اللوحة الفنيّة في دعاء الندبة
السيد صدر الدين القبانجي
في الوقت الذي تمتاز فيه جميع الأدعية الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) بأنها تستعمل منهج رسم اللوحة الفنية، إلاّ أنّ عدداً من تلك الأدعية والزيارات قد برزت بشكل أكبر فكانت بحق لوحة فنية ومشهداً متكاملاً، وفي هذا السياق يمثّل دعاء الندبة موقعا متميزاً من الأدعية التصويرية التي تعتمد منهج تشكيل اللوحة الفنيّة بأسلوب الدعاء وبشكل غاية في الروعة، وبحفظ جميع مقومات اللوحة الفنيّة. وهذا ما نحاول أن نكتشفه في النقاط التالية:
الخصوصية الأولى: الفكرة الواضحة والمحددّة والمدعمة تاريخياً وقرآنياً
نلاحظ أنّ اللوحة الفنية في دعاء الندبة حاولت أن تركز وتعكس فكرة واضحة ومحددة ومدعمة تاريخياً وقرآنياً.
فقد بدأ الدعاء بعرض تاريخي لمسيرة الأنبياء والأئمة الأطهار (عليهم السلام) في المسيرة الهادفة إلى إحقاق الحق (وَلِئَلّا يَزُولَ الْحَقُّ عَنْ مَقَرِّهِ وَيَغْلِبَ الْباطِلُ عَلى أهْلِهِ).
لقد بدأ الدعاء بالقول (الْحَمْدُ عَلى ما جَرى بِهِ قَضاؤكَ في أوْلِيائِكَ الَّذينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَدينِكَ) (فَبَعْضٌ أسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ إلى أنْ أخْرَجْتَهُ مِنْها) (وَبَعْضٌ حَمَلْتَهُ في فُلْكِكَ) (وَبَعْضٌ أوْلَدْتَهُ مِنْ غَيْرِ أب) ... إلى غير ذلك من حكايات الأنبياء ومسيرتهم (عليهم السلام).
وهكذا تعتمد اللوحة على تسليط الضوء التاريخي ليستمر قائلاً (مُسْتَحْفِظاً بَعْدَ مُسْتَحْفِظ مِنْ مُدَّةٍ إلى مُدَّةٍ، إقامَةً لِدينِكَ)، (صالِحٌ بَعْدَ صالِحٍ، وَصادِقٌ بَعْدَ صادِقٍ).
إن هذا السرد التاريخي المضغوط والشامل في نفس الوقت لم يكن اعتباطياً أو لمحض العرض القصصي بل هو لرسم الفكرة التي تهدف إليها اللوحة الفنية، والتي تريد أن تقول إن حركة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هي حلقة في هذه السلسلة النبوية المباركة، وهي امتداد لها، ووارثة لأهدافها وهمومها، (اَيْنَ الطّالِبُ بِذُحُولِ الأنْبِياءِ وَأبْناءِ الأنْبِياءِ).
الخصوصية الثانية: بطل اللوحة وملامح شخصيته
من اللافت للنظر في هذا الدعاء، هو العرض الرائع والمفصّل والجمالي لشخصية بطل اللوحة وهو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
لقد جاءت صورة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في هذه اللوحة وقد استخدمت لتلوينها كل الألوان، والإثارة، وتعدد الزوايا، إن أكثر من خمسين وصفاً قد رسمته هذه الصورة لبطلها، يأتي كل ذلك في سياق ندائه واستصراخه، لأنّه هو وحده الذي تنقطع إليه الآمال:
(أينَ المُعَدُّ لِقَطْعِ دابِرِ الظَّلَمَةِ). (أيْنَ الْمُرْتَجى لإزالَةِ الْجَوْرِ وَالْعُدْوانِ). (أيْنَ مُعِزُّ الأوْلِياءِ وَمُذِلُّ الأعْداءِ).
ويستمر في عرض معالم وملامح هذه الشخصية بشكل تفصيلي وزاهي الألوان فيقول مستوحيا جذور هذه الشخصية الضاربة في عمق التأريخ النبوي النوراني المشّع:
(يَا ابْنَ الْبُدُورِ الْمُنيرَةِ) (يَا ابْنَ السُّرُجِ الْمُضيئَةِ).
(يَا ابْنَ الاْنْجُمِ الزّاهِرَةِ) (يَا ابْنَ السُّبُلِ الْواضِحَةِ).
ولم تنسَ هذه اللوحة الفنية العمق الديني في شخصية بطلها فهو (يَا ابْنَ الآياتِ وَالْبَيِّناتِ) و(يَا ابْنَ الدَّلائِلِ الظّاهِراتِ)، و(يَا ابْنَ يس وَالذّارِياتِ)، و(يَا ابْنَ الطُّورِ وَالْعادِياتِ).
ثم تعود اللوحة لإضافة صور جمالية أخرى على شخصية البطل من خلال تلوينها باللّون الأخلاقي والمعنوي ومكارم الأخلاق ومحامد الخصال فتقول: (بِنَفْسي أنْتَ مِنْ أثيلِ مَجْدٍ لا يُجارى، بِنَفْسي أنْتَ مِنْ تِلادِ نِعَمٍ لا تُضاهى، بِنَفْسي أنْتَ مِنْ نَصيفِ شَرَف لا يُساوى).
أذن أنت في دعاء الندبة ترى وتشهد وتقرأ شخصية جميلة غاية ما يكون الجمال، كريمة في الخصال، شاهقة القمم، ذات تاريخ مقدس، وأصول عريقة.
الخصوصية الثالثة:
صورة الإنسان المظلوم تاريخياً وهو يتطلع للنصر النهائي
وفي جانب أخرمن اللوحة تظهر صورة الإنسان المظلوم على طول التاريخ، هذا الإنسان الذي سحقه الظالمون والجبارون وهو يظهر في الصورة باكيا حزينا واجداً، لكنّه ليس كسيراً ولا يأساً، يظهر في الصورة وهو يبحث ويتجوّل في بقاع الأرض ويتساءل أين ومن أين ستكون إشراقةُ النور وظهور البطل العالمي؟
يظهر في الصورة وهو يبادل إمامه الحب والوجد والعشق قائلاً: (إلى مَتى أحارُ فيكَ يا مَوْلايَ وَإلى مَتى)، (عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أرَى الْخَلْقَ وَلا تُرى وَلا اَسْمَعُ لَكَ حَسيساً وَلا نَجْوى، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ لا تُحيطَ بِكَ دُونِيَ الْبَلْوى).
وها هو ينظر إلى مشارق الأرض مرة وإلى مغاربها مرة أخرى قائلاً: (لَيْتَ شِعْري أيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوى، بَلْ أيُّ اَرْض تُقِلُّكَ أوْ ثَرى، أبِرَضْوى اَوْ غَيْرِها أمْ ذي طُوى).
هذا الإنسان الذي يظهر في الصورة وهو يحمل على أكتافه عناء التاريخ وويلات الدهر القاسي، هذا الإنسان وهو يبحث عمن يشاطره البكاء والعزاء (هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَساعَدَتْها عَيْني عَلَى الْقَذى).
الخصوصية الرابعة: معسكرات الحرب
اللوحة ترسم معسكرات حرب، فحينما يقف المضطهد مستصرخاً، ومنتظراً للراية التي يلتحق بها ويد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) تحملها، يظهر في خلفية الصورة معسكران، هما معسكر الحق ومعسكر الباطل، حيث تحتشد هنا وهناك الجيوش والقوات.
لكن الرائع في اللوحة الفنية هي مسالة أخرى، مسالة نادرة، مسألة لافتة للنظر ربما تكون محيرة للمشاهد لكنها ذات دلالة عظيمة.
إنّ معسكر الحق كله يحتشد حول الإمام علي (عليه السلام)، وتتمحور المعركة كلّها حول شخصية الإمام علي (عليه السلام) الذي مثّل بوصلة اتجاه معسكر أهل الإيمان.
لاحظوا كيف تخطف اللوحة أنظار المشاهدين وهم يسيرون مع الأنبياء واحداً بعد واحد، من مدة الى مدة ليشهدوا كيف يسلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الراية إلى الإمام علي (عليه السلام)، معززاً بالتصريحات والدعوات وألوان التكريم والتعظيم.
(فَلَمَّا انْقَضَتْ أيّامُهُ أقامَ وَلِيَّهُ عَلِيَّ بْنَ أبي طالِب صَلَواتُكَ عَلَيْهِما وَآلِهِما هادِياً، إذْ كانَ هُوَ الْمُنْذِرَ وَلِكُلِّ قَوْم هاد) وتمضي اللوحة لتستعرض حوادث الكرامة في التاريخ التي كانت من نصيب الإمام علي (عليه السلام).
وهكذا تبرز في اللوحة، وفي كل أرضها وزواياها ومنحنياتها ملامح وجه علي بن أبي طالب (عليه السلام) ليلخّص حركة الأنبياء كلهم، وليكون هو قسيم النار والجنة، بعد أن كان في الدنيا هو الفرقان بين الحق والباطل، بين خط الأنبياء وخط النفاق، (مَنْ كُنْتُ أنَا نَبِيَّهُ فَعَلِيٌّ أميرُهُ).
ما أروع هذا المشهد: لماذا.. (فَعَلَى الأطائِبِ مِنْ أهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِما وَآلِهِما)؟
لماذا... (اَيْنَ الْحَسَنُ اَيْنَ الْحُسَيْنُ أيْنَ أبْناءُ الْحُسَيْنِ)؟ هذا هو واقع المعركة علي وأولاده (عليهم السلام) في جانب وخصوم علي وغاصبوه وأولادهم في جانب أخر. والإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو من أولاد الإمام علي (عليه السلام)، بعد أن كان قبل ذلك من أولاد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذا ما تحاول اللوحة الفنية تركيزه في ذهن السامع شعوريا ولا شعوريا (اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ جَدِّهِ وَرَسُولِكَ السَّيِّدِ الأكْبَرِ، وَعَلى أبيهِ السَّيِّدِ الأصْغَرِ، وَجَدَّتِهِ الصِّدّيقَةِ الْكُبْرى فاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ).
هكذا تتكامل في لوحة دعاء الندبة أطراف المعركة وتأريخها وبداياتها ونهاياتها وأبطالها ورجالها، وحيث ترتسم في هذه اللوحة صورة لواء الحق وهو ينتقل من يد نبي إلى نبي، حتى يتسلمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليسلمه بعد ذلك إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام). وعبر ملاحم يخوضها أولاد علي وشيعة علي (عليه السلام) تطوى الراية وتختفي في زاوية من زوايا الأفق، بينما يظل الشيعي المعذّب، الذي يمثل شعوب الأرض المعذبة كلها يبحث عن هذا اللواء وحامله ليظهر بعد ذلك مرفرفا بيد منقذ البشرية ونهاية تاريخها المعذب الإمام المنتظر المهدي (عجّل الله فرجه).
وهناك يتحقق مجتمع العدالة والقسط، ويحيى دين الله وترتفع كلماته ونحن نقول الحمد لله رب العالمين.