التفقّه المهدوي
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
يُمثِّل الفقه بمعناه المصطلح لوناً من ألوان الضبط القانوني للوقائع الحياتية من خلال الرؤية السماوية وما عبَّر عنه لسان الوحي، ويخضع هذا الضبط لجملة كبيرة من العناصر والقواعد والأُصول التي تنتج المادَّة القانونية بعد بذل وسع وافر يؤهِّل القانوني - الفقيه - لإستخراج هذه الموادّ من أُصولها المقرَّرة بعد أن ملك الأهلية لذلك، ليقوم كنتيجة لهذا الجهد بإخراجها كخطاب قانوني يراعي حالة الفرد والمجتمع في الارتباطات الفردية والثنائية وبينها وبين الله تعلى.
وفي الحقيقة فإنَّ هذه العملية لا يخلو منها علم من العلوم، كما تحتاجها كلّ واقعة من وقائع الحياة، فبدون التخصّص وبدون بذل الوسع وتحصيل الأهلية للتصدّي تصبح العلوم أُلعوبة بيد التسطيحيين والانتهازيين، وتتعرَّض حياة الناس وشؤونهم الآنية والمستقبلية إلى خطر محقَّق، فيما لو فُسِحَ المجال لتسلّط النماذج الفاقدة للقدرة والتخصّص في أيِّ مجال من المجالات.
وهذا النظم والضبط من روائع ما جادت به يد الإبداع الإلهية، إذ فطرت عوالمها على نظام التخصّص، وبثِّ روح الهمَّة في المخلوقات جمعاء على بذل الوسع في الارتقاء.
فالمتخصِّص بمقتضى سُنَّة التكوين وإبداع عالم الإمكان هو المتحكِّم في زمام أُمور شتّى الميادين ومختلف العلوم.
والعلوم الشرعية بمختلف مجالاتها وتنوّع مقدَّماتها وسموِّ أهدافها لم تخرج عن هذه السُّنَّة ولم تحد عنها.
فمن أهَّلته قدرته للوقوف على تفصيلات عقائد الدين، وفلسفات الوجود، وعرف الحقيقة وشاهدها، وغاص في بحار المعرفة وأخرج دررها، وسار في الأقطار ليجمع الأخبار، ودوَّن المصنَّفات ونظر في الآراء والأقوال، واستخرج منها صافي المقال. فهو الذي يُقتفى أثره، ويُقدَّس ويُحتَرم نظره.
وأمَّا من لم يقف على الأحكام ويعرف المسائل ويتخصَّص في العلوم ويُنقِّب في الآثار فيجب عليه أن يرجع إلى أهل التخصُّص والأخذ عنهم والاتِّباع فيما يقولون والالتزام بما يرشدون. هكذا يحكم العقل.
والعلوم الشرعيَّة تتداخل في أغلبها وتترابط عضوياً مع بعضها البعض، وكلُّها يرتبط بالمنظومة الدينيَّة، فالفقيه المتخصِّص وصاحب القدرة على الاستنباط في الأحكام الفقهية، والذي طوى مقدَّمات طويلة في علوم شتَّى، ونقَّب في الآثار والأخبار والقواعد والأُسس والأُصول والدساتير لسنين طويلة، تأهَّل بها لأن يملك قدرة استخراج القوانين والأحكام من محلِّها، صار مقتدراً على استنباط الأحكام بمقتضى هذا الترابط العضوي مع بذل جهد إضافي في فنون الدين الخرى ومعارفه وأفكار أُصوله وقواعده، فهو وإن تلبَّس بجلباب الفقاهة والأحكام وبيان مواطن الحلال والحرام إلَّا أنَّ قدرته على غيرها غير مقيَّدة وملكاته غير مجمَّدة، فله أن يستخرج في علم الرجال والدراية مصنَّفات تخصُّصية فيها للمسترشدين كفاية، وكذلك في علم التفسير وأُصول قواعد التوحيد فضلاً عن الحديث والتأريخ والاجتماع والسياسة والمال والاقتصاد والفضيلة والأخلاق، فكلُّ هذه الصنوف من معارف الدين فروع، وهو بقدرته وأهليته وتخصّصه قد قَدِرَ على الأُصول وملك أهليَّة الفحص والاستنباط.
وهذا ليس تنظيراً بعيداً عن أجواء الواقع، ومحاولة للقفز على التخصّص، أو دعوة للتعميم والتسطيح، بل الواقع خير شاهد عليه، بل ودليل على إمكان ما قيل، إذ قد برع الكثير من فقهائنا العلماء بعد أن ملكوا شَمَّة الفقاهة، وتخصُّص الاستنباط، وقدرة الاستخراج، وصفة الاجتهاد، برعوا في علوم وفنون شتَّى كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والطبِّ والفلك والفلسفة والتأريخ والاجتماع والجغرافية والهندسة والأخلاق والرجال والحديث.
بل لم يقتصر على ذلك جهدهم، وإنَّما برعوا في وضع مناهج العلوم وآليّات الخطاب وكيفيَّة إيصال جهدهم إلى الناس، سواء من معهم في المذهب أو الدين أو كانوا من المخالفين، فبرعوا إلى جنب تخصّصاتهم في أدب الحوار والخطاب والجدل والمناظرة والسلوك والعمل، فأضحى فكرهم ميزاناً للإقناع وسلوكهم منهجاً للتأثير.
وحتَّى نخرج من جادَّة التنظير إلى رحاب العمل والواقع، نُسطِر أسماء نزر يسير من أكابر فقهاء الطائفة وعلمائها ممَّن برعوا في العلوم والفنون الخرى، فهذا ابن بابويه القمي المتوفّى سنة (٣٢٩هـ) وهو الفقيه النحرير والأُسطوانة العظمى في الفقه يكتب في الإمامة والتبصرة حينما وجد لذلك حاجة، وقد سبقه إلى ذلك كثيرون، ومن تأخَّر عنه أكثر. ومن بين تلك الأسماء اللامعة الشيخ النجاشي الذي كتب في (علم الرجال)، والشيخ الطوسي الذي كتب في (علم التفسير)، والسيِّد المرتضى الذي كتب في (غيبة الإمام المهدي عليه السلام)، والشريف الرضي الذي كتب (حقائق التأويل في تفسير القرآن)، وعلي بن إبراهيم القمِّي الذي كتب تفسيره المعروف ب (تفسير القمّي)، وأحمد بن عيسى الذي كتب (النوادر)، وابن السكّيت الأهوازي الذي كتب في (ترتيب إصلاح المنطق). وهكذا سار على نهجهم علماؤنا الذين تأخَّروا عنهم، فكتب العلَّامة (منهاج الكرامة)، فيما كتب الكفعمي (مصباح الدعاء)، ليكتب الشهيد الثاني (منية المريد)، وابن فهد الحلّي (عُدَّة الداعي)، والسيِّد ابن طاووس (جمال الأُسبوع). ولم تنقطع المسيرة، فاستمرَّ من تأخَّر عنهم في التدوين في مختلف العلوم، فكتب الشيخ مهدي النراقي (الجامع لجوامع العلوم)، وكتب الشيخ الأنصاري والميرزا القمّي (فرائد وقوانين الأُصول)، فيما كتب الوحيد البهبهاني (الفوائد الرجاليَّة)، والطهراني (الذريعة)، والأمين (أعيان الشيعة). واستمرَّت المسيرة، وبرز إنتاج الفقهاء الكبار في المصنَّفات والعلوم المختلفة، فكتب الشيخ الأصفهاني (الأنوار القدسية في سيرة أهل البيت)، وكتب الحرُّ العاملي (الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة)، وانبرى الشيخ كاشف الغطاء ليُدوِّن (منهاج الرشاد لمن أراد السَّداد)، وكتب الشيخ القمِّي - عبّاس - (بيت الأحزان)، فيما كتب المظفَّر (منطقه)، والطباطبائي (نهاية حكمته)، والبلاغي (عقائده)، وليبدع كاشف الغطاء في (نقضه على الوهّابية) دعاواهم، ليُبيِّن مغنية في مؤلَّفه (حقيقتهم)، فيحاور شرف الدِّين ب (مراجعاته) المخالفين، ليُبيِّن الأمين في (غديره) حقائق الولاية للمؤمنين.
هذا نزر يسير لمدوَّنات ومؤلَّفات علمائنا في مختلف العلوم وصنوفها.
أمَّا ما يخصُّ القضيَّة المهدوية بالتحديد، فقد أكثر علماؤنا الفقهاء في التأليف فيها وفي تفاصيلها، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، إذ المراجعات اليسيرة تكشف للمتخصِّص حجم تلك المدوَّنات الكثيرة، وإليك بعض النماذج:
(أخبار المهدي) لعبّاد بن يعقوب العصفوري الأسدي الكوفي المتوفّى سنة (٢٥٠هـ)، وكتاب (الغيبة) للحسن بن محمّد الصيرفي توفّي (٢٦٣هـ)، وكتاب (الغيبة) لمحمّد الفضل بن شاذان توفّي (٢٦٠هـ)، وله أيضاً (إثبات الرجعة)، وكتاب (حكم إبّان الغيبة) لعليِّ بن أحمد الكوفي (٣٥٢هـ)، و(أخبار المهدي) لعبد العزيز يحيى بن أحمد الأسدي البصري (٣٣٢هـ)، و(أخبار الوكلاء الأربعة) لأحمد بن عليّ بن نوح السيرافي، و(إزالة الران عن قلوب الإخوان في غيبة القائم) لمحمّد بن أحمد بن الجنيد المعروف بأبي عليّ الإسكافي، و(دلائل خروج القائم) للحسن بن محمّد بن أحمد الصفّار، و(كتاب الغيبة) لأحمد بن محمّد المعروف بابن الجندي، و(كتاب الغيبة) لعليِّ بن الحسن الطاطري، وكذلك (الغيبة) للشيخ النعماني والطوسي ومحمّد بن عليّ بن بابويه القمّي، و(الغيبة والحيرة) لعبد الله بن جعفر صاحب (قرب الإسناد)، و(الفرج الكبير في الغيبة) لتلميذ شيخ الطائفة محمّد بن هبة الله الورّاق، و(الفصول العشرة في الغيبة) للشيخ المفيد، وكتاب (القائم) لعلي بن مهزيار الأهوازي، وغيرهم العشرات من كبار الفقهاء الذين دوَّنوا في هذه القضيَّة العقائدية، والتي تُمثِّل العصب الرئيس والعمود الفقري الذي يتَّكئ عليه جميع أجزاء البدن العقائدي، إذ بدونها لا تُسمّى الطائفة الإماميَّة بالاثني عشرية، والسهام موجَّهة لها، فاستشعار الفقهاء لأهمّيتها والحرص عليها والدفاع عن حياضها هو الذي أوجب التشمير عن سواعد الجدِّ عندهم، واستفراغ الوسع في التحقيق والتنقيب فيها لديهم.
نسأل الله تعلى أن يديم نعمة الفقهاء على مذهب الحقِّ والعلم والاستقامة.