القيادة المبكّرة في الفكر الإنساني
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ (الممتحنة: ٦).
وقال تعالى: ﴿فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ (مريم: ٢٧-٣٠).
القدوة أو الإمامة أو النبوَّة أو القيادة..
اعتبارات ضرورية تقوم بها الحياة النظامية الإنسانية.
يتفرَّع على اعتبار القائد عقلياً أو عقلائياً، إلهاً كان المعتبِر أم بشراً، يتفرَّع عليه أن يملك سلطةً تكوينيةً واعتبارية كذلك..
كما ويتفرَّع على الاعتبارية منها الامتثال في حدود دائرة الاعتبار الممنوح من قِبَل المانح لذلك القائد أو الإمام..
ولازمه الاتِّباع الاختياري الذي ينتج عنه تحصيل الغرض.
إنَّ من الضرورات التي لا ينبغي الخوض فيها ولا محيص عنها هي ضرورة الاجتماع، وينتج عن الاجتماع تصارع الإرادات بلا شكٍّ..
نشأ من هذين الأمرين (ضرورة الاجتماع، تصارع الإرادات) ضرورة ثالثة تترتَّب على الجاعل أو الخالق للاجتماع ﴿وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ﴾ (الحجرات: ١٣)، وهي أن يوجد ما به الحدُّ من ذلك التنازع وأن يضبطه ويُنظِّمه.
وهذا من مفاتح القول بالإمامة الإلهيَّة، وأحد الأدلَّة عليها.
ومن الطبيعي أن تكون لهذا المجعول (القدوة، القائد، الأُسوة، الإمام، الرئيس) شروطٌ وقيودٌ ومَلَكات بها يتمكَّن من ممارسة دوره والقيام بوظيفته. وان كان لكل واحدة من هذه المعاني جهات اشتراك واختلاف، يصفها منها القدر المتيقن مما هو متفق بينهما جميعاً.
وهنا نسأل:
هل جُعِلَ العُمُر (سنٌّ محدَّد للقيام بهذه المهمَّة) ابتداءً أو انتهاءً كشرطٍ في القائد أم لم يُجعل شيءٌ من ذلك فيه؟
وينبغي أن ينحلَّ السؤال إلى اثنين:
أوَّلاً: هل جُعِلَ على مستوى الاعتبار الاجتماعي العقلائي شرطٌ من هذا القبيل؟
ثانياً: هل جُعِلَ على مستوى الاعتبار الإلهي السماوي شرطٌ من هذا القبيل؟
وبعبارة أُخرى: هل القيادة مشروطة أم مطلقة من حيث العُمُر؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال نتحدَّث عمَّا ينبغي عليه البحث في مثل هكذا شروط: كشرطية العلم والتخصُّص في الأشياء، أشياء دينية كانت أم دنيوية، وكشرطية الذكورة مثلاً لتسنُّم بعض المناصب، أو كشرطية الحياة فيها، أو كشرطية الحضور والظهور أمام المرؤوسين والمأمومين أم لا..
وحديثنا عن شرطية العُمُر المحدَّد.
والحديث على مستوى الأفكار والتصوّرات كما على مستوى الأدلَّة والإثبات، وسنعرض في آخر البحث نماذج تطبيقية نستدلُّ بها على مدَّعانا من عدم الشرطية. فلا بدَّ أوَّلاً أن نُحدِّد دائرة القيادة ومراتبها، فنحن نعلم أنَّ للقيادة رُتَباً عديدة من حيث عدد الأفراد، فقد يكون الشخص قائداً لأُسرة أو عشيرة أو قرية أو بلدٍ، وقد يكون قائداً للأرض كلِّها، بل قد يكون قائداً للكون، فلا بدَّ هنا أن يحمل مؤهِّلاتٍ خاصَّة.
وفي حديثنا عن المؤهِّلات وعن دائرة القيادة فإنَّها ستتنوَّع بتنوُّع تلك الدائرة وما يحتاجه القائد من لوازم لنجاح قيادته، فمثلاً من يدير الكون يحتاج إلى قدرات تكوينية بالإضافة إلى قدراته التنفيذية والتشريعية والقضائية والمالية والسياسية وغيرها، فيما قد لا يحتاج من يدير أُسرةً أو عشيرةً إلى كثير من تلك المؤهِّلات.
وفي دائرة الحديث عن المؤهِّلات، فمثلاً بعض القيادات تحتاج إلى مؤهِّلات فكرية، وأُخرى تحتاج إلى مؤهِّلات جسدية، وأُخرى سلوكية وعملية، وفي بعضها إلى مؤهِّلات غيبية.
وهذه المؤهِّلات قد تُشتَرط ابتداءً ولا تُشتَرط استمراراً، وبعضها قد يُشتَرط ابتداءً واستمراراً، وهكذا.
البحث الثبوتي:
وفي مقامه نذكر نقطتين:
النقطة الأُولى: حيث إنَّ حديثنا عن شرطية العُمُر في الإمامة، فلا بدَّ أن نطلَّ إطلالة سريعة على معنى الإمام والقدوة والأُسوة والقائد، لكي نستعين بهذه الإطلالة على تسهيل تحصيل النتائج.
فالإمام يُراد به مقدَّم القوم ومثالهم الذي يأتمُّون به، سواءً كان رئيساً أو قائداً، وعبَّرت عنه بعض المعاجم بهذه العبارة: (من يُقتدى أو يُؤتمَّ به من رئيس أو غيره).
فيما عرَّفت القائد بعض المعاجم بأنَّه ما برز من الجبل، وهو القدوة والمرشد، وعلى هذا التعريف يكون المعنى الذي نريده في محلِّ بحثنا هو (الشخص البارز الذي يُنظَر إليه ويُقتدى به).
أمَّا الأُسوة التي وردت في الآية المتقدِّمة، فهي بمعنى القدوة، وقد ذُكِرَت لها عدَّة معانٍ، منها: (ما يُتَّخذ مثالاً يُقتدى به ويُتَّبع)، وهذا المعنى الأخير هو الأنسب بما نريد نعم ان اتباع كل شيء بحسب ما يشترط فيه من مؤهلات كما تقدم.
فيما ذكرت جملة من الأخبار التي تحدَّثت عن معنى الإمامة بأنَّ الإمام إنَّما سُمّي إماماً لأنَّه قدوة للناس منصوب من قِبَل الله تعالى.
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): (وجعله -أي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)- قدوةً للمتَّقين).
وها أنت تلاحظ أنَّ الإمامة والقدوة لغةً بمعنى واحد، كما أنَّ الأُسوة لها نفس المعنى، ولذلك عبَّر أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «أنا قدوة أهل الكساء»، والإطلاق مقيَّدٌ بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للضرورة.
ونقرأ في زيارته (عليه السلام): «السلام عليك يا قدوة الصدِّيقين».
وفي توقيع للإمام المهدي (عليه السلام): «وفي ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لي أُسوة حسنة».
يظهر من خلال هذه النصوص أنَّ معنى الإمامة والقدوة والأُسوة والقائد والرئيس كلَّها تأتي بمعنى واحد وإن اختلفت متعلَّقاتها، فكون الشخص قدوة في الجانب العلمي يختلف عنه في الجانب المعنوي الروحي وكذا يختلف عنه في الجانب الاداري او الاجتماعي وهكذا.
النقطة الثانية: إذا ما رجعنا إلى الهدف من جعل القائد، وهو ما يُقرِّره أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «لا بدَّ للناس من أمير برٍّ أو فاجرٍ...»، إلى أن يقول: «يقاتل فيها العدوَّ، وتأمن بها السُّبُل».
فإنَّنا نجد أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير إلى أنَّ الغاية من القيادة هي حفظ النظام.
فمتى حُفِظَ النظام تحقَّق الهدف من القيادة، والقائد في هذا الجانب قدوة وان لم يكن كذلك في غيره.
نعم القيادة الإلهيَّة مع حفظها للنظام الاجتماعي تُقَدِّمُ للبشرية - بل وغيرهم - سُبُل التكامل والارتقاء الروحي وتحصيل الآخرة من خلال تطبيق النظام الشرعي.
هنا نقول: فأيُّ شخص يُحقِّق حفظ النظام يكون هو القائد بالبيان المتقدِّم.
ولا بدَّ أن نسأل هنا: هل يُشتَرط فيمن يحفظ النظام، الحياةَ؟
فإنَّنا نجيب وبالضرورة: نعم، إذ لا بدَّ من كونه حيّاً كي يمارس دوره.
ثمّ نسأل أُخرى: هل يُشتَرط فيه الحضور؟ بمعنى أن يُرى من قِبَل الناس عندما يمارسُ مهامّ عمله؟ فيه كلام، والصحيح أنَّه لا يُشتَرط حضوره، لأنَّ الشواهد القرآنية - بل وحتَّى العقلائية - عكست لنا أنَّ هناك من مارس الوظيفة القيادية وهو مختفٍ وغير ظاهر، بل حتَّى الظاهر منهم ليس ظاهراً للكلِّ.
ثمّ نسأل ثالثةً: هل يُشتَرط في القائد علمٌ خاصٌّ (العصمة)؟ وهل يُشتَرط فيه الذكورة؟ تفصيله في محلِّه.
البحث الإثباتي:
هل يُشتَرط في القائد عُمُر محدَّد؟ هاهنا محلُّ بحثنا، ومقتضى إطلاقات الأدلَّة - والتي منها ما تقدَّم إجمالاً - عدم الاشتراط.
بل إنَّ سيرة العقلاء قائمةٌ على عدم الاشتراط، هذا في اختيار العقلاء لمنصب ليس فيه حيثية غيبية، فكيف بمن فيه هذه الحيثية، وإليك شواهد هذا:
روى الكليني في الكافي (ج ١/ ص ٣٨٣): عن أبي جعفر (عليه السلام): ... يكون الإمام ابن أقلّ من سبع سنين؟ قال (عليه السلام): «نعم، وأقلّ من خمس سنين...».
وفيه أيضاً (ج ١/ ص ١٩٩) حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) يذكر فيه الإمامة، فيقول (عليه السلام): «هل يعرفون قدر الإمامة ومحلِّها من الأُمَّة فيجوز فيها اختيارهم؟» أي شروطهم.
ثمّ يقول (عليه السلام): «إنَّ الإمامة أجلُّ قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جناباً، وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم».
فإذا لا يبلغونها بعقولهم فلا يبلغون شروطها، ثمّ قال (عليه السلام): «أو ينالوها بآرائهم...».
ثمّ ذكر الإمام (عليه السلام) شروط الإمامة، فقال: «فجعلها في ذرّيته أهل الصفوة والطهارة...، فصارت في ذرّيته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان...، الإمام المطهَّر من الذنوب، المبرَّأ من العيوب، المخصوص بالعلم...».
فترى الإمام (عليه السلام) يذكر الشروط الجعلية من العلم والعمل، ثمّ يأتي ليُحدِّد الوظيفة، فيقول (عليه السلام): «إنَّ الإمامة زمام الدين...، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا...».
ثمّ ذكر (عليه السلام) المانع منها، فقال: «فأبطلت إمامة كلِّ ظالم إلى يوم القيامة...»، أي آية إبراهيم (عليه السلام).
ثمّ قال (عليه السلام): «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟ ... راموا إقامة الإمام بعقولٍ حائرة وآراء مضلَّة، فلم يزدادوا منه إلَّا بُعداً...».
فإذا كانت هذه المؤهِّلات، فمن يقدر على التشخيص؟
وها أنت تلاحظ بوضوحٍ رغم كون الإمام (عليه السلام) في مقام البيان من جهة الشروط لمنصب الإمامة لم يذكر شرط العُمُر، بل قد دريت بما تقدَّم أنَّ الأدلَّة دلت على عدم الاشتراط، لا بل نَصَّبَ الشارع المقدَّس الوليد الصغير لأيّام - بل ساعات - لأخطر منصب إلهي - النبوَّة - وهو قيادة بلا شك.
وعليه فلا الثبوت يسعف من يشترط سنّاً معيَّناً في الإمامة، ولا الإثبات.
نعم نؤكد ان المؤهل لكل منصب - روحي - اداري - هو الرشد، ورشد كل شيء بحسبه كما تقدمت الاشارة اليه.
ولمزيد من الاستئناس نذكر بعض النماذج التي كانت قدوة أو قادة في مجتمعاتها ولم يشترط فيها النظام الاجتماعي عُمُراً محدَّداً وسنّاً مقيَّداً.
نماذج ممَّن تولُّوا الحكم وهم صغار السنّ:
١- (توت عنخ آمون)، وهو ابن (أمنحوتب الرابع) (أخناتون)، أصبح مَلِكاً وهو طفل عمره (٩) سنوات تقريباً، وتوفّي وعمره (١٩) سنة.
٢- السلطان محمّد الرابع العثماني (١٦٤٨م)، عمره (٧) سنوات.
٣- مَلِكة إسكوتلندا (ماري استيوآرت)، أصبحت مَلِكة وعمرها (٦) سنوات.
٤- المَلِك الإسباني (الفونسو) الثالث عشر، حيث تمَّ إعلانه مَلِكاً حال ولادته عام (١٨٦٨م)، إذ توفّي والده وهو حملٌ له ستَّة أشهر.
٥- المَلِك فيصل الثاني مَلِك العراق، أصبح مَلِكاً وعمره (٤) سنوات، وُلِدَ (١٩٣٥م) وأصبح مَلِكاً (١٩٣٩م).
٦- المَلِك (أُويو)، عمره (٣) سنوات، وهو مَلِك مملكة (توورو)، تقع في (أُوغندا)، يسكنها نحو (٢) مليون، ولا زال حيّاً وهو مَلِك.
الأئمَّة (عليهم السلام) صغار السنّ:
١- الإمام الجواد (عليه السلام)، تولّى الإمامة - على بعض الروايات - وعمره (٩) سنوات.
٢- الإمام الهادي (عليه السلام)، تولّى الإمامة وعمره (٨) سنوات.
٣- الإمام المهدي (عليه السلام)، تولّى الإمامة وعمره (٥) سنوات.
الانبياء صغار السن:
١- النبيُّ عيسى (عليه السلام)، قال تعالى: ﴿فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ (مريم: ٢٧-٣٠).
٢- النبيُّ يحيى (عليه السلام)، قال تعالى: ﴿وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: ١٢).
إذن لا شرطية للعُمُر في القيادة وإن كان شرطاً في أشياء أُخرى.