الشواهد القرآنية في التوقيعات المهدوية
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
مقدمة:
لا يختلف اثنان من المسلمين في مرجعية القرآن الكريم العلمية والدينية، وفي كونه الدليل القاطع عند الخلاف، وفي أنه المرجع لتمييز الحجة عن غير الحجة من الأخبار، بل وفي تقديم حجة على أخرى فيما لو تعارضتا وكانت إحداهما موافقة له دون الأخرى، على تفصيل مذكور في محله في علم أصول الفقه.
ولقد حظي القرآن الكريم بالاهتمام البالغ حفظاً وقراءةً وبحثاً ومتابعة لمفاهيمه وتأسيساً على قوانينه وتفريعاً على قواعده، الأمر الذي أدّى إلى تأسيس علوم القرآن المختلفة، والتي تستقي معارفها من آياته الكريمة.
الاستشهاد بآياته الكريمة، كأمثلة لقواعد، أو شواهد صدق، أو مؤيدات فكرة، هو الآخر كان له حضور واضح في مختلف العلوم، ففضلاً عن العلوم الدينية - كالفقه وأصوله، والكلام والتفسير وغيرها - فإن العلوم الأخرى أيضاً أخذت تغترف من بحره اللجّي، خصوصاً علوم اللغة العربية - نحواً وصرفاً وبلاغةً وبياناً -.
هذا، وأن المسلم إذا أراد أن يبين مطلباً دينياً، فإن من أهم ما يستند إليه لتقوية فكرته، وللاستدلال على دعواه، هي الآيات القرآنية الكريمة، خصوصاً وأن القرآن الكريم قطعي الصدور في جميع آياته، فلا يبقى على الباحث إلّا أن يجد من الآيات ما يدل على مطلوبه - بالظهور أو النص والصراحة - ليستدل على ما يريد إثباته.
من هنا، كان من أهم مقومات البحوث الدينية والإنسانية عموماً هو استنادها إلى آيات القرآن الكريم، بشرط الدقة في اختيار الآيات الكريمة والبيان المقنع والجلي في مورد الاستشهاد أو الاستدلال بالآية.
إن الاستدلال بآية قرآنية على مطلب، هو ما يحتاج إليه أي باحث في العلوم الدينية، وهذا لا يمنع من وجود أدلة أخرى من غير القرآن الكريم، لكنه لو وجد دليلاً قرآنياً، فإنه سيكون صاحب حجة قوية بلا شك.
كل ما تقدم صحيح.
ونلفت النظر إلى أن هذه القيمة المعرفية الضخمة للقرآن، كانت باعتبار أنه معصوم، بمعنى أن ما جاء فيه هو مطابق للواقع تماماً، ولا يحتمل فيه غير ذلك، وهو ما صرَّح به القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ (فصلت: ٤١-٤٢).
ولا غرابة، حيث إنه كلام الرب الجليل لفظاً ومعنى.
فقوة حجته إذن جاءت على خلفية كونه معصوماً، لأنه صادر عن الباري جل وعلا.
وهذه النكتة العلمية سيّالة، بمعنى أنها غير خاصة بالقرآن الكريم، بل هي تشمل كلام أي معصوم - إنْ ثبتت عصمته طبعاً - فمادام الشخص معصوماً فكلامه يمثل الواقع نفسه، فلا يقبل الخطأ، ويكون هو والبديهي سواء.
من هنا، كانت ألفاظ النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حجة مطلقاً، بل وأفعاله وتقريراته، لأنه كان معصوماً، ولذلك تأسست على هذه العصمة ضرورة الأخذ بجميع ما يأتي به (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وطاعته المطلقة وعدم جواز الالتواء ولا الاعتراض عليه بحال.
قال تعالى: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ (الحشر: ٧).
وقال تعالى: ﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾ (الأحزاب: ٣٦).
وعلى نفس المنوال يلزم التعامل مع ما يثبت صدوره عن الأئمة (عليهم السلام) إذ ثبت بالدليل القطعي أنهم معصومون، فيثبت أن ما يصدر عنهم - من قول أو فعل أو تقرير - يمثل عين الواقع، ولا نحتاج إلى دليل آخر غير محض قولهم.
ورغم ذلك، نجد أن الأئمة (عليهم السلام) عادةً ما يستشهدون بالآيات القرآنية على ما يأتون به، فمثلاً روي عَنْ أَبِي الجَارُودِ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَاسْأَلُونِي مِنْ كِتَابِ الله»، ثُمَّ قَالَ فِي بَعْضِ حَدِيثِه: «إِنَّ رَسُولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نَهَى عَنِ القِيلِ والقَالِ وفَسَادِ المَالِ وكَثْرَةِ السُّؤَالِ». فَقِيلَ لَه: يَا بْنَ رَسُولِ الله، أَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ الله؟ قَالَ: «إِنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: ١١٤]، وقَالَ: ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً﴾ [النساء: ٥]، وقَالَ: ﴿لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: ١٠١]»(١).
وعَنْ عَبْدِ الأَعْلَى مَوْلَى آلِ سَامٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): عَثَرْتُ فَانْقَطَعَ ظُفُرِي فَجَعَلْتُ عَلَى إِصْبَعِي مَرَارَةً، فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِالوُضُوءِ؟ قَالَ: «يُعْرَفُ هَذَا وأَشْبَاهُه مِنْ كِتَابِ الله (عزَّ وجلَّ): ﴿ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، امْسَحْ عَلَيْه»(٢).
من هنا، قد يرد في الذهن تساؤل عن حاجة المعصوم (عليه السلام) للاستدلال أو الاستشهاد على كلامه ببعض الآيات القرآنية، رغم أن عصمته كافية لإثبات قوله وأنه هو الواقع.
إن تبرير الاستشهاد بالآيات القرآنية من قِبَل المعصوم (عليه السلام)، لعله للتالي:
١ - ليس هناك تنافٍ بين كون قول المعصوم (عليه السلام) يمثل الواقع، وبين الاستشهاد عليه بآية قرآنية، فلا مانع من الجمع. بمعنى أنه قد يكون استشهادهم (عليهم السلام) بالآيات القرآنية هو لبيان أن المنبع الذي يستقون علمهم منه والمنبع الذي يرجع إليه القرآن هو منبع واحد، وهو منبع الوحي، الذي يكشف الواقع، ولا يبقى معه أي عذر للمخالفة.
٢ - منهجياً: فإن تراكم الأدلة وتنوعها ينفع في زيادة اليقين والوصول به إلى حالة الاطمئنان، بحيث تركن النفس إلى مؤداه أكثر مما لو تم الاستدلال عليه بدليل واحد.
٣ - إن الاستشهاد بالآيات ينفع في إثبات دعوى المعصوم لدى من لا يؤمن بعصمته من أبناء المذاهب الأخرى، والمعصوم هو في مقام إثبات الواقع لجميع من يطلبه، لا لخصوص شيعته والمؤمنين بعصمته.
٤ - ولعل الاستشهاد بالآيات يأتي في سياق تعليم الشيعة المنهجية العلمية الرصينة لاستنباط الأحكام الشرعية والمعارف الدينية من القرآن الكريم، كما رأينا هذا واضحاً في رواية أبي الجارود ورواية عبد الأعلى المتقدمتين.
٥ - في بعض الأحيان، يحتاج العالم إلى إبراز زوايا مختلفة من علمه ليثبت للطرف الآخر سعته المعرفية وقدرته على الوصول إلى مطلوبه عبر عدة مناهج معرفية، الأمر الذي يقطع الأعذار على الآخر لو أراد أن يخالف العالم في ما انتهى إليه.
ولعل المعصوم (عليه السلام) يستشهد أحياناً كثيرة بالآيات القرآنية من هذا الباب، خصوصاً أمام منكري إمامتهم وعصمتهم.
٦- فضلاً عن أن تراتبية الحجج - وكون القرآن الكريم هو المنبع الأول لها ثم سنة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - تقتضي ذكر الدليل القرآني أو الاستشهاد به ولو كان المتحدث معصوماً، ولا يُقلّل هذا من شأن المعصوم، بل على العكس، هو يُقوّي من مكانته العلمية والروحية في النفوس، كونه يتحدث وفق المنهج الإسلامي في ما يتعلق بتراتبية الحجج.
لهذه الأسباب وغيرها، نجد المعصومين (عليهم السلام) يؤيدون أقوالهم بآيات من القرآن الكريم.
وفي نفس السياق، وجدنا أن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يستشهد ببعض الآيات القرآنية الكريمة عند الاستدلال على كونه هو الإمام الثاني عشر من الأئمة الذين نصَّ عليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو لتكذيب من يدَّعي الإمامة دونه، أو لتأييد بيانه لحكم شرعي، وأمثال هذه الجهات.
في هذا البحث محاولة لتسليط الضوء على الآيات القرآنية التي تم الاستشهاد بها منه (عجَّل الله فرجه) في توقيعاته ومكاتباته، وقد وجدنا (تسع) آيات كريمة جاءت للاستدلال بها أو الاستشهاد بها على مطلب عقائدي أو فقهي أو سلوكي، وسيتم بيان المعنى العام للآية أولاً، ثم بيان محل الاستشهاد بها من التوقيع الشريف.
الآية الأولى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء ٥٩]:
هناك موردان للاستشهاد بهذه الآية، وهما:
المورد الأول: التّوقيع الّذي خرج فيمن ارتاب فيه (عجَّل الله فرجه) عن الشّيخ الموثّق أبي عمر العامريّ (رحمه الله)(٣):
نص التوقيع الشريف:
عَن الشَّيْخ المُوَثَّقِ أبِي عُمَرَ العَامِريَّ(٤) رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ قَالَ: تَشَاجَرَ ابْنُ أبِي غَانِم القَزْوِينيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشيعَةِ فِي الخَلَفِ فَذَكَرَ ابْنُ أبِي غَانِم أنَّ أبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) مَضَى وَلاَ خَلَفَ لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَتَبُوا فِي ذَلِكَ كِتَاباً وَأنْفَذُوهُ إِلَى النَّاحِيَةِ، وَأعْلَمُوا بِمَا تَشَاجَرُوا فِيهِ فَوَرَدَ جَوَابُ كِتَابِهِمْ بِخَطّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ:
«بِسْم اللهِ الرَّحْمن الرَّحِيم عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الفِتَن، وَوَهَبَ لَنَا وَلَكُمْ رُوحَ اليَقِين، وَأجَارَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنْ سُوءِ المُنْقَلَبِ، إِنَّهُ أُنْهِيَ إِلَيَّ ارْتِيَابُ جَمَاعَةٍ مِنْكُمْ فِي الدَّين، وَمَا دَخَلَهُمْ مِنَ الشَّكِّ وَالحَيْرَةِ فِي وُلاَةِ أمْرهِمْ، فَغَمَّنَا ذَلِكَ لَكُمْ لاَ لَنَا وَسَأوْنَا(٥) فِيكُمْ لاَ فِينَا، لأنَّ اللهَ مَعَنَا فَلاَ فَاقَةَ بِنَا إِلَى غَيْرهِ، وَالحَقُّ مَعَنَا فَلَنْ يُوحِشَنَا مَنْ قَعَدَ عَنَّا، وَنَحْنُ صَنَائِعُ رَبَّنَا، وَالخَلْقُ بَعْدَ صَنَائِعِنَا.
يَا هَؤُلاَءِ مَا لَكُمْ فِي الرَّيْبِ تَتَرَدَّدُونَ وَفِي الحَيْرَةِ تَنْعَكِسُونَ(٦) أوَمَا سَمِعْتُمُ اللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأْمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩]؟ أوَمَا عَلِمْتُمْ مَا جَاءَتْ بِهِ الآثَارُ مِمَّا يَكُونُ وَيَحْدُثُ فِي أئِمَّتِكُمْ عَلَى المَاضِينَ وَالبَاقِينَ مِنْهُمْ (عليهم السلام)؟ أوَمَا رَأيْتُمْ كَيْفَ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَعَاقِلَ تَأوُونَ إِلَيْهَا، وَأعْلاَماً تَهْتَدُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أنْ ظَهَرَ المَاضِي (عليه السلام) كُلَّمَا غَابَ عَلَمٌ بَدَا عَلَمٌ، وَإِذَا أفَلَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ...»(٧).
١ - المعنى العام للآية:
أ - الآية تُخاطب المؤمنين بأنه يجب عليهم أن يُطيعوا الله تعالى، ويجب عليهم أن يُطيعوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأولي الأمر أيضاً، فإن كلمة (أَطِيعُوا) فعل الامر، والأمر ظاهر في الوجوب.
ب - الآية فيها دلالة على عصمة من تجب طاعتهم، إذ الأمر بالطاعة كان مطلقاً فيها، ولم يُقيد بقيد، والإطلاق يعني لزوم الطاعة في كل شيء، ولا وجه لهذا الاتباع المطلق إلّا مع افتراض العصمة، وإلّا لزم تغرير العبد بالمعصية فيما لو أطاع غير المعصوم وصادف أنه أمر بغير ما يريده الله تعالى.
ج - أولوا الأمر في الآية هم أهل البيت (عليهم السلام)، للروايات العديدة، ومنها ما روي عن جابر بن يزيد الجعفي أنّه قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: لما أنزل الله (عزَّ وجلَّ) على نبيّه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٥٩] قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «هم خلفائي يا جابر، وأئمّة المسلمين [من] بعدي؛ أوّلهم علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن والحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمّد بن علي المعروف في التوراة بالباقر، وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمد بن علي، ثمّ علي بن محمد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ سميّي وكنيّي حجّة الله في أرضه، وبقيّته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها...»(٨).
٢ - وجه الاستشهاد بالآية في التوقيع:
الآية جاءت في معرض الجواب عن من ارتاب في الخلف بعد الإمام العسكري (عليه السلام)، إذ ورد في صدر التوقيع: عن الشّيخ الموثّق أبي عمر العامريّ (رحمه الله) قال: (تشاجر ابن أبي غانم القزوينيّ وجماعة من الشّيعة في الخلف فذكر ابن أبي غانم أنّ أبا محمّد (عليه السلام) مضى ولا خلف له ثمّ إنّهم كتبوا في ذلك كتابا وأنفذوه إلى النّاحية وأعلموا بما تشاجروا فيه).
وفي مقام دفع هذا التشكيك، وأنه يجب على المؤمنين أن يكونوا على يقين من أمرهم، استهل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) توقيعه بعتاب لهم بأنهم ابتعدوا عن اليقين وترددوا في الشك والريب، فقال: «إنّه أنهي إليَّ ارتياب جماعة منكم في الدّين وما دخلهم من الشّكّ والحيرة في ولاة أمرهم، فغمّنا ذلك لكم لا لنا وسأونا فيكم لا فينا».
ثم بيَّن أنه لا ينبغي الارتياب في إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، لما كانوا عليه من مؤهلات افتقدها غيرهم، وأنهم مؤيدون من الله تعالى بتأييد خاص يجعلهم في غنى عما سواهم، فقال (عليه السلام): «لأنّ الله معنا فلا فاقة بنا إلى غيره والحقّ معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا ونحن صنائع ربّنا والخلق بعد صنائعنا».
وبعد هذا، أخذ يُبين لهم أنه هو الخلف، وليُقرب الفكرة لهم، ذكّرهم بقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.
وهنا قد يُتساءل فيُقال:
إن أصل التوقيع كان ردّاً على من شكّك في ولادته (عجَّل الله فرجه)، وكان الجواب المناسب لهذا التشكيك هو إثبات الولادة، فما هي علاقة لزوم الطاعة بإثبات الولادة، بعد وضوح أن الطاعة متأخرة رتبة ووجوداً عن أصل الولادة؟
الجواب:
تتَّضح كيفية المناسبة بالتالي:
كأن الإمام (عجَّل الله فرجه) يسألهم: مَن أولوا الأمر الذين يلزمكم اتِّباعهم؟ إنهم ليسوا إلّا أهل البيت (عليهم السلام)، كما ثبت بالنصوص الأكيدة، ومنها الرواية المتقدمة.
هذه مقدمة.
وهناك مقدمة ثانية حاصلها:
إن أهل البيت (عليهم السلام) الذين تلزم طاعتهم عددهم منحصر باثني عشر، وهذا ما أكّدته النصوص لدى الفريقين.
أمّا في رواياتنا فالأمر أبين من الشمس، فعَنْ أَبِي الجَارُودِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام) وبَيْنَ يَدَيْهَا لَوْحٌ فِيه أَسْمَاءُ الأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِهَا، فَعَدَدْتُ اثْنَيْ عَشَرَ، آخِرُهُمُ القَائِمُ (عليه السلام): ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ مُحَمَّدٌ، وثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ(٩).
وقد روي عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: نَحْنُ اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً مِنْهُمْ حَسَنٌ وحُسَيْنٌ ثُمَّ الأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ (عليهم السلام)(١٠).
وأمّا في رواياتهم فالأمر كذلك لكل منصف لم يُكابر ولم يجحد الحق بعد انبلاجه، فقد روى البخاريّ في صحيحه عن جابر بن سمرة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «يكون اثني عشر أميراً»، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي إنّه قال: «كلّهم من قريش»(١١).
ونضم مقدمة ثالثة، وهي:
إنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هو الإمام الحادي عشر، فحتى لا نقع في مخالفة النص الثابت عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا في تكذيب ما ثبت عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلا بد من الإيمان بوجود إمام ثانٍ عشر لهم، لتكتمل العدة.
وينتج: أنه لابد أن يكون قد وُلد للإمام العسكري (عليه السلام) ولدٌ يكون هو الإمام الثاني عشر وهو الحجة اليوم على الناس.
هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن أولئك الأئمة (عليهم السلام) من لدن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلى الإمام العسكري (عليهم السلام) كانوا قد بشّروا بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد بيّنوا الكثير من المسائل والقضايا والحيثيات المتعلقة بالمهدي (عليه السلام) بدءاً من ولادته والظروف المحيطة به وغيبتيه وعلامات ظهوره إلى آخر تفاصيل القضية التي ملأت بطون الكتب، والتي صارت هي المنبع للمعرفة المهدوية.
فهذه الآثار والروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) تمثل تشريعات قد كُلّف بها من يؤمن بطاعتهم، وبالتالي، حيث يلزم الأخذ بها، والإيمان بها، والسير على نهجها، وهي دلّت على ضرورة ولادة المهدي (عليه السلام) فهذا يقتضي أن يكونوا مؤمنين بالمهدي ولا ينبغي أن يُخالج صدورهم شكٌّ في ذلك، وبالتالي، فما حصل لديهم من الشك في صاحب الأمر في غير محله، لأنه مخالف لوجوب الطاعة عليهم، والذي يستلزم الإيمان بكل ما جاء عنهم (عليهم السلام)، ومنه ضرورة ولادة المهدي (عليه السلام).
فقال لهم الإمام (عجَّل الله فرجه): إنكم لن تجدوا مصداقاً للثاني عشر الذي تكتمل به تلك العدة في وقتكم الحالي غيري، وليس لكم مندوحة في ترك الإيمان بي بعد أن ثبت عن أئمتكم ضرورة ولادتي، فيلزمكم إذن التثبت وعدم الريب في هذا الأمر، فقال (عجَّل الله فرجه): «أوَمَا عَلِمْتُمْ مَا جَاءَتْ بِهِ الآثَارُ مِمَّا يَكُونُ وَيَحْدُثُ فِي أئِمَّتِكُمْ عَلَى المَاضِينَ وَالبَاقِينَ مِنْهُمْ (عليهم السلام)؟ أوَمَا رَأيْتُمْ كَيْفَ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَعَاقِلَ تَأوُونَ إِلَيْهَا، وَأعْلاَماً تَهْتَدُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أنْ ظَهَرَ المَاضِي (عليه السلام) كُلَّمَا غَابَ عَلَمٌ بَدَا عَلَمٌ، وَإِذَا أفَلَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ، فَلَمَّا قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللهَ أبْطَلَ دِينَهُ، وَقَطَعَ السَّبَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، كَلاَ مَا كَانَ ذَلِكَ وَلاَ يَكُونُ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَيَظْهَرَ أمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارهُونَ.
وَإِنَّ المَاضِيَ (عليه السلام) مَضَى سَعِيداً فَقِيداً عَلَى مِنْهَاج آبَائِهِ (عليهم السلام) حَذْوَ النَّعْل بِالنَّعْل وَفِينَا وَصِيَّتُهُ وَعِلْمُهُ، وَمَنْ هُوَ خَلَفُهُ، وَمَنْ يَسُدُّ مَسَدَّهُ، وَلاَ يُنَازِعُنَا مَوْضِعَهُ إِلاَّ ظَالِمٌ آثِمٌ، وَلاَ يَدَّعِيهِ دُونَنَا إِلاَّ جَاحِدٌ كَافِرٌ، وَلَوْ لاَ أنَّ أمْرَ اللهِ لاَ يُغْلَبُ، وَسِرَّهُ لاَ يَظْهَرُ وَلاَ يُعْلَنُ، لَظَهَرَ لَكُمْ مِنْ حَقّنَا مَا تَبْهَرُ(١٢) مِنْهُ عُقُولُكُمْ، وَيُزيلُ شُكُوكَكُمْ، لَكِنَّهُ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَلِكُل أجَلٍ كِتَابٌ...».
المورد الثاني:
عَنْ مُحَمَّدِ بْن إِبْرَاهِيمَ بْن مَهْزيَارَ أنَّهُ وَرَدَ العِرَاقَ شَاكّاً مُرْتَاداً فَخَرَجَ إِلَيْهِ: «قُلْ لِلْمَهْزيَار(١٣): قَدْ فَهِمْنَا مَا حَكَيْتَهُ عَنْ مَوَالِينَا بِنَاحِيَتِكُمْ، فَقُلْ لَهُمْ: أمَا سَمِعْتُمُ اللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأْمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩]؟ هَلْ أمَرَ إِلّا بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْم القِيَامَةِ؟ أوَلَمْ تَرَوْا أنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) جَعَلَ لَهُمْ مَعَاقِلَ يَأوُونَ إِلَيْهَا وَأعْلاَماً يَهْتَدُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أنْ ظَهَرَ المَاضِي(١٤) صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ كُلَّمَا غَابَ عَلَمٌ بَدَا عَلَمٌ، وَإِذَا أفَلَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ، فَلَمَّا قَبَضَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَيْهِ، ظَنَنْتُمْ أنَّ اللهَ قَدْ قَطَعَ السَّبَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، كَلاَ مَا كَانَ ذَلِكَ، وَلاَ يَكُونُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَيَظْهَرُ أمْرُ اللهِ وَهُمْ كارهُونَ...»(١٥).
وجه الاستشهاد بالآية في التوقيع:
التوقيع جاء في مقام بيان الحجة على الناس بعد الإمام العسكري (عليه السلام)، حيث شكّ البعض فيه، وفي مقام دفع هذا الشك وإثبات وجود الحجة، استشهد الإمام (عجَّل الله فرجه) بالآية، ووجه الاستشهاد:
إن الآية الكريمة في مقام بيان أمر واقعي، وهو: لزوم طاعة الله تعالى ورسوله وأولي الأمر، وظاهر هذه الآية أن الأمر فيها مطلق من حيث الزمان، بمعنى أن لزوم الطاعة لم يُقيد بزمن دون آخر، وبالتالي يكون شاملاً لكل الأوقات، وهو ما أشار له بقوله (عليه السلام): «هل أمر إلّا بما هو كائن إلى يوم القيامة».
وفي هذا الوقت (بعد الإمام العسكري (عليه السلام))، إن قيل: بعدم وجود أحدٍ من أولي الأمر، لزم أن يكون الخطاب في الآية بلا معنى، إذ لا يمكن للناس أن يمتثلوا الأمر في هذه الآية لعدم وجود من يُطاع من أولي الأمر، وحيث إنه يلزم صون كلام الحكيم عن اللغوية، فلزم افتراض وجود أحد من (أولي الأمر) تلزم على الناس طاعته، وليس هو إلّا ابن الإمام العسكري (عليه السلام).
الآية الثانية: ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إِلّا اَللهُ﴾ [النمل: ٦٥]:
نص التوقيع:
وممّا خرج عن صاحب الزّمان (عجَّل الله فرجه) ردّاً على الغلاة من التّوقيع جواباً لكتاب كتب إليه على يدي محمّد بن عليّ بن هلال الكرخيّ: «يا محمّد بن عليّ تعالى الله (عزَّ وجلَّ) عمّا يصفون سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه تبارك وتعالى ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إِلّا اَللهُ﴾، وأنا -وجميع آبائي من الأوّلين آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من النّبيّين ومن الآخرين محمّد رسول الله وعليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وغيرهم ممّن مضى من الأئمّة (صلوات الله عليهم أجمعين) إلى مبلغ أيّامي ومنتهى عصري- عبيد الله (عزَّ وجلَّ)... وأشهد الله الّذي لا إله إلّا هو وكفى به شهيداً، ومحمّداً رسوله وملائكته وأنبياءه وأولياءه، وأشهدك وأشهد كلّ من سمع كتابي هذا أنّي بريء إلى الله وإلى رسوله ممّن يقول إنّا نعلم الغيب أو نشارك الله في ملكه أو يحلّنا محلّاً سوى المحلّ الّذي نصبه الله لنا وخلقنا له أو يتعدّى بنا عمّا قد فسّرته لك وبيّنته في صدر كتابي...»(١٦).
١ - المعنى العام للآية:
الغَيْبُ: مصدر غَابَتِ الشّمسُ وغيرها: إذا استترت عن العين، يقال: غَابَ عنّي كذا... واستعمل في كلّ غَائِبٍ عن الحاسّة، وعمّا يَغِيبُ عن علم الإنسان بمعنى الغَائِبِ(١٧).
الآية ظاهرة في حصر علم الغيب بالله تعالى، وأن كل من في السماوات والأرض لم يُتح له أن يعلم الغيب.
٢ - وجه الاستشهاد بالآية في التوقيع:
الإمام (عجَّل الله فرجه) في مقام الرد على من ادَّعى أنه (عجَّل الله فرجه) يعلم الغيب، فإنه استشهد بهذه الآية لنفي ذلك، وبالتالي ليغلق باب الغلو فيهم (عليهم السلام)، فبيّن أن الذي يقول بأنهم (عليهم السلام) يعلمون الغيب، فإنه في الحقيقة يخالف صريح القرآن الذي يحصر علم الغيب بالله تبارك وتعالى.
وفي نفس الوقت أشار الإمام (عجَّل الله فرجه) إلى أن المنفي عنهم (عليهم السلام) هو أن يكونوا شركاء لله تعالى في علمه أو قدرته، فقال: «ليس نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره».
فيكون الحاصل: أن المنفي عن المعصومين (عليهم السلام) والذي أراد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) نفيه في هذا التوقيع هو علم الغيب بمرتبته الواجبة، أي العلم النابع من الذات، والذي لا يكون محتاجاً إلى أي شيء خارج الذات، فهذه المرتبة خاصة بالله تعالى، ولا يمكن لأي أحد أن يُشاركه فيها، ومن يدّع ذلك فهو مشرك كافر بالله العظيم، وهو ما أشار إليه (عجَّل الله فرجه) بقوله: «ليس نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، وأنا وجميع آبائي من الأوّلين... إلى مبلغ أيّامي ومنتهى عصري، عبيد الله (عزَّ وجلَّ)... أنّي بريء إلى الله وإلى رسوله ممّن يقول إنّا نعلم الغيب أو نشارك الله في ملكه أو يحلّنا محلًّا سوى المحلّ الّذي نصبه الله لنا وخلقنا له أو يتعدّى بنا عمّا قد فسّرته لك وبيّنته في صدر كتابي...».
فهذه العبارات تُشير إلى نفي العلم الذاتي عنهم (عليهم السلام)، وهذا هو الحق الذي نؤمن به.
أمّا إذا كان العلم - ولو علم الغيب - هو بتعليم من الله تعالى، وبإذن منه، فلا مانع منه بالغاً ما بلغ، نظير القدرة، فإن القدرة الذاتية المطلقة هي مرتبة خاصة بالله تعالى، ولكن يمكن أن تكون هناك قدرات استثنائية خارقة بإذن الله تبارك وتعالى، كما في قدرات النبي عيسى (عليه السلام) التي حكاها القرآن الكريم بكل صراحة في قوله تعالى: ﴿... وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتى بِإِذْنِي...﴾ (المائدة: ١١٠).
وكما في قدرة الذي عنده علم من الكتاب، حيث فاقت قوة العفريت من الجن كثيراً، قال تعالى: ﴿قالَ يا أَيُّهَا المَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٣٨-٤٠].
وقد صرّحت الروايات الشريفة بذلك المعنى (علم الغيب بإذن الله تعالى وبتعليمه)، إذ روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة أنه قال: «يَا أَحْنَفُ، كَأَنِّي بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالجَيْشِ الَّذِي لاَ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلاَ لَجَبٌ، وَلاَ قَعْقَعَةُ لُجُمٍ(١٨)، وَلاَ حَمْحَمَةُ خَيْلٍ(١٩)، يُثِيرُونَ الأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ...»، ثمّ قال (عليه السلام): «وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ العَامِرَةِ(٢٠)، وَدُورِكم المُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنَحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الفِيَلَةِ، مِنْ أُولئِكَ الَّذِينَ لا يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ. أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا... كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وَجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطَرَّقَةُ(٢١)، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَالدِّيبَاجَ(٢٢)، وَيَعْتَقِبُونَ الخَيْلَ العِتَاقَ(٢٣)، وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ(٢٤)، حَتَّى يَمْشِيَ المَجْرُوحُ عَلَى المَقْتُولِ، وَيَكُونَ المُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ المَأْسُورِ»! فقال له بعض أصحابه: لقد أَعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك (عليه السلام)، وقال للرجل - وكان كلبياً -: «يَا أَخَا كَلْبٍ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ...»(٢٥).
فكأن الإمام (عليه السلام) هنا يُريد أن ينفي علمه المستقل بالغيب، لذلك أوضح له بأن ما عنده إنما هو تعليم من الله تبارك وتعالى ورسوله الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والرواية كما ترى لم تنف علم الغيب، بل إن الإمام بعد أن أخبر ببعض الملاحم المستقبلية، نفى أن يكون علمه بالغيب هذا مستقلاً كما تبين.
وإلى هذا المعنى أشار العلامة المجلسي (رحمه الله) في بحاره بعد ذكره لهذه الرواية بقوله:
تحقيق: قد عرفت مراراً أن نفي علم الغيب عنهم معناه: أنهم لا يعلمون ذلك من أنفسهم بغير تعليمه تعالى بوحي أو إلهام. وإلّا فظاهرٌ أن عمدة معجزات الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) من هذا القبيل، وأحد وجوه إعجاز القرآن أيضاً اشتماله على الإخبار بالمغيبات، ونحن أيضاً نعلم كثيراً من المغيبات بإخبار الله تعالى ورسوله والأئمة (عليهم السلام) كالقيامة وأحوالها والجنة والنار والرجعة وقيام القائم (عليه السلام) ونزول عيسى (عليه السلام) وغير ذلك من أشراط الساعة، والعرش والكرسي والملائكة(٢٦).
وبنفس هذا المعنى تُفسّر الروايات الشريفة التي أكّدت أنهم (عليهم السلام) لا يعلمون الغيب، وإنما إذا أرادوا أن يعلموا ذلك أعطاهم الله تعالى علمه، فكأنهم (عليهم السلام) ينفون العلم الفعلي الذاتي بالغيب عن أنفسهم، وفي نفس الوقت يُثبتون علمهم بالغيب بتعليم من الله تعالى، وهذا يؤكد العلم الخاص لديهم ولا ينافيه.
ومن ذلك ما روي عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ قَالَ: سَأَلَ أَبَا الحَسَنِ (عليه السلام) رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ فَقَالَ لَه: أتَعْلَمُونَ الغَيْبَ؟ فَقَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «يُبْسَطُ لَنَا العِلْمُ فَنَعْلَمُ، ويُقْبَضُ عَنَّا فَلَا نَعْلَمُ»، وقَالَ: «سِرُّ الله (عزَّ وجلَّ) أَسَرَّه إِلَى جَبْرَئِيلَ (عليه السلام)، وأَسَرَّه جَبْرَئِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأَسَرَّه مُحَمَّدٌ إِلَى مَنْ شَاءَ الله»(٢٧).
وكذلك ما روي عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: سَألتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الإِمَامِ يَعْلَمُ الغَيْبَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «لَا، ولَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَه الله ذَلِكَ»(٢٨).
والخلاصة: أن القرآن الكريم واضح في أن علم الغيب مختص بالله تعالى، ولكن يمكن أن يُظهر الله (عزَّ وجلَّ) علم الغيب لبعض أنبيائه وعبيده، قال تعالى: ﴿عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ...﴾ (الجن ٢٦-٢٧).
الآية الثالثة: ﴿ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ [طه: ١٢٤-١٢٦]:
نص التوقيع:
وممّا خرج عن صاحب الزّمان (عجَّل الله فرجه) ردّاً على الغلاة من التّوقيع جواباً لكتاب كتب إليه على يدي محمّد بن عليّ بن هلال الكرخيّ: «يا محمّد بن عليّ تعالى الله (عزَّ وجلَّ) عمّا يصفون سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره... يقول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾، يا محمّد بن عليّ قد آذانا جهلاء الشّيعة وحمقاؤهم ومن دينه جناح البعوضة أرجح منه...»(٢٩).
١ - المعنى العام للآية:
الآية تُبين أن الذي يُعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى، ويتركه، ولا يتبعه، فإن الله تعالى سيبتليه بأمرين:
الأول: أنه تعالى يجعل معيشته الدنيوية ضيقة، بحيث يعيش الضنك فيها، يعيش الضيق في داخله، لأن أموراً تقلق مضجعه، وتسلب منه لذة الحياة.
الثاني: أن الله تعالى يحشر هذا المعرِض عن ذكره في يوم القيامة أعمى البصر، وقيل: أعمى الحجة، يعني أنه لا حجة له يهتدي إليها، والأول هو الموافق لظاهر الآية، ولا مانع منه(٣٠).
ثم تنقل الآية مشهداً آخر، حيث إن هذا المعرِض يتساءل عن العلة في أنه يُحشر أعمى رغم أنه في الدينا كان بصيراً، فيأتيه الجواب من الله تعالى: أن هذا العمى هو نتيجة ما قدمت يداك في الدنيا، فأنت حينما أتتك الآيات الواضحة في الدنيا أعرضت عنها ونسيتها، وهذا ما أدّى إلى أن يكون جزاؤك في الآخرة هو النسيان أيضاً، وسيكون العمى هو أحد إفرازات نسيانك في يوم القيامة.
٢ - وجه الاستشهاد بالآية في التوقيع:
بعد أن بيّن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في بداية التوقيع أنه لا يعلم الغيب المختص بالله تبارك وتعالى - بالبيان المتقدم في الآية الثانية -، عطف ذلك بالاستشهاد بهذه الآية، وكأنه يُريد الإشارة إلى: أن من لا يلتزم بما بيّنه (عجَّل الله فرجه)، وادّعى أنهم (عليهم السلام) يعلمون الغيب، فإنه في الحقيقة يكون معرضاً عن ذكر الله تعالى وبياناته وتعاليمه، وسيكون مصيره المعيشة الضنك في الدنيا والحشر أعمى في الآخرة.
فهو تحذير لأولئك الذين يخالفون الإمام رغم البيان الواضح منه.
على أنه (عليه السلام) بيّن أيضاً أن هذه المخالفة للبيان، وادّعاء علمهم بالغيب مستقلاً عن الله تعالى، هو مما يؤذي الإمام (عليه السلام)، وهو يكشف عن ضعف دين هذا المدّعي ضعيف جداً، بحيث إن جناح البعوضة أرجح منه.
إنَّ مجرد ادِّعاء شخصٍ ما ألوهيتهم (عليهم السلام) وغلوّه فيهم، هو مما يؤذي الأئمة (عليهم السلام) عموماً، وهم يُصعقون أمام عظمة الباري (عزَّ وجلَّ) رغم أنهم بعيدون كل البعد عن هذه الدعاوى الباطلة، ولكن خشيتهم من الله تعالى ومعرفتهم بعظمته وبالقبح العظيم في دعوى ألوهيتهم والغلو فيهم، تجعلهم يرتعدون خوفاً من الله تعالى، واستغفاراً له.
عن مصادف قال: لما أتى القوم الذين أتوا بالكوفة، دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فأخبرته بذلك، فخرَّ ساجداً وألزق جؤجؤه(٣١) بالأرض وبكى، وأقبل يلوذ بإصبعه ويقول: «بل عبد الله، قن داخر، مراراً كثيرة»، ثم رفع رأسه ودموعه تسيل على لحيته، فندمت على إخباري إياه. فقلت: جعلت فداك وما عليك أنت من ذا؟ فقال: «يا مصادف، إن عيسى لو سكت عما قالت النصارى فيه، لكان حقاً على الله أن يصمّ سمعه ويُعمي بصره، ولو سكتُّ عما قال فيّ أبو الخطاب، لكان حقاً على الله تعالى أن يُصم سمعي ويُعمي بصري»(٣٢).
ومن نفس هذا المنطلق تأذى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من جهلاء الشيعة الذين يدّعون فيه ما ليس فيه.
الآية الرابعة: ﴿الم * أَحَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ١-٢]:
نص التوقيع:
كمال الدين: تَوْقِيعٌ مِنْهُ (عليه السلام) كَانَ خَرَجَ إِلَى العَمْريَّ وَابْنِهِ ݡ رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ الشَّيْخُ أبُو جَعْفَرٍ ݤ: وَجَدْتُهُ مُثْبَتاً بِخَطّ سَعْدِ بْن عَبْدِ اللهِ ݤ:
«وَفَّقَكُمَا اللهُ لِطَاعَتِهِ، وَثَبَّتَكُمَا عَلَى دِينهِ، وَأسْعَدَكُمَا بِمَرْضَاتِهِ، انْتَهَى إِلَيْنَا مَا ذَكَرْتُمَا أنَّ المِيثَمِيَّ أخْبَرَكُمَا عَن المُخْتَار، وَمُنَاظَرَتِهِ مَنْ لَقِيَ، وَاحْتِجَاجِهِ بِأنْ لاَ خَلَفَ غَيْرُ جَعْفَر بْن عَلِي، وَتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ، وَفَهِمْتُ جَمِيعَ مَا كَتَبْتُمَا بِهِ مِمَّا قَالَ أصْحَابُكُمَا عَنْهُ، وَأنَا أعُوذُ بِاللهِ مِنَ العَمَى بَعْدَ الجِلاَءِ، وَمِنَ الضَّلاَلَةِ بَعْدَ الهُدَى، وَمِنْ مُوبقَاتِ الأعْمَال، وَمُرْدِيَاتِ الفِتَن، فَإنَّهُ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ٢]، كَيْفَ يَتَسَاقَطُونَ فِي الفِتْنَةِ، وَيَتَرَدَّدُونَ فِي الحَيْرَةِ، وَيَأخُذُونَ يَمِيناً وَشمَالاً، فَارَقُوا دِينَهُمْ أم ارْتَابُوا، أمْ عَانَدُوا الحَقَّ، أمْ جَهِلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الروَايَاتُ الصَّادِقَةُ وَالأخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، أوْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَتَنَاسَوْا، أمَا تَعْلَمُونَ(٣٣) أنَّ الأرْضَ لاَ تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً، وَإِمَّا مَغْمُوراً، أوَلَمْ يَعْلَمُوا انْتِظَامَ أئِمَّتِهِمْ بَعْدَ نَبِيَّهِمْ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى أنْ أفْضَى الأمْرُ بِأمْر اللهِ (عزَّ وجلَّ) إِلَى المَاضِي - يَعْنِي الحَسَنَ بْنَ عَلِيًّ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -، فَقَامَ مَقَامَ آبَائِهِ (عليهم السلام) يَهْدِي إِلَى الحَقَّ وَإِلَى طَريقٍ مُسْتَقِيم. كَانَ نُوراً سَاطِعاً(٣٤) وَقَمَراً زَهْراً، اخْتَارَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَمَضَى عَلَى مِنْهَاج آبَائِهِ (عليهم السلام) حَذْوَ النَّعْل بِالنَّعْل، عَلَى عَهْدٍ عَهِدَهُ، وَوَصِيَّةٍ أوْصَى بِهَا إِلَى وَصِيٍّ سَتَرَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِأمْرهِ إِلَى غَايَةٍ، وَأخْفَى مَكَانَهُ بِمَشيَّتِهِ، لِلْقَضَاءِ السَّابِقِ وَالقَدَر النَّافِذِ، وَفِينَا مَوْضِعُهُ، وَلَنَا فَضْلُهُ...»(٣٥).
١ - المعنى العام للآية:
الآية بصدد بيان سنة من سنن الحياة الدنيا، جاء بيانها بلسان التوبيخ، فقد يتوهم البعض ويتخيل أن هذه الحياة خالية من البلاء والاختبار، وبالتالي قد يستغرب أو لا يتقبل وقوعه في بعض الاعتبارات، فجاءت الآية لتقول: هل يظن الناس أنهم يكونون في الدنيا من غير اختبارات؟! إن هذا مجرد توهم يكذبه الواقع المليء بالفتن والاختبارات، فالإنسان في الدنيا لابد أن يواجه الامتحان لتظهر منه الأفعال والمواقف التي سيترتب عليها جزاؤه في الآخرة.
٢ - وجه الاستشهاد بالآية في التوقيع:
الآية جاءت في توقيعه (عجَّل الله فرجه) رداً على من أنكر ولادته وأنه لا خلف للإمام العسكري (عليه السلام) وأن نسل الإمام الهادي (عليه السلام) يستمر من خلال جعفر، لا من خلال الإمام العسكري (عليه السلام).
يبدأ الإمام توقيعه بذكر سُنة الابتلاء في هذه الدنيا، مستشهداً بالآية، ثم بيَّن أن من موارد السقوط في الفتن هو أن ينكر البعض الحق بعد وضوحه ويغشى وجوههم الشك والريبة بعد انبلاج اليقين ونصوعه.
ويشير (عجَّل الله فرجه) إلى أن التردد في هذه الحقيقة يرجع إلى أحد أسباب:
١ - عدم الرجوع إلى المعارف اليقينية مما يؤدي إلى الحيرة والارتياب.
٢ - العناد للحق بعد معرفته.
٣ - الجهل بهذه الحقيقة وأن الروايات الشريفة صرّحت بضرورة أن يكون للإمام العسكري (عليه السلام) ولد هو المهدي (عجَّل الله فرجه).
٤ - أن يكون قد عرفوا ذلك، ولكنهم تناسوه، فكان سلوكهم سلوك من نسي، وهو في الواقع غير ناسٍ.
يرد ذلك كله بأن الروايات واضحة في ضرورة وجود الحجة الواقعي، والذي يتلاءم مع حالتي الظهور والغيبة، وأن الروايات والواقع يشهدان بسلسلة الأئمة (عليهم السلام) من بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلى يومهم المشهود واحداً بعد واحد.
والحاصل: أن سُنة الابتلاء وإن كانت حقيقة واقعية في هذا العالم بشهادة الآية محل البحث، إلّا أن هذا لا يبرر إنكار الحق، ولا التشكيك فيه ولا تناسيه خصوصاً مع وجود الأدلة الواضحة والشواهد الناصعة التي تثبت الحق بكل وضوح.
الآية الخامسة: ﴿حم * تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ الله العَزِيزِ الحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إِلّا بِالحَقِّ وأَجَلٍ مُسَمًّى واَلَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ الله مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ وهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ اَلنَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ (الأحقاف ١-٦):
نص التوقيع:
عَنْ أحْمَدَ بْن إِسْحَاقَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ أنَّهُ جَاءَهُ بَعْضُ أصْحَابِنَا يُعْلِمُهُ أنَّ جَعْفَرَ بْنَ عَلِيّ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَاباً يُعَرفُهُ فِيهِ نَفْسَهُ وَيُعْلِمُهُ أنَّهُ القَيَّمُ بَعْدَ أبِيهِ(٣٦)، وَأنَّ عِنْدَهُ مِنْ عِلْم الحَلاَل وَالحَرَام مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ العُلُوم كُلّهَا.
قَالَ أحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَرَأتُ الكِتَابَ كَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِ الزَّمَان (عليه السلام) وَصَيَّرْتُ كِتَابَ جَعْفَرٍ فِي دَرْجِهِ، فَخَرَجَ الجَوَابُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ:
«بِسْم اللهِ الرَّحْمن الرَّحِيم أتَانِي كِتَابُكَ أبْقَاكَ اللهُ، وَالكِتَابُ الَّذِي أنْفَذْتَهُ دَرْجَهُ، وَأحَاطَتْ مَعْرفَتِي بِجَمِيع مَا تَضَمَّنَهُ عَلَى اخْتِلاَفِ ألفَاظِهِ، وَتَكَرُّر الخَطَأ فِيهِ، وَلَوْ تَدَبَّرْتَهُ لَوَقَفْتَ عَلَى بَعْض مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْهُ...
وَقَدِ ادَّعَى هَذَا المُبْطِلُ المُفْتَري عَلَى اللهِ الكَذِبَ بِمَا ادَّعَاهُ، فَلاَ أدْري بِأيَّةِ حَالَةٍ هِيَ لَهُ رَجَاءَ أنْ يُتِمَّ دَعْوَاهُ، أبِفِقْهٍ فِي دِين اللهِ؟ فَوَ اللهِ مَا يَعْرفُ حَلاَلاً مِنْ حَرَام وَلاَ يَفْرُقُ بَيْنَ خَطَأٍ وَصَوَابٍ، أمْ بِعِلْم؟ فَمَا يَعْلَمُ حَقّاً مِنْ بَاطِلٍ، وَلاَ مُحْكَماً مِنْ مُتَشَابِهٍ، وَلاَ يَعْرفُ حَدَّ الصَّلاَةِ وَوَقْتَهَا، أمْ بِوَرَع؟ فَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى تَرْكِهِ الصَّلاَةَ الفَرْضَ أرْبَعِينَ يَوْماً يَزْعُمُ ذَلِكَ لِطَلَبِ الشَّعْوَذَةِ، وَلَعَلَّ خَبَرَهُ قَدْ تَأدَّى إِلَيْكُمْ، وَهَاتِيكَ ظُرُوفُ مُسْكِرهِ مَنْصُوبَةٌ، وَآثَارُ عِصْيَانِهِ للهِ (عزَّ وجلَّ) مَشْهُورَةٌ قَائِمَةٌ، أمْ بِآيَةٍ؟ فَلْيَأتِ بِهَا، أمْ بِحُجَّةٍ؟ فَلْيُقِمْهَا، أمْ بِدَلاَلَةٍ؟ فَلْيَذْكُرْهَا.
قال الله (عزَّ وجلَّ) في كتابه: بِسْمِ الله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴿حم * تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ الله العَزِيزِ الحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ وأَجَلٍ مُسَمًّى واَلَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ الله مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ وهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ اَلنَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف ١-٦]»(٣٧).
١ - المعنى العام للآيات:
الآيات الكريمة من سورة الأحقاف وهي تبين عدة أمور:
١ - إن الكتاب الكريم إنما هو تنزيل من الله تبارك وتعالى.
٢ - إن الله تعالى يخبر في هذا الكتاب الذي أنزله هو جل وعلا، أن خلق السماء والأرض هو فعلٌ من أفعاله، وقد شاء جل وعلا أن يتَّصف فعله هذا بوصفين هنا:
الوصف الأول: أنه فعل حق، موافق للحكمة، لا عبث فيه ولا لعب.
الوصف الثاني: أنه تعالى لم يكتب الخلود لهذا الفعل، وإنما جعل له أجلاً محدداً، نعم، هذا الأجل معلوم ومسمى عنده، ونحن لا نعلم به.
٣ - إن الكافرين معرضون عن إنذار الله تعالى مما أنزله في كتابه.
٤ - ثم يخاطب الكافرين: أنتم تكفرون بالله تعالى، وتذهبون إلى ألوهية غيره، فلو كان من تدعونهم آلهة فالمفروض أن تكون لهم أفعال محكمة كفعل الله تعالى، ولكانوا شركاء الله تعالى، والحال أنه لا يوجد أي دليل على ذلك ولا نص علمياً يدل عليه.
٥ - ويخلص إلى أن الذي يدعو شيئاً لا قدرة له على إجابة دعوته، فهو ضال، بل هو أضل الخلق، ليس هذا فحسب، بل إنهم يدعون من سيقف ضدهم معادياً لهم يوم القيامة، ومثل أولئك لا يدعوهم إلّا الضالون الكافرون.
٢ - وجه الاستشهاد بالآية في التوقيع:
الآية جاء الاستشهاد بها في توقيع صدر منه (عجَّل الله فرجه) رداً على دعوى جعفر بأنه هو الإمام بعد أخيه العسكري (عليه السلام)، حيث أرسل كتباً يدعو الناس إلى الاعتقاد بإمامته، وقد وقف الإمام (عجَّل الله فرجه) على هذا الكتاب واطَّلع على ما فيه، وبيَّن زيفه، وفي مقام بيان زيفه ذكر الإمام (عجَّل الله فرجه) عدة أمور تثبت ذلك، ومنها:
١) إن في كتاب جعفر - الذي أرسله يدعو الناس فيه لنفسه - أخطاءً إملائية يستحيل صدورها من إمام الزمان (عجَّل الله فرجه).
٢) إن جعفراً ليس عنده علم بالحلال والحرام وأنه لا يعرف حتى حد الصلاة، فكيف يكون إماماً؟!
٣) من الناحية العلمية تحداه بمطالبته بتفسير ولو آية واحدة من الكتاب، فإن عجز كشف ذلك عن بطلان دعواه.
٤) مطالبته بإقامة حجة واضحة الدلالة على إمامته.
٥) نفي أن تكون الإمامة في أخوين بعد الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام).
وبعد هذا استشهد الإمام (عجَّل الله فرجه) بالآيات المذكورة، إذ إن موضوعها هو الاتِّباع الأعمى لمن ليست له شأنية المعبودية، ليشير إلى أن من يصدق جعفراً ويتبعه رغم وضوح عدم أهليته للإمامة للأسباب التي ذكرها الإمام (عجَّل الله فرجه) في مكاتبته، سيكون حاله حال من يعبد من دون الله تعالى ما لا قدرة له على الخلق ولا على حماية أتباعه.
الآية السادسة: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ (المائدة: ١٠١):
عَنْ إِسْحَاقَ بْن يَعْقُوبَ أنَّهُ وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ النَّاحِيَةِ المُقَدَّسَةِ عَلَى يَدِ مُحَمَّدِ بْن عُثْمَانَ: «وَأمَّا عِلَّةُ مَا وَقَعَ مِنَ الغَيْبَةِ فَإنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنْ آبَائِي إِلّا وَقَعَتْ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ، وَإِنّي أخْرُجُ حِينَ أخْرُجُ وَلاَ بَيْعَةَ لأحَدٍ مِنَ الطَّوَاغِيتِ فِي عُنُقِي، وَأمَّا وَجْهُ الِانْتِفَاع بِي فِي غَيْبَتِي فَكَالِانْتِفَاع بِالشَّمْس إِذَا غَيَّبَهَا عَن الأبْصَار السَّحَابُ، وَإِنّي لأمَانٌ لأهْل الأرْض كَمَا أنَّ النُّجُومَ أمَانٌ لأهْل السَّمَاءِ، فَاغْلِقُوا أبْوَابَ السُّؤَال عَمَّا لاَ يَعْنِيكُمْ، وَلاَ تَتَكَلَّفُوا عَلَى مَا قَدْ كُفِيتُمْ، وَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ بِتَعْجِيل الفَرَج، فَإنَّ ذَلِكَ فَرَجُكُمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ يَا إِسْحَاقَ بْنَ يَعْقُوبَ وَعَلى مَن اتَّبَعَ الهُدى».
١ - المعنى العام للآية:
الآية الكريمة بصدد بيان حقيقة واقعية، وهي: أن هناك أشياء ينبغي عدم السؤال عنها، وعدم الإعلان عنها، لأن لها وقتاً يلزم أن يحضر حتّى يكون الاستعلام عنها أو الإعلان عنها مناسباً وفي موضعه، وعدم الالتزام بالتوقيت المناسب قد يرجع على الفرد بالضرر والسوء.
وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما يؤكد هذا المعنى، إذ روي أنه خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: «إن الله كتب عليكم الحج»، فقام عكاشة بن محصن ويروى سراقة بن مالك فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ويحك، وما يؤمنك أن أقول: نعم؟ والله ولو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم كفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»(٣٨).
ويعود السبب في ذلك إلى عدَّة أمور:
أ - أن تكون معرفتها غير مفيدة في الوقت الحالي.
ب - أن يمنع من إظهارها مانع كالتقية أو غيرها ﴿إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾.
ج - عدم التكليف بمعرفتها ﴿عَفَا اللهُ عَنْها﴾.
د - احتمال الكفر بها بعد معرفتها قبل الوقت المناسب.
٢ - وجه الاستشهاد بالآية في التوقيع:
الآية وردت في مقام الجواب عن السؤال عن العلة الحقيقية لغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، والإمام بدأ الجواب بالاستشهاد بالآية.
مما يعني أن معرفة العلة الحقيقية للغيبة هي مما لم يُكلف بها العباد، وأن الوقت ليس مناسباً لذكرها في الوقت الحالي، بل يظهر من الاستشهاد بالآية في المقام أن ذكر العلة الحقيقية يرجع على المجتمع أو على الشيعة بالضرر والسوء، لذلك يكون من الحكمة تأخير البيان فيها إلى الوقت المناسب.
ولأن الإنسان امتاز بالفضول العلمي، أخذ الإمام يبين له عدة أمور متعلقة بهذا الشأن، وهي التالي:
١ - إن واحدة من الحكم التي كانت وراء غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه) هي حتى لا تكون في عنقه بيعة لظالم ولو من باب التقية والمسالمة، لأجل المصلحة العامة للإسلام، كما حدث هذا الأمر مع آبائه المعصومين (عليهم السلام).
٢ - إن الغيبة - فضلاً عن عدم معرفة العلة الحقيقية لها - لا تلازم نفي الفائدة من الإمام الغائب، بل إن الاستفادة من بركات وجود الإمام هي حقيقة مشككة، أعلى مراتبها تكون بالتواصل المباشر معه، وبعد هذه المرتبة توجد مراتب عديدة قبل أن يصل الأمر إلى عدم الاستفادة المطلقة منه. تماماً كما أن الشمس نهاراً تكون مشرقة ولا يحجبها السحاب، وأمّا في الليل فهي مختفية تماماً، لكنها في النهار موجودة، ويمكن الاستفادة منها، وليس شرطاً في ذلك أن تكون مشرقة تماماً، فيمكن ذلك ولو كانت محجوبة عن مباشرة الأرض بسبب السحاب. ومازال الناس يعرفون أنها موجودة، ويتعاملون مع هذا الوقت على أنها موجودة، سوى أن ظهورها غير تام.
وهكذا الإمام (عجَّل الله فرجه)، رغم أنه غائب، لكن هذا لا يعني عدم الفائدة والاستفادة منه، وإنما الغيبة حجبت مرتبة من مراتب الاستفادة، لا مطلق الاستفادة.
٣ - وتلك الاستفادة تتمثل في أن وجوده الواقعي يمثل صمام الأمان لأهل الأرض من أن تسيخ بهم. وهذه الفائدة لا تتوقف على ظهوره المباشر كما هو واضح، بل هي تحصل بمحض وجوده الواقعي.
٤ - ثم يقدم الإمام (عجَّل الله فرجه) نصيحة عامة، يطبّقها في المقام، وهي: أنه ينبغي أن ينحصر السؤال فيما يرجع على الفرد بالفائدة، والابتعاد عما لا يعنيه، وعما لم يُكلف بمعرفته، وبدلاً من إشغال النفس بمثل هذه الأسئلة، ينبغي ممارسة الأعمال التي من شأنها أن ترجع عليه بالنفع، والتي منها الدعاء بالفرج.
الآية السابعة: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ للهِ﴾ (الطلاق: ٢):
نص التوقيع:
وَسَألَ عَن الرَّجُل يُوقِفُ ضَيْعَةً أوْ دَابَّةً، وَيُشْهِدُ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْم بَعْض وُكَلاَءِ الوَقْفِ، ثُمَّ يَمُوتُ هَذَا الوَكِيلُ أوْ يَتَغَيَّرُ أمْرُهُ، وَيَتَوَلَّى غَيْرُهُ، هَلْ يَجُوزُ أنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ لِهَذَا الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَهُ، إِذَا كَانَ أصْلُ الوَقْفِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أمْ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ؟
فَأجَابَ (عجَّل الله فرجه): «لاَ يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ لأنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَقُمْ لِلْوَكِيل وَإِنَّمَا قَامَتْ لِلْمَالِكِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ للهِ﴾»(٣٩).
١ - المعنى العام للآية:
الآية تأمر الشهود بأن يقيموا الشهادة لله تعالى، وهذا يتضمن:
١ - ضرورة الشهادة بالحق، ولو كان على حساب المصلحة الشخصية.
٢ - إنه من كمال الشهادة أن تكون مصاحبة للإخلاص (لله) تعالى.
٣ - إن المطلوب هو إقامة الشهادة، الذي يعني الاهتمام بها وأدائها بصورة تامة لا لبس فيها.
٢ - وجه الاستشهاد بالآية في التوقيع:
الآية وردت ضمن توقيع له (عجَّل الله فرجه) تضمن الإجابة عن عدة أسئلة فقهية تقدم بها محمد بن عبد الله الحميري، ومنها أنه سأل الإمام (عجَّل الله فرجه) عن رجل يجعل ضيعة له أو دابة وقفاً لله تعالى، ويأتي بشاهد يشهد على ذلك أمام أحد وكلاء الوقف - وهم الذين يقومون بالاهتمام بالأوقاف وإدارة شؤونها ومتابعتها -.
ويحصل أن هذا الوكيل على الوقف يموت، أو يحصل عنده مانع من استمراره على وكالة الوقف، كأن يتغير أمره من الحق إلى الباطل، فيقوم وكيل وقف آخر مقامه.
والسؤال هنا: هل يجوز لذلك الشاهد أن يشهد بالوقف أمام الوكيل الثاني، أو إن شهادته انتهت بانتهاء وكالة الوكيل الأول؟
فجاء الجواب منه (عجَّل الله فرجه): أنه لا يجوز غير ذلك، أي أنه يلزم على الشاهد أن يشهد بالوقف أمام الوكيل الثاني، والسبب في ذلك: هو أن الشهادة كانت على أن المالك أوقف ضيعته أو دابته، وليست متعلقة بالوكيل الأول لتنتهي بانتهاء وكالته، أي إن الشاهد تحمّل الشهادة على فعل ووقّف المالك للعين، لا على الوكيل الأول، فهي باقية مع تبدل الوكيل أو متولي الوقف، فلا يجوز له تغييرها.
ومادامت متعلقة بفعل المالك ووقْفه العين، وهو لم يتغير، إذن على الشاهد أن يؤدي شهادته أمام الوكيل الثاني، وأن يقيم شهادته امتثالاً لأمر الله تعالى ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ للهِ﴾.
هذا هو المعنى المحتمل في بيان التوقيع.
الآية الثامنة: ﴿أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ (هود: ١٨):
نص التوقيع:
«وَأمَّا مَا سَألتَ عَنْهُ مِنْ أمْر مَنْ يَسْتَحِلُّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ أمْوَالِنَا أوْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ مِنْ غَيْر أمْرنَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مَلْعُونٌ وَنَحْنُ خُصَمَاؤُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): المُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللهُ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِي وَلِسَان كُلّ نَبِيٍّ مُجَابٍ، فَمَنْ ظَلَمَنَا كَانَ فِي جُمْلَةِ الظَّالِمِينَ لَنَا وَكَانَتْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾»(٤٠).
١ - المعنى العام للآية:
الآية واردة في مقام إثبات لعنة الله تعالى - أي الطرد من رحمته والإبعاد عن عفوه مما يعني العذاب والعقاب الأليم - لمن اتَّصف بالظلم، وفي استعمال ﴿ألا﴾ الاستفتاحية، والجملة الاسمية الدالة على الثبوت ﴿لعنة الله﴾ تهويل عظيم مما يحيق بالظالمين.
الآية تذكر قاعدة عامة مضمونها: أن من يصدق عليه الظلم فهو ملعون من الله تعالى، ولهذه القاعدة تطبيقات عديدة، منها ما جاءت هي في سياقه، وهم من يكذبون على ربهم، حيث إن بداية الآية ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ (الأنعام: ٢١).
٢ - وجه الاستشهاد بالآية في التوقيع:
الآية وردت في توقيع له (عجَّل الله فرجه) في جواب أسئلة أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي، حيث إنه سأل الإمام (عجَّل الله فرجه) عن حكم من يستحل أموال المعصوم مما كانت تحت يده، من الخمس، بحيث يتصرف بها كتصرفه بسائر أمواله، أي من دون استئذان من الإمام (عجَّل الله فرجه) ولا صرفها في الموارد التي أمر بها (عجَّل الله فرجه).
فجاءه الجواب أن من يفعل ذلك فإن جزاءه سيكون:
١ - ثبوت اللعنة في حقه.
٢ - إن خصمه سيكون هم أهل البيت (عليهم السلام).
٣ - وسيكون بذلك مصداقاً للظالمين الذين استحقوا الإبعاد عن رحمة الله تعالى والعقاب الأليم.
الآية التاسعة: ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرى ظاهِرَةً﴾ (سبأ: ١٨):
نص التوقيع:
عَنْ مُحَمَّدِ بْن صَالِح الهَمْدَانِيّ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِ الزَّمَان (عليه السلام) أنَّ أهْلَ بَيْتِي يُؤْذُوني وَيُقَرَّعُوني بِالحَدِيثِ الَّذِي رُويَ عَنْ آبَائِكَ (عليهم السلام) أنَّهُمْ قَالُوا: خُدَّامُنَا وَقُوَّامُنَا شِرَارُ خَلْقِ اللهِ، فَكَتَبَ (عجَّل الله فرجه): «وَيْحَكُمْ مَا تَقْرَؤُونَ مَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرى ظاهِرَةً﴾، فَنَحْنُ وَاللهِ القُرَى الَّتِي بَارَكَ اللهُ فِيهَا وَأنْتُمُ القُرَى الظَّاهِرَةُ»(٤١).
١ - المعنى العام للآية:
الآية وردت في بيان النعم التي وهبها الله تعالى لقوم سبأ، فذكر في هذه الآية أن من تلك النعم هي أنه تعالى جعل بينهم وبين القرى المباركة والخصبة، قرى ظاهرة، أي مناطق وبيوت سكنية قريبة وتُرى، وأن السير فيها هو بأمان تام ليلاً ونهاراً.
هذا هو ظاهر الآية.
لنضع في الحسبان أن القرآن الكريم ضرب للناس الأمثال، واستعمل لغة الكناية والمجاز للوصول إلى أهداف معينة، وأنه يمكن أن يكون للآية معنى ظاهر، لكن يُطبق على معنى آخر مؤوَّل، يعرف ذلك الراسخون في العلم (عليهم السلام).
٢ - وجه الاستشهاد بالآية في التوقيع:
الآية وردت في توقيع له (عجَّل الله فرجه) جواباً عن سؤال محمد بن صالح الهمداني، حيث إنه كتب إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سؤالاً حاصله:
إن أهل بيته - ويظهر من سياق الرواية أنهم كانوا على غير خط أهل البيت (عليهم السلام) - كانوا يعيّرونه ويؤذونه، وذلك لأنه يُعتبر من خدّام أهل البيت (عليهم السلام)، وحيث إنه روي عن المعصومين (عليهم السلام) - فيما زعموا - أنهم قالوا: (خدّامنا وقوّامنا شرار خلق الله)، فهذا يعني أن محمداً الهمداني هو من شرار خلق الله تعالى، بسبب كونه من خدّامهم (عليهم السلام).
فأجابه الإمام (عجَّل الله فرجه) بعدم صحة استدلالهم هذا، وأنه خلاف تأويل الآية المتقدمة، إذ إن أهل البيت (عليهم السلام) هم تأويل القرى التي بارك الله فيها، وخدّامهم وشيعتهم هم القرى الظاهرة العامرة، فكيف يكونون أعداءهم وشرار الخلق بسبب خدمتهم لهم (عليهم السلام)؟!
جدير بالذكر أن هذه الرواية (خدّامنا وقوامنا شرار خلق الله) هي رواية ضعيفة السند، إذ هي مرسلة، حيث عبّر عنها الشيخ الطوسي في غيبته بقوله: (قد روي في بعض الأخبار أنهم قالوا: خدامنا وقوامنا شرار خلق الله)(٤٢).
ثم حاول الشيخ تبريرها - على فرض صحتها - بأنه لا يراد منها الشمول لجميع خدّامهم (عليهم السلام)، وإنما هي خاصة بمن بدّل وغيّر عقيدته من الحق إلى الباطل.
وهذا الحمل - لو سُلمت الرواية - مما لابد منه، إذ لا يعقل ذمُّ مثل سلمان المحمدي وأبي ذر الغفاري وزرارة وأبي بصير وأضرابهم.
نعم، هو صادق على مثل البطائني والشلمغاني وأمثالهما.
الهوامش:
(١) الكافي للكليني: ج١، ص٦٠، بَابُ الرَّدِّ إِلَى الكِتَابِ والسُّنَّةِ وأَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الحَلَالِ والحَرَامِ وجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه إِلَّا وقَدْ جَاءَ فِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ، ح٥.
(٢) الكافي للكليني: ج٣، ص٣٣، بَابُ الجَبَائِرِ والقُرُوحِ والجِرَاحَاتِ، ح٤.
(٣) بحار الأنوار: ص١٧٨، ج٥٣، باب ٣١ - ما خرج من توقيعاته (عجَّل الله فرجه)...؛ الاحتجاج: ص٤٦٦، ج٢، احتجاج الحجة القائم المنتظر المهدي.
(٤) في المصدر: (عن الشيخ الموثوق أبي عمرو العمري).
(٥) مصدر، بمعنى السوء على القلب المكاني، يقال: سأوت فلاناً: أي سؤته.
(٦) كذا في الأصل المطبوع وهكذا المصدر، والظاهر: (تنتكسون)، يقال: انتكس: أي وقع على رأسه وانقلب على رأسه حتَّى جعل أسفله أعلاه، ومقدمه مؤخّره.
(٧) الغيبة للطوسي: ٢٨٥/ رقم ٢٤٥.
(٨) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق: ج١، ص٢٥٣ باب ٢٣ ح٣.
(٩) الكافي للكليني: ج١، ص٥٣٢، بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ (عليهم السلام)، ح٩.
(١٠) الكافي للكليني: ج١، ص٥٣٣، بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ (عليهم السلام)، ح١٦.
(١١) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، حديث ١١٤٨؛ سنن الترمذيّ، ج٤، ح٢٢٢٣؛ مستدرك الحاكم، ج٣، ص٧١٥، ح٦٥٨٦.
(١٢) في المصدر: (تبين) بدل (تبهر).
(١٣) في المصدر: (للمهزياري).
(١٤) في المصدر إضافة: (أبو محمّد).
(١٥) كمال الدين ٢: ٤٨٦/ باب ٤٥/ ح٥.
(١٦) الإرشاد: ص٣٦٤، ج٢، باب طرف من دلائل صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)؛ بحار الأنوار: ص٢٩٩، ج٥١، باب١٥ - ما ظهر من معجزاته؛ تقريب المعارف: ص١٩٥؛ كشف الغمة: ص٤٥٤، ج٢ باب طرف من دلائل صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه).
(١٧) مفردات الراغب الأصفهاني مادة (غيب).
(١٨) اللجب الصياح. واللجم جمع لجام. وقعقعتها ما يسمع من صوت اضطرابها بين أسنان الخيل.
(١٩) الحمحمة صوت البرذون عند الشعير وعر الفرس (أي صوته) عندما يقصر في الصهيل ويستعين بنفسه.
(٢٠) جمع سكة: الطريق المستوي وهو إخبار عما يصيب تلك الطرق من تخريب ما حواليها من البنيان على يد صاحب الزنج...
(٢١) في القاموس أي التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة أي المخصوفة، وهو عجز عن التعبير، والأحسن أن يقال أي التي ألزق بها الطراق ككتاب - وهو جلد يقور على مقدار الترس ثم يلزق به.
(٢٢) السرق بالتحريك شقق الحرير الأبيض أو هو الحرير عامة.
(٢٣) يعتقبون: يحتبسون كرائم الخيل ويمنعونها غيرهم.
(٢٤) استحرار القتل: اشتداده.
(٢٥) نهج البلاغة، الخطبة رقم: ١٢٨؛ ابن أبي الحديد المعتزلي؛ شرح نهج البلاغة: ج٨، ص٢١٥.
(٢٦) بحار الأنوار: ج٢٦، ص١٠٣.
(٢٧) الكافي للكليني: ج١، ص٢٥٦، بَابٌ نَادِرٌ فِيه ذِكْرُ الغَيْبِ ح١.
(٢٨) الكافي للكليني: ج١، ص٢٥٧، بَابٌ نَادِرٌ فِيه ذِكْرُ الغَيْبِ ح٤.
(٢٩) الإرشاد: ص٣٦٤، ج٢، باب طرف من دلائل صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)؛ بحار الأنوار: ص٢٩٩، ج٥١، باب١٥، ما ظهر من معجزاته؛ تقريب المعارف: ص١٩٥؛ كشف الغمة: ص٤٥٤، ج٢، باب طرف من دلائل صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه).
(٣٠) مجمع البيان للشيخ الطبرسي: ج٧، ص٦٤.
(٣١) جُؤْجُؤُ الإِنْسَانِ: مُجْتَمَعُ رُؤُوسِ عِظَامِ صَدْرِهِ.
(٣٢) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي: ج٢، ص٥٨٧ - ٥٨٨، رقم الترجمة (٥٣١).
(٣٣) في المصدر: (يعلمون).
(٣٤) في المصدر إضافة: (وشهاباً لامعاً).
(٣٥) كمال الدين ٢: ٥١٠/ باب ٤٥/ ح٤٢.
(٣٦) في المصدر: (أخيه) بدل (أبيه).
(٣٧) الغيبة للطوسي: ٢٨٧/ رقم ٢٤٦.
(٣٨) بحار الأنوار: ج٢٢، ص٣١.
(٣٩) الاحتجاج للطبرسي: ج٢، ص٣١٣.
(٤٠) كمال الدين وتمام الدين - للشيخ الصدوق: ص٥٢٠-٥٢١، الباب ٤٥، ح٤٩.
(٤١) الغيبة للطوسي: ٣٤٥، رقم ٢٩٥.
(٤٢) الغيبة للطوسي: ص٣٤٣، ب١٦، ح١.