الخُمُس في عصر الغيبة
(شبهات وردود)
بحوث سماحة الأُستاذ السيِّد أحمد الإشكوري
تقرير: الشيخ وسام البغدادي والشيخ ميثم الصريفي
تقديم: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
الطبعة الأُولى: 1439هـ
رقم الإصدار: 196
الفهرس
مقدّمة المركز..................3
مقدمة المؤلف..................7
مقدّمة المقرّر..................9
الشبهة الأُولى: عدم تشريع فريضة الخُمُس في أرباح المكاسب..................11
الشبهة الثانية: عدم تفعيل النبيِّ لخُمُس المكاسب وعدم جبايته إلى عهد الصادقين دليل على عدم تشريعه..................29
الشبهة الثالثة: ابن أبي عقيل وابن الجنيد قالا بعدم وجوب الخُمُس في أرباح المكاسب..................41
الشبهة الرابعة: عدم ذكر خُمُس المكاسب في مصنَّفات الفقهاء القدماء..................47
الشبهة الخامسة: تحليل الخُمُس في زمن الغيبة الكبرى..................53
الشبهة السادسة: وجوب الخُمُس من الأحكام الولائية..................73
الشبهة السابعة: عدم وجود دليل على إيصال الخُمُس إلى الفقيه..................81
الشبهة الثامنة: آلية جمع وتوزيع فريضة الخُمُس غير تخصُّصية..................89
الشبهة التاسعة: إنَّ فريضة الخُمُس لا تخضع للرقابة المالية..................97
الشبهة العاشرة: بدعة المصالحة والمداورة..................103
الشبهة الحادية عشر: إعطاء نصف الخُمُس للسادة من بني هاشم يدعو إلى التفاوت الطبقي..................109
الشبهة الثانية عشر: نسبة الخُمُس لله ينافي غناه..................123
الشبهة الثالثة عشر: ربط الحادث بالمتغيّر (مشكلة الحداثة والمعاصرة والحفاظ على الأصالة والموروث)..................127
الشبهة الرابعة عشر: ابتلاء الخُمُس بمخالفة المنظومة الأخلاقية والعقل العملي..................137
ملحقات حول الخُمُس..................151
(1) فلسفة وفوائد فريضة الخُمُس..................153
(2) تعيين الوظيفة بالنسبة إلى سهم الإمام (عليه السلام)..................159
(3) حكم مُنكِر فريضة الخُمُس..................163
المصادر والمراجع..................167
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز:
تحتضن العقيدة المهدويَّة الكثير من المسائل المهمَّة التي ما زالت تحتاج إلى تحقيق وتعميق في كثير من العلوم والمعارف الإنسانية حيث إنَّها ترتبط بشكل أو آخر بالعقيدة المهدويَّة، لذا كان ممَّا ينبغي على الباحثين وأهل الاختصاص، كلٌّ في بابه، إيجاد العوامل المشتركة بين اختصاصهم وبين الهدف المرجوِّ من خلقة الخليقة وتحقيق دولة العدل الإلهي على يد صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه).
ولا نريد الخوض في مجالات العلوم المختلفة وكيفية ارتباطها بالقضيَّة المهدويَّة بقدر ما نريد التأكيد عليه هنا من وجود بعض المسائل الفقهية المهمَّة والتي يختلف الرأي فيها بين عصر حضور الإمام المعصوم (عليه السلام) وغيبته، مثل صلاة الجمعة والقول بوجوبها العيني في عصر الحضور والتخييري أو الاستحبابي أو التوقُّف فيها في عصر الغيبة.
وكذا الجهاد الابتدائي وجوازه في عصر حضور المعصوم (عليه السلام) بحسب ما يراه الفقهاء من المصلحة وبين حرمته أو جوازه كذلك في عصر الغيبة.
كما أنَّ هناك بعض المسائل الفقهية المتَّفق عليها بين الأصحاب قديماً وحديثاً إلَّا أنَّها واجهت بعض الشبهات الحديثة وروَّجت لها وسائل الإعلام المعادية للمذهب من خلال أبواقها الإعلامية أو
المحسوبة على الحوزة العلمية -مع الأسف-، والهدف منها تضعيف الحصن الحصين للتشيُّع وهو المرجعية الدينية وإيجاد شرخٍ بين القاعدة المتمثِّلة بالأُمَّة وبين القيادة في عصر الغيبة والمتمثِّلة بالمرجعية.
ومن هذه المسائل (مسألة وجوب الخُمُس في عصر الغيبة) حيث حاول بعض من ينتسب لأهل العلم المساس بهذا المسلَّم الفقهي -اجتراراً من شبهات الحداثيين وغيرهم- والتشكيك بوجوب الخُمُس في عصرنا من خلال إلقاء أوهام يحسبها غير المطَّلع إشكالات.
وهذا الكتاب ما هو إلَّا نافذة علمية للإجابة على أغلب إن لم يكن جميع هذه الشبهات بطريقة واضحة في السبك عميقة في المضمون سلسة في البيان لسماحة السيِّد أحمد الإشكوري أُستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، حيث تعرَّض إلى مسألة الخُمُس بروح موضوعية منفتحة على الرأي الآخر، وأجاب عن جميع التساؤلات والإشكالات بأُسلوب علمي رصين خالٍ من التهكُّم والاستفزاز بعكس الطريقة التي يحاول أصحاب الشبهة من طرح شبهاتهم حيث امتازوا بالخروج عن الموضوعية العلمية ومحاولة استفزاز الحوزة العلمية، وهم يعلمون قبل غيرهم أنَّ الحوزة العلمية لا تُستَفزُّ بمثل هذه التهكُّمات والطريقة الاستعراضية المتهالكة التي يحسب أصحابها أنَّهم على شيء، وقد فاتهم أنَّهم زبد سيذهب جفاءً، والحوزة العلمية ماكثة تنفع الناس.
وقد كان من حسن توفيق مركز الدراسات التخصُّصية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مراجعة هذا السفر القيِّم وطباعته بعد أن طبع لسماحة المؤلِّف كتاب (الإساءة إلى القائم (عجّل الله فرجه) ليست أوَّل قارورة كُسِرَت في
الإسلام) و(العقيدة المهدويَّة إشكاليات ومعالجات)، وهذا هو الكتاب الثالث لسماحة المؤلِّف ينال المركز حظوة طباعته ونشره، ليُشكِّل رافداً مهمّاً للمكتبة العلمية ولطلَّاب الحقيقة وروّادها.
نسأله تعالى التوفيق لنا ولسماحة المؤلِّف وللمؤمنين، وأن يجعلنا من أنصار صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) ومقويَّة سلطانه.
مدير المركز
السيِّد محمّد القبانچي
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمّداً عبده ورسوله، نبيّ الرحمة، وشفيع الأُمَّة، خير البريَّة، وأفضل الخلق، خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، أُمناء الله على الدين، والكهف الحصين، وغياث المضطرِّ المستكين.
قال عزَّ من قائل: ﴿وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (النجم: 28).
إنَّ مسألة إثارة الظنون من أقدم الوسائل التي لجأ إليها المشكِّكون، وهي معركة قائمة بين أصحاب الحقِّ والباطل في عالم المنهج، وأول مصائد الشيطان ترك التثبُّت والاعتماد على الموهوم والخرافة العلمية وتفعيل لغة التشكيك، ثمّ يستدرج الظانَّ إلى نشر ظنِّه، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّ الناس أولعوا بالكذب علينا...، وإنّي أُحدِّث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتَّى يتأوَّله على غير تأويله، وذلك أنَّهم لا يطلبون بحديثنا وبحبِّنا ما عند الله، وإنَّما يطلبون به الدنيا، وكلٌّ يُحِبُّ أن يُدعى رأساً...»(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اختيار معرفة الرجال للطوسي (ج 1/ ص 347/ ح 216).
وأخطر ما يستغلُّه الظانُّون هو عدم معرفة الكثير من الناس، فيُلبِسون الأمر عليهم، فيتحدَّثون بالحديث التخصُّصي في الأروقة العامَّة.
وقد أُثيرت شبهات بدواعي مختلفة ومن أكثر من منهج حول فريضة الخمس، فتعرَّضنا لبعضها ودفع تلك الشبهات التي تُثار على هذا الحكم، وردّ الاعتراضات والانتقادات التي تواجه أبناءنا بلغة علمية متوسِّطة؛ لينتفع الأكثر.
وقد قام كلٌّ من الفاضلين الشيخ وسام البغدادي والشيخ ميثم الصريفي بتقريرها وتنقيحها، وقد بذلا جهداً مشكوراً وسعياً محموداً، فأسأل الله (عزَّ وجلَّ) لهما التوفيق والسداد في نشر علوم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأن يكون هذا العمل ذخيرة الآخرة لهما، والله المسدِّد.
أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المقرّر:
الحمد لله الملك المعبود، ذي العطاء والمنِّ والجود، واهب الحياة وخالق الوجود، الذي اتَّصف بالصمدية وتفرَّد بالوحدانية، والملائكة وأُولو العلم على ذلك شهود، والصلاة والسلام على خير أصفيائه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة الطاهرين أسرار الوجود.
وبعد، قال مولانا أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): «إِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لأَنَّهَا تُشْبِه الْحَقَّ، فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ، وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى، وَأَمَّا أَعْدَاءُ اللهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلَالُ، وَدَلِيلُهُمُ الْعَمَى، فَمَا يَنْجُو مِنَ المَوْتِ مَنْ خَافَه، وَلَا يُعْطَى الْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّه»(2).
ما لا شكَّ فيه ولا ريب أنَّ في كلِّ زمانٍ توجد حملات من قِبَل البعض لتشكيك المؤمنين ببعض العقائد والأحكام التي يُراد بها تضعيف المذهب الحقِّ والحدِّ من انتشاره. والتشكيك بمنظومة الدين والمؤسَّسة الدينية وعلى رأسها العلماء والفقهاء الذين بذلوا جهد السنين لإيصال معالم الدين إلى أتباع الأئمَّة الطاهرين (عليهم السلام).
وقد اعتمد هؤلاء المشكِّكين على وسائل وطُرُق غير خاضعة للدقَّة والأمانة العلمية، وذلك لأجل الانتصار للهويَّة أو التحزّبية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) نهج البلاغة (ص 81/ الخطبة 38).
وغيرها من المآرب التي بانت واضحة لكلِّ متدبِّر وناظر في وقتنا المعاصر.
وعلى الرغم من كلِّ هذا فإنَّنا على يقين وبحمد الله بأنَّ هذا المذهب الحقّ محفوظ برعاية الإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) ونوّابه من العلماء العاملين، حيث إنَّنا نجد في كلِّ عصر ترد فيه مثل هذه الهجمات هنالك من العلماء والفقهاء والأستاذة في الحوزة العلمية حفظهم الله جميعاً ورحم الماضين منهم من يتصدّى لردِّ هذه الشبهات وبيان مواطن الزيغ فيها ودفعها وصون المؤمنين من الوقوع في غياهبها، وليس ذلك إلَّا دفاعاً عن شريعة سيِّد المرسلين وسيرة الأئمَّة الطاهرين والفقهاء من الطائفة الحقَّة.
وبين يديك عزيزي القارئ باقة من إفاضات سماحة سيِّدنا الأُستاذ أحمد الإشكوري حول ما يُطرَح في الساحة المعاصرة من شبهات تتعلَّق بفريضة الخُمُس وما يدور حولها من الأسئلة، التي ألقاها على مسامعنا سماحة السيِّد في مجلس درسه وبعض الجلسات العلمية.
ونسأل الله له المزيد من الحفظ والتوفيق، وأن يجعله ذخراً للدين والمذهب، بحقِّ محمّد وآل محمّد.
وسام البغدادي
النجف الأشرف
(15/ شعبان/ 1439هـ)
مفاد الشبهة
قيل: إنَّ مسالة وجوب الخُمُس في أرباح المكاسب من المستحدَثات التي دخلت باسم الإسلام، ولا توجد أدلَّة قرآنية، أو روائية على تشريعها، وإنَّما شُرِّعت لأغراض مذهبية، وسياسية، واستغلَّ فقهاء الشيعة هذا الصنف لتحقيق مآربهم.
ردُّ الشبهة
إنَّ الملاحظ في كلمات المستشكل عدم تقصّي أدلَّة هذه المسالة، أو غضِّ الطرف عنها، وذلك لأنَّ ما ذُكِرَ من الأدلَّة في إثبات تشريع هذا الصنف لا يمكن التشكيك به البتَّة، وإليك بيانها مفصَّلاً:
الدليل الأوَّل: القرآن الكريم:
وذلك من خلال قوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (الأنفال: 41)، فالآية المباركة ظاهرة بسبب إطلاقها في وجوب الخُمُس في مطلق ما يغنمه الإنسان، ويدلُّ على ذلك قرائن عدَّة:
القرينة الأُولى: التحليل اللغوي والعرفي لمادَّة (غَنِم):
إنَّ مادَّة (الغنيمة) بحسب معناها اللغوي، وكذا العرفي يدلُّ على
ثبوت الخُمُس لمطلق الفوائد والأرباح، فعندما يقال: غَنِمَ فلانٌ المالَ (غَنِمَ) يعني: استفاد وربح والغنيمة هي الرّبح والفائدة، وليست هي خاصَّة بغنيمة الحرب فقط، وهذا ما صرَّح به جمع كبير من علماء اللغة، فقد ذكر الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتابه العين -الذي يُعَدُّ من الكُتُب اللغوية القديمة والمهمَّة عند العامَّة والخاصَّة- قائلاً: (الغُنُم أو الغَنُم الفوز بالشيء من غير مشقَّة)(3)، وفي لسان العرب عن التهذيب قول الكسائي: (الغُنم: الفوز بالشيء من غير مشقَّة)(4)، وقال الأزهري في تهذيب اللغة: (قال الليث: الغنم الفوز بالشيء)، وقال الراغب في المفردات: (الغَنَم معروف والغُنْم إصابته والظفر به ثمّ استُعمِلَ في كلِّ مظفور به من جهة العدى، وغيرهم، والمغنم ما يُغنَم، وجمعه مغانم، قال: ﴿فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ [النساء: 94])(5).
إذن حسب التحليل اللغوي، والفهم العرفي لمادَّة (الغنيمة) إنَّها تفيد مطلق الفائدة وغير مختصَّة بغنيمة الحرب.
مضافاً إلى ذلك فقد صرَّح جمع من علماء أهل السُّنَّة بأنَّ المعنى اللغوي للغنيمة في الآية الكريمة عامٌّ حيث ذكر صاحب المنار قائلاً: (الغنيمة في اللغة الفائدة والربح المتحصّل بدون مشقَّة)(6)، وقد ذكر القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) بأنَّ معنى الغنيمة عامٌّ، وإن ذهب إلى اختصاصها لأجل السياق ولكن المهمّ في كلامه هو أنَّ المعنى اللغوي لهذه المفردة عامٌّ(7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) العين للخليل الفراهيدي (ج 2/ ص 1359).
(4) لسان العرب لابن منظور (ج 12/ ص 434).
(5) المفردات للراغب الأصفهاني (ج 1/ ص 615).
(6) تفسير المنار (ج 6/ ص 323).
(7) تفسير القرطبي (ج 8/ ص 1).
القرينة الثانية: استخدام القرآن، والسُّنَّة لمادَّة (غَنِم) في مطلق الفائدة:
استُخدِمَت مادَّة (غَنِم) في الكتاب الكريم في مطلق الفوائد، وليس فقط في غنيمة دار الحرب، وذلك كقوله تعالى: ﴿فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ...﴾ (النساء: 94)(8)، فقد ذهب أغلب المفسِّرين إلى أنَّ المراد من (المغانم) هو مطلق الفوائد سواء كانت دنيوية أو أُخروية(9).
وقال تعالى: ﴿وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ﴾ (الفتح: 20)، فقد ورد في تفسير هذه الآية الكريمة بأنَّها تشير إلى مغانم خيبر، وهذا التفسير غير دقيق؛ وذلك لأنَّ الملاحظ في الآية الكريمة أنَّ الله تعالى وعد بالمغانم لمن شارك في غزوة خيبر، وبالتالي فيجب أن تكون من غير الغنائم التي تمَّ الحصول عليها في الحرب، وخصوصاً أنَّ الله تعالى يَعِدُ بالخير الكثير والثواب العظيم، وهذان الوصفان ينسجمان مع غير غنائم الحرب، وإن كانت من مصاديقها.
ومن هنا قال الآلوسي في روح المعاني: (وهي على ما قال ابن عبّاس ومجاهد وجمهور المفسِّرين ما وعد الله تعالى المؤمنين من المغانم إلى يوم القيامة)، وكما هو معلوم أنَّ المغانم التي وعد الله بها إلى يوم القيامة غير مختصَّة بالحرب، بل تشمل جميع المكاسب والنِّعَم والعطايا.
مضافاً إلى ذلك أنَّ النصوص الواردة في مصادر المسلمين قد صرَّحت بأنَّ مادَّة (غَنِم) في مطلق الفائدة، منها:
ما رواه الشيخ الكليني (رحمه الله) عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) المفردات للراغب الأصفهاني (ج 1/ ص 615).
(9) مجمع البيان للطبرسي (ج 3/ ص 145)؛ التفسير الكبير للفخر الرازي (ج 1/ ص 1534)؛ تفسير القرطبي (ج 16/ ص 278).
المؤمنين (عليه السلام): «اغتنموا الدعاء عند أربع: عند قراءة القرآن، وعند الأذان، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الصفّين للشهادة»(10).
ومنها: ما رواه الشيخ الطوسي (رحمه الله) عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وصيَّته لأبي ذرٍّ، قال: «يا أبا ذرٍّ، اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحَّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل مماتك»(11)، وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً: «إذا عملت أُمَّتي خمس عشرة خصلة حلَّ بهم البلاء: إذا كان الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والصدقة مغرماً»(12).
وروى الحاكم في مستدركه عن النبيِّ (صلى الله عليه [وآله])، قال: «الرهن له غنمه وعليه غرمه»(13).
وروى ابن ماجة في سُنَنه عن النبيِّ (صلى الله عليه [وآله]) أنَّه قال: «من دفع الزكاة فليقل وهو يدفع الزكاة: اللّهمّ اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً»(14)، فقوله: «اجعلها مغنماً» يعني: اجعلها فائدةً، ومنفعةً في الآخرة ولا تجعلها خسارةً.
وروى أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا غَنِيمَةُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ؟ قَالَ: «غَنِيمَةُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الجَنَّةُ الجَنَّةُ»(15).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) الكافي للكليني (ج 2/ ص 477/ باب الأوقات والحالات التي تُرجى فيها الإجابة/ ح 3).
(11) أمالي الطوسي (ج 2/ ص 103).
(12) الوسائل (ج 17/ ص 311/ باب تحريم الغناء حتَّى في القرآن وتعليمه وأُجرته/ ح 31).
(13) مستدرك الصحيحين للحاكم النيسابوري (ج 2/ ص 58)، وعلَّق عليه بأنَّه صحيح على شرط الشيخين.
(14) سُنَن ابن ماجة (ج 5/ ص 448).
(15) مسند أحمد (ج 13/ ص 403).
هذه وغيرها من الروايات التي وردت في كُتُب المسلمين التي استخدمت مادَّة (غَنِم) في مطلق الفائدة، فمن يدَّعي اختصاصها بغنيمة الحرب عليه أن يُقدِّم مستنداً يُثبِت لنا أنَّ الشارع المقدَّس قد خصَّص لفظ الغنيمة كمصطلح شرعي لغنيمة الحرب فقط، فإنَّ استخدامها في غنيمة الحرب لا يعني اختصاصها فيه؛ وذلك لأنَّ المورد لا يُخصِّص الوارد كما هو واضح.
القرينة الثالثة: القرائن الداخلية من نفس آية (الغنيمة):
فإنَّها واضحة في دلالتها على مطلق الفائدة، وهي:
أوَّلاً: قوله تعالى: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾، فإنَّ لفظ (الشيء) يُطلَق حتَّى على المال اليسير، وأموال الحرب كثيرة، ولا تُناسِب المال القليل، فإطلاق لفظ (الشيء) يفيد العموم.
ثانياً: أنَّ آية (الخُمُس) سبقتها آيات تخاطب المؤمنين، ولم تقل: المجاهدين أو المقاتلين، فلو كانت الآية ناظرة إلى الحرب لكان المناسب أن تخاطب المجاهدين والمقاتلين.
ثالثاً: ورد أيضاً في الآيات السابقة عبارة: ﴿أَمْوالُكُمْ﴾(16)، فالغنيمة تكون إشارة إلى تلك الأموال لا خصوص أموال الحرب(17).
إشكال ودفع:
استدلَّ البعض بخصوص الخُمُس بغنيمة الحرب في الآية؛ وذلك لأنَّها وردت ضمن سياق آيات الجهاد، لذا فإنَّ قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ﴾ (الأنفال: 41) يشمل الغنائم الحربية بحسب السياق الذي قبلها وبعدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ (الأنفال: 28).
(17) المستند للخوئي (ج 25/ ص 196).
وهذا مردود بأنَّ قرينة السياق إن كانت تعود إلى قرينة المورد فإنَّه بالاتِّفاق المورد لا يُخصِّص الوارد، وإن كانت قرينة السياق أوسع من قرينة المورد عرفاً وعقلائياً، فلا يمكن أن تكون هذه القرينة مخصِّصة؛ وذلك لأنَّ قرينة السياق هنا إمَّا أن تكون بمثابة القرينة المتَّصلة، وعليه تمنع الظهور في العموم، أو تكون بمثابة القرينة المنفصلة، وعلى جميع الأحوال لا يمكن الالتزام بذلك في موردنا؛ لأنَّ قبول هذه الدعوى يلزم منه عدم انعقاد العموم في كافَّة الآيات القرآنية، ولا يوجد فيها أيُّ حكم عامٍّ أو قاعدة كلّيَّة؛ لأنَّ في أغلب آيات القرآن الكريم توجد قرينة السياق.
مضافاً إلى ذلك فإنَّ في قرينة السياق يجب أن يلحظ فيها جميع خصوصياتها لا بعضها، وعليه ستكون الآية مختصَّة بغنائم الحرب في خصوص معركة بدر وفقاً للسياق الذي جاءت به الآية الكريمة، وهذا ممَّا لا يلتزم به أحد من المذاهب الإسلاميَّة.
القرينة الرابعة: النصوص المفسِّرة لآية الخُمُس:
وردت نصوص عدَّة قد فسَّرت آية الخُمُس بمطلق الفوائد لا في خصوص غنيمة الحرب، منها: صحيحة عليِّ بن مهزيار عن أبي جعفر (عليه السلام)، حيث ورد فيها ما نصُّه: «فأمَّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلِّ عام، قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41]، والغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان
للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يُحتَسب من غير أب ولا ابن»(18).
فإنَّ عطف الإمام لمفردة (الفوائد على الغنائم) ظاهر في العطف التفسيري، وأنَّ المراد بالغنائم هي نفس الفوائد.
وفي رواية عن الإمام (عليه السلام) حول معنى ﴿غَنِمْتُمْ﴾ في الآية الكريمة حيث يقول تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنفال: 41) سُئِلَ (عليه السلام) عن ذلك فأجاب (عليه السلام): «هي والله الإفادة يوماً بيوم»(19)، فإنَّ هذه الرواية واضحة الدلالة في تطبيق الغنيمة على عموم الإفادة يوماً بيوم، واشتمالها على التعليل لا يقدح في المقصود من الاستدلال بعموم الآية، وسيأتي الجواب عن ذيلها عند التعرُّض لروايات التحليل.
ومن الروايات أيضاً رواية الصفّار في (بصائر الدرجات) بسنده عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قرأت عليه آية الخُمُس، فقال: «ما كان لله فهو لرسوله، وما كان لرسوله فهو لنا»، ثمّ قال: «لقد يسَّر الله على المؤمنين أنَّه رزقهم خمسة دراهم وجعلوا لربِّهم واحداً وأكلوا أربعة حلالاً»، ثمّ قال: «هذا من حديثنا صعب مستصعب لا يعمل به ولا يصبر عليه إلَّا ممتحن قلبه للإيمان»(20)، فإنَّ هذه الرواية تدلُّ على انطباق الخُمُس في الآية الكريمة حتَّى على درهم واحد من خمسة دراهم المرزوقة، فيجب أداؤه حتَّى يكون الباقي حلالاً، ويتوقَّف ذلك على صدق الغنيمة على مجموع تلك الدراهم، وهذا التفسير أي دلالتها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18) الوسائل (ج 9/ ص 499/ باب وجوب الخُمُس فيما يفضل عن مؤونة السنة/ ح 5).
(19) الكافي (ج 1/ ص 544/ باب الفيء والأنفال.../ ح 10).
(20) بصائر الدرجات (ص 49/ الجزء 1/ باب 12/ ح 5).
على مطلق الفائدة متلائم مع ذيل الرواية من قوله: «صعب مستصعب»؛ لأنَّ غيره لا يكون كذلك.
ومنها ما عن الفقه الرضوي بعد ذكر آية الغنيمة: ... وكلُّ ما أفاده الناس فهو غنيمة، ولا فرق بين الكنوز والمعادن والغوص...، وربح التجارة وغلَّة الضيعة وسائر الفوائد والمكاسب والصناعات والمواريث وغيرها؛ لأنَّ الجميع غنيمة وفائدة»(21).
ومنها رواية حمّاد بن عمرو وأنس بن محمّد، عن أبيه جميعاً، عن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه في وصيَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليٍّ (عليه السلام)، قال: «يا عليُّ، إنَّ عبد المطَّلب سنَّ في الجاهلية خمس سُنَن أجراها الله له في الإسلام...»، إلى أن قال: «ووجد كنزاً فأخرج منه الخُمُس وتصدَّق به، فأنزل الله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ...﴾ [الأنفال: 41]»(22).
الدليل الثاني: السّنَّة الشريفة:
وردت روايات عدَّة عن الأئمَّة (عليهم السلام) قد بلغت حدَّ التواتر، أو الاستفاضة ممَّا لا يمكن نكرانها، أو الطعن بها تدلُّ وبشكل واضح على وجوب الخُمُس في أرباح المكاسب ومطلق الفوائد، وإليك بعضها:
1- صحيحة عليِّ بن مهزيار عن أبي جعفر (عليه السلام) حيث ورد فيها ما نصُّه: «فأمَّا الغنائم والفوائد، فهي واجبة عليهم في كلِّ عام، قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) مستدرك الوسائل (ج 7/ ص 284/ باب 6 من أبواب ما يجب فيه الخمس/ ح 1).
(22) الوسائل (ج 9/ ص 496/ باب 5 من أبواب ما يجب فيه الخمس/ ح 3).
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41]، والغنائم والفوائد يرحمك الله، فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان، التي لها خطر»(23).
ومحصَّل مفاد هذه الصحيحة إيجابه (عليه السلام) الخُمُس في الفوائد وكلِّ ما يستفيده الإنسان، وكذا الجائزة التي لها خطر.
2- صحيحته الأُخرى التي ورد فيها ما نصُّه: وعنه، قال: كتب إليه إبراهيم بن محمّد الهمداني: أقرأني عليٌّ كتاب أبيك فيما أوجبه على أصحاب الضياع أنَّه أوجب عليهم نصف السدس بعد المؤونة، وأنَّه ليس على من لم يقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك، فاختلف من قبلنا في ذلك فقالوا: يجب على الضياع الخُمُس بعد المؤونة مؤونة الضيعة، وخراجها لا مؤونة الرجل وعياله، فكتب -وقرأه عليُّ بن مهزيار-: «عليه الخُمُس بعد مؤونته ومؤونة عياله وبعد خراج السلطان»(24).
وتدلُّ هذه الرواية على إيجاب نصف السُّدُس في ربح الضيعة التي تفي بالمؤونة في كلِّ عام.
إن قلتَ: كيف يُحوِّل الإمام (عليه السلام) الخُمُس إلى نصف السُّدُس؟
قلتُ: سيأتي فيما بعد أنَّ للإمام (عليه السلام) حقَّ الولاية على بيت المال، فله أن يُخفِّف الخُمُس إلى نصف السُّدُس في مدَّة خاصَّة، والظاهر أنَّ هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23) الوسائل (ج 9/ ص 499/ باب وجوب الخُمُس فيما يفضل عن مؤونة السنة/ ح 5).
(24) الوسائل (ج 9/ ص 500/ باب وجوب الخُمُس فيما يفضل عن مؤونة السنة/ ح 4).
الحكم كان خاصّاً في أيّام حياته تخفيفاً لهم لما كانوا يعانونه من العوز والاضطهاد.
ومضافاً إلى ذلك فهذه الصحيحة تدلُّ أيضاً على وجوب الخُمُس في كلِّ فائدة، كما هو ظاهر من قوله: «وعليه الخُمُس بعد المؤونة ومؤونة عياله...» إلى آخره.
3- موثَّقة سماعة، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخُمُس، فقال: «في كلِّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير»(25)، أي كلُّ ما استفاد الناس، وهذه واضحة الدلالة في وجوب الخُمُس في مطلق الفائدة سواء كانت قليلة أو كثيرة.
4- صحيحة البزنطي، قال: كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام): الخُمُس أُخرجه قبل المؤونة أو بعد المؤونة؟ فكتب: «بعد المؤونة»(26).
5- صحيحة الريّان بن الصلت، قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام): ما الذي يجب عليَّ يا مولاي في غلَّة رحى أرض في قطيعة لي، وفي ثمن سمك وبردي وقصب أبيعه من أجمة هذه القطيعة؟ فكتب: «يجب عليك فيه الخُمُس، إن شاء الله تعالى»(27)، فإنَّها تدلُّ على وجوب الخُمُس في أرباح المكاسب كالغلَّة وثمن السمك والبردي والقصب؛ لاختصاص السؤال بها، فلا تنافي ما تدلُّ على تعلُّ الخُمُس بمطلق الفائدة ولو من غير اكتساب.
6- صحيحة أحمد بن محمّد بن عيسى، قال: كتبت: جُعلت لك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25) الوسائل (ج 9/ ص 503/ باب وجوب الخُمُس فيما يفضل عن مؤونة السنة/ ح 6).
(26) الوسائل (ج 6/ ص 354/ باب أنَّ الخُمُس لا يجب إلَّا بعد المؤونة/ ح 1).
(27) المصدر السابق (ج 6/ ص 351/ باب وجوب الخُمُس فيما يفضل عن مؤونة السنة/ ح 9).
الفداء، تُعلِّمني ما الفائدة وما حدُّها؟ رأيك أبقاك الله أن تمنَّ عليَّ ببيان ذلك لكي لا أكون مقيما على حرام لا صلاة لي ولا صوم، فكتب: «الفائدة ممَّا يفيد إليك في تجارة من ربحها، وحرث بعد الغرام، أو جائزة»(28)،(29).
7- معتبرة يونس بن يعقوب بطريق الصدوق: عن يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فدخل عليه رجل من القمّاطين، فقال: جُعلت فداك، تقع في أيدينا الأرباح والأموال وتجارات نعلم أنَّ حقَّك فيها ثابت، وإنّا عن ذلك مقصِّرون، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «ما أنصفناكم إن كلَّفناكم ذلك اليوم»(30).
8- معتبرة أبي بصير التي نقلها صاحب السرائر عن كتاب محمّد بن عليِّ بن محبوب: عن أحمد بن هلال، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كتبت إليه في الرجل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) المصدر السابق (ج 6/ ص 350/ باب وجوب الخُمُس فيما يفضل عن مؤونة السنة / ح 7).
(29) الرواية عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن يزيد، وهو يسأل الإمام (عليه السلام) عن موضوع الخُمُس، وهي الفائدة وحدودها، فأجابه الإمام (عليه السلام) أنَّه مطلق الفائدة سواء كانت تجارة أو غيرها، فالرواية واضحة الدلالة.
إلَّا أنَّه حصل كلام في سندها؛ لأنَّ فيه اضطراب، فقد ورد في بعض نسخ الكافي بعنوان (ابن يزيد)، وفي بعض النسخ: (عن يزيد). وعلى الأوَّل لا بدَّ من افتراض السقط في الإسناد؛ وذلك لأنَّ أحمد بن محمد بن عيسى هو ابن عبد الله الأشعري لا ابن يزيد، وهنالك احتمالان: إمَّا أن يكون هو يعقوب بن يزيد الكاتب الأنباري، وهو ثقة ومن الأجلاء من أصحاب الرضا والهادي، فيتمُّ السند. أو يكون مردَّد بين يزيد بن إسحاق الذي لم يرد فيه توثيق إلَّا بناءً على وروده في كامل الزيارات، أو يكون يزيد بن حمّاد الأنباري، وقد وثَّقه الشيخ، وعليه يمكن تصحيح السند بعد متابعة الطبقة والمناسبة.
(30) من لا يحضره الفقيه (ب 7 من أبواب الزكاة/ ح 16).
يهدي إليه مولاه والمنقطع إليه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقلّ أو أكثر، هل عليه فيها الخُمُس؟ فكتب (عليه السلام): «الخُمُس في ذلك»، وعن الرجل يكون في داره البستان فيه الفاكهة يأكله العيال إنَّما يبيع منه الشيء بمائة درهم أو خمسين درهما، هل عليه الخُمُس؟ فكتب: «أمَّا ما أكل فلا، وأمَّا البيع فنعم، هو كسائر الضياع»(31).
وهذه الرواية واضحة الدلالة في تعلُّق الخُمُس بمطلق الفائدة ولو من غير اكتساب كما هو واضح من السؤال الأوَّل. وأمَّا السؤال الثاني فيدلُّ على تعلُّق الخُمُس بخصوص أرباح المكاسب كبيع الفاكهة من بستان، فهذه الرواية واضحة الدلالة إلَّا أنَّه فيها كلام من حيث ورد في سندها (أحمد بن هلال العبرتائي)، وهو فاسد العقيدة مرمي بالغلوِّ، إلَّا أنَّه وثَّقه النجاشي، إضافةً إلى وقوعه في طريق أسانيد كامل الزيارات وتفسير القمّي، وعليه يكون ثقةً بناءً على هذه القرائن، وفساد عقيدته لا تضرُّ بوثاقته كما أفاد السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) في معجمه(32).
الدليل الثالث: السيرة العملية القطعية:
قيام السيرة العملية القطعية، والارتكاز المتشرِّعي على أخذ الأئمَّة (عليهم السلام) خُمُس المكاسب، ومطلق الفوائد، والأرباح التي كان يحصل عليها شيعتهم والتزامهم بإيصالها لهم صلوات الله عليهم على رغم ظروف التقيَّة والتشديد من قِبَل السلطات الحاكمة حيث كانت تصل إليهم من شتّى أمصار الحواضر الإسلاميَّة من قم وخراسان والأهواز والعراق، وكان لأهل البيت (عليهم السلام) وكلاء يقبضون عنهم الأخماس،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(31) وسائل الشيعة (ج 6/ ص 351/ باب وجوب الخُمُس فيما يفضل عن مؤونة السنة / ح 10).
(32) معجم رجال الحديث (ج 2/ ص 354).
واستمرَّت هذه السيرة إلى زمن الغيبة الصغرى، وتلقّاها علماؤنا جيلاً عن جيل بالقبول ولم يُردَع عنها، وإليك بعض هذه الأخبار الدالَّة والمعبِّرة عن سيرة الأئمَّة وشيعتهم فيما يرتبط بأداء هذه الفريضة.
منها: صحيحة عليِّ بن مهزيار، قال: قال لي أبو عليّ بن راشد: قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك، وأخذ حقِّك، فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: وأيُّ شيء حقّه؟ فلم أدر ما أُجيبه، فقال: «يجب عليهم الخُمُس»، فقلت: ففي أيِّ شيء؟ فقال: «في أمتعتهم وصنائعهم»، قلت: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال: «إذا أمكنهم بعد مؤونتهم»(33).
ومنها: صحيحة الحكم بن علباء الأسدي، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقلت له: إنّي وُلّيت البحرين فأصبت بها مالاً كثيراً، واشتريت متاعاً، واشتريت رقيقاً، واشتريت أُمَّهات أولاد ووُلِدَ لي وأنفقت، وهذا خمس ذلك المال، وهؤلاء أُمَّهات أولادي ونسائي قد أتيتك به، فقال: «أمَا إنَّه كلُّه لنا، وقد قبلت ما جئت به، وقد حللتك من أُمَّهات أولادك ونسائك، وما أنفقت، وضمنت لك عليَّ وعلى أبي الجنَّة»(34).
ومنها: ما رواه الشيخ (رحمه الله) في الغيبة عند حديثه عن السفير الأوَّل، قال أبو نصر: كان أسدياً فنُسِبَ إلى جدِّه فقيل: العُمري، وقد قال قوم من الشيعة: إنَّ أبا محمّد الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) قال: «لا يجمع على امرئ بين عثمان وأبي عمرو، وأمر بكسر كنيته»، فقيل: العَمري، ويقال له: العسكري أيضاً؛ لأنَّه كان من عسكر سُرَّ من رأى، ويقال له: السمّان؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33) الوسائل (ج 9/ ص 500/ باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس/ ح 3).
(34) الوسائل (ج 9/ ص 528/ باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس/ ح 13).
لأنَّه كان يتَّجر في السمن تغطيةً على الأمر، وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمّد (عليه السلام) ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إلى أبي عمرو فيجعله في جراب السمن وزقاقه، ويحمله إلى أبي محمّد (عليه السلام) تقيَّةً وخوفاً(35).
ومنها: عن محمّد بن إسماعيل وعليِّ بن عبد الله الحسنيّان، قالا: دخلنا على أبي محمّد الحسن (عليه السلام) بسُرَّ من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته حتَّى دخل عليه بدر خادمه فقال: يا مولاي، بالباب قوم شعث غبر، فقال لهم: «هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن»، في حديث طويل يسوقانه إلى أن ينتهي إلى أن قال الحسن (عليه السلام) لبدر: «فامض فأتنا بعثمان بن سعيد العَمري»، فما لبثنا إلَّا يسيراً حتَّى دخل عثمان، فقال له سيِّدنا أبو محمّد (عليه السلام): «امض يا عثمان، فإنَّك الوكيل والثقة المأمون على مال الله واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال».
ثمّ ساق الحديث إلى أن قالا: ثمّ قلنا بأجمعنا: يا سيِّدنا! والله إنَّ عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك، وأنَّه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى، قال: «نعم واشهدوا عليَّ أنَّ عثمان بن سعيد العَمري وكيلي، وأنَّ ابنه محمّداً وكيل ابني مهديّكم»(36).
الدليل الرابع: الإجماع:
وقد استُدِلَّ على وجوب الخُمُس في هذا الصنف بالإجماع المحصَّل، والمنقول معاً، والظاهر أنَّه لم يُنقَل الخلاف في ذلك إلَّا عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل(37).
وقد ذكر السيِّد المرتضى (رحمه الله) في الانتصار ما نصُّه: (وممَّا انفردت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(35) الغيبة للطوسي (ص 354).
(36) المصدر نفسه (ص 356).
(37) الحدائق (ج 12/ ص 347).
به الإماميَّة القول بأنَّ الخُمُس واجب في جميع المغانم والمكاسب وممَّا استُخرِجَ من المعادن والغوص والكنوز وممَّا فضل من أرباح التجارات والزراعات والصناعات بعد المؤنة والكفاية في طول السنة على الاقتصاد)(38).
وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الخلاف: (يجب الخُمُس في جميع المستفاد من أرباح التجارات، والغلّات، والثمار على اختلاف أجناسها بعد إخراج حقوقها ومؤنتها وإخراج مؤنة الرجل لنفسه ومؤنة عياله سنة، ولم يوافقنا على ذلك أحد من الفقهاء(39). دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك؛ لأنَّه إذا أخرج الخُمُس عمَّا ذكرناه كانت ذمَّته بريئة بيقين، وإن لم يخرج ففي براءة ذمَّته خلاف)(40).
وقال ابن زهرة الحلبي (رحمه الله) في كتابه غنية النزوع: (ويجب الخُمُس أيضاً في الفاضل عن مؤونة الحول على الاقتصاد من كلِّ مستفاد بتجارة أو زراعة أو صناعة أو غير ذلك من وجوه الاستفادة أيّ وجه كان؛ بدليل الإجماع المشار إليه، وطريقة الاحتياط)(41).
وقال صاحب الجواهر (رحمه الله): (إنَّ هذا هو الذي استقرَّ عليه المذهب والعمل في زماننا هذا، بل وغيره من الأزمنة السابقة)(42).
وقد يقال: إنَّ مثل هذه الإجماعات لا يمكن الاستناد إليها؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى أدلَّة أُخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38) الانتصار (ص 86).
(39) والمراد فقهاء أهل السُّنَّة.
(40) الخلاف للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 118).
(41) غنية النزوع (ص 129).
(42) الجواهر (ج 16/ ص 60).
قلنا: ويمكن دفع ذلك في خصوص موردنا بقيام السيرة العملية من الشيعة الإماميَّة الممتدَّة إلى زمن الأئمَّة (عليهم السلام) على إعطاء هذا الحقِّ إليهم (عليهم السلام) أو إلى وكلائهم، فكأنَّه أصبح من المسلَّمات عندهم كما تقدَّم عن الجواهر، وكيف كان فلا ينحصر دليل هذا الصنف بالإجماع كما تقدَّم.
* * *
مفاد الشبهة
يعترض البعض على مسألة تفعيل الخُمُس في أرباح المكاسب بدعوى أنَّه لو كان مجعولاً في عهد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما خفي حتَّى على الشيعة، وبقي ذلك إلى عهد الصادقين وما بعد، ولماذا لم يُفعِّله النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكذا أمير المؤمنين (عليه السلام)، مع أنَّهم كانوا على رأس الدولة الإسلاميَّة، وكانت الأموال والضرائب تُجبى إليهم، فلو كان هذا الصنف مجعولاً لبان في عهدهما (عليهما السلام)، وحثُّوا الناس على دفعه، ولبعثوا الجباة، وحذَّروا من عدم تطبيقه.
ردُّ الشبهة
إنَّ ما طُرِحَ في هذه الشبهة ليس أمراً جديداً في الواقع، بل قد ذُكِرَ في كلمات الفقهاء الأعلام، وأجابوا عليها بإجابات عدَّة يمكن الركون إليها، والاطمئنان بها، وإليك بيانها من خلال أُمور عدَّة:
الأمر الأوَّل:
إنَّ عدم تفعيل النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خُمُس أرباح المكاسب يحتمل لكفاية الزكاة، وغنيمة الحرب، وسائر الصدقات في سدِّ معاش المسلمين آنذاك بلا حاجة لإبراز هذا الصنف بخلافه في الأزمنة المتأخِّرة، إذ انعدمت غنيمة الحرب، وإنَّ السلطة
كانت تستحوذ على الزكاة(43) وعلى الغنائم، فتمَّ إبراز أرباح المكاسب لحاجته من قِبَل الأئمَّة (عليهم السلام)، وخصوصاً أنَّهم كانوا يعيشون مع شيعتهم حالة العوز بسبب اضطهادهم، والتضييق عليهم من قِبَل السلطات الحاكمة، وعدم السماح لهم بمزاولة الأعمال في مؤسَّسات الدولة آنذاك، وهذا عليه شواهد كثيرة في النصوص والروايات.
أمَّا مسألة كفاية الزكاة، فقد وردت روايات صحيحة في هذا الشأن، منها: صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أنَّ ذلك لا يسعهم لزادهم، إنَّهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله (عزَّ وجلَّ)، ولكن أُوتوا من منع من منعهم حقَّهم، لا ممَّا فرض الله لهم، ولو أنَّ الناس أدَّوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير»(44).
ومنها: صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) فرض الزكاة كما فرض الصلاة، فلو أنَّ رجلاً حمل الزكاة فأعطاها علانية لم يكن عليه في ذلك عيب، وذلك أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به، ولو علم أنَّ الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم، وإنَّما يُؤتى الفقراء فيما أُوتوا من منع من منعهم حقوقهم، لا من الفريضة»(45).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(43) وهذا واضح لكلِّ من تتبَّع الأحداث والمجريات التاريخية التي حصلت بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حيث بدأت السلطة بالاستحواذ على المصادر المالية التي كانت بيد المسلمين، والأئمَّة (عليهم السلام)، وأبرزها أموال الزكاة، بدأ بحادثة مالك بن نويرة الذي امتنع عن إعطاء الزكاة إلَّا للخليفة الشرعي الذي نُصِبَ من قِبَل النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فتمَّ قتله لامتناعه عن ذلك، وهكذا استمرَّت هذه الطريقة وهذا المنهج حتَّى في عصر الأئمَّة الأطهار (عليهم السلام).
(44) وسائل الشيعة (ج 9/ ص 10/ أبواب ما تجب فيه الزكاة/ ح 2).
(45) نفس المصدر (ح 3).
ومنها: صحيحة ابن مسكان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم، ولولا ذلك لزادهم، وإنَّما يؤتون من منع من منعهم»(46).
وأمَّا مسألة كفاية غنيمة الحرب، فهذا واضح من خلال النظر في كثرة الحروب التي كانت على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقلَّة المسلمين آنذاك.
الأمر الثاني:
يوجد عندنا في الشريعة المقدَّسة نمطين من الأحكام، فقد ينشأ الحكم في زمان ما ويتمُّ تفعيله في نفس ذلك الزمان كالزكاة مثلاً، وقد ينشأ الحكم في زمان ما ولكن تفعيله يكون في زمان متأخِّر بناءً على مسألة التدرُّج في الأحكام، فهكذا الخُمُس فقد شُرِّع بجعل من الله تعالى، وأمَّا إبرازه فقد تمَّ في زمان متأخِّر، ونظير ذلك في الشريعة الإسلاميَّة حكم قتال البغاة، فهو موجود في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأَخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ﴾ (الحجرات: 9)، ولكن لم يُفعَّل في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وتمَّ تفعيله في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا لا يعني عدم تشريعه، وإنَّما زمن تفعيله قد تأخَّر عن تشريعه، فلولا سيرة الإمام عليٍّ (عليه السلام) في أهل الجمل وصفّين لما عُرِفَ حكم البغاة من المسلمين إلى قيام يوم الدين.
الأمر الثالث:
من الثابت عندنا ثبوت حقِّ التشريع للأئمَّة (عليهم السلام)، وأنَّهم كالنبيِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(46) نفس المصدر (ح 9).
(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيكون الخُمُس في الغنائم والموارد الأُخرى مجعولاً منذ عصر النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بفرض من الله تعالى، وأمَّا خُمُس أرباح المكاسب فإنَّه بجعل الأئمَّة (عليهم السلام) بما لهم من أحقّية التشريع ولو على سبيل المبرزية، ولذلك قد ورد له نظير في الأحكام الإسلاميَّة من قبيل جعل الزكاة في الأُمور التسعة من قِبَل النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنَّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) قد أوجب الزكاة على الجياد في عهده واستمرَّ هذا الحكم إلى يومنا هذا.
ففي صحيحة محمّد بن مسلم وزرارة، عنهما جميعاً -أي الباقر والصادق (عليهما السلام)- قالا: «وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية في كلِّ فرس في كلِّ عام دينارين، وجعل على البراذين ديناراً»(47).
وكذا في صحيحة زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هل في البغال شيء؟ فقال: «لا»، فقلت: فكيف صار على الخيل ولم يصر على البغال؟ فقال: «لأنَّ البغال لا تلقح والخيل الإناث ينتجن، وليس على الخيل الذكور شيء»، قال: فما في الحمير؟ قال: «ليس فيها شيء»، قال: قلت: هل على الفرس أو البعير يكون للرجل يركبهما شيء؟ فقال: «لا ليس على ما يعلف شيء، إنَّما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها عامها الذي يقتنيها فيه الرجل، فأمَّا ما سوى ذلك فليس فيه شيء»(48).
وهكذا مسألة خُمُس المكاسب، فإنَّه وإن تنزَّلنا بعدم تشريعه في عهد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد شُرِّعَ من قِبَل الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام)، وورد في ذلك روايات متواترة لا يمكن رفضها بأيِّ شكل من الأشكال، منها:
1- صحيحة عليِّ بن مهزيار، عن أبي جعفر الجواد (عليه السلام) حيث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(47) وسائل الشيعة (ج 9/ ص 77/ باب استحباب الزكاة في الخيل الإناث/ ح 1).
(48) نفس المصدر (ص 78/ ب 16/ ح 3).
ورد فيها ما نصُّه: «فأمَّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلِّ عام، قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41]، والغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر»(49).
2- صحيحته الأُخرى التي ورد فيها ما نصُّه: وعنه، قال: كتب إليه إبراهيم بن محمّد الهمداني: أقرأني عليٌّ كتاب أبيك فيما أوجبه على أصحاب الضياع أنَّه أوجب عليهم نصف السدس بعد المؤونة، وأنَّه ليس على من لم يقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك، فاختلف من قبلنا في ذلك فقالوا: يجب على الضياع الخُمُس بعد المؤونة مؤونة الضيعة، وخراجها لا مؤونة الرجل وعياله، فكتب -وقرأه عليُّ بن مهزيار-: «عليه الخُمُس بعد مؤونته ومؤونة عياله وبعد خراج السلطان»(50).
3- موثَّقة سماعة، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخُمُس، فقال: «في كلِّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير»(51).
4- صحيحة البزنطي، قال: كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام): الخُمُس أُخرجه قبل المؤونة أو بعد المؤونة؟ فكتب: «بعد المؤونة»(52).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(49) الوسائل (ج 9/ ص 499/ باب وجوب الخمس فيما يفضل عن مؤونة السنة/ ح 5).
(50) الوسائل (ج 9/ ص 500/ باب وجوب الخُمُس فيما يفضل عن مؤونة السنة/ ح 4).
(51) الوسائل (ج 9/ ص 503/ باب وجوب الخُمُس فيما يفضل عن مؤونة السنة/ ح 6).
(52) الوسائل (ج 6/ ص 354/ باب وجوب الخُمُس فيما يفضل عن مؤونة السنة/ ح 1).
5- صحيحة الريّان بن الصلت، قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام): ما الذي يجب عليَّ يا مولاي في غلَّة رحى أرض في قطيعة لي، وفي ثمن سمك وبردي وقصب أبيعه من أجمة هذه القطيعة؟ فكتب: «يجب عليك فيه الخُمُس، إن شاء الله تعالى»(53).
وغيرها من الروايات التي تقدَّم ذكرها.
الأمر الرابع:
عدم وضوح كيفية أخذ الخُمُس في عهد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وخصوصاً أنَّ التاريخ لم يُسجِّل الأحداث العادية من قبيل من يدفع الزكاة، ومن يُصلّي، فلعلَّ الناس كانوا يدفعون الخُمُس، ولكن لم يصل إلينا ذلك بسبب طول الفترة الزمنية التي بيننا وبينه التي تخلَّل بينها عصر الأُمويين، والعبّاسيين الذين عمدوا على تغييب السُّنَّة النبوية الشريفة، وتغيير الكثير من أحكام الدين، وأرجعوا الحكم الإسلامي إلى الجاهلية حتَّى إنَّ أغلب الناس لم يعرفوا الكثير من فرائض الدين، فقد روى جملة من علماء أهل السُّنَّة أنَّ أكثر أهل الشام لم يكونوا يعرفون أعداد الفرائض، ومناسك الحجِّ(54)، وزكاة الفطرة، وصدقة الصيام، والحال أنَّ مثل هذه الأحكام من ضروريات الإسلام، وقد تمَّ تغييبها، فما بالك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(53) المصدر السابق (ج 6/ ص 351/ ب 8/ ح 9).
(54) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَهُوَ يَسْأَلُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: هِيَ حَلاَلٌ. فَقَالَ الشَّامِيُّ: إِنَّ أَبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَبِي نَهَى عَنْهَا وَصَنَعَهَا رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه (وآله) وسلّم) أَأَمْرَ أَبِي نَتَّبِعُ أَمْ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه (وآله) وسلّم)؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلْ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه (وآله) وسلّم)، فَقَالَ: لَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه (وآله) وسلّم). قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. سنن الترمذي (ج 3/ ص 404).
بالخُمُس الذي هو حقٌّ خاصٌّ بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقرابته، فإنَّه لم يكن حقٌّ عامٌّ كالزكاة وغيرها حتَّى يُتصدّى لإبرازه وجبايته.
الأمر الخامس:
مضافاً لما تقدَّم فهنالك شواهد تاريخية وروائية على جباية الخُمُس في عهد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، منها:
أوَّلاً: الشواهد التاريخية:
1- لمَّا قَدِمَ وفد عبد القيس على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا: يا رسول الله، إنَّ هذا الحيَّ من ربيعة قد حالت بيننا وبينك كفّار مضر، ولسنا نخلص إليك إلَّا في الشهر الحرام، فمرنا بشيء نأخذه عنك وندعو إليه من ورائنا، قال: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلَّا الله -وعقد بيده هكذا-، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تُؤدُّوا خمس ما غنمتم»(55)، ومن الواضح في هذه الوثيقة أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يطلب منهم أن يدفعوا غنائم الحرب، حيث إنَّهم لا يستطيعون الخروج إلَّا في الأشهر الحرم خوفاً من المشركين، وعليه فيكون المراد بالمغنم ما يربحون أو يستفيدون.
2- كتب لملوك حمير فيما كتب: «بسم الله الرحمن الرحيم... أَمَّا بَعْدُ، ذَلِكُمْ فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ بِهِ رَسُولُكُمْ مُنْقَلَبَنَا مِنْ أَرْضِ الرُّوم فَلَقِيَنَا بِالمَدِينَةِ، فَبَلَّغَ مَا أَرْسَلْتُمْ بِهِ وَخَبَّرَ مَا قَبْلَكُمْ وَأَنْبَأْنَا بِإِسْلَامِكُمْ وَقَتْلِكُمْ المُشْرِكِينَ وَأَنَّ اللهَ قَدْ هَدَاكُمْ بِهُدَاهُ إنْ أَصْلَحْتُمْ وَأَطَعْتُمْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَأَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَأَعْطَيْتُمْ مِنْ المَغَانِمِ خُمُسَ اللهِ وَسَهْمَ الرَّسُولِ»(56).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(55) صحيح البخاري (ج 9/ ص 160).
(56) سيرة ابن هشام (ج 4/ ص 258).
3- كتب (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن: «بسم الله الرحمن الرحيم، هَذَا بَيَانٌ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ المَغَانِمِ خُمُسَ اللهِ، وَمَا كُتِبَ عَلَى المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَةِ مِنْ الْعَقَارِ عُشْرَ مَا سَقَتْ الْعَيْنُ وَسَقَتْ السَّمَاءُ، وَعَلَى مَا سَقَى الْغَرْبُ نِصْفَ الْعُشْرِ»(57).
4- كتاب النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للفجيع ومن تبعه ما نصُّه: «كتاباً من محمّد النبيِّ للفجيع ومن تبعه وأسلم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأعطى الله ورسوله وأعطى من المغانم خُمُس الله»(58).
5- كتاب النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لبني ثعلبة بن عامر: «من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأعطى خُمُس المغنم وسهم النبيِّ والصفيِّ فهو آمن بأمان الله»(59).
6- كتب النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى شرحبيل بن كلام ونعيم بن كلال وحارث بن كلال رؤساء قبيلة ذي رعين ومعافر وهمدان: «أمَّا بعد، فقد رجع رسولكم وأعطيتم من المغانم خُمُس الله»(60).
7- كتب (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى سعد هذيم من قضاعة وإلى جذام كتاباً واحداً يُعلِّمهم فيه فرائض الصدقة، وأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخُمُس إلى رسوليه أُبيّ وعنبسة(61).
8- وكتب النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لجهينة بن زيد فيما كتب: «وتشربوا ماءها على أن تُؤدُّوا الخُمُس»(62).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(57) نفس المصدر (ص 265).
(58) الطبقات لابن سعد (ج 1/ ص 304 و305).
(59) الإصابة في تمييز الصحابة (ج 2/ ص 189).
(60) تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك (ج 1/ ص 157).
(61) طبقات ابن سعد (ج 1/ ص 270).
(62) الوثائق السياسية (ص 142).
هذا وغيرها من الشواهد التي لا يسع المقام لذكرها حيث تبيَّن منها أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يطلب منهم خُمُس غنيمة الحرب، بل فرض عليهم ما استحقَّ في أموالهم من خُمُس سواء كانت غنيمة حرب أو غيرها؛ وذلك لأنَّ جميع الكُتُب التي صدرت من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يُقيِّدها النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بغنيمة الحرب، وخصوصاً أنَّ غنائم الحرب بيد الحاكم الإسلامي أو نائبه، فهو الذي يتولّى تقسيمها بعد أن يستخرج خُمُسها، وهذا يعني أنَّ ما كان يأمر به النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الخُمُس خارج عن غنائم الحرب.
ثانياً: الشواهد الروائية:
رويت روايات عدَّة في كُتُب العامَّة من أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد حكم بوجوب الخُمُس في الركاز(63) والكنز والسيوب(64)، منها:
1- ما روي عن ابن عبّاس، قال: (قضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الركاز الخمس)(65)، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «وفي الركاز خُمُس»(66).
2- رجل من حزينة سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مسائل جاء فيها: فالكنز نجده في الخرب والآرام، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «فيه وفي الركاز خُمُس»(67).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(63) الركاز: جمع الركزة، وهي القطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها. راجع: لسان العرب (ج 5/ ص 356).
(64) السيوب: جمع سيب، وهو المال المدفون في الجاهلية أو المعدن لأنَّه من فضل الله وعطائه لمن أصابه. راجع: لسان العرب (ج 1/ ص 477).
(65) مسند أحمد (ج 1/ ص 114).
(66) صحيح مسلم (ج 5/ ص 127).
(67) مسند أحمد (ج 2/ ص 186).
3- وعنه كتابه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لوائل بن حجر: «وفي السيوب خُمُس»(68).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(68) نهاية الأرب (ص 221).
مفاد الشبهة
قيل: إنَّ ابن عقيل وابن الجنيد أنكرا وجوب الخُمُس في أرباح المكاسب، وقد صرَّحا بذلك في مصنَّفاتهم، وهذا من القرائن المهمَّة التي تُبيِّن أنَّ هذا الحقَّ مختلف فيه عند علماء الطائفة ولم يُجمَع عليه.
ردُّ الشبهة
إنَّ للوقوف على حقيقة هذه الشبهة لا بدَّ علينا من التأمُّل في نفس كلمات ابن أبي عقيل وابن الجنيد؛ لأنَّ الظاهر من كلامهما غير واضح بشكل جليٍّ، بل إنَّه خلاف ما ادَّعاه المستشكل، وإليك التفصيل في ذلك:
أوَّلاً: أنَّ نصَّ ما ذكره ابن أبي عقيل هو: (وقد قيل الخُمُس في الأموال كلِّها، حتَّى على الخيّاط، والنجّار، وغلَّة الدار، والبستان، والصانع في كسب يده؛ لأنَّ ذلك إفادة من الله وغنيمة)(69)، وهذه العبارة خالية من النصِّ على عدم الوجوب، ولا يُستَظهر منها ذلك؛ لأنَّه اعتبر الجواز أحد الأقوال في المسألة حيث قال: (وقد قيل: الخُمُس في الأموال كلِّها...)، لكنَّه في مقابل هذا القول لم يُبيِّن رأياً آخر، ولذلك فهو لم يُصرِّح بعدم الوجوب حتَّى نعدَّ كلامه خلافاً للمشهور وخادشاً في الإجماع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(69) منتهى المطلب (ج 1/ ص 548).
وكذلك عندما أشار ابن أبي عقيل إلى القول بالوجوب ذكر مدركه حيث قال: (لأنَّ ذلك إفادة من الله وغنيمة)، ولم يشكل على ذلك، وهذه قد تكون قرينة على إرادة القول بالوجوب عنده نظراً لسكوته عن التعليق على الفتوى والمدرك.
ثانياً: وأمَّا نصُّ كلام ابن الجنيد هو: (فأمَّا ما استفيد من ميراث أو كدّ بدن أو صلة أخ أو ربح تجارة أو نحو ذلك، فالأحوط إخراجه لاختلاف الرواية في ذلك، ولو لم يُخرجه الإنسان لم يكن كتارك الزكاة التي لا خلاف فيها»(70)، وهذه العبارة يُفهَم منها:
1- القول بالوجوب وإن كان من باب الاحتياط، حيث قال: (الأحوط إخراجه)، وظهورها في الوجوب أوفق من غيره.
2- إنَّ ابن جنيد رجَّح أخبار الوجوب على أخبار التحليل وحَكَمَ بالاحتياط، حيث قال: (فالأحوط إخراجه لاختلاف الرواية في ذلك)، فهذا الترجيح ظاهر في الوجوب.
3- وقد اعتبر ابن جنيد تارك الخمس ليس كتارك الزكاة، حيث قال: (ولو لم يُخرجه الإنسان لم يكن كتارك الزكاة التي لا خلاف فيها)؛ وذلك لأنَّ أخبار وجوب الزكاة لا خلاف فيها وأمَّا أخبار وجوب الخمس قد جرى فيها خلاف بالنظر إلى روايات التحليل، وقوله هذا لا يُستفاد منه عدم الوجوب، بل هو ظاهر بالوجوب إلَّا أنَّه أشار إلى مسألة الخلاف.
ومن هنا فقد اتَّضح أنَّ المستشكل إمَّا أنَّه لم يفهم كلام ابن أبي عقيل وابن الجنيد، أو أنَّه قد اعتمد على النقولات التي نسبت إليهما هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(70) فتاوى ابن الجنيد للاشتهاردي (ص 103).
القول، وهذا يدلُّ على ضعف التحقيق، وقلَّة الأمانة العلمية، وعدم التتبُّع والنظر الدقيق في مثل هذه المسائل.
لذلك نجد أنَّ الأعلام والمحقِّقين كالسيِّد الخوئي (قدّس سرّه)، ونظائره من أهل التحقيق في هذا الفنِّ قد التفتوا إلى هذه المسألة، حيث إنَّهم ذكروا في بحوثهم أنَّ هذا القول قد نُسِبَ إلى ابن أبي عقيل وابن الجنيد، وقالوا بعدم صراحة العبارة المنقولة عنهما، وهي غير قادحة في انعقاد الإجماع، فقد قال السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) ما نصُّه: (الظاهر تسالم الأصحاب واتِّفاقهم قديماً وحديثاً على الوجوب؛ إذ لم يُنسَب الخلاف إلَّا إلى ابن الجنيد وابن أبي عقيل، ولكن مخالفتهما على تقدير صدق النسبة من أجل عدم صراحة العبارة المنقولة عنهما في ذلك لا تقدح في تحقُّق الإجماع ولاسيما الأوَّل منهما المطابقة فتواه لفتاوى أبي حنيفة غالباً كما لا يخفى)(71).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(71) مستند العروة (ج 25/ ص 195).
مفاد الشبهة
قيل: إنَّ فريضة خُمُس المكاسب لم يرد لها إشارة في الكُتُب الفقهية للقدماء، وإنَّ مسألة إعفاء الشيعة من هذا الصنف كانت مشهورة عندهم، ولم يُذكَر في مصنَّفاتهم مسألة وجوبه كما هو عليه الآن.
ردُّ الشبهة
أمَّا ما ذُكِرَ من عدم الإشارة لوجوب خُمُس المكاسب في كُتُب القدماء وأنَّ إعفاء الشيعة من هذا الصنف كان مشهوراً بينهم غير صحيح، ولم ينقل لنا المستشكل تلك الشهرة عن واحد من علماء الطائفة، بل الحقُّ على خلاف ذلك، وإليك جملة من هذه الأقوال:
1- قال الشيخ المفيد (413هـ) في المقنعة: (واعلم أرشدك الله أنَّ ما قدَّمته في هذا الباب من الرخصة في تناول الخُمُس والتصرُّف فيه إنَّما ورد في المناكح خاصَّة للعلَّة التي سلف ذكرها في الآثار عن الأئمَّة (عليهم السلام) لتطيب ولادة شيعتهم، ولم يرد في الأموال وما أخَّرته عن المتقدِّم ممَّا جاء في التشديد في الخُمُس والاستبداد به فهو يختصُّ بالأموال، وقد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك عند الغيبة، وذهب كلُّ فريق منهم فيه إلى مقال، فمنهم من يُسقِط فرض إخراجه لغيبة الإمام، وما تقدَّم من الرُّخَص فيه من الأخبار، وبعضهم يوجب كنزه وتناول خبراً ورد أنَّ الأرض تُظهِر كنوزها عند ظهور القائم مهدي الأنام، وأنَّه (عليه السلام) إذا قام
دلَّه الله سبحانه وتعالى على الكنوز، فيأخذها من كلِّ مكان، وبعضهم يرى صلة الذرّية وفقراء الشيعة على طريق الاستحباب، ولست أدفع قرب هذا القول من الصواب، وبعضهم يرى عزله لصاحب الأمر (عليه السلام) فإن خشي إدراك المنيَّة قبل ظهوره وصّى به إلى من يثق به في عقله وديانته ليُسلِّمه إلى الإمام (عليه السلام) إن أدرك قيامه وإلَّا وصّى به إلى من يقوم مقامه في الثقة والديانة، ثمّ على هذا الشرط إلى أن يظهر إمام الزمان، وهذا القول عندي أوضح من جميع ما تقدَّم؛ لأنَّ الخُمُس حقٌّ وجب لغائب لم يرسم فيه قبل غيبته رسماً يجب الانتهاء إليه، فوجب حفظه عليه إلى وقت إيابه، أو التمكُّن من إيصاله إليه، أو وجود من انتقل بالحقِّ إليه)(72).
أقول: إنَّ حاصل مذهب الشيخ المفيد (رحمه الله) هو وجوب إخراج خُمُس المكاسب، وفاضل المؤونة على المكلَّف ويدفع نصف الخُمُس إلى الأصناف الثلاثة من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، وأمَّا الآخر الخاصّ بالإمام، فإنَّ مذهب الشيخ المفيد (رحمه الله) فيه وجوب حفظه إلى حين خروج الإمام (عليه السلام)، وذلك لأنَّه حقٌّ لغائب لم يرسم فيه رسم، فإذا قرب موت المكلَّف عليه أن يوصي به إلى ثقة مأمون يدفعه إلى الإمام إذا أدرك خروجه، وهكذا.
فمن الواضح أنَّ رأي المفيد (رحمه الله) هو وجوب دفع الخُمُس في هذا الصنف في زمان الغيبة، وعدم العفو عنه إلَّا أنَّ الخلاف في مسألة صرف الحقِّ الخاصِّ بالإمام، وهذا تابع لرأي الفقيه وما فهمه من الأدلَّة.
2- وقال السيِّد المرتضى (436هـ) في الانتصار: (وممَّا انفردت به الإماميَّة القول بأنَّ الخُمُس واجب في جميع المغانم والمكاسب وممَّا استُخرِجَ من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(72) المقنعة (ص 285).
المعادن والغوص والكنوز وممَّا فضل من أرباح التجارات والزراعات والصناعات بعد المؤنة والكفاية في طول السنة على الاقتصاد)(73).
3- وقال الشيخ الطوسي (460هـ) في الخلاف: (يجب الخُمُس في جميع المستفاد من أرباح التجارات، والغلّات، والثمار على اختلاف أجناسها بعد إخراج حقوقها ومؤنتها وإخراج مؤنة الرجل لنفسه ومؤنة عياله سنة، ولم يوافقنا على ذلك أحد من الفقهاء. دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك؛ لأنَّه إذا أخرج الخُمُس عمَّا ذكرناه كانت ذمَّته بريئة بيقين، وإن لم يخرج ففي براءة ذمَّته خلاف)(74).
4- قال ابن زهرة الحلبي (585هـ) في كتابه غنية النزوع: (ويجب الخُمُس أيضاً في الفاضل عن مؤونة الحول على الاقتصاد من كلِّ مستفاد بتجارة أو زراعة أو صناعة أو غير ذلك من وجوه الاستفادة أيّ وجه كان؛ بدليل الإجماع المشار إليه، وطريقه الاحتياط)(75).
5- قال العلَّامة الحلّي (726هـ) في منتهى المطلب: (أرباح التجارات والزراعات والصنائع وجميع أنواع الاكتسابات وفواضل الأقوات من الغلّات والزراعات عن مؤونة السنة على الاقتصاد، وهو قول علمائنا أجمع، وقد خالف فيه الجمهور كافَّة. لنا قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ...﴾ [الأنفال: 41]، وهو وجه الاستدلال، أوجب الخُمُس في كلِّ ما يُغنَم، وهو يتناول غنيمة دار الحرب ويتناول غيرها، فالتخصيص من غير دليل باطل)(76).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(73) الانتصار (ص 86).
(74) الخلاف للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 118).
(75) غنية النزوع (ص 129).
(76) منتهى المطلب (ج 1/ ص 548).
أقول: قد تبيَّن ممَّا تقدَّم من الأقوال أنَّ مسألة وجوب الخُمُس في أرباح المكاسب قد ذكرها الفقهاء القدماء، وصرَّحوا بوجوب دفع الخُمُس في هذا الصنف، وإنَّما الخلاف في صرف الحقِّ الخاصِّ بالإمام (عليه السلام)، وإن أراد البعض استغلال هذا الاختلاف لتحليل خُمُس المكاسب إلَّا أنَّه من الواضح أنَّه خلاف اجتهادي تابع لفهم الفقيه للأدلَّة والمدارك، وهذا الخلاف لا يلزم منه تخطئة الفقهاء المتقدِّمين، فإنَّ الفقيه يلزمه اتِّباع الأدلَّة الصحيحة وكفى، ولعلَّ الدليل الصحيح قد وصل إلى المتقدِّمين ولم يصل إلى من جاء بعدهم، وكذا العكس، والواجب هو العمل بالدليل الواصل بالحجَّة المعتبرة والعمل، وما عليه مشهور المتقدِّمين ليس دليلاً يجب اتِّباعه ما لم تكن تلك الشهرة مستلزمة للعلم بالحكم الشرعي كأن تكون متَّصلة بزمن المعصوم (عليه السلام) بحيث يُعلَم بأنَّ الفقهاء القدماء أخذوا هذا الحكم عن الأئمَّة (عليهم السلام) يداً بيد.
* * *
مفاد الشبهة
وردت جملة من الأخبار يُستَظهر منها إباحة الخُمُس للشيعة مطلقاً، وأنَّهم في حلٍّ منه إلى زمان ظهور القائم (عجّل الله فرجه)، ولا يجب أداؤه عليهم البتَّة، وكأنَّه لم يبلغ مقام الفعلية بسبب التحليل الصادر عنهم (عليهم السلام)، فمفاد هذه الروايات أنَّه لا يجب دفع الحقِّ الشرعي، فإذا كان كذلك، فلماذا يُفتي الفقهاء بوجوب إيصاله إليهم؟ ولماذا أخفوا عن الناس روايات التحليل الصادرة عن أهل البيت (عليهم السلام)؟
ردُّ الشبهة
لم يخفِ فقهاء الشيعة روايات التحليل، كيف وقد ذُكِرَت في المجامع الروائية والكُتُب الفقهية، وتصدّى لها فقهاؤنا بحثاً وتنقيحاً في أسانيدها ومداليلها في مجالس درسهم، ومصنَّفاتهم المطوَّلة حالها حال سائر الروايات التي وردت عن الأئمَّة (عليهم السلام)، ومن أراد التأكُّد ليس عليه إلَّا أن يُمعِن النظر في تلك المصادر الروائية، وكُتُب البحث الاستدلالي للفقهاء الأعلام، فما يُدَّعى من الإخفاء ليس له من الحقيقة نصيب، وليس الغرض من إثارة هذه الشبهة إلَّا إيهام القرّاء بأنَّ ما ورد عن الأئمَّة (عليهم السلام) هو فقط الأخبار التي تدلُّ على التحليل وسقوط الخُمُس مطلقاً، ومدَّعياً بأنَّ جميع ما ورد منها صحيح السند، وسوف يتبيَّن أنَّ
هذه الدعوى ليس كما صوَّرها المدَّعي، وإليك تفصيل المسألة من خلال أجوبة عدَّة:
الجواب الأوَّل:
وقد ذكره واعتمده جُلُّ الأصحاب، وهو أنَّ الروايات التي ذكرت الخُمُس على طوائف أربع:
الطائفة الأُولى:
ما دلَّت على وجوب الخُمُس مطلقاً، وهي روايات عامَّة شاملة لجميع أبواب الخُمُس، وفي كلِّ زمانٍ للشيعة والسُّنَّة، منها:
1- صحيحة البزنطي، قال: كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام): الخُمُس أُخرجه قبل المؤونة أو بعد المؤونة؟ فكتب: «بعد المؤونة»(77).
2- صحيحة الريّان بن الصلت، قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام): ما الذي يجب عليَّ يا مولاي في غلَّة رحى أرض في قطيعة لي، وفي ثمن سمك وبردي وقصب أبيعه من أجمة هذه القطيعة؟ فكتب: «يجب عليك فيه الخمس، إن شاء الله تعالى»(78).
3- موثَّقة سماعة، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخُمُس، فقال: «في كلِّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير»(79).
الطائفة الثانية:
وهي كالطائفة الأُولى، لكنَّها خصَّت وجوب الخُمُس على الشيعي فقط، والعمدة منها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(77) الوسائل (ج 6/ ص 354/ باب أنَّ الخُمُس لا يجب إلَّا بعد المؤونة/ ح 1).
(78) المصدر السابق (ج 6/ ص 351/ باب أنَّ الخُمُس لا يجب إلَّا بعد المؤونة/ ح 9).
(79) الوسائل (ج 9/ ص 503/ باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس/ ح 6).
صحيحة عليِّ بن مهزيار، قال: كتب إليه أبو جعفر (عليه السلام) وقرأت أنا كتابه إليه في طريق مكَّة، قال: «إنَّ الذي أوجبت في سنتي هذه وهذه سنة عشرين ومائتين، فقط لمعنى من المعاني، أكره تفسير المعنى كلَّه خوفاً من الانتشار، وسأُفسِّر لك بعضه إن شاء الله، إنَّ مواليَّ -أسأل الله صلاحهم- أو بعضهم قصَّروا فيما يجب عليهم، فعلمت ذلك فأحببت أن أُطهِّرهم وأُزكّيهم بما فعلت في عامي هذا من أمر الخُمُس (في عامي هذا)، قال الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 103-105]، ولم أُوجب ذلك عليهم في كلِّ عام، ولا أُوجب عليهم إلَّا الزكاة التي فرضها الله عليهم، وإنَّما أوجبت عليهم الخُمُس في سنتي هذه في الذهب والفضَّة التي قد حال عليهما الحول، ولم أُوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دوابٍّ ولا خدم ولا ربح ربحه في تجارة ولا ضيعة إلَّا ضيعة سأُفسِّر لك أمرها تخفيفاً منّي عن مواليَّ، ومنّاً منّي عليهم لما يغتال السلطان من أموالهم ولما ينوبهم في ذاتهم، فأمَّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلِّ عام، قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41]، والغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها، المرء
والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يُحتَسب من غير أب ولا ابن، ومثل عدوّ يصطلم فيُؤخَذ ماله، ومثل مال يُؤخَذ ولا يعرف له صاحب، وما صار إلى مواليَّ من أموال الخرمية الفسقة، فقد علمت أنَّ أموالاً عظاماً صارت إلى قوم من مواليَّ، فمن كان عنده شيء من ذلك فليوصل إلى وكيلي، ومن كان نائياً بعيد الشقَّة فليتعمد لإيصاله ولو بعد حين، فإنَّ نيَّة المؤمن خير من عمله، فأمَّا الذي أُوجب من الضياع والغلّات في كلِّ عام فهو نصف السُّدُس ممَّن كانت ضيعته تقوم بمؤونته، ومن كانت ضيعته لا تقوم بمؤونته فليس عليه نصف سُدُس ولا غير ذلك»(80).
إنَّ هذه الصحيحة إنَّما خصَّت وجوب الخُمُس على الشيعة فقط بقرينة تخصيصه بمواليه كقوله (عليه السلام): «إنَّ أموالاً عظاماً صارت إلى قوم من مواليَّ»، وقوله (عليه السلام): «تخفيفاً منّي عن مواليَّ»، وغيرها من القرائن ممَّا لا يخفى.
الطائفة الثالثة:
يظهر من جملة من الأخبار إباحة الخُمُس للشيعة مطلقاً من دون قيد أو شرط، وأنَّهم في حلٍّ منه، ولا يجب عليهم أداؤه البتَّة، والعمدة منها:
1- صحيحة الفضلاء: عن أبي بصير وزرارة ومحمّد بن مسلم، كلُّهم عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام): هلك الناس في بطونهم وفروجهم؛ لأنَّهم لم يُؤدُّوا إلينا حقَّنا، ألا وإنَّ شيعتنا من ذلك وآباءهم في حلٍّ»(81).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(80) الوسائل (ج 9/ ص 501/ باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخُمُس/ ح 5).
(81) الوسائل (ج 9/ ص 543/ ب 4 من أبواب إباحة حصَّة الإمام من الخُمُس للشيعة/ ح 1).
2- صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) حلَّلهم من الخُمُس -يعني الشيعة- ليطيب مولدهم»(82).
3- صحيحة ابن مهزيار، قال: قرأت في كتاب لأبي جعفر (عليه السلام) من رجل يسأله أن يجعله في حلٍّ من مأكله ومشربه من الخُمُس، فكتب بخطِّه: «من أعوزه شيء من حقّي فهو في حلٍّ»(83).
وهذه الروايات مع معارضتها لما سيأتي من طوائف الأخبار إلَّا أنَّها لا يمكن التعويل عليها في نفسها؛ وذلك:
لأنَّه قد صدرت روايات متأخِّرة عنها، وتدعو إلى دفع الخُمُس، والعبرة هو العمل بما تأخَّر، منها: صحيحة البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «خذ من أموال الناصب ما شئت وادفع إلينا خُمُسه»(84)، أو كصحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام): «كلُّ ما كان ركازاً ففيه الخُمُس»(85)، وغيرها كصحيحة عليِّ بن مهزيار فيما ورد في أرباح التجارات(86)، فلو كان الخُمُس مباحاً للشيعة فلماذا يجب عليهم؟ وما هو معنى أمرهم بالدفع؟
ومضافاً إلى ذلك أنَّ القول بثبوت روايات التحليل، والعمل بها مطلقاً سيُؤدّي بنا إلى نتائج خطيرة، منها: أنَّ الشارع شرَّع الحكم ثمّ جمَّده ولم يُبرِزه، فأشبه ما يكون بالحكم الاقتضائي غير الفعلي، وبيان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(82) المصدر نفسه (ج 9/ ص 377/ باب إباحة حصَّة الإمام من الخُمُس للشيعة/ ح 9 و12 و14 و15).
(83) المصدر نفسه (ج 9/ ص 382/ باب إباحة حصَّة الإمام من الخُمُس للشيعة/ ح 2 و3 و5).
(84) الوسائل (ج 9/ ص 488/ باب وجوب الخُمُس في غنائم دار الحرب/ ح 6).
(85) المصدر نفسه (ص 492/ ب 3/ ح 3).
(86) المصدر نفسه (ص 502/ ب 8/ ح 5).
فائدة الخُمُس من بعض الأخبار، وأسباب تشريعه منافٍ لإباحته، بل سيكون ذلك من لغو القول.
ومنها: أنَّ سبب تشريع الخُمُس إنَّما شُرِّع لسدِّ حاجات السادة والفقراء من آل محمّد (عليهم السلام)، فلو لم يجب دفع الخُمُس على الشيعة، وإنكار أهل السُّنَّة لهذا الحقِّ وتحريم الزكاة على السادة، فمن أين يعيش فقراؤهم ومساكينهم؟
وعليه إنَّ هذه النصوص لا يمكن العمل بإطلاقها على كلِّ حالٍ(87).
الطائفة الرابعة:
الروايات الدالَّة على التفصيل بين وجوب دفع الخُمُس مطلقاً وتحليله في بعض الموارد، والعمدة منها:
1- صحيحة سالم بن مكرم -وهو أبو خديجة-، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رجل وأنا حاضر: حلِّل لي الفروج؟ ففزع أبو عبد الله (عليه السلام)، فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق إنَّما يسألك خادمة يشتريها أو امرأة يتزوَّجها، أو ميراثاً يصيبه، أو تجارةً أو شيئاً أُعطيه، فقال: «هذا لشيعتنا حلال، الشاهد منهم والغائب، والميِّت منهم والحيّ، وما يُولَد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال، أمَا والله لا يحلُّ إلَّا لمن أحللنا له، ولا والله ما أعطينا أحداً ذمَّة، وما عندنا لأحد عهد، ولا لأحد عندنا ميثاق»(88).
2- صحيحة عليِّ بن مهزيار، قال: قرأت في كتاب لأبي جعفر (عليه السلام) من رجل يسأله أن يجعله في حلٍّ من مأكله ومشربه من الخُمُس، فكتب بخطِّه: «من أعوزه شيء من حقّي فهو في حلٍّ»(89).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(87) انظر: المستند/ كتاب الخُمُس/ السيِّد الخوئي (ص 348).
(88) الوسائل (ج 9/ ص 544/ باب 4 من أبواب الأنفال/ ح 4).
(89) المصدر نفسه (ج 6/ ص 379/ باب 4 من أبواب الأنفال/ ح 2).
3- صحيحة إبراهيم بن هاشم، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) إذ دخل عليه صالح بن محمّد بن سهل، وكان يتولّى له الوقف بقم، فقال له: يا سيِّدي اجعلني من عشرة آلاف درهم في حلٍّ، فإنّي أنفقتها، فقال له: «أنت في حلٍّ»، فلمَّا خرج صالح قال أبو جعفر (عليه السلام): «أحدهم يثب على أموال آل محمّد وأيتامهم ومساكينهم وفقرائهم وأبناء سبيلهم فيأخذها ثمّ يجيء فيقول: اجعلني في حلٍّ، أتراه ظنَّ أنّي أقول: لا أفعل؟ والله ليسألنَّهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً»(90).
ويقع الحديث في تفصيل هذه الطوائف على أُمور عدَّة:
الأوَّل: أنَّ هناك تعارض بين الطائفة الثانية -الدالَّة على وجوب الخُمُس على الشيعي فقط في كلِّ الأحوال-، والثالثة -الدالَّة على تحليل الخُمُس على الشيعي مطلقاً-، وذُكِرَ لحلِّ هذا التعارض وجوه عدَّة:
1- دعوى أنَّ الطائفة الثالثة من زخرف القول؛ لمخالفتها لكتاب الله الذي نصَّ على وجوب الخُمُس مطلقاً، فتبقى الطائفة الثانية بلا معارض.
وهذا مدفوع؛ إذ الزخرف ما لم يقله الأئمَّة (عليهم السلام)، كيف وأنَّ أخبار التحليل مستفيضة وصدرت عن الأئمَّة (عليهم السلام)؟
2- أن نقول بالتعارض المستقرِّ بين الطائفتين، فعليه يُحكَم بالتساقط، ويتمُّ الرجوع إلى العموم الفوقاني، وهو ما دلَّت عليه الطائفة الأُولى التي نصَّت على الوجوب مطلقاً.
3- إنَّ هنالك تعارضاً بين الطائفتين لكنَّه غير مستقرٍّ؛ لوجود موافق للطائفة الثانية كالآية الكريمة، والنصوص الدالَّة على وجوب الخُمُس مطلقاً كأخبار الطائفة الأُولى، فيتمُّ العمل بأخبار الطائفة الثانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(90) الوسائل (ج 9/ ص 537/ ب 3/ ح 1).
4- إنَّ الطائفة الرابعة يمكن أن تكون شاهد جمع بين الطائفتين، فيكون مفاد الطائفة الثانية اختصاص دفع الخُمُس على ما يملكه الشيعي فقط، وأمَّا الطائفة الثالثة فيكون تحليل الخُمُس بلحاظ ما انتقل إلى الشيعي ممَّن لا يعتقد بوجوب الخُمُس كالكافر، والمخالف أو الذي يعتقد بوجوبه لكنَّه عاص كالشيعي الذي لا يُخمِّس.
5- إنَّ الطائفة الرابعة من باب انقلاب النسبة، وليس شاهد جمع بين الطائفتين، ومفاد قاعدة الانقلاب أنَّ هذه الطائفة في صدد بيان حكم واحد فقط لا حكمين، وهو تحليل الخُمُس للشيعي الذي انتقل إليه المال من معاملة مع من لم يعتقد بوجوب الخُمُس، أو من لم يدفعه عصياناً، أو غيرها من الموارد التي ذُكِرَت.
فروايات التحليل ليست ناظرة إلى الملك الشخصي للشيعي، فإنَّه يجب عليه دفعه إلى مستحقّيه، بل هي ناظرة إلى ما انتقل إليه من الأصناف المتقدِّمة.
الجواب الثاني: منافاة أخبار التحليل للسيرة العملية القطعية:
إنَّ قيام السيرة العملية للأئمَّة (عليهم السلام) يمنع من انعقاد الإطلاق لروايات التحليل، حيث جرت سيرتهم (عليهم السلام) على قبض الأخماس ممَّا يصل إليهم (عليهم السلام) من شيعتهم من شتّى الأمصار، واستمرَّت هذه السيرة إلى ما بعد الغيبة الصغرى، وتلقّاها علماؤنا بالقبول جيلاً بعد جيل، وإلى يومنا هذا، وقد ذكرنا جملة من الأخبار فيما تقدَّم، وإليك جملة أُخرى، منها:
ما روه الشيخ في التهذيب بإسناده عن الريّان بن الصلت، قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام): ما الذي يجب عليَّ يا مولاي في غلَّة رحى
أرض في قطيعة لي، وفي ثمن سمك وبردي وقصب أبيعه من أجمة هذه القطيعة؟ فكتب: «يجب عليك فيه الخُمُس، إن شاء الله تعالى»(91).
ومنها: عن سعيد بن هبة الله الراوندي في الخرائج والجرائح، عن أبي الحسن المسترقّ، عن الحسن بن عبد الله بن حمدان ناصر الدولة، عن عمِّه الحسين، في حديث عن صاحب الزمان (عليه السلام) أنَّه رآه وتحته (عليه السلام) بغلة شهباء وهو متعمِّم بعمامة خضراء، يُرى منه سواد عينيه، وفي رجله خفّان حمراوان، فقال: «يا حسين، كم ترزأ على الناحية؟ ولِمَ تمنع أصحابي عن خُمُس مالك؟»، ثمّ قال: «إذا مضيت إلى الموضع الذي تريده تدخله عفواً وكسبت ما كسبت تحمل خُمُسه إلى مستحقِّه»، قال: فقلت: السمع والطاعة، ثمّ ذكر في آخره أنَّ العَمري أتاه وأخذ خُمُس ماله بعدما أخبره بما كان(92).
الجواب الثالث:
إنَّ سياق روايات التحليل يُفهَم منها أنَّها جاءت من أجل المنِّ والتفضُّل على الشيعة بسبب المعاناة من الاضطهاد من قِبَل السلطات آنذاك، فصدر التحليل لما ينتقل إليهم ممَّا في أيدي الظالمين أو ممَّن لا يدفع الخُمُس وليس مطلقاً؛ إذ لو كان التحليل بنحو مطلق للزم منه الإعانة والتشجيع والجرأة على ترك الفرائض، ومنها فريضة الخُمُس التي هي كسائر الفرائض الإسلاميَّة، وهذا ممَّا لا يحتمل صدوره من المعصومين (عليهم السلام)، وأنَّ إعفاء الشيعة من الضرائب المالية لا يختصُّ بالخُمُس،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(91) الوسائل (ج 9/ ص 504/ باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس/ ح 9).
(92) الوسائل (ج 9/ ص 542/ باب وجوب إيصال حصَّة الإمام من الخُمُس إليه مع الإمكان/ ح 9).
فالزكاة أيضاً ضريبة مالية، وحالها حال ضريبة الخُمُس، ولكن لم يصدر تحليلٌ منهم (عليهم السلام)، كيف وفيه هدر للمال العامِّ ومصارفه المقرَّرة له؟ وعليه فهذا الإطلاق لا يمكن المساعدة عليه بحال، وعليه يتَّضح من ذلك أنَّ روايات التحليل مختصَّة بالمعوز أو بمن انتقل إليه المال ممَّن لا يعتقد بوجوبه.
الجواب الرابع:
إنَّ إطلاق تحليل الخُمُس لا يمكن في حدِّ نفسه؛ وذلك لأنَّه ينافي أسباب تشريع الخُمُس التي من أهمّها سدّ حاجات الفقراء والمساكين والأيتام وأبناء السبيل من ذراري بني هاشم الذين مُنِعَت عنهم الزكاة، فليس من المعقول أن يُحرم هذا الصنف من المجتمع من جميع الضرائب المالية.
الجواب الخامس:
ورد في جملة من الروايات المعتبرة عدم وجوب الخُمُس حتَّى ظهور الإمام (عجّل الله فرجه)، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «موسَّع على شيعتنا أن يُنفِقوا ممَّا في أيديهم بالمعروف، فإذا قام قائمنا حَرُم على كلِّ ذي كنز كنزه حتَّى يأتوه به يستعين به»(93)، وفي صحيحة مسمع بن عبد الملك قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّي كنت وُلّيت الغوص، فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئت بخُمُسها ثمانين ألف درهم، وكرهت أن أحبسها عنك وأعرض لها وهي حقُّك الذي جعل الله تعالى لك في أموالنا، فقال: «وما لنا من الأرض وما أخرج الله منها إلَّا الخُمُس؟ يا أبا سيار، الأرض كلُّها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(93) الوسائل (ج 9/ ص 547/ باب 4 إباحة حصَّة الإمام من الخُمُس/ ح 11).
لنا، فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا»، قال: قلت له: أنا أحمل إليك المال كلُّه؟ فقال لي: «يا أبا سيار قد طيَّبناه لك وحلَّلناك منه، فضمَّ إليك مالك، وكلُّ ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محلَّلون، ومحلَّل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيدي سواهم، فإنَّ كسبهم من الأرض حرام عليهم حتَّى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويُخرجهم منها صغرة»(94).
فمن هنا يظهر أنَّ روايات التحليل غير مطلقة وإنَّما خُصِّصت لأسباب خاصَّة ومعيَّنة كما هو واضح.
أسباب تحليل الخُمُس:
قد اتَّضح ممَّا تقدَّم أنَّ مسألة تحليل الخُمُس ليست مطلقة، وإنَّما جاءت لأسباب معيَّنة وخاصَّة، ولأجل وضوحها عند القارئ نُجملها بما يأتي:
أوَّلاً: تحليل الخُمُس لأجل طيب الولادة والمناكح التي تقع بيد الشيعة:
هنالك قرائن عدَّة في روايات التحليل تدلُّ على أنَّ الخُمُس كان حقّاً ثابتاً في مرتبة سابقة إلَّا أنَّ التحليل جاء لأسباب خاصَّة غير مطلقة، منها أنَّ أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) قد حلَّلوا الخُمُس بسبب ما ابتلي به الشيعة والناس جميعاً من ظلم الخلفاء والحُكّام الجائرين للأئمَّة (عليهم السلام)، وإقصائهم عن منصبهم وغصب حقوقهم، حيث كان الحُكّام آنذاك يستولون على الغنائم والسبي ثمّ يبيعونها على الناس ولا يحلُّ لمشتريه، فأوجدَ ذلك مشكلة للشيعة في خصوص هذه الأموال التي كانت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(94) الوسائل (ج 9/ ص 547 و548/ باب 4 إباحة حصَّة الإمام إلى الشيعة/ ح 12).
منتشرة في الأسواق من قبيل الغنائم والجواري، وقد حلَّل الأئمَّة (عليهم السلام) ما يقع في أيدي الناس من تلك المناكح التي لم تُخمَّس، وقد اشتراها الشيعي تطهيراً لهم ولطيب مولدهم، وقد ذُكِرَ هذا المعنى في روايات عدَّة، منها:
عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «من أحللنا له شيئاً أصابه أعمال الظالمين فهو له حلال، وما حرَّمناه من ذلك فهو حرام»(95).
ومنها: صحيحة سالم بن مكرم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رجل وأنا حاضر: حلِّل لي الفروج، ففزع أبو عبد الله (عليه السلام)، فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق إنَّما يسألك خادمة يشتريها أو امرأة يتزوَّجها، أو ميراثاً يصيبه، أو تجارةً أو شيئاً أُعطيه، فقال: «هذا لشيعتنا حلال، الشاهد منهم والغائب، والميِّت منهم والحيّ، وما يُولَد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال، أمَا والله لا يحلُّ إلَّا لمن أحللنا له، ولا والله ما أعطينا أحداً ذمَّة، وما عندنا لأحد عهد، ولا لأحد عندنا ميثاق»(96).
ومنها: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) حلَّلهم من الخُمُس -يعني الشيعة- ليطيب مولدهم»(97).
ومنها: عن عبد العزيز بن نافع، قال: طلبنا الإذن على أبي عبد الله (عليه السلام) وأرسلنا إليه، فأرسل إلينا: «ادخلوا اثنين اثنين»، فدخلت أنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(95) الوسائل (ج 9/ ص 544/ باب 4 إباحة حصَّة الإمام من الخُمُس/ ح 4).
(96) الوسائل (ج 9/ ص 544/ باب 4 إباحة حصَّة الإمام من الخُمُس/ ح 4).
(97) المصدر نفسه (ج 9/ ص 550/ باب 4 إباحة حصَّة الإمام من الخُمُس/ ح 15).
ورجل معي، فقلت للرجل: أُحِبُّ أن تحلَّ بالمسألة، فقال: نعم، فقال له: جُعلت فداك إنَّ أبي كان ممَّن سباه بنو أُميَّة، وقد علمت أن بني أُميَّة لم يكن لهم أن يُحرِّموا ولا يُحلِّلوا، ولم يكن لهم ممَّا في أيديهم قليل ولا كثير، وإنَّما ذلك لكم، فإذا ذكرت الذي كنت فيه دخلني من ذلك ما يكاد يُفسِد عليَّ عقلي ما أنا فيه، فقال له: «أنت في حلٍّ ممَّا كان من ذلك، وكلُّ من كان في مثل حالك من ورائي فهو في حلٍّ من ذلك»، قال: فقمنا وخرجنا، فسبقنا معتب إلى النفر القعود الذين ينتظرون إذن أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال لهم: قد ظفر عبد العزيز بن نافع بشيء ما ظفر بمثله أحد قطُّ، قيل له: وما ذاك؟ ففسَّره لهم، فقام اثنان فدخلا على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال أحدهما: جُعلت فداك إنَّ أبي كان من سبايا بني أُميَّة وقد علمت أنَّ بني أُميَّة لم يكن لهم من ذلك قليل ولا كثير، وأنا أُحِبُّ أن تجعلني من ذلك في حلٍّ، فقال: «وذلك إلينا؟ ما ذلك إلينا، ما لنا أن نحلَّ ولا أن نُحرِّم»، فخرج الرجلان، وغضب أبو عبد الله (عليه السلام) فلم يدخل عليه أحد في تلك الليلة إلَّا بدأه أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: «ألَا تعجبون من فلان يجيئني فيستحلّني ممَّا صنعت بنو أُميَّة، كأنَّه يرى أنَّ ذلك لنا»، ولم ينتفع أحد في تلك الليلة بقليل ولا كثير إلَّا الأوَّلَين، فإنَّهما غنيا بحاجتهما(98).
ثانياً: تحليل الأنفال وما يملكه الولاة والمقاتلون بغير إذن:
هنالك روايات تشير إلى أنَّ ما يقع بيد الشيعة من الأنفال يجب خُمُسه، إلَّا أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) قد حلَّلوا ذلك للشيعة الذين قد حصلوا على أموال من الأنفال التي اغتصبها حُكّام بني أُميَّة والحُكّام الظالمون،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(98) الوسائل (ج 9/ ص 551/ باب 4 من أبواب حصَّة الإمام من الخُمُس/ ح 18).
ووزَّعوها على عُمّالهم، ولهذا أباحها الإمام (عليه السلام) على الشيعة، عن الحَكَم بن علباء الأسدي، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام)، فقلت له: إنّي وُلّيت البحرين فأصبت بها مالاً كثيراً، واشتريت متاعاً، واشتريت رقيقاً، واشتريت أُمَّهات أولاد ووُلِدَ لي وأنفقت، وهذا خمس ذلك المال، وهؤلاء أُمَّهات أولادي ونسائي قد أتيتك به، فقال: «أمَا إنَّه كلُّه لنا، وقد قبلت ما جئت به، وقد حللتك من أُمَّهات أولادك ونسائك، وما أنفقت، وضمنت لك عليَّ وعلى أبي الجنَّة»(99).
وقد روى الكشّي (رحمه الله) عن محمّد بن مسعود، قال: حدَّثني إبراهيم بن محمّد بن فارس، عن يعقوب بن يزيد بن أبي عمير، عن شهاب بن عبد ربِّه، عن أبي بصير، قال: إنَّ علباء الأسدي ولّي البحرين، فأفاد سبعمائة ألف دينار ودواباً ورقيقاً، قال: فحمل ذلك كلَّه حتَّى وضعه بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام)، ثمّ قال: إنّي وُلّيت البحرين لبني أُميَّة، وأفدت كذا وكذا، وقد حملته كلَّه إليك، وعلمت أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) لم يجعل لهم من ذلك شيئاً وأنَّه كلُّه لك، فقال له أبوعبد الله (عليه السلام): «هاته»، فوضع بين يديه، فقال له: «قد قبلنا منك ووهبناه لك وأحللناك منه وضمنّا لك على الله الجنَّة»، قال أبو بصير: فقلنا: ما بالي، وذكر مثل حديث شعيب العقرقوفي(100).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(99) الوسائل (ج 9/ ص 528/ باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخُمُس/ ح 13).
(100) اختيار معرفة الرجال (ص 200)، إنَّ سند الكشّي (رحمه الله) إلى هذه الرواية معتبر؛ لأنَّ إبراهيم بن محمّد بن فارس قد شهد الكشّي (رحمه الله) في موضع آخر من نفس الكتاب (ص 530) بأنَّه لا بأس به في نفيه، وهو ظاهر في التوثيق، فيثبت وثاقة علباء، فيصحُّ سند الشيخ (رحمه الله) للرواية أيضاً.
ثالثاً: تحليل الخُمُس لمن وقع بضائقة وعوز مالي من الشيعة:
وأشارت بعض الروايات الواردة عن الأئمَّة (عليهم السلام) أنَّ أحد الأسباب في تحليل الخُمُس الضائقة المالية والعوز عند شيعتهم، فقد روي في صحيحة ابن مهزيار: قال: قرأت في كتاب لأبي جعفر (عليه السلام) من رجل يسأله أن يجعله في حلٍّ من مأكله ومشربه من الخُمُس، فكتب بخطِّه: «من أعوزه شيء من حقّي فهو في حلٍّ»(101).
رابعاً: ما ينتقل إلى الشيعة من مال غير مخمَّس:
ووردت روايات أُخرى قد بيَّنت أنَّ أحد الأسباب لتحليل الخمس أيضاً هو ما ينتقل إلى الشيعي من أموال ممَّن لم يدفع الخُمُس كالكافر والمخالف والشيعي العاصي الذي لم يُخمِّس، كما روي ذلك في صحيحة الحارث بن المغيرة النصري، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: إنَّ لنا أموالاً من غلّات وتجارات ونحو ذلك، وقد علمت أنَّ لك فيها حقّاً، قال: «فلِمَ أحللنا إذاً لشيعتنا إلَّا لتطيب ولادتهم، وكلُّ من والى آبائي فهو في حلٍّ ممَّا في أيديهم في حقِّنا، فليُبلِّغ الشاهد الغائب»(102).
اتَّضح ممَّا تقدَّم أنَّ تحليل الخُمُس من قِبَل الأئمَّة (عليهم السلام) ليس مطلقاً، وإنَّما لأسباب خاصَّة، منها حقُّ الأئمَّة (عليهم السلام) الثابت في أيدي الظالمين والغاصبين من الحُكّام وقد انتقلت إلى الشيعي من قبيل حقِّ الأنفال والأراضي والسبي وغيرها، ومنها ما انتقل من الأموال غير المخمَّسة، ومنها من أصابه العوز والفقر من الشيعة، وهذا يختلف عن الواجب المالي الذي يحصل عليه الشيعي من الاسترباح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(101) الوسائل (ج 6/ ص 382/ ح 2 و3 و5).
(102) الوسائل (ج 9/ ص 547/ باب 4 من أبواب إباحة حصَّة الإمام من الخُمُس للشيعة/ ح 9).
التحليل الصادر عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
يتمسَّك البعض في تحليل الخُمُس مطلقاً بما ورد في التوقيع الصادر عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لعثمان بن سعيد العَمري من إباحة الخُمُس على الشيعة إلى وقت ظهور أمره، حيث ورد فيه ما نصُّه: «وأمَّا المتلبِّسون بأموالنا، فمن استحلَّ منها شيئاً فأكله فإنَّما يأكل النيران، وأمَّا الخُمُس فقد أُبيح لشيعتنا وجُعلوا منه في حلٍّ إلى وقت ظهور أمرنا؛ لتطيب ولادتهم ولا تخبث»(103).
والسؤال: أليس هذا النصُّ الصادر من إمامنا (عليه السلام) يدلُّ على عدم إعطاء الخُمُس في زمن الغيبة؟ وخصوصاً أنَّ القاعدة تقتضي العمل بما تأخَّر من الأخبار.
الجواب:
إنَّ هذا النصَّ الذي استُدِلَّ به على إباحة الخُمُس مطلقاً لا يمكن التمسُّك به؛ لأُمور عدَّة:
الأمر الأوَّل: أنَّ هذا التوقيع ضعيف سنداً، ففيه محمّد بن محمّد بن عصام، وهو من مشايخ الصدوق، ولم يرد فيه توثيق، وكذا إسحاق بن يعقوب، فإنَّه مجهول ولم يُوثَّق(104).
الأمر الثاني: لو تنزَّلنا عن جهة السند، فإنَّها معارضة للعموم القرآني والسُّنَّة القطعية الدالَّة على وجوب الخُمُس في كلِّ زمانٍ، وذلك كصحيحة علي بن مهزيار، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «فأمَّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلِّ عام، قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(103) كمال الدين للصدوق (ص 485/ باب 45/ ح 4).
(104) معجم رجال الحديث (ج 3/ ص 76؛ وج 7/ ص 199).
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى...﴾ [الأنفال: 41]...»، إلى أن قال: «فمن كان عنده شيء من ذلك فليوصل إلى وكيلي، ومن كان نائياً بعيد الشقَّة فليتعمد لإيصاله ولو بعد حين»(105).
الأمر الثالث: أنَّ الملاحظ في هذا التوقيع أنَّ الإمام (عليه السلام) قد جمع بين الأمر بدفع الخُمُس في صدرها -بقوله: «وأمَّا المتلبِّسون بأموالنا فمن استحلَّ منها شيئاً فأكله فإنَّما يأكل النيران»-، وبين إباحته في ذيلها -بقوله: «وأمَّا الخُمُس فقد أُبيح لشيعتنا وجُعلوا منه في حلٍّ إلى وقت ظهور أمرنا؛ لتطيب ولادتهم ولا تخبث»-، وهذا يدلُّ وبكُلِّ وضوح على أنَّ المراد من التحليل ليس مطلقاً، بل هو عين ما حلَّله الأئمَّة السابقون (عليهم السلام) من اختصاصه بمن انتقل إليه المال ممَّن لا يعتقد بالخُمُس أو بالعاصي الذي لا يُخمِّس أو المعوز وغيرها من الاستثناءات، ومن هنا فهذا التوقيع صالح لأن يكون شاهد جمع على التفصيل المذكور.
الأمر الرابع: جاء في التوقيع عبارة: «لتطيب ولادتهم ولا تخبث»، وهذه العبارة بقرينة الروايات المعتبرة المتقدِّمة يدلُّ على أنَّ الإمام (عجّل الله فرجه) كان بصدد بيان صنف خاصٍّ، وهو الخُمُس المتعلّق في باب المناكح لا مطلقاً، ولو لا كان كذلك لما كان هنالك داع للتعليل.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(105) الوسائل (ج 9/ ص 501/ باب وجوب الخمس فيما يفضل عن مؤونة السنة/ ح 5).
مفاد الشبهة
إنَّ وجوب الخُمُس هو من الأحكام الولائية الحكومتية لأهل البيت (عليهم السلام) لا يمتدُّ في الزمان فلا يشمل زماننا(106)، وعليه لا تكون ثابتة
(106) تنقسم الأحكام الشرعية إلى أقسام عدَّة:
1- الحكم الشرعي الأوَّلي: هو ما كان صادراً على الأشياء بعناوينها الأوَّلية مع غضِّ النظر عن طروء أيِّ عنوان آخر عليها، أي هو كلُّ حكم ثابت إلى الموضوع بما هو هو من دون أيِّ عنوان لاحق وطارئ، وذلك من قبيل وجوب الصلاة، فإنَّ الحكم منصبٌّ على ماهيَّة الصلاة بما هي هي من دون ملاحظة أيِّ شيء آخر أو عنوان طارئ.
2- الحكم الثانوي: ويُطلَق عليه أيضاً الحكم الاضطراري، ويُراد منه: الحكم الذي يُلحَظ فيه العناوين الطارئة بحيث يكون وجوده مترتِّباً على وجودها، أو فقل: إنَّ الحكم الثانوي هو تغيُّر الحكم الأوَّلي إلى حكم آخر طارئ نتيجة بعض الظروف، وذلك كالانتقال من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية في موارد الحرج والاضطرار فإنَّ الحرج يمنع الحكم الأوَّلي وينهض بالحكم الثانوي.
3- الحكم الولائي: هو كلُّ حكم صادر من الحاكم بما هو وليٌّ وحاكم وسلطان لا بما هو مفتي، سواء كان نبيّاً أو إماماً أو فقيهاً، بناءً على أنَّ الأحكام الولائية تعمُّ حتَّى الفقيه الجامع للشرائط، أو فقل: إنَّ الحكم الولائي ما كان صدوره يُؤخَذ فيه جهة الحاكمية حسب ما يُشخِّصه ذلك الحاكم من المصالح، فيكون حكمه نافذاً حينئذٍ، كالأحكام الصادرة من القوَّة التنفيذية، ونذكر بعض الأمثلة على الأحكام الولائية: منها: المصالحة على الحقوق الشرعية، وأنَّه يجوز للحاكم نقل الخُمُس المتعلِّق بالمال من العين إلى ذمَّة المكلَّف، ومنها: جواز العمل مع الحاكم الظالم. وقد ذهب بعضهم إلى امتداد الحكم الولائي لزماننا أيضاً.
4- الحكم الفتوائي: وهو الحكم الإثباتي الكلّي الفرعي الذي يكون مستخرَجاً من الأدلَّة الأربعة المعدَّة لاستنباط الحكم الشرعي، كالكتاب العزيز والسُّنَّة المعصومية، مثل وجوب التقصير على المسافر، فإنَّه حكم شرعي فتوائي مستنبط من قوله تعالى: ﴿وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ...﴾ (النساء 101).
5- الحكم الظاهري: وهو كلُّ حكم ثبت للموضوع بقيد الجهل، أو فقل: هو ما أُخِذَ في موضوعه الشكُّ، سواء كان الشكُّ تمام الموضوع أو جزؤه، وقد يكون الشكُّ حيثية تقييدية وقد يكون حيثية تعليلية، فالأوَّل كالأُصول العملية، والثاني كالأمارات الظنّية الكاشفة، وخصَّصه البعض بالأصل العملي، وأُخرى أُطلق على الأعمِّ من الأُصول العملية والأمارات، وثالثة يُطلَق على ما يشمل القطع إضافةً لما تقدَّم.
6- الحكم التزاحمي: هو عبارة عن تنافي الحكمين في مقام الامتثال، أو فقل: التنافي بين الأحكام التكليفية الإلزامية في مقام الامتثال، على أن يكون منشأ التنافي هو عدم اتِّساع قدرة المكلَّف على الجمع بينهما، كمن وجب عليه الحجُّ والجهاد معاً، فيُقدِّم حينئذٍ الأهمَّ على المهمِّ.
في الشريعة المقدَّسة، فهي ليست من الشريعة، فإنَّ صدور الأمر بوجوب الخُمُس صادر بعنوان الإمامة والقيادة لا التبليغ والتشريع، فهو أمر لتدبير حياة الأُمَّة فقط.
وعليه يكون الخُمُس واجباً في زمانٍ خاصٍّ؛ لأنَّه ليس من الأحكام الثابتة في الشريعة، وإلَّا لو كان كذلك لما حلَّله الأئمَّة (عليهم السلام).
ردُّ الشبهة
إنَّ حكم وجوب الخُمُس في أرباح المكاسب حكم شرعي أوَّلي ثابت بدليل القرآن الكريم، والسُّنَّة الشريفة، والإجماع، والسيرة العملية القطعية كما تقدَّم ذلك، وقد ذُكِرَ على سبيل القضيَّة الحقيقية، وإنَّ آية الخُمُس تُثبِت حكمه بنحو عامٍّ في كلِّ زيادة حتَّى في أرباح المكاسب بنفس مستوى تشريع الصلاة والصوم والحجِّ، وإنَّ نفس تشريع الخُمُس ليس لأجل حفظ النظام والظروف الزمانية الخاصَّة كما هو الغالب بناءً على اختصاصه بأهل البيت (عليهم السلام) كما في الحكم الولائي، وإنَّما لمصالح ثابتة في متعلّقات الأحكام.
ومضافاً إلى ذلك أنَّ الحكم الشرعي يمرُّ بمرحلتين: مرحلة الجعل،
ومرحلة الفعلية، كوجوب الحجِّ فإنَّه حكم شرعي أوَّلي لكنَّه مشروط بالاستطاعة، فعند عدم تحقُّق الاستطاعة لا يجب الحجُّ، وعدم وجوبه لا يدلُّ على أنَّه حكم ولائي، وعدم فعليته لا يدلُّ على ولائيته كما توهَّم البعض.
فلو قُدِّر أنَّ في الصدر الأوَّل من الإسلام لم تكن هنالك استطاعة وكفاية مالية، فعدم فعلية الحكم وتجميده لا يدلُّ على ولائيته، وليكن الخُمُس من هذا القبيل.
وهنالك شواهد عدَّة على ذلك، منها: وجوب الجهاد الابتدائي حيث ذهب أكثر الأصحاب إلى عدم وجوبه إلَّا بحضور المعصوم (عليه السلام)، مع اتِّفاقهم على كونه حكماً شرعياً أوَّلياً.
ومنها: وجوب صلاة الجمعة -على قول بعض الفقهاء- مشروط بحضور الإمام (عليه السلام) نفسه، وفي زمن الغيبة تكون مستحبَّة، وهو حكم شرعي أوَّلي.
ومنها: إقامة الحدود والديات، فإنَّها أحكام شرعية أوَّلية على رأي مشهور الفقهاء مشروطة بحضور الإمام (عليه السلام) نفسه.
ومنها: أنَّ نفس روايات التحليل التي نصَّت على أنَّ زمن الإسقاط هو في عصر الغيبة(107) فقط تدلُّ على أنَّ الإسقاط حكم ولائي خاضع لظروف معيَّنة لا أوَّلي.
ودعوى: عدم وجود أثر شرعي من زمن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى زمان الصادقين (عليهما السلام) يدلُّ على وجوب الخُمُس في أرباح المكاسب دليل على أنَّه حكم ولائي.
مدفوعة: بعموم آية الخُمُس الشاملة لأرباح المكاسب، وإطلاق جملة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(107) الوسائل (ج 9/ ص 544/ باب 4 إباحة حصَّة الإمام من الخُمُس/ ح 4).
كثيرة من الروايات الدالَّة على وجوب الخُمُس في مطلق الفائدة، وخصوصاً بعد أن عرفنا أنَّ تشريع الأئمَّة (عليهم السلام) هو نفس تشريع النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بلا فرق كما تقدَّم.
ودعوى: اضطراب روايات التحليل وروايات الوجوب التي جاءت بعدها يدلُّ على الولائية.
مدفوعة: بأنَّ روايات التحليل ليست مطلقة في كلِّ زمانٍ، وإنَّما هي ناظرة إلى الشيعي الذي انتقل إليه المال من الكافر أو المخالف أو العاصي كما تقدَّم.
وأمَّا القول بأنَّ رواية عليِّ بن مهزيار وغيرها من الروايات فيها شواهد تدلُّ على الولائية(108)، فإن سلَّمنا بها فإنَّ الولائية من باب التطبيق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(108) الشاهد الأوَّل: في رواية عليِّ بن مهزيار ما نصُّه: «وإنَّما أوجبت عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب والفضَّة التي قد حال عليهما الحول»، حيث إنَّ الإمام (عليه السلام) أثبت الخُمُس في الذهب والفضَّة مع أنَّهما لا خمس فيهما وإنَّما فيهما الزكاة. (الوسائل ج 9/ ص 501/ باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخُمُس/ ح 5).
الشاهد الثاني: في نفس رواية عليِّ بن مهزيار التي تنصُّ على أنَّ هنالك بعض الموارد التي يثبت فيها خُمُس أرباح المكاسب، ولكن الإمام (عليه السلام) قد أسقطها، وإليك نصُّها: «ولم أُوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دوابٍّ ولا خدم ولا ربح ربحه في تجارة ولا ضيعة إلَّا ضيعة سأُفسِّر لك أمرها، تخفيفاً منّي عن مواليَّ، ومنّاً منّي عليهم لما يغتال السلطان من أموالهم ولما ينوبهم في ذاتهم».
الشاهد الثالث: عن الإمام الجواد (عليه السلام) ما نصُّه: كتب إليه إبراهيم بن محمّد الهمداني: أقرأني عليٌّ كتاب أبيك فيما أوجبه على أصحاب الضياع أنَّه أوجب عليهم نصف السُّدُس بعد المؤونة، وأنَّه ليس على من لم يقم ضيعته بمؤونته نصف السُّدُس ولا غير ذلك، فاختلف من قِبَلنا في ذلك، فقالوا: يجب على الضياع الخُمُس بعد المؤونة مؤونة الضيعة وخراجها لا مؤونة الرجل وعياله، فكتب وقرأه عليُّ بن مهزيار: «عليه الخُمُس بعد مؤونته ومؤونة عياله وبعد خراج السلطان»، فإنَّ الإمام الجواد (عليه السلام) حدَّد ضريبة الخُمُس بنصف السُّدُس مع أنَّ الواجب هو الخُمُس. (الوسائل ج 9/ ص 501/ باب 8 ما يجب فيه الخمس/ ح 4).
الشاهد الرابع: عن عليِّ بن محمّد بن شجاع النيسابوري أنَّه سأل أبا الحسن الثالث (عليه السلام) عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مائة كُرٍّ ما يُزكّى، فأخذ منه العشر عشرة أكرار، وذهب منه بسبب عمارة الضيعة ثلاثون كُرّاً وبقي في يده ستّون كُرّاً، ما الذي يجب لك من ذلك؟ وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شيء؟ فوقَّع (عليه السلام): «لي منه الخُمُس ممَّا يفضل من مؤونته». (الوسائل ج 9/ ص 500/ باب 8 وجوب الخمس/ ح 2).
لا في أصل التشريع.
وكيفما كان فالأدلَّة تدلُّ على أنَّ وجوب الخُمُس حكم أوَّلي لا ولائي، وما ذُكِرَ من أدلَّة ضعيفة، ومع التنزُّل وتسليم ذلك فهو حكم ولائي ثابت في عامود الزمان والمكان ولا موجب للالتزام باختصاصه، ومع التنزُّل فقد فُوِّض هذا الأمر إلى الفقهاء ووزانه وزان تنفيذ القضاء، وأخيراً حتَّى لو لم يكن ثابتاً للمعصوم (عليه السلام) فيمكن للفقيه أن يُثبِته لنفسه إذا توقَّف حفاظ الدين عليه كما يثبت له في بعض المستجدّات الحياتية الضرورية.
* * *
مفاد الشبهة
إنَّ إعطاء الخُمُس إلى الفقيه وإيصاله إليه لا يوجد عليه مستند شرعي لا قرآناً ولا سُنَّةً، ومن المعلوم أنَّ الخُمُس في الآية المباركة قد صُنِّف إلى أسهم ستَّة وليس للفقيه منها شيء، فلماذا يُفتي فقهاء الشيعة بوجوب إيصال الخُمُس إليهم؟
ردُّ الشبهة
ينبغي توضيح أُمور عدَّة:
الأمر الأوَّل:
الخُمُس ينقسم إلى قسمين:
الأوَّل: الأسهم الثلاثة: حقُّ الله، وحقُّ الرسول، وذوي القربى، وأفتى مشهور فقهاء الإماميَّة بوجوب إيصاله إلى الفقيه الجامع للشرائط، وإن أفتى بعضهم بجواز تصرُّف المكلَّف بهذا الحقِّ في موارده المقرَّرة.
الثاني: الأسهم الثلاثة الأُخرى من الأيتام والمساكين وأبناء السبيل من السادة من بني هاشم، وأفتى مشهور الفقهاء بجواز تصدّي المكلَّف بنفسه في صرف هذه الأسهم على فقراء السادة وأيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ومن يُفتي من الفقهاء بلزوم إيصال هذا
الحقِّ إليه لا يعني استيلائه عليه، وإنَّما لصرفه في مورده المذكور، فهو يرى بحسب ما اقتضاه اجتهاده أنَّ من له حقُّ التصدّي والتصرُّف فيه هو الفقيه.
الأمر الثاني:
إنَّ دور الفقيه في لزوم إيصال الخُمُس إليه دور الإشراف والنظارة والحفظ والرعاية والأمانة على صرفه، وليس له حقُّ الاستفادة الشخصية منه، إذ لا يمكن أن يأخذ منه شيئاً ما لم يكن مصداقاً لأحد الأصناف المذكورة، وحتَّى لو كان مصادقاً لها فما يأخذه هو مقدار حاجته فقط حاله حال سائر المستحقّين، وهو ما عليه مشهور فقهاء الإماميَّة.
الأمر الثالث:
وأمَّا مستند ومنشأ فتوى الفقهاء في وجوب إيصال الخُمُس إلى الفقيه الجامع للشرائط، فهو يتألَّف من أمرين:
أ- إنَّ الخُمُس ملك منصب الإمامة:
إنَّ الخُمُس ليس ملكاً شخصياً للإمام (عليه السلام)، وإنَّما هو ملك لمنصب الإمامة، فإذا توفّي الإمام لا تنتقل الأخماس إلى ورثته، بل تنتقل إلى الإمام اللاحق له، كما يظهر ذلك من بعض الروايات، منها: صحيحة أبي عليِّ بن راشد، قال: قلت لأبي الحسن الثالث (عليه السلام): إنّا نُؤتى بالشيء فيقال: هذا كان لأبي جعفر (عليه السلام) عندنا، فكيف نصنع؟ فقال: «ما كان لأبي (عليه السلام) بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب الله وسُنَّة نبيِّه»(109).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(109) الوسائل (ج 9/ ص 537/ باب 2 من أبواب الأنفال/ ح 6).
ومنها: صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن الرضا (عليه السلام)، قال: سُئِلَ عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى﴾ [الأنفال: 41]، فقيل له: فما كان لله، فلمن هو؟ فقال: «لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وما كان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهو للإمام»(110).
إذن فإنَّ الخُمُس حقٌّ وحداني -لا ينقسم إلى ما تقدَّم- جُعِلَ لمنصب الإمامة، وتحت اختيار الإمام (عليه السلام)، فإذا ثبت هذا الحقُّ للفقيه في زماننا فله أن يتصرَّف بهذا الحقِّ كما كان للإمام (عليه السلام)، كما سيأتي في أدلَّة النيابة.
ب- النيابة العامَّة للفقهاء:
إنَّ الفقهاء يُمثِّلون مقام النيابة العامَّة عن الإمام (عليه السلام) في زمن الغيبة الكبرى، ولهم عدَّة وظائف دلَّت عليها النصوص والروايات:
الوظيفة الأُولى: وهي تبيين الأحكام الشرعية وتكميلها ليتفاعل الواقع المتغيِّر مع غاية الدين الخاتم، فلا بدَّ من افتراض وجود قاعدة تشريعية تتجاوب مع هدف الشريعة ومستجدّات الحياة وتُلبّي حاجتهم توازناً بين الأصالة والعصرنة على نهج الوحي وامتداده، وهي المسمّاة بالقوَّة التشريعية في المصطلح الفعلي، نعم إنَّ الفارق الجوهري بين الإمام (عليه السلام) والفقيه في هذه الوظيفة هو أنَّ الحكم الصادر من الإمام (عليه السلام) حكم واقعي، وأمَّا الحكم الصادر من المجتهد فهو ظاهري يُخطئ ويُصيب.
وقد دلَّ على ذلك جملة من النصوص والروايات، منها: ما رود عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أنَّ الأنبياء لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(110) الوسائل (ج 9/ ص 512/ باب 2 من أبواب ما يجب فيه الخُمُس/ ح 6).
يُورِّثوا درهماً ولا ديناراً وإنَّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمَّن تأخذونه، فإنَّ فينا أهل البيت في كلِّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»(111).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الفقهاء أُمناء الرُّسُل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتِّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم»(112)، وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «علماء أُمَّتي كأنبياء بني إسرائيل»(113)، وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اللّهمّ ارحم خلفائي، اللّهمّ ارحم خلفائي، اللّهمّ ارحم خلفائي»، قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسُنَّتي»(114).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنَّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به»، ثمّ تلا (عليه السلام): «﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران: 68]»(115). وقال (عليه السلام): «مجاري الأُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأُمناء على حلاله وحرامه»(116)، وفي الرواية عن صاحب الزمان (عجّل الله فرجه): «وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم، وأنا حجَّة الله»(117).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(111) الكافي للكليني (ج 1/ ص 31).
(112) الكافي (ج 1/ ص 46).
(113) البحار (ج 2/ ص 22).
(114) البحار (ج 2/ ص 144).
(115) البحار (ج 1/ ص 182).
(116) البحار (ج 97/ ص 87).
(117) البحار (ج 2/ ص 89).
وهذه النصوص فيها دلالة واضحة وجليَّة على أنَّ الفقهاء هم أُمناء الله ورُسُله على حلاله وحرامه، وبيدهم مجاري الأُمور والأحكام، وهم الحجَّة على الناس بعد الإمام (عليه السلام).
الوظيفة الثانية: القضاء والحكم (القوَّة القضائية).
وهذه الوظيفة قد أُعطيت إلى المجتهد بمقتضى قوله (عليه السلام): «إنّي قد جعلته حاكماً» في مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل في رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، قال: «ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنَّما استخفَّ بحكم الله، وعلينا ردَّ، والرادُّ علينا كالرادِّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله»(118).
الوظيفة الثالثة: القوَّة التنفيذية.
إنَّ الثابت أنَّ للأئمَّة (عليهم السلام) قيادة الأُمَّة وإدارة شؤون الدولة (القوَّة التنفيذية)، فالإمام (عليه السلام) هو الذي يتحمَّل هذه الوظيفة من قِبَل الله وإن كان المشروع لم يصل إلى مرحلة التنفيذ إلَّا في فترة قصيرة، لكنَّه هل نصب الإمام (عليه السلام) الفقيه لهذه المهمَّة أم لا؟ وبعبارة: هل للفقيه أن يتصدّى إلى غير مقام الفتوى والقضاء من الأُمور العامَّة؟
تفصيل الأُمور العامَّة: إن كانت الأُمور العامَّة التي يتوقَّف عليها حفظ النظام كمسألة نصب الأوصياء والقيِّمين على الصغار والقُصَّر، وهكذا في مسألة الأوقاف العامَّة التي لا يوجد لها ممثِّل معيَّن، وملاحظة مصلحة الطائفة والدفاع عنها من جميع الجهات فكرياً واجتماعياً وتمثيلاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(118) الوسائل (ج 1/ ص 34/ باب ثبوت الكفر والارتداد/ ح 12).
حقيقياً مشرفاً وعرضها بالصور الصحيحة في العرصات العالمية وإيجاد التوازن بين أفرادها وسدِّ حاجاتهم، وهكذا الأُمور المسبَّبة التي لا يرضى الشارع بتركها كالدفاع عن أعراض المؤمنين وأموالهم.
فهذه الأُمور كلُّها إمَّا أن تثبت لعامَّة المؤمنين ويكون الفقيه أحدهم، أو تكون ثابتة لخصوص الفقيه لمعرفته بالأحكام الشرعية، وحيث إنَّه تتوفَّر في الفقيه صفات غير متحقِّقة في غيره من جهة مقامه العلمي الشرعي وهدوئه وورعه وتهذيب نفسه وعدم تكالبه على الدنيا وعدم وقوفه على أبواب السلاطين والظلمة، كلُّ ذلك يقتضي إناطة هذه الأُمور الخطيرة به دون غيره، أمَّا في غير ذلك فلا بدَّ من مراجعة أدلَّة النيابة التي قد ذُكِرَ بعضها فهل تعمُّهُ أم لا؟
وعلى هذا ففي غيبة إمامنا (عجّل الله فرجه) يلزم إيصال الأسهم الثلاثة الأُولى للفقيه الجامع للشرائط بكونه النائب العامّ عن الإمام، وإنَّ الخُمُس حقٌّ للمنصب كما تقدَّم.
ومجرَّد الشكِّ في جواز التصرُّف بهذا الحقِّ بدون إذنه (عليه السلام) كافٍ في استقلال العقل بلزوم الاستئذان منه؛ للزوم الاقتصار في الخروج عن حرمة التصرُّف في ملك الغير على المقدار المتيقَّن من إذنه ورضاه هو حالة الاستئذان فقط، وعليه فإيصاله للفقيه الجامع للشرائط الذي ثبتت نيابته العامَّة يُحرَز من خلاله إبراء الذمَّة.
* * *
مفاد الشبهة
يقول البعض: إنَّ آلية الجمع والتوزيع التي تعتمد عليها المؤسَّسة الدينية طريقة غير تخصُّصية، ولا تخضع للرقابة المالية، وهي أشبه بالعملية الاستحواذية التفرّدية.
ردُّ الشبهة
وفيها أُمور عدَّة:
الأمر الأوَّل:
إنَّ الملاحظ في جميع الأديان أنَّها تفرض ضرائب مالية دينية، وإنَّ طريقة التوزيع في كلِّ هذه الأديان -بعد غياب النبيِّ أو وصيِّه- لا تخلو إمَّا أن يُصار إلى تعطيل التوزيع أو يُسلَّم إلى الدولة الحاكمة أو يُناط بجهة مشروطة بوثاقتها وعدالتها وأمانتها وإمكانية إيصالها إلى مستحقِّيها.
أمَّا التعطيل، فهذا غير ممكن بحدِّ نفسه؛ لأنَّه يخالف مبدأ تشريع هذه الضريبة المالية. وأمَّا تسليمه إلى الدولة الحاكمة، فهذا لا يمكن تحقُّقه وبكلِّ وضوح؛ حيث عندما نتتبَّع الحكومات التي تسلَّطت على الأُمم والمجتمعات فإنَّ غالبيتها تفقد عنصر الثقة والأمانة والعدالة، وهذا ممَّا لا يختلف فيه اثنان.
وعليه فإنَّ أفضل الطُّرُق وأيسرها على المكلَّف هو إيصال هذه الأموال إلى الجهة الشرعية التي اكتسبت شرعيتها الدينية من الشرع المقدَّس، إضافةً إلى وثاقتها وعدالتها على طول الخطِّ والمسيرة وهي الأقرب إلى معرفة ملاكات التشريع وفقه التزاحم والخبرة العملية العالية ودقَّة الصرف، حيث إنَّنا نرى وبكلِّ وضوح أنَّ العلماء الأعلام منذ عصر الغيبة الكبرى وإلى وقتنا المعاصر قد حافظوا على تلك الأموال وأوصلوها إلى مستحقِّيها وتمَّ صرفها في مواردها المقرَّرة شرعاً من دون أنَّ يُسجَّل عليهم أنَّهم قد استخدموا هذه الأموال في أغراضهم الشخصية ومنافعهم الاجتماعية، فليس لأحد من الفقهاء الحقُّ بأن يأخذ درهماً واحداً من هذه الأموال إلَّا إذا كان مصداقاً لأحد الأصناف التي ذُكِرَت في الآية الشريفة، وإذا كان مصداقاً فهو يأخذ بقدر حاجته شأنه شأن سائر المستحقِّين، فهذا ما يُفتي به علماء الطائفة، وهذه سيرة الفقهاء الأعلام بين يديك الذين تصدَّوا إلى مقام المرجعية العليا فإنَّهم عاشوا فقراء وماتوا على ذلك، ومن شاء فليذهب بنفسه ليطَّلع على أحوالهم في حاضرة النجف الأشرف أو قم المقدَّسة فإنَّه سيجد أنَّ مسكن الفقهاء ومأكلهم ومشربهم هو نفس ما عليه عامَّة الناس في المجتمع.
الأمر الثاني:
إنَّ مسألة التوزيع لم تنحصر بالجهة الشرعية (المرجعية)، فقد أفتى بعض الفقهاء أنَّ للمكلَّف نفسه الحقَّ في توزيع الأسهم الثلاثة الأُولى على مستحقِّيها بدون الحاجة إلى مراجعة الفقيه، بشرط أن يُحرز الشروط التي ينبغي أن تتوفَّر فيمن يستحقُّ هذا الحقَّ.
وهذا الأمر بحدِّ نفسه يدلُّ على عدم تفكير الجهة الشرعية بالاستحواذ على هذه الضريبة المالية، وإنَّما دور الفقيه فيها هو النظارة والإشراف على صرف هذا الحقِّ.
الأمر الثالث:
إنَّ شبهة عدم العدالة في التوزيع تأتي عند إيصال هذا الحقِّ إلى من لم يُوثَق بعدالته، فإنَّ ما يجب على المكلَّف بنظر الإماميَّة هو إيصاله إلى الفقيه الحاصل على ملكة العدالة والتقوى والأمانة، وكذا المعتمد أو الوكيل المخوَّل في استلام الحقوق، فإنَّ هذا كلَّه من واجبات المكلَّف نفسه، فإنَّه عليه ممارسة الفحص في اختيار الفقيه وتسليم أمواله له، وإحراز الجهة المأمونة الموثوقة العادلة، فإنَّ المكلَّف يتحمَّل جزءاً من الخطأ عند عدم إيصال هذا الحقِّ إلى الفقيه العادل المأمون، وعلى أقلّ التقادير فإنَّه يجب عليه العمل بالاحتياط في المال كما عليه الاتِّفاق ولو كانت الشبهة موضوعية.
الأمر الرابع:
إنَّ الأصل في التوزيع يكون بيد الدولة العادلة الصالحة التي تملك الإمكانيات والمؤسَّسات التي من خلالها تستطيع تغطية كلِّ حاجات المجتمع، وحيث إنَّ المجتمعات تعيش أزمة فقدان الحاكم العادل والدولة الصالحة أُنيط أمر توزيع هذه الضرائب إلى مرجعية أُخرى كالقوّامين على المجتمع، وحيث إنَّ هذه الجهة لا تملك إمكانيات الدولة ومؤسَّساتها وأياديها العاملة ممَّا يتعثَّر أمر التطبيق.
الأمر الخامس:
يتصوَّر البعض أنَّ هذه الضريبة المالية معدَّة فقط للقضاء على الفقر، مع أنَّها معدَّة لسدِّ جميع حاجات المجتمع، كالأهداف الروحية والتعليم والعلاج وبناء المشاريع الاستراتيجية كالاستقلالية الدينية ومواجهة المحتلِّ وسدِّ حاجات المجاهدين عند تعرُّض المذهب للخطر والتعامل مع الظروف الطارئة، فهذا كلُّه ممَّا تلحظه المرجعية العليا، وقد يغفل البعض عن هذه الأُمور، ولم يلتفت إلى أهمّيتها ودورها في بناء المجتمع، والحفاظ على المذهب والمقدَّسات، حيث نشهد في وقتنا المعاصر أنَّه لولا الدعم المالي من قِبَل المرجعية العليا عن طريق هذه الحقوق والأموال في توفير وتلبية احتياجات المقاتلين في سوح الجهاد من السلاح والعتاد والطعام والشراب ورعاية عوائل الشهداء والجرحى والمصابين وكلّ ما يحتاجه المجاهدون لم نصل إلى هذه الانتصارات التي حفظت الناس والمؤمنين والمذهب من أخطار العدوِّ والإرهاب.
الأمر السادس:
إنَّ الميزان في العدالة الاجتماعية هو النظر إلى المصلحة العامَّة للمجتمع والفرد وتقديم الأهمّ على المهمّ، من دون النظر إلى الجنبة العاطفية والمزاجية والغايات الشخصية التي قد تصحب بعض الأفراد، فإنَّ المهمَّ في عملية التوزيع هو سدُّ حاجات المجتمع بصورة عامَّة لا فردية مشخصنة.
الأمر السابع:
إنَّ ما يحصل من الأخطاء في التطبيق لا يعني اتِّهام الجهة الدينية
بعدم العدالة، حيث إنَّ المنظور هو العدالة النسبية لا المطلقة في كلِّ عمليات التوزيع المتعارفة، فإنَّنا نرى في الدولة المدنية تكثر الأخطاء في التطبيق كما تصيب في البعض، وبالاتِّفاق إمكان تفادي مثل هذه الأخطاء مع عدم التشكيك بالجهة التي تتصدَّر عملية التوزيع.
الأمر الثامن:
إنَّ الإسلام لم يحصر مورد التطبيق بيد الحاكم في كلِّ الموارد المالية، فهنالك مجموعة من الموارد المالية منوطة بيد المكلَّف، من قبيل الصدقات والوقفيات وغيرها كالمشاريع المالية، مع أنَّها لم تسلم من سوء التطبيق أيضاً.
* * *
مفاد الشبهة
يدَّعي البعض أنَّ فريضة الخُمُس غير خاضعة لمسألة الرقابة المالية، ولم تكشف المؤسَّسة الدينية طريقة التعامل بهذا الحقِّ، وتعمل على أساس استحواذي تفرّدي لا يُعلَم حجم هذه الأموال ومصيرها، ممَّا يورد الشكوك عند أفراد المجتمع.
ردُّ الشبهة
أوَّلاً: أنَّ المؤسَّسة الدينية الشيعية لا بدَّ أن ننظر لها مع نظائرها من بقيَّة المؤسَّسات غير الإسلاميَّة كالمسيحية واليهودية وغيرها من الديانات، فهل هذه المؤسَّسات تتمتَّع بالشفّافية المطلقة بحيث تفصح عمَّا بيدها من الضرائب المالية التي تفرضها على أفراد مجتمعاتها؟ بالطبع لا يوجد ذلك، ولعلَّ تعليلاتهم لذلك هو أنَّ هذا من الشؤونات الخاضعة لنفس تلك الديانة أو المؤسَّسة التابعة لها ولا علاقة للغير بها، نعم وهذا لا يعني عدم وجود رقابة على تلك الأموال من داخل المؤسَّسة.
ثانياً: أنَّ ما نلاحظه في كلمات المستشكلين أنَّهم يُسجِّلون هذا الإشكال فقط على ضريبة الخُمُس للتشكيك في تشريعه، مع أنَّ الإسلام لم يفرض الخُمُس فقط وإنَّما هنالك ضرائب كثيرة وموارد مالية متعدِّدة كالزكاة والصدقات والموقوفات وغيرها ممَّا فرضه الإسلام،
وكما وضعت حدود وشروط وآليات لذلك فهنالك حدود وشروط وآليات متَّبعة وملتفت إليها من قِبَل الجهة المخوَّلة شرعاً في كيفية التعاطي مع حقِّ الخُمُس، فحالها حال بقيَّة الفرائض، فإنَّ آلية الجمع والتوزيع والصرف ليس عملية استحواذية، وإنَّما قائمة على وفق أُسس ونظام رسمه لنا الشرع المقدَّس، ولا يحقُّ للفقيه أو الجهة المخوَّلة أن يخالف ما حدَّده الشارع المقدَّس في كيفية التعامل مع الأموال وإخراجها أو التصرُّف فيها.
ثالثاً: وأمَّا فيما يتربط بالكشف المالي، فهي قضيَّة نسبية وغير مطلقة، وهذا أمر متَّبع في جميع الحكومات العالمية والمؤسَّسات الدينية وغيرها، فهنالك تخصيصات مالية لوزاراتها الأمنية مثلاً كالدفاع والمخابرات لا يُكشَف عنها إلَّا ضمن أروقتها الخاصَّة، وذلك لأسباب كثيرة ودواع أمنية عالمية، فإنَّ من أحد أهمّ الخطوات في المؤسَّسات العالمية أمنياً عدم الكشف المالي للعدوِّ، لأنَّه يُعَدُّ مصدر قوَّة لكلِّ حكومة أو دين أو مذهب، فكذلك الفقيه الجامع للشرائط، فإنَّه جهة مخوَّلة من الشارع المقدَّس لحفظ هذه الأموال وإدارتها ومراعاة الأوّليات فيها، والأخذ بعين الاعتبار مسألة الكشف أمام العدوِّ والجهات العالمية المسيطرة على رأس مال الدول، وهذا من أهمّ عناصر القوَّة التي يتمتَّع بها الإسلام، وإن كان للفضلاء والعلماء المقرَّبين من المؤسَّسة الدينية دور في الرقابة والاطِّلاع والكشف، لكنَّه بإطاره الخاصّ وليس مطلقاً.
رابعاً: وإنَّ من أهمّ ما يتمتَّع به مذهب الإماميَّة هو أنَّ مسألة إيداع الأموال بيد الفقيه غير مطلقة، وإنَّما تعتمد على شرط مهمٍّ وأساسي، وهو وثاقة وعدالة وأمانة المرجع والفقيه، فإنَّه لا يحقُّ
للمكلَّف إعطاء هذه الأموال لجهة غير موثوق بها ولم تثبت عدالتها، وهذا نحو من أنحاء الرقابة الداخلية على تلك الأموال، فإنَّ ثقة المكلَّف بالفقيه الجامع للشرائط يعني اعتقاده بأنَّه مؤهَّل لأن يدير هذه الأموال بطريقة عادلة ضمن رقابة خاصَّة وآليات دقيقة.
خامساً: أنَّ المؤسَّسة الدينية في بعض الأحيان تأخذ بنظر الاعتبار ملاكات ومصالح أساسية في صرف تلك الأموال، وحسب ما تراه مناسباً في تقويم مسيرة الدين والمذهب، وهذا قد لا يلتفت إليه عامَّة المكلَّفين؛ لأنَّه شأن خاصّ يحتاج إلى خبرة وعمق في التدبير، وهو غير حاصل عند أغلب الأفراد في المجتمع، وهذا أمر معمول به في جميع السياسات المالية للحكومات والمؤسَّسات المختصَّة في ذلك.
* * *
مفاد الشبهة
إنَّ المؤسَّسة الدينية غير عادلة في طريقة أخذ الخُمُس وحسابه على المكلَّفين؛ لأنَّنا نجد في بعض الأحيان أنَّهم يُسقِطون بعض الحقِّ الشرعي المتعلَّق بذمَّة المكلَّف بحجَّة (المصالحة) التي تعني أنَّ للفقيه أو وكيله صلاحية إسقاط الخُمُس عن ذمَّة المكلَّف.
ردُّ الشبهة
إنَّ هذه الشبهة مبتنية على الفهم الخاطئ لمعنى المصالحة، حيث إنَّها لا تعني إسقاط حقِّ الخُمُس مطلقاً، وإنَّما صرَّح الفقهاء بأنَّ المراد من المصالحة هو: (أن تتصالح مع المرجع أو وكيله في تحديد كمّية المبلغ الذي يجب فيه الخُمُس، فحينئذٍ يتعيَّن مقدار الخُمُس وتجري المصالحة عليه لتبرأ ذمَّة المكلَّف أمام الله سبحانه وتعالى).
ومن هنا فقد أفتى الفقهاء بعدم صحَّة إسقاط شيء من الخُمُس الثابت في ذمَّة المكلَّف، وعليه المبادرة في إخراجه بتمامه من دون نقص فيه وإلَّا أثم، ولا صلاحية لأحد أن يهب ديناراً واحداً من الحقِّ الشرعي للدافع، كما ليس للوكيل أو المأذون من قِبَل الفقيه أن يحسب شيئاً من الحقِّ على نفسه ثمّ يهبه إلى الدافع.
أمَّا مسألة المصالحة فإنَّها ليست مطلقة، بل خاصَّة في مورد الحقوق المشتبهة التي يشكُّ بها المكلَّف في تعلُّق الخُمُس ببعض أمواله أو
في اشتغال ذمَّته بشيء منه ولا مقدار ما تعلَّق به الخُمُس، فهنا يصالحه الحاكم الشرعي أو المأذون من قِبَله بنسبة الاحتمال، أي لا يسقط الحقّ مطلقاً، وإنَّما يدفع المكلَّف القدر المتيقَّن من ذلك المشكوك.
فمثلاً لو شكَّ المكلَّف بأنَّ ما تعلَّق به الخُمُس هو (100) ألف دينار أو (200) ألف دينار، ولا يعلم المقدار الحقيقي الذي يبرئ فيه ذمَّته، فهنا يصالحه الفقيه أو وكيله بإخراج القدر المتيقَّن وهو (100) ألف دينار.
وهذا هو معنى المصالحة، فهي ليس كما يراه البعض من أنَّه إسقاط للحقِّ مطلقاً، بل هو إسقاط ما في مورد الشكِّ من قِبَل المكلَّف.
معنى مداورة الخُمُس وحدودها:
المداورة هي طريقة لنقل الخُمُس المطلوب من المكلَّف إلى ذمَّته، فإذا تعلَّق الخُمُس بعين المال ولم يتمكَّن المكلَّف من دفع هذا الحقِّ دفعة واحدة أو كان بحاجة إليه في تجارته ونحوها فيُخرج الخُمُس ويدفعه إلى الفقيه الجامع للشرائط أو وكيله، ثمّ هو يُقرضه إيّاه على أن يُؤدّيه بالتدريج من دون تساهل أو تهاون بالأداء، وبذلك ينتقل الخُمُس من العين إلى الذمَّة.
ومن هنا يتَّضح أنَّ مسألة تأخير الخُمُس وتقسيطه على المكلَّف ليست مطلقة، بل هنالك حدود خاصَّة، ولا يحقُّ للمأذون شرعاً بالتقسيط المطلق، إنَّما المداورة تخصُّ المكلَّف الذي ليس له القدرة على دفع هذا الحقِّ دفعة واحدة ولم يكن متمكِّناً من أدائه، حالاً أو مستقبلاً، وكان في حرج شديد، فعليه أن ينوي أداءه لو حصلت له القدرة وإلَّا
أثم، ففي هذه الحالة يحقُّ للفقيه أو وكيله تقسيطه حسب حال المكلَّف أو الترخيص في التأخير في الأداء، ولو استطاع المكلَّف خلال فترة التأخير أداء بعضه، فيجب عليه ذلك.
مستند المصالحة والمداورة:
قد يسأل البعض عن المستند الشرعي للمصالحة والمداورة الحاصلة في هذا الحقِّ، فإنَّ المستند في ذلك كما هو واضح مبنيٌّ على أنَّ الحاكم وليٌّ على مال المالك للخُمُس، فبمقتضى الولاية التي للحاكم على هذا الحقِّ أنَّه حقُّ المنصب، فللحاكم صلاحية العفو والتأجيل لفترة معيَّنة إذا رأى مصلحة في ذلك.
المصالحة: إن كان المكلَّف شاكّاً بأنَّ في ذمَّته خُمُس ما صرفه مثلاً، فللحاكم أن يصالحه بمبلغ يراه مناسباً، نعم لو كان المكلَّف متيقِّناً بأنَّ في ذمَّته خُمُساً واجباً فلا بدَّ من دفع ذلك المتيقَّن ولا مجال لفرض المصلحة فيه.
ومورد المداورة: المكلَّف الذي وجب عليه الخُمُس ولا يستطيع أداءه أو يصعب عليه جدّاً، وحينئذٍ حيث إنَّه لا يسقط عنه الواجب لمجرَّد عدم الاستطاعة أو صعوبة الأداء، فيجب عليه أداؤه ولو بالمداورة مع وليِّ أمر الخُمُس ليؤديه حسب استطاعته زماناً ومقداراً، ونقل الخُمُس من العين إلى الذمَّة.
* * *
مفاد الشبهة
يقول البعض: لقد أكَّد الإسلام على مبدأ التساوي بين أفراد المجتمع، وحارب مسألة التفاوت الطبقي بين أفراده، وجعل المعيار في تفضيل بني البشر هو التقوى كما نصَّ عليه القرآن الكريم في موارد عدَّة، منها قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)، والتقوى كما هو معلوم هي أمر معنوي خاصٌّ بعلاقة الفرد بالله (عزَّ وجلَّ)، ولا يوجد في القرآن الكريم أنَّ هنالك ميزة أو أفضلية من حيث النسب أو العرق أو القبيلة أو العشيرة أو الوطن أو السكن لفرد على فرد آخر أو قوم على آخرين، بل فضيلة كلِّ إنسان بما كسبه بنفسه، وعليه فإنَّ تخصيص نصف الخُمُس للسادة من بني هاشم بدعوى إكرامهم من الله تعالى لقرابتهم للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يمكن أن تنسجم مع روح الإسلام، بل هي مخالفة للقران الكريم.
ردُّ الشبهة
إنَّ المنظِّرين لهذه الشبهة ركَّزوا على جوانب عدَّة فيها، فلا بدَّ من ملاحظتها وبيان المراد الحقيقي منها، وتوضيح موارد الاشتباه فيها، وعليه نقول:
إنَّ نظام الخلق تحكمه سُنَّة التفاضل لا التساوي، فالإسلام يحمي مبدأ العدل والإحسان ولا يقرُّ المساواة المطلقة كمبدأ عامّ، وقد دلَّت
على ذلك جملة من النصوص القرآنية التي تُوضِّح وجود التفاضل بين المخلوقات، كقوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ﴾ (الإسراء: 21).
فالإسلام يقوم في الحقوق على مبدأ (العدل والقسط) لا على مبدأ التساوي، ولن تجد في القرآن الكريم مفردة المساواة بين الناس بنحو مطلق، بل لا بدَّ من فرق بينهم، وقد صرَّحت النصوص القرآنية والروائية على نفي التساوي في جملة من الموارد:
منها: عدم التساوي بين الكامل وغيره، كتفضيل الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) على سائر البشر من ناحية الكمال والعلم والعصمة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالاَ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النمل: 15)، وقال تعالى: ﴿وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلّاً فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الأنعام: 86 و87)، وقال أيضاً: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (آل عمران: 33 و34)، فهذه النصوص الكريمة واضحة وصريحة أنَّ الأنبياء وخلفاء الله في الأرض لهم صفات كمالية خاصَّة اقتضت تفضيلهم واجتباءهم من قِبَل الحقِّ سبحانه وتعالى، وذلك لاستحقاقهم لهذه الكمالات، فإنَّ الله تعالى عالم بالخلق قبل الوجود وحينه وبعده.
ومنها: عدم التساوي بين العالم وغيره، فقد صرَّحت النصوص القرآنية والروائية على تفضيل العالم على غيره، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ (الزمر: 9)، وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء»(119)، وعن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «يا عليُّ، نوم العالم أفضل من عبادة العابد الجاهل. يا عليُّ، ركعتان يُصلّيهما العالم أفضل من ألف ركعة يُصلّيها العابد»(120).
ومنها: أنَّ الشارع المقدَّس قد ميَّز بين المجاهد والقاعد، فقال تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾ (النساء: 95)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أمَّا بعد، فإنَّ الجهاد باب من أبواب الجنَّة، فتحه الله لخاصَّة أوليائه، وسوَّغهم كرامة منه لهم ونعمة ذخرها، والجهاد هو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجُنَّته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلِّ وشمله البلاء»(121).
فهذه النصوص الكريمة صرَّحت بأنَّ هنالك تفاضل بين المؤمنين أنفسهم، وذلك من خلال التلبُّس بالجهاد، فمن كان من المجاهدين أفضل من القاعدين؛ لأنَّه بذل مهجته لأجل نصرة الدين والحفاظ على شريعة سيِّد المرسلين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(119) الكافي (ج 1/ ص 34).
(120) البحار (ج 74/ ص 57).
(121) الكافي (ج 5/ ص 4).
ومنها: ما ذكره القرآن الكريم من أنَّ الإنفاق والقتال قبل الفتح أفضل منه بعده، حيث قال (عزَّ وجلَّ): ﴿وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَللهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (الحديد: 10).
إنَّ هذه الآيات الكريمة قد بيَّنت معنىً دقيقاً جدّاً لمبدأ (العدل)، وأنَّه هو المدار في التفاضل وليس التساوي، حيث إنَّ الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح أفضل من الذين أنفقوا وقاتلوا بعده، حيث كان المسلمون قبل الفتح قلَّة قليلة شُرِّدوا عن ديارهم وسُلِبَت أموالهم وعاشوا فترات عصيبة جدّاً في نصرة الدين الإسلامي، على عكس من أنفق وقاتل بعد الفتح حيث قويت شوكت المسلمين واشتدَّ عودهم وتوسَّعت مواردهم المالية، فليس من العدل المساواة بينهم في الثواب والجزاء والدرجات العظيمة عند الله تعالى.
ومنها: فقد فضَّل الله تعالى السابق بالإيمان به واليوم الآخر والجهاد في سبيله، حيث قال (عزَّ وجلَّ): ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (التوبة: 19).
يُحدِّثنا التاريخ بأنَّ المشرف على سقاية الحاجِّ قبل الإسلام كان يتمتَّع بمنزلة اجتماعية مرموقة لما يُقدِّم للحاجِّ من خدمات حياتية أساسية، وكذلك عمارة المسجد الحرام وسدنته ورعايته، فقد كانت تُعَدُّ فضيلة للمتصدّي لها، وعلى رغم هذا فقد صرَّح القرآن الكريم بأنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أفضل من جميع تلك الأعمال عند الله تعالى.
وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن أبي بريدة، عن أبيه، قال: بينما شيبة والعبّاس يتفاخران إذ مرَّ عليهما عليُّ بن أبي طالب، قال: «بما تفتخران؟»، قال العبّاس: لقد أُوتيت من الفضل ما لم يؤتَ أحد سقاية الحاجِّ، وقال شيبة: أُوتيت عمارة المسجد الحرام، وقال عليٌّ: «وأنا أقول لكما: لقد أُوتيت على صغري ما لم تُؤتيا»، فقالا: وما أُوتيت يا عليُّ؟ قال: «ضربت خراطيمكما بالسيف حتَّى آمنتما بالله تبارك وتعالى ورسوله»، فقام العبّاس مغضباً يجرُّ ذيله حتَّى دخل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: أمَا ترى ما استقبلني به عليٌّ؟ فقال: «ادعوا لي عليّاً»، فدُعي له، فقال: «ما حملك يا عليُّ على ما استقبلت به عمَّك؟»، فقال: «يا رسول الله صدقته الحقَّ فإن شاء فليغضب وإن شاء فليرضَ»، فنزل جبرئيل (عليه السلام)، وقال: «يا محمّد ربُّك يقرأ عليك السلام ويقول: اتل عليهم: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ... لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ...﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [التوبة: 19-22]»(122).
وقد ذكر القرآن الكريم أنَّ هنالك مشتركات كثيرة بين الرجل والمرأة، وذلك من قبيل التكاليف والأحكام وإقامة الحدود والثواب والعقاب وغيرها، حيث قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 97).
وكذا قد بيَّن القرآن الكريم تمايزاً وتفاضلاً بين الرجل والمرأة في موارد عدَّة، منها: قوله تعالى في الميراث: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(122) مجمع البيان (ج 5/ ص 23).
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ (النساء: 11)، وقوله تعالى بأنَّ القوامة للرجل لا للمرأة: ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ﴾ (النساء: 34)، وأوجب الجهاد على الرجل دون المرأة، وجعل الطلاق بيد الرجل دونها، وجعل ديتها نصف دية الرجل.
وهذا التمايز والتفاضل بينهما هو عين العدل الإلهي، حيث إنَّ العرف يرى وبكلِّ وضوح أنَّ المتصدّي لإدارة شؤون البيت والعائلة وتلبية حاجات المرأة والكدِّ عليها والكسب والدفاع عن الأرض والعرض والمال كلُّه على عاتق الرجل، وهذا قد أقرَّه الشارع المقدَّس؛ وذلك لأنَّ طبيعة خلقة الرجل تقتضي ذلك، وهذا لا يعني ظلماً للمرأة، بل على العكس فقد حفظ الإسلام مكانة المرأة بين المجتمع وراعى طبيعتها وعفَّتها وكلَّ ما يصبُّ في حفظ كيانها.
فإنَّ استواء الرجل والمرأة من جميع النواحي لا يمكن أن يتحقَّق؛ لأنَّ الفوارق بين النوعين كوناً وقدراً أوَّلاً وشرعاً ثانياً تمنع من ذلك البتَّة.
ومن هنا يتَّضح أنَّ نظام الخلق قائم على أساس العدل والقسط وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وليس على أساس المساواة المطلقة في كلِّ شيء.
وكذا يتَّضح أيضاً أنَّ ما يدَّعيه البعض من أنَّ أساس التفاضل بين بني البشر هو التقوى غير تامٍّ، فإنَّ التقوى ليست علَّة تامَّة للتفاضل والتمايز، فقد بيَّنّا أنَّ المتَّقين أنفسهم بينهم تفاضل وتمايز، كمن كان مجاهداً أو عالماً منهم دون غيره.
بل إنَّ التفاضل في الأحكام لا علاقة له بالإنسانية أو الأكملية أو القرب من الله تعالى، فإنَّ نصَّ القرآن بأنَّ للذَّكَر مثل حظِّ الأُنثيين لا يعني أنَّ الذَّكَر أقرب من الأُنثى إلى الله، فلا معنى لذلك، وهو أمر أجنبي على الأحكام الفقهية، فإذا التزمنا فقهاً مثلاً بعدم جواز إمامة النساء للرجال فهذا لا يعني أنَّه نقص في المرأة، بل هو حكم شرعي لا علاقة له بالإنسانية ولا بالأكرمية وغيرها من الحالات الروحية.
إعطاء نصف الخُمُس للسادة من بني هاشم:
ذكرنا فيما تقدَّم أنَّ الملاك في التمايز بين بني البشر هو (العدل والقسط وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه)، وعليه فإنَّ إعطاء نصف الخمس كفريضة مالية للمؤمنين من الفقراء والمساكين والأيتام من السادة من بني هاشم هو من باب العدل الإلهي، فهو استحقاق لهم، وذلك لأُمور عدَّة امتازوا بها عن غيرهم:
الأمر الأوَّل:
لقد حظي بنو هاشم بمكانة مرموقة قبل الإسلام وبعده، وقد تواترت النصوص على أفضليتهم على غيرهم من بني البشر(123)، وذلك لسبقهم لاعتناق الإسلام والإيمان بالله ورسوله، فقد قال ابن عبّاس: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «بعثني الله نبيّاً، فأتيت بني أُميَّة فقلت: يا بني أُميَّة إنّي رسول الله إليكم، قالوا: كذبت ما أنت برسول، ثمّ أتيت بني هاشم فقلت: إنّي رسول الله إليكم، فآمن بي عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) سرّاً وجهراً، وحماني أبو طالب (عليه السلام) جهراً وآمن بي سرّاً، ثمّ بعث الله جبرئيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(123) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 19/ ص 210).
بلوائه فركزه في بني هاشم، وبعث إبليس بلوائه فركزه في بني أُميَّة، فلا يزالون أعداءنا وشيعتهم أعداء شيعتنا إلى يوم القيامة»(124).
وقد سجَّلت لنا المصادر التاريخية مجموعة من الخصال الكريمة التي كان يمتاز بها بنو هاشم عن غيرهم، كالجود والعطاء والرجولة والتنزُّه عن الرذائل، ومن أبرز تلك الوثائق ما جاء في حلف الفضول الذي كان يُمثِّل فيه بنو هاشم قطب الرحى في نصرة المظلوم والوقوف بوجه الظالمين، وروي عن ابن عبّاس أنَّه قال: (أعطى الله (عزَّ وجلَّ) بني عبد المطَّلب الصباحة والفصاحة والسماحة والشجاعة والعلم وحُبَّ النساء)(125).
وقد ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث المناشدة فضله على المسلمين حيث قال: «نشدتكم بالله هل سمعتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: كلُّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلَّا سببي ونسبي، فأيُّ سبب أفضل من سببي؟ وأي نسب أفضل من نسبي؟ إنَّ أبي وأبا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لإخوان، وإنَّ الحسن والحسين ابنَيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسيِّدَيّ شباب أهل الجنَّة ابناي، وفاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) زوجتي سيِّدة نساء أهل الجنَّة، غيري؟»، قالوا: اللّهمّ لا.
قال: «نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنَّ الله خلق الخلق ففرَّقهم فرقتين، فجعلني في خير الفرقتين، ثمّ جعلهم شعوباً فجعلني في خير شعبة، ثمّ جعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة، ثمّ جعلهم بيوتاً فجعلني في خير بيت؟»(126).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(124) البحار (ج 24/ ص 76).
(125) ذخائر العقبى (ص 15).
(126) البحار (ج 31/ ص 323).
بل قد كان النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصنع بمن مات من بني هاشم خاصَّة شيئاً لا يصنعه بأحد من المسلمين(127).
وقد وقفت السلطات الجائرة من الأُمويين والعبّاسيين بوجه السادة من بني هاشم من العلويين والحسنيين لما يحملونه من الحقِّ والذبِّ عن الشريعة المقدَّسة، فعمدوا إلى تشريدهم وطردهم وصلبهم وقتلهم ومنعهم من العطاءات وممارسة الأعمال في الدولة، وقد اشتدَّ بهم الفقر والعوز ممَّا لا يخفى.
فمن هنا جاءت النصوص والروايات عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) بإكرام بني هاشم، لما عرفت من فضلهم وجهادهم وسبقهم بتوحيد الله والذبِّ عن رسوله والدفاع عن حريم الإسلام ونصرة المظلوم، ولما عانوه من الظلم والتشريد.
روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من صنع إلى أحد من أهل بيتي يداً كافأته به يوم القيامة»، وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أنا شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاؤوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ذرّيتي، ورجل بذل ماله لذرّيتي عند الضيق، ورجل أحبَّ ذرّيتي باللسان والقلب، ورجل سعى في حوائج ذرّيتي إذا طُردوا أو شُرِّدوا»(128).
وعليه فإنَّ إعطاء نصف الخُمُس للسادة من بني هاشم إكراماً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد جُعِلَ هذا التكليف اختباراً وامتحاناً لمن لا يرضى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(127) نفس المصدر (ج 3/ ص 199).
(128) وسائل الشيعة (ج 16/ ص 332/ باب تأكُّد استحباب اصطناع المعروف إلى العلويين والسادات/ ح 1).
أن يرى لأهل البيت (عليهم السلام) عيناً وأثراً، بل إنَّ الحفاظ على عنوان بني هاشم له من الإيجابيات في دفع الشبهات وتسجيل الحقائق، أليس يستحقُّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يُكرَم؟ وإنَّما يُحفَظ المرء في عشيرته وولده، وهذا أمر عقلائي عرفي يقبله روح الاجتماع.
الأمر الثاني:
إنَّ تخصيص نصف الخُمُس للمؤمنين من فقراء بني هاشم ومساكينهم ممَّا تقتضيه العدالة الإلهيَّة، وليس تميُّزاً طبقيّاً؛ وذلك لأنَّهم حُرموا من الزكاة التي شُرِّعت للفقراء من عامَّة المسلمين، فليس للهاشمي أن يأخذ زكاة الأموال، وفي ذات الوقت هو مطالب شرعاً بإخراج الزكاة كما هو شأن بقيَّة المسلمين، فهو ليس معفيّاً عنها، وكذلك ليس معفيّاً عن إخراج الخُمُس.
فقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «وإنَّما جعل الله هذا الخُمُس خاصَّة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم عوضاً لهم من صدقات الناس تنزيهاً من الله لهم لقرابتهم برسول الله وكرامة من الله لهم عن أوساخ الناس، فجعل لهم خاصَّة من عنده ما يُغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذلِّ والمسكنة»(129).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام)، قال: «فلمَّا جاءت قصَّة الصدقة نزَّه نفسه ورسوله ونزَّه أهل بيته فقال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ﴾ [التوبة: 60]»، ثمّ قال: «فلمَّا نزه نفسه عن الصدقة ونزَّه رسوله ونزَّه أهل بيته، لا بل حرَّم عليهم؛ لأنَّ الصدقة محرَّمة على محمّد وآله، وهي أوساخ أيدي الناس لا تحلُّ لهم؛ لأنَّهم طُهِّروا من كلِّ دنس ووسخ»(130).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(129) الوسائل (ج 9/ ص 513/ باب 1 من أبواب قسمة الخُمُس/ ح 8).
(130) الوسائل (ج 9/ ص 514/ باب تحريم الزكاة الواجبة على بني هاشم/ ح 2).
هل إعطاء نصف الخُمُس لمطلق السادة؟
يُصوِّر البعض من المغرضين أنَّ إعطاء نصف الخُمُس هو لمطلق السادة من بني هاشم، وهذا خلاف ما عليه الطائفة الإماميَّة، فإنَّ إعطاء نصف الخُمُس للسادة فيما إذا توفَّرت فيهم الشروط، وإليك بيانها:
الشرط الأوَّل: أن يكون مؤمناً، فلا يجوز إعطاء هذا الحقِّ ممَّن كان منحرفاً عن خطِّ الله ورسوله وأهل بيته (عليهم السلام) وإن كان قريباً من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
الشرط الثاني: أن لا يكون متجاهراً بالفسق والعصيان، فلا يجوز إعطاء الحقِّ لمن كان شارباً للخمر أو عاصياً أو لم يؤدِّ الفرائض الواجبة.
الشرط الثالث: الفقر، كما نصَّت عليه آية الخمس، فلا يجوز إعطاء هذا الحقِّ للأغنياء من بني هاشم.
* * *
مفاد الشبهة
إنَّ أساس تشريع الخُمُس إنَّما شُرِّع لأجل الحاجة، وأنَّ الله تعالى غنيٌّ مطلق، فكيف يُنسَب هذا الحقُّ إلى الله تعالى، كما في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ﴾ (الأنفال: 41)؟ ومن المعلوم عدم إمكان نسبة الخمس لله تعالى؛ وذلك لأنَّه الغني المطلق، فنسبته لله (عزَّ وجلَّ) ينافي غناه.
ردُّ الشبهة
إنَّ هذه الشبهة لا بدَّ أن يُلحَظ فيها أُمور عدَّة:
الأمر الأوَّل:
قد توهَّم المستشكل بأنَّ تشريع الخُمُس منحصر بالحاجة إليه فقط، مع أنَّ الملاك في ذلك أعمّ من الحاجة، فإنَّها ليست هي العلَّة التامَّة في تشريع هذا الحقِّ، وإنَّما يُصرَف هذا الحقُّ في سبيل الله تعالى، وهذا الملاك عامٌّ شامل لجميع ما يدخل في حفظ ونشر معالم الدين والمذهب الحقِّ، وكلُّ ما يكون فيه رضا لله (عزَّ وجلَّ)، وللنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام).
وقد بيَّنّا فيما سبق أيضاً بعض الملاكات الأُخرى لتشريع الخُمُس كالتكريم للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحفظ قرابته لما قدَّموه في الدفاع عن الدين الإسلامي وسبقهم في الدعوة إلى التوحيد، وجعله عوضاً عن الزكاة التي حُرِّمت عليهم.
وورد هذا المعنى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه سُئِلَ عن قول الله (عزَّ وجلَّ):
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (الأنفال: 41) فقال: «أمَّا خُمُس الله (عزَّ وجلَّ) فللرسول يضعه في سبيل الله، وأمَّا خمس الرسول فلأقاربه، وخمس ذوي القربى فهم أقرباؤه، واليتامى يتامى أهل بيته»(131).
الأمر الثاني:
إنَّ قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ﴾ (الأنفال: 41) نظير قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ (الحديد: 11)، فليس من المعقول أن يُنسَب القرض والدَّين إلى الله تعالى، فهو ليس محتاجاً، بل هو الغني المطلق، وإنَّما المراد منه من أنفق ممَّا رزقه الله تعالى، وإِنَّما عبَّر عنه بالإِقراض لتحريك المشاعر وإِثارتها لدى الناس قدراً أكبر.
وهذا الإشكال نفسه قد أبرزه اليهود في عهد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث ورد عن ابن عبّاس أنَّه قال: كتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتاباً إلى يهود بني قينقاع دعاهم فيه لإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة وأن يُقرضوا الله، فدخل رسول النبيِّ إلى بيت المدارس حيث يتلقّى اليهود دروساً في دينهم، وسلَّم كتاب النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى فنحاص وهو من كبار أحبار اليهود، فلمَّا قرأه قال مستهزئاً: لو كان ما تقولونه حقّاً فإنَّ الله إِذن لفقير ونحن أغنياء، ولو كان غنيّاً لما استقرض منّا، وهو يشير إلى قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ (الحديد: 11)، فنزل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ﴾ (آل عمران: 181)(132).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(131) الوسائل (ج 9/ ص 509/ باب 1 من أبواب قسمة الخُمُس/ ح 1).
(132) بحار الأنوار (ج 9/ ص 73).
مفاد الشبهة
أوَّلاً: يقول البعض: إنَّ الحياة الاجتماعية متغيِّرة ومتحوِّلة، فكيف يمكن أن تُدار من قِبَل تشريع ثابت ودائم وخالد؟ وكذلك إنَّ هذه التشريعات صدرت في زمان بدوي غير مدني، فكيف تنسجم مع المدنية الحديثة؟ أليس للدين مرحلة زمنية معيَّنة وينتهي؟
ثانياً: هناك قضايا حادثة غير موجودة في التشريع، من قبيل حقِّ التأليف والطباعة والنشر، وحقِّ الاختراع، والتلقيح الاصطناعي، وزراعة الأعضاء، وتغيير الجنس، وغيرها ممَّا لم يتعرَّض لها الشرع المقدَّس، فكيف يُتعامَل مع مثل هذه الأُمور؟ وهل للفقيه الحقُّ في التدخُّل في تشريع أحكام خاصَّة للأُمور المستحدَثة؟
ردُّ الشبهة
أوَّلاً: أنَّ فكرة تغيُّر التشريعات بما يناسب الطابع المدني غير دقيقة، ولا يمكن المساعدة عليها؛ وذلك لأنَّ الوسيلة الوحيدة لإشباع الحاجات الفطرية للبشر هو الدين دون العلم، فلا يمكن المقارنة بين المعطيات العلمية ومبادئ التشريعات من حيث التغيُّر والثبات؛ لأنَّ المبادئ العلمية قائمة على أساس التجربة والاختبار، وهذا بخلافه في المقولات الأخلاقية والروحية والدينية، وما يرتبط بتلبية حاجات الإنسان الفطرية، فإنَّها غير خاضعة للاختبار والتجربة كالعلم الحديث.
ومن هنا فهناك مساحة من التشريعات ثابتة لا تتغيَّر بحسب المنظار الفطري والديني والشرعي؛ لأنَّها حاجة فطرية طبيعية، ولا يمكن للعلم أن يحلَّ محلَّ الدين فيها؛ لأنَّها أُصول وتشريعات تستمدُّ من الفطرة الإنسانية التي أُودعت من قِبَل الحقِّ تعالى، كالعدل، والشجاعة، والصبر، والصدق، والوفاء بالعهد، وحقِّ الحياة، والحرّية، والملكية، والزواج، وغيرها ممَّا يصبُّ في تنظيم حياة الفرد والمجتمع على المستوى الروحي والاجتماعي؛ لأنَّها جاءت حسب ما تقتضيه فطرة الإنسان وسُنَن الحياة التي جُعِلَت من قِبَل الشرع المقدَّس.
ثانياً: أنَّ هنالك مساحة من التشريعات قابلة للتغيُّر والتبدُّل، وطرح العلماء الأعلام في ذلك نظريات متعدِّدة:
النظرية الأُولى: منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي:
يذهب أصحاب هذا القول إلى أنَّه كما أنَّ هنالك تشريعات ثابتة كما تقدَّم فهنالك تشريعات متغيِّرة في الشريعة الإسلاميَّة، وهي ما يرتبط بعلاقات الحياة وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وأنَّ الدين الإسلامي ناظر إلى هذه الجهة حيث ترك مساحة بيد الفقيه أو وليِّ الأمر لتقنين بعض التشريعات المواكبة لحاجات المجتمع للتواصل مع تطوُّر العلاقات الإنسانية.
وهذا ليس نقصاً في التشريع الإسلامي أو إهمالاً من الشريعة، بل يُعبِّر عن استيعاب الشريعة المقدَّسة، وقدرتها على مواكبة العصور المختلفة، وقد حدَّد الشارع المقدَّس منطقة الفراغ بمنح كلِّ حادثة صفتها التشريعية مع إعطاء وليِّ الأمر صلاحية لملئ هذا الفراغ، ولكن ليس مطلقاً وإنَّما ضمن نطاق الأفعال المباحة، فأيُّ نشاط لم يرد فيه نصٌّ من
الشرع المقدَّس على وجوبه أو تحريمه يُسمَح للفقيه بإعطائه صفة ثانوية بالمنع عنه أو الأمر به بحسب ما يقتضيه الظرف.
وأمَّا الأفعال التشريعية التي ثبت تحريمها، فلا يمكن للفقيه تغييرها كالربا مثلاً، وكذلك ما ثبت في الشريعة وجوبه كإنفاق الزوج على الزوجة، فلا يمكن لوليِّ الأمر المنع عنه؛ لأنَّ حدود منطقة الفراغ التي أُتيحت للفقيه لا بدَّ أن لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامَّة، فالتي تُشكِّل منطقة الفراغ هي الألوان المباحة دون غيرها ممَّا ثبت شرعاً تحريمه أو وجوبه، ولا يوجد إشارة إلى تغيُّره(133).
النظرية الثانية: تغيُّر الأحكام تبعاً للزمان والمكان:
وهي التي طُرِحَت في بعض كلمات السيِّد الخميني (قدّس سرّه)، حيث قال: (إنّي أعتقد بالفقه الدارج بين فقهائنا، وبالاجتهاد على نهج الجواهري، وهذا الأمر لا بدَّ منه، ولكن لا يعني ذلك أنَّ الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر، وأنَّ لعنصرَي الزمان والمكان تأثيراً في الاجتهاد، فقد يكون لواقعة حكم لكنَّها تتَّخذ حكماً آخر على ضوء الأُصول الحاكمة على المجتمع وسياسته واقتصاده)(134).
وإنَّ مفاد ما ذكره (قدّس سرّه) أنَّ هذه النظرية لا يُراد منها الإتيان بأحكام جديدة أو تغيير الأحكام الفقهية، فإنَّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة(135)، بل المراد منها أنَّ بعض الأحكام التي ليس من ثوابت التشريع وأُصولها وليس من الأحكام الدائمة قد تتغيَّر تبعاً لتغيُّر موضوعاتها، وتغيُّر الموضوعات شيء آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(133) اقتصادنا (ص 722).
(134) صحيفة النور للإمام الخميني (ج 21/ ص 98).
(135) الوسائل (ج 27/ ص 169/ باب وجوب التوقُّف والاحتياط في القضاء والفتوى/ ح 52).
فعليه إنَّ الأحكام دائمة وثابتة لا تتغيَّر، وإنَّ التشريع غير قابل للتغيُّر، نعم الموضوعات قد تتغيَّر.
فمثلاً في مسألة الحجِّ حيث قال تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ (آل عمران: 97) فإنَّ تشريع الحجِّ واجب، وهذا الحكم غير قابل للتغيُّر والتبديل، فهو تشريع ثابت ودائم، ولكن هذا التشريع لم يُشرَّع بنحو مطلق وإنَّما تابع لموضوعه، وهذا الموضوع له شرائط، ومن شرائطه أن يكون الإنسان مستطيعاً وصحيح البدن... وإلى آخره، وإذا لم تتحقَّق الشروط لا يجب الحجُّ على المكلَّف، ومعنى عدم وجوبه لا يدلُّ على عدم تشريعه من قِبَل الله تعالى، وإنَّما يدلُّ على عدم فعليته، لعدم تحقُّق الشروط على فلان من الناس، فعند عدم تحقُّق الشروط لا يجب الحجُّ على المكلَّف؛ لأنَّ موضوع الحجِّ لم يتحقَّق، فهذا التغيير إنَّما تحقَّق لانتفاء الموضوع، وليس انتفاء تشريع الحكم الثابت.
ومن هنا ينبغي التمييز بن مرحلة الجعل للحكم ومرحلة الفعلية، فإنَّ مرحلة جعل الحكم لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، بل الحكم ثابت وإنَّما فعلية الحكم في عهدة المكلَّف، ولكي تتحقَّق هذه الفعلية لا بدَّ من تحقُّق جميع الشرائط.
فإنَّ هذه النظرية لها حدود في تطبيقها، وهي أنَّ التغيير والتبديل التابع للزمان والمكان له تأثير في تغيير الحكم التابع للموضوعات وليس مطلقاً.
وهنالك مثال آخر يُوضِّح الصورة أقرب، وهو بيع الدم، فإنَّ موضوع حرمة بيع الدم هو المنفعة وعدمها، ففي السابق كان بيع الدم
حراماً لعدم الانتفاع منه، والآن حيث يمكن الانتفاع منه فجاز بيعه، وهذا لا يعني أنَّ هنالك تبدُّلاً في أصل التشريع، وإنَّما المشرِّع عندما شرَّع هذا الحكم جعله تابعاً لموضوعه، وحيث إنَّ الموضوع قابل للتغيير والتبديل فالحكم يتبعه في ذلك.
وكذلك مثلاً ما ورد الحديث الشريف: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حقٌّ»(136).
حيث يرى السيِّد الخميني (قدّس سرّه) ضرورة عدم إمكان تطبيق هذا الحكم بمعزل عن تأثير الزمان والمكان في عصرنا؛ وذلك لأنَّ أدوات الاستخراج آنذاك كانت محدودة، وما كان يُستَخرج إنَّما بقدر الحاجة، وأمَّا في عصرنا حيث توسَّعت القدرات والمعدّات على الإحياء بحيث هنالك بعض الشركات لها من القدرات على إحياء بلد بأكمله، ولو طبَّقنا هذا الحديث على عصرنا لما تبقى أيَّة ثروة وطنية.
ثمّ ذكر العلماء والفقهاء الأعلام أنَّ هذه النظرية لا يمكن جريانها في العبادات؛ وذلك لأنَّه بالاتِّفاق أنَّ ملاكات العبادات غير واضحة للبشر، فلا يمكن لأحد أن يكشف ملاكاتها، وأنَّ تشخيص الملاك في العبادات إنَّما بيد الشارع المقدَّس لا غير.
وأمَّا تطبيق هذه النظرية في المعاملات والسياسات فإنَّه ممكن؛ لإمكان كشف ملاكات الأحكام في باب المعاملات والسياسات، وذلك وفق الأصل الأوَّلي لها، وعلى هذا الأساس يمكن كشف حركة التطوُّر الفقهي في هذين الصنفين فقط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(136) الوسائل (ج 25/ ص 388/ باب تحريم أكل مال اليتيم/ ح 1؛ وج 25/ ص 413/ باب من غرس غرساً فهو له/ ح 1).
وإنَّ المتتبِّع لأقوال الفقهاء من القدماء والمتأخِّرين يجد أنَّ هذه النظرية قد طُرِحَت من قِبَلهم، وقد أخذوا بعين الاعتبار عنصرَي الزمان والمكان.
فالشيخ الصدوق (رحمه الله) روى في كتابه (من لا يحضره الفقيه) عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «الفرق بين المسلمين والمشركين التحلّي بالعمائم»، والتحلّي هو إدارة العمامة تحت الحنك، والاقتعاظ شدُّها من غير إدارة، مع أنَّنا نجد أنَّ سُنَّة التحنُّك متروكة في عصرنا.
وعلَّق الشيخ الصدوق (رحمه الله) على هذه الرواية بقوله: (ذلك في أوَّل الإسلام وابتدائه، وقد نُقِلَ عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه أمر بالتحلّي ونهى عن الاقتعاظ)(137).
وقال العلَّامة الحلّي (رحمه الله) في (كشف المراد): (الأحكام منوطة بالمصالح، والمصالح تتغيَّر بتغيُّر الأوقات وتختلف باختلاف المكلَّفين، فجاز أن يكون الحكم المعيَّن مصلحة لقوم في زمان فيُؤمَر به، ومفسدة لقوم في زمان آخر فيُنهى عنه)(138).
وكذلك صاحب الجواهر حيث تعرَّض لهذه المسألة في بيع الموزون مكيلاً، حيث قال: (إنَّ الأقوى اعتبار التعارف في ذلك، وهو مختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة)(139).
ومن هنا يتَّضح أنَّ فقهاء الطائفة الإماميَّة قد لحظوا هذه الجهة، وأنَّ الفقه ملحوظ فيه مواكبته للعصور المتقدِّمة، وقادر على تلبية جميع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(137) من لا يحضره الفقيه (ج 1/ ص 260).
(138) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (ص 173).
(139) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام (ج 31/ ص 133).
حاجات الفرد والمجتمع، وليس كما يُتصوَّر في عصرنا من أنَّ فقه الإماميَّة جمودي ولا يمكن أن يواكب العصر.
النظرية الثالثة:
إنَّ للفهم الديني للفقيه المستكشف للأحكام الشرعية الحاضرة في الكتاب والسُّنَّة ضوابط ومعايير، فلا يحقُّ للفقيه بل ولوليِّ الأمر أن يقوم بتغيير أيِّ حكم شرعي، كما لا يحقُّ له التشريع في عرض الكتاب والسُّنَّة، نعم يُستثنى من ذلك موارد، أبرزها:
الأوَّل: قد يتَّفق للفقيه أن يفهم من النصِّ أنَّ هذا الحكم الشرعي إمَّا زمني مرحلي أو ظرفي مقيَّد والقيد مفقود حالياً، أو يكون الحكم ولائياً سلطانياً، أي إنَّ الحكم صدر في زاوية الولاية التنفيذية، فيمكن انتهاء أمر الحكم الولائي في عصرنا بناءً على اختصاص المقام بالمعصوم.
الثاني: أن يكون هناك عنوان ثانوي حاكم على العنوان الأوَّلي مثل الحرج والضرر وقوانين الالتزام الامتثالي، فيمكن لوليِّ الأمر أو الفقيه أن يُجمِّد حكماً أوَّلياً بمقدار دلالة الدليل الثانوي، ومن الواضح أنَّ هذا التجميد ممنهج طبعاً، فإنَّه من شأن الفقيه؛ لأنَّه سلطة تشريعية:
1- أن يُعيِّن كلّيّات العناوين الثانوية ونظام العلاقة فيما بينها وبين العناوين الأوَّلية.
2- تشخيص المصداق من شؤون المكلَّفين إلَّا إذا كان هناك استثناء.
3- تشخيص المصداق بيد الوليِّ؛ لأنَّه سلطة تنفيذية إذا كان إحالته إلى المكلَّف يلزم منه الفوضى والهرج والمرج والفساد لما يلحق من ضرر بالنظام الإسلامي.
4- أن نجعل التشريع من الأوَّل منطقة فراغ تُعطي للفقيه صلاحية في تقنين قوانين، كما تقدَّم في النظرية الأُولى.
5- بعض المساحات في الوقائع الحياتية لم تتدخَّل فيها الشريعة وتُرِكَ تخويلها الشرعي للمكلَّف أو الفقيه وفقاً لما يراه الصالح العامّ، وقد تتغيَّر الأحكام تبعاً لتغيُّر موضوعاتها، كما ذكرنا تفصيله في النظرية الثانية.
فهذه الجهات كلُّها لا بدَّ أن تُلحَظ في البحث، وعليه فإنَّ ما تقدَّم من الشبهة اتَّضح بطلانه، حيث تبيَّن بأنَّ الفقه الإمامي قد لحظ عنصر التطوُّر، وأنَّ هنالك مساحات للفقيه يمكن أن يتحرَّك بها بما أتاحه الشارع المقدَّس له، فإنَّ الأحكام المستحدَثة التي ذُكِرَت في بداية الشبهة قد اتَّضح كيفية التعامل معها، وكيف يمكن للفقيه أن يُصدِر حكماً فيها، وذلك وفق المساحة المتروكة من قِبَل الشارع له على ما تقدَّم تفصيله.
ومن هنا يتَّضح أنَّ من يتصوَّر أنَّ حكم الخُمُس يجب أن يتغيَّر تبعاً للزمان والمكان، فهذا تصوُّر باطل؛ وذلك لأنَّ فريضة الخُمُس من الفرائض والأحكام الأصلية والثابتة الدائمة التي نصَّ الشارع المقدَّس على وجوبها، فلا يمكن إدخالها في ضمن منطقة الفراغ؛ لاختصاصها بالمباحات كما تقدَّم. وكذا لا يمكن فرض تأثير الزمان والمكان فيها؛ لأنَّها من العبادات التي لا يمكن لغير المعصوم كشف ملاكها، وكذا لا يمكن فرض العنوان الثانوي فيها، فهو حكم تشريعي أصلي كوجوب الصلاة والزكاة والحجِّ غير قابل للتبدُّل والتغيُّر.
* * *
مفاد الشبهة
إنَّ المنظومة الأخلاقية قائمة على أساس نظام الحقّيَّة، بينما المنظومة الفقهية قائمة على أساس المنظومة التكليفية القهرية، فإنَّه من الواضح أنَّ هناك علاقة التضادِّ بين الفقه والأخلاق، فالفقه هو عبارة عن فتاوى تتكوَّن من أوامر ونواهي، والأخلاق عبارة عن رياضة روحية باطنية، فلا توجد أيُّ علاقة بينهما، ولذا نجد أنَّ هناك بعض المسائل بعيدة عن القِيَم الأخلاقية والإنسانية، فعلى سبيل المثال حكم الخُمُس فهو تكليف فقهي قهري، وقد يكون من منظار أخلاقي وإنساني فيه إجحاف وظلم، فالشخص الذي يعمل ويكدُّ ليله ونهاره ويجمع الأموال ثمّ بعد ذلك يُطالَب بدفع هذه الضريبة لأشخاص غير عاملين ويعيشون على هذه الضرائب، أليس هذا إجحافاً وظلماً بحقِّه؟ وهكذا العديد من المسائل الفقهية التي لو لوحظت من جهة أخلاقية لكانت متناقضة مع تلك القِيَم.
ردُّ الشبهة
إنَّ هذه الشبهة ليست بجديدة، وأوَّل من تعرَّض لها أبو حامد الغزالي في كتابه (إحياء العلوم)، حيث تعرَّض الغزالي إلى مسألة علاقة الفقه بعلم الأخلاق، وقسَّم العلم إلى محمود ومذموم، ثمّ قسَّم المحمود إلى واجب عيني وواجب كفائي، ويقصد بالواجب العيني هو علم
الأخلاق، وأما الواجب الكفائي فيقصد به علم الفقه. ونعت الغزالي القسم الثاني -أي الفقه- بالعلم الدنيوي، ووصف علماء الفقه بأنَّهم علماء الدنيا، وأمَّا العلم الأُخروي فهو علم الأخلاق. وبدأ الغزالي بطرح الشبهات في هذا المجال، وأثار شبهة التناقض والتضادِّ بين المنظومة الفقهية والأخلاقية، ووصف علم الفقه بأنَّه ضرورة ناشئة من الخصومات والشهوات. وقال الغزالي بأنَّ الفقه لا يعتني بباطن الإنسان وروحه، فهو يعتني بمباحث الطهارة والنجاسة الظاهرتين، ولا يعتني بحقيقتهما الباطنية. وكذلك إنَّ الفقه في بعض حالاته يعتمد على الحيل الشرعية، وذلك من قبيل تضييق الزوج على زوجته ممَّا يجعلها تهبه صداقها ومهرها، وكذا التهرُّب من دفع الخُمُس أو الزكاة بأن يهب الزوج ذلك الحقَّ لزوجته. وسرت هذه الشبهة عند مجموعة من الصوفية، وغيرهم حتَّى وقتنا المعاصر، وللإجابة عليها والوقوف على معالمها نذكر أُموراً عدَّة:
الأمر الأوَّل:
إنَّ الإجابة على هذه الشبهة سيكون بمنظار المنظومة الفقهية الشيعية؛ لأنَّنا نعتقد أنَّ فقه العامَّة لا يصلح لأن يُعَدَّ علماً حتَّى يقال: إنَّه من علوم الدنيا؛ وذلك لاختلاطه بالبدع والجهالات والأهواء المخترعة التي شُرِّعت برعاية السلطات الحاكمة آنذاك، فهذا موطأ مالك بين يديك فإنَّه كان لا يكتب شيئاً فيه لا تقبل به السلطات العبّاسية، ممَّا جعل الحاكم العبّاسي آنذاك يجعله القانون الرسمي للدولة، وعليه لا بدَّ من جعل الميزان في ردِّ هذه الشبهة المنظومة الفقهية التابعة لمدرسة القرآن الكريم والعترة الطاهرة من أهل البيت (عليهم السلام).
الأمر الثاني:
إنَّ العلاقة بين الفقه والأخلاق ليس كما تصوَّره الغزالي وغيره ممَّن تبعه وهي علاقة التناقض، وإنَّما العلاقة تكاملية، فإنَّ المنظومة الفقهية الشيعية فيها مراتب كسائر القوانين، ففي بعض مراتبه فقه إلزامي وفقه استحبابي، وثالث أخلاقي، بمعنى أنَّ المخاطب في المنظومة الفقهية لا بدَّ أن يلحظ هذه المراتب الثلاث، فليس الفقه على مرتبة واحدة.
المرتبة الأُولى: ما يُصطَلح عليه بـ (الفقه الإلزامي)، وهو المخاطَب به جميع الناس، ويكفي في تحصيله وتحقُّقه أداء ذلك اللزوم، سواء كان أمراً أو نهياً، وهو أدنى مراتب الفقه من حيث الوصول إلى الكمالات والرقيِّ الروحي، وإنَّ أغلب المستشكلين ركَّزوا إشكالاتهم على هذه المرتبة.
المرتبة الثانية: الفقه الاستحبابي، فهنالك بعض الأوامر والنواهي لوحظ فيه جهة الاستحباب أي جواز الترك والعمل، وأنَّ جهة العمل متروكة بيد المكلَّف نفسه إن أراد الوصول إلى بعض الكمالات الروحية والقرب من الله تعالى، فعليه أداء هذا التكليف الاستحبابي. ولم يصل هذا الصنف إلى مرحلة الإلزام تيسيراً للمكلَّف من الوقوع بالحرج والعسر، فإنَّ الشريعة المقدَّسة تلحظ دائماً جانب الاعتدال في العبادة وتترك جهة الوصول إلى الرقيِّ الروحي بيد نفس المكلَّف وتُعطيه طُرُقها وكيفياتها.
المرتبة الثالثة: الفقه الأخلاقي، إنَّ كلَّ حكم من أحكام الشارع المقدَّس سواء كان إلزامياً أو استحبابياً وغيره من الأحكام الفقهية، يعتبره الشارع أحد أهمّ العوامل في تحقيق كثير من الكمالات الأخلاقية
والروحية، فالفقه في معناه الاصطلاحي المتداول يدخل في الحكمة العملية، فهو أحد أهمّ العوامل في زيادة التقوى لدى الإنسان وأحد العوامل التي تربط المكلَّف بالله (عزَّ وجلَّ).
ومن هنا فإنَّ الأحكام الشرعية لا بدَّ أن تُلحَظ من جهتين: من جهة الفقه الإلزامي أو الاستحبابي، ومن جهة الفلسفة الروحية لذلك الحكم، فعلى سبيل المثال قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ (البقرة: 43)، فهذا حكم إلزامي يدلُّ على وجوب الصلاة على المكلَّف، هذا من زاوية الفقه الإلزامي الذي يكفي فيه أداء هذا الواجب، ولكن في نفس الوقت إنَّ هذه الصلاة وإن كان تأديتها تُسقِط الوجوب والإلزام، ولكن لو لوحظت من جهة أخلاقية روحية، فإنَّ هذه الصلاة فيها جنبة التكامل، وهي في عهدة المكلَّف، فكيف يمكن له أن يجعل هذه الصلاة محلّ رقيِّه الروحي، وهذا ما نصَّ عليه القرآن الكريم حيث قال: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: 45)، فهنا القرآن الكريم يُبيِّن وبكلِّ وضوح العلاقة بين الفقه الإلزامي والفقه الأخلاقي، فإنَّ الصلاة وإن كانت إلزامية إلَّا أنَّ فيها جنبة أخلاقية روحية ينبغي على المكلَّف أن يلتفت إليها. وعليه فإنَّ أداء الواجبات والنهي عن المحرَّمات ليس عبارة عن منظومة مستقلَّة، وإنَّما فيها لحاظات لا بدَّ أن يُلتَفت إليها، وهي فلسفة تلك الإلزامات ومقاصدها، فهنالك علاقة وثيقة بين العلمين، سواء من حيث الموضوع -فإنَّ كلّاً من المنظومة الفقهية والأخلاقية محورها واحد وهو (فعل المكلَّف)- أو من حيث الهدف، فما يُطلَق عليه في الفقه من تكاليف سواء كانت إلزامية أو استحبابية فهي بنظر علم الفقه عبارة عن وصايا أخلاقية يبلغ من خلالها الفرد إلى نيل
الدرجات والكمالات، لذلك لا يوجد تكليف عبادي مثلاً لم يُلحَظ فيه الجانب الروحي.
ولذا فإنَّ مسألة صفاء النفس وتهذيبها وتطهير الباطن التي هي هدف الأخلاق لا يمكن بلوغها إلَّا عن طريق الشريعة، فهي التي تُؤمِّن لنا التكاليف المطلوبة من قِبَل الحقِّ تعالى، وهذه التكاليف لا تقتصر على الوجوب أو الحرمة وإنَّما تتعدّاها في كثير من الموارد، وذلك ببيان المستحبّات والمكروهات والآداب التي هي من أهمّ أُسس المنظومة الأخلاقية، حيث إنَّها تعتمد في الوصول إلى الكمال النفسي على ذلك، وهذا واضح لمن يتتبَّع المصنَّفات التي تختصُّ بذلك.
الأمر الثالث:
من المبادئ الأساسية في المنظومة الإسلاميَّة هو مبدأ التكافل الاجتماعي، ويُراد منه التحام الأفراد فيما بينهم في إطار الودِّ والرحمة، يشدُّ بعضهم بعضاً، كما ورد في الحديث الشريف: «المؤمن للمؤمن بمنزلة البنيان يشدُّ بعضه بعضاً»(140)، وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «والله لا يكون المؤمن مؤمناً حتَّى يكون لأخيه مثل الجسد إذا ضرب عليه عرق واحد تداعت له سائر عروقه»(141). وربط القرآن الكريم هذا المبدأ بالإيمان، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10)، وقال تعالى أيضاً: ﴿وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ﴾ (المائدة: 2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(140) بحار الأنوار (ج 58/ ص 150).
(141) مستدرك الوسائل (ج 9/ ص 42/ باب وجوب أداء حقِّ المؤمن/ ح 10).
وهناك في المنظومة الإسلاميَّة مظاهر عدَّة للتكافل، فالجهاد في سبيل الله تعالى أحد مظاهر التكافل حيث ينضمُّ فيه الأفراد بعضهم إلى البعض للدفاع عن الإسلام والمسلمين، وكذا التكافل العلمي حيث حثَّ الإسلام على التعلُّم والتعليم، وأن يُعلِّم العالم الجاهل، وهكذا، فالإسلام وإن لحظ جانب الفرد، ولكن الأساس هو المجتمع وكيفية إيجاد حالة التوازن فيه، وذلك عن طريق مبدأ التكافل والإعانة بين أفراد المجتمع، لذلك أصبحت هنالك حاجة ماسَّة للاختصاصات، فالمهندس والطبيب وكلُّ ذي حرفة فإنَّهم يُقدِّمون الخدمات وفق هذا المبدأ ولحاجة المجتمع لذلك، فالحياة الاجتماعية لا يمكن أن تسير وفق جهود الأفراد والفردية، بل لا بدَّ من انضمام جهود الأفراد بعضهم للبعض لكي يحصل التعايش السليم بين طبقات المجتمع، وهذا النوع أكَّد عليه الإسلام كثيراً، فالإنسان هو الصورة المثالية لتحقيق الطمأنينة في المجتمع ورفع الاحتقان الذي قد يحصل بين أفراده، فعلى ضوء هذا المبدأ تزدهر الحياة، وبدونه لا يمكن للفرد أن يُحقِّق الحياة السعيدة.
ومن ظواهر التكافل الاجتماعي المهمَّة هي ظاهرة الإنفاق، وظاهرة الضرائب المالية التي تقرُّها جميع الديانات والمذاهب والدول على اختلاف مسمّياتها، فإنَّ هذه الضرائب إن لوحظت من جهة فردية قد يُتصوَّر فيها أنَّها ظلم وإجحاف في حقِّ الباذل، ولكن في الحقيقة ليس كذلك لو لوحظت من جهة مبدأ التكافل، والتوازن في المعيشة، والمداراة والرحمة بين بني البشر، فإنَّها تكون من أسمى ظواهر التكافل والقِيَم الأخلاقية، ففريضة الخُمُس مثلاً أو الزكاة أو غيرها من الضرائب ليست إجحافاً وظلماً بحقِّ الفرد، لأنَّ الفرد يعيش ضمن مجتمع لا بدَّ أن
يُلحَظ فيه جهة التوزان والتكافل حالها حال بقيَّة القِيَم المتقدِّمة، والشارع المقدَّس قد أعطى ضمانات لذلك الفرد، وعدَّ ذلك طريق وسبيل إلى البرِّ والخير ونيل الدرجات الأُخروية، وجعلها من علائم التقوى والإيمان وغيرها من الدرجات العليا.
إشكال ودفع:
لماذا لم يمنح الله تعالى الفقير ما يُغنيه وجعله يعتمد على هذه الضرائب؟ أليس الرزق على الله تعالى؟ فلماذا لم يرزق ذلك الفقير ما يكفيه ليرفع عنه الاتِّكالية؟
الجواب يكون من خلال جهات عدَّة:
الجهة الأُولى: أنَّ الله سبحانه وتعالى غير عاجز على أن يجعل عباده في مستوى واحد من حيث الغناء المالي، وقد أُشير إلى ذلك في آيات كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ (يونس: 31)، وقوله تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ﴾ (فاطر: 3)، وقوله تعالى: ﴿وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾ (هود: 6)، ولكن السبب في هذا التمايز لأنَّ الحاجة أساس العمل، فبلا عمل لا يوجد إنتاج، وهذه هي طبيعة الحياة البشرية، فإذا كان كلُّ أفراد المجتمع في صفٍّ واحدٍ من الغنى، فهذا معناه لا حاجة للعمل ولا يوجد إنتاج في جانب من جوانب الحياة، فعلى
سبيل المثال لو فرضنا أنَّ هناك بلداً كلُّ أفراده أغنياء، ويتمتَّع بثروات مالية، فمن منهم الذي ينزل إلى الحقل ليحرث؟ ومن منهم يبني ويُعمِّر؟ ومن منهم يُحرِّك الآلة؟ ومن منهم يعمل ليسدَّ حاجات المجتمع؟ فإنَّ الحاجة هي التي تدعو ربَّ العمل إلى أن يُنشِد العامل ليتمَّ عمله، والحاجة هي التي تدعو إلى ممارسة الأعمال لكي يسكن الإنسان ويأكل ويشرب ويمارس حياته الطبيعية.
الجهة الثانية: قد أوضح القرآن الكريم بعض علل عدم بسط الرزق لبعض الناس، قال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ (الشورى: 27)، وهذا معنى جميل يُبرزه القرآن الكريم، حيث يُبيِّن لنا أنَّ تقدير الرزق لبني البشر نابع عن خبرة وبصيرة من قِبَل الحقِّ تعالى بشؤون عباده، فإنَّه يعلم لو وسَّع على العباد الرزق بحسب ما يريدونه ويبغونه لبغوا في الأرض، والبغي يعني الظلم والجرم والجناية، ولكن الله تعالى يُنزِّل الرزق على البشر بقدر ما يشاء وما يراه من مصلحة لذلك الفرد، فكم نرى في واقعنا المعاصر أنَّ هناك أُناساً كانوا فقراء وعندما أصبحوا أغنياء بذلوا هذه الأموال في طريق الإفساد والمعاصي والظلم وتوغَّلوا في المحرَّمات والعياذ بالله.
الجهة الثالثة: أنَّ الملاحظ أنَّ هناك بعض القِيَم بينها تلازم لا يمكن تصوُّر أحدها بدون الآخر، فمثلاً العلم إن لم يكن هناك جهل فلا قيمة للعلم، وكذا الغنى لا يمكن الشعور به إن لم يكن هناك فقر، فلا يوجد في سُلَّم الحياة أُناس كلُّهم علماء وكلُّهم عدول وثقاة، فهذا معناه إلغاء لمسيرة الحياة والتنافس والرقيِّ في جميع المجالات، فالفقير لا بدَّ أن
يسعى ويكدَّ، والغنيُّ لا بدَّ أن يُعطي ويبذل، كما أنَّ الجاهل عليه أن يتعلَّم، والعالم عليه أن يُعلِّم، وبهذا حتَّى تتكون الحياة وتزدهر، ويكون لها قيمة وهدفية، وإلَّا أصبحت اتِّكالية عبثية.
الأمر الرابع:
هنالك في المنظومة الإسلاميَّة ما يُطلَق عليه بالنظرية النسبية، هنالك بعض الأُمور قد يتصوَّر البعض أنَّ فيها مضرَّة، ولكن بلحاظ ومنظار آخر فيها منفعة، فلا يوجد عندنا مضرَّة مطلقة أو منفعة مطلقة، والإسلام ينظر إلى مثل هذه القضايا بكونها أُموراً نسبية، فيراعي الأصلح فيها ويُؤكِّد عليه، فنظام الضرائب نظام عامٌّ موجود في كلِّ المجتمعات، وهذا النظام إن لوحظ من جهة الفرد قد يُتصوَّر أنَّ فيه مضرَّة وإجحافاً وظلماً، ولكن من اللحاظ الجمعي والاجتماعي ليس فيه مضرَّة أو إجحاف، فبحسب السُّلَّم الاجتماعي ليس هنالك ظلم؛ وذلك لأنَّ مسألة الضرائب وإن كان فيها ضرر بنظر الفرد، ولكن في نفس الوقت فيها منفعة وتكامل من ناحية النظم الاجتماعي، فالفقه فيه اعتباران: أحدهما مخاطبة الفرد، والآخر لحاظ الجانب الروحي فيه الذي يُلحَظ فيه فاعليته بالنسبة للمجموع لا إلى الفرد فحسب، فالإشكال الذي سُجِّل على الفقه الشرعي بميزان الفقه يلحظ الفرد، ولكن لم يلتفت لزاوية المجموع والمجتمع والناحية الاجتماعية وما فيه من منافع، فهذه مسألة الزكاة بين يديك إن لوحظت من جهة فردية قد يعدُّها البعض إجحافاً، ولكنَّها من الناحية الاجتماعية والإيمانية والمجموعية فإنَّ فيها منفعة كبيرة، وهي رفع الفقر والعوز عن كثير من الأفراد، وإيجاد نوع من التوازن بين أصناف المجتمع.
الأمر الخامس:
إنَّ المنظومة الفقهية يُلحَظ فيها عدم الجمود على النصِّ، فهي غير منعزلة عن المنظومة الأخلاقية، وهذا واضح لمن يتتبَّع كلمات وفتاوى الفقهاء، فإنَّ الفقيه لا يجمد على النصِّ، بل لا بدَّ من مراعاة المنظومة الأخلاقية والجنبة العملية وتأثير عامل الزمان والمكان -إن كان من المتغيَّرات التي يمكن أن يدخل فيها عامل الزمان والمكان-، فكلُّ هذا ملحوظ لدى الفقيه، فكم عندنا من الأحكام اكتسبت عنواناً ثانوياً لأجل أنَّ الحكم الأوَّلي يتصادم مع المنظومة الأخلاقية، وعليه فلا يمكن تأسيس فقه إسلامي بدون أن ينظر الفقيه إلى الفقه الأخلاقي.
الأمر السادس:
يتصوَّر البعض أنَّ الفقه يقوم في بعض موارده على ما يُسمّى بـ (الحيل الشرعية)، وهذا منافٍ للمنظومة الأخلاقية، وفي الحقيقة إنَّ أوَّل من أطلق هذا المصطلح كُتُب أهل السُّنَّة، حيث نقل الغزالي أنَّ الفقيه الذي كان يتهرَّب من الزكاة بنقل هذا الحقِّ إلى زوجته هو القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري تلميذ أبي حنيفة، وأوَّل قاضي للقضاة في العالم الإسلامي والفقيه السُّنّي المبرز في القرن الثاني الهجري، حيث قال في ذلك: (وحكي أنَّ أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول ويستوهب مالها إسقاطاً للزكاة)، ثمّ أضاف قائلاً: (وحكي ذلك لأبي حنيفة)، وقال: (وذلك من فقهه)(142)، ولم يرد هذا المصطلح في كلمات الأئمَّة (عليهم السلام) ولا في عبائر المتقدِّمين من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(142) إحياء علوم الدين للغزالي (ج 1/ ص 18).
علمائنا، وما وقع عند البعض وإن كنّا لا نرتضيه لكن المراد منه ليس كما يراه الطرف الآخر، فما يعنيه علماء الإماميَّة هو عبارة عن انتفاء الموضوع، وهو خاضع لضوابط وشروط خاصَّة ومنضبطة، فإنَّ الشارع المقدَّس وإن أجاز مثلاً نقل الحقِّ إلى الزوجة لكن هذا الحكم ليس على إطلاقه، فلا يحقُّ للمكلَّف دفع هذا الحقِّ لزوجته مع عدم وجود الشأنية أو عدم استحقاق الزوجة. وأن يكون الدفع حقيقياً وليس صورياً فقط، بل لا بدَّ بعد دفعه أن يدخل في ملكها، ولها حقُّ التصرُّف فيه حاله كحال أموالها الخاصَّة. وكذلك على سبيل المثال ما يُعبَّر عنه بالهروب من الصوم من خلال السفر، فالبعض يطلق عليه بـ (الحيلة الشرعية)، مع أنَّنا لو لحظنا هذا الحكم فإنَّه عبارة عن انتفاء موضوع الصوم بالسفر، فإنَّ المسافر لا يجب عليه الصوم، فمن يخرج قبل الزوال قاصداً السفر وقطع المسافة المطلوبة، فهنا ينتفي وجوب الصوم وينتقض بالسفر، وهذا ليس بحيلة وإنَّما الشارع المقدَّس أجاز للمكلَّف السفر في شهر رمضان فإن تحقَّقت شروط السفر وضوابطه فلا مانع من ذلك، وهذا ليس بحيلة في الحقيقة وإنَّما أُطلق عليه هذا المصطلح من غير أن يُراعى فيه الدقَّة وإن كان ليس في محلِّه كما ذكرنا.
* * *
(1) فلسفة وفوائد فريضة الخُمُس
بعد أن اتَّضح أنَّ فريضة الخمس من الواجبات الشرعية والضرورية التي شرَّعها الحقُّ تعالى، لا بأس بالوقوف على بعض فوائده وفلسفته والحكمة من تشريع هذا الحقِّ، وعند تتبُّع النصوص القرآنية والروائية يمكن أن نُجملها بأُمور عدَّة:
الأوَّل: تطهير مال الغنيِّ من الشبهات التي تعلَّق به:
أكَّدت جملة من الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) على أنَّ الخُمُس يُطهِّر المال، ويزيد في الرزق، ويضاعف التوفيق لدى المؤمن، ورد في موثَّقة السكوني عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، عن أبيه، عن عليٍّ (عليه السلام): «أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: إنّي كسبت مالاً أغمضت في مطالبه حلالاً وحراماً، وقد أردت التوبة، ولا أدري الحلال منه والحرام وقد اختلط عليَّ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): تصدق بخُمُس مالك، فإنَّ الله رضي من الأشياء بالخُمُس، وسائر المال لك حلال»(143).
وكذا في موثَّقة عبد الله بن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنّي لآخذ من أحدكم الدرهم وإنّي لمن أكثر أهل المدينة مالاً ما أُريد بذلك إلَّا أن تطهروا»(144).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(143) الوسائل (ج 9/ ص 506/ باب 10 وجوب الخمس في الحلال إذا اختلط بالحرام/ ح 4).
(144) الوسائل (ج 9/ ص 484/ باب 1 ما يجب فيه الخُمُس/ ح 3).
الثاني: الخُمُس عبادة مالية لله تعالى:
قد يتصوَّر البعض أنَّ الخُمُس هو خسارة مالية، ولكن في الحقيقة إنَّ حاله حال الصدقات المالية التي نصَّ القرآن الكريم عليها أنَّها من علامات المؤمن، وبها يتحقَّق إيمان الفرد ونيل البرِّ، كما قال تعالى: ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران: 92)، فهذه دعوة من القرآن الكريم إلى أنَّ التصدُّق ودفع الواجب من الأموال ليس خسارة وإنَّما خيراً كثيراً، ومن هنا فقد عبَّر القرآن الكريم بأنَّ من يُؤدّي فريضة الخُمُس يكون من أهل الإيمان، حيث قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الأنفال: 41)، فجعل الله تعالى في الآية الكريمة أساس الإيمان بالله (عزَّ وجلَّ) وبكتابه العزيز أداء هذه الفريضة، فهي من أبرز معالم الإيمان به (عزَّ وجلَّ).
ومن هنا روي عن عمران بن موسى، عن موسى بن جعفر، قال: قرأت عليه آية الخُمُس، فقال: «ما كان لله فهو لرسوله، وما كان لرسوله فهو لنا»، ثمّ قال: «والله لقد يسَّر الله على المؤمنين أرزاقهم بخمسة دراهم، جعلوا لربِّهم واحداً وأكلوا أربعة أحلّاء»، ثمّ قال: «هذا من حديثنا صعب مستصعب لا يعمل به ولا يصبر عليه إلَّا ممتحن قلبه للإيمان»(145).
الثالث: التطهير من البخل والشحّ والسيطرة على المشاعر:
وورد في بعض الروايات الشريفة أنَّ فريضة الخُمُس تُطهِّر المؤمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(145) الوسائل (ج 9/ ص 484/ باب 1 من أبواب ما يجب فيه الخُمُس/ ح 6).
من البخل والشحِّ اللذين يُعَدّان من الأمراض الروحية الخطيرة، حيث ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «وأيُّ داءٍ أدوى من البخل»(146).
ومن هنا جاءت فريضة الخُمُس كأحد أهمّ الطُّرُق التي من خلالها يُعالَج مرض البخل، فقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام)، قال: «فإن أخرجه -أي الخُمُس- فقد أدّى حقَّ الله ما عليه، وتعرَّض للمزيد، وحلَّ له الباقي من ماله وطاب، وكان الله أقدر على إنجاز ما وعد العباد من المزيد والتطهير من البخل على أن يُغني نفسه ممَّا في يديه من الحرام»(147).
الرابع: التوسعة على فقراء ذراري رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
ذكرنا فيما تقدَّم أنَّ أحد أسباب تشريع هذا الحقِّ هو إكراماً للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكذا بسبب تحريم الزكاة عليه، ومن هنا فإنَّ من فلسلفة تشريع هذه الفريضة هو التوسيع على فقراء ذراري النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذلك لحرمانهم من الصدقة والزكاة، ففي موثَّقة أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لشيء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلَّا الله وأنَّ محمّداً رسول الله، فإنَّ لنا خُمُسه، ولا يحلُّ لأحد أن يشتري من الخُمُس شيئاً حتَّى يصل إلينا حقُّنا»(148).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ الله لا إله إلَّا هو لمَّا حرَّم علينا الصدقة أنزل لنا الخُمُس، فالصدقة علينا حرام، والخُمُس لنا فريضة، والكرامة لنا حلال»(149).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(146) الوسائل (ج 21/ ص 550/ باب استحباب الاقتصاد في النفقة/ ح 2).
(147) بحار الأنوار (ج 93/ ص 191).
(148) الوسائل (ج 9/ ص 487/ باب ما يجب فيه الخُمُس/ ح 4).
(149) الوسائل (ج 9/ ص 483/ باب تحريم الزكاة الواجبة على بني هاشم/ ح 7).
وعن إسحاق بن عمّار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «لا يُعذَر عبد اشترى من الخُمُس شيئاً أن يقول: يا ربِّ اشتريته بمالي حتَّى يأذن له أهل الخُمُس»(150).
الخامس: رفع الطبقية وإيجاد حالة التوازن بين أفراد المجتمع:
من أهمّ ما جاء به الإسلام هو رفع الطبقية بين أفراد المجتمع، حيث إنَّ الملاحظ في المجتمعات أنَّ هنالك صنفين من البشر: طبقة رأس المال والطبقة الكادحة، وأنَّ أغلب الحكومات لا تعتني بالطبقة الكادحة، وهنالك خلل في توزيع الثروات في أغلب الأحيان، ومن هنا جاء الإسلام ببعض الضرائب المالية التي فُرِضَت على المسلمين، وذلك لرفع هذا النوع من الطبقية، وإيجاد حالة التوازن والتكافل بين أفراد المجتمع، ومن هنا فإنَّ أحد أسباب وفلسفة تشريع الضرائب هذا الأمر بالخصوص، فمن خلاله تحلُّ المشاكل الاجتماعية، وعلاج هذه المشكلة وهذه الحالة على طول الخطِّ والمسيرة.
السادس: الاستقلالية المالية مصدر قوَّة للإسلام والمذهب:
أهمّ مصادر القوَّة هو المال، فإنَّه يُعَدُّ جنبة أساسية في تقوية الدول والحكومات، ومن هنا فإنَّ أيَّ حركة أو حكومة لم تتمتَّع بالاستقلالية المالية يُعَدُّ ذلك ضعفاً لها، كما نراه ونشاهده في عصرنا من سيطرة الدول الكبرى وهيمنتها على أموال الحكومات الأُخرى، ولذا فقد عزَّز الإسلام هذه المسألة، وجعل للمسلمين استقلاليتهم المالية التي من خلالها يمكن حفظ الإسلام والمذهب من العدوِّ، وهذا أمر في غاية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(150) نفس المصدر (ص 542).
الأهمّية، فإنَّنا نشاهد بأُمِّ أعيننا لولا وجود وفرض هذه الضرائب المالية من قِبَل الشريعة المقدَّسة لما استطعنا الدفاع والحفاظ على معالم المذهب الحقِّ.
فمن خلال هذه الأموال تمَّ الحفاظ على بيضة الإسلام وقدسية المذهب وعدم الانجرار لقرارات العدوِّ وهيمنته وتسلُّطه على المال العامِّ.
ولذا فببركة هذه الأموال تمَّ الدفاع عن المقدَّسات، ودعم المجاهدين بالمال والسلاح والطعام والشراب، وإنشاء المؤسَّسات والحوزات العلمية المتصدّية لتدريس العلوم الإسلاميَّة، لتخريج الدعاة والمبلِّغين، وطباعة ونشر الكُتُب التي من خلالها يتمُّ بيان العقيدة الحقَّة وما يحتاجه الفرد في تنظيم حياته العبادية الروحية والمعاملاتية، وكذا بناء المستشفيات ودور الأيتام ودفع ضرورات المؤمنين من الفقراء كتزويجهم ومعالجة مرضاهم وقضاء حوائجهم، وكلُّ ما يصبُّ في مصلحة المذهب وإعلاء كلمته.
* * *
(2) تعيين الوظيفة بالنسبة إلى سهم الإمام (عليه السلام)
يتساءل الكثير في خصوص الوظيفة بالنسبة إلى سهم الإمام (عجّل الله فرجه) في حال غيبته، ولا بأس بأن نتعرَّض إلى أقوال العلماء في خصوص ذلك، وأهمّها ستَّة:
القول الأوَّل:
ذهب بعض المحدِّثين إلى تحليل هذا الصنف وسقوطه، وذلك بمقتضى ما ورد من أخبار التحليل، وقد تمَّ الردُّ على هذا القول فيما تقدَّم ضمن البحث عن أخبار التحليل.
القول الثاني:
ذهب البعض إلى القول بدفنه أو إلقائه في البحر إلى أن يظهر القائم (عجّل الله فرجه) فيُخرجه، أو الإيصاء به للمؤمنين حتَّى خروجه (عجّل الله فرجه) فيُعطى له، وهو ظاهر من كلمات الشيخ المفيد في المقنعة(151)، والشيخ في النهاية(152)، وأبي صلاح في الكافي(153)، وابن البرّاج في المهذَّب(154)، وابن إدريس في السرائر(155).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(151) المقنعة (ص 46).
(152) النهاية (ص 201).
(153) الكافي في الفقه (ص 173).
(154) المهذَّب (ج 1/ ص 181).
(155) السرائر (ص 116).
وهذه الأقوال لا يمكن المساعدة عليها البتَّة؛ وذلك لأنَّها بحكم إتلاف المال المحترم شرعاً، خلاف ما ورد في جملة من الأدلَّة التي سيأتي بيانها من لزوم صرف هذا الحقِّ في مصارفه المقرَّرة.
القول الثالث:
ذهب إليه المحقِّق الحلّي في الشرائع(156)، فقال: يُصرَف هذا الحقُّ في الأصناف الثلاثة من بني هاشم كالنصف الآخر من الخُمُس، وتابعه في ذلك جملة من الأصحاب من بعده، ومن هنا يتَّضح أنَّ المحقِّق الحلّي (رحمه الله) لم يقل بتحليله، وإنَّما قال بتوزيعه إلى السادة الكرام، ولعلَّ مستند هذا القول هو مرسلة حمّاد المعروفة عن العبد الصالح في «أنَّ الوليَّ يُقسِّم بينهم على الكفاف والسعة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء كان له»(157).
وهذه الرواية مضافاً إلى ضعف سندها فلا دلالة فيها على أنَّ سهم الإمام يُصرَف في ذلك، فما تدلُّ عليه المرسلة هو أنَّ وظيفة الإمام (عليه السلام) رفع الفقر وجبر النقص الوارد على سهام الفقراء من سائر الأموال العامَّة التي تكون تحت تصرُّفه.
القول الرابع:
وذهب البعض إلى صرفه على الموالين والشيعة العارفين لحقِّهم، وقد اختاره ابن حمزة في الوسيلة(158)، ولعلَّ مستنده في ذلك مرسلة الصدوق: «من لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(156) شرائع الإسلام (ج 1/ ص 184).
(157) الكافي (ج 1/ ص 539).
(158) الوسيلة لابن حمزة الطوسي (ص 137).
يقدر على صلتنا فليصل صالحي موالينا»(159)، ومضافاً إلى ضعفها سنداً فلا دلالة فيها على خصوص الخُمُس، لاحتمال كونها ناظرة إلى الصدقات المندوبة.
القول الخامس:
وهو ما اختاره صاحب الجواهر، حيث قال: (وأقوى من ذلك معاملته معاملة المال المجهول مالكه باعتبار تعذُّر الوصول إليه (روحي له الفداء)؛ إذ معرفة الملك باسمه ونسبه دون شخصه لا تُجدي، بل لعلَّ حكمه حكم مجهول المالك باعتبار تعذُّر الوصول إليه للجهل به، فيتصدَّق به حينئذٍ نائبه عنه...) إلى آخره(160)، وهذا نظراً إلى أنَّ المناط في جواز التصدُّق بالمال عن مالكه لعدم إمكان إيصاله إليه سواءٌ علم به أم جهل.
وهذا القول لا يمكن التعويل عليه؛ وذلك لأنَّ من الثابت أنَّ هذه الأموال إنَّما هي ملك لمنصب الإمامة كما تقدَّم وليس لشخص الإمام (عليه السلام) حتَّى يُتصوَّر فيه مجهولية المالك، فإنَّ مجهول المالك إنَّما يُتصوَّر في المال الشخصي، وهو خارج عن محلِّ كلامنا.
القول السادس:
وهو ما اختاره مشهور الأعلام في أزمنتنا المتأخِّرة، وهو أنَّ هذا الصنف يُصرَف في كلِّ ما يُحرَز فيه رضا الإمام (عليه السلام)، كالمصالح العامَّة من مساعدة المعوزين وغيرها، وما فيه تشييد قواعد الدين ودعائم الشرع المبين وبثِّ الأحكام ونشر الإسلام والتي من أبرز مصاديقها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(159) الوسائل (ج 9/ ص 476/ باب 50 من أبواب الصدقة/ ح 3).
(160) الجواهر (ج 16/ ص 155).
إدارة شؤون الحوزات العلمية والعلماء والمبلِّغين.
وهذا القول رغم أنَّه أحسن الأقوال المتقدِّمة لكنَّه مبتنٍ على أنَّ سهم الإمام (عليه السلام) مال شخصي له كأمواله الشخصية الأُخرى، فحيث لا يمكن إيصاله في عصر الغيبة الكبرى يُصرَف فيما يُحرَز فيه رضاه أو يُتصدَّق به عنه ليكون ثوابه الأُخروي إليه.
وهذا غير تامٍّ؛ لأنَّه قد تقدَّم منّا أنَّ هذه الأموال ملك لمنصب الإمامة وليس لشخص الإمام (عليه السلام)، فهي ليست إرثاً له كما هو واضح في سيرة الأئمَّة (عليهم السلام) وأحاديثهم الشريفة، وعليه فإنَّ الصحيح أنَّ هذا الصنف من الأموال إنَّما يرجع إلى ملك المنصب، وحيث إنَّ في عصر الغيبة الكبرى يتعذَّر الوصول إلى الإمام (عليه السلام)، فينبغي إرجاع هذه الأموال إلى نائبه العامِّ الذي هو الفقيه الجامع للشرائط، بحسب أدلَّة النيابة العامَّة التي تقدَّم ذكرها مفصَّلاً، فالفقيه هو نائب بالنيابة العامَّة في مهمَّة التبليغ، وأداء الحقوق لمستحقِّيها، وصرفها في مواردها المقرَّرة، وغيرها من الصلاحيات التي أُتيحت له من قبيل منصب الفتوى والقضاء والولاية في الأُمور الحسبية وما يصبُّ في تنظيم شؤون الأُمَّة على تفصيل قد ذُكِرَ في مطوَّلات المصنَّفات.
* * *
من الأُمور التي بُحِثَت من قِبَل العلماء الأعلام مسألة مُنكِر الضروري، وقد شاع اصطلاح (الضروري) بين متأخِّري العلماء، وقسَّموا الضرورات إلى قسمين:
القسم الأوَّل: ضروري الدين:
وهو عبارة عن العقائد والتشريعات الثابتة والواضحة والتي تواترت وثبتت قطعيتها لدى جميع المسلمين في القرآن والسُّنَّة القطعية على أنَّها جزء أساسي في الدين، وقد اهتمَّ بها الشارع اهتماماً كبيراً من خلال التأكيد عليها ممَّا يوجب ارتكازه في أذهان المسلمين بحيث يصير الشيء ضروري الثبوت عندهم وبديهي.
ومن هنا عرَّف المحقِّق الهمداني (رحمه الله) الأحكام الضرورية بـ (أنَّها عبارة عن الأحكام التي قياسها معها بأن كان صدورها عن النبيِّ والأئمَّة (عليهم السلام) بديهياً بحيث يكون الاعتراف بصدقهم كافياً في الإذعان بتحقُّقها من غير احتياجها إلى توسُّط مقدّمة خارجية من إجماع ونحوه)، وقال أيضاً بـ (أنَّ الضروري هو الشيء الذي يعرفه كلُّ من قارب المسلمين فضلاً عمَّن تديَّن بدينهم، وأنَّ معناه ما يكون دليله واضحاً عند علماء الإسلام بحيث لا يصحُّ الاختلاف فيه بعد تصوُّره)(161).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(161) مصباح الفقيه للهمداني (ج 8/ ص 13 و14).
وقال المحدِّث الاسترآبادي (رحمه الله): (إنَّ ضروري الدين -على ما سمعناه من محقِّقي مشايخنا (قدّس سرّهم)- هو الذي علماء ملَّتنا وغير ملَّتنا يعرفون أنَّه ممَّا جاء به نبيُّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كالصلاة والزكاة والصوم والحجِّ)(162).
وتنقسم ضرورات الدين إلى ضرورات عقائدية وتشريعية فقهية، وذلك من قبيل التوحيد، وأصل النبوَّة، والمعاد، ومن قبيل وجوب أصل الصلاة والصيام والزكاة والحجِّ وغيرها.
القسم الثاني: ضروري المذهب:
وهي الاعتقادات والتشريعات التي ثبت تواترها وقطعيتها في مذهب معيَّن وليس عند جميع المسلمين، وعرفها الجميع بأنَّها من مختصّات ذلك المذهب، وهي تنقسم أيضاً إلى ضرورات عقدية وضرورات فقهية.
ويظهر ممَّا تقدَّم أنَّ ضروريات الدين دائرته عامَّة المسلمين، وضروريات المذهب دائرتها خاصَّة بالمسلمين وليس عمومهم، فالاختلاف من جهتين: الأُولى من جهة السعة والضيق، والثانية من جهة الآثار المترتِّبة على كلِّ واحدٍ منها كما سيأتي.
واختلفت أقوال الأعلام في مسألة الحكم على مُنكِر أحد الضرورات الدينية، فذهب بعضهم أنَّ إنكار أحد الضرورات الدينية يُعَدُّ كفراً وارتداداً، وذلك لكونه سبباً مستقلّاً للكفر، واستدلُّوا على ذلك بأدلَّة عدَّة لا تخلو من المناقشة، وممكن مراجعة الكُتُب المفصَّلة في ذلك(163).
وفرَّق آخرون بين الجاهل القاصر والمقصِّر، وبين كون ما يُنكِره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(162) الفوائد المدنية (ص 252).
(163) جواهر الكلام (ج 6/ ص 46).
المنكر أمراً عقائدياً أو فقهياً، فذهب أصحاب هذا القول إلى أنَّ من أنكر ضرورة دينية عقائدية، كأصل التوحيد مثلاً، أو أصل النبوَّة، فهو خارج عن الإسلام سواء كان قاصراً أو مقصِّراً، وأمَّا من أنكر ضرورة دينية فقهية كأصل وجوب الصلاة أو الصيام، فإن كان مقصِّراً فحكمه الكفر، وأمَّا إن كان قاصراً فلا يُحكَم بكفره(164).
وأمَّا ما ذهب إليه مشهور المتأخِّرين وبعض من سبقهم من الأعلام، كالمقدِّس الأردبيلي والقمّي والمحقِّق الخوانساري، فقد قالوا بأنَّ إنكار الضروري لا يُعَدُّ سبباً مستقلّاً للكفر، بل إنَّ الحكم بكفره يرجع إمَّا إلى إنكار أصل التوحيد أو الرسالة المحمدية، أمَّا لو كان الإنكار لأحد الضرورات المذهبية وليس الدينية من قبيل تفاصيل المعاد، والاعتقاد بأنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) اثنا عشر، وغيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وتفاصيل الزكاة، والخُمُس، وغيرها من الضرورات الفقهية المذهبية، فقد ذهب العلماء إلى عدم خروجه عن الإسلام، وإنَّما هو خارج عن الإيمان والتشيُّع، فهو مسلم وتترتَّب عليه آثار الإسلام من حقن دمه وماله وعرضه وغيرها من الأحكام التي تثبت بمجرَّد الإسلام، ولذا ينبغي على المؤمنين الالتفات إلى هذه المسألة، حيث نجد بعض الجهات المبغضة تتَّهم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بالتكفير من خلال استغلال بعض الأقوال أو الاصطلاحات ذات الألفاظ المشتركة كالكفر الذي يُطلَق عند علمائنا على غير المسلم وغير المؤمن، ولذا ينبغي التفريق بين الضرورات الدينية والمذهبية، لخطورة ما يترتَّب على مُنكِرها من الآثار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(164) انظر: كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري (ج 5/ ص 140).
وبعد توضيح الفرق بين الضرورات الدينية والمذهبية نقول فيما يخصُّ مُنكِر الخُمُس: قد اتَّضح جليّاً ممَّا تقدَّم بأنَّ أصل الخُمُس من التشريعات الثابتة في الشريعة المقدَّسة، وإنَّ وجوبه كوجوب الصلاة والزكاة، وهو من الضروريات الأصلية في الدين التي دلَّت عليها الأدلَّة المتواترة والقطعية لدى المسلمين، والتي من أنكر أصل وجوبها كمن أنكر أصل وجوب الصلاة، فهو إنكار وتكذيب للرسالة المحمّدية.
نعم فإنَّ تفاصيل أحكام الخُمُس هي من الضروريات المذهبية الفقهية، فمثلاً خُمُس أرباح المكاسب يُعَدُّ من الضرورات المذهبية التي اتَّفقت عليها كلمات الإماميَّة الاثني عشرية حسب الأدلَّة القطعية المتواترة، واهتمَّ بها الشارع المقدَّس وأكَّد عليها، فمن أنكر خمس المكاسب مثلاً أو غيرها من التفاصيل القطعية لا يُعَدُّ منكراً لضرورة دينية، فلا يوجب خروجه من الإسلام، وإن كان قد أنكر ضرورة مذهبية تجعل إيمانه وتشيُّعه محلّ نظر بحسب ما ورد عن الشارع المقدَّس.
* * *
1- القرآن الكريم.
2- إحياء علوم الدين: الغزالي/ دار المعرفة/ لبنان/ بيروت.
3- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): الشيخ الطوسي/ مؤسَّسة آل البيت/ 1404هـ/ إيران/ قم.
4- الإصابة في تمييز الصحابة: ابن حجر العسقلاني/ دار الكتب العلمية/ 1995م/ لبنان/ بيروت.
5- اقتصادنا: محمّد باقر الصدر/ مط كتب الإعلام الإسلامي/ إيران/ قم.
6- الأمالي: الشيخ الطوسي/ مؤسَّسة البعثة للطباعة والنشر/ إيران/ قم.
7- الانتصار: السيِّد المرتضى/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ إيران/ قم.
8- بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي/ مؤسَّسة الوفاء/ ط 2/ 1983م/ لبنان/ بيروت.
9- بصائر الدرجات: الصفّار/ مط الأحمد/ منشورات الأعلمي/ 1404هـ/ إيران/ طهران.
10- تفسير القرطبي: القرطبي/ دار عالم الكُتُب/ 2003م/ المملكة العربية السعودية/ الرياض.
11- التفسير الكبير: الفخر الرازي/ دار الكُتُب العلمية/ لبنان/ بيروت.
12- تفسير المنار: محمّد رشيد رضا/ الهيأة المصرية العامَّة للكتاب/ 1990م/ مصر/ القاهرة.
13- تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ مؤسَّسة الأعلمي/ لبنان/ بيروت.
14- تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك: جلال الدين السيوطي/ دار الكتب العلمية/ ط 1/ 1997م/ لبنان/ بيروت.
15- جواهر الكلام: الشيخ الجواهري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ 1317هـ/ إيران/ طهران.
16- الحدائق الناضرة: الشيخ يوسف البحراني/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ إيران/ قم.
17- الخلاف: الشيخ الطوسي/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ ط 1/ 1417هـ/ إيران/ قم.
18- ذخائر العقبى: أحمد بن عبد الله الطبري/ دار الكُتُب المصرية/ 1306هـ/ القاهرة.
19- السرائر: ابن إدريس الحلّي/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ ط 2/ 1410هـ/ إيران/ قم.
20- سُنَن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ دار الفكر للطباعة والنشر/ لبنان/ بيروت.
21- سُنَن الترمذي: الترمذي/ دار الفكر للطباعة والنشر/ لبنان/ بيروت.
22- سيرة ابن هشام: ابن هشام الأنصاري/ مط المدني/ 1963هـ/ مصر/ القاهرة.
23- شرائع الإسلام: المحقِّق الحلّي/ مط الأمير/ ط 2/ 1409هـ/ إيران/ قم.
24- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي/ دار إحياء الكُتُب العربية/ ط 1/ 1959م/ لبنان/ بيروت.
25- صحيح البخاري: البخاري/ دار الفكر للطباعة والنشر/ 1981م/ لبنان/ بيروت.
26- صحيفة النور: الإمام الخميني.
27- الطبقات: ابن سعد/ دار الصادر/ لبنان/ بيروت.
28- العين: الخليل الفراهيدي/ مؤسَّسة دار الهجرة/ ط 2/ إيران/ قم.
29- غنية النزوع: ابن زهرة الحلبي/ مؤسَّسة الإمام الصادق (عليه السلام)/ ط 1/ 1417هـ/ إيران/ قم.
30- الغيبة: الشيخ الطوسي/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ إيران/ قم.
31- فتوى ابن الجنيد: الاشتهاردي/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ إيران/ قم.
32- الفوائد المدنية: الاسترآبادي/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ ط 1/ 1424هـ/ إيران/ قم.
33- الكافي: الكليني/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ إيران/ طهران.
34- الكافي في الفقه: أبو الصلاح الحلبي.
35- كتاب الطهارة: الشيخ الأنصاري/ مؤسَّسة الهادي/ ط 1/ 1415هـ/ إيران/ قم.
36- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: العلَّامة الحلّي/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ 1417هـ/ إيران/ قم.
37- كمال الدين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ ط 1/ 1405هـ/ إيران/ قم.
38- لسان العرب: ابن منظور/ دار المعارف/ لبنان/ بيروت.
39- مستدرك الصحيحين: الحاكم النيسابوري/ دار المعرفة/ لبنان/ بيروت.
40- مستدرك الوسائل: الشيخ النوري/ مؤسَّسة آل البيت لإحياء التراث/ ط 1/ 1987م/ لبنان/ بيروت.
41- مستند العروة: السيِّد الخوئي/ مؤسَّسة الخوئي الإسلاميَّة/ ط 5/ 2013م.
42- مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ عالم الكُتُب/ ط 1/ 1998م/ لبنان/ بيروت.
43- مصباح الفقيه: الهمداني/ منشورات مكتبة الصدر/ إيران/ قم.
44- معجم رجال الحديث: السيِّد الخوئي/ مؤسَّسة السيِّد الخوئي/ ط 5/ 1992م.
45- المفردات: الراغب الأصفهاني/ بدون.
46- المقنعة: الشيخ المفيد/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ ط 2/ 1410هـ/ إيران/ قم.
47- من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ منشورات النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ إيران/ قم.
48- منتهى المطلب: العلَّامة الحلّي/ مجمع البحوث الإسلاميَّة/ ط 1/ 1412هـ/ إيران/ مشهد.
49- المهذَّب البارع: ابن فهد الحلّي/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ إيران/ قم.
50- النهاية: الشيخ الطوسي/ منشورات قدس محمّدي/ إيران/ قم.
51- نهج البلاغة: الشريف الرضي/ ت الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1967م/ بيروت.
52- وسائل الشيعة: الحرُّ العاملي/ مؤسَّسة آل البيت لإحياء التراث/ ط 2/ 1414هـ/ لبنان/ بيروت.
53- الوسيلة: ابن حمزة الطوسي/ مط الخيام/ ط 1/ 1408هـ/ إيران/ قم.
* * *