تمهيدنا
مؤنس الإمام (عجّل الله فرجه)
رئيس التحرير
السلام عليك يا مؤنس الإمام (عجّل الله فرجه)..
في عقيدتنا - نحن الشيعة الإمامية الاثني عشرية - يشكِّل الإيمان بالغيب إحدى السمات البارزة لأتباع هذا المذهب المبارك، وتبدأ رحلتنا مع هذه العقيدة من بدايات الطريق في الاستدلال على كبرى المسائل العقائدية، فيدخل الإيمان بالغيب كعنصر رئيسي - بعد العقل والقرآن الكريم والسنة الشريفة وغيرها من عناصر الاستدلال -، فيلاحظ القارئ للمسائل الاعتقادية للطائفة الحقة أنّ أدقّ التفاصيل العقائدية في إثبات الذات الإلهية، وحقيقة العلم الإلهي، والإرادة مثلاً، تعتمد بشكل كبير على الإيمان بالغيب، وهكذا يتجلى الاعتماد على هذا العنصر المهم في بقية الأصول من العدل والنبوة والإمامة والمعاد، وبقية أحكام الدين إلّا بعد الإيمان بالغيب، كما ولا نعرف حقيقة إدارة الإمام (عجّل الله فرجه) لشؤون جميع الناس وعلى اختلاف لغاتهم وبلدانهم لولا الإيمان بالغيب، ويتجلى هذا العنصر وضوحاً إذا أجرينا جولة سريعة في مسائل المعاد وتفريعاته.
فنحن نسير من بداية الطريق إلى آخره والإيمان بالغيب يرافقنا، ولا يمكن أن نتصور العقيدة الحقة بما تحمله من مسائل وتفصيلات دون هذا العنصر المهم.
طريقنا لمعرفة الغيب ومعرفة بعض التفاصيل الموجودة في هذا العالم هو روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ولا ندرك حقيقته بشكل كامل، فنحن لا ندرك كيف تلقى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المعلومات الغيبية التي نقلها إلينا عن طريق أحاديثه الشريفة ودوّنتها الكتب، وكذلك نحن لا ندرك كيف يتلقى الأئمة (عليهم السلام) ما هو مودع في عالم الغيب ومن ثمة ينقلونه إلينا.
في مسألة الإمامة - وبالأخص إمامة الإمام الثاني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) - يبرز الإيمان بالغيب كأهمّ العناصر التي لا يمكن التخلي عنها لإثبات هذه العقيدة، فمسألة غيبته، وطول عمره، وإدارته للناس وللكون، بل وظهوره ونشره للعدل والقسط في ربوع الأرض، كلها مسائل تعتمد اعتماداً كبيراً على الإيمان بالغيب.
فإيماننا بالغيب، وإيماننا بأنّ الأئمة (عليهم السلام) يتلقون ما فيه، وأنّهم معصومون ومسدَّدون في نقل هذه المعلومات إلينا، هو من أهم وأوضح السبل الموجب للتصديق والأخذ بما يصدر عنهم (عليهم السلام)، وقد نقلت لنا الروايات العديدة - وفي مختلف المجالات - جوانب من علم الغيب، ورغم أنّها نقلت لنا جملة من التفاصيل الدقيقة والجزئيات التفصيلية - مثل تفصيلات المعاد - إلّا أنّنا لازلنا لا ندرك ماهية وحقيقة الصراط والميزان والحساب وما شاكل من مفاهيم مرتبطة بالمعاد.
وقد تحدّثت العديد من الروايات عن جملة من التفصيلات المرتبطة بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سواءً في كيفية ولادته أم ما يرتبط بأحداث غيبته الصغرى، وكيفية تواصله مع الناس بواسطة السفراء، أو مباشرة، وكذلك ما يكون في غيبته الكبرى، والتي تسبق ظهوره، وتحدّثت الروايات عن الكثير من تفاصيل ما بعد ظهوره، وكل هذا بالنسبة لنا غيب، فما تحقق منه لا نعرف كيف تحقق، وما سيأتي منه لا نعرف كيف سيتحقق.
وقد ذكرت بعض الروايات الشريفة أنّ الإمام (عجّل الله فرجه) في زمان غيبته يستوحش من الغيبة، فمن ذلك ما رواه الكليني (قدِّس سرّه): عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الوَشَّاءِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: «لَابُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ مِنْ غَيْبَةٍ، ولَابُدَّ لَه فِي غَيْبَتِه مِنْ عُزْلَةٍ، ونِعْمَ المَنْزِلُ طَيْبَةُ، ومَا بِثَلَاثِينَ مِنْ وَحْشَةٍ»(١).
فهذا الحديث الشريف يتضمن عدة لابديات، وهي: لابدية الغيبة، ولابدية العزلة المتفرعة عنها، ولابدية المنزل الذي يعيش فيه الإمام (عجّل الله فرجه) في غيبته، فالإمام (عجّل الله فرجه) بطبيعة الحال إنسان طرأت عليه الغيبة، ومقتضى إنسانيته أن يعيش في مكان، وأن يجري عليه عند عيشه ما يجري على الناس، فتأتي لابدية أخرى يحدّدها هذا الحديث المعتبر من كونه (عجّل الله فرجه) يتعرَّض بسبب الغيبة إلى وحشة، فيحتاج حينئذٍ إلى ما به ترتفع هذه الوحشة، وقد عبّرت رواية أخرى عمن ترتفع بهم الوحشة بالقوة، حيث ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام): «ولابد في عزلته من قوة، وما بثلاثين من وحشة، ونعم المنزل طيبة»(٢).
وهذا كله من الغيب الذي لولا إيماننا بالأئمة (عليهم السلام) وعصمتهم لما صدّقناه.
وهنا نسأل: هل يمكن أن نعرف شيئاً عن هذا الغيب؟ فنعرف بعضاً من هؤلاء الثلاثين الذين تزول بهم الوحشة عن إمامنا الغائب، والذين يحصل بهم أُنسه (عجّل الله فرجه)؟
كما قلنا: لا طريق لنا إلّا سؤال أهل الغيب، فهم الوحيدون القادرون على اطِّلاعنا على بعض ما فيه وإجابة سؤالنا المتقدم، وقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: عن الحسن بن علي بن فضال، قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) يقول: «إن الخضر (عليه السلام) شرب من ماء الحياة، فهو حي لا يموت، حتى يُنفَخ في الصور، وأنه ليأتينا فيسلم، فنسمع صوته ولا نرى شخصه، وإنه ليحضر حيث ما ذُكِر، فمن ذكره منكم فليسلِّم عليه، وإنه ليحضر الموسم كل سنة، فيقضي جميع المناسك، ويقف بعرفة، فيؤمِّن على دعاء المؤمنين، وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته، ويصل به وحدته»(٣).
إنّ الإمام الرضا (عليه السلام) يتحدث عن بعض التفاصيل عن شخص الخضر (عليه السلام) وأنه شرب من ماء الحياة، ونحن لا نعلم بطبيعة الحال ما ماء الحياة؟ وهل هو موجود؟ وهل يمكن أن يشرب منه بعض الناس؟
وهذا الخضر (عليه السلام) الذي شرب من هذا الماء لا يموت إلى أن يُنفخ في الصور، فهو دائم الوجود في هذه الدنيا.
وأنّ من وظائفه أنّه (عليه السلام) يذهب إلى الأئمة (عليهم السلام)، كل إمام في زمانه، فيسلم عليه، والغريب في الأمر أنّهم (عليهم السلام) بمقتضى هذا الحديث يسمعون صوته ولا يرون شخصه، فمع أنّهم (عليهم السلام) يخبروننا عن هذه الحقيقة الغيبية، وهذا الشخص الغيبي، إلّا أنّهم لا يرون شخصه.
إلّا أنه توجد روايات أخرى تنص على أن الأئمة (عليهم السلام) بل وغيرهم يرونه، بل وأن بعضهم كأمير المؤمنين (عليه السلام) يعرفه بشخصه وهويته(٤).
وهذا يقتضي أن نقيِّد الرواية السابقة بهذه الروايات في أنهم لا يرونه، لا مطلقاً، ففي بعض الحالات يرونه بل ويراه غيرهم.
والنتيجة أن الخضر (عليه السلام) كحالة عامة لا يُرى بشخصه وجسمه إلّا في بعض الموارد التي يدل الدليل فيها على رؤيته.
وأنّ الخضر (عليه السلام) يحضر حيث ما ذُكِر، فبمجرد أن نذكر الخضر (عليه السلام) - بمقتضى هذا النص - فإنّه يحضر، لذلك أمرنا الإمام الرضا (عليه السلام) أنّ نسلِّم عليه.
ومن خصائصه ووظائفه الأخرى أنّه يحضر موسم الحج في كل سنة، ويؤدي جميع المناسك، ويقوم بالتأمين على دعاء المؤمنين.
وهذا الوصف ورد في حق الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، عن محمد بن عثمان العمري (رحمه الله) أنّه قال: والله إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة، يرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه(٥).
ثم يذكر الإمام (عليه السلام) أنّ الخضر (عليه السلام) يؤنس الله تعالى به وحشة قائم آل محمد (عجّل الله فرجه) في غيبته وأنّه يصل وحدة الإمام.
فيا لها من مهمة ووظيفة عظيمة أن يكون وجود شخصٍ ما لأجل رفع وحشة إمام الزمان (عجّل الله فرجه).
وفي حديث آخر عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لأحمد بن إسحاق، وقد أتاه ليسأله عن الخلف بعده، فقال مبتدئاً: «مثله مثل الخضر، ومثله مثل ذي القرنين، إنّ الخضر شرب من ماء الحياة، فهو حي لا يموت حتى ينفخ في الصور، وإنّه ليحضر الموسم كل سنة، ويقف بعرفة فيؤمِّن على دعاء المؤمنين، وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته، ويصل به وحدته»(٦).
ففي هذا الحديث نلاحظ خاصية من خصائص العبد الصالح الخضر (عليه السلام) وهي أنّه يؤمِّن على دعاء المؤمنين، وهنا نريد أن نقف وقفة جديدة مع شخصية الخضر (عليه السلام) نستذكر فيها ما تقدم آنفاً من صفاته وخصائصه ووظائفه، ونرتب عليها الأثر الذي قد يغيب عن أذهاننا إذا لم نركز على هذه الخصائص والصفات والوظائف والمهمات بشكل منقّط.
فلاحظ معي - أيها العزيز - ما صفات هذا العبد الصالح (عليه السلام) الذي في العادة لا توجد له مساحة في تعاملاتنا الإيمانية، رغم كونه يحظى بمقام سامٍ وشامخ وكبير عند الإمام (عجّل الله فرجه) بل وبقية الأئمة (عليهم السلام).
إذ قلّما نجد من المؤمنين من يلتفت إلى أهمية الخضر (عليه السلام) في المعادلة.
- الخضر (عليه السلام) هو الشخص الوحيد الذي نصّت الروايات على أنّه شرب من ماء الحياة.
- الخضر (عليه السلام) هو الشخص الوحيد الذي دلَّت الروايات على أنّه حي لا يموت حتى ينفخ في الصور.
- الخضر (عليه السلام) هو الإنسان الوحيد الذي سلَّم على أهل البيت (عليهم السلام) جميعاً وردّوا (عليهم السلام) عليه السلام وسمع صوتهم في رد السلام وهم سمعوا صوته.
- الخضر (عليه السلام) هو الشخص الوحيد الذي لا يُرى شخصه، ولكنه قد يُسمع صوته، نعم الرواية دلت على أنّ الأئمة (عليهم السلام) سمعوا صوت الخضر (عليه السلام) عندما سلَّم عليهم، ولكنها لم تمنع من سماع غيرهم لصوته.
- الخضر (عليه السلام) هو الشخص الوحيد في عالم الوجود من بني البشر الذي حضر جميع المواسم وفي كل الأعوام وسيستمر حضوره إلى أوان النفخ في الصور.
- الخضر (عليه السلام) هو الشخص الوحيد من بني البشر ومن غير الأئمة (عليهم السلام) الغائب والذي أُمرنا أن نسلِّم عليه وأنّه يردّ علينا السلام إذا ذكرناه.
نحن نقول له: السلام عليك يا مؤنس الإمام (عجّل الله فرجه)، فإن الإمام الرضا (عليه السلام) أمرنا بالسلام عليه ووصفه بأنه مؤنس الإمام.
- الخضر (عليه السلام) هو الشخص الوحيد الذي صُرِّح باسمه من الذين يرفعون وحشة الإمام (عجّل الله فرجه)، هو الوحيد الذي وُصف بأنّه مؤنس الإمام (عجّل الله فرجه)، فهذا وصف خاص به، وهو الوحيد الذي وُصف وعرفناه بأنّه من الأشخاص الذين تُوصل بهم وحدة الإمام (عجّل الله فرجه).
- الخضر (عليه السلام) هو الذي يؤمِّن على دعاء المؤمنين في الموسم، فيا ترى كم دعونا ونحن نستحضر أنّ مؤنس الإمام (عجّل الله فرجه) يؤمِّن على دعائنا، وأنّ الدعاء الذي يؤمِّن عليه مَن به تُوصل وحدة الإمام (عجّل الله فرجه)، هل يحتمل فيه أنّه يُردّ؟
الهوامش:
(١) الكافي – الشيخ الكليني: ج١، ص٣٨٨.
(٢) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص١٩٠.
(٣) كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق: ص٤٢٠.
(٤) عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي (عليه السلام) قَالَ: «أَقْبَلَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) ومَعَه الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى يَدِ سَلْمَانَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ الحَرَامَ فَجَلَسَ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ واللِّبَاسِ فَسَلَّمَ عَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، فَرَدَّ عَلَيْه السَّلَامَ، فَجَلَسَ ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهِنَّ... ثُمَّ قَامَ فَمَضَى، فَقَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، اتْبَعْه فَانْظُرْ أَيْنَ يَقْصِدُ، فَخَرَجَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَقَالَ: مَا كَانَ إِلَّا أَنْ وَضَعَ رِجْلَه خَارِجاً مِنَ المَسْجِدِ، فَمَا دَرَيْتُ أَيْنَ أَخَذَ مِنْ أَرْضِ الله، فَرَجَعْتُ إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَأَعْلَمْتُه، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أتَعْرِفُه؟ قُلْتُ: الله ورَسُولُه وأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ، قَالَ: هُوَ الخَضِرُ (عليه السلام)» [الكافي للشيخ الكليني: ج١، ص٥٢٥، ح١، باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم (عليهم السلام)].
(٥) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٣٩١.
(٦) الخرائج والجرائح - قطب الدين الراوندي: ج٣، ص٢٠٨.