شبهات وانحرافات
السيد حميد الغريفي
قال تعالى: ﴿ونُريد أن نَمَنَّ على الذين أستُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين﴾ (١) وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(٢).
لا يخفى عليكم أيها المؤمنون أنَّ الصالحين والمستضعفين موعودون بوراثة الأرض وقيادتها على يد الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) وهذا وعد ربّاني من الخالق العظيم وأنَّه صادق الوعد، ولكن في نفس الوقت أنّهم مبتلون في مسيرتهم الدنيوية بامتحان عسير تقتضيه الحكمة الإلهية لاختبار الناس في طاعتها وانتمائها ليتم التمييز والتمحيص والفرز بينهم وفق القانون الإلهي العادل في عملية الفرز والتقييم لينال كلٌ منهم جزاءه واستحقاقه من الثواب أو العقاب، وهذا الجزاء لا يأتي عن فراغ بل هو مخاض لمسيرة تتوالى فيها على الناس الكثير من البلايا والفتن والبدع والانحرافات الفكرية والسلوكية كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾(٣)، وجميع ذلك قد حصل في بلدنا الحبيب (العراق) ونحن نقرأ ونسمع ونشاهد كيف أنّ المسيرة البشرية تتعرض بين حين وآخر إلى انتكاسات وظهور بدع وشبهات وانحرافات مختلفة وتحت مسميات كثيرة وخصوصاً فيما يتعلق بالعقيدة التي هي أساس الإيمان عند الإنسان وبالأخص فيما يتعلق بحديثنا عن العالم الإسلامي وما يُواجهه من تحديات ومؤامرة الجهات الإستكبارية الصانعة والداعمة والمُروّجة لهذا الانحراف من أجل تمرير أهدافهم الشيطانية وتذويب حركات التحدي والممانعة لهم تحت أغطية متعددة تُوهم المُغفلّين بمشروعية الإحتلال لمنح الشعوب الحرية وفرض الولاية القسرية عليهم وباسم التحضر والمدنية وعصر العلم والفضاء يستعبدون الشعوب وبذريعة ترويج الديمقراطية الوهمية والتعددية الفاسدة وحرية التعبير عن الرأي يقذفون سمومهم التي تُقسّم البلاد الإسلامية وتقدح بالأنبياء والأوصياء والصالحين وتتهجم على القرآن بادعائهم أنَّه من النصوص القديمة التي لا تُعالج مستحدثات ومتطلبات الحياة العصرية وما إلى ذلك من الدعاوى والأباطيل السّامة والمثيرة للفتن والانحراف والصراع، وتستغل في ذلك ضعفاء العقول وأرباب المصالح والعملاء لتستعملهم كأدوات فاعلة لتهديم البنى العقائدية في عالم الفكر والإيمان وبالتالي نشرها وتفعيلها على الواقع السلوكي في تطبيقات منحرفة ينتج من ورائها الفتنة والفوضى والنزاع والصدام بين المسلمين، وهذا مما يُنعِش الأعداء ويُضعف قوّة المسلمين، فتتركز الشبهات والفتن وبتدبير مدروس وممنهج على كل ما يدعوا إلى تقويض مملكة الشياطين على الأرض، وتحديداً فيما يتعلق بالإمامة العظمى للمعصومين (عليهم السلام) وما يتفرع عنها من قيادات رسالية للشعوب من المراجع الربّانيين والعلماء الرساليين، وما تُثار في شأنهم من الشبهات والأباطيل لأجل الفصل والعزل بين القيادات والجماهير، وحينئذٍ يسهل على الذئاب والكلاب افتراس الغنم لكونها بلا راعي، وهذه نتيجة خطيرة على الشعوب الإسلامية، فيجب أن لا ننسى تلك الممارسات الإرهابية المنظمة من قبل سلاطين الإستكبار في العهود الماضية وحتى يومنا هذا بشأن المعصومين (عليهم السلام) وأتباعهم المخلصين من القياديين والسائرين على خطهم من المطاردة والتهجير ومصادرة الحقوق والتصفية الجسدية، لنفهم أنَّ ما يُطرح بين آونة وأخرى من شبهات وانحرافات تثيرها حركات عقائدية وسياسية منحرفة فيما تخص قضية المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) هي داخلة في سلسلة تاريخية بعيدة الزمن منذ ما يزيد على الألف وثلاثمائة سنة ولكنها تتكرر وتُستغل في أزمنة متعاقبة بعناوين جديدة ومفردات مستحدثة ووجوه متغيرة، لأنّ المستكبرين الطغاة وبمختلف دياناتهم وطوائفهم وأعراقهم وأيديولوجياتهم يُدركون أنّ المهدي الموعود (عجّل الله فرجه) يُشَكّل الخطر الأول على وجودهم وكيانهم ومصالحهم باعتباره القائد العالمي بقيادة مركزية واقعية يتفق جميع العالم على انتظاره وظهوره في آخر الزمان كمنقذ ومخلّص للبشرية من الظلم والطغيان ويُحقق العدالة للمظلومين والمستضعفين تحت راية دولته العالمية، وإن كانوا يختلفون في تسميته (عجّل الله فرجه) بحسب موروثهم الديني والاجتماعي واختلاف لغاتهم حتى يُقال أنَّه يُسمّى في بعض المجتمعات الغربية بالرجل الخارق، إذن الخوف والخشية من هذه القيادة هو الذي دفع قوى الإستكبار العالمي للتهيأ والإستعداد والممارسة في مواجهة الإمام (عجّل الله فرجه) وشن الحرب الإستباقية عليه وَلِشَلْ وتعطيل حركة مناصريه ولو بمقدمات إعلامية إن لم تكن عسكرية وهذا قبل ظهوره فتعتمد الكذب والتحريف والتضليل لتسخيف قضية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وتوجيه الرأي العام إلى كونه وهم وخرافة، هذا من جانب وأما الجانب الآخر من المؤامرة هو السيطرة على عقول بعض الناس من خلال عرض شبهات وأباطيل تعتمد تطبيقات فاسدة ومنحرفة عن الخط الإسلامي الصحيح وبدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان كقضية السعي لتعجيل ظهور الإمام (عليه السلام) بارتكاب الفوضى والفساد والفاحشة والقتل والصلاة عارياً وتهديم العتبات المقدّسة وغير ذلك من الأباطيل والدعاوى التي يكون العامل بها هدفاً لاستحقاق العقاب في الدنيا والآخرة، وارتكاب مثل هذه القبائح والمظالم هي من المغالطات السفسطائية التي يسخرون بها من عقول الناس ويستخفّون بعقيدتهم وإيمانهم وعباداتهم، لأنَّ تعجيل ظهور الإمام (عجّل الله فرجه) إنما يكون بالطاعة والدعاء والتمهيد له بالإعداد النفسي والإيماني والجماهيري والتسليحي ولو سهماً كما في نص الرواية وهو كناية عن عموم السلاح وهذا ثابت في المعتقد السليم حتى يأذن الله تعالى له بالخروج، وليس كما يُروّج له المنحرفون عملاء الإستكبار بأنَّ التعجيل إنما يتم بارتكاب الفوضى والمعاصي والفساد وإشاعته بين الناس، والعجب كيف أنّهم يُبشّرون العالم بالمهدي الموعود (عجّل الله فرجه) وهم ينحرفون في سلوكهم وفكرهم عن منهج الإمام (عجّل الله فرجه)؟! فيُوقعون أنفسهم والآخرين بالمهالك والمحارق، والعاقل يفهم، بماذا يستفيد الإنسان إذا انحرف ليكون سبباً لتعجيل ظهور الإمام (عجّل الله فرجه)؟! فإنه إذا حصل التعجيل أو لم يحصل فإنه واقع في الإنحراف وتلبّس بالجريمة ويشمله غضب الإمام (عجّل الله فرجه) وينال منه العقوبة الدنيوية إن ظهر عليه وفي الآخرة ينتهي إلى جهنم وبئس المصير، وهذا دليل على سفه المُدّعين وضعف عقولهم وانحدارهم إلى أرذل المستويات الخُلقية، كما أنّه استهانة واستخفاف بعقول الناس، وارتكاب مثل هذا العمل إنما ينخرط في إطار المخطط الصهيوني العالمي سواء كان المرتكب واعياً لذلك أو واقعاً تحت التضليل والتغرير بالجهل، ثمّ لنعلم جميعاً أنَّ الإمام إنما يأمر بالطاعة والدعاء والخير والصلاح وينهى عن الفوضى والمعصية والفساد وعموم الشر، وهذا يكشف أيضاً على أنَّ هؤلاء أعداء الإمام (عجّل الله فرجه) يُخالفون أوامره ويُنفذون مخططاً تدميرياً لقواعد الإمام (عجّل الله فرجه) وأنصاره ويضللون الناس عن متابعة قائدهم في مسيرته الإسلامية الصحيحة، وأيضاً يُثبت مخططهم هذا أنهم لا يُحبّون الإمام (عجّل الله فرجه) ولا ينصرونه بدليل مخالفتهم لأوامره، فلا يتابعون فيما أمر من الرجوع في غيبته إلى الفقهاء الأمناء الحافظين لدينهم والنابذين للهوى بل صاروا يُحاربوهم ويأمرون الناس بقتلهم، وهذا فساد كبير في الأرض، وقد كشف الله سبحانه عن حقيقة الحُب وواقعيته بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (٤)، فالحُبْ هو المتابعة والطاعة والنصرة للمعصوم (عليه السلام) ومن يسير على خطاه ولا يقتصر على العاطفة الإنسانية كما أنّه ليس في الحب مخالفة أوامر المحبوب وتشريعات دينه السماوية، والفقهاء العدول أمناء على الدّين والإمتداد الطبيعي للخط الرسالي في الدعوة وقيادة المجتمع وحفظ النظام العام بما تأمر به الشريعة المقدّسة، وهذا ثابت بالنص ودليل العقل .
كما أنَّ من يدّعي أنَّه (المهدي) أو يدعي السفارة عنه وهم كُثُر عبر التأريخ لتضليل الناس والذهاب بهم بعيداً عن الإسلام وقياداته الشرعية الحقيقية فإنّه يقع في كثير من الأباطيل بالإضافة إلى ما يقع به من الفشل وسخرية القدر، لكونه لا يملك صلاحاً لنفسه ولا لأتباعه، وفاقد الشيء لا يُعطيه، فكيف سيصلح العالم ويُقيم الدولة الموعودة وهو لا يملك العصمة ولا الأهلية والاستعداد الذاتي للسفارة؟! ثُمّ أنَّ الإمام (عجّل الله فرجه) لا يموت حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجورا، فكيف الحال بالمدّعين أنهم يموتون ويُقتلون وهم عصاة مردة لم يُحققوا الصلاح لأنفسهم فضلاً عن الآخرين؟!
إذن الدعاوى الباطلة والشبهات والفتن في هذا المجال كثيرة ولا يسع المقام تفصيلها في هذا البيان المختصر الذي هو تذكرة وموعظة لعلها تنفع المؤمنين وتساهم في نشر الوعي والثقافة والإصلاح، وهذه مسؤولية شرعية ووظيفة حركية ميدانية لمواجهة الإنحرافات تقع على عاتق العلماء والمبلّغين كما عن الصادقين (عليهما السلام): (إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يُظهر علمه فإن لم يفعل سُلِبَ نور الإيمان)، فينبغي على الدعاة والمبلغين وقادتهم أن يضعوا موازنة صحيحة في الأداء والتبليغ والعمل في مجالات عملهم الإسلامي سواء كانت في مجال إحياء الشعائر الحسينية والعرض التأريخي أو في المجال السياسي أو العقائدي أو الفقهي أو التربوي إلى غير ذلك، فلا يصح تغليب جانب و إهمال جانب آخر أو الغفلة عنه أو التقصير في أداء الرسالة فيؤدي إلى إحداث ثغرة أو ثغرات قد تتسع سلبياً مما ينجم عنها تفاقم الوضع كما هو حاصل اليوم فإنَّ في ذلك مسؤولية شرعية واجتماعية وسياسية، إضافة إلى هذا إذا لم تتم برمجة المواجهة واستئصال هذه الفتن والبدع والأباطيل بأساليب متعددة منها عقد الندوات والمؤتمرات العلمية التصحيحية وإصدار الكتب والدراسات والبيانات المجانية والمدعومة لمعالجة الانحرافات وبثها ونشرها في العالم ومواجهة المد الصهيوني العالمي لتحريف خطوط الإسلام الفكرية ووضع حصانة للمؤمنين بخلق الوعي والتثقيف والارتباط الصحيح فإنَّ في التسامح والتقصير والعياذ بالله سيطال شرّها الجميع في الدنيا وكذا السؤال عنها في الآخرة، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(٥).
وعلى الحكومة أن ترعى شعبها وترفع عنه الظلم وتحقق له العدالة وتوفر له فرص عمل متكافئة وسبل العيش الكريم، لأنّ الحرمان والظلم من الآفات المهلكة ومن الأسباب التي قد تدفع بالإنسان إلى الانحراف الفكري والسلوكي، وإن كان هذا الانحراف غير مبرّر لهم شرعاً وعقلاً.
أيها الأحبَّة اتقوا الله واحذروا الفتن والبدع والانحرافات الفكرية والسلوكية التي تمر عليكم كقطع الليل المظلم، وحصِّنوا أنفسكم وأهليكم بالوعي والعلم والثقافة الإسلامية ومتابعة المراجع الربّانيين والعلماء الرساليين، وابتعدوا عن دائرة الشبهات والفتن والضلالة فإنَّ في الإبتعاد عنها سلامة لدينكم ونجاة لكم في الدنيا والآخرة، وعلينا جميعاً متابعة وظيفتنا الشرعية في عصر الغيبة من الانتظار والصبر المقرونان بالدعاء بالفرج لتعجيل ظهور الإمام (عجّل الله فرجه) والطاعة والعمل للإسلام والتمهيد لظهوره والإعداد اللازم لذلك على المستوى النفسي والقاعدة الجماهيرية من الأنصار وغيرها مما تتطلبه النصرة الشرعية الصادقة، وينبغي العلم أنَّ ظهور الإمام (عجّل الله فرجه) لا يخفى على أحد من العالمين لأنَّ الصيحة حين ظهوره يسمعها العالِم والجاهل والأصم، العدو والصديق وفي حال النوم واليقظة، وانكشاف العلامات والخطابات بشكل جلي للجميع، ولا تحتاج حينئذٍ إلى جهد كبير في معرفة ذلك وإلاّ كيف يمكن أن تتم الحجّة على الناس أجمعين؟! إذن لا تنخدعوا بهذه الصيحات الباطلة الجوفاء واسترشدوا بعقلكم ودينكم وبالمراجع الربّانيين والعلماء الرساليين وكونوا مع الصادقين، ونسأل الله تعالى حسن العاقبة لنا ولكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعجِّل اللهّم فرج وليك الحجّة بن الحسن (عجّل الله فرجه) واجعلنا من أنصاره وأعوانه والذابّين عنه والطالبين بثأر جدّه الحسين (عليه السلام) والمستشهدين بين يديه آمين ربِّ العالمين.
الهوامش:
(١) القصص٥.
(٢) الحج ١٠٥.
(٣) البقرة ١٥٥.
(٤) آل عمران٣١.
(٥) الأنفال٢٥.