قصة قصيرة مفردات الصمت
عقيلة آل حريز ـ كاتبة وصحفية ـ/ جمادى الثاني / ١٤٢٧هـ
تحت انشطار الألم... وبين تسربل الروح بسلال الحزن واللوعة... كانت عيناك تجسان أرجاء المكان برهبة وفي مساحات صغيرة منه، تتوقفان لحظة ثم تعودان بسرعة إلى حيث ترقد أنفاسه المحمومة بقربك... تكاد روحكِ تفيض حزناً على من ملأ عينيكِ ضياء وبهجة... وغمر عالمكِ بالحب و معاني الحياة.
ترتعش أوصالكِ وأنتِ بقربه تمرين بجسده الطاهر... تقبلينه وتلثمين أنفاسه ثم تتحسسين ضلوعك المعصورة وتناجينه ظامئة إلى عطفه.
فنظر إليكِ برقّة تصنعها أبوة ملائكية حانية... بل نبوة إلهية رحيمة... فقد لمح آثاراً للشقاء تسكنك من بعده..
تأوه من أجلكِ...
إنكِ تشبهينه في كل شيء... في سمته وفي صمته... في حلمه وفي غضبه... في فكره وفي عقله... وفي مساحات تلتقي به حيث تجمعكما علاقة تنسكب من فيض حنان.
(إنه يحبك)..
وحبه لكِ يملؤه خوف وشفقة بكِ...
همس لكِ ببضع كلمات... جعلك بها تبكين ومن بعدها تبتسمين...
ضمتك رغبة شديدة باحتضانه..
حرقة أن تعرفي أنه سيغادرك... حرقة أن تعرفي أنك من بعده تصيرين يتيمة... وأنك تدفعين ثمن جهل يسكن نفوس قومك.
في لحظة استفاق...
لو أن هذه الجدران تنطق لشهدت بحبه لكِ... لو أنها فقط تتكلم لأسمعتهم مكانتكِ عنده... لو أنها تحدثت لتلت في حبه لكِ قصائد أبكتهم وأشعرتهم بضآلتهم حين تجرّؤوا عليكِ... فلا يعقل أن يحتضن التاريخ كل حنانه لك، وينقل لنا قصصاً تفيض بالمودة والرفق والتبجيل لشخصك، ومن ثم يُهملكِ بعدها بمفردات الصمت... هكذا فجأة... وكأنكِ لا كنتِ معه زهرة ولا كان لكِ حديقة.. نضرة تُظلك بالحب !!.
ويوم أن غادرك مخلفاً فراغاً يخنق روحك من بعده تاركاً سلالاً من الحزن تضغط على أنفاس أيامك المعدودة لتصنع منك فيئاً عابراً في هذا الكون... بدأت تنتقين مفردات الصمت وتسكبين من بحر دموعك ارتواءً تبللين به تراباً خشناً لدربكِ الطويل فتحصده أنفاسكِ المتقطعة... كنتِ تماماً كفيلسوف غارق في قراءة عميقة.
لم تكوني واهمة ليوقظك حُلم ما جاء من أعماق أمينة... فقد كان يخبرك بنبوءات الوحي، بعدها انبريت تبحثين وسط أحلامك عن مرفأ تلجئين إليه فلا تجدينه غير أن يتواري خلف (البقيع) لتبكيه... إذ لم يعد الناس يستقبلون أحزان الآخرين ويتحملونها عنهم..
كنتِ تبكينه بصمت، فتنطلق آهاتكِ إلى حيث فضاء آخر دون أن تخططي لانتقالها... ربما حدث هذا لأنك لم تستطيعي الاندماج في ملامح حياتهم البغيضة ولم ترتضي العيش في فصولها المُدبرة..
تهزُّكِ الذكريات المُرّة - سيدتي - حين أرعبوكِ في بيتك ليحرقوه عليكم... ينالكِ منهم الأذى وهم يقتادون زوجكِ أمامكِ بغلظة وشِدة، وعلى الرغم من كل ما أظناك من ألم، لكنكِ لم تقفي عاجزة حيالهم... فقد رحتِ بروحه التي تطوف من حولك تدافعين... تتكلمين بلسانه...
وتخطبين بحجته أمام باحة المسجد، وجرأة الحقيقة كانت منطقكِ... لا لأمر حق كان يخصكِ، ولكن لأنها رسالة أنتِ إحدى فصول أعمدتها المضيئة...
يتقازمون أمام ثباتك الطويل ويصغرون في عيون التاريخ... لكنهم لا يتراجعون !!... تسمعين قهقهاتهم تعلوها نبرة الاستعلاء وجنون السلطة يرقص داخلهم بغرور النصر الزائف... وكل الأشياء التي لمستيها بيقينكِ انتهت... وبقيت وحدها علامات الوعد التي ترتجين بقاياها.
يروعك الانتظار ويقتلك القلق.. ويُضنيك الصراع الذي تكدس فوق روحك كالجبل...ويختصرك الحزن لينحت منك روحاً شبه هائمة تتقلى ضمأً إلى حنين اللقاء... لتعبث بالفضاء وتطرق باباً لم يحنْ وقته ليفتح لها...
فتنتظره بصبر نافد..
والحقيقة سيدتي لها وجوه كثيرة، لكنها تقهقه بصوتها المدوي في أسماع الكثيرين... فيبقى هناك سؤال عالق في ذاكرة التاريخ المرهقة يتسلل من بين فجواته... محاولاً أن يرتق الشقوق فلا يملك غير التسليم بأن هناك أمراً ما أُخفي بصمت بين أنين الصفحات، فغاب عن أذهان الكثيرين.
قالوا.. وقالوا في حقكِ الكثير... لكنهم لم يصلوا لسركِ الذي آثرتِ أن تُغيّبيه مع تغييب قبرك، ليبقى شاهداً على قصتكِ التي لم تكن ميراث نبوة، ولا حق بنوة ولا وصية بإمامة، أو قطعة أرض محدودة بمساحات يختزلهـا الـنــاس فـي قوانينهم... بل تطورت لتشمل حياة بنيك... ومن بعدهم صارت ميراثاً لعقيدة يعتنقها كل المحبين..
كنتِ معهم فلم يستوعبوكِ...
أفتُراكِ كنتِ تُصلين صلاة غريبة لا يفقه الملتفون حولها كثيراً من مقاطع السوَر !!...
وحين توسدتِ ساعاتكِ الأخيرة وأنتِ تطلقين أنّات حائرة تتردد أصداؤها في أرجاء الكون، ومن حولك يحف صغاركِ... فتلحظين ظلال الحزن القاتم تخيم على وجوههم في وجوم لن ينقض أمده..
ربما لا تصنع سنوات العمر الكثير للمرء بقدر ما تصنع المواقف وإن بدت محدودة... إنها أمور يكبر بها العظماء وتعلو بها نفوسهم... بينما آخرون يخنقون سنوات حياتهم عاجزين عن قول الكثير..
كان النداء في مثل هذا اليوم لا يزال قائماً حين كنت تتحرقين شوقاً إلى اللقاء به... إذ لا تزال أنفاسه الدافئة تعبرك حين تمنيتِ أن تستظلين بظله وتغرقين في عطفه، وتطفئين لهيب الدمع بلقاه..
هاتف ما يطرقكِ بطمأنينة:
(آن لك - يا فاطمة - أن تغمضي الآن طرفكِ لتتوسدي رحمته وتشتكي له ما صنع القوم من سوء معك... فقد ضحيتِ من سنين عمركِ بالشيء الكثير).