الإجابة: بسم الله الرحمن الرحيم
لابد أن يُعلم أنه لو كان معنى دعاء نبي الله سليمان (عليه السلام) أن يعطيه الله مُلكاً لا يعطيه لأحد من بعده، أي إنه اشترط في دعائه أن لا يؤتى مثل ما أوتيه من المُلك لأحد من العالمين غيره، فهذا يلزم منه أن نبي الله كان بخيلاً بدعائه هذا. وهذا لا يتناسب مع اعتقادنا بمنزلة الأنبياء (عليهم السلام).
وهذا المعنى أيضاً لا يتناسب مع اعتقادنا بأن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سوف تكون حكومته عالمية أوسع من مُلك سليمان (عليه السلام).
ولكن معنى دعائه (عجّل الله فرجه) هو طلب الاختصاص بمُلك حصل عليه لا أنه يسأل ملكاً اختصاصياً، بمعنى أن نبي الله سليمان (عليه السلام) طلب من الباري (عزَّ وجلَّ) أن يهب له مُلكاً مع معجزات خاصة كي يتميز ملكه عن بقية الممالك، لأننا نعرف أن لكل نبي معجزة خاصة به، فالنبي موسى (عليه السلام) معجزته العصا واليد البيضاء، والنبي إبراهيم (عليه السلام) معجزته عدم إحراق النار له بعد أن أُلقي فيها، ومعجزة النبي صالح (عليه السلام) الناقة الخاصة به، ومعجزة نبينا الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي القرآن المجيد، وسليمان (عليه السلام) كان ملكه مقترناً بالمعجزات الإلهية كتسخير الرياح والشياطين له مع مميزات أخرى.
وهذا الأمر لا يعد عيباً أو نقصاً بالنسبة للأنبياء الذين يطلبون من الله أن يؤيدهم بمعجزة خاصة، كي يبرهنوا للناس على صدق نبوتهم، ولكي تتم الحجة على الناس.
ولهذا فلا يوجد أي مانع في أن يطلب الآخرون ملكاً أوسع وأكبر من ملك سليمان (عليه السلام)، ولكن لا تتوفر فيه الخصائص التي أعطيت لسليمان (عليه السلام).
والدليل على هذا الكلام الآيات التالية، والتي هي في الحقيقة تعكس استجابة الباري (عزَّ وجلَّ) لطلب سليمان (عليه السلام)، وتتحدث عن تسخير الرياح والشياطين له، وكما هو معروف فإن هذا الأمر هو من خصائص ملكه وهذه الخصائص بيّنتها الآيات وذكرت أنها عدّة أمور أولها قوله تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ وثانيها ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ وثالثها ﴿وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ﴾، ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. [ص: ٣٦-٣٩]
ومن هنا يتضح أن ما ذكرته الآيات والروايات من أن مُلك الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سيكون عالمياً وأوسع من مُلك سليمان (عليه السلام) لا يتعارض مع دعاء نبي الله سليمان (عليه السلام) فإن مُلك سليمان (عليه السلام) خاص به، وأمّا مُلك الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فهو من حيث الخصائص مختلف عن ملك سليمان (عليه السلام).
وخلاصة الأمر أن الدعاء لم يختص بزيادة ونقصان وتوسعة ملكه وطلب الاختصاص به، وإنما اختص الدعاء بكمال النبوة والذي يتمّ بوجود معجزات خصوصية، لتميزه عن نبوة غيره من الأنبياء (عليهم السلام) وسليمان (عليه السلام) كان طلبه منحصراً بهذا المجال.
ولقد ورد في بعض الروايات المنقولة عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) في رده على سؤال يقول: إن دعوة سليمان فيها بخل، إذ جاء في الحديث أن أحد المقربين من الإمام الكاظم (عليه السلام) وهو علي بن يقطين سأل الإمام قائلاً: أيجوز أن يكون نبي الله (عزَّ وجلَّ) بخيلاً؟ فقال: لا، فقلت له: فقول سليمان: (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص: ٣٥] ما وجهه ومعناه؟ فقال: المُلك ملكان: مُلك مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس ومُلك مأخوذ من قبل الله تعالى كمُلك آل إبراهيم ومُلك طالوت وذي القرنين فقال سليمان: (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أن يقول إنه مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس فسخّر الله (عزَّ وجلَّ) له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، وجعل غدوها شهراً ورواحها شهراً، وسخر الله (عزَّ وجلَّ) له الشياطين كل بنّاء وغوّاص، وعُلّم منطق الطير ومُكِّن له في الأرض، فعلم الناس في وقته وبعده أن ملكه لا يشبه ملك الملوك المختارين من قبل والمالكين بالغلبة والجور.
قال: فقلت له: فقول رسول الله: رحم الله أخي سليمان بن داود ما كان أبخله، فقال لقوله وجهان: أحدهما: ما كان أبخله بعرضه وسوء القول فيه، والوجه الآخر يقول: ما كان أبخله إن كان أراد ما كان يذهب إليه الجهال.
هذا كله إذا غضضنا النظر عن أن هذه الآية يمكن تفسيرها بما لا يتعارض مع عظمة ما عند الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، حيث إنه توجد عدة تفسيرات أخرى للآية الكريمة، نذكر منها التالي:
أولاً: إن المقصود من طلب الملك الذي لا ينبغي لأحد بعد سليمان (عليه السلام)، هو بمعنى إبقائه عنده وعدم سلبه عنه، (أي لا تسلبنه كما سلبته في الدفعة الأولى). [التبيان للشيخ الطوسي: ج٨، ص٥٦٣]
ثانياً: إن مقصوده هو الثواب الأخروي، ففي التبيان للشيخ الطوسي ج ٨ ص ٥٦٤: وقيل: إنه لا يمتنع أن يكون المراد أنه سأل ملك الآخرة وثواب الجنة الذي لا يناله المستحق إلّا بعد انقطاع التكليف....
وقريب منه ما جاء في تفسير مجمع البيان ونصه: وثالثها: ما قاله المرتضى (قدّس الله روحه): إنه يجوز أن يكون إنما سأل ملك الآخرة، وثواب الجنة، ويكون معنى قوله: ﴿لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ [ص: ٣٥]: لا يستحقه بعد وصولي إليه أحد من حيث لا يصلح أن يعمل ما يستحق به ذلك، لانقطاع التكليف. [تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: ج٨، ص٣٦٢]
ثالثاً: في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج ٨ ص ٣٦٢: إنه يجوز أن يكون التمس من الله تعالى آية لنبوته، يبين بها من غيره، وأراد لا ينبغي لأحد غيري ممن أنا مبعوث إليه، ولم يُرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين (عليهم السلام)، كما يقال: أنا لا أطيع أحداً بعدك أي: لا أطيع أحداً سواك.
رابعاً: في نفس المصدر: إنه التمس معجزة تختص به، كما أن موسى (عليه السلام) يختص بالعصا واليد البيضاء، واختص صالح بالناقة، ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمعراج والقرآن، ويدل عليه ما روي مرفوعاً عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه صلّى صلاة فقال: إن الشيطان عرض لي ليفسد عليَّ الصلاة، فأمكنني الله منه، فدفعته، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا وتنظروا إليه أجمعين، فذكرت قول سليمان ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ [ص: ٣٥] فردّه الله خاسئاً. أورده البخاري ومسلم في الصحيحين.
ثم أنه لابد أن يُعلم أيضاً أن كل ما حصل عليه سليمان (عليه السلام) من خصائص ومعجزات بل حتى باقي الأنبياء (عليهم السلام) هي موجودة عند الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مع فارق أن الأنبياء (عليهم السلام) كانوا قد استعملوا معجزاتهم، أمّا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فليس هناك من ضرورة تدعو إلى استعمال كل ما ورثه من تلك المعجزات، نعم، لو أراد استعمالها فستكون طوع أمره.
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)