فلسفة انتظار الفرج
الدكتور محمد حسين علي الصغير
انتظار الفرج بمفهومه الرسالي يرسو على مستويين متعاضدين:
المستوى الأول: ويعنى بتوطين النفس ودربتها على تلقّي الأزمات بصدر رحب، وانفتاح على مكاره الزمن وعناء الشدائد، ويوحي بما يفرّج ذلك بعد أزمة خانقة.
وبذلك يتجلى مدى صبر الإنسان عند المعاناة، وتبدو درجة تمحيصه لدى هذا الاختبار الصعب، كما نطقت بذلك روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
فعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): ...لا يكون فرجنا حتى تغربلوا، ثم تغربلوا، ثم تغربلوا - يقولها ثلاثاً - حتى يذهب الله الكدر ويبقى الصفو.
وتحدّث جماعة عند الإمام محمد الباقر (عليه السلام) عن الحجة المنتظر (عجّل الله فرجه)، فالتفت إليهم قائلاً: هيهات لا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتى تمحّصوا، ولا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتى تميّزوا، ولا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتى تغربلوا، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم إلّا بعد إياس، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى يشقى من شقي، ويسعد من سعد.
فهناك غربلة، وتمييز، وتمحيص، يتضّح فيه الصادق الصابر من الكاذب الهارب، والناس في هذا درجات بحسب الثبات وشدة التحمل، وقابلية الإنسان في المعاناة، وهنا تبدو الماحة من فلسفة انتظار الفرج بالمعنى الاختباري، فإذا نجح المرء في هذا الامتحان كان منتظراً للفرج بمعناه الذي تتحدث عنه الرواية بحديث نبوي شريف يقول: أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله تعالى.
المستوى الثاني: ويعنى بإعداد النفس في صدق الترقّب والترصّد والانتظار، فان من يترقّب أمراً عظيماً يتهيأ له، ويعمل من اجله بقدر شوقه إليه، ويتشوق إليه بمستوى اعتداده به، ولا شيء أحب للمؤمن الصلب العقائدي من إحياء أمر آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وعملية الإحياء هذه تدعو إلى توعية الأمة واحتضان الجيل بما يتناسب معها، وتعمل على تعميق الدعوة إلى المثل العليا التي ضحوا من اجلها، وذهبوا قرابين على مذبح العقيدة، وهي مهمة صعبة المراس، ولكنها تتيسر لمن دعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فهي ضرورة ملحّة لخلق المجتمع المتكامل الذي يؤمن برسالة أهل البيت (عليهم السلام) بحيث تتهيأ الأجواء المناسبة فكرياً وعملياً لاستقبال ذلك الحدث العالمي بظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
وينبغي أنْ يصاحب هذين المستويين الزهد الحقيقي في المظاهر الزائلة وحطام الدنيا، والالتزام بالتقوى معياراً روحياً، ليلتقي الهدف الديني بالهدف الرسالي، وذلك من الأهمية بمكان لمعرفة فلسفة انتظار الفرج.
إذن ليست الدعوة إلى انتظار الفرج نوعاً من الاتكالية على الغيب المجهول، ولا كيفية من الترهب والانعزال عن الناس، ولا مبرراً للقوقعة على الذات وعدم مجابهة الحياة، فالأمر عكس هذا كله، بل هي عمل رسالي متواصل من خلال النفس وجماعة المؤمنين في حال الغيبة، وتواصل مع الخط الإلهي في الثبات على المبدأ مهما طال الزمن وكثرت البلوى.
يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): طوبى لمن تمسّك بأمرنا في غيبة إمامنا، فلم يزغ قلبه بعد الهداية.
كما أنّ هذا الأمر بالانتظار لا يعني مداهنة الظلم ومسايرته، ولا يرى مسالمة الباطل ومصافحته، وإنّما هو أمر بالابتعاد عن الفتن المحدثة دون راية هدى، والاتزان عن الاندفاع وراء الحركات الغامضة في أهدافها أو الانتفاضات المجهولة في دوافعها، فهي قد تعلن هدفاً وتضمر غيره، وقد ترفع شعاراً وتريد سواه، فذلك جري وراء العواطف والأهواء، ولا عائدية فيه لأتباع آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلّا زيادة المكاره لهم، وإضافة قوافل من الضحايا إلى قوافل سابقة، مما يعني أنّ ذلك كله تضحية بلا قضية مسوغة شرعاً.
قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): ما خرج منا أهل البيت (عليهم السلام) إلى قيام قائمنا أحد، ليدفع ظلماً، أو ينعش حقاً، إلا اصطلمته البلية، وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا.
ولهذا فإنّ انتظار الفرج بفلسفته الحقه ينبغي أنْ يستقبل بذهنية تقرأ الأحداث، وتتحرّى البعد التجريبي، وبذلك تكمن قيمة الرسالية في تحقيق مسيرة أهل البيت (عليهم السلام) القيادية، دون الولوج في متاهات مرتبكة، مهما كانت شعاراتها براقة، أو كانت أسماء قادتها لامعة.
لذلك نجد الأئمة (عليهم السلام) يباركون ثبات أوليائهم، وصدق عزيمتهم في الانتظار الطويل، ويصفونهم بالمجاهدين تارة، والمخلصين تارة أخرى، وانهم للشيعة صدقاً، والدعاة حقاً، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كما في رواية أبي خالد الكابلي، انّه قال: تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من بعده.
يا أبا خالد: إنّ أهل زمان غيبته، القائلون بإمامته، المنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان، لأنّ الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والإفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً، وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً.
وتوالت بعد هذا الثناء العاطر على المنتظرين من قبل سيّدنا ومولانا الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام)، توجيهات الأئمة (عليهم السلام) في هذا الاتجاه والمنظور.
قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
اصبروا على أداء الفرائض، وصابروا على أذية عدوكم، ورابطوا إمامكم المهدي (عجّل الله فرجه).
وهذه نظرية تطبيقية تبرمج الصبر والمصابرة والمرابطة.
وكان الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قد حبّب انتظار الفرج لشيعته من خلال التمثيل بآيات القرآن العظيم، فقال: ما أحسن الصبر وانتظار الفرج! أما سمعت قوله تعالى: ﴿وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾.
فعليكم بالصبر، فإنّه إنّما يجيء الفرج على اليأس، فقد كان من قبلكم اصبر منكم.
وقد سبق لمولانا أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) أنْ عبر عن المقام الرفيع الأسنى للمنتظر لأمرهم (عليهم السلام) فقال: المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله.
وفي الانتظار حفاظ على الدماء من السفك التائه في ظلمات الأحداث المبهمة والتحرّك المشبوه.
ورد عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): كل راية ترفع قبل قيام القائم (عليه السلام) صاحبها يكون طاغوت.
وفي الرواية تحذير ايحائيّ من الانخراط في خضم الضجيج في ظروف الفتن والاضطراب العقائدي.
لهذا فالانتظار حتى مع عدم إدراك الثأر من الطواغيت بالموت، يحسب انتظاراً مشروعاً يثاب عليه المؤمن، ويعدّ من خلاله في أصحاب القائم المنتظر (عجّل الله فرجه).
قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): من مات منكم على هذا الأمر منتظراً، كان كمن كان في فسطاط القائم.
وهذا شرف ما بعده شرف، وفيه دلالة على ضرورة المصابرة في الانتظار.
ويؤكّد هذه الحقيقة الإمام محمد الباقر (عليه السلام) بقوله: ما ضرّ من مات منتظراً لأمرنا إلّا يموت في وسط فسطاط المهدي (عليه السلام) وعسكره.
وتارة أخرى يفصّل الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في فلسفة الانتظار مقترناً بالمعرفة والاحتساب فيقول: العارف منكم هذا الأمر، المنتظر له، المحتسب فيه، كمن جاهد – والله - مع قائم آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) بسيفه، ثم قال (عليه السلام): بل والله كمن استشهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في فسطاطه.