول الكافي: مولى محمّد صالح المازندراني/ تعليق: الميرزا أبو الحسن الشعراني/ ضبط وتصحيح: السيِّد عليّ عاشور/ ط 1/ 1421هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
94 - شرح الأخبار في فضائل الأئمَّة الأطهار: القاضي النعمان المغربي/ تحقيق: السيِّد محمّد الحسيني الجلالي/ ط 2/ 1414هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
95 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي/ تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط 1/ 1378هـ/ دار إحياء الكُتُب العربيَّة.
96 - شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: عبيد الله بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني/ تحقيق: الشيخ محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1411هـ/ مؤسَّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي.
97 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربيَّة): إسماعيل بن حمَّاد الجوهري/ تحقيق: أحمد عبد الغفور العطَّار/ ط 4/ 1407هـ/ دار العلم للملايين/ بيروت.
98 - صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي/ 1401هـ/ دار الفكر/ بيروت.
99 - صحيح مسلم: مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
100 - العدد القويَّة لدفع المخاوف اليوميَّة: عليُّ بن يوسف المطهَّر الحلِّي/ تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي/ إشراف: السيِّد محمود المرعشي/ ط 1/ 1408هـ/ مكتبة آية الله المرعشي/ قم.
101 - العسل المصفَّى من تهذيب زين الفتى: أحمد بن محمّد بن عليٍّ

(٤٩٤)

العاصمي/ هذَّبه وعلَّق عليه: الشيخ محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1418هـ/ مجمع إحياء الثقافة الإسلاميَّة/ قم.
102 - عقد الدُّرَر: يوسف بن يحيى المقدسي/ انتشارات نصائح.
103 - العقد الفريد: أحمد بن محمّد بن عبد ربِّه الأندلسي/ تحقيق وتصحيح: مفيد محمّد قميحة/ ط 1/ 1404هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
104 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.
105 - عمدة الطالب في أنساب أبي طالب: أحمد بن عليٍّ الحسيني (ابن عنبة)/ تصحيح: محمّد حسن آل الطالقاني/ ط 2/ 1380هـ/ منشورات المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
106 - عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب الإمام الأبرار: يحيى بن الحسن الأسدي الحلِّي المعروف بابن البطريق/ 1407هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
107 - العين: الخليل الفراهيدي/ ط 2/ 1409هـ/ مؤسَّسة دار الهجرة.
108 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق/ تحقيق: حسين الأعلمي/ 1404هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
109 - غريب الحديث: أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي/ تحقيق: محمّد عبد المعيد خان/ ط 1/ 1384هـ/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
110 - غريب الحديث: أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري/ ط 1/ 1408هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
111 - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني/ تحقيق: فارس حسُّون كريم/ ط 1/ 1422هـ/ أنوار الهدى.

(٤٩٥)

112 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
113 - الفتن: أبو عبد الله نعيم بن حمَّاد المروزي/ تحقيق وتقديم: سهيل زكار/ 1414هـ/ دار الفكر/ بيروت.
114 - فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين: إبراهيم بن محمّد الجويني الخراساني/ ط 1/ 1400هـ/ مؤسَّسة المحمودي/ بيروت.
115 - فِرَق الشيعة: الحسن بن موسى النوبختي/ 1404هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
116 - الفَرْق بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية: عبد القاهر بن طاهر البغدادي الأسفراييني/ ط 2/ 1977م/ دار الآفاق الجديدة/ بيروت.
117 - الفصول المختارة: الشيخ المفيد/ ط2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
118 - فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام): ابن عقدة الكوفي/ تحقيق وتصحيح: عبد الرزَّاق محمّد حسين حرز الدِّين/ ط 1/ 1424هـ/ دليل ما/ قم.
119 - فقه الرضا: عليُّ بن بابويه/ ط 1/ 1406هـ/ المؤتمر العالمي للإمام الرضا (عليه السلام)/ مشهد.
120 - الفهرست: الشيخ الطوسي/ تحقيق: جواد القيُّومي/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.
121 - الفهرست: منتجب الدِّين عليُّ بن بابويه الرازي/ تحقيق وتقديم: جلال الدِّين محدِّث أرموي/ ط 1366ش/ مطبعة مهر/ قم.
122 - القاموس المحيط: مجد الدِّين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي.
123 - قرب الإسناد: أبو العبَّاس عبد الله بن جعفر الحميري القمّي

(٤٩٦)

/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
124 - قَصص الأنبياء: قطب الدِّين الراوندي/ تحقيق: الميرزا غلام رضا عرفانيان اليزدي الخراساني/ ط 1/ 1418هـ/ انتشارات الهادي.
125 - الكافي: الشيخ الكليني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 5/ 1363هـ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
126 - كامل الزيارات: جعفر بن محمّد بن قولويه/ تحقيق: الشيخ جواد القيُّومي/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة نشر الفقاهة.
127 - الكامل في ضعفاء الرجال: عبد الله بن عدي/ تحقيق: يحيى مختار غزاوي/ ط 3/ 1409هـ/ دار الفكر/ بيروت.
128 - كتاب المؤمن: حسين بن سعيد الكوفي الأهوازي/ مدرسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
129 - كتاب سُلَيم: سُلَيم بن قيس الهلالي الكوفي/ تحقيق: محمّد باقر الأنصاري الزنجاني/ ط 1/ 1422هـ/ دليل ما.
130 - كشف الغمَّة في معرفة الأئمَّة: عليُّ بن أبي الفتح الإربلي/ ط 2/ 1405هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
131 - كفاية الأثر في النصِّ على الأئمَّة الاثني عشر: أبو القاسم عليُّ بن محمّد الخزَّاز القمّي الرازي/ تحقيق: السيِّد عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري الخوئي/ 1401هـ/ انتشارات بيدار.
132 - كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب (الخصائص الكبرى): جلال الدِّين السيوطي/ 1320هـ/ دار الكتاب العربي.
133 - كنز العُمَّال في سُنَن الأقوال والأفعال: علاء الدِّين عليّ المتَّقي بن حسام الدِّين الهندي البرهان فوري (المتَّقي الهندي)/ ضبط وتفسير: الشيخ بكري

(٤٩٧)

حيَّاني/ تصحيح وفهرسة: الشيخ صفوة السقَّا/ 1409هـ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
134 - كنز الفوائد: أبو الفتح محمّد بن عليٍّ الكراجكي/ ط 2/ 1369ش/ مكتبة المصطفوي/ قم.
135 - الكنى والألقاب: الشيخ عبَّاس القمِّي/ تقديم: محمّد هادي الأميني/ مكتبة الصدر/ طهران.
136 - اللباب في علوم الكتاب: أبو حفص عمر بن عليِّ بن عادل الدمشقي الحنبلي/ تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعليّ محمّد معوض/ ط 1/ 1419هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
137 - لسان العرب: أبو الفضل جمال الدِّين محمّد بن مكرم الإفريقي المصري (ابن منظور)/ 1405هـ/ نشر أدب الحوزة/ قم.
138 - مائة منقبة من مناقب أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب والأئمَّة من ولده (عليهم السلام): محمّد بن أحمد القمّي (ابن شاذان)/ إشراف: السيِّد محمّد باقر بن المرتضى الموحِّد الأبطحي/ ط 1/ 1407هـ/ مدرسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
139 - مجمع الأمثال: أحمد بن محمّد النيسابوري المعروف بالميداني/ 1366ش/ مؤسَّسة الطبع والنشر التابعة للآستانة الرضويَّة المقدَّسة.
140 - مجمع البحرين: الشيخ فخر الدِّين الطريحي/ ط 2/ 1362ش/ مرتضوي.
141 - مجمع البيان في تفسير القرآن: أمين الإسلام أبو عليٍّ الفضل بن الحسن الطبرسي/ قدَّم له: السيِّد محسن الأمين العاملي/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
142 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: عليُّ بن أبي بكر الهيثمي/ 1408هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

(٤٩٨)

143 - المحاسن: أحمد بن محمّد بن خالد البرقي/ تصحيح وتعليق: السيِّد جلال الدِّين الحسيني المحدِّث/ 1370هـ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
144 - مرآة العقول: العلَّامة المجلسي/ ط 2/ 1404هـ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة.
145 - مراصد الاطِّلاع على أسماء الأمكنة والبقاع: صفي الدِّين عبد المؤمن بن عبد الحقِّ البغدادي/ تحقيق وتعليق: عليّ محمّد البجاوي/ ط 1/ 1412هـ/ دار الجيل/ بيروت.
146 - مروج الذهب ومعادن الجوهر: عليُّ بن الحسين بن عليٍّ المسعودي/ ط 2/ 1404هـ/ منشورات دار الهجرة/ قم.
147 - المسائل العكبريَّة: الشيخ المفيد/ تحقيق: عليّ أكبر الإلهي الخراساني/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
148 - المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري/ إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
149 - المسترشد في إمامة أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام): محمّد بن جرير الطبري الشيعي/ تحقيق: الشيخ أحمد المحمودي/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسَّسة الثقافة الإسلاميَّة لكوشانبور.
150 - مسند أبو داود الطيالسي: سليمان بن داود بن الجارود الفارسي البصري الشهير بأبي داود الطيالسي/ دار المعرفة/ بيروت.
151 - مسند أبي يعلى: إسماعيل بن محمّد بن الفضل التميمي (أبو يعلى الموصلي)/ تحقيق: حسين سليم أسد/ دار المأمون للتراث.
152 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت، وط مؤسَّسة الرسالة/ ط 1/ 1416هـ.

(٤٩٩)

153 - المصابيح: أبو العبَّاس الحسني/ تحقيق: عبد الله بن عبد الله بن أحمد الحوثي/ ط 2/ 1423هـ/ مؤسَّسة الإمام زيد بن عليٍّ الثقافيَّة.
154 - مصادقة الإخوان: الشيخ الصدوق/ إشراف: السيِّد عليّ الخراساني الكاظمي/ مكتبة الإمام صاحب الزمان العامَّة.
155 - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1411هـ/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.
156 - المصنَّف: ابن أبي شيبة/ تحقيق وتعليق: سعيد اللحَّام/ ط 1/ 1409هـ/ دار الفكر/ بيروت.
157 - المصون في الأدب: أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري/ تحقيق: عبد السلام محمّد هارون/ 1960م/ دائرة المطبوعات والنشر في الكويت.
158 - المعارف: أبو محمّد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري/ تحقيق: ثروت عكاشة/ ط 2/ 1969م/ دار المعارف/ مصر.
159 - معالم العلماء: ابن شهرآشوب/ قم.
160 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1379هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
161 - المعجم الصغير: الطبراني/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
162 - المعجم الكبير: الطبراني/ تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي/ ط 2 مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.
163 - معرفة الثقات: أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي/ ط 1/ 1405هـ/ مكتبة الدار/ المدينة المنوَّرة.
164 - المعمَّرون من العرب: أبو حاتم سهل بن محمّد بن عثمان السجستاني البصري/ ط 1/ 1323هـ/ مطبعة السعادة/ مصر.

(٥٠٠)

165 - مقتضب الأثر: ابن عيَّاش الجوهري/ المطبعة العلميَّة/ مكتبة الطباطبائي/ قم.
166 - مقتل الحسين (عليه السلام): الموفَّق بن أحمد الخوارزمي/ تحقيق: الشيخ محمّد السماوي/ ط 2/ 1423هـ/ أنوار الهدى/ قم.
167 - المقنع: الشيخ الصدوق/ ت لجنة التحقيق التابعة لمؤسّسة الإمام الهادي (عليه السلام)/ 1415هـ/ مط اعتماد.
168 - مكارم أخلاق النبيِّ والأئمَّة (عليهم السلام): قطب الدِّين الراوندي/ تحقيق: حسين الموسوي/ ط 1/ 1430هـ/ العتبة العبَّاسيَّة المقدَّسة/ كربلاء.
169 - الملل والنحل: الشهرستاني/ دار المعرفة/ بيروت.
170 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
171 - مناحل الشفا ومناهل الصفا بتحقيق كتاب شرف المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أبو سعيد عبد المَلِك بن أبي عثمان محمّد بن إبراهيم الخركوشي النيسابوري/ ط 1/ 1424هـ/ دار البشائر الإسلاميَّة/ مكَّة المكرَّمة.
172 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهرآشوب/ 1376هـ/ المكتبة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
173 - مناقب الإمام أميرالمؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام): محمّد بن سليمان الكوفي/ تحقيق: الشيخ محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1412هـ/ مجمع إحياء الثقافة الإسلاميَّة/ قم.
174 - مناقب عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) وما نزل من القرآن في عليٍّ (عليه السلام): أحمد بن موسى بن مردويه الأصفهاني/ جمعه ورتَّبه وقدَّم له: عبد الرزَّاق محمّد حسين حرز الدِّين/ ط 2/ 1424هـ/ دار الحديث/ قم.

(٥٠١)

175 - مناقب عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام): عليُّ بن محمّد بن محمّد الواسطي الجُلَّابي الشافعي الشهير بابن المغازلي/ ط 1/ 1426هـ/ انتشارات سبط النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
176 - المناقب: الموفَّق بن أحمد بن محمّد المكّي الخوارزمي/ تحقيق: الشيخ مالك المحمودي/ ط 2/ 1414هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
177 - منع تدوين الحديث: السيِّد عليٍّ الشهرستاني/ ط 1/ 1420هـ/ مركز الأبحاث العقائديَّة/ قم.
178 - مهج الدعوات ومنهج العبادات: ابن طاوس/ كتابخانه سنائي.
179 - المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار: أحمد بن عليِّ بن عبد القادر العبيدي المقريزي/ ط 1/ 1418هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
180 - المواهب اللدنّيَّة بالمنح المحمّديَّة: أحمد بن محمّد القسطلاني/ قدَّم له: منيع عبد الحليم محمود/ شرحه وعلَّق عليه: أبو عمرو عماد زكي البارودي/ المكتبة التوفيقيَّة/ القاهرة.
181 - نسب معد واليمن الكبير: أبو منذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبي/ تحقيق: ناجي حسن/ ط 1/ 1425هـ/ عالم الكُتُب/ بيروت.
182 - النهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدِّين ابن الأثير/ تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمّد الطناحي/ ط 4/ 1364ش/ مؤسَّسة إسماعيليان/ قم.
183 - نهج البلاغة: خُطَب أمير المؤمنين (عليه السلام)/ ما اختاره وجمعه: الشريف الرضي/ تحقيق: الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387هـ، وبشرح محمّد عبدة/ ط 1/ 1412هـ/ دار الذخائر/ قم.
184 - نوادر المعجزات: الطبري (الشيعي)/ ط 1/ 1410هـ/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عليه السلام)/ قم.

(٥٠٢)

185 - الهداية الكبرى: الحسين بن حمدان الخصيبي/ ط 4/ 1411هـ/ مؤسَّسة البلاغ/ بيروت.
186 - الوافي بالوفيات: الصفدي/ تحقيق: أحمد الأرنؤوط وتركي مصطفى/ 1420هـ/ دار إحياء التراث.
187 - وقعة صفِّين: نصر بن مزاحم المنقري/ تحقيق وشرح: عبد السلام محمّد هارون/ ط 2/ 1382هـ/ المؤسَّسة العربيَّة الحديثة/ القاهرة.

* * *

(٥٠٣)