السفياني حتم مر
السيد جلال الموسوي
فرع مركز الدراسات. قم المقدسة
إن روايات علائم الظهور تشكّل القسم الأكبر من الروايات المهدوية أو قسماً كبيراً منها على أقل التقادير، مما يدلّل على أهميّة هذا الموضوع، ونضيف هنا تميُّز بعض علائم الظهور عن غيرها بكثرة ما ورد من الروايات في شأنها وتواتر الكثير منها.
ومن جملة هذه العلائم فتنة السفياني التي باتت أشهر من (قفا نبكِ)، وقد ذهب سماحة العلامة الشيخ لطف الله الصافي (دام ظله) إلى تواتر الروايات الواردة في هذا المعنى(١) وفي مختلف جوانب هذه القضية بدءً من وصف ملامح هذه الشخصية فسلجياً ومروراً بمعتقده الفكري وسلوكه الميداني وجغرافية حركته الغاشمة، وانتهاءً بحتفه وهلاكه.
وقد ورد في بعضها ذكر مدّة حكمه وذكر بعض الخصوصيات الأخرى التي يندر ذكرها في سائر علائم الظهور، وهذا ما سنحاول تناوله في هذه الدراسة الموجزة المقتضبة بإذن الله تعالى.
وإنْ دلَّ هذا التفرّد بهذا الاهتمام على شيء فإنما يدلُّ على خطورة هذه القضية من بين تلك القضايا، ولا عجب في ذلك بعد معرفة ما ستؤدّي إليه هذه الحادثة من تغيير في خارطة المنطقة جغرافياً وسياسياً وفكرياً واجتماعياً وأمنياً، ناهيك عن استشهاد عشرات الآلاف من النفوس البريئة التي لا ذنب لها إلاّ أن تقول: لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، علي وليّ الله، حتّى ورد أنّ هذا المجرم سيحاول قتل كل من اسمه (محمّد) أو (علي) أو (فاطمة) أو (زينب) فضلاً عمن اسمه (مهدي) حقداً منه على الأرومة الطاهرة التي تحمل هذه الأسماء الزكية، كما ورد أنه يحاول مهاجمة الجغرافية الشيعية محاولاً تغييرها وإن لم يتمكّن من إبادتها.
هذا وإن طول مدّة حكمه والتي ورد في الخبر _ كما سيأتي _ أنها ستطول إلى تسعة أشهر أو حمل ناقة، يجعل هذا الأمر جديراً بالاهتمام من قبل المعصومين عليهم السلام، حُنُواً منهم على شيعتهم وتحذيراً لهم من هذه البليّة، فصدر هذا الكم الكبير من الإخبارات لتنبيه الشيعة إلى ضرورة الاحتراز قدر الإمكان لتقليص الخسائر الناجمة عن حركة السفياني المشؤومة.
ولا أدلَّ على خطورة هذه القضية مما ورد في بعض الأخبار على حصول الآيات السماوية والأرضية المقترنة مع حركته كالنداء والخسف في البيداء ضرورة إن هذا التدخل الإلهي وإبراز هذه الآيات لا يعدُّ أمراً معهوداً إلاّ في الموارد النادرة ذات الأهميّة البالغة.
ثمّ أخيراً هلاك هذه الشخصية المنبوذة وقتلها على يد نفس الإمام المهدي عليه السلام والطريقة المذكورة في الرواية(٢) مع أن المهدي من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم هو عين الرحمة والشفقة الإلهية، لهُما دليلان آخران على فداحة ما يرتكبه هذا الخبيث من جرائم وسفك للدماء وتشويه لصورة الإسلام.
ومما يدعم هذا الرأي، ملاحظة صدور روايات في السفياني عن كل المعصومين تقريباً كما ورد عن النبي الأكرم وأمير المؤمنين والسجاد والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والعسكري والمهدي عليهم أفضل الصلاة والسلام.
وهذا مَعلم آخر وشاهد صدق على خطورة هذه القضية وتميزها عن غيرها من قضايا المهدوية، خاصة وأنها وردت في قائمة العلامات الحتمية، ولا شكّ في تفاضل المحتوم عن الموقوف من العلائم في الأهميّة، فقد ورد في غيبة النعماني عن الباقر عليه السلام قوله:
(إنّ من الأمور أموراً موقوفة وأموراً محتومة وإنّ السفياني من المحتوم الذي لا بدَّ منه).(٣)
وقد ألمحنا في تقسيمنا للعلائم إلى الفرق بين المحتوم والموقوف، ورجّحنا كفّة القول المستبعِد للبَداء في العلائم الحتمية ومنها قضية السفياني، ولعلَّ نفس تقسيم الإمام عليه السلام للعلامات إلى حتمية وموقوفة يدعم القول بعدم البداء فيها لئلاّ يلزم لغوية التقسيم المذكور بعد صيرورة كلِّ العلائم موقوفة.
ويضاف إلى هذا ما ورد في بعض الروايات من التأكيد على هذه الحتمية ونفي التوقيفية فيها، فقد نقل المجلسي (أعلى الله مقامه) في بحاره الشريف عن باقر علوم الأوّلين والآخرين عليه السلام قوله في تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ)(٤): (إنّهما أجلان أجل محتوم وأجل موقوف).
فقال له حمران: ما المحتوم؟
قال عليه السلام: (الذي لا يكون غيره).
قال: ما الموقوف؟
قال عليه السلام: (الذي لله فيه المشيئة).
قال حمران: إني لأرجو أن يكون السفياني من الموقوف.
فقال أبو جعفر عليه السلام: (لا والله إنّه لمن المحتوم).(٥)
فهذا الأجل أجلٌ محفوظ في اُمِّ الكتاب وليس من الأجل الموجود في لوح المحو والإثبات الذي يمكن أن يتخلّف بتخلّف شرائطه.(٦)
ونستفيد من الحديث أموراً لها صلة بالسفياني:
منها: وقوف أصحاب الأئمّة عليهم السلام على خطورة هذه القضية وفداحة عواقبها وعظم ما يرتكبه هذا الشيطان الإنسي من جرائم ويرجون عدم تحقق هذا الأمر وتمنّي كونه من الموقوفات، وهو شعورٌ كريم نبيل عند كل مؤمن تربّى في مدرسة أهل بيت الرحمة والرأفة والإنسانية.
ومنها: إنّ حتمية خروج السفياني بلغت إلى درجة من القوة دعت الإمام عليه السلام إلى القسم بالله، مع أن القسم عند الأئمّة عزيزٌ إلاّ على أخطر الأمور.
وعن الصادق المصدَّق عليه السلام قوله:
(من الأمرِ محتومٌ ومنه ليس بمحتوم ومن المحتوم خروج السفياني في رجب).(٧)
وفيه تأييد واضح كما أشرنا إليه سابقاً من أن بعض الأخبار تعرَّضت إلى تفاصيل القضية فضلاً عن أصلها، حيث نلاحظ في هذا النصّ تحديد الإمام عليه السلام شهر خروج هذا الطاغية.
وروى أبو حمزة الثُّمالي رحمه الله قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام إنّ أبا جعفر كان يقول: (إنَّ خروجَ السفياني من المحتوم)؟
قال عليه السلام: (نعم).(٨)
نعم، ورد في خبر، ما يُظَنُّ منه إمكان تحقق البداء حتّى في قضية السفياني كما في الرواية التي نقلها الشيخ النعماني في غيبته عن محمّد بن هشام، قال: حدّثنا محمّد بن أحمد بن عبد الله الخالنجي، قال: حدّثنا أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري قال:
كنّا عند أبي جعفر محمّد بن علي الرضا عليه السلام فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية من أن أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر عليه السلام: هل يبدو لله في المحتوم؟
قال: (نعم).
قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم؟
فقال: (إنّ القائِمَ مِنَ الميعَاد وَالله لا يُخْلِفُ المِيعَادَ).(٩)
حيث يظهر من الرواية أنّ هناك قسيم ثالث للمحتوم والموقوف وهو الوعد الذي لا يمكن أن يتخلف بالضرورة، وتجويز البداء في الحتميات فضلاً عن الموقوف من العلائم، على أن تُحمَل الحتميةُ على التأكيد تمييزاً لها عن التوقيف.
وعلى هذا يكون التقسيم ثلاثياً لا ثنائياً، وعلى النحو التالي:
١ _ العلامات الموقوفة التي يحتمل فيها الوجهان _ التحقّق والتخلّف _ بلا ترجيح لأحد المحتملين.
٢ _ العلامات المحتومة التي يحتمل فيها الوجهان لكن يقوى فيها جانب التحقّق مع احتمال البداء فيها.
٣ _ العلائم التي لا بدَّ من تحقّقها وهي من الميعاد، كأمر القائم نفسه صلوات الله وسلامه عليه.
وبناءً على هذا التقسيم تدخل قضية السفياني في القسم الثاني ويحتمل فيها البداء ولو بدرجة ضعيفة فيما إذا اعتمدنا على الرواية الآنفة.
ولكن يرد على هذا الاحتمال مضافاً إلى ضعف الرواية بالخالنجي(١٠) ما يلي:
أوّلاً: إنّه معارض للمتواتر من الروايات الدالة على الحتمية بالمعنى الأوّل وهو عدم تخلف قضية السفياني، وضعف الرواية يسلب منها قوّة الحكومة على غيرها.
ثانياً: لزوم حمل الحتمية على خلاف ظاهر معناها، والقول بإرادة التأكيد على أحد المحتملين _ التحقّق _ وصرفها عن معناها الحقيقي يحتاج إلى قرينة صارفة وهي مفقودة في المقام.
ثالثاً: ذهب البعض إلى إمكان توجيه الخبر بالقول بأن مراد الإمام عليه السلام من إمكان البداء هو الإمكان العقلي لا العملي ونحن وإن كنّا لا ننكر ذلك لكن يرد على هذا التوجيه إنّ البداء بنحو الإمكان العقلي موجود حتّى في قضية القائم عليه السلام.
وقد استدلَّ البعض على إمكان البداء في المحتوم برواية حمران المتقدمة لكن بالنصّ الذي نقله النعماني في الغيبة، حيث روى عن الباقر عليه السلام قوله في تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ)(١١) قال:
(إنهما أجلان أجل محتوم وأجل موقوف).
فقال له حمران: ما المحتوم؟
قال عليه السلام: (الذي لله فيه المشيئة).
قال حمران: إني لأرجو أن يكون السفياني من الموقوف.
فقال أبو جعفر عليه السلام: (لا والله إنه لمن المحتوم).(١٢)
استناداً إلى قوله عليه السلام: (الّذي للهِ فيهِ المَشيئَة) بمعنى إمكان تعلّق المشيئة الإلهية بتحقّقه أو عدم تحقّقه وهو نفيٌ للحتمية.
ولكن المرجح هو الاعتماد على نسخة المجلسي ١ الذي نقل الخبر عن نفس كتاب النعماني وهو أعرف بأصحّ النسخ، والوارد فيها:
(إن الموقوف هو الذي لله فيه المشيئة وإن المحتوم هو الذي لا يكون غيره)، وهذا ينسجم مع بقية النصوص التي أكّدت هذا المعنى والله العالم.
السفياني رمزٌ أم شخص؟
جرى البحث بين المفكّرين الإسلاميين في حقيقة السفياني وهل أنه رمزٌ أم شخص؟ بعد البحث في نفس علائم الظهور من هذه الجهة أيضاً، فمن قال بأن علائم الظهور حقيقية مشخصة وليست رمزية مهملة، استدلَّ بالأخذ بظاهر الروايات والقراءات المستقبلية وأنها تدلُّ على معان معينة بذاتها، لا أنها رموز تحكي عن معانٍ غامضة يحلّها الزمن وتطبيقاته، فالسيف في الرواية هو السيف ذاته والذي كان ولا زال آلة للقتال، والبراذين هي نفس البراذين المركوبة في عصر النصّ لا أنها رمز للآليات العسكرية كالمدرعات والدبابات وغيرها من آلات الحرب النقلية، وهكذا سائر علائم الظهور وما بعد الظهور، وإن استبعدنا ذلك في زمننا الحاضر لندرة استعمال مثل هذه الأدوات في الحروب كالسيف والخيل والرمح وما شاكل من آليات القتال المستعملة في عصر النصّ.
كلُّ ذلك عملاً بظاهر النص واستبعاد التأويل والمجازية لضعف القرينة الصارفة وعدم كفايتها للتخلي عن أصالة الحقيقة.
ومن قائل بأن هذه العلائم رموز وكنايات عن حقائق لا فائدة من كشفها في زمن النصّ، فالسيف يرمز لكل ما يقاتل به في العصور المختلفة، ولعدم إمكان بيان خصوصيات الأسلحة المستعملة بعد أربعة عشر قرناً من زمن النصّ لم يجد المعصوم بُدّاً من الكناية واستعمال الألفاظ التي تدلُّ على أدوات القتال _ مثلاً _ المستعملة في حينها، إذ لو كان المعصوم يستعمل لفظ دبّابة أو مدرعة أو حاملات طائرات مثلاً لما فهم المخاطَب شيئاً ولكثر السؤال والاستفهام ولعلَّ ذلك يؤدّي بالبعض حتّى إلى الاستهزاء والسخرية.
إذن، فتلك العلامات تحكي عن معان مجهولة تمام الجهالة لمستمع خطاب المعصوم في حينها، فإذا ما تغيرت المجتمعات وتطوّرت الحضارة فلا ضرورة للقتال بنفس الأدوات القديمة فإنّ ذلك يعدُّ سخفاً لا يتلائم مع الفكر الصحيح السليم.
والحق أنه لا بدَّ من التفرقة بين العلائم وأخذ كل علامة على حدة ودراستها كقضية مستقلة والبتّ في رمزيتها أو شخصيتها وحقيقيتها بمعزل عن سائر العلائم لمعرفة إمكان الأخذ بها على نحو الحقيقية والمجازية والرمزية.
فالسيف يمكن أن يكون رمزاً لقوة السلاح المستعمل في القتال فيما إذا استحال استعماله في لاحق زمن النصّ والعصور التالية، وأما إذا بقي احتمالُ استعماله بنفسه قائماً كآلة للقتال في الحروب حتّى بعد أزمنة طويلة من عصر النصّ، لم يكن صرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلى المجازي مُسْتَدَلاً.
وأما إذا كانت العلامة مثل علامة الدَّجّال التي ورد في وصفه ببعض الحالات والأمور التي لم يكن تحقّقها ممكناً حتّى في زمن النصّ، فواضح أن المراد فيها إشارات ورموز ولا يراد فيها معانيها الحقيقية ضرورة استبعاد تحقق هذه الأمور حتّى بعد أزمنة طويلة من زمن النصّ وبعد القطع بعدم وجود مثال له على مرَّ التاريخ حتّى في أيام الطناطلة!!
ومن هنا نضطر إلى حمل هذه الأخبار على الرمزية.
إذن فالتفريق بين العلائم ضروري ولا يمكن الحكم بالرمزية على كل العلائم، كما لا يمكن الحكم بالشخصية والواقعية على كل العلائم.
وأمّا ما يرتبط بقضية السفياني من هذه العلامات فلا بدَّ من إخضاعها لنفس الميزان المذكور أيضاً، ودراستها بشكل مستقل للحكم على رمزيتها أو شخصيتها.
ولا تخفى أهميّة هذا البحث بالخصوص، فإن الحكم عليها بأحد الاتجاهين له آثارُه المهمّة، إذْ سيؤدّي إلى تأسيس نظريتين متفاوتتين فكرياً كما سيُؤدّي إلى تفاوت عملي في سلوك أتباع النظريتين واختلافٍ جذري في مواجهة القضية والتعامل معها وغير ذلك من الآثار المهمّة الأخرى.
وفرضية الرمزية في السفياني تعني بالضرورة أنه عبارة عن تيار فكري يتميّز بمنهج فكريّ عقائديّ منحرف، وسياسي لئيم مذبذب، وسلوكٍ شاذ لم يعرف له التاريخ الإسلامي مثيلاً، يتبنّاه ويمثّله مجموعة كبيرة تنطبق عليهم كل المواصفات الواردة في النصوص الواردة في شأن السفياني، وأنه لا يوجد شخص معين من آل أبي سفيان وإنما هو فكر مماثل لفكر السفيانيين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو زمن أمير المؤمنين عليه السلام أو بعد ذلك كالدولة الأموية فيكون السفياني كالدجّال الذي قيل في حقه أنه يمثل المدنية الظالمة في آخر الزمان والتي تنظر للعالم بعين واحدة وهي عين المادية والسلطوية والجبروت.
وهذه الفرضية مرفوضة عندنا لأسباب منها:
الأوّل: عدم وجود مبرر لمثل هذا التأويل وصرف المعنى إلى الرمزية والمجازية بعد ثبوت عدم مخالفة مؤدّى هذه الروايات للمرتكزات العقلائية فضلاً عن الأسس العقلية المنطقية، بل وحتّى للقواعد الميدانية العملية، وقياس السفياني بالدجّال قياس مع الفارق، إذ لا يوجد في الروايات المتضمّنة لأوصاف السفياني ما يخالف ناموس الطبيعة البشرية أو الكونية ما عدا ما يُتراءى من قضية الخسف في البيداء وهو ليس من فعل السفياني وإنما هو عقاب إلهي، فقد ورد في الخبر:
(فيبلغ أميرَ جيش السفياني أنّ المهدي عليه السلام قد خرج إلى مكّة فيبعث جيشاً على أثره فلا يدركه حتّى يدخل مكّة... فينزل أمير جيش السفياني في البيداء فينادي منادٍ من السماء: يا بيداء أبيدي القوم فيخسف بهم).(١٣)
فالعقاب عقاب إلهيٌّ خاضعٌ لسننٍ كونية وعلل ومعلوليات وأسباب ومسبّبات قد نجهل حقيقتها وديناميكيتها في الوقت الحاضر بما نمتلك من خلفية علمية، ولعلَّها تنكشف لنا ذات يوم، ولهذا نظائر في الأمم السابقة المتمردة على تعاليم السماء.
وكذلك ما يتراءى من توصيفه بالبطش أو توصيف رايته بالمرعبة المخيفة التي يفرُّ منها كل من يراها!!
إذن، فالتأويل بلا دليل، فلا يكون حسناً.
الثاني: إنَّ الأخذ بالتأويل والقول بالرمزية ينافي ما ورد في كثير من الروايات، حيث ذكر فيها ملامح هذا الرجل وبعض مواصفاته الجسدية والأخلاقية، وكتلك الّتي تذكر اسمه واسم أبيه، فقد روى الصدوقG قال: حدّثنا محمّد بن علي ماجيلويه، قال: حدّثنا عمّي محمّد بن أبي القاسم، عن محمّد بن علي الكوفي، عن محمّد بن أبي عمير عن عمر بن أذينة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:
(يخرج ابن آكلة الأكباد من الوادي اليابس اسمه عثمان وأبوه عنبسة رجل ربعة وحش الوجه ضخم الهامة بوجهه أثر جدري إذا رأيته حسبته أعور... ).(١٤)
أو كتلك الروايات التي تذكر نسبه، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام ، كما نقله السليلي في الفتن:
قال الأحنف: من أيّ قوم السفياني؟
قال أمير المؤمنين عليه السلام: (هو من بني أميّة).(١٥)
وفي وراية عن الإمام السجاد عليه السلام قال: (هو من ولد عتبة بن أبي سفيان).(١٦)
وعن الصادق عليه السلام: (إنّا وآل أبي سفيان أهلُ بيتين تعادينا في الله، قُلنا: صَدَق الله، وقالوا: كَذَب الله، قاتل أبو سفيان رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقاتل معاوية عليَّ بن أبي طالب، وقاتل يزيدُ بنُ معاوية الحسين بن علي عليه السلام ، والسفياني يقاتل القائم).(١٧)
الثالث: أن هذه الفرضية يلزم منها تأويل بعض خصوصيات السفياني المذهبية وهو تأويل غريب حيث ورد في رواية زرارة عن الصادق عليه السلام والتي نقلها الخاتون آبادي عن الفضل بن شاذان قال: حدّثنا محمّد بن أبي عمير، قال: حدّثنا جميل بن درّاج، قال: حدّثنا زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
(استعيذوا بالله من شرِّ السفياني والدجّال... ثمّ يبعث السفياني جيوشاً إلى الأطراف ويُسخِّر كثيراً من البلاد ويبالغ في القتل والفساد ويذهب إلى ملك الروم لدفع الملك الخراساني ويرجع منها متنصراً في عنقه صليب).(١٨)
فالرواية واضحة في ذهاب شخص السفياني كرجل سياسي ظاهره الإسلام، إلى بلاد النصارى الذين يجرون له عملية غسل دماغ فكرية ومذهبية ليعود إلى بلده عادلاً عن الإسلام معتنقاً للنصرانية الصليبية.
فمن المستبعد جدّاً القول بالرمزية في كل هذه التفاصيل كما أنّ الأخبار دلَّت على حصول مراسلات ومكاتبات بين السفياني وبين أمراء جيشه، ومن البعيد قصد المراسلة بين رمز وبين جيوش، فالحمل على المعنى الحقيقي الشخصي أقرب إلى الحق.
وبذلك يندفع توهّم كون السفياني رمزاً لتيار فكري منحرف مع أننا نعتقد أنه يحمل لواء مثل هذا التيار لكن بشخصه المنحوس وبشذوذه الفكري والاعتقادي، فهو المحور الذي يلتف حوله كل المنحرفين فكرياً والمتطرفين عقائدياً وشذّاذ الأمّة وعُلوج البشرية.
فالسفياني إذن شخص يؤول أمره إلى ابتداع مذهب فكري عقائدي منحرف لم يعرف له تاريخ الإسلام مثيلاً إلاّ في أيام معاوية بن هند الذي كان يقتل الناس على الهوية وبتهمة الولاء لآل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيما كان يرعى مصالح الروم والنصارى على حساب مصلحة الأمّة الإسلاميّة، فقد كان النصارى يسرحون ويمرحون في أرض الإسلام في حين لا يجد أتباع آل محمّد مأوىً إلاّ السجون والمعتقلات والقتل والتشريد وهدم الدور على رؤوسهم ونهب أموالهم، وهكذا يفعل السفياني ابن آكلة الأكباد، حيث إنه سيُجَدِّد سيرة سلفه اللئيم بتتبع أتباع آل البيت عليهم السلام وإعمال القتل والنهب و السلب فيهم.
ولعلَّ أهم دواعي تركيز النصوص الشريفة على ظاهرة السفياني من بين العلامات الحتمية الأخرى هو هذه المبادئ الانحرافية المشئومة التي يتبنّاها هذا الرجل وأتباعه ومن أهمّها مبدأ محاربته التشيع لآل البيت وملاحقة أتباعهم ظنّاً منه أنه قادر على إطفاء هذا النور الذي شاء الله أن يبقى وهّاجاً مضيئاً الحقيقة المحمّدية.
الهوامش
(١) منتخب الأثر ٣: ٨٨ .
(٢) تفسير العياشي ٢: ٥٦/ ح ٤٩.
(٣) غيبة النعماني: ٤١٦/ باب ١٨/ ح ٦.
(٤) الأنعام: ٢.
(٥) بحار الأنوار ٥٢: ٢٤٩/ ح ١٣٣.
(٦) راجع تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي قدس سره ٧: ٦، في تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ قَضَى ... ) الآية.
(٧) غيبة النعماني: ٤١٧/ باب ١٨/ ح ٣.
(٨) كمال الدين ٢: ٥٥٨/ باب ٥٨/ ح ١٤.
(٩) غيبة النعماني: ٤٢١/ باب ١٨/ ح ١٠.
(١٠) مستدركات علم رجال الحديث ٦: ٤٤٢.
(١١) الأنعام: ٢.
(١٢) غيبة النعماني: ٤١٩/ باب ١٨/ ح ٥.
(١٣) الفتن للسليلي، التشريف بالمنن: ٢٩٦/ باب ٧٩/ ح ٤١٧.
(١٤) كمال الدين ٢: ٥٥٧/ باب ٥٧/ ح ٩.
(١٥) الفتن لسليلي، التشريف بالمنن: ٢٩٦/ باب ٧٩/ ح ٤١٧.
(١٦) غيبة الطوسي: ٤٤٣/ ح ٤٣٧.
(١٧) معجم أحاديث المهدي عليه السلام ٣: ٤٦٧.
(١٨) كشف الحق/ الخاتون آبادي: ١٤٣، ترجمة السيد ياسين الموسوي/ إصدار مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام.