أسانيد علامات الظهور
قراءة في منهجية الاستنباط الفقهي
آية الله العظمى الشيخ بشير النجفي
* تُعد مشكلة السند في روايات علامات الظهور مشكلةً يعانيها الباحث، وذلك من خلال ما يرد من ضعفٍ في طريق الرواية، كإرسالها أو ضعف بعض رواتها، وعلى ضوء ذلك كيف يتسنّى لنا التعامل مع علامات الظهور؟
هذا ما تقدّمت هيئة التحرير إلى آية الله العظمى سماحة الشيخ بشير النجفي بالسؤال التالي، فأجابنا سماحته مشكوراً:
** ربّما يتخيّل البعض أنّ الروايات التي تتعلّق بالتاريخ ـ سواء كانت تتحدّث عمّا مضى من الحوادث أو تحكي عمّا في المستقبل القريب والبعيد ـ لا ينبغي الاهتمام بسندها ما لم تتضمّن حكماً شرعياً، ويكتفي بورودها في الكتب المعتبرة وعلى ألسنة مَن سبق وفحص ومحّص الأخبار والأحاديث، فمثلاً يُكتفى بوجود الرواية في الكافي ونحوه من المصادر المعتبرة لدى أهل التحقيق والتمحيص، إلا أن هذا المبدأ لا نرتضيه، لأن الرواية مهما كان مضمونها فهي تشتمل على نسبة فعلٍ إلى شخصٍ ما أو وصفه بوصفٍ ما ونحوها من الأمور التي لا يصحّ نسبتها إلى أحد ما لم يكن هناك مسوّغ ومبرّر، وينحصر هذا المسوّغ في وثاقة الخبر أو وثاقة الراوي.
نعم ربّما يكون كثرة الروايات في شأن قضيةٍ معينة توجب الاطمئنان بحصولها في ظرفها وإن لم يمكن التأكّد بالخصوصيّات المرتبطة بها والمحيطة لها، وذلك شيء آخر بعيد عن المبدأ الذي نتحدّث عنه. وينبغي أن يُعلم أنه ربّما يجد الباحث في كلمات بعض المحقّقين ما مغزاه عدم ضرورة التمحيص والبحث عن سند القضايا التاريخية، ولكن ذلك ليس منه التزاماً بمضمون تلك الروايات، بل يعني ـ في معظم الأحيان ـ ما أشرنا إليه؛ أو أنه يعلم قصور الأيدي في العصور المتأخّرة عن التأكّد من صحّة الأخبار التاريخية لانعدام العلم بالوسائط التي وصلت الأخبار إلينا عن طريقها.
وهناك مبدأ آخر قد يظهر الميل من البعض إليه، وهو أن الأخبار التاريخية ـ ومنها روايات علامات الظهور ـ تندرج في قاعدة التسامح في أدلّة السُّنن، وهو خبط وخلط، لأن قاعدة التسامح ـ مع الشكّ في ثبوتها، بل نفيناها في محله ـ مغزاها هو الالتزام بروايات <مَن بلغ> التي مفادها أنّه مَن بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثوابٌ على عملٍ وعَمِلَ به رجاء ذلك الثواب الموعود فالله سبحانه يمنحه الثواب كرامةً للنبي ورفقاً بالعبد ومراعاة لعزمه على الطاعة ورغبته في الثواب الإلهي، وعمّم بعضُهم مفاد هذه الروايات لتشمل المكروهات أيضاً، لكن هذا المعنى ـ كما ترى ـ بعيد عن الروايات التاريخية، فإنّ تصديق الروايات والجزم بتلك القصص المرويّة غير داخل في مضمون تلك الروايات، بل التصديق بقضيّةٍ ما من القضايا التاريخية الماضية أو المستقبلية يعني التصديق بما لم يثبت، وربّما تصل الحال بالمصدّق إلى الافتراء على أحد من المسلمين أو الطعن والنيل من بعضهم، وأين هذا من ذلك؟
والذي نتمكّن أن نقوله في هذه العُجالة أنّ الأخبار المشتملة على العلامات صنفان:
ما يمكن إحراز مقوّمات الاعتبار والحجّية فيه، خصوصاً ممّن يرى كفاية وثاقة الراوي أو وثاقة الخبر بنحو العموم ويكتفي بكلّ واحد منها، فالناظر النقّاد البصير قد يتمكّن من إحراز وثوق الخبر من القرائن المحيطة به أو التي اشتمل الخبر عليها أو القرائن البعيدة الموجودة في بعض الروايات المعتبرة، ومغزى هذا الاتجاه الالتزام بصنف واحد من هذين الصنفَين، والذي يتمّ من الأخبار على هذا المقياس، ويخرج سليماً من الخدشة بقسطاس مستقيم قليل جداً.
ولنا اتّجاه آخر قد ننتهجه ونرجّحه، وهو يتمثّل في النظر إلى مجموع روايات العلامات على أنّها بجملتها تتحدّث (ولا سيّما التي تتحدّث عن العلائم الحتميّة مثل الخسوف في البيداء، والصيحة بين السماء والأرض، وبزوغ الشمس من المغرب، وكسوف الشمس في وسط الشهر، وخسوف القمر في أوّله، على خلاف الموازين الهندسية والجغرافيا الفلكية) أنّها بجملتها تتحدّث عن حدوث أمور غير طبيعية وعلى خلاف ما يقتضيه النظام الكوني القائم المعتاد الذي استأنست النفوس للتعايش معه منذ قرون جيلاً بعد جيل، ومعلوم أنّه كما يصعب ـ حسب الموازين العلمية المقرّرة في محلّها ـ الجزم بصحّة كلّ واحد من هذه الأخبار، كذلك نجزم بصدق بعضها ونقطع بعدم كذب جميعها لكثرتها وتشعّب خصوصياتها واتّساع دائرة رواتها ومَن رُويت عنه، فاحتمال التواطؤ على الكذب مرفوض بحكم العادة، فعليه هي متواترة إجمالاً ونلتزم بما اتّفقت عليه من المعاني، وأبرزها حدوث أمور كونيّة غير معتادة، وهذه الأحاديث ـ أحاديث علائم الظهور ـ تمثّل إرهاصات لظهور الحقّ على غرار ما حدث حين ولادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، كسقوط شُرف طاق كسرى وخمود نار فارس فجأة وغَور بحيرة ساوة وفيضان وادي السماوة وغيرها، وقد سطرها أهل التحقيق في مصادرهم. فما روي في علامات الظهور يجري في هذا المجرى، فهي تتحدث عن حدوث كوارث أو آيات مقدّمة لظهور الحجّة عليه السلام ، فهي أشبه شيء بجلبة وهزّة نسمعها قبيل وصول الجيش العرمرم بعدّته وعدده، وكذلك اهتمام علمائنا الأبرار بهذه الروايات بالجمع والمبالغة في استقصائها في كتب مستقلّة أو ضمن مؤلّفاتهم الموسّعة، ومعلوم أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين التشريعات الإلهية التي تنبعث من ملاحظة المصلحة والحكمة فيها أو في مصبّها وبين تسلسل الحركة الكونية والتسابق والتنافس من الحقائق التكوينية في الانصياع للإرادة الحقيقية المنطلقة من عموم فيض المبدأ الاعلى والرحمة الشاملة والنور الحقيقي الذي أزاح بُهم الظلمة عن الكائنات كلها، فاستقت الأودية وارتوت وفاضت بنور ربّها، ودارت الممكنات في فلكها، كما يكشف ذلك تقيّد التكاليف الإلزامية والاعتبارات الشرعية أو متعلّقاتها بالأوضاع الكونية من حيث الزمان والمكان المحيطة بالمكلّف، مع الأخذ بعين الاعتبار مراحل تكوّنه وتدرّجه في مراقي التكامل التكويني، ويوجب ذلك الارتباط الاحتزاز والتدافع والتجاذب حسب تنجّز التشريعات والاعتبارات المتشابكة والمتعلّقة بمظهر الرحمة الربانية ومحور السعادة الكونية، فتظهر بوادر الصلاح بزوال العقبات والعوائق الناشئة من طول الانحرافات من المكلّفين وخروجهم الطويل عن الصراط المستقيم المانعة في سبيل انتشار الصلاح وشموله للعالم كلّه ضمن إنذار وتحذير لكلّ مُعادٍ، وإتمام الحجّة على كلّ مناوئ.
وأفاد سماحته:
وقد ورد في التوقيعات الشريفة المرويّة عنه سلام الله عليه بطريق الخلّص من أصحابه انقطاع السفارة بينه وبين شيعته منذ وقوع الغيبة الكبرى، فمن ينتحل زوراً وبهتاناً شخصية معينة كوكيل خاص للإمام عليه السلام أو سفير بينه وبين شيعته وأنه يتلقّى الأوامر والنواهي منه عليه السلام مباشرة فهو كذّاب أشِر فاسد ومُفسد ويكذب على الإمام المعصوم، ويجب ردعه بكلّ وسيلة ممكنة وفضحه وفضح نواياه ليأمن المسلمون شرّه، ولو تمكّن الحاكم الشرعي لوجب تعزيره وتعزير من يصدّقه. وأمّا انخداع بعض العوام وتصديق مثل هؤلاء الباهتين فلا يُستغرب، فإن الناس في كلّ زمان هم الناس، وقد روى القرآن الكريم قصّة عبادة اليهود لعجل السامري مع وجود هارون بينهم، وميل الناس عن أشرف مخلوق بعد رسول الله إلى مَن لايكاد يدرك شأن علي عليه السلام ولا ينال غباره، ولكن الزمان هو الزمان. يقول سيد الاوصياء (متى اعترى بي الريبُ مع الأوائل حتّى صرت أُقرن إلى هذه النظائر؟! أنزلني الدهر ثم أنزلني حتّى قيل: علي ومعاوية).
كما أن الارتباط بالإمام المهدي عليه السلام ممكن بل مطلوب شرعاً، إذ هو إمام زماننا ونُحشر يوم القيامة في قيادته، لقوله سبحانه (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) ونحن نعيش تحت رعايته، وسلّمنا الله تعالى ويسلّم سائر المؤمنين ببركته ودعائه، بل بيمنه رُزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ أهل بيتي أمان لأهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء. ولكن ينبغي أن يُعلم أن فقدان الارتباط بالإمام لا ينبغي أن يُعزى إلى انقطاع الفيض منه وانصراف عطفه عنّا، فإن ذلك يُعاب على الكريم، بل هو كآبائه الطاهرين مصدر كلّ خير ومنبع كلّ رحمة، وإنّما ينشأ للقصور أو التقصير فينا نحن، فإنّا نجد أنّ سيد الشهداء سلام الله عليه صرف بعضَهم عن الخروج معه إلى القتال ودعا آخرين الالتحاق به، ويُفسّر ذلك باختلاف مراتب الأشخاص وتفاوت الصلاحيات الذاتية المكتسبة والموهوبة.
ومن هذا المنطق يجب على كلّ مكلّف إعداد نفسه وإصلاحها ليستعدّ لقبول الفيوض الربانية، وأن يطهّر عيونه لتكتحل بالنظر إلى الغُرّة الحميدة والطلعة الرشيدة. وينبغي أن نعلم أنّ أول الأوائل في هذا السبيل ترسيخ العقيدة بالمبادئ الاسلامية وضروريات الدين الحنيف، ثمّ ترويض النفس بالأخلاق الحسنة بالابتعاد عن المعاصي والسعي في خلع الملكات الرذيلة، والاستعانة بالمرشدين العلماء الأبرار ـ ولو من خلال مؤلّفاتهم ـ وتزيين النفس بالمستحبّات، واللجوء إلى الله تعالى بكلّ كيانه ليُعينه على نفسه، ويطلب منه الثقة به تعالى، ويستجديه التوكّل عليه، ويستفيضه العون والهداية والقوة والتسديد في السلوك إليه. وقد ورد في غير واحدٍ من الروايات أنّ ولاية أهل البيت لا تُدرك إلاّ بالتقوى والجهاد مع النفس، وقد ورد أن شيعتهم هم المتّقون، نرجوه سبحانه أن يُعيننا على أنفسنا ويهب لنا الثقة به، ويجود علينا ـ بالتوكّل عليه ـ بالمغفرة عمّا سلف والعون على ما بقي.