المهدوية والنبوة
إدريس هاني
إذا كانت وظيفة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كامنة في التنزيل، فوظيفة الإمام (عليه السلام) كامنة في التأويل. وكما قاتل أمير المؤمنين (عليه السلام) على التأويل، سيعود الأمر قبل استتباب الأمر لمهدي الأُمّة كما بدأ، فيبارزه الناس بالتأويل الفاسد، ويقاتلهم بالتأويل الصحيح، فينتصر وهو آخر الأوصياء.
وخاتم الأبدال، فمتى أدركنا أنّ الأمور أشباه، اعتبر آخرها بأولها، ومتى أدركنا أنّ لا وجود لأمر تكويني أو تشريعي إلاّ وفق حكمة مقاصدية كما أكد الأئمة الأطهار، فإنّ وجود الإمام هو في مقام البدل الشاغل للفترات قبل بعثة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهم بالأولوية أبدال ما بعد الرسالة الخاتمة لانقطاع الوحي وختم الرسالة. فكيف يقال بلا جدوى حضور المهدي (عجّل الله فرجه)، وقد اتسعت دائرة الانسداد، وحيث عادت قاعدة قبح العقاب بلا بيان، العمدة في زمان ما بعد العلم والبيان؛ واستبدّت الظنون خاصّها وعامها، إلاّ أنْ يقال؛ إنّ الأمّة عاشت زمان التنزيل دون أنْ تدرك من زمان التأويل ما يقيم البيان ويعضّده، وحيث لا يعلم متشابه التنزيل إلاّ الله والراسخون في العلم. وقد ظهر أن الراسخين في العلم هم الأئمة من العترة الطاهرة، حيث أجاب الإمام الصادق (عليه السلام) شارحاً الآية الكريمة: ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾، فقال: نحن نعلمه، وحيثما استمرّت أطياف المتشابه وتلابست الأمور كان لازماً وجود الراسخين في العلم. ومصداقهم المهدي المخلّص (عجّل الله فرجه): (فأين تذهبون وأنّى تؤفكون والأعلام قائمة والآيات واضحة والمنار منصوبة. فأين يتاه بكم، بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم).
إنّ ظهوره وخفاءه لا يؤثّر في الدور الذي يقوم به، إلاّ أنّ لظهوره شأناً عظيماً يفوق ما يقوم به من أدوار في الخفاء. وهذا ما يؤكّد على أنّ الإمام حاضر في إجماعات الفقهاء اليقينية، فهو مانعهم من انعقاد إجماعهم على الخطأ. ودائماً وبناء على الأولوية القطعية، نقول إذا كان الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) شأنه شأن الخضر (عليه السلام) - وهو حقاً خضر الأمة - يحضر في البسائط من الأمور وما يخص أفراد الأمّة، يتدبّر أمورهم، كيف لا يكون حضوره آكد في القضايا المصيرية للأمة وما يختص بالجماعة، كما هو حال الإجماعات.
إذا لم تكن مهدوية الخضر مزاحمة لنبوة موسى، فما الغرابة في وجود مهدي الأمّة إذن؟! لا بل إنها في حال عدم وجود النبي هي آكد بالأولوية القطعية. وإذا كانت مهدوية الخضر ونظائره في تاريخ الرسالات الذي عرفنا منه القليل وجهلنا منه الكثير، نافعة في زمان البعثات، فما وجه الغرابة أن تكون نافعة في زمان غياب الرسل. بل سوف تكون إذ ذاك آكد في النفع متى أدركنا أن الرسالة الخاتمة تستدعي وجود مهدي يحمل من خصائص عظمة الرسالة الخاتمة أيضاً، حيث لا يمكن انبعاث نبي آخر.
إنّ مقتضى الخاتمية أن يكون الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حيث لا فترة بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فتصبح الخاتمية دليلاً أقوى على ضرورة المهدي أكثر من الرسالات غير الخاتمة، متى أدركنا مقاصد النبوة ومقاصد المهدوية.
إن فكرة الخلاص الأخير والمهدوية بأوصافها العظيمة هي الدليل على عظمة النبوة نفسها، حيث ثبوت العظمة للفرع هي عنوان ثبوتها للأصل، فحيثما اتجه النظر إلى المستقبل، تضخم الإحساس بضرورة الخلاص وشموله، فالمهدوية بالأوصاف العظمى التي خلدتها التعاليم الدينية هي الدليل الأبرز على أن ما كان قبلها من رسالة هو الأعظم والخاتم بلا شك.
إنّ وظيفة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مكمّلة لوظيفة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد يقال ها هنا كيف يتم ذلك وقد أكمل الله دينه وأتم نعمته، غير أن الشبهة هنا واضحة التهافت. فتمام الرسالة ببيان وظيفة المهدي والإخبار عنه؛ فهو مشمول في آية الإكمال. وشاهده قول الإمام الرضا (عليه السلام): إنّ الله تبارك اسمه لم يقبض رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى أكمل له الدين فأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج الناس إليه كملاً، فقال (عزَّ وجل): ﴿ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ﴾. وأنزل عليه في حجة الوداع وهي آخر عمره: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾. وأمر الإمامة من تمام الدين.
وبها يتحقّق تمام النعمة بالتأويل كما تمّت النعمة قبله بالتنزيل، إنّ تمام النعمة في زمن التنزيل كان بالقوة، بينما سيكون تمام النعمة في زمن التأويل بالفعل، وهذا ما أكدت عليه الآيات والأخبار، حيث جاء لسانها بصيغة (اللو)، نظير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ﴾.
لكن وقوع ذلك سيكون في زمن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بالفعل، حيث سيتحقق ذلك كما دلت الآيات والأخبار، فمن الآيات قوله تعالى: ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
ومن الأخبار، ما جاء في رواية لأمير المؤمنين (عليه السلام) يشرح فيها قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾، فسأل الجالسين: هل أظهر الدين لحد الآن؟ قالوا: نعم، قال: كلا، والذي نفسي بيده، لا يصير حتى لا تبقى قرية إلا وينادى فيها ليلا ونهارا بشهادة، لا إله إلا الله. أقول، إنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مصداق لمعنى الآية، حيث ذكر إرسال الرسول بالهدى، فالهدى والظهور، هما أصدق في المهدي الذي هو من متممات هذا الأمر.
ليست وظيفة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) التكميلية منافية لكمال التنزيل.. بل هي إكمال في طول المضامين النبوية، إنّها ليست اجتراحاً لدين جديد أو رسالة جديدة على نحو الجعل البسيط، بل هي إكمال وتأويل وتشكيل متطوّر لرسالة الإسلام على نحو الوجود المركب، أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سيحقق كل مطالب النبوات والرسالات بإقامة العدل بين الناس، والقضاء على الظلم والطغيان، وما دام أن أكثر دعوات الأنبياء (عليهم السلام) لم تتحقق في توحيد البشرية على التوحيد وتطهير الأرض من الظلم، كدعوة نوح بأن لا يذر على الأرض من الكافرين دياراً؛ فإن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سيتوفر له من وسائل الإعجاز ما لم يتوفر لغيره، بل ما من معجزة كانت لنبي إلا ويؤتاها حتى يتحقق المراد، أو كما قال الإمام الباقر (عليه السلام): ما من معجزة من معجزات الأنبياء والأوصياء إلا ويظهر الله تبارك وتعالى مثلها على يد قائمنا لإتمام الحجّة على الأعداء.
إنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو محقّق رجاء كل الأنبياء (عليهم السلام)؛ وليس إلاّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حقيق بهذا الدور، فالمهدي بهذا المعنى هو ضرورة نبوية ورسالية