كيف يحكم الإمام (عجّل الله فرجه) إذا ظهر؟ (٢)
الشيخ محمد علي الدَكسن
يدور البحث هنا حول نقطتين:
النقطة الأولى: إصدار الأحكام ووضع القوانين والتعليمات في مختلف المجالات.
النقطة الثانية: القضاء بين الناس، سواء ترافع إليه الخصمان أم لم يترافعا.
وبالنسبة إلى النقطة الأولى، فقد ذكرنا أنّ جميع القوانين غير الإسلامية تلغى وتُهمل ولا يُعمل بها أبداً، وتأتي الأحكام الإسلامية المنبعثة عن القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وتسود العباد والبلاد وتطبّق على المجتمع.
وباختصار: فإنّ جميع الإنجازات والأحكام التي طبّقها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في شتى الميادين وفي المجالات كافة سوف يطبّقها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في عصره.
ويقوم (عجّل الله فرجه) بإنجازات أُخرى، وهي أيضاً في صميم الإسلام، كبناء الجسور والسدود، وتوسيع الطرق الرئيسة، وحفر الأنهار، ونصب المطاحن عليها، والسماح للناس بإحياء الأراضي الموات و الانتفاع مما خلق الله تعالى، كالمعادن على اختلاف أنواعها.
أمّا النقطة الثانية: فهي قضاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
إنّ قضاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بين الناس يمتاز عن قضاء أجداده الطاهرين (عليهم السلام) بمزيّةٍ خاصة وهي: أنه يحكم بعلمه وإطّلاعه بالحوادث والوقائع، ولا ينتظر شهادة الشهود، ولا الأدلة التي تثبت الادعاء.
والكلام هنا في نقطتين:
النقطة الأولى: ذكر الحديث المشهور المتواتر المروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أنْ تملأ ظلماً وجوراً.
هذا الحديث مروي في كتب الأحاديث مئات المرات بطرق كثيرة وعديدة بحيث لا يبقى مجال للشك في صحته.
فالإمام لا يتوقع منه أنْ ينتظر حتى يرفع المظلوم إليه الشكوى، ويطلب الإمام من المدعي إقامة البيّنة وإبراز المستمسكات والمستندات وأمثال ذلك لإثبات مدّعاه، كلا.. إذ قد لا يجد المدّعي الأدلة والبراهين لإثبات دعواه أو يعجز عن إثبات حقّه، أو لا يستطيع أنْ يزيّف ادعاءات الظالم.
ومن الممكن أنْ يقع الظلم في كثير من بقاع العالم، ولا يستطيع المظلمون أنْ يرفع أمره إلى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ومن الممكن أيضاً أنّ إنساناً قد يقتل ظلماً وسراً ولا يعلم أحد بقتله، ولا يعرف أحد قاتله، فيُهدر دمه، فكيف تملأ الأرض قسطاً وعدلاً!
ومن الطبيعي أنّ الإمام (عجّل الله فرجه) يريد أنْ يقضي على كل ظالم ويقلع كل جذور الجور في كل مكان وعن كل إنسان.
النقطة الثانية: لقد روي أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنّما اقضي بينكم بالأيمان والبيانات) ولعل المعنى الظاهر لهذا الحديث هو أنّ النبي لا يحكم بين الناس حسب علمه الشخصي واطلاعه الخاص، فمثلاً: لو أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) علم بعلم النبوة، أنّ فلاناً قد سرق، فإنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا يقيم عليه الحد، بل ينتظر شهادة الشهود، فإنْ قامت البينة على السارق بالسرقة أقام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عليه الحد.
هنا... ولو كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يحكم بين الناس حسب اطلاعه الشخصي لصار عمله سنّة وحجّة بين أمته.
إذن لجاز لكل قاضٍ وحاكم أنْ يقيم الحد على من شاء ويحكم على من يريد بما يريد وبلا مبالاة بالبيّنة والشهود، ويدّعي أنّه يحكم بعلمه الشخصي.
وبهذا يختل النظام، وتتفشّى الفوضى في حقل الحكم والقضاء وتختل المقاييس الفقهية المعرفية.
ولكن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) سد هذه الأبواب على قضاة السوء وحكّام الجور، لكي لا يستطيعوا أنْ يحكموا بين الناس حسب ميولهم وأهوائهم، ثم يدّعون أنهم يحكمون حسب معلوماتهم الشخصية.
أمّا الإمام المعصوم العدل، الذي لا يُخشى منه أنْ يميل في حكمه وقضائه إلى الهوى والباطل، ولا يُتصوّر في حقه وشأنه أي انحراف، فإنّه يجوز له أنْ يحكم حسب الشخصي بالقضايا، ولا ينتظر شهادة الشهود ولا إقامة البينة من المدّعي، ولا يرتّب أثراً على اليمين التي يأتي بها المدّعي أو المدّعى عليه سواء كانا صادقين أم كاذبين.
وانطلاقا من هاتين النقطتين فإنّ:
- الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
- يحكم (عجّل الله فرجه) بعلمه الشخصي.
فإنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يقيم الحد ويقتصّ ويعزّر من صدر منه ما يوجب القصاص أو التعزير، حتى إذا لم يشهد الشهود ولم تقم البيّنة.
وللتوضيح نذكر مثالين:
لو أنّ إنساناً شرب الخمر في بيته، ولم يره أحد حتى يشهد عليه، فإنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يعلم ذلك، بعلم الإمامة، ويقيم عليه حد شارب الخمر.
ولو أنّ إنساناً ارتكب جريمة يستحق عليها العقاب، فإنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) له أنْ يعاقبه على فعله، فعند ذلك يعلم كل من سوّلت له نفسه أنْ يرتكب خطيئة أو جريمة، بأنّ الإمام يطّلع على ما فعله بعلم الإمامة ويطبّق عليه قانون العقوبات.
وسيكون هذا هو الرادع القوي لكل من يريد ارتكاب الجرائم، وبهذا يتوّرع الناس عن كل انحراف، في جميع المجالات.
ومما يؤيد ذلك ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (بينا الرجل على رأس القائم (عليه السلام) أي واقف بجنبه يأمر وينهى، إذا أمر الإمام بضرب عنقه فلا يبقى بين الخافقين(المشرق والمغرب) شيء إلا خافه) (كتاب الغيبة للنعماني: ب١٣، ج٣٣)، وهذا الحديث صريح بأنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يعاقب كل من يستحق العقوبة حسب علم الإمامة، ولا ينتظر الترافع إليه.
هكذا تملأ الأرض قسطاً وعدلاً ولا يتجرّأ أحد على مخالفة القانون الإسلامي.
والأحاديث التي تشير إلى هذا المعنى كثيرة، ونذكر منها ما يلي: جاء في (وسائل الشيعة): قال الإمام الباقر (عليه السلام): إذا قام قائم آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) حكم بحكم داوود، ولا يسأل البيّة.
وجاء في (بحار الأنوار: ج٥٢)، قال الإمام الصادق (عليه السلام): لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل منّي يحكم بحكومة آل داوود (عليه السلام) ولا يسأل البينة، يعطي كل نفسٍ حقها، وفي رواية: يعطي كل نفس حكمها.
جـ- وجاء في (الغيبة للنعماني: باب٢٠)، قال (عليه السلام) - أي الإمام الصادق (عليه السلام) - في حديث له... (ثم يأمر منادياً ينادي: هذا المهدي يقضي بقضاء داوود وسليمان (عليهما السلام)، ولا يسأل على ذلك بينّة).
د- وجاء في (بحار الأنوار: ج٥٢، ص٣٣٩)، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): إذا قام الإمام قائم آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) حكم بين الناس بحكم داوود (عليه السلام)، لا يحتاج إلى بينةٍ، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه، ويخبر كل قومٍ بما استبطنوهُ (أي بما أخفوهُ وأضمروه).
والسؤال الآن هو: ما هو المقصود من حكم داوود (عليه السلام)؟
وفي الجواب نقول: ليس المقصود من حكم داوود (عليه السلام) شريعته، لأنّ جميع الشرائع التي كانت قبل الإسلام نُسِخت، وإنّما المقصود والله العالم، هو أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يحكم في القضايا حسب اطلاعه بالواقع وعلمه بالحق، ولا يعتمد على الظاهر، وهكذا كان النبي داوود (عليه السلام).
لقد حكم داوود (عليه السلام) فترة من الزمن بالواقع، وكانت الحقائق تنكشف له بإذن الله تعالى، وإنه لم يكن يبالي بقول المدّعي والمدّعى عليه.
وهناك سؤالٌ يقول: كيف يستطيع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أنْ يطبّق هذه العدالة في كل مكان وفي جميع البلدان، مع العلم أنه يعمل بعلمه في القضايا والمرافعات التي تقع في بلده؟
ويمكن الجواب على هذا السؤال، بقول الصادق (عليه السلام): إذا قام القائم (عليه السلام) بعث في أقاليم الأرض، في كل إقليم رجلاً يقول له الإمام (عليه السلام): عهدك في كفك، فإذا ورد عليك أمرٌ لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه، فانظر إلى (كفّك) واعمل بما فيها.. . (الغيبة للنعماني: باب٢١).
والحديث له ثلاث احتمالات:
الأول: إمّا أنْ يحمل على الإعجاز، بأنْ تظهر الأحكام الشرعية مكتوبةً على أكف الحكام، عند الحاجة إليها.
الثاني: وإمّا أنْ يكون المقصود من قوله (عليه السلام): (عهدك في كفّك)، جهاز اللاسلكي الذي يحمله رجال الشرطة وما شابه في كل مكانٍ ويتلقون الأوامر به من مركز القيادة، وهذا الجهاز يحمل بأيديهم على الأكثر.
الثالث: وإمّا أنْ يكون له معنى آخر يعلمه الله وسيكشف عنه بعد ظهوره (عجّل الله فرجه).
وخلاصة الحديث أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يكون على اتصال دائمٍ مع الحكّام الذين نصبّهم ووزعهم في جميع الأقاليم.