أبحاث العدد:
 خلاصات بحوث العدد:
 البحث في العدد ٣:
 العدد ٣/ جمادى الآخرة/ ١٤٣٨ه

المقالات بدائل الصراع

القسم القسم: العدد ٣/ جمادى الآخرة/ ١٤٣٨هـ الشخص الكاتب: السيد محمد علي الحلو التاريخ التاريخ: ٢٠١٧/٠٢/٠٩ المشاهدات المشاهدات: ٣٩٨١ التعليقات التعليقات: ٠

بدائل الصراع

السيّد محمّد علي الحلو

لا نريد أن نبحث عن العقل الفلسفي لنغوص بين تجاذبات العرض والجوهر، وهل أنَّ العقل هو الجوهر الذي من خلاله تنساق الأعراض إلى شؤونها العامَّة، أم أنَّ العقل هو ذلك العرض الذي يقوم بالجوهر؟
ولا نريد أن نبحث لغوياً في بيان معنى العقل لننصاع الى الفهم المعجمي الذي تعبَّد به بعضهم ليجعلوه يدور بين كلمة (الربط) إذا ربط بعيره فقد عقله أي أمسكه وحبسه، وبين العقل الذي هو القلب ليكون بعد ذلك قلباً عقولاً أي فَهِماً متفهِّماً.
بل نريد أن نبحث الآن في (العقل التاريخي)، ذلك العقل الذي ربط التاريخ بأدوات تتَّجه باتِّجاه الاستبداد ليكون عقلاً مستبدّاً منتجاً لتاريخ مستبدٍّ.
ولنصغ من العقل المستبِّد نصّاً مستبدّاً يتعهَّد بتقديم الرؤية العامَّة بمساقاتها التاريخية في اختلاف النصِّ واستبداده، وفي استلاب الشرعية لتضفي على النصِّ المستبدِّ قدسية بها يكون نصّاً شرعياً بعد ذلك (بامتياز).
هذا هو همّنا الآن.
العقل المستبدّ.. الباكورة المبكرة:
لم أجد من الضرورة الرجوع إلى تاريخية الاستبداد في العقل العربي الذي خلق سلوكاً جاهلياً لينتج مجتمعاً جاهلياً لا يأخذ بالاعتبار التحوّلات الإنسانية التي أحدثتها الدعوات الإلهيَّة منذ أن دعا إبراهيم عليه السلام قومه لنبذ عبادة الأصنام وحاجَّهم وخاصمهم، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: ٢٥٨).
فإثارة الحركة العقلية في الأُطروحة الإبراهيمية كانت تتناسب في إبداعاتها مع الفطرة الإنسانية، إلَّا أنَّ العقل المستبدّ الذي هيمن على المنطق الاجتماعي ألغى معه جميع حيثيات التفكير الناضج بآلياته ودواعيه، ولمَّا كان المنطق العقلي في الحِجاج الإبراهيمي يأخذ مدياته في نصرة المذهب الإصلاحي الذي تزعَّمه نبيُّ الله إبراهيم عليه السلام فإنَّ العقل المستبدّ يفرض على أتباعه الانتصار لمنطق اللجاجة والتعصّب الفكري مع علمهم بصحَّة افتراضات النبيِّ إبراهيم عليه السلام الاجتماعية، وخطأ ما يقيمون عليه من الاعتقاد، ﴿قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ (الأنبياء: ٦٨)، فالاستبداد يفرض على هؤلاء معاندة الحقائق وإلغاء المنطق العقلي الذي يتعاطى به إبراهيم ذلك المرسَل لتفعيل العقل وإرجاعه لموقعه المناسب.
ولم يكن قوم النبيِّ نوح عليه السلام بأفضل حال من قوم إبراهيم عليه السلام وغيرهم، فالاستبداد الذي طغى على هؤلاء هو أُنموذج التوريث الذي انتقل إلى الأقوام التالية، فكانت ظاهرة السخرية لدى قوم نوح عليه السلام بارزة على سلوكيات هذا المجتمع، فكان نوح عليه السلام يصارع سخرية قومه بالإصرار على مبدأ الحقِّ والقيام على ما هو عليه من اليقين، ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلأَ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾ (هود: ٣٨).
فالاستبداد يُعطي للنفس بعداً يتجاوز الفطرة ليطغى إلى حالة الاستهزاء والسخرية، وهذه الصفة تنبع من مشكلة المكابرة والتجبّر الذي يخالط النفس ويلغي كلَّ الدواعي العقلية التي تساعد الإنسان على التبصّر في إدراك الأُمور وتفهّمه، ﴿قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ (هود: ٣٢)، فالإصرار على تكذيب نوح عليه السلام وعدم الإيمان به أحدثه العقل المستبدّ الذي كان يتحكَّم بهؤلاء، بل تركَّزت حالة العقل المستبدّ بمخالفة الولد لأبيه، فهذا ابن نوح عليه السلام يتَّخذ مسيراً مغايراً لما كان عليه والده من الدعوة إلى الله مخالفةً وتمرّداً على منطق العقل ليذعن استبداد العقل إلى كلِّ آليات الإلغاء، ﴿وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ﴾ (هود: ٤٢).
فمسيرة العقل المستبدّ تكاد تكون واحدة سواء كان صراعاً إبراهيمياً مع قومه الذين أرضخوا المنطق العقلي إلى هيمنة العقل المستبدّ، أم في ملحمة نوح الطوفانية التي ألغت مرحلة من مراحل العقل المستبدّ وهو يناجز الحقَّ والمنطق، ولدينا مسيرة قرآنية تتحدَّث عن جبهات الصراع التي تتزعَّمها الأُطروحة الإصلاحية النبويَّة من جهة وبين العقل المستبدّ الذي يهيمن على عُتاة المتنفِّذين في أدوار الصراع الإنساني الطويل الذي تلقَّينا طرفاً مهمّاً منه في القصص القرآني والمسيرة الناضجة للتدافعات الفكرية بين أُطروحات الأنبياء واستبداد الطغاة.
وإذا عبرنا مراحل صراع الأدوار التبليغية لكلِّ الأنبياء لوجدناها خلاصة دقيقة من الصراع بين الحقِّ والباطل، أي بين الظلم والعدل الذي اتَّخذ صوراً عدَّة في نزاع ينتهي بمضادَّة النقيضين.
ولا أجد ما يُبرِّر التحوّل من هذا الصراع المادّي الذي رسمه القرآن الكريم في تجلّياته القصصية الهادفة، ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: ١٧٦)، إلى صراع تمرّدي فوضوي بعنوان فكري ارتقائي تطويري.
فتوظيف القصَّة من حيث - اتِّباع الأحداث ومتابعتها وتحرّيها بما يضمن أن تكون تلك القصَّة ملحمة من ملاحم مقطع تاريخي مثير يستفيق القارئ إزاءه ليُجدِّد قراءاته التاريخية بتمعّنٍ تحليلي عبَّر عنه بالتفكر - وتحويلها من الصراع المادّي البدائي بين الأقوام العابثة بالقيم والمستهجنة للمبادئ وبين الأنبياء الذين قدَّموا طروحاتهم الإصلاحية إلى صراع فكري جديد يكاد أن يكون متمرِّداً على النصِّ الديني بتحديث فوضوي غير ممنهج ولربَّما يصل إلى محاولات استفزازية في اتِّهام النصِّ الديني وتقوقعه في مفاهيم مربكة نقدية، برَّر حالة التعاطي السلبي مع النصِّ الديني، بل والاتِّهام له على أنَّه حالة جامدة تجمد على النصِّ المصطبغ بصبغته الغيبية البعيدة المنال عن تناول العقول، ويوعز التجاء الشعراء للترويج عن محاصرة الدين بالنصِّ الأدبي الترويجي الذي يُعبِّر عن مكنونات النفس وهواجسها.
نظر آرنولد إلى الشعر بتعبيره هذا (فما من عقيدة إلَّا واهتزَّت، ولا مبدأ مسلَّم به إلَّا وتعرَّض للشكِّ في صحَّته ولا تقليد متوارث إلَّا ويتهدَّده الإنهيار، لقد ربط ما فيه من عاطفة بالحقيقة، وها هي الحقيقة تخذله، إمَّا في الشعر فالفكرة هي كلّ شيء وما عداها عالم من الوهم، الوهم السماوي، الشعر يربط وجدانه بالفكرة، فيه تصبح الفكرة هي الحقيقة. إنَّ أقوى جزء في ديننا الآن هو ما يحتوي عليه من شعر لا يحسُّ بوجوده)(١)، ويأتي تعليق الناقد العربي بقوله: (إذا كانت هذه رؤية غربية لمهمَّة الشعر ودوره، فما بالنا بالدور الذي يمكن أن يلعبه الشعر في الواقع العربي، معتمداً على ثقافة سماعية تتأثَّر بالسجع والعاطفة والكلام المنظوم - والتأثير النفسي للكلمات على النفس البشرية محلّ دراسة مفصَّلة عمَّا ذكره أُرسطو عن العلاج بالشعر من الأمراض النفسية - وما شاع هذه الأيّام من علاج بالقرآن...، وهو ما يبرز أنَّ الكلمات المنظومة هي التي تُؤثِّر في النفس، وليست كلمات القرآن فقط، لأنَّها منزَّلة أو قدسية، أو لأنَّها من اللوح المحفوظ كما يعتقد العامَّة من الناس في الفهم الأُسطوري الغيبي عن طبيعة النصِّ القرآني)(٢).
وإذا كنّا قد عذرنا العقلية الغربية في تعاطيها مع نصوص الكتب المقدَّسة المتوفِّرة بين أيديها - والتي لنا عليها تحفّظات كثيرة -، فما بال العقلية العربية تُنجر وراء ذلك؟ إنَّه غريب حقّاً أن يصف النصوص الدينية بالأُسطورية ويوعز التعامل مع الغيب إلى أنَّه ثقافة العامَّة من الناس المتمسِّكين بالاعتقاد الأُسطوري.
هذان النصّان المختلفان في قراءتيهما يعكسان قراءتين مختلفتين، أحدهما يُعطي انطباعاً للمفهوم الشرقي (العربي)، والآخر يعكس رؤيةً غربيةً ما.
نحن لا نلاحق الفهم الشخصي للأفراد بقدر ما نشير إلى حالة متشائمة يعيشها البعض بأحلام الحداثة الوردية التي ما فتأت تزعج الكثير ممَّن يقف على النصِّ الديني وقفة تتجذَّر فيها تهمة الانحياز إلى الإلغاء الذي يكاد كلّياً للمفاهيم الإسلاميَّة، أو لعلَّك تقف مع الناقد وأنا كذلك أُشاطره التوجّس من تساؤلٍ بات ملحّاً كثيراً يطرحه الناقد بقوله:
(الإسلام اليوم يواجه سؤالاً صعباً على أرض الواقع المرير الذي يعيشه المسلم المعاصر بين شقَّي الرحى، بين التكفير الداخلي من قِبَل أُولئك الذين نصبوا أنفسهم شيوخ الإسلام، والجماعات الدموية التي تُعنى بالتجربة الدينية التمكينية دون المرور بالتجربة المكّية ذات البعد التسامحي، وكذلك الجهلاء من مثقَّفي القنوات الفضائية الدينية التي غزت الفضاء الكوني تدعو إلى الإسلام، المتلوِّن تلوّن معتنقيه بكلِّ لون، فبين التكفير الداخلي من بني إسلامه الذي يدَّعي نصرته، واتِّهامه بالإرهاب من الخارج الذي يحاول تحسين صورة الإسلام أمامه، يقف المسلم المعاصر الإنساني النزعة - إن جاز لنا هذا التوصيف - حائراً لا يدري إن كان تمسّكه بإسلامه درباً من الخيال أم طريقاً لخيبته وجنونه، ولا يعرف إن كانت العلمنة التي تعيشها المجتمعات الإسلاميَّة حالياً هي الجوهر أم القناع؟)(٣).
ولنا على ما أورده الكاتب تحفّظات بقدر فهمه للسؤال المطروح - مع أنَّنا نشاطر الكاتب الرأي في الفكر الإسلامي الأسير - ولا نريد أن نلاحق كلمات الكاتب بقدر ما أردنا أن نعاضده الرأي في أنَّ صورة الإسلام باتت معتمة كثيراً في أذهان البعض مشوَّشة في أنظارهم، ولعلَّ ما يُفسِّر ذلك ما يُقدِّمه الكاتب من تشخيص للواقع الإسلامي، فهو يقول:
الإسلام اليوم في محنة حقيقة، فهو يعاني من تشويش انتهاكي وتعدٍّ إيدلوجي، من كلِّ مدَّعي الأسلمة، فكلُّ داعية يُقدِّم إسلاماً يدَّعي أنَّه ذو الأُرثوذكسية والصحَّة المطلقة، وخلافه كفر أو تجديف لا طائل من ورائه..، ومع تشكيل هذه الخصوصية - هي في الحقِّ خصوصية - لا يعترف صاحب كلّ تصور بأنَّ إسلامه شأن شخصي.
إذا أضفنا إلى ما سلف ذكره صعوبة - إن لم تكن استحالة - التواصل بين المثقَّف المُعلمَن المتسلِّح بالوعي النقدي، وبين الجماهير العريضة المعتمدة على ثقافة شفهية مستقاة من خطب الجمع ودروس المساء... الخ(٤).
ولعلَّ محنة الكاتب أشدّ من (محنة الإسلام) التي عبَّر عنها متشائم، فالإسلام لم يكن بما هو عقيدة إلهيَّة وإيدلوجية مستوحاة من النصِّ الديني في محنته، بل الأفهام المختلفة والمذاقات المتضادَّة استذوقت إسلاماً جعلته بحسب مذاقاتها ممتحناً في نظرهم بعد أن أخرجوه من إسلامه إلى إسلام ذوقهم، فأوجدت محنة التعاطي مع الإسلام بسبب أزمتها (النفسية) مع النصِّ الديني، إذ مخرجات العلمنة التي اختارها البعض قدَّمت لها رؤى متشائمة لا يقوى معها على قبول النصِّ، فبات ذوّاقاً أكثر من كونه محلِّل، وطوبائياً أكثر من كونه واقعياً يتعايش مع الواقع.
نعم، ما يُقدِّمه الفكر المتطرِّف من وعي انتقامي - إقصائي جعل الكثير ينأى عن الحقيقة الإسلاميَّة، ولعلَّ المشكلة تكمن في الصدمة النفسية التي يتلقّاها المثقَّف من فتاوى مشايخ الإرهاب، والعقدة في ذلك انعكست على فهم النصِّ الديني الذي بات متَّهماً بإفرازه لهذه الفتاوى الإرهابية التي لا تُمثِّل أدنى شيء من الإسلام.
أنا أعترف أنَّ النصَّ الديني صار منهكاً من مشايخ الفتوى التكفيرية الذين باتت نقمتهم تنعكس على صياغة الفتوى بتوظيف النصِّ لصالح إمكانياتهم الانتقامية، وغدت كثير من النصوص أسيرة في دائرة الفتوى المتطرِّفة، وهكذا وجد المثقَّفون فرصتهم في التعبير عن رفضهم لهذا الفهم السلبي للنصوص، لكنَّها وظَّفت بشكلها الإقصائي وتصدَّت مجموعة التنويريين - كما أحبّوا أن تُسمّى جهودهم هذه-، ولعلَّ قائمة من هذه الجهود تتصدَّر أعمال التنويريين كما أحصاها بعضهم:
١- صادق جلال العظم في كتابه (نقد الفكر الديني).
٢- عزيز العظمة وسلسلة كتاباته عن إعادة التاريخ العربي.
٣- جابر عصفورة: (قراءة التراث النقدي)، (آفاق العصر).
٤- نصر حامد أبو زيد: (مفهوم النصِّ)، (فلسفة التأويل)، (النصُّ السلطة الحقيقة)، (دوائر الخوف)، (الخطاب والتأويل).
٥- السيِّد محمود القمنّي: (الأُسطورة والتراث)، (ربُّ الزمان)، (النبيُّ موسى وآخر أيّام تلّ العمارنة).
٦- محمود أمين العالم: (مواقف نقدية من التراث)، (مفاهيم وقضايا إشكالية)، (الوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر)، (الفكر العربي بين الخصوصية والكونية).
٧- عاطف العراقي: مجموعة مؤلَّفات حول التنوير، ومنهجه النقدي عند ابن رشد.
٨- مراد وهبة: (جرثومة التخلّف)، (الأُصولية والعلمانية)، (ما التنوير؟)، (ملاك الحقيقة وغيرها).
٩- عليّ مبروك: (النبوَّة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ).
١٠- عبد الهادي عبد الرحمن: (سلطة النصِّ)، (التاريخ والأُسطورة)(٥).
إلى غيرها من الأعمال التنويرية التي ملأت مكتبات الدراسات المعاصرة، وتصدَّرت حركة الحداثة التي تزعَّمها أمثال هؤلاء وغيرهم.
لا يساورنا القلق كثيراً من هذه الجهود، إذ أنَّنا لا نلغي أيّ مجهود يُقدِّم محاولات إصلاحية جادَّة، لكن قلقنا يكمن في محاصرة النصِّ الديني بأفهام متطرِّفة لا تنسجم والطرح الإصلاحي الذي جاءت من أجله هذه النصوص.
إذن المشكلة تكمن في التلقّي السلبي للنصِّ من قِبَل بعض المثقَّفين، وقراءته بعيون التطرّف والإرهاب، حتَّى انعكس ذلك على نفس النصِّ، وكأنَّ النزعة المتطرِّفة باتت هي الممثِّل الرسمي لكلِّ القراءات، وعلى ضوء ذلك انطلقت محاولات التنوير ناعية على النصِّ الديني (تخلّفه).
إذن ماذا يعني مفهوم الإصلاح؟
الإصلاح عند بعض التنويريين هو حالة ثورية على المفاهيم العامَّة، أي النقلة التحديدية من مفاهيم القديم إلى الجديد، وإلغاء النقل باستبداله بالعقل، والانتقال في البحث من المفاهيم الغيبية إلى الحالة الإنسانية التي تعايش الإنسان وتبحث في خصوصياتها.
من هنا يقول حسن حنفي في تعريفه للإصلاح الديني بأنَّه (التوجّه نحو الماضي لإعادة بنائه طبقاً لروح العصر والانتقال من القديم إلى الجديد، من النصِّ إلى الواقع، من النقل إلى العقل، من الله تعالى إلى الإنسان، من القمَّة إلى القاعدة، ومن التعبّد إلى الحرّية، ومن البعد الرأسي إلى البعد الأُفقي)(٦).
هذا الإرباك الذي يُظهِره الكاتب في محاولاته الإصلاحية يُعطينا قراءةً لمحاولات جادَّة في البحث عن الإصلاح، بعد أن تولّى متطرِّفون محاولات الإصلاح الديني، وارتكبوا بحقِّ المفهوم الإصلاحي أقصى غايات التطرّف كما ظهر في محاولات ابن تيمية الإقصائية ومشاريع محمّد عبد الوهّاب التطرّفية وابن القيِّم الجوزية التقليدية لإعادة نسخة ابن تيمية في محاولاتها.
فالبحث عن الإصلاح هو المشروع الإنساني الذي أعطت النصوص الدينية أولوياتها له، وهي العمل على إنقاذ المجتمع من الانهيارات التي تواجهها الإنسانية كلّ يوم، فالحالة الأخلاقية المتردّية، والإقصاءات السياسية بحروبها الطاحنة المفتعلة، والانهيارات الاقتصادية، أدَّت إلى مسخ إنسانية الإنسان واستعباده إلى أقصى درجات الهيمنة من قِبَل الحاكم والطبقات المتسلِّطة على مقدرات الأُمم، وامتهان الإنسان بمقدراته وإنسانيته، كلّها تدفع باتِّجاه البحث عن بدائل تنظيرية معرفية - معتمدة على النصوص الأوَّلية - لانتشال الإنسان ممَّا هو عليه في حاضره المقهور، ومستقبله المستباح.
مقارنتان في الاتّجاه العالمي:
يتَّجه الإنسان في المفهوم الإنساني إلى حالة الامتهان وإقصاء إنسانيته بشكلها الحالك السوداوي الذي يُهدِّد إنسانيته فضلاً عن وجوده، واستطاع النظام العالمي أن يُسخِّر كلَّ إمكانيّاته لتعبئة الشعارات الاستهلاكية المتَّجهة نحو دغدغة مشاعر الإنسان الممتهنّ ومحاولات كسب ودّ المظلومين وتنمية أحلامهم بالشعارات البرّاقة التي على ضوئها تأسَّست إيدلوجيات سياسية اقتصادية وأفرزت الديمقراطية، الاشتراكية، الرأسمالية الموجَّهة لخدمة المجتمع والإنسان، إلى آخره من شعارات لم يجد الإنسان سوى مستوياتها التنظيرية، في حين يغرق العالم بمشاكله الإنسانية: الحروب، الفساد الأخلاقي، انهيار المنظومة الأخلاقية والاجتماعية، تحوّلات اقتصادية لصالح الطبقات المتنفِّذة اجتماعياً والمتسلِّطة سياسي، إلى غير ذلك من المشاكل المتفاقمة في كلِّ يوم.
في حين يتَّجه العالم بمفهومه الإسلامي الأصيل نحو الحاكمية للإنسان - بمعناها الانتمائي الاندكاكي في حاكمية الله تعالى -، وبالأدقِّ نحو إنسانية الإنسان بقيادة الإنسان الكامل والمناهض لكلِّ أنواع العنف، التطرّف، الإقصاء، الاستعباد، إلى غيرها من العناوين الإنسانية المفقودة في خضم هذه التسابقات السياسية العالمية.
وبمعنى آخر حالة الإحباط التي يستشعرها المجتمع العالمي ألقت بظلالها على مجمل التوجّهات العامَّة التي لا يزال العالم يصارع تحدّياتها وآثارها القاتلة، ولا زالت الإنسانية تنزف مشاعرها على مذابح الصراع السياسي، لتجد نفسها بعد ذلك قد نضبت كافَّة إمكانيّاتها الإنسانية من أجل الحفاظ على طابعها الإنساني المقدَّس.
من هنا فقد كان البحث عن بدائل الصراع الإنساني يتلخَّص في محور فكري تنظيري تتصاعد وتائره إلى حالة عملية إيجابية، وقد قدَّم الإسلام أُطروحته المهدوية التي كشف عنها القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ (التوبة: ٣٢).
وهذا ردٌّ على محاولات الكافرين والمنافقين في مواجهتهم لجهود النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة، فكان وعد الله لنبيِّه بالنصر والتمكين في قبال محاولاتهم، وذلك بأن يتمَّ إرادته ونوره الإلهي المتمثِّل في أهل البيت عليهم السلام وبآخرهم وهو المهدي عليه السلام.
وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: ٣٣).
إلى غيرها من الآيات الكريمة التي سردها القرآن الكريم جاءت لبيان ضرورة الفكرة المهدوية القادمة.
وعلى صعيد الحديث النبوي المبارك، فقد تعهَّد النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بيان ضرورة المهدي عليه السلام، وأن الأرض لا بدَّ لها يوماً أن تُملأ قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئَت ظلماً وجور، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: «المهدي من ولدي، تكون له غيبة وحيرة تضلُّ فيها الأُمم، يأتي بذخيرة الأنبياء عليهم السلام، فيملأها عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً»(٧).
إلى غيرها من مئات الأحاديث الصحاح والمتواترة في هذا الشأن.
فكرة الانتظار والأمل الموعود:
تعهَّدت القضيَّة المهدوية أن تُقدِّم في أولوياتها ثلاثة مستويات:
الأوَّل: مراعاة الظروف النفسية والاجتماعية للمجتمع المنتظر.
الثاني: إنَّ طرح أيّ حلٍّ من الحلول لا بدَّ أن تُراعى فيه حالة الوضوح ومحاكات الفطرة الإنسانية والعقل للوصول إلى الواقع المعاشي والمستقبل المنظور.
الثالث: الحثُّ على تقديم مناهج في الأولويات الأساسية فضلاً عن الأولويات الثانوية في الشأن الإنساني المنظور.
وقد عملت الأُطروحة المهدوية على تقديم الأولويات بعناوينها الأُولى:
العنوان الأوَّل: إصلاح النفس.
العنوان الثاني: الأمل بالمستقبل المنشود.
العنوان الثالث: نشر دواعي السعادة في المجتمعات المنتظرة وانتشاله من حالة اليأس والإحباط.
ما الذي تُقدّمه الأطروحة المهدوية؟
في خضم هذا الصراع العالمي لم يجد الإنسان نفسه ضامناً لمستقبله، وحياته في خطرٍ محدق به حيث الحروب والصراعات العالمية عندها سيكون توجّه الأُطروحة المهدوية إلى صياغة إنسانية جديدة تظهر فيها الكثير من معالم الأمن والاستقرار سواء كان على مستوى الأمن السياسي أو على مستوى الأمن الاقتصادي أو على مستوى الأمن الاجتماعي، وكلُّ هذه المستويات مفقودة في فترة غياب الرؤية العقلانية لكلِّ الأُطروحات الحاكمة، ولا بدَّ من الإشارة إلى ذلك بشكلٍ يسير موجز.
المستوى الأوَّل: الأمن السياسي:
فقد تعهَّدت الروايات بإشاعة حالة السلم العالمي والتعايش الأمني الذي يضمن حياة كريمة وتكفل فيها حالة الأمن والاستقرار:
عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: «... يملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت جور، حتَّى يكون الناس على مثل أمرهم الأوَّل لا يوقظ نائماً ولا يهريق دماً»(٨).
وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «... ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطره، ولأخرجت الأرض نباته، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم حتَّى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام، لا تضع قدميها إلَّا على النبات، وعلى رأسها زينته، ولا يهيجها سبع ولا تخافه...»(٩).
إلى غيرها من الروايات الكثيرة.
المستوى الثاني: الأمن الاقتصادي:
وهي من أكبر المشكلات التي تعاني منها البشرية منذ أن عُرِفَ الصراع بين المتخاصمين، ولا بدَّ من القضاء على هذا الصراع الدائم بين أفراد المجتمع، فإنَّ تقديم حلول اقتصادية في شأن القضاء على أزمة الاقتصاد العالمي تنفرج من خلال هذه الأُطروحة الاقتصادية التي يُقدِّمها الإمام المهدي عليه السلام.
عن أبي جعفر عليه السلام: «... إذا قام قائم أهل البيت قسَّم بالسويَّة وعدل في الرعيَّة...، ويُجمَع إليه أموال الدنيا من بطن الأرض وظهره، فيقول للناس: تعالَوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدماء الحرام، وركبتم فيه ما حرَّم الله (عزَّ وجلَّ)، فيُعطي شيئاً لم يُعطِه أحد كان قبله...»(١٠).
وعن أبي جعفر عليه السلام: «ويُعطي الناس عطايا مرَّتين في السنة، ويرزقهم في الشهر رزقين، ويسوّي بين الناس حتَّى لا ترى محتاجاً إلى الزكاة، ويجيء أصحاب الزكاة بزكاتهم إلى المحاويج من شيعته فلا يقبلونها فيُصرونها ويدورون في دورهم، فيخرجون إليهم، فيقولون: لا حاجة لنا في دراهمكم»(١١).
المستوى الثالث: الأمن الاجتماعي:
فقد أعطت الأُطروحة المهدوية في أولوياتها اهتماماً بالغاً بترشيد الحالة الاجتماعية، وتنمية العلاقات العامَّة، والقضاء على معوِّقات التعايش الاجتماعي والتقدّم الإنساني، فعلى صعيد محاربة مظاهر الانحطاط الأخلاقي الاجتماعي هناك محوران أساسيان، وهما: الفساد العامّ الذي عنونته الروايات بالكذب، والثاني هو القضاء على العبودية المتأصِّلة في الأنظمة الاجتماعية العامَّة.
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «... فعند ذلك خروج المهدي، وهو رجل من ولد هذا - وأشار بيده إلى عليِّ بن أبي طالب - به يمحق الله الكذب، ويذهب الزمان الكَلِبْ، وبه يخرج ذلَّ الرقِّ من أعناقكم»(١٢).
ولشدَّة اهتمام الأُطروحة المهدوية بالفقراء والأيتام والمساكين فقد ورد عن طاووس اليماني قوله: (المهدي يُلعِق المساكين الزبد)(١٣).
وعن عليٍّ عليه السلام: «... ثمّ إنَّ المهدي يُفرِّق أصحابه وهم الذين عاهدوه في أوَّل خروجه، فيُوجِّههم إلى جميع البلدان ويأمرهم بالعدل والإحسان، وكلُّ رجل منهم يحكم على إقليم من الأرض، ويُعمِّر جميع مدائن الدنيا بالعدل والإحسان»(١٤).
هذه مجمل حركة الإمام الإصلاحية التي عانت منها جميع التنظيرات الوضعية والوصول إلى مستوياتها التنظيرية على الأقلّ وليس التطبيقية، وبقيت هذه الأُطروحة هي الأمل الحقيقي في غياب العدالة والإصلاح الواقعي الذي ادَّعته جميع الأُطروحات، من هنا فإنَّ التنويريين لو راجعوا تحفّظاتهم على الأُطروحة الإسلاميَّة ومنظوماتها النصّية لوجدوا في أُطروحة الإمام المهدي عليه السلام كلّ طموحاتهم وتوجّهاتهم التي لا تنفكُّ عن البحث عن بدائل الصراع...

الهوامش:
(١) نقد الإسلام الوضعي لأيمن عبد الرسول: ١٤٢، عن النقد الموضوعي للدكتور سمير سرحان.
(٢) المصدر السابق.
(٣) نقد الإسلام الوضعي لأيمن عبد الرسول/ صفحة الغلاف الأخيرة.
(٤) المصدر السابق.
(٥) راجع: نقد الإسلام الوضعي لأيمن عبد الرسول: ٢٧.
(٦) نهضة في الفكر العربي المعاصر لخالد حسين عبد الله: ٨١.
(٧) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ٢٨٧.
(٨) الملاحم والفتن لابن طاووس: ١٤٧.
(٩) بحار الأنوار للمجلسي ١٠: ١٠٤.
(١٠) بحار الأنوار للمجلسي ٥٢: ٣٥١.
(١١) بحار الأنوار للمجلسي ٥٢: ٣٩٠.
(١٢) الغيبة للطوسي: ١١٤.
(١٣) الملاحم والفتن لابن طاووس: ٦٨.
(١٤) في رحاب حكومة الإمام المهدي عليه السلام: ٢٤٥.

التقييم التقييم:
  ٠ / ٠.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

Copyright© 2004-2013 M-mahdi.com All Rights Reserved