ضرورة قيام الدولة العالمية ودور العولمة في ذلك
السيد محمد الشوكي
كان المجتمع الإنساني في بداياته الأولى يعيش ببساطة في علاقاته الاجتماعية والتجارية نتيجة لبدائيته وبساطة عيشه، إلّا أنه بمرور الزمان، وباتساع المجتمع الإنساني وتمدّده، وتعدّد حاجاته، وتعقيد علاقاته، بدا قيام نظام اجتماعي يرتّب علاقات الناس، وينظّم شؤون حياتهم، ويحل المشاكل التي تنتابهم، وهو ضرورة إنسانية لا مفر منها. ونتيجة لهذه الضرورة أخذت بوادر تشكيل الدولة والنظام تبدو شيئاً فشيئاً في المجتمع الإنساني، ومرّت بمراحل عديدة حتى وصلت الى ما هي عليه اليوم.
فالدولة ضرورة لا مناص منها في المجتمع البشري، لأنّ حياة الناس لا يمكن أنْ تستقيم بدون دولة تحكمهم وتدير أمورهم وتنظّم شؤونهم، وخصوصاً في العالم المعاصر الذي تعقدت فيه الحياة، وتشابكت العلاقات تشابكاً كبيراً.
وقد عرف المجتمع البشري أنماطاً وصيغاً متعددة للنظام والدولة. فبدأت الدولة مشوارها الطويل بالنظام القبلي الذي كان يعتمد على سلطة رئيس القبيلة وصلاحياته المتعددة التي كان يخضع لها الجميع. ثم انتقلت إلى طور الحكومة الدينية والمذهبية التي حكمت بقاعاً كثيرة من العالم في تأريخه الطويل، وبعد ذلك انتقلت إلى الطور القومي الذي لا يزال سائداً إلى اليوم، ومن ثم نشأت دول وحكومات بصيغ متعددة.
واليوم نشهد العالم يتجه نحو الدولة العالمية الموحدة، والى الانتماء العالمي بدل الانتماء القومي والوطني. وهذه نتيجة لابد للبشرية أنْ تصل إليها حسب الرؤية الإسلامية والتخطيط الإلهي.
فكما أنّ الناس كانوا أمّة واحدة تجمعها أهداف واحدة ومصير واحد، يحكمهم نظام واحد على الفطرة الإلهية الأولى في بداية انطلاق المجتمعات الإنسانية كما يحدّثنا القرآن الكريم: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ...﴾، ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.
فكذلك سوف يرجع الناس أمّة واحدة على الفطرة السليمة، يجمعهم النظام والرؤية والمصلحة الواحدة. لكنّها
أمة تختلف في حياتها عن بساطة الحياة الأولى وسذاجة عيشها وأفكارها وطموحاته، بل ستعود أمة واحدة متطورة على جميع المستويات.
وظهور الدولة العالمية الواحدة ليس مجرد طموح بل هو ضرورة لابد من العمل من أجل إنجازها. فالعالم لن يشهد الهدوء والاستقرار على هذا الكوكب ما لم يصل الى نظام عالمي ودولة عالمية واحدة، يعيش الجميع تحت ظله، ويقتسمون ثرواته، وينعمون بخدماتها سوية كالعائلة الواحدة التي تعيش تحت سقف بيت واحد، تجمعهم بالإضافة الى العلاقة الإنسانية وحدة العيش و وحدة المصير.
فما دامت الدول متعددة ومتباعدة فسوف لن تصل البشرية إلى ما تصبو إليه. لأن تضارب المصالح، وتباين المناهج، والاختلاف في القوة والضعف، والفقر والغنى، بالإضافة إلى نوازع الشر والأحقاد والعصبيات الموروثة هي السبب الوحيد في التنازع والتصارع والتجاوز بين الدول، وهي السبب في إشعال نار الحروب المدمرة التي صبغت تاريخ البشرية بالدماء على مدى التأريخ، ولن تحل هذه المشكلة إلا بقيام نظام عالمي ودولة عالمية واحدة.
فبقيامها ستُجتث كل أسباب وعوامل الصراع والنزاع بين المجتمعات الإنسانية. وسوف لن يكون هناك احتلال، لأنّ الإنسان لا يحتل أرضه، ولن يكون هناك سطو على خيرات الشعوب لأنّ الجميع شعب واحد وأمة واحدة، وسوف لن تكون هناك حروب لأنّ الخصائص الجغرافية والقومية، وحتى المذهبية سوف تفقد تأثيرها في الدولة الواحدة. فالكل يفكر بمصلحة بلده ككل، وبلده هو العالم كله.
ولو أنّ ما أنفق على الحروب والأزمات المتعددة بين الدول، وما صرف فيها من المال والجهد والوقت، صرف في سبيل إعمار الأرض وبناء المجتمع، لرأيت أنّ الكرة الأرضية تختلف عن حالها الراهن اختلافاً كبيراً. ولهذا نجد أنّ أشهر فلاسفة الغرب ومفكريهم أكدوا على هذا المسألة تأكيداً بالغ، وجعلوها الطريق الضروري لسعادة العالم.
فالفيزيائي الكبير (ألبرت انشتاين) يرى: (أنّ تعدد الحكومات سوف يجر العالم الى الدمار، وأن العالم أمام خيارين، إما أنْ يبقى على نظام الحكومات القومية الحالي، الذي سيجر الى دمار العالم، أو يقوم بتشكيل حكومة عالمية واحدة).
وأما الفيلسوف الإنجليزي المعروف (برتراند راسل) فيقول: (إنّ اليوم لا يوجد مشكلة كبيرة أمام قيام دولة عالمية عظيمة. ولأنّ ما تتركه الحروب المعاصرة من دمار كوني هو اكبر بكثير من السابق، فإمّا أنْ نقبل قيام دولة عالمية واحدة، أو نرجع إلى عصور البربرية، ونرضى بدمار البشرية).
وهكذا نرى ذلك واضحاً عند البروفيسور الإنجليزي (آرنولد توينبي)، حيث يرى: (بأنّ الطريق الوحيد للصلح ونجاة البشر هو قيام دولة عالمية واحدة، والوقوف أمام سباق التسلح النووي).
ونلمح ذلك عند الفيلسوف الألماني الشهير (كانت) حيث يقول: (إنّ تحقق الأمن والنظم العالمي منوط بوضع قانون عالمي موحد، وهو الأمر الذي نادى به الأنبياء من قديم الأزمان، وعملوا على تحقيقه).
فواضح من خلال كل تلك التصريحات أنّ قيام دولة عالمية واحدة يحكمها نظام عالمي واحد هو ليس مجرد طموح يتوق له الناس فحسب، وإنما هو ضرورة قصوى لابد أنْ يعمل الناس على تحقيقه، إنْ كان يهمهم مصير البشرية على هذا الكوكب الصاخب.
ومما لابد من الإشارة إليه أنّ هذه الدولة وهذا النظام لابد أنْ يكون نظاماً إلهي، مستمداً شريعته وشرعيته من الله تعالى، حتى يتجاوز الأخطاء الكثيرة التي أدت إليها النظم الأرضية، والعقبات التي وقفت أمامها. لأنّ النظم الأرضية البعيدة عن الله وتعاليمه هي نظم ناقصة بحسب طبيعتها لأنها ناتجة من الإنسان الذي يمثل النقص والحاجة، وهي نظم قاصرة عن أنْ توفر للإنسان سعادته التامة، لأنّ الكمال والسعادة الإنسانية لا تتحقق إلا بالارتباط بالله تبارك وتعالى، على كل الأصعدة والمستويات، وهذا ما توصل إليه كثير من المفكرين الغربيين، وما سيتوصلون إليه بعد ذلك عندما يرون أنهم لا غنى لهم عن الله ولا ملجأ منه إلّا إليه وإلى دينه، إلى الإسلام الذي أتى به نبيه الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول (صموئيل هنتغتون) في كتابه الشهير (صدام الحضارات): (لا آدم سميث ولا توماس جفرسون سيفي بالاحتياجات النفسية والعاطفية والأخلاقية للمهاجرين الجدد إلى المدينة، أو الجيل الأول من خريجي المدارس الثانوية، ولا المسيح قد يفي بها وإنْ كانت فرصته أكبر... على المدى الطويل... مُحَمَّدْ سينتصر).
وقد تحققت إلى درجة كبيرة أرضية وجود هكذا دولـة على مستوى الواقع وعلى مستوى الوعي البشري، من خلال ما أنتجه تيار العولمة والمعلوماتية. ولسنا ندّعي بأنّ البشرية باتت قريبة جداً من إنجاز هذا الطموح، إذ لا زالت كثير من العقبات السياسية والثقافية والمذهبية تقف حائلاً دون ذلك، ولكن كل ما نراه هو أنّ البشرية سائرة باتجاه ذلك الهدف الكبير بخطى حثيثة، وسيتم إنجازه إنْ شاء الله تبارك وتعالى - كما وعد - على يد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).