المقوّمات البنيوية للدولة المهدوية المرتقبة والمتطلّبات الواقعية
مرتضى علي الحلي
مدخل تمهيدي:
إنَّ هذا البحث يهدف إلى تقديم قراءة ورؤية واقعية، موضوعية، تنهض من الواقع الراهن إلى الحدث المرتقب للظهور الشريف للإمام المهدي (عليه السلام) والقيام بالحقِّ، وعلى أساس ما هو متوفِّرٌ فعلاً من مقوِّمات الدولة المرتقبة، أو ما يمكن أن تقوم عليه على كلِّ حالٍ راهن، وأشُدَّه الظلم والفساد بمختلف ألوانه، حكماً وإدارةً واقتصاداً وعقيدةً وغيرها، وما ينبغي أن نكون عليه نحن المؤمنين فيما لو ظهر الإمام بغتةً، وقام بالأمر على ما هو عليه، ولقد أكَّدت الروايات المعتبرة أنَّ ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، سيكون فجأةً وبغتةً، ممَّا يتطلَّب ذلك الاستعداد الراهن على كلِّ حالٍ، استعداداً عقائدياً ونفسياً ومعرفياً واجتماعياً وعسكرياً وثقافياً، فعن أبي جعفر الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ (الزخرف: ٦٦)، قال: «هي ساعة القائم (عليه السلام) تأتيهم بغتةً»(١)، أي: فجأةً وبسرعة. وهذا ما اختزنته الروايات، قيمةً وغرضاً وإعداداً في عقيدة الانتظار الواعي والصالح والمنتج، قال أبو عبد الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «أقرب ما يكون العباد من الله تعالى، وأرضى ما يكون عنهم، إذا افتقدوا حجَّة الله، فلم يظهر لهم، ولم يعلموا بمكانه، وهم في ذلك يعلمون أنَّه لم تبطل حجَّة الله ولا ميثاقه، فعندها توقَّعوا الفرج صباحاً ومساءً...»(٢).
إنَّ عنصر المفاجأة ممَّا ينبغي عدم الغفلة عنه، وما منع الأئمَّة المعصومين من التوقيت(٣) للظهور الشريف إلَّا أحد الأدلَّة دليل على إرادة الأخذ برهانات الواقع المتاحة والممكنة، وتحقيقاً للغرض الأسمى من عبادية الانتظار، وهو جعل المؤمن المعتقد بإمامة الإمام المهدي (عليه السلام)، على شدٍّ وارتباط وتعلُّق مكين، يراقب فيه نفسه ومجتمعه ووظيفته، تقوىً وإصلاحاً، فالانتظار هو توقُّع واقعي وقوَّة وإرادة وبناء ونصرة وتضحية وإيثار وإيمان وطاعة(٤). عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) قال: «إذا رُفِعَ علمكم من بين أظهركم، فتوقَّعوا الفرج من تحت أقدامكم»(٥).
إنَّ الاستعدادات الراهنة لا تنحصر بجانب دون آخر، كونها منظومة مترابطة بعضها ببعض، بدءاً من الجانب العقدي وضرورة أخذه باليقين، والجانب المعرفي والنفسي المتمثِّل بالقدرة على الطاعة، والتضحية بين يدي إمام الزمان (عليه السلام) فيما لو ظهر فجأةً، وحتَّى الجانب العسكري والدفاعي، إذ إنَّ الروايات المأثورة تُؤكِّد أنَّ الإمام سيتعرَّض لهجمة شرسة من السفياني، تستهدف شيعته وعاصمته في العراق(٦)، وقد ورد هذا المضمون في العلامات الحتمية. وإنَّ من سمات الاستعداد هي التوقُّع للظهور على كلِّ حالٍ، تُحسَب فيه متطلِّبات الظروف النفسية والموضوعية، وأغراض الحكمة الإلهية، والتي يجب أن يعرفها المؤمن المنتظر معرفة تامَّة وهادفة، لأنَّ الانتظار هو تعبُّد عقدي، وطريقة عقلانية منتظمة، تُؤمِّن للإمام المهدي (عليه السلام) إمكانية الظهور بالمتاح والممكن من الإيمان به، والقدرات والخبرات كمّاً وكيفاً، والقيام وتأسيس الدولة الموعودة.
والكلام سيكون بوجهة الاستعدادات في نظرية أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) سيعتمد على إمكانات الواقع الراهن في وقت ظهوره بغضِّ النظر عن سمة الغيب والتأييد الإلهي، والنصر المحفوظ له، واقعاً واعتقاداً، ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ﴾ (غافر: ٥١).
ولو أنَّنا أخذنا بهذا الوجه فما المطلوب منّا في تقديم ما هو ممكن للإمام حتَّى ينهض بوظيفته الإلهيَّة الموعودة بحساب فرضية القيام على ركام الظلم والفساد لبسط العدل والإصلاح(٧)؟
إنَّ هذه القراءة المعرفية المتبصِّرة ستبتعد عن سمة الغيبية والمثالية في التأسيس للدولة المهدوية وقيامها، لا أنَّها لا تؤمن بذلك، لا، بل هي محاولة للأخذ برهانات وإمكانات وحاجات الواقع الموضوعي إيماناً ومعرفةً وسلوكاً، وكما حدث ذلك مع الإمام عليٍّ (عليه السلام) حينما أقام دولته العادلة على بقايا دولة ظالمة وفاسدة، وتمكَّن من إحياء الحقِّ والعدل بين الناس بما هو موجود، حتَّى إنَّه قال: «أمَا والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجَّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها...»(٨)،(٩). وهذه إشارة قيِّمة وسديدة منه (عليه السلام) إلى أنَّ متطلِّبات الواقع الاجتماعي الراهن وضروراته غالباً ما تفرض نفسها بالأخذ بها تغييراً ونهوضاً، وخياراً وعلاجاً، وتقدُّماً.
وقد بيَّن السيِّد الشهيد محمّد باقر الصدر في بحثه حول المهدي، هذه الفرضية والمقاربة الموضوعية والواقعية بإجابة عن الأسئلة المفترضة في هذا الباب، وقال:
(إنَّ كلَّ عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية(١٠)، لا يتأتّى لها أن تُحقِّق هدفها إلَّا عندما تتوفَّر تلك الشروط والظروف، وتتميَّز عمليات التغيير الاجتماعي، التي تُفجِّرها السماء على الأرض، بأنَّها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية، لأنَّ الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربّانية، ومن صنع السماء، لا من صنع الظروف الموضوعية، ولكنَّها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية، ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف، ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتَّى أنزلت آخر رسالاتها على يد النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لأنَّ الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ، كان يفرض تأخُّرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك، والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير، منها ما يُشكِّل المناخ المناسب والجوّ العامّ للتغيير المستهدف، ومنها ما يُشكِّل بعض التفاصيل التي تتطلَّبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية، ... وقد جرت سُنَّة الله تعالى، التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الربّاني على التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية، التي تُحقِّق المناخ المناسب والجوّ العامّ لإنجاح عملية التغيير، ومن هنا لم يأتِ الإسلام إلَّا بعد فترة من الرُّسُل وفراغ مرير استمرَّ قروناً من الزمن، فعلى الرغم من قدرة الله سبحانه وتعالى، على تذليل كلِّ العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربّانية، وخلق المناخ المناسب لها خلقاً بالإعجاز، لم يشأ أن يستعمل هذا الأُسلوب(١١)، لأنَّ الامتحان والابتلاء والمعاناة، التي من خلالها يتكامل الإنسان يفرض على العمل التغييري الربّاني أن يكون طبيعياً وموضوعياً من هذه الناحية، وهذا لا يمنع من تدخُّل الله سبحانه وتعالى أحياناً فيما يخصُّ بعض التفاصيل، التي لا تكون المناخ المناسب، وإنَّما قد يتطلَّبها أحياناً التحرُّك ضمن ذلك المناخ المناسب، ومن ذلك الإمدادات والعنايات الغيبية، التي يمنحها الله تعالى لأوليائه في لحظات حرجة فيحمي بها الرسالة)(١٢).
ولا يمكن الشكُّ في أنَّ قيام الدولة المهدوية المرتقبة سينطلق من رهانات وإمكانات الواقع المعاش بحسب الفرض، ذلك لأنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) سيعتمد على ما هو متوفِّر من قدرات إيمانية ومعرفية، وخبرات تدبيرية، وأفراد صالحين، فضلاً عن الكفاءات المؤمنة والمنتظرة والواعية لقيام دولة الحقِّ والعدل، وقد ورد هذا المعنى الموضوعي والإعدادي عن الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) في قوله: «يجتمع إليه من أصحابه عدَّة أهل بدر، ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، من أقاصي الأرض، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٤٨]، فإذا اجتمعت له هذه العدَّة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله (عزَّ وجلَّ)»(١٣)، وإنَّ هذا المعنى الإعدادي يُقدِّم لنا انطباعاً واقعياً عن أهمّية وجود القدرات والخبرات أفراداً ومعرفةً وسلوكاً، ووسائلاً وقيماً، تدخل كلُّها مجتمعة في تحقيق الشروط والظروف الموضوعية في البعد التنفيذي للظهور المهدوي الشريف والقيام بالعدل والحقِّ المرتقب بإذن الله تعالى، ولما لإعداد وتجهيز النخبة المؤمنة به، عقيدةً وعلماً ومنهاجاً وجهاداً وقتالاً، من الأثر الكبير في التمكين الواقعي لقيام الدولة المهدوية(١٤)، وقد نصَّ القرآن الكريم على واقعية وموضوعية الإعداد والاستعداد وبشكل مطلق، إعداداً في المعارف والقدرات والخبرات والكفاءات والوسائل والأفراد والأموال والنفقات، بما يضمن سمة القوَّة في وجه التحدّيات العقدية والوجودية المعاصرة والمتوقَّعة على كلِّ حالٍ، وبحسب المقدور والمستطاع، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال: ٦٠)، ﴿قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ (هود: ٨٠)، ﴿قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ (الكهف: ٩٥).
وممَّا تقدَّم يظهر أنَّ قيام الدولة المهدوية الشريفة معقود بمقوِّمات راهنة وموضوعية، مرتبطة بالواقع المعاش ارتباطاً وثيقاً يتوقَّف عليها التطبيق والتحقيق، وتتكفَّل هذه المقوِّمات بتقديم ما هو ممكن ومقدور بين يدي الإمام المهدي (عليه السلام) ليتمكَّن من تأسيس دولته العادلة والحقَّة. وتعالج هذه المقوِّمات الممكنة والراهنة مشكلات الحكم والإدارة والنظام والمعرفة، والأخلاق والدين، والحقوق والأمن والاقتصاد، والتنمية البنائية والاجتماعية، بكلِّ ألوانها الإنسانية والعمرانية والقيمية. وثَمَّة مقوِّم آخر مهمٌّ جدّاً ربَّما يكون هو الأهمّ أساساً ونتاجاً، وهو المقوِّم العقدي إيماناً ومرتكزاً في بنية ونفسية المؤمن المنتظر، والذي ينبغي به أن يرى الواقع في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) بمنزلة العيان، ولو تمثُّلاً على أقلّ قدر، وتوظيف هذه الرؤية العقدية في التمهيد والإعداد للمقوِّمات الأُخرى والرئيسة في الحراك الفردي والاجتماعي انتظاراً، ذلك لأنَّ الإيمان حقّاً وصدقاً هو سبيل النجاة والخلاص، وهو الموصل إلى المطلوب في أولويات الإصلاح والتغيير الموعود، قال الله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: ١٠٢ و١٠٣). وروي هذا المعنى البنيوي العقدي والمعرفي عن الإمام عليِّ بن الحسين (عليه السلام) أنَّه قال: «يا أبا خالد - الكابلي-، إنَّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلِّ زمانٍ، لأنَّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، أُولئك المخلِصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله (عزَّ وجلَّ) سرّاً وجهراً».
وقال عليُّ بن الحسين (عليه السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(١٥).
المقوّمات البنيوية
العقدية والسلوكية والمعرفية
وتفصيل الكلام في هذه المقوِّمات يقع في ثلاثة محاور:
المحور الأوَّل: إيمان الفرد والناس بالدولة العادلة (الأهمّية والثمرات).
المحور الثاني: تمكين القواعد العقدية والكونية في السلوك الإنساني.
المحور الثالث: مقوِّم المعرفة العقلية والعقلائية وضرورة التعريف بالإمام المهدي (عليه السلام).
المحور الأوَّل: إيمان الفرد والناس بالدولة العادلة (الأهمّية والثمرات):
إنَّ من أهمّ مقوِّمات قيام الدولة العادلة وبقائها، هو إيمان الفرد(١٦) بها، بعد الفراغ العقدي بمقوِّمية الإمام المهدي (عليه السلام) لهذه الدولة المرتقبة، وظاهرة الدولة أصبحت مسلَّمة وجودية من مسلَّمات الاجتماع والتعايش الإنساني، تتحكَّم في قيامها الدوافع الدينية والفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، ويحدث الاختلاف حول أساس شرعيتها ومبادئها، ممَّا ينتج عن ذلك تجاذب وتنازع وظلم وفساد وعدوان، وترف واستغلال، وانتهاك لحقوق الإنسان، وهذا هو الطبع الغالب في وجود الدول الحديثة في عالمنا المعاصر، والتي تتقمَّص الشرعية المفترضة عندها بما يضمن مآربها الفكرية والاقتصادية والسياسية والقومية والتاريخية، وبمعزل عن مسألة إيمان الفرد بها وضرورته، وإن تعاقدت معه على أساس من الاختيار والانتخاب والحرّية، ولكنَّها كثيراً ما تخفق في الإجراءات والتطبيقات، ولو بعنوان العدالة، ذلك لأنَّها فكَّكت بين مسألة الإيمان والواقع، كما هو الحال في الغرب وأُوروبا وغيرها. وفي هذا الصدد ذكر المفكِّر الأمريكي المعاصر (فرانسيس فوكوياما) في كتابه بناء الدولة: (يختلف الأمريكيون والأُوربيون في آرائهم حول مصدر الشرعية على الصعيد الدولي، إذ يعتقد الأمريكيون أنَّها (الشرعية) متجذِّرة في إرادة الأغلبيات الديمقراطية في الدول - الأُمم الدستورية -، بينما ينزع الأُوربيون إلى الاعتقاد بأنَّه يتأسَّس على مبادئ العدالة الأعلى قيمةً من قوانين وإرادات الدول الأُمم كافَّة، ويمكن تفهُّم هذا الخلاف إلى حدٍّ بعيدٍ، لأنَّ كلَّ طرف يتوصَّل إلى رأيه اعتماداً على أسباب ضاربة في عمق تاريخه القومي. الرأي الأُوربي صحيح بالمعنى المجرَّد، لكنَّه مخطئ في الممارسة. يُؤكِّد الكثير من الأُوربيين أنَّهم أنفسهم - وليس الأمريكيين - المناصرين الحقيقيين للقيم الليبرالية العالمية، لأنَّهم يؤمنون بهذه القيم بمعزل عن تجسيداتها في دول - أُمم ديمقراطية -، فعليه لا شيء يضمن أن تكون القرارات التي تتَّخذها الديمقراطيات الليبرالية ذوات السيادة عادلة أو منسجمة مع هذه المبادئ الأسمى، حتَّى ولو كانت صحيحة إجرائياً، يمكن أن تُقرِّر الأغلبيات الديمقراطية القيام بأفعال فظيعة تجاه دول أُخرى مثلاً، ويمكن أن تنتهك حقوق الإنسان، وأعراف اللياقة التي ينبني عليها نظامهم الديمقراطي في ذاته)(١٧).
نعم هناك مساحات محدودة في عدالة الدولة وقدرتها على تحقيق آمال ومتطلِّبات أفرادها والمؤمنين بها، ولكنَّها لا تُحقِّق الأغراض الكاملة والمنشودة منها، فقد يشوبها الانحراف في يوم ما، أو قد تسقط بفعل سنة التداول، كما هو حال الكثير من الدول عبر التجارب والتاريخ، أو لأنَّها لم تكن قد حكمت بأُسس العدل والحقِّ، أو أنَّ الناس لم يؤمنوا بها، ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران: ١٤٠).
ويظهر وبحسب دلالات الروايات المأثورة في العقيدة المهدوية، أنَّ الدولة المرتقبة تختلف في ماهيتها، تماماً عمَّا سبقتها من الدول عبر التاريخ، وإن كانت لتقوم على أعقاب الظلم والفساد وركام الواقع، ولكنَّها تتقوم بمقوِّمات واقعية تُؤمِّن لها البقاء والحكم بالعدل بين الناس، وردِّ الحقوق إلى أهلها، وحفظ حقوق الأفراد عامَّة(١٨)، لتكون بذلك نموذجاً ومثالاً يُحتذى به، كما ورد ذلك عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: «دولتنا آخر الدول، ولن يبقَ أهل بيت لهم دولة إلَّا ملكوا قبلنا، لئلَّا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾»(١٩).
وتكمن أهمّية إيمان الفرد والناس عامَّة بضرورة قيام الدولة العادلة، في أنَّه تكليفٌ عقدي ثابت عقلاً وديناً، لأنَّ الإنسان المؤمن مطالبٌ بالإيمان بالعدل أصلاً وتطبيقاً، وقد صرَّح المحقِّق الطوسي قائلاً: (فالله تعالى لم يفعل الإيمان فيهم - المكلَّفين -، لأنَّه كلَّفهم به، ويُثيب على الإيمان)(٢٠). وإنَّ قيام الدولة العادلة يحفظ قوامة، وأقومية الدين، والهداية والنظام الأحسن، والتدبير الأمثل في مختلف أشكال الاجتماع الإنساني، وكما عبَّر القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾ (الإسراء: ٩).
ومعلوم أنَّ الدولة الوضعية غير المرتبطة بالله تعالى ودينه وشرائعه لا تلتفت، بل لا تقيم وزناً وقيمةً لمسألة إيمان الفرد والأُمَّة والناس بها، وإن أخذت بعض الدول الأُوربية في العقود الأخيرة من القرون الماضية تهتمُّ بالبعد الاجتماعي للفرد لتجعله طرفاً في نظرية قيام الدولة على العقد والميثاق الاجتماعي معه، التزاماً منها بما جاء به المفكِّر الفرنسي جان جاك روسو في كتابه الشهير (العقد الاجتماعي) حيث ذهب إلى (أنَّ هدف كلِّ نظام اجتماعي وسياسي هو حفظ حقوق كلِّ فرد، وإنَّ الشعب وحده هو صاحب السيادة، وكان بهذا يهدف إلى النظام الجمهوري، فتحقَّق هذا النظام بالثورة الفرنسية بعد ثلاثين سنة حين اتُّخذ (العقد الاجتماعي) إنجيل هذه الثورة، وقد ذهب جان جاك روسو إلى أبعد من ذلك في دعوته إلى القضاء على المجتمع الراهن آنذاك، وأن يُرجَع إلى الطبيعة(٢١)، وهناك يتَّفق الناس بعقد اجتماعي على إقامة مجتمع يرضى به الجميع، فيقيمون بذلك حكومة تمنح الجميع ذات الحقوق)(٢٢). ولكنَّها لم تحسب حساب الإيمان والعقيدة والدين في حساباتها، بل أظهرت مبدأ فصل الدولة عن الدين، لتضرب بهذا المبدأ قيمة إيمان الفرد وآثاره، والحال واقعاً أنَّه يوجد ثَمَّة ترابط مكين بين إيمان الفرد وحاجاته، كما هو حال الترابط بين الإيمان والدولة العادلة، ذلك لأنَّ الدولة العادلة هي تعبير وتمثُّل عقدي وديني وقيمي وواقعي للإيمان النظري المنشود في البعد العملي، وهي شكلٌ من أشكال القيام بالقسط يُحقِّق الغرض المطلوب، والذي سيتحقَّق على يد الإمام المهدي (عليه السلام) كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحديد: ٢٥).
فلا يمكن للدولة غير العادلة أن تحلَّ مشاكل الفرد اجتماعياً إلَّا أن تأخذ برغبة الإيمان بالدين عند الأفراد خياراً وسلوكاً، وما الحلول التي تُقدِّمها إزاء المشكلات إلَّا حلول منقوصة، وقد تظلم فيها بذريعة العدل، وقد بيَّن هذا المعنى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل، وذكر ما نصُّه: (إنَّ الدين والمجتمع البشري حقيقتان لا تقبلان الانفصال، فلا يمكن لمجتمع أن يحيى حياة سليمة دون دين وإيمان بالله وبالآخرة، وليس بمقدور القوانين الأرضية أن تحلَّ الاختلافات والتناقضات الاجتماعية، لعدم ارتباطها بدائرة إيمان الفرد، وافتقارها التأثير على أعماق وجود الإنسان، فلا يمكنها حلَّ الاختلافات والتناقضات في حياة البشر بشكل كامل، وهذه الحقيقة أثبتتها بوضوح أحداث عالمنا المعاصر، فالعالم المسمّى بالمتطوِّر قد ارتكب من الجرائم البشعة ما لم نرَ له نظيراً حتَّى في المجتمعات المتخلِّفة، وبذلك يتَّضح منطق الإسلام في عدم فصل الدين عن السياسة، وأنَّه بمعنى تدبير المجتمع الإسلامي)(٢٣).
إنَّ إيمان الفرد والناس هو من يُحدِّد شكل الحياة فكراً وسلوكاً، لأنَّه ما من فكر أو عقيدة أو سلوك إلَّا وهو نابع من إيمان مرتكز في بنية صاحبه، يدور مداره في حراكه وقراره، ومساحة الإيمان لم تكن منحصرة في منطقة الوعي الإنساني فحسب، بل تمتدُّ إلى الوجود والكون والحياة والتاريخ والمستقبل، بل وحتَّى الآخرة، وتكاد تكون مسألة الإيمان هي الأكبر فعّالية ونشاطاً في وجود الإنسان، ومن هنا تترتَّب عليها مصائر الأُمور وعواقبها، في الدنيا والآخرة، فليست هي مسألة قابعة في صقع الذهن والقلب عند الإنسان، بل هي الدافع الرئيس في التغيير المرتقب، إذا ما أخذ بها. وللشيخ محمّد مهدي شمس الدين كلام قيِّم في هذه المسألة، حيث ذكر ما نصُّه:
(إنَّ الإنسان هو الإنسان في كلِّ زمان، إنَّه يتحرَّك في الزمان والمكان مدفوعاً - فرداً وجماعةً ومجتمعاً - بمصالحه وعلاقاته وعواطفه، والعقائد والشرائع والمُثُل والقيم الأخلاقية والروحية، إذا تأصَّلت فيه وتعمَّقت في وجدانه وكيَّفت نظرته إلى الكون والحياة والإنسان، فإنَّها تكون قادرة على أن تُدخِل تغييراً عميقاً على عواطفه ومصالحه وعلاقاته في المجتمع والعالم، ومن ثَمَّ فإنَّها تكون قادرة على تغيير تاريخه، ونقله إلى مسار جديد، ما دامت لا تواجه عقبات تشلُّ فاعليتها وتأثيرها، أمَّا إذا فشلت العقائد والشرائع والمُثُل والقيم الأخلاقية والروحية في إدخال التغيير المناسب لها على تكوين الإنسان النفسي، وعلى تقديره لمصالحه، لأنَّها لم تتأصَّل في أعماقه ولم تُغيِّر نظرته إلى الكون والحياة والإنسان، فإنَّ تاريخه في هذه الحالة سيتكرَّر)(٢٤).
وقد يواجه الفرد ضعفاً في إيمانه أو شكّاً أو تذبذباً بسبب كثرة الفتن وشدَّتها وطول غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) وخفاء شخصه الشريف، وبفعل شبهات المنكرين والمخالفين في الاعتقاد ومقولاتهم الفاسدة، ودعواتهم الضالَّة، ولكن هذا لا يعني انتفاء أهمّية وثمرة الإيمان الراسخ في القلب أمام هذه المتغيِّرات والدعوات، بل اللازم هو الثبات بالقول الثابت، والنجاح في الامتحان، ففي ذلك النجاة واقعاً، لأنَّ الاعتقاد بوجود الإمام المهدي (عليه السلام) وحتمية ظهوره وقيام دولته حقٌّ، وبيِّن في نفسه، وعند المعتقِد به كما ينبغي أن يكون، وورد تصوير هذا المعنى الحدثي وما يمكن أن يواجهه الإيمان من تقلُّبات وتغيُّرات وفتن فيما روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، فقال: «أمَا والله ليغيبنَّ عنكم صاحب هذا الأمر، وليخملنَّ هذا حتَّى يقال: مات، هلك، في أيِّ وادٍ سلك؟ ولتكفأنَّ كما تكفأ السفينة في أمواج البحر، لا ينجو إلَّا من أخذ الله ميثاقه، وكتب الإيمان في قلبه، وأيَّده بروح منه، ولتُرفعنَّ اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يُدرى أيٌّ من أيٍّ»، قال - الراوي -: فبكيت، فقال: «ما يُبكيك يا أبا عبد الله؟»، فقلت: جُعلت فداك، كيف لا أبكي وأنت تقول: اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يُدرى أيٌّ من أيِّ!؟ قال: وفي مجلسه كوة تدخل فيها الشمس، فقال: «أبيِّنة هذه؟»، فقلت: نعم، قال: «أمرنا أبين من هذه الشمس»(٢٥).
وثَمَّة ثمرة مصيرية ترتبط بأهمّية الإيمان، الذي ينبغي أن ينعقد في نفس وقلب الإنسان المسلم والمؤمن انعقاداً مكيناً، ومن أوَّل الأمر، ذلك لما له من دخالة في عنصر المفاجأة للظهور الشريف للإمام المهدي (عليه السلام) وقيامه بغتة، بل وحتَّى في موت الإنسان وقيام الساعة، وهذه الثمرة المصيرية، قد أشار إليها القرآن الكريم نصّاً بما له وجه من وجوه التشديد، والترابط الوثيق بين ضرورة عقد الإيمان كوناً ووجوداً، وحدوثاً وثباتاً، وبين متغيِّرات الواقع، وتقلُّباته ومفاجآته الحتمية، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ (الأنعام: ١٥٨)(٢٦).
وقد بيَّن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وبحسب ما روي عنه، هذا المعنى الوثيق في تأويل هذه الآية الشريفة، حينما سُئِلَ عن هذه الآية، فقال: «الآيات هم الأئمَّة، والآية المنتظرة هو القائم المهدي (عليه السلام)، فإذا قام لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل قيامه بالسيف وإن آمنت بمن تقدَّم من آبائه (عليهم السلام)»(٢٧).
وممَّا ينتفع به الإنسان بإيمانه أن يعمل طبقه، لا أن يبقى مجانباً للعمل، ففي ذلك سبيل النجاة والفوز والخير، (إنَّ الآية - الشريفة - تعتبر طريق النجاة منحصرة في الإيمان، ذلك الإيمان الذي يكتسب المرء فيه خيراً، ويعمل في ظلِّه عملاً صالحاً...، وعلى هذا الأساس يجب أن يقترن الإيمان، ولو بالحدِّ الأدنى من العمل الصالح، ليدلَّ ذلك على وجود الإيمان)(٢٨).
المحور الثاني: تمكين القواعد العقدية والكونية في السلوك الإنساني:
ومقولة التمكين هي واحدة من المقولات القرآنية القويمة، والتي عرضتها الآيات الشريفة بألوان مختلفة في الأُمم والأفراد والعقائد والأديان والأماكن، وقدَّمت فيها الوجهين الإيجابي والسلبي، لتعالج إخفاقات الإنسان في التعاطي معها، وتُظهِر مدى قدرته على النجاح فيها.
استظهر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي من الآيات القرآنية التي تتحدَّث عن التمكين بأنَّها تعني، (نشر تعاليم الحقِّ بشكل جذري، وفي كلِّ مكان، كما يُستفاد من كلمة (تمكين))(٢٩).
وثَمَّة علاقة حقيقية تكمن بين مقولة التمكين وقيام الدولة العادلة، يعمل على بيانها القرآن الكريم في سلوك منه للوجهة الحقَّة والمطلوبة، وضمن حراك تتطابق فيه إرادة الله تعالى وإرادة عباده المؤمنين، ففي الجانب الإيجابي الصالح بين الله تعالى إمكان وفعلية التمكين في التحقُّق والوقوع، وأخذه وعداً على نفسه غير مكذوب، كما في الآيات الشريفة في قوله تعالى:
﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ (النور: ٥٥)(٣٠)،(٣١).
﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحجّ: ٤١).
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ﴾ (القَصص: ٥ و٦).
﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ (الكهف: ٨٤).
إنَّ هذه الآيات الشريفة قد نظرت إلى أنَّ قيام الدولة المهدوية العادلة، أو حتَّى التي تسبقها في القيام بحسب الإمكان، وتتَّخذ من العدل منهجاً وسبيلاً في نظام الاجتماع الإنساني، مشروط بفعلية التمكين لمجموعة من الأُصول والقواعد الدينية والعقدية، والتي يقبلها الناس قبولاً إرادياً، ممَّا يُخفِّف من حِدَّة التنازع والاختلاف في الرؤى الفكرية والعقدية، ويسهم في إقرار الأمن والثبات والسلم بينهم. ومن أهمّ هذه القواعد العقدية هي قاعدة الإيمان بوجود الله تعالى وتوحيده، وعدله، وما يتفرَّع على هذه القاعدة المكينة من وجوب الإيمان بالأنبياء وأوصيائهم المنصوبين من قِبَل الله تعالى، ومنهجم في إصلاح الناس، وهدايتهم للحقِّ، والحكم بينهم بالعدل والإحسان والحقِّ، ورفض الظلم والفساد.
وتُشكِّل قاعدة الإيمان بوجود الله تعالى أصلاً متسالماً عليه عند الموحِّدين في الأرض، من كلِّ الديانات السماوية، وإن شاب بعض اعتقاداتهم شيء من الاختلاف. وقد عرض القرآن الكريم إلى ضرورة تمكين هذه القاعدة الوجودية والعقدية، واعتبارها الجامع الأعلى والمشترك بين الناس، وما يندرج تحتها من أحكام عقدية وأخلاقية واجتماعية، لها دخالة قريبة وأكيدة في قيام الدولة العادلة المرتقبة، والمجتمع الفاضل الموعود، قال تعالى: ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: ٦٤).
وكما تقدَّم في الآية (٥٥) من سورة النور، فقد أخذ القرآن الكريم هذه القاعدة العقدية العليا في الدين وعداً في التحقق والوقوع وبشرط التمكين في القابل -الإنسان المؤمن والموحِّد، المكلَّف-، وفي القدرة - إرادة الله تعالى في التحقُّق والوقوع، وهي لا تختلف ولا تتخلَّف -، وإذا ما أخذنا بهذه القاعدة الجامعة سنتمكَّن من التمهيد والتمكين لقيام الدولة العادلة المرتقبة، إذ إنَّ الإيمان بوجود الله وتوحيده، وتوافره بين الموحِّدين في الأرض، يُؤسِّس للتصديق بما يتفرَّع عن أصل التوحيد لله تعالى، ومنه العدل والاهتداء بهدي الله تعالى، والأخذ بدينه الحقِّ إيماناً وعملاً، لأنَّ ما جاء به الأنبياء هو واحد في العقيدة والسلوك والغاية والغرض، وإن اختلفت أُممهم فيما بعدهم، المهمُّ هو الأصل التوحيدي وحفظه في العقيدة والسلوك، وإنَّ الوصول إلى الهدف الديني العامّ بين مختلف الناس، لا يمكن تحقُّقه ما لم يتمّ الأخذ بالجامع التوحيدي العقدي والسلوكي في أحكامه وآثاره الاجتماعية والأخلاقية، وقد بيَّن السيِّد محمّد حسين الطباطبائي (رحمه الله) في كتابه (القرآن في الإسلام) هذه الحقيقية العقدية الدينية، وترابطها الوثيق في الجامع والأحكام والسلوك بين جميع الديانات التوحيدية، وقال: (القرآن الكريم يحتوي على الغاية الأسمى التي تهدف إليها الإنسانية ويُبيِّنها بأتمّ الوجوه، لأنَّ الوصول إلى الغاية الأسمى لا يمكن إلَّا بالنظرات الواقعية للكون -الإيمان بوجود الله تعالى وتوحيده-، والعمل بالأُصول الأخلاقية والقوانين العملية، وهذا ما يتولّى شرحه القرآن بصورة كاملة حيث يقول: ﴿قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الأحقاف: ٣٠)، ويقول في موضع آخر بعد ذكر التوراة والإنجيل: ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (المائدة: ٤٨)، وبياناً لاشتماله على حقيقة شرائع الأنبياء يقول: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ (الشورى: ١٣)، وفي احتوائه على سائر الأشياء يقول: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدى وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: ٨٩)، ومختصر ما في الآيات السابقة: أنَّ القرآن يحتوي على الحقائق المبيَّنة في الكتب السماوية وزيادة، وفيه كلُّ ما يحتاج إليه البشر في سيره التكاملي نحو السعادة من أُسس العقائد والأُصول العملية)(٣٢).
وإنَّ الأخذ بالجامع التوحيدي العقدي - الإيمان بوجود الله تعالى وتوحيده وعدله -والسلوكي - تطبيق الشريعة-، هو من جملة ما سيتحقَّق في ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، وقيامه بالحقِّ، وقد عرضت الروايات المعتبرة(٣٣) لهذا المعنى التوحيدي العامّ دلالةً في مسألة صلاة النبيِّ عيسى بن مريم (عليه السلام) خلف الإمام المهدي (عليه السلام)، والتي تُقدِّم وجهاً من وجوه الاجتماع على كلمة سواء بين نبيٍّ من أهل الكتاب وإمام المسلمين المعصوم، فورد: «إنَّ من تكرمة الله لهذه الأُمَّة أنَّ عيسى بن مريم يُصلّي خلف المهدي»(٣٤).
وكذلك ورد هذا المعنى رواية في إخراج الإمام المهدي (عليه السلام) الكتب السماوية لليهود والنصارى وآثارهم الدينية، في إشارة واضحة لحقيقة الاجتماع على الإيمان بوجود الله تعالى وتوحيده والرجوع إلى الأصل الحقِّ: «المهدي يبعث بعثاً لقتال الروم، يُعطى فقه عشرة، يستخرج تابوت السكينة من غار أنطاكية، فيه التوراة، التي أنزل الله على موسى، والإنجيل الذي أنزل الله على عيسى، يحكم بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم»(٣٥).
وأمَّا في الوجه السلبي فقد حذَّر سبحانه من إهمال وإغفال التمكين، فيما لو تُرِكَ الأخذ به عملاً وطريقاً، وبيَّن آثار ذلك وعلاقته بالهلاك والعذاب، فقال تعالى:
﴿وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (القَصص: ٥٧).
﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾ (الأنعام: ٦).
﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ (الأحقاف: ٢٦).
إنَّ هذه الآيات الشريفة تعرض أمراً مهمّاً جدّاً ينبغي على الإنسان أن يلتفت إليه، قبل فوات الأوان، ألَا وهو ضرورة استثمار حالة التمكُّن والتمكين في هذه الحياة الدنيا في حالة الهدى وعدم الإعراض عن ذلك كلِّه بالإغفال أو عدم الاعتبار به.
وذلك لأنَّ التمكين الإلهي، هو فعل جميع ما لا يتمُّ الفعل إلَّا به، وهو يُعبِّر عن جمع لمصادر القوَّة والقدرة للمؤمنين من التمكُّن في حالة الهدى والزمان والمكان والطاقات والتدابير والمعارف والعقائد، وقلَّما يتكرَّر اجتماعه في ظرفٍ ما إلَّا بشروطه ومقتضياته.
ولذا عاتب القرآن الكريم الأُمَّة التي لم تستثمر ذلك ووبَّخها، واعتبرها أُمَّة غير ملتفَّة لنِعَم الله تعالى عليها في التمكين وآثاره، ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ (الأحقاف: ٢٦).
ويحكي القرآن الكريم هنا أنَّ هؤلاء الذين مكّناهم، وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً، ولم يعتبروا بها في استثمار حالة التمكين، سيحيق بهم أثر ذلك سلباً وضرراً.
وقد بيَّن الإمام المهدي (عليه السلام) سمة التمكين في القواعد العقدية والسلوكية، وأهمّيتها، وضرورتها في حراك المؤمنين والأتباع المنتظِرين والممهِّدين، وآثار إغفالها، وعدم الأخذ بها، في إحدى مكاتباته وتوقيعاته المباركة والموثوقة إلى الشيخ المفيد، في خاتمة الكتاب الثاني، الذي أخرجه إليه، والتي تُعتَبر حقيقة موضوعية وواقعية تقوم على أساس وجوب الاجتماع على طاعة الله تعالى، قلباً وسلوكاً، وتمكين ذلك فعلاً، فقال (عليه السلام):
«ولو أنَّ أشياعنا وفَّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخَّر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقِّ المعرفة، وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلَّا ما يتَّصل بنا ممَّا نكرهه، ولا نُؤثِره منهم، والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلواته على سيِّدنا البشير النذير، محمّد وآله الطاهرين وسلَّم»(٣٦)،(٣٧).
وإنَّ هذا المقطع الأخير من المكاتبة يُقدِّم معطيات عقدية وسلوكية وكونية تنزاح بقيمها من النصِّ إلى الواقع، وبقوَّة لتطالب كلَّ مؤمن، ومنتظِر، بأن يتأمَّل في تلك المعطيات، وهي كالتالي:
١- إنَّ توفيق الله تعالى لأتباع الإمام المهدي (عليه السلام) يتوقَّف على تمكين حالة الاجتماع على طاعة الله تعالى في النيَّة - القلب - والفعل والقصد، والوفاء بعهد اليقين بإمامة الإمام المهدي (عليه السلام)، وانتظاره، والتمهيد لظهوره الشريف وقيامه بالحقِّ.
وإعمال ذلك التمكين وتقريره يسهم في تقريب الفرج، وتعجيل الظهور الشريف.
قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: ٤٦).
٢- إنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يُعلِّل بوجهٍ ما، ويُبيِّن سبب تأخير الظهور الشريف في قوله: «فما يحبسنا عنهم إلَّا ما يتَّصل بنا ممَّا نكرهه، ولا نُؤثِره منهم».
وهنا يبدو جليّاً مدى تأثير ما يرتكبه الناس من المحرَّمات والمكروهات في الحيلولة دون وقوع الفرج الشريف، لما لذلك من دخالة وضعية وتكوينية ووجودية في تأخير التغيير المرتقب، إذ يجب أن يسبق الظهور الشريف التأهُّل النفسي والمجتمعي، جماعةً وأفراداً، صالحين في عقيدتهم وسلوكهم، يسعون إلى إيجاد حالة التمكين للحقِّ والعدل، كي تبقى ممتدَّة في خطواتها إلى وقت الظهور الشريف، وتحقيق القيام المهدوي.
٣- ختم الإمام المهدي (عليه السلام) لكتابه وتوقيعه الشريف بالاستعانة بالله تعالى، والتوكُّل عليه، هو تقديم لحالة تمكين العقيدة بأصلها الأوَّل والمكين، وضرورتها اليقينية في حراك المنتظِرين المؤمنين، ممَّا يُحقِّق الدرجات العالية في الإيمان بالله تعالى، والتكامل في عبادته، وطاعته. وواقعاً أنَّ الاستعانة الحقيقية بالله تعالى، تؤتي أُكُلها فوراً وفعلاً، وقد أطلق هذه الوسيلة الأنبياء والأئمَّة المعصومون (عليهم السلام) من قبل، فأثمرت استعانتهم ثمراً صالحاً.
قال الله تعالى: ﴿قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: ١٢٨).
والاستعانة بالله تعالى هي رديف عبادته وتوحيده سبحانه، ولا بدَّ من الالتفات إلى ذلك، إذ إنَّنا يومياً، ومراراً، نقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الفاتحة: ٥)، في قراءة سورة الحمد الواجبة في الصلاة، وهذه ثنائية عقدية يجب تمكينها في نفوسنا وسلوكنا، وأن لا نغفل عنها.
ويظهر واقعاً أنَّ عدم التمكين هو سبب رئيس من أسباب الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عليه السلام)، وهو الذي يحول دون قيامه وظهوره وتحقيق أغراضه، وقد بيَّن السيِّد الشريف المرتضى ذلك السبب في رسالته في الغيبة، وقال ما نصُّه:
(السبب في الغيبة هو إخافة الظالمين له، ومنعهم يده من التصرُّف فيه فيما جُعِلَ إليه التصرُّف فيه، لأنَّ الإمام إنَّما يُنتَفع به النفع الكلّي إذا كان متمكِّناً مطاعاً، مخلّى بينه وبين أغراضه، ليقود الجنود، ويحارب البغاة، ويقيم الحدود، ويسدُّ الثغور، وينصف المظلوم، وكلُّ ذلك لا يتمُّ إلَّا مع التمكُّن، فإذا حيل بينه وبين أغراضه من ذلك سقط عنه فرض القيام بالإمامة، وإذا خاف على نفسه، وجبت غيبته، والتحرُّز من المضارِّ واجب عقلاً وسمعاً، وقد استتر النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الشِّعْب، وأُخرى في الغار، ولا وجه لذلك إلَّا الخوف والتحرُّز من المضارِّ)(٣٨).
المحور الثالث: المقوم المعرفي العقلي والسلوك العقلائي، وضرورة التعريف بالإمام المهدي (عليه السلام) حاجةً وخياراً:
إنَّ المعرفة العقلية والسلوك العقلائي هما طريقان يجمعان الناس مهما اختلفت ألسنتهم وألوانهم، وأديانهم، وذلك لأنَّ العقل الإنساني هو واحد في نوعه ووظائفه، وله قدراته ومسلَّماته وأحكامه بنحو مستقلٍّ يضمن له اعتباره وحجّيته وقيمته وعطاءه. وبناءً على ذلك ينبغي أن تُبنى معرفتنا بالإمام المهدي (عليه السلام)، على النظر العقلي حتَّى تتشكَّل عندنا طريقة قويمة في التفكير الصحيح، والحراك المستقيم والموقف السديد والفعل الصالح، تسهم في إقامة الدولة المهدوية المرتقبة على ركن شديد في العلم والمعطيات والمناهج والثمرات، وقد جعل الله تعالى سمة العلم والقدرة من مميِّزات أوليائه الصالحين، وأساساً مكيناً في إقامة الحكم والنظام والعدل بين الناس، قال تعالى: ﴿وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: ٢٤٧).
وقد عرض السيِّد محمّد باقر الصدر (رحمه الله) في كتابه الشهير (فلسفتنا) إلى مسألة المعرفة العقلية وأهمّيتها، وقيام الفلسفة الإسلاميَّة وطريقة التفكير الإسلامي عليها بوصفها معرفة بشرية جامعة، ومقياساً أوَّلاً في التفكير الإنساني، وتُمثِّل حجراً أساسياً يقوم عليه العلم عند الناس عامَّة، وذكر:
(إنَّ المذهب العقلي هو المذهب الذي ترتكز عليه الفلسفة الإسلاميَّة وطريقة التفكير الإسلامي بصورة عامَّة، وتنقسم المعارف البشرية في رأي العقليين إلى طائفتين: إحداهما معارف ضرورية أو بديهية، ونقصد بالضرورة هنا أنَّ النفس تضطرُّ إلى الإذعان بقضيَّة معيَّنة من دون أن تطالب بدليل، أو تبرهن على صحَّتها، بل تجد من طبيعتها ضرورة الإيمان بها إيماناً غنيّاً عن كلِّ بيِّنة واثبات، كإيمانها ومعرفتها بالقضايا الآتية: (النفي والإثبات لا يصدقان معاً في شيء واحد)، (الحادث لا يوجد من دون سبب)، (الصفات المتضادَّة لا تنسجم في موضوع واحد)، والطائفة الأُخرى معارف ومعلومات نظرية، فإنَّ عدَّة من القضايا لا تؤمن النفس بصحَّتها إلَّا على ضوء معارف ومعلومات سابقة، فيتوقَّف صدور الحكم منها في تلك القضايا على عملية تفكير واستنباط للحقيقة من حقائق أسبق، فالمذهب العقلي يُوضِّح أنَّ الحجر الأساسي للعلم هو المعلومات العقلية الأوَّلية، وعلى ذلك الأساس تقوم البنيات الفوقية للفكر الانساني التي تُسمّى بالمعلومات الثانوية).
وقدَّم (رحمه الله) معطيات وثمرات تتأتّى من المعرفة العقلية وعلمية التفكير بها، ومنها:
أوَّلاً: أنَّ المقياس الأوَّل للتفكير البشري بصورة عامَّة هو المعارف العقلية الضرورية، فهي الركيزة الأساسية، التي لا يُستغنى عنها في كلِّ مجالٍ، ويجب أن تُقاس صحَّة كلِّ فكرة وخطؤها على ضوئها، ويصبح بموجب ذلك ميدان المعرفة البشرية أوسع من حدود الحسِّ والتجربة، لأنَّه يُجهِّز الفكر البشري بطاقات تتناول ما وراء المادَّة من حقائق وقضايا ويُحقِّق للميتافيزيقا والفلسفة العالية إمكان المعرفة، وعلى عكس ذلك المذهب التجريبي فإنَّه يُبعِد مسائل الميتافيزيقا عن مجال البحث، لأنَّها مسائل لا تخضع للتجربة، ولا يمتدُّ إليها الحسُّ العلمي، فلا يمكن التأكُّد فيها، من نفي أو إثبات ما دامت التجربة هي المقياس الأساسي الوحيد، كما يزعم المذهب التجريبي.
وثانياً: أنَّ السير الفكري في رأي العقليين يتدرَّج من القضايا العامَّة إلى قضايا أخصّ منها، من الكلّيات إلى الجزئيات(٣٩).
وإذا كانت المعرفة العقلية أساساً للتفكير الصحيح وطريقاً قويماً موصِلاً للحقائق والإذعان بها، فهذا يعني أنَّنا قادرون على أن نلتقي مع الآخر المختلف معنا في عقيدته ومنهج معرفته لقياً مقياسية تُبيِّن إمكان أخذ العقيدة الدينية بالعقل تصوّراً وتصديقاً، وأنَّ الأخذ والتلقّي لا ينحصر بمذهب تجريبي أو حسّي صرف أو غيره ممَّا يضيق الخناق على قبول الحقيقة والإيمان بها، وبفعل الجامع البشري في المعرفة العقلية بقسميها البديهي والنظري يمكن الاجتماع على نتيجة واحدة في نهاية المطاف، وهي ضرورة الحاجة إلى المعصوم في قيام الدولة العادلة، ولأنَّ العلم والعقل يتكفّلان بتصحيح الرؤية والتصوّر والحكم عند الشبهات، قال تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (سبأ: ٦).
وإنَّ الروايات المعتبرة والمأثورة في العقيدة المهدوية قدَّمت لنا تصوّراً في المعرفة العقلية والفهم العقدي الثبوتي ما يمكن أن تكون معه الحقائق الدينية الموعودة والمنتظرة والمرتقبة بمنزلة الأمر البديهي إذعاناً وإيماناً، وذلك لأنَّ الحقائق الحقَّة والصادقة تقوم على أساس علمي ومعرفي ثابت، لا بدَّ أن يُدركه الإنسان في نفسه وعقله وإن أنكره بلسانه أو ببرهانه زعماً وزوراً، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (لقمان: ٢٥).
ففي رواية رواها أبو خالد الكابلي عن الإمام عليِّ بن الحسين (عليه السلام) أنَّه قال:
«يا أبا خالد -الكابلي-، إنَّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظِرين لظهوره أفضل [من] أهل كلِّ زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، أُولئك المخلِصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله (عزَّ وجلَّ) سرّاً وجهراً».
وقال عليُّ بن الحسين (عليه السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(٤٠).
ويبتني المقوِّم المعرفي والعقلي على أساس الإيمان بوجوب وجود الإمام المعصوم، ووجوب معرفته، بعد أصل الإيمان بوجود الله تعالى وتوحيده، وبعثته للنبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبقاء عقيدته وشريعته إلى يوم القيامة ديناً قيِّماً وهادياً. وهذا الأساس هو مترابط في المنتظم والبناء مع بقية أُصول الدين من العدل والمعاد ترابطاً مكيناً في الحكمة الإلهيَّة والأغراض العقلائية. وقد أكَّدت الروايات المعتبرة هذا الترابط المنتظم، في رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «لا يكون العبد مؤمناً حتَّى يعرف الله ورسوله والأئمَّة كلَّهم وإمام زمانه ويردَّ إليه ويُسلِّم له»، ثمّ قال: «كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأوَّل؟»(٤١).
ونبَّهت الروايات الصحيحة على هذا المقوِّم المعرفي، وذلك في ما رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي - في الصحيح - عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال: «إنَّ الله تعالى بعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الناس أجمعين رسولاً، وحجَّة الله على خلقه في أرضه، فمن آمن بالله وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رسول الله، واتَّبعه وصدَّقه، فإنَّ معرفة الإمام منّا واجبة عليه، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، ولم يتَّبعه ولم يُصدِّقه ويعرف حقَّهما، فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقَّهما؟»(٤٢).
وقد بيَّن السيِّد الشريف المرتضى علم الهدى (رحمه الله) المقوِّم العقلي لوجوب الإمامة وضرورتها عامَّة، فقال: (أمَّا الذي يدلُّ على وجوب الإمامة في كلِّ زمان، فهو مبنيٌّ على الضرورة، ومركوز في العقول الصحيحة، فإنّا نعلم علماً - لا طريق للشكِّ عليه ولا مجال - أنَّ وجود الرئيس المطاع المهيب مدبِّراً ومتصرِّفاً أردع عن القبيح وأدعى إلى الحسن، وأنَّ التهارج بين الناس والتباغي إمَّا أن يرتفع عند وجود من هذه صفته من الرؤساء أو يقلُّ وينزر، وأنَّ الناس عند الإهمال وفقد الرؤساء وعدم الكبراء يتتابعون في القبيح، وتفسد أحوالهم وينحلُّ نظامهم، وهذا أظهر وأشهر من أن يُدَلَّ عليه، والإشارة فيه كافية)(٤٣).
والمقوِّم المعرفي في سمته العقلية والأخلاقية في التأسيس والتغيير والتأثير يتحقَّق بمرتكزين رئيسين، هما:
الأوَّل: مرتكز الحكمة النظرية:
ويقوم على أساس ما يحوزه الإنسان من علم ومعرفة، كعلمه ومعرفته بوجود الله تعالى، ووجود إمام الزمان (عليه السلام)، ووجوب ظهوره وقيامه بالحقِّ. وتمتاز هذه الحكمة بقابلية التعليم والتعلُّم، وخاصَّة في المعارف الاعتقادية.
الثاني: مرتكز الحكمة العملية:
وهي التي يعرف بها الإنسان ما من شأنه أن يفعله بإرادته، ويرجع أساس ذلك إلى الأخلاق والقيم، والتي يجب أن يتخلَّق بها الإنسان في حياته(٤٤).
وإنَّ مرتكزَي الحكمة النظرية والعملية لهما أثرهما الواقعي في البناء المعرفي والأخلاقي لمنتظم الحراك الإنساني العامّ عقلاً وفكراً وسلوكاً وأخلاقاً، واللتان يتمكَّن معهما الإنسان المؤمن في نفسه ومجتمعه من الإصلاح والتغيير والتمهيد، وبنحو الطريق الموصل إلى المطلوب عقيدةً ومنهاجاً وخاصَّةً في البعد العملي، بعد بسط العدل وتطبيقه. وقد أطلق عليهما الشيخ محمّد مهدي النراقي صاحب كتاب جامع السعادات الشهير اسمَي: العقل النظري (الحكمة النظرية)، والعقل العملي (الحكمة العملية)، والمعبِّر عنه بالفضيلة والرذيلة في اصطلاح علماء الأخلاق، وعرَّفهما بالمعنى الأخلاقي، وذكر ما نصُّه:
(العقل النظري، هو المُدرِك للفضائل والرذائل. اعلم أنَّ كلَّ واحدٍ من العقل العملي والعقل النظري، رئيس مطلق من وجه. أمَّا الأوَّل، فمن حيث إنَّ استعمال جميع القوى حتَّى العاقلة على النحو الأصلح موكول إليه. وأمَّا الثاني، فمن حيث إنَّ السعادة القصوى وغاية الغايات، أعني التحلّي بحقائق الموجودات مستندة إليه. وأيضاً إدراك ما هو الخير والصلاح من شأنه، فهو المرشد والدليل للعقل العملي في تصرُّفاته.
وقيل: إنَّ إدراك فضائل الأعمال ورذائلها من شأن العقل العملي، كما صرَّح به الشيخ في الشفاء بقوله: إنَّ كمال العقل العملي استنباط الآراء الكلّية في الفضائل والرذائل من الأعمال على وجه الابتناء على المشهورات المطابقة في الواقع للبرهان، وتحقيق ذلك البرهان متعلِّق بكمال القوَّة النظرية.
والحقُّ أنَّ مطلق الإدراك والإرشاد إنَّما هو من العقل النظري، فهو بمنزلة المشير الناصح، والعقل العملي بمنزلة المنفِّذ الممضي لإشاراته، وما ينفذ فيه الإشارة، فهو قوَّة الغضب والشهوة)(٤٥).
وللعقلين النظري والعملي معنيان آخران، من وجهة نظر علماء الكلام والعقيدة -المتكلِّمين-، لهما ترابط وثيق في تكامل البناء المعرفي والأخلاقي والشرعي في حراك الإنسان المؤمن، وامتثاله لتكاليفه العقدية والشرعية، وحالما يتحرَّك بهما المكلَّف، عقلاً (نظرياً) وفعلاً وخُلُقاً (عملياً)، فإنَّه سيثبت على الصراط المستقيم، سلوكاً وهدايةً، ووصولاً إلى المطلوب، شرعاً وأخلاقاً.
فثَمَّة ترابط مكين بين الحكمتين النظرية والعملية يدخل في قوام الإنسان الصالح وسعيه لتحقيق أغراضه من إقامة العدل بدولة أو مجتمع أو بالنفس، ويتجلّى هذا الترابط الوثيق في أنَّ (العقل النظري هو العقل المُدرِك للواقعيات، التي ليس لها تأثير في مقام العمل، إلَّا بتوسُّط مقدّمة أُخرى، كإدراك العقل لوجود الله تعالى، فإنَّ هذا الإدراك لا يستتبع أثراً عملياً دون توسُّط مقدّمة أُخرى كإدراك حقِّ المولوية (الحقيقية)، وأنَّ الله تعالى هو المولى الحقيق بالطاعة، وحينئذٍ يكون إدراك العقل لوجود الله تعالى مستتبعاً لأثر عملي. والمراد من العقل العملي هو المُدرِك لما ينبغي فعله وإيقاعه أو تركه، والتحفُّظ عن إيقاعه، فالعدل مثلاً ممَّا يُدرِك العقل حسنه وانبغاء فعله، والظلم ممَّا يُدرِك العقل قبحه وانبغاء تركه. وهذا ما يُعبَّر عنه أنَّ حسن العدل وقبح الظلم من مُدرَكات العقل العملي، وذلك لأنَّ المميِّز للعقل العملي هو نوع المُدرَك، فلمَّا كان المُدرَك من قبيل ما ينبغي فعله أو تركه فهذا يعني أنَّه مُدرَك بالعقل العملي)(٤٦).
وأمَّا مقوِّم السلوك العقلائي، فهو الآخر يُمثِّل ميلاً عامّاً عملياً ومشروعاً عند كلِّ ملَّة ونحلة، مسلمين وغير مسلمين، في ضرورة أن تقوم الدولة العادلة على أُسس الصلاح والعدل والحقِّ والفضيلة، وهذه (قضايا اشتهرت بين الناس، وذاع التصديق بها عند جميع العقلاء، أو أكثرهم، أو طائفة خاصَّة، وتُعرَف بالمشهورات بالمعنى الأخصّ أو المشهورات الصرفة، وهي أحقّ بصدق وصف الشهرة عليها، لأنَّها القضايا التي لا عمدة لها في التصديق إلَّا الشهرة، وعموم الاعتراف بها، كحسن العدل، وقبح الظلم)(٤٧).
وممَّا تقدَّم يتبيَّن أنَّ التعريف بالإمام المهدي (عليه السلام) ووجوب وجوده بوصفه إمام الزمان والإنسان، وحتمية ظهوره وقيامه بالحقِّ دولةً ومنهجاً وسبيلاً، يتوقَّف على تحقُّق المقوِّمات البنيوية في سمتها العقدية المعرفية والعقلية والعقلائية في نفس المعتقِد المنتظِر وغير المعتقِد، وتعزيز بُعد الحاجة الوجودية إليه اعتقاداً وخياراً، وأنَّ غيبته لا توجب الاستغناء عنه، وقد ذكر شيخ الطائفة المفيد (رحمه الله) (بأنَّ الحاجة إلى الإمام - المهدي (عليه السلام) - مستمرَّة ولو كان غائباً، فعدم الحضور وعدم الاتِّصال به لا يوجب الاستغناء عن وجوده، كما أنَّ عدم حضور الدواء عند المريض لا يُؤدّي إلى استغناء المريض عنه، ومع عدم حصول الدليل لا يستغني المتحيِّر عنه، بل هو بحاجة إليه وإن كان مفقوداً له، ثمّ لو التُزِمَ بالاستغناء عند الغيبة للزم عدم الحاجة إلى الأنبياء عند غيباتهم، كغيبة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شِعب أبي طالب ثلاث سنين، وفي الغار عِدَّة أيام، وغيبة موسى النبيِّ (عليه السلام) في الميقات، وغيبة يونس (عليه السلام) في بطن الحوت، وهذا ممَّا لا يلتزم به مسلم، بل ولا أيُّ شخص ملّي يعتقد برسالة سماوية)(٤٨).
وإنَّ الحاجة الوجودية إلى الإمام المعصوم -الإمام المهدي (عليه السلام)- إنَّما تجب عقلاً، لأنَّ وجوده (عليه السلام) هو ضروري ولازم في نظامَي التكوين والتشريع معاً، إذ (الالتزام بوجود من لا بدَّ من عصمته تبليغاً للأحكام الواقعية الحقيقية التزام بوجود الإمام، دون الالتزام بوجود مجرَّد مبلِّغ للأحكام وإن كانت تعبدية، ومن البيِّن أنَّ اللازم قيامه مقام النبيِّ، من كان شأنه شأن النبيِّ في تبليغ الأحكام الواقعية، لأنَّ إيصال المصالح الواقعية الباعثة على جعل الأحكام على طبقها يستدعي إرسال الرسول لتبليغها، كذلك يقتضي نصب من يُبلِّغها بعد الرسول، وإذ العارف بالمعارف الإلهيَّة لا يكون إلَّا ذا نفس قدسية متَّصلة بالمبادئ العالية، ولا يُعرَف مثله إلَّا بالنصِّ عليه من الله تعالى، أو من الرسول، أو إمام مثله، فيجب نصبه على الله تعالى، على لسان نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم). ومن الواضح أنَّ الغاية المقصودة من خلق الخلق، بل من تشريع الشرائع على معرفة المعارف الربوبية، والتخلُّق بالأخلاق الإلهيَّة، فلا محالة يجب وجود مثل هذا العارف الإلهي المتخلِّق بأخلاق الله تعالى، بل الأعمال أيضاً مقدّمة للأحوال، وهي مقدّمة للمعارف، ولذا ورد عنهم: «لولانا ما عُرِفَ الله، ولولانا ما عُبِدَ الله»(٤٩)،(٥٠).
الهوامش:
(١) بحار الأنوار/ المجلسي ٢٤: ١٦٤/ ط ٣/ ١٤٠٣هـ؛ تأويل الآيات/ شرف الدين الحسيني ٢: ٥٧١.
(٢) الغيبة/ الطوسي: ٤٥٧/ ط ١/ ١٤١١هـ/ قم.
(٣) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: سألته عن القائم (عليه السلام)، فقال: «كذب الوقّاتون، إنّا أهل بيت لا نُوقِّت»، ثمّ قال: «أبى الله إلَّا أن يُخلِف وقت الموقِّتين». (الغيبة/ النعماني: ٣٠٥/ ط ١/ ١٤٢٢هـ.
(٤) روي عن أمير المؤمنين الإمام عليٍّ (عليه السلام): «انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله، فإنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله (عزَّ وجلَّ) انتظار الفرج»، وقال (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: ١٢٨): «لا تعاجلوا الأمر قبل بلوغه فتندموا، ولا يطولنَّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم»، وقال (عليه السلام): «الآخذ بأمرنا معنا غداً في حظيرة القدس، والمنتظر لأمرنا كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله». (بحار الأنوار/ المجلسي ٥٢: ١٢٣/ ط ٣/ ١٤٠٣هـ).
(٥) الكافي/ الكليني ١: ٣٤١/ ط ٣/ ١٣٨٨هـ/ طهران.
(٦) تُؤكِّد الروايات أنَّ السفياني بعد معركة قرقيسيا يُوجِّه جيشه إلى العراق، فعن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: «فيلتقي السفياني بالأبقع فيقتتلون، فيقتله السفياني ومن معه، ثمّ يقتل الأصهب، ثمّ لا يكون له همَّة إلَّا الإقبال نحو العراق، ويمرُّ جيشه بقرقيسيا فيقتتلون بها، فيُقتَل بها من الجبّارين مائة ألف، ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة وعدَّتهم سبعون ألفاً». انظر: الغيبة/ النعماني: ٢٨٩/ باب ١٤/ ح ٦٧.
(٧) روي عن الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) أنَّه قال: «يا أبا القاسم (الراوي)، إنَّ القائم منّا هو المهدي، الذي يجب أن يُنتَظر في غيبته ويُطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمّداً بالنبوَّة وخصَّنا بالإمامة، إنَّه لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يخرج فيه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، وإنَّ الله تبارك وتعالى ليُصلِح له أمره في ليلة، كما أصلح أمر كليمه موسى (عليه السلام)، إذ ذهب ليقتبس لأهله ناراً فرجع وهو نبيٌّ». (كفاية الأثر/ الخزّاز القمّي: ٢٨١/ ١٤٠١هـ/ قم).
(٨) نهج البلاغة/ الشيخ محمّد عبده ١: ٣٦/ ط ١/ بيروت.
(٩) «لولا حضور الحاضر»، قيل: المراد بحضور الحاضر من حضر لبيعة الإمام بالخلافة من المهاجرين والأنصار، وقيل: بل المراد حلول الوقت الذي وقَّته رسول الله لقتال الإمام من بعده، وفي رأينا أنَّ المراد بحضور الحاضر الوضع الحاضر، وهو الفساد الذي كان سائداً ومنتشراً آنذاك. «وقيام الحجَّة بوجود الناصر» أي لا حجَّة ولا عذر عند الله تعالى لمن يسكت عن الفساد والضلال، إذا وجد من يناصره ويؤازره، والإمام (عليه السلام) بعد أن رأى الفساد في الأرض، وبعد أن عرضت عليه الخلافة أصبح من واجبه أن يقبل وينهض، ويردع المفسدين، ويرعى مصالح المسلمين. «وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظَّة ظالم، ولا سغب مظلوم»، بعد أن قال الإمام (عليه السلام): إنَّ إنكار المنكر حتم وواجب، بخاصَّة إذا وجد المنكر المناصر والمؤازر، بعد هذا أشار إلى الدليل القاطع على هذا الوجوب واللزوم، وهو أنَّ الله سبحانه قد أخذ على العلماء عهداً أن يكونوا للمظلوم عوناً، وعلى الظالم حرباً...، ومعنى كظَّة الظالم تخمته وبشمه، وكنّى بها الإمام عن تماديه في العتوِّ والطغيان، ومعنى سغب المظلوم جوعه وبؤسه». (في ظلال نهج البلاغة/ محمّد جواد مغنية ١: ٩٨/ ط ١/ ١٤٢٧هـ).
(١٠) وهي تعبير عن الحالة السياسية والاجتماعية للأُمَّة والواقع الدولي المعاصر، ومدى قدرة الأُمَّة في إمكاناتها الذاتية واستعدادها النفسي.
(١١) ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: ٢١٤).
(١٢) بحث حول المهدي/ السيِّد محمّد باقر الصدر: ١١٧/ ط ١/ ١٤١٧هـ/ مركز الغدير للدراسات الإسلاميَّة.
(١٣) كمال الدين وتمام النعمة/ الصدوق: ٣٧٨/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ ١٤٠٥هـ/ قم.
(١٤) ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ (النور: ٥٥).
(١٥) كمال الدين وتمام النعمة/ الصدوق: ٣٢٠/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ ١٤٠٥هـ/ قم.
(١٦) الإيمان مطلقاً بحسب حذف متعلِّقه وصوره اصطلاحاً هو الإذعان والتصديق والتسليم قلباً وعقلاً بأُصول الدين والاعتقاد الحقِّ، بدءاً بالإيمان بوجود الخالق - الله تعالى -، وتوحيده والإيمان بنبوَّة النبيِّ الخاتم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإمامة الأئمَّة المعصومين نصباً ونصّاً، والاعتقاد بالعدل الإلهي، والمعاد يوم القيامة.
ويتناول هذا المحور الأوَّل علاجاً جوهر الإنسان وأساسه البنيوي نفسياً وعقدياً وفكرياً، إذ إنَّ أغلب الإشكاليات التي تواجهه إنَّما تكون بسبب ضعف الإيمان أو قلَّته إن لم يكن عدمه، وهذا ما يجعل الإنسان يعاني من حالات الشكِّ والتشكيك، أو ربَّما الإنكار أو حتَّى الكفر أو الجحود.
(١٧) بناء الدولة (النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين)/ فرانسيس فوكوياما: ١٩٥ و١٩٦، نقله إلى العربية: مجاب الإمام، المملكة العربية السعودية.
(١٨) ورد هذا المعنى في الرواية: «إذا قام القائم (عليه السلام) حكم بالعدل، وارتفع في أيّامه الجور، وأمنت به السُّبُل، وأخرجت الأرض بركاتها، ورُدَّ كلُّ حقٍّ إلى أهله، ولم يبقَ أهل دين حتَّى يُظهِروا الإسلام ويعترفوا بالإيمان، أمَا سمعت الله تعالى يقول: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران: ٨٣]، وحكم بين الناس بحكم داود وحكم محمّد (عليهما السلام)، فحينئذٍ تُظهِر الأرض كنوزها وتُبدي بركاتها، فلا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعاً لصدقته ولا لبرِّه، لشمول الغنى جميع المؤمنين». (الإرشاد/ المفيد ٢: ٣٨٥/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/ بيروت).
(١٩) الغيبة/ الطوسي: ٤٣٧/ ط ١/ ١٤١١هـ/ قم.
(٢٠) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد/ العلَّامة الحلّي: ٤٣٦/ ط ١٥/ ١٤٣٥هـ/ قم.
(٢١) في إشارة منه وتبنّي لمذهبه الجديد بعد سقوط الشرعية الدينية كأساس للحكم في أُوروبا، فأصبح من الضروري البحث عن شرعية بديلة يقوم عليها الحكم السياسي، وتتحدَّد على أساسها مسؤوليات الحاكم والمحكوم، والواجبات والحقوق المترتِّبة على كلٍّ منهم، لذلك ظهر العديد من المفكِّرين والفلاسفة الذين عملوا على إيجاد ميثاق شرعي جديد يحكم العلاقة بين الطرفين، وكان من بين هؤلاء المفكِّرين الذين سعوا لإيجاد هذا الميثاق جان جاك روسو، الذي طرح فكرة العقد الاجتماعي إلى جانب مجموعة أُخرى من المفكِّرين التنويريين أمثال: توماس هوبز، وجون لوك.
(٢٢) العقد الاجتماعي/ جان جاك روسو/ ترجمة عادل زعيتر/ ط القاهرة/ مؤسَّسة هنداوي للتعليم والثقافة/ ٢٠١٢م.
(٢٣) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل/ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ٢: ٩١/ طبعة جديدة منقَّحة.
(٢٤) التاريخ وحركة التقدُّم البشري ونظرة الإسلام/ الشيخ محمّد مهدي شمس الدين: ٩٦/ ط مؤسَّسة نهج البلاغة.
(٢٥) الكافي/ الكليني ١: ٣٣٩/ ط ٣/ ١٣٨٨هـ/ طهران.
(٢٦) (ومن هنا يظهر أنَّ الآية تتضمَّن تهديداً جدّياً لا تخويفاً صورياً). (الميزان في تفسير القرآن/ السيِّد الطباطبائي ٧: ٣٨٨/ منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية بقم المقدَّسة).
(٢٧) كمال الدين وتمام النعمة/ الصدوق: ٣٠/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ ١٤٠٥هـ/ قم.
(٢٨) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل/ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ٤: ٥٢٧/ طبعة جديدة منقَّحة.
(٢٩) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل/ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ١١: ١٤٩/ طبعة جديدة منقَّحة.
(٣٠) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في معنى قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ (النور: ٥٥)، قال: «نزلت في القائم وأصحابه». (الغيبة/ النعماني: ٢٤٧/ ط ١/ ١٤٢٢هـ/ قم).
(٣١) (وقد وردت في الآية (٥٥) من سورة النور نقطة مهمَّة جديرة بالانتباه، فالآية تقول: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ (النور: ٥٥)، والله سبحانه وتعالى يقطع في هذه الآية وعداً على نفسه بأن يُرسِّخ دعائم الدين، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض). انظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل/ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ٣: ٦٠٠/ طبعة جديدة منقَّحة.
(٣٢) القرآن في الإسلام/ السيِّد الطباطبائي: ٢٠/ تعريب: السيِّد أحمد الحسيني/ مكتبة أهل البيت (عليهم السلام).
(٣٣) (وهذه الأخبار ممَّا يثبت طرقها وصحَّتها عند السُّنَّة، وكذلك ترويها الشيعة على السواء، وهذا هو الإجماع من كافَّة أهل الإسلام). (بحار الأنوار/ المجلسي ٥١: ٨٩/ ط ١٤٠٣هـ/ بيروت).
(٣٤) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف/ السيِّد عليّ بن طاووس الحلّي: ١٨٢/ ط ١٣٩٩هـ/ قم.
(٣٥) التشريف بالمنن في التعريف بالفتن/ السيِّد عليّ بن طاووس: ١٤٢/ ط ١/ نشر مؤسَّسة صاحب الأمر (عليه السلام) ١٤١٦هـ/ أصفهان.
(٣٦) تهذيب الأحكام/ الشيخ الطوسي ١: ٤٠/ نشر دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
(٣٧) وقد أخرج هذا الكتاب المحدِّث الثقة أبو منصور أحمد بن عليِّ بن أبي طالب الطبرسي (رحمه الله) في كتاب الاحتجاج ٢: ٣٢٣. هذا الكتاب الثاني المبارك الصادر من الناحية المقدَّسة (الإمام المهدي (عليه السلام)). والشيخ الطبرسي هو من العلماء الثقات ومحدِّثي أوائل القرن السادس الهجري، ويُعتَقد أنَّ وفاته في سنة (٦٢٠هـ). انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة/ المحقِّق أغا بزرك الطهراني ١: ٢٨١. وقد ذكر هذا الكتاب أيضاً جمع من ثقات أعلام الأُمَّة كالشيخ المحدِّث المجلسي في موسوعته بحار الأنوار ٥٣: ١٧٧. والشيخ الحائري في كتابه إلزام الناصب في إثبات الحجَّة الغائب ١: ٤٠٩، والسيِّد بحر العلوم في كتابه الفوائد الرجالية ١: ٣١٩. ومن المعلوم أنَّ هذا التوقيع المبارك تحكيه وترويه كافَّة الشيعة وتتلقّاه بالقبول، وقد حكى ذلك العلَّامة المحدِّث الشيخ يوسف البحراني (طاب ثراه) في كتابه لؤلؤة البحرين: ٣٦٧/ ط ١٣٨٦هـ/ النجف الأشرف. عن المحقِّق النقّاد يحيى بن بطريق الحلّي (رحمه الله) في رسالته نهج العلوم إلى نفي المعدوم. وورد هذا الكتاب الثاني من قِبَل الإمام المهدي (عليه السلام) يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجَّة، سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وقبل وفاة الشيخ المفيد (رحمه الله تعالى) في سنة ٤١٣ هجري.
وذكر موصله أنَّه تحمَّله من ناحية متَّصلة بالحجاز، نسخته: «للأخ السديد والوليِّ الرشيد الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان، هذا كتابنا إليك أيّها الأخ الوليُّ، والمخلِص في ودِّنا الصفي، والناصر لنا الوفي، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به ولا تُظهِر على خطِّنا الذي سطرناه بما له ضمنّاه أحداً، وأدِّ ما فيه إلى من تسكن إليه، وأوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين. وهذه نسخته: من عبد الله المرابط في سبيله إلى ملهم الحقِّ ودليله...» الخ.
(٣٨) رسائل الشريف المرتضى/ السيِّد الشريف المرتضى ٢: ٢٩٥/ منشورات دار القرآن الكريم/ قم.
(٣٩) فلسفتنا/ السيِّد محمّد باقر الصدر: ٦٣/ ط ٣/ ١٤٣٥هـ/ دار الكتاب الإسلامي.
(٤٠) كمال الدين وتمام النعمة/ الصدوق: ٣٢٠، ط ١٤٠٥هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم؛ وفي البحار ٥٣: ١٢٢/ باب ٢٢/ ح ٤، فيه بدون [من].
(٤١) الكافي/ الكليني ١: ١٨٠/ ط ٣/ ١٣٨٨هـ/ طهران.
(٤٢) عوائد الأيّام/ المحقِّق النراقي: ٢٨٥/ ط ١/ ١٤١٧هـ/ مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي. والرواية في الكافي للكليني ١: ١٨٠ و١٨١/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح ٣.
(٤٣) المقنع في الغيبة/ السيِّد الشريف المرتضى: ٣٦/ ط ١/ ١٤١٦هـ/ قم.
(٤٤) انظر: رسالة في التحسين والتقبيح/ الشيخ جعفر السبحاني: ٦.
(٤٥) جامع السعادات/ محمّد مهدي النراقي ١: ٧٥/ تحقيق: السيِّد محمّد كلانتر/ ط النجف الأشرف.
(٤٦) المعجم الأُصولي/ محمّد صنقور عليّ البحراني ٢: ٣٢٦ و٣٢٧/ منشورات نقش.
(٤٧) المنطق/ الشيخ محمّد رضا المظفَّر ٣: ٢٧٠/ ط ١٢/ قم.
(٤٨) رسائل في الغيبة/ الشيخ المفيد ١: ٧/ تحقيق: علاء آل جعفر.
(٤٩) بحار الأنوار/ المجلسي ٢٦: ١٠٧.
(٥٠) نهاية الدراية في شرح الكفاية/ الشيخ الأصفهاني ١: ٣٨٥/ ط ١/ قم. ولفظ «لولانا ما عُبِدَ الله» جاء في ذيل رواية في الكافي ١: ١٤٤/ باب النوادر/ ح ٥؛ ولفظ «لولانا ما عُرِفَ الله» جاء في ذيل رواية في كتاب مسائل عليِّ بن جعفر: ٣٢٠/ ح ٨٠١؛ وكذا في بصائر الدرجات: ٨١.