فهرس المكتبة التخصصية
 كتاب مختار:
 البحث في المكتبة:
 الصفحة الرئيسية » المكتبة التخصصية المهدوية » كتب أخرى » موسوعة الإمام المهدي (عليه السلام) - الكتاب الثالث: تاريخ ما بعد الظهور
 كتب أخرى

الكتب موسوعة الإمام المهدي (عليه السلام) - الكتاب الثالث: تاريخ ما بعد الظهور

القسم القسم: كتب أخرى الشخص المؤلف: السيد محمد الصدر تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠١٤/١٠/٢٦ المشاهدات المشاهدات: ٣٤٢٥٢ التعليقات التعليقات: ٠

موسوعة الإمام المهدي (عليه السلام)
الكتاب الثالث: تاريخ ما بعد الظهور

تأليف: السيد محمد الصدر

الفهرس

التمهيد..................٥
الجهة الأُولى: أهميّة الموضوع..................٦
الجهة الثانية: طرق الاستدلال..................٨
الجهة الثالثة: صعوبات البحث..................١٢
الجهة الرابعة: الخروج من هذه الصعوبات..................١٩
الجهة الخامسة: الفهرسة..................٢٤
القسم الأوّل: مقدّمات الظهور..................٢٩
الباب الأوّل: الأُسس العامّة للظهور..................٣١
الفصل الأوّل: ارتباط الظهور بالتخطيط العام..................٣٣
الفصل الثاني: نتائج الغيبة الكبرى على ما بعد الظهور..................٣٧
الفصل الثالث: توقيت الظهور بشرائطه وعلاماته..................٥١
روايات نفي التوقيت..................٥٣
الفصل الرابع: الإيديولوجية العامة للمهدي (ع)..................٦١
الجهة الأُولى: في دينه..................٦١
الجهة الثانية: مذهبه..................٦٨
الجهة الثالثة: موقفه من العنصرية..................٧٩
الجهة الرابعة: نظام الدولة المهدوية..................٨٧
الفصل الخامس: التخطيط الإلهي لما بعد الظهور..................٩٣
ما بين التخطيطين..................٩٧
الأُسس العامّة لتخطيط ما بعد الظهور..................١٠٠
الجهة الأُولى: خصائص المجتمع حين الظهور..................١٠١
الجهة الثانية: هدف التخطيط الثاني..................١٠٢
الجهة الثالثة: تفاصيل التخطيط الجديد..................١٠٣
الباب الثاني: حوادث ما قبل الظهور..................١١١
تمهيد..................١١٣
الفصل الأوّل: الظواهر الطبيعية..................١١٧
الجهة الأُولى: الخسوف والكسوف..................١١٧
الجهة الثانية: الفزعة والصيحة..................١٢٣
الجهة الثالثة: النداء..................١٢٧
الجهة الرابعة: المطر..................١٣٦
الفصل الثاني: الظواهر الاجتماعية..................١٣٩
الدجّال..................١٣٩
الناحية الأُولى: موقف الدجّال من الأُمة الإسلامية..................١٣٩
الناحية الثانية: علاقة الدجّال بالمسيح..................١٤٢
الناحية الثالثة: علاقة الدجّال بالمهدي (ع)..................١٤٤
يأجوج ومأجوج..................١٤٦
الناحية الأُولى: عدم الأخذ بالدلالة الصريحة..................١٤٨
الناحية الثانية: عرض أطروحة لفهم يأجوج ومأجوج..................١٤٩
الناحية الثالثة: الفرق بين يأجوج ومأجوج والدجّال..................١٥٥
السفياني..................١٥٩
الناحية الأُولى: في سرد الأخبار..................١٦٠
الناحية الثانية: في صلاحيتها للإثبات التاريخي..................١٦٣
الناحية الثالثة: تنظيم مداليل الأخبار..................١٦٥
الناحية الرابعة: الرايات السود والخراساني..................١٦٩
الناحية الخامسة: الخسف يكون بجيش السفياني..................١٧٠
الناحية السادسة: مقتل السفياني..................١٧١
الناحية السابعة: الفهم الرمزي للسفياني..................١٧٣
النفس الزكيّة..................١٧٥
الناحية الأُولى سرد الأخبار الدالة على ذلك..................١٧٦
الناحية الثانية: فهم الأخبار ككل..................١٧٨
الناحية الثالثة: بعض الاعتراضات..................١٧٩
الناحية الرابعة: في تمحيص الأخبار..................١٨٣
القسم الثاني: حوادث الظهور والدولة العالمية..................١٨٧
الباب الأوّل: من الظهور إلى المسير إلى العراق..................١٨٩
تمهيد..................١٩١
الفصل الأوّل: معنى الظهور وكيفيته..................١٩٥
الجهة الأُولى: في كيفية الظهور..................١٩٦
الجهة الثانية: أُسلوب معرفة الإمام بالوقت..................١٩٧
الفصل الثاني: في تاريخ الظهور وموعده..................٢٠٧
في تعيين الظهور بعلم الحروف..................٢٠٧
في تعيين الظهور بالروايات إجمالاً..................٢٠٧
الفصل الثالث: خطبته الأُولى وبيعته..................٢٢١
الجهة الأُولى: في ظهوره بين الركن والمقام..................٢٢١
الجهة الثانية: أخبار خطبته..................٢٢٢
الجهة الثالثة: نقاط في الأخبار..................٢٢٤
الجهة الرابعة: في إقامة المعجزة..................٢٣٣
الجهة الخامسة: ظهوره في كرعة..................٢٤٠
الجهة السادسة: البيعة بعد الخطاب..................٢٤٢
الجهة السابعة: في السلام عليه..................٢٥٨
الفصل الرابع: أصحاب الإمام المهدي (ع)..................٢٦١
الجهة الأُولى: في الروايات..................٢٦١
الجهة الثانية: في أهمّيّتهم..................٢٦٦
الجهة الثالثة: في عددهم..................٢٦٧
الجهة الرابعة: في كيفيّة ورودهم إلى مكّة المكرّمة..................٢٧٠
الجهة الخامسة: جنسيّاتهم..................٢٧٤
الجهة السادسة: المشكلة القانونية التي تحدث في مكّة لورودهم..................٢٨٦
الجهة السابعة: في خصائص أُخرى لهم..................٢٩١
الجهة الثامنة: في سؤالٍ مع جوابه..................٢٩٤
الفصل الخامس: المنجزات الأُولى للمهدي (ع) إلى حين وصوله إلى العراق..................٣٠١
الجهة الأُولى: حديث يصلحه الله في ليله..................٣٠١
الجهة الثانية: احتمال تأخّر الخسف عن الظهور..................٣٠٢
الباب الثاني: فتح العالم بالعدل..................٣٠٩
الفصل الأوّل: نقطة الانطلاق..................٣١١
الجهة الأُولى: سرد الأخبار..................٣١١
الجهة الثانية: قابليّة الروايات للإثبات..................٣١٤
الفصل الثاني: في مقدار سعة مُلْكه..................٣١٧
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار..................٣١٧
الجهة الثانية: اقتضاء التخطيط العام عالَميّة الدولة..................٣٢٠
الجهة الثالثة: في ملحوظات تساعد على الفهم..................٣٢١
الفصل الثالث: ضمانات الانتصار..................٣٢٧
تمهيد..................٣٢٧
القسم الأوّل: الضمانات الناتجة من التخطيط السابق..................٣٣٣
الضمان الأوّل: فشل الأنظمة السابقة..................٣٣٣
الضمان الثاني: ضعف الدول السابقة..................٣٣٦
الحرب العالمية..................٣٣٧
الضمان الثالث: وجود العدد الكافي من المخلصين..................٣٤٥
الجهة الأُولى: شرائط النصر عموماً..................٣٤٥
الجهة الثانية: سرد الأخبار في أصحاب الإمام المهدي (ع)..................٣٤٧
الجهة الثالثة: في مقدار إيمانهم..................٣٤٩
الجهة الرابعة: عبادتهم..................٣٥١
الجهة الخامسة: شجاعتهم..................٣٥٢
الجهة السادسة: مقدار طاعتهم للمهدي (ع)..................٣٥٤
الجهة السابعة: شعارهم..................٣٥٦
الضمان الرابع: مميّزات الإمام نفسه..................٣٥٧
الجهة الأُولى: نتائج التخطيط السابق..................٣٥٧
الجهة الثانية: الأخبار الواردة حول ذلك..................٣٥٨
الجهة الثالثة: الشرح اللغوي للأخبار..................٣٦٥
الجهة الرابعة: حل تعارضات الأخبار..................٣٦٧
الجهة الخامسة: كونه في سِنّ الشيوخ..................٣٦٩
القسم الثاني من ضمانات الانتصار..................٣٧١
الضمان الأوّل: المباغتة..................٣٧١
الجهة الأُولى: في تخطيط المباغتة..................٣٧٢
الجهة الثانية: في بعض المناقشات..................٣٧٣
الضمان الثاني: كونه منصوراً بالرعب..................٣٧٤
الجهة الأُولى: الأخبار الدالة على ذلك..................٣٧٤
الجهة الثانية: تفسير النصر بالرعب..................٣٧٥
الجهة الثالثة: في أسباب الرعب..................٣٧٦
الضمان الثالث: انطلاقه من زاوية متّفق عليها..................٣٧٩
الضمان الرابع: معونة الملائكة له..................٣٨٢
الجهة الأُولى: في إيراد الأخبار..................٣٨٢
الجهة الثانية: في فلسفة هذه الأخبار..................٣٨٥
الفصل الرابع: كيفيّة ومدّة استيلائه على العالم..................٣٨٩
تمهيد..................٣٨٩
القسم الأوّل: حرب السفياني مع الإمام المهدي (ع)..................٣٩٠
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار..................٣٩٠
الجهة الثانية: في الفهم العام للروايات..................٣٩٢
القسم الثاني: في أنّ المهدي (ع) يستأصل المنحرفين جميعاً..................٣٩٣
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار..................٣٩٣
الجهة الثانية: ارتباط كثرة القتل بالتخطيطين العامّين..................٣٩٨
الجهة الثالثة: في إيضاح بعض النقاط من الأخبار..................٤٠٤
القسم الثالث: في تحديد مدّة القتل بثمانية أشهر..................٤٠٨
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار على ذلك..................٤٠٨
الجهة الثانية: الحديث عن هذه الأخبار..................٤٠٩
القسم الرابع: الفتح العالمي السّلْمي بدون قتال..................٤١٢
الجهة الأُولى: في الأخبار الدالة على ذلك..................٤١٢
الجهة الثانية: في نقد هذه الأخبار..................٤١٤
الفصل الخامس: موقف الآخرين من الإمام المهدي (ع)..................٤١٩
العواطف السلبية..................٤١٩
العواطف الإيجابية..................٤٢٨
الفصل السادس: مدّة بقاء المهدي (ع) في الحكم..................٤٣١
الجهة الأُولى: في مقتضى التخطيط العام..................٤٣١
الجهة الثانية: في سرد الأخبار الدالة على مدّة مُلْكه..................٤٣٣
الجهة الثالثة: في تمحيص هذه الأخبار..................٤٣٦
الباب الثالث: التطبيق الإسلامي المهدوي والدولة المهدوية العالمية..................٤٤١
الفصل الأول: مجيء المهدي بأمر جديد وكتاب جديد..................٤٤٣
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الدالة على ذلك..................٤٤٣
الجهة الثانية: في محاولة فهمها فهماً تخطيطياً..................٤٤٤
الجهة الثالثة: في نقاط القوّة في الفكر الإسلامي خلال الغيبة..................٤٤٦
الجهة الرابعة: موقف الإمام من الفكر الإسلامي..................٤٤٧
الجهة الخامسة: في شرح هذه الفقرات..................٤٥٠
الجهة السادسة: في أنّه هل يأتي بدين جديد..................٤٥٥
الجهة السابعة: في مقارنته برسول الله (ص)..................٤٥٥
الفصل الثاني: موقف الإمام المهدي من القضايا السياسية والاجتماعية السابقة على الظهور..................٤٥٧
تمهيد..................٤٥٧
الجهة الأُولى: إلقاء الضوء على موقفه من القضايا الراهنة..................٤٥٨
الجهة الثانية: ماذا سيكون شكل دولته العالمية..................٤٦١
الجهة الثالثة: شأن الأحزاب في دولة المهدي (ع)..................٤٦٥
الفصل الثالث: ضمانات التطبيق السريع العميق للعدل في العالم..................٤٦٩
تمهيد..................٤٦٩
المستوى الأوّل: ضمانات التطبيق لأوّل مرّة..................٤٧٠
القسم الأوّل: الضمانات الموضوعية..................٤٧٠
القسم الثاني: الضمانات المنبثقة من شخص الإمام المهدي (ع)..................٤٧٣
القسم الثالث: الضمانات المنبثقة من صفات أصحابه..................٤٧٧
المستوى الثاني: ضمانات دوام التطبيق..................٤٧٩
الفصل الرابع: قيادات أصحابه ومقدار قابليّاتها..................٤٨٣
تمهيد..................٤٨٣
الجهة الأُولى: في إيراد الأخبار حول ذلك..................٤٨٣
الجهة الثانية: بعض نقاط الضعف في خطبة البيان..................٤٩١
الفصل الخامس: تمحيص الإمام المهدي (ع) لأصحابه وللأُمّة..................٥٠٧
تمهيد..................٥٠٧
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الدالة على ذلك..................٥٠٨
الجهة الثانية: في فهم مفردات هذه الأخبار..................٥١٠
الجهة الثالثة: في محاولة فهم عام لهذه الأخبار..................٥١٦
الفصل السادس: أُسلوب الإمام المهدي (ع) في تربية الأُمّة..................٥٣١
تمهيد..................٥٣١
الجهة الأُولى: في الأساليب العامّة للتربية في عصر الظهور..................٥٣١
الجهة الثانية: في نتائج التربية الإسلامية في دولة المهدي (ع)..................٥٣٣
الفصل السابع: بعض منجزات الإمام المهدي (ع) على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي..................٥٤١
الجهة الأُولى: في الأخبار الدالة على هذه المنجزات..................٥٤١
الجهة الثانية: في المسلك الشخصي للإمام المهدي (ع)..................٥٤٧
الجهة الثالثة: السياسة الزراعية للمهدي في دولته..................٥٥١
الجهة الرابعة: السياسة العمرانية لدولة المهدي (ع)..................٥٥٣
الجهة الخامسة: أهمّيّة التعدين في الدولة المهدوية..................٥٥٦
الجهة السادسة: السياسة المالية للدولة المهدوية..................٥٥٧
الجهة السابعة: في التأييد الإلهي لدولة المهدي (ع)..................٥٦٣
الخاتمة الأُولى: في المنجزات القضائية والعبادية والفقهية وغيرها..................٥٦٧
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الدالة على هذه المنجزات..................٥٦٧
الجهة الثانية: في المبرّرات الكافية لاتخاذ المهدي (ع) أُسلوب قضاء سليمان وداود (ع)..................٥٧٢
الجهة الثالثة: في مقتل إبليس..................٥٧٥
الجهة الرابعة: الحج في عصر المهدي (ع)..................٥٧٩
الجهة الخامسة: في منجزات أُخرى وردت في الأخبار..................٥٨٠
الخاتمة الثانية: في المنجزات العلمية لدولة المهدي (ع)..................٥٨١
الجهة الأُولى: في الأخبار الدالة على وجود الأجهزة الحديثة قبل الظهور..................٥٨٢
الجهة الثانية: في الأخبار الدالة على وجودها في عصر الظهور..................٥٨٤
الفصل الثامن: موقف الإمام المهدي (ع) من أهل الكتاب ونزول المسيح في دولته..................٥٩١
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار المتعلّقة بالمسيح وأهل الكتاب..................٥٩١
الجهة الثانية: في وحدة المسيح والمهدي..................٥٩٥
الجهة الثالثة: في المضمون العام لهذه الأخبار..................٦٠٠
الجهة الرابعة: في الحديث عن بعض خصائص المسيح عيسى بن مريم (ع)..................٦٠٣
الجهة الخامسة: في بعض خصائص أهل الكتاب وعقيدتهم يومئذ..................٦٠٧
الباب السادس: في انتهاء حياة الإمام المهدي (ع) وهي في فصل واحد..................٦١٣
الجهة الأُولى: تلخيص النتائج السابقة..................٦١٥
الجهة الثانية: الأخبار التي تنفع بهذا الصدد..................٦١٥
الجهة الثالثة: في أنّ المهدي (ع) هل يُقتل؟!..................٦١٦
الجهة الرابعة: في أُمور أُخرى أشارت إليها الأخبار..................٦١٩
القسم الثالث: العالم بعد المهدي (ع)..................٦٢٥
الباب الأوّل: قيادة ما بعد المهدي (ع)..................٦٢٧
القول بالرجعة..................٦٢٩
الأخبار الدالة على الرجعة..................٦٣٠
الآيات الممكنة الدلالة على الرجعة..................٦٣٠
حكم الأولياء الصالحين..................٦٣٩
الفهم العام لهذه الأخبار..................٦٤٠
أسئلة حول الأولياء الصالحين..................٦٤٢
الباب الثاني: قيام الساعة على شرار الخلق..................٦٥٥
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الدالة على ذلك..................٦٥٧
الجهة الثانية: في نقد هذه الأخبار..................٦٥٨
الجهة الثالثة: إعطاء الفهم المتكامل عن هذه الأخبار..................٦٦١
أهمّ مصادر هذا التاريخ..................٦٦٧

تمهيد

قد يكون من الطريف أن يتصدَّى الباحث للنظر إلى ما وراء الغيب، ليخطّ تاريخ المستقبل بسطور، وقد لا يعدو هذا التاريخ في نظر الكثيرين، عن كونه سرداً لمجموعة من التنبُّؤات التي قد لا يقع شيء منها في مستقبل الدهر، وأيّ فشل لتنبُّؤات الفرد، أكثر رَكاكة من أن يثبت كَذِب هذه التنبُّؤات وسقوط هذه الإخبارات.
إذن؛ فقد يبدو أنّه من الأفضل أن يعرض الفرد صفحاً مثل هذا التاريخ ويُهمله إهمالاً، ويدع تسلسل الحوادث على مقاديرها، بدون أن يزعم لنفسه القدرة على اسْتِكْنَاه المُستقبل والنظر إلى ما وراء الغيوب.
إلا أنّ هذه الفكرة يمكن أن تزول عن الذهن تماماً، وتوجد الهِمَّة في النفس نحو هذه البحوث... حين نعرف أنّ هذه المُحاولة، وإن كانت في حقيقتها سرداً لحوادث لم تقع في الزمان، وإنّما المُستقبَل وحده هو الكفيل بمُعاصرتها وعرضها للعيان، إلا أنّها لن تكون مُحاولة لادّعاء معرفة ما وراء الغيب، كما أنّها ليست تنبُّؤاً محضاً غير منطلق من قاعدة وقائم على أساس، ويتمّ إيضاح ذلك فيما سنذكره من جهات الكلام، كما يلي:
الجهة الأُولى: في أهمّيّة الموضوع في نفسه:
الجهة الثانية: في طُرق الاستدلال التي سوف تكون مُتّبعة خلال هذا البحث.
الجهة الثالثة: في الصعوبات التي تواجه البحث.
الجهة الرابعة: في أُسلوب الخروج عن هذه الصعوبات ومُحاولة تذليلها جهد الإمكان.
الجهة الخامسة: في ترتيب أبواب وفصول هذا الكتاب.

↑صفحة ٥↑

الجهة الأُولى: أهمِّيَّة هذا الموضوع:
يكتسب هذا الموضوع أهمّيّته، من أهمّيّة البحث حول المهدي (ع) ككل، من حيث كون هذا التاريخ حقلاً من حقوله وشعبة من شعبه.
ومن المعلوم أنّ الفكرة المهدويّة عند كل قائل بها ومؤمن بصدقها، تقوم على أساس كون المهدي هو مصلحة العالم في المُستقبل، وهو الذي يقلب الظلم إلى العدل، ويُحوِّل الظلام إلى نور ويُحقِّق الرفاه والسعادة لكل فرد على وجه الأرض.
فمن الحق أن يطمع الفرد إلى التعرُّف على تصرُّفات هذا المُصلِح العظيم في يومه الموعود، وعلى أسلوبه وسياسته وطريقته في التدبير والقيادة.
وأنّ هناك العشرات من الأسئلة تنبثق حول ذلك، وخاصة بعد أن يُعاصر الفرد الحياة الحاضرة بما فيها من تعقيد اجتماعي، وتنظيم دولي وسياسي، فهل سيكون للمهدي المُصلِح نفس هذا التنظيم بحقوله العديدة، وأنّه سيتّخذ للعالم وجهاً آخر، ويُبيِّنه بيده على شكل جديد؟
فإذا استطاع هذا البحث أن يُزيل الغموض - ولو عن بعض هذه الأسئلة - ويُقرِّب جوابها إلى الذهن إلى حدٍّ كبير، فهو غاية المطلوب.
إذن؛ فالحديث عن (تاريخ ما بعد الظهور) يعني التعرُّف على يوم الإصلاح العام على يد القائد المُنتظر، وهو يعني - بكلِّ صراحة - التعرُّض إلى النتائج النهائية التي تتبنَّاها الفكرة المهدوية ككل، ووصف البشرية المُثلى في مُستقبله السعيد.
والتعرُّض إلى هذا التاريخ، لا يتوقَف على الإيمان بأطروحة مهدوية مُعينة، هي الأطروحة الإمامية - مثلاً - التي تؤمن بالغيبية الطويلة للمهدي الموعود، إذ يكون في الإمكان أن يقوم بمثل هذه الأعمال التي سنذكرها له بعد ظهوره، وسواء كان غائباً في الفترة السابقة على ظهوره أم لم يكن؛(١) ومن هنا يكون لهذا البحث فائدة شاملة لكل المسلمين بصفتهم مؤمنين بفكرة المهدي، بل يكون لها أثر قريب بالنسبة إلى غير المسلمين ممَّن يؤمن بالمُصلح المُنتظر.
وتنبثق أهمّية هذا البحث مرّة أُخرى، في مُحاولة تصفية ما قيل ويُقال، في تحديد ما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) هذا بحسب التصوُّر، بغضِّ النظر عمَّا قلناه في تأريخ الغيبة الكبرى (ص٥٠١) وما بعدها من البرهان على تأثير الغيبة الطويلة على جانب تكامل القيادة لديه , وتعميق تطبيقاته العدالة في اليوم الموعود.

↑صفحة ٦↑

سوف يحدث يوم الظهور وبعده، ممّا قد يكون مُشوَّهاً بالأساطير، ومُحاولة الاقتصار على إثبات ما قام عليه الدليل، ورفض أيِّ أمر آخر.
وتنبثق فائدة هذا البحث من زاوية ثالثة، من البرهنة على الارتباط العضوي الوثيق بين يوم العدل الموعود، وبين الأساس العام الذي يقوم عليه الكون وأهدافه الكبرى التي خُلِق من أجلها، تلك الأهداف التي كانت تطبيقات من مفهوم العدل العام، والتي سار عليها التكوين والتشريع، واضطلع بالسير على طبقه موكب الأنبياء والشهداء، والأولياء والمُصلحين على مدى التاريخ.
وسيظهر بجلاء، أنّ يوم الظهور ليس تاريخاً طارئاً وقدراً مُرتجلاً، وإنّما هو في واقعه النتيجة الطبيعيّة الكبرى التي أرادها الخالق الحكيم في تخطيطه العام... والتي شارك في إعدادها الأنبياء، وبُذِلت في سبيلها التضحيات على مدى التاريخ.
والفائدة الرابعة - وليست الأخيرة - هي أنَّ الفرد بعد اطِّلاعه على هذا التاريخ، يستطيع أن يحمل فكرة كافية عن أوصاف المهدي وأعماله عند ظهوره، وممَّا يوفِّر الدليل الكافي بأن يعرف: أنّ مُدّعي المهدوية هل هو المهدي الموعود قائد العالم، وأنّه رجل مُبطِل كذَّاب؟
فإنَّ الفرد قد يواجه في غضون حياته ويقرأ في التاريخ دعوات مهدوية مُتعدِّدة، فلا يَحْار في مبدأ الأمر في تصديقها وتكذيبها، إن كان ممَّن يؤمن بالفكرة المهدوية أساساً، فلا يعلم أنَّ هذا هو المهدي المُنتظر وغيره.
وهذه المُشكلة وإن استطاع الفكر الإسلامي أن يُذلِّلها عن طريق البرهان العقائدي، إلا أنَّه - بغضِّ النظر عن ذلك - نستطيع أن نُذلِّلها عن طريق الدليل التاريخي... وذلك بمُحاولة تطبيق الصفات الثابتة تاريخيَّاً للمهدي الموعود على مُدَّعي المهدوية، فإن كانت ثابتة له؛ إذن فهو على الحقِّ، وهو المهدي الموعود.
وهذه جهة - بطبيعتها - مُهمَّة لكل مُعتقد بالفكرة المهدوية؛ فإنّه من المؤسِف حقَّاً ومن المُحرَّم دينيّاً، أن يكون المهدي حقيقياً ثمّ لا يستطيع الفرد التعرُّف عليه، وأن يكون المُدّعي كاذباً ثمّ لا يستطيع الفرد معرفة كذبه، وإنّما ينحرف باتِّجاهه وينجرف بتيَّاره، فلا بدّ أن يكون للفرد محكٌّ عقائدي، وميزان تاريخي في التعرُّف على رفض مَن يرفض وقبول مَن يقبل، وقد وفَّر الإسلام كِلا الجانبين، وما هو محلُّ كلامنا الآن هو الميزان التاريخي.

↑صفحة ٧↑

فهذه بعض فوائد هذا البحث، التي تجعله من الأهمِّيَّة والرسوخ ما يؤهِّله أن يكون شعبة من المعرفة الإسلامية، وحقلاً من المعرفة الإنسانية.
الجهة الثانية: في طرق الاستدلال التي سنتَّبعها من خلال البحث للتعرُّف على ما هو ثابت وما هو مرفوض.
والاستدلال يختلف - بطبيعة الحال - باختلاف النتائج التي نريد التوصُّل إليها، وهي ممَّا يمكن تقسيمها بانقسامات ثلاثة، لابدّ من التعرُّف عليها، وما هو محلُّ الحاجة ومنطلق البحث منها... لكي نختار ما يُناسبها من الاستدلالات.
الانقسام الأول: التقسيم من حيث اتِّجاه الفكرة المهدوية، أعني تحديد المُصلح المُنتظر في نظر الفرد، فإنّ الاتِّجاهات هنا ذات ثلاثة مسارات رئيسية:
المسار الأول: المُصلِح المُنتظر الذي يؤمِن به غير المسلمين، على اختلاف بينهم في تشخيصه وصفاته، كالمسيحيِّين واليهود والبراهمة وغيرهم.
المسار الثاني: المُصلِح المُنتظَر الذي يؤمِن به المسلمون غير الإماميين عادةً، وهو رجل يُلقَّب بالمهدي، يولَد في زمانه، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً.
المسار الثالث: المُصلِح المُنتظَر للمسلمين الإمامين خاصة، وهو المهدي الغائب محمد بن الحسن بن علي عليهم السلام الذي يظهر، فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً.
وهذه المسارات في جوهرها واحدة، تُشير إلى مفهوم واحد مُندرج في التخطيط الإلهي العام، بشَّرت به الأديان وأكّد عليه الإسلام، وإنّما حصل الاختلاف فيه نتيجةً لظروف مُعيّنة، تمُتُّ إلى التربية الفكرية للبشرية بصلة، كما سبق أن حملنا عنه فكرة في التاريخ السابق،(٢) وسنعرف تفاصيله في الكتاب القادم إلاَّ أنَّنا على أيِّ حال، ينبغي أن ننطلق في البرهان على حوادث المُستقبل من أُسُس مُسلَّمة، لهذه المسارات الثلاث ليكون الكلام مقبولاً مُسلَّم الصحَّة لديها جُهد الإمكان.
ومعه؛ فمَن المُتعذَّر - إلى حدٍّ كبير - التعرُّف على أُسُس مُشتركة بالنسبة إلى المسار الأول - بتعبير آخر - مشتركة بين المسارات الثلاثة كلها... ممَّا يعود إلى مفهوم المهدوية العام، الذي تتسالم عليه الأديان؛ وذلك لعدم تسالمها - في حدود المقدار المعروف لدى أهلها من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢) انظر ص٢٥١ وما بعدها إلى آخر الفصل.

↑صفحة ٨↑

القواعد والأُسُس - على أُمور مشتركة يمكن الانطلاق منها على حقيقة مُعيَّنة بهذا الصدد، ومعه يكون البحث عن تفاصيل اليوم الموعود، والأعمال التي سيقوم بها القائد المُنتظر مُتعذِّراً، وإنَّما غاية ما يمكن التعرُّف عليه والتسالم على صحَّته، هو تطبيق للعدل على وجه الأرض على الإجمال.
نعم، لو اقتصرنا في فكرة المُصلِح المُنتظَر على اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام أمكن الانطلاق من بعض الأُسُس المشتركة إلى بعض تفاصيل اليوم الموعود كما سنرى، وخاصة بعد أن يثبت في الإسلام - على ما ستسمع - نزول المسيح في ذلك اليوم، وسيكون لما ذكر في التوراة والإنجيل من تفاصيل جزء خاص آتٍ من الموسوعة.
وأمَّا الاستدلال على التفاصيل، من خلال المسارين الثاني والثالث، ففي الإمكان الحصول على الكثير من الأُسُس المشتركة النافعة بهذا الصدد، وسيكون المنطلق الأساسي المُشترك، هو ما نطق به القرآن الكريم من الوعد بيوم التطبيق الإسلامي العادل، ومن الخصائص الكبرى التي يتَّصف بها ذلك اليوم - على ما ستسمع - كما سينطلق الاستدلال ممَّا تسالمت عليه أخبار الفريقين من الحقائق، أمّا ما استقلَّ به كل فريق من الأخبار، فسيكون لنا منه موقف خاص، سنذكره.
وينبغي الإلماع إلى أنَّ الأخبار الإمامية، قد تكفَّلت بنقل الحوادث للفترة الزمنية التي نؤرِّخ لها، أكثر بكثير ممَّا نقلته أخبار العامة، وخاصة فيما يعود إلى المهدي وأصحابه وأعماله، وإن أكثرت الأخبار العامة الحديث عن المسيح والدجَّال وأشراط الساعة.
وعلى أيِّ حال، فما يعود إلى مقدار الأخذ بالخبر ورفضه سنذكره في الانقسام الثالث إن شاء الله تعالى.
الانقسام الثاني: التقسيم من حيث مقدار الحوادث التي يُراد الحصول عليها وإثباتها تاريخياً.
وذلك أنَّنا كنَّا نتوخَّى الاطِّلاع على التاريخ التفصيلي لما بعد الظهور، وذكر حودثه وأقوال مُعاصريه - جملة وتفصيلاً - كما لو كان مشاهداً محسوساً فعلاً، فهذا ممَّا لا يُمكن أساساً وينبغي الاعتراف سلفاً بتعذُّره وانقطاع السبيل إليه، بسبب ما سنسمعه فيما يلي من البحث، من وجود الفجوات الواسعة في الروايات الناقلة للتاريخ المطلوب.
إلاَّ أنَّ مثل هذا التفصيل، ممَّا لا يُهمُّ التعرُّض له، وليس هناك مصلحة في معرفته، وإنَّما المُستقبل وحده هو الكفيل بمُعاصرته، والله عزَّ وجلّ هو القدير على إيجاده

↑صفحة ٩↑

والعليم به... وإن عشت أراك الدهر عَجَباً، فإنَّ أيَّاً من المصالح الأربعة السابقة لا يتوقَّف تحقُّقها على مثل هذا التفصيل، بل يكفي فيها التعرُّف على الأفكار العامة والحوادث الرئيسية في ذلك العهد، وواردة في الأخبار بشكل يمكن إثباته تاريخياً، دون ما هو أوسع من ذلك.
ومن ثمَّ؛ لا ينبغي أن نتوقَّع من الباحث في تاريخ ما بعد الظهور، زيادة من التفاصيل، وإنَّما يقتصر بمُقتضى مادَّة عمله وأُسُس مصادره على الأفكار العامّة، والحوادث الرئيسية بطبيعة الحال.
الانقسام الثالث: التقسيم من حيث ما نتطلَّبه من الإثبات التاريخي، باعتبار أنَّنا تارةً نتوخَّى حصول الاطمئنان والوثوق بوجود الحادثة المُعيَّنة، وأُخرى نكتفي بالإخبار الاعتيادي في إثباته.
ومن هنا يكون لنا - بلحاظ ذلك - موقفان:
الموقف الأوَّل: إذا أردنا حصول الاطمئنان بوجود حادثة مُعيَّنة ممَّا يُنقَل حدوثها بعد الظهور... أمكننا الاعتماد على المصادر التالية:
المصدر الأوّل: القرآن الكريم بما فيه من ظواهر واضحة دالَّة على وصف العدل الإسلامي، والخيرات التي تعود على البشرية عند تطبيق أحكام الإسلام.
المصدر الثاني: الروايات المُتعدِّدة الناقلة لحادثة مُعيَّنة، بحيث تكون إحداها قرينة على الأُخرى، ومصداقية لها، بحيث تكون بمجموعها موجبة للثبوت التاريخي في أيِّ حقل اعتيادي من حقول التاريخ.
المصدر الثالث: أخبار الفريقين إذا تسالمت على نقل حادثة مُعيَّنة، ولو كانت بعدد قليل عند كل فريق، فإنَّه يكفي لإثباتها؛ وذلك لأنّ ظروف الرواية وأشخاص الرواة، مُختلفَين عند كل مذهب إسلامي، ممَّا يوجب الاختلاف الكبير في النقل، فإذا تسالموا على نقل مضمون بعينه، كان هذا بعيداً عن الخطأ إلى حدٍّ كبير.
المصدر الرابع: الخبر الذي تعضده القواعد الإسلامية العامة، وتؤكِّد مضمونه، فإنَّه يكفي إثباتاً تاريخيّاً، ومثاله: الأخبار القائلة: بأنَّ المهدي (عليه السلام) يُطبِّق الإسلام كما جاء به النبي (ص) فإنَّها مُطابقة لنظرة الإسلام إلى استمرار تعاليم الدين الإسلامي إلى نهاية البشرية.
المصدر الخامس: القواعد الإسلامية العامّة المُبرهَن عليها في علوم مُختلفة من حقول

↑صفحة ١٠↑

الإسلام، كالعقائد والفقه وغيره، فإنَّها إذا كانت ثابتة في محلِّها أمكن التوصُّل بها إلى بعض النتائج، ومثاله: القاعدة التي تقتضي عدم جواز الحُكم القضائي إلا بسماع البيِّنة مع توفُّرها، فإنَّها تنفي الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي (ع) يقضي بدون سماع البيِّنة، كما سيأتي إيضاحه.
فإذا اجتمعت هذه المصادر الخمسة بنتائجها، كان تخطيطنا العام لهذا التاريخ قد كمل؛ إذ بها نستطيع أن نُثبت كل ما هو مُهمُّ ورئيسي في عهد الظهور، وتبقى جملة من التفاصيل يوكَل إثباتها بشيء من هذه المصادر الخمسة.
الموقف الثاني: إذا اكتفينا في الإثبات التاريخي الاعتيادي والنقل المُنفرد، وهو ما سنحتاج إليه بطبيعة الحال(٣) في سرد عدد من التفاصيل التي لا يمكن التوصُّل إلى معرفتها بدون ذلك، بالرغم من أنّ قيمة الإثبات لا تزيد على قيمة هذا الخبر المُنفرد.
ونحن بهذا الصدد، نستطيع أن نقبل بعض المصادر، وأن نرفض بعضاً:
أمّا المصادر التي نقبلها، فهي كما يلي:
المصدر الأول: النقل المُنفرد الذي تقوم القرائن القليلة على تأييده... كالقرائن الحالية، ووجود روايتين فقط بمضمون واحد، وسندين لرواية واحدة، فإنَّ أحدهما يكون قرينة على صحَّة الآخر.
المصدر الثاني: النقل المُنفرِد الذي يُقبل عادةً في الفقه كمُثبت للحُكم الشرعي الإسلامي، وهو الخبر الذي يتَّصل بالمُتحدِّث الأول عن طريق الثقات، فإنَّه يمكن اعتباره إثباتاً كافياً بلحاظ الموقف الثاني، وإن تجرَّد عن القرينة على صدقه.
وأمَّا المصادر التي نرفضها، فهي كما يلي:
المصدر الأول: الخبر الذي تنفيه القواعد الإسلامية العامَّة المُبرهَن عليها كما سبق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣) وهذا هو فرق الإثبات الذي نحتاجه في هذا التاريخ، عن الإثبات الذي أسَّسناه في التاريخ السابق (٢٠٨) فإنَّه كان قائماً على رفض الخبر المُنفرِد بكل أشكاله وسمَّيناه بالتشدُّد السندي؛ وذلك لعدم الاحتياج إلى مثل هذا الخبر، أمَّا هنا فسنحتاج إليه بالضرورة؛ لأنَّ عدداً من الحوادث منقولة بالخبر المُنفرد فقط، وهي ممَّا نحتاج إليها في ضبط التسلسل العام للحوادث، وسيكون لهذا الفرق نتائج ملموسة كما سيأتي.

↑صفحة ١١↑

مثاله: لا يختلف ذلك بين ما إذا كان خبراً مُنفرِداً وعدَّة أخبار، ولا يختلف في القاعدة بين أن يكون مُستفادة من الكتاب والسنَّة وغيرهما.
المصدر الثاني: الخبر الذي يوجَد له معارض ينقل خلافه، وذلك فيما إذا وجِد لدينا خبران ينقلان حادثة مُعيَّنة بشكلين مُتغايرين، وينقلان حادثتين مُتنافيتين، ونحو ذلك.
وفي مثل ذلك، إذا كان أحد طرفي المعارضة - أعني أحد الخبرين - راجحاً على صاحبه، كما لو كان مُستفيضَ النقل، وموافقاً مع القواعد العامة والشواهد الأُخرى، أخذنا به وطرحنا الآخر، وإن لم يكن هناك رجحان في أحد الطرفين سقط كلاهما عن إمكان الإثبات التاريخي، وقد فصَّلنا القول في ذلك التمهيد الذي عقدناه لـ (تاريخ الغيبة الصغرى)(٤) فلا حاجة إلى الإطالة فيه.
المصدر الثالث: المصدر الذي لا يوجد له مؤيِّد ولا مُفنِّد، ممَّا لم يروِه الثقات، ولا ارتباط له بالقواعد العامة بشكل مُباشر، لتدلّ على صحّته ونفيه، فإنَّه بطيعة الحال لا يصلح للإثبات التاريخي بهذا الصدد، ويُرفَض هذا المصدر إلى جنب المصدرين السابقين، يمكن ملاحظة أنَّ الروايات الناقلة لحوادث اليوم الموعود، قد تخلصَّت ممَّا يحتمل أن يتطرَّق إليها من دسٍّ، ويحزم حولها من وهمٌ ويكتنف حقلها من أساطير، وبذلك تكون مصادرنا المُعتمدة واضحة لا غبار عليها، وصالحة لعرض الفكرة المهدوية تجاه العالم.
الجهة الثالثة: في الصعوبات التي يواجهها هذا البحث.
وهي صعوبات عديدة، اقتضتها ظروفها ومصالحها الخاصة والعامة، على ما سنرى.
ولا بدّ في المقام من أن نستثني ما ذكرناه من الصعوبات في تاريخ (الغيبة الصغرى)، ممَّا يعود إلى التاريخ بشكل عام(٥) وإلى الروايات الواردة في المهدي بشكل خاص،(٦) فإنَّها صعوبات شاملة لهذا التاريخ، وقد ذلَّلناها هناك.
ونقتصر هنا على الصعوبات التي يختص بها هذا التاريخ، وهي قد تتَّحد مع تلك الصعوبات أحياناً في العنوان، إلاَّ أنَّها من حيث الفكرة والأهمِّيَّة تختلف عن سابقاتها، كما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤) انظر ص٢٨ وما بعدها وص٤٦ وما بعدها.
(٥) ص٢٤ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.
(٦) ص٤٢ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

↑صفحة ١٢↑

لا يخفى على المقارن.
ويمكن أن نعرض الصعوبات فيما يلي:
الصعوبة الأُولى: قيام الأخبار الناقلة لحوادث المُستقبل، على الرمزية في كثير من أساليبها ونقاط عرضها، وخاصة فيما يعود إلى شخص المهدي (ع)، كقوله في بعض الروايات الآتية (إذا هزَّ رأسه أضاء له ما بين المشرق والمغرب) وأنَّه (يضع يده على رؤوس الأنام فيجمع أحلامها) وإن (رايته ليست من قطن ولا كتَّان، وإنَّما هي ورقة من أوراق الجنّة) وغير ذلك من التعبيرات.
ويراد بها حقائق إسلامية واعية، لكنَّها لم تستعمل المداليل الاعتيادية للألفاظ، وإنّما استعملت الرمزية التي عرفناها في تاريخ الغيبة الكبرى.(٧)
الصعوبة الثانية: تعمُّد الإجمال في الروايات، والسكوت عن بعض ما سيحدث من الأعمال والأقوال... بشكل يبدو بوضوح إرادة المُتكلِّم حذف بعض الحقائق التي لا يجد مصلحة في التصريح بها، كسكوت بعض الروايات عن ذكر مضمون خُطبة المهدي في المسجد الحرام أول ظهوره، وسكوت الروايات عن مضمون خُطبته في مسجد الكوفة عند وروده العراق، وسكوتها عن كثير من نصائحه وأساليب امتحانه لأصحابه، بل يقتصر على القول: (وأنا أعلم بما يقوله لهم). وإمَّا ماذا يقول لهم، فهذا ممَّا لا سبيل إليه.
ومثله ما ورد في عدد من الروايات عن أصحاب المهدي (ع): (وأنا أعرف أسمائهم وأسماء أبائهم...)، ولكنَّه لا يُسمِّي واحداً بالمرة.
الصعوبة الثالثة: وجود الفجوات الضخمة فيما يُنقل من الروايات، وعدم انحفاظ تسلسل الحوادث بأيِّ حال، وهذا ما كان يبدو مثله في ما سمعناه من التواريخ السابقة، إلاَّ أنَّه في هذا التاريخ أشدُّ تركيزاً ووضوحاً، فانحفاظ التسلسل الزمني للعديد من الحوادث، يكاد يكون مُتعذِّراً، كما أنَّ كثيراً من مُهمَّات الأعمال التي سيُقام بها بعد الظهور محذوفة بالمرَّة، ومن المُلاحَظ أنَّه كلمَّا تقدَّم الزمن مُبتعداً قلّت الحوادث المنقولة، وازدادت الفجوات، مضافاً إلى ازدياد الرمزية والإجمال أيضاً.
فبالنسبة إلى الصعوبة التي نتحدَّث عنها، نُلاحظ أنَّ الحوادث الواقعة قبل الظهور بقليل وبعده بقليل، منقولة ومتوفِّرة إلى حدٍّ كبير، وأما في الفترة اللاحقة لذلك، فليس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧) ص٢١٢ وما بعدها.

↑صفحة ١٣↑

هناك إلاَّ حوادث مُتفرِّقة ولمام من الأقوال من دون ترتيب وتعيين، وإذا ازداد البُعْد وتوجَّه النظر - مثلاً - إلى حادثة موته وقتله وإلى مَن يخلفه بعده، كانت الروايات نادرة إلى حدٍّ كبير.
وهذه الصعوبات الثلاثة أمور راهنة تعمَّدها النبي (ص) والأئمة (ع) في حديثهم عن المهدي (ع) لعدَّة أسباب، أهمُّها: وجود الفجوات الثقافية والفكرية الواسعة بين عصر صدور الروايات والعصر الذي تتحدَّث عنه الروايات، من حيث إنَّ تطوُّر الفكر الإسلامي وتعمُّقه خلال القرون المُتطاولة التي يعيشها ما بين هذين العصرين، وتطوُّره المتزايد على يد القائد المهدي (ع)... جعل من المُتعذِّر على سامعي هذه الأحاديث في عصر المعصومين (عليهم السلام) فَهْمُ واستيعاب ما قد يقع من أعمال وأقوال في العصر المؤرَّخ له؛ ومن هنا كان من المصلحة سكوت المعصومين عن التصريح بها أساساً؛ وفقاً لقانون: كلِّم الناس على قدر عقولهم.
الصعوبة الرابعة: اتِّخاذ الروايات مساراً مُعيَّناً من التفكير، بحسب المذهب الإسلامي الذي تتبنَّاه.
والحديث عن ذلك، يتشعب إلى شعبتين، باعتبار ما ورد من الأخبار في مصادر العامة تارةً، وما ورد من الأخبار في المصادر الخاصة أُخرى.
الشعبة الأُولى: في الأخبار الواردة من مصادر العامة من إخواننا أهل السنَّة والجماعة، كالصحاح الستَّة وغيرها، فإن هذه الأخبار التي تتضمَّن التنبُّؤ بحوادث المُستقبل - من هذه المصادر - تنقسم إلى أربعة أقسام، وما يُفيدنا - كما سنعرف - هو أشدُّها اختصاراً وغموضاً.
القسم الأوَّل: وهو الذي يُمثِّل المسار العريض والاتِّجاه الفكري الأهمّ لهذه الأخبار، وهو الحديث عن الفتن والملاحم، أي الحروب التي تقع خلال التاريخ، وما ينبغي أن يكون موقف الفرد المسلم منها، ثمَّ الحديث عن الدجَّال وأوصافه وأفعاله، والحديث عن عيسى بن مريم (ع) ونزوله إلى الأرض وحروبه مع الدجَّال، ومع يأجوج ومأجوج بعد انفتاح السَّدِّ الذي حُبسوا خلفه، ونحو ذلك من المضامين.
وهذا هو الذي يُمثِّل الأعمال أغلب من الأخبار الناقلة لحوادث المستقبل، وقد سبق أنَّا ذكرنا وناقشنا في (تاريخ الغيبة الكبرى) ما يعود منها إلى تلك الفترة.
وهي لا تمتُّ إلى (اليوم الموعود) بصلة، وسنذكر في هذا التاريخ ما يعود منها إلى

↑صفحة ١٤↑

نزول المسيح وبعض الأمور الأُخرى.
القسم الثاني: وهو يُمثِّل طائفة مُهمَّة من الأخبار، وهي الأخبار المُثبتة لوجود المهدي (ع) أساساً، وأنَّه من وُلْد فاطمة مع التعرُّض إلى اسمه وأوصاف جسمه، وأنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهي بمجموعها تزيد على التواتر بكثير، وتُثبت وجود المهدي بالضرورة... ولكنَّها لا تنفعنا في تاريخ ما بعد الظهور إلاَّ قليلاً.
القسم الثالث: ما يعود إلى شرح نتائج التطبيق الإسلامي الكامل، والمصالح الواسعة التي تترتَّب على العدل الحقيقي... كالأخبار الدالَّة على كثرة المال، وأنَّه يبحث الرجل عمَّن يقبل زكاته فلا يجد، وبأنَّ الفرات يحسر عن جبل من ذهب، لو فسَّرناه بسعة الزراعة وكثرة الخيرات، وهذا القسم لا يذكر في المصادر العامة مقترناً باسم المهدي (ع) وظهوره.
نعم، قام البرهان على أنَّ مضمونها لا يمكن أن يتحقَّق إلاَّ في ذلك العصر، لعدم توفُّر التطبيق العالمي الكامل قبله.
القسم الرابع: الأخبار المُتكفِّلة لبيان المصالح وبعض النتائج الكبرى، التي تترتَّب على ظهور المهدي (ع) بنفسه وعنوانه.
وهذا القسم وإن لم يرد في الصحاح الستَّة، إلاَّ أنَّه ورد في المصادر الحديثيّة الأُخرى، كمسند أحمد بن حنبل، ومستدرك الحاكم - وأربعين الحافظ الأصفهاني وغيرها.
وأوضح مثال على ذلك، ما ورد في هذه المصادر عن النبي (ص)، بمضمون: (تتنعَّم الأُمَّة في عهده نعمةً لم تتنعَّم مثلها قطُّ، يرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء).
وما يمتُّ إلى هذا القسم بصلة مُتوفِّر في الأخبار، إلاَّ أنّه يقتصر على العموميات، ولا يكاد يكون يُشكِّل تاريخاً واضحاً.
على أنَّه - مهما تعدَّد - فإنَّه يُشكِّل الجزء الأقلَّ من الأقسام الأربعة، بالنسبة إلى مجموع المصادر... كما أنَّ القسم الثالث، هو الجزء الأقلّ بالنسبة إلى الصحاح الستّة، وسنرى موقفنا من هذه القلَّة فيما يلي من البحث.
الشعبة الثانية: في الأخبار الواردة في مصادر الخاصة، فيما يمتُّ إلى تاريخ ما بعد الظهور بصِلَة.
والاتِّجاه الفكري الذي تتَّخذه هذه الأخبار - عادةً - هو الاتِّجاه الطائفي، فالمهدي (ع) يُناقِش طِبْقاً له، ويُحارب لأجله، ويُقيم الامتحانات المُعقَّدة للآخرين على أساسه،

↑صفحة ١٥↑

وكأنَّه ليس في العالم من البشر إلاَّ المسلمين بمذاهبهم المختلفة.
نعم، من المنطقي الصحيح، أن يجمع المهدي (ع) المسلمين على الحق الذي يعتقد به، وأن يختبر الناس على أساسه، إلاَّ أنَّ هذا لا يعني بأيِّ حال اقتصار جهوده على المسلمين، بعد الذي سنُبرهن عليه من عالميَّة دعوته من ناحية والعلم الوجداني، بأنَّ غير المسلمين أضعاف المسلمين إلى حين والظهور، كيف وإنَّ الأرض كانت وستبقى إلى يومئذ مملوءة ظلماً وجوراً؟!
إذاً، فالجهود المبذولة من قِبَل المهدي (ع)، وأصحابه الخاصة المُخلصين على سائر العالم، أضعاف الجُهد المبذول على المسلمين، وقل: تعادلهما على أقلِّ تقدير. أمَّا أن تكون الجهود المبذولة على المسلمين أضعاف جهوده على غيرهم، كما تدلُّ عليه المصادر الخاصة، فهو ممَّا لا يكاد يُفهم.
ولعلَّ فبالإمكان إعطاء المُبرِّرات الكافية لمثل هذا الاتِّجاه في الأخبار، إلاَّ أنَّها - بأيِّ حال - تبقى مُقتضبة بالنسبة لموقف المهدي (ع) من غير المسلمين.
وأهمُّ تبرير لذلك، هو كون هذه الأخبار - في واقعها - انعكاساً للظروف المُعاشة في زمن صدورها، ولا نعني بذلك كونها كاذبةً ومفتعلةً على نسق مُعيَّن؛ فإنَّ لكل خبر حسابه الخاص طِبقاً للمنهج الذي أسلفناه، بل تعني أنَّ ظروف الظلم والمصاعب التي كان يعيشها أصحاب الأئمة (ع) في المجتمع الإسلامي، من الدولتين الأُموية والعبّاسية، كانت تعكس في نفوس القواعد الشعبية الإمامية الاعتقاد بأنَّ الجبهة المُضطهِدة - بالكسر - لها، تُمثِّل المذاهب الإسلامية الأُخرى، ومن ثَمَّ تكتسب القضية المذهبية في أذهانهم عُمقاً وأصالةً، أكثر من نسبتها العالمية، لو صحَّ التعبير، ويكون هو بحاجة إلى رفع معنويَّاتهم من قِبَل قادتهم الأئمة المعصومين (ع)، من هذه الناحية أكثر من أيِّ ناحية أُخرى، وذلك باستخدام عدَّة طُرق، من أهمِّها: الكشف عن هذا الجانب بعينه من أعمال الإمام المهدي (ع)، والسكوت عن أعماله الأُخرى التي لا تمتُّ إلى حاجة المجتمع بصلة وثيقة، وإن كانت تُمثِّل الجانب الأكبر في دولته.
ومن المُستطاع القول أيضاً: إنَّ الفجوات التي تُرِكت، لم يكن المجتمع عموماً ليهضمها بوضوح، باعتبارها مُمثِّلة لتصرُّفات المهدي (ع) على المستوى العالمي، وفي عُمق الوعي الذي يُريده، ممَّا لم يكن المجتمع في عصر صدور هذه الأخبار على مستوى استيعابه؛ ومن ثَمَّ كان قانون (كَلِّم الناس على قدر عقولهم). مانعاً للمعصومين (ع) عن الإعراب والكشف عن هذا الجانب من دولة المهدي (ع) مهما كان واسعاً.
وعلى أيِّ حال، فهذه الصعوبة التي نحن بصددها، تُعتبر واقعاً لا محيص عنه، وإنَّ

↑صفحة ١٦↑

علاقات المهدي بغير المسلمين، لم تذكرها الأخبار إلاَّ بأقلِّ القليل.
الصعوبة الخامسة: ما يعود إلى نقص الباحث بصفته مُمثِّلاً لمرحلة مُعيَّنة من تطوُّر الفكر الإسلامي.
ويتمُّ إيضاح ذلك بتقديم عدَّة نقاط:
النقطة الأُولى: يُمثِّل مفهوم الفكر الإسلامي مستويين مُستقلَّين:
المستوى الأوّل: الفكر الإسلامي بصفته مجموعة من الحقائق والتشريعات، كما يُعرِّفها الله ورسوله وأولياؤه (عليه وعليهم السلام)... وهو الفكر الإسلامي الأعلى، والأطروحة العادلة الكاملة للحياة.
المستوى الثاني: الفكر الإسلامي الموجود عند علماء المسلمين والمُفكِّرين الإسلاميين على مَرِّ العصور، وهو في واقعه ناقل للمستوى الأول وحاكٍ عنه ومُنبثق عنه إلى حدٍّ كبير، نتيجة للتبليغات والبيانات التي قيلت من قِبَل المشرِّع الإسلامي المُقدَّس في الكتاب الكريم والسنَّة الشريفة.
والمقصود الأساسي هو تربية الأُمَّة على فَهْم وامتثال المستوى الأول، عن طريق مُمارستها وتدقيقها للمُستوى الثاني، بصفته مُمثِّلاً لمستوى الأول، وهي بأجيالها المُتعقِّبة كفيلة بأن تقوم بذلك تدريجيَّاً، وكما سبق أن عرفنا في التاريخ السابق.
ولا زال الفكر الإسلامي بمستواه الثاني في طريق التطوُّر والتعمُّق والتوسُّع؛ ومن هنا صح أن يُقال: إنَّ كل جيل وعدَّة أجيال من الأُمَّة الإسلامية يُمثِّل مرحلة للفكر الإسلامي، ولا زال الفكر الإسلامي في طريق الرُّقي، وينبغي الاعتراف بعدم وصوله إلى الكمال، ووجود عدد من البحوث غير المطروقة فيه، كما هو غير خفيٍّ على المُحقِّقين في هذا الصدد.
النقطة الثانية: إنَّه ينتج من ذلك: أنَّ كل باحث ومُفكِّر، هو بطبيعة تكوينه ابن الفترة التي يُعاصرها والزمن الذي يمرُّ فيه، ويتعذَّر عليه بالمرَّة - مهما أوتي من عبقرية وطول باع - أن يسبق الزمن، فيدَّعي الوصول إلى المُستوى الأول للفكر الإسلامي، وأنَّه محتوٍ على وعي وثقافة الأجيال الإسلامية القادمة من المستوى الثاني... تلك الثقافة القائمة على انكشاف ما في سوابقها من الأخطاء، وملء ما فيها من فجوات.
إذاً؛ فكل باحث يحتوي على قصور طبيعي وذاتي في تفكيره الإسلامي، بصفته مُمثِّلاً

↑صفحة ١٧↑

لمرحلة مُعيَّنة من تطوُّر الفكر الإسلامي لا يمكن أن يتعدَّاها، في حين يُمثِّل الإمام المهدي (ع) بما ينشر في عصر ظهوره من ثقافات وأفكار وتشريعات، يُمثِّل المستوى الأول من الفكر الإسلامي، ويصل بالمستوى الثاني إلى صفِّ المستوى الأول تماماً، كما نصَّت على ذلك الأخبار، واعترف به سائر مذاهب الإسلام من أن يُطبِّق الإسلام كما جاء به رسول الله (ص).
ومن هنا تنشأ الصعوبة، من أن يتصدَّى باحث قاصر للتفكير فيما يتعدَّى عصره، وللتوصُّل إلى حقيقة شخص كامل ومجتمع عادل.
النقطة الثالثة: أنَّه بعد الذي عرفناه من فجوات ومصاعب فيما وردنا من الأخبار من تاريخ ما بعد الظهور، سوف نضطرُّ - على ما سنعرضه عن قريب - إلى تذليل هذه المصاعب، عن طريق انتهاج القواعد الإسلامية المعروفة، في عدَّة مجالات: في فَهْمِ النصوص عامة، وفيما هو المقصود من الاستعمالات الرمزية خاصة، في مُحاولة التعرُّف على الاتجاهات العامة التي سيسير عليها الإمام القائد على الصعيدين، الاجتماعي والتشريعي، وفي ترجيح بعض النصوص على بعض، إلى غير ذلك من المسؤوليات في البحث والاستنتاج.
ويبدو من الواضح، بعد هذه النقاط: أنَّ كل باحث إنَّما يملأ هذه الفجوات بمقدار ما لديه من الثقافة الإسلامية، وما وصل إليه تطوُّر الفكر الإسلامي في عصره، ويستحيل في حقِّه أن يصل إلى الواقع الراهن القائم بعد عصر الظهور على عُمقه وشموله، وبخاصة بعد ورود ما سنسمعه في العديد من الأخبار من أنَّ المهدي (ع) يأتي بأمر جديد وكتاب جديد وسلطان جديد.
ولعلَّ من أوضح أمثلة ذلك، كما ذكره ابن عربي (في الفتوحات المكِّيَّة)(٨) عن تاريخ ما بعد الظهور، ممَّا يظنُّ أنَّ المهدي (ع) يقوم به من تصرُّفات، وما يُعيِّنه من وزراء وما يسنُّه من تشريعات، فإنَّه إنَّما كتبه بمستواه من التفكير الإسلامي، ونحن نجده الآن - بعد تعمُّق الفكر الإسلامي - في غاية الغرابة والتعقيد.
وهذه الصعوبة، بما ينفرد بها هذا البحث عن سائر أبحاث التاريخ، وبما فيها ما كتبناه من تاريخ الإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى وغيبته الكبرى، فإنّ تلك الأبحاث

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨) انظر ج ٣ ص٣٢٧ وما بعدها.

↑صفحة ١٨↑

كانت عرضاً لحوادث مُعاشة سابقة ومُعاصَرة، مفهومة الأبعاد والجوانب، يمكن للمُفكِّر الإسلامي الأخذ بزمامها، بخلاف العرض التاريخي لما بعد الظهور، لما عرفناه من قصور الباحث من إدراك العُمق الحقيقي لذلك العصر.
الصعوبة السادسة: أنَّه قد يخطر على الذهن في نقد الأخبار الشارحة لحوادث الفترة التي نؤرِّخها: أنَّها قائمة على المعجزات وخوارق العادات، وهي بطبيعتها بعيدة الحدوث صعبة التصديق؛ ومن ثمََّ يُشكِّل ذلك ضعفاً في هذه الأخبار وصعوبة في فهمها واستيعابها.
إلاَّ أنَّ هذه الصعوبة ممَّا لا يمكن إدراجها في قائمة المصاعب الحقيقية للبحث، تلك المصاعب التي تضطرُّ الباحث إلى التسليم بالأمر الواقع، وإدخال النقص الحقيقي على بحثه، فإنّ هذه الصعوبة ليست كذلك، وإنّما تُعتبر نقطة ضعف في البحث عند اتِّجاه المُفكِّرين الذين اسقطوا المعجزات عن نظر الاعتبار.
فإنَّ عدداً مُهمَّاً من تلك الأخبار لا تحتوي على الإشارة إلى أيِّ معجزة على الإطلاق، وإنَّما تروي أعمال المهدي (ع)، ومُنجزاته، وعدد أصحابه وغير ذلك؛ ومعه فلا تكون مشمولة هذه الفكرة أساساً.
وأمَّا الأخبار الدالَّة على المعجزات منها، فينبغي فحصها ومُحاسبة كل خبر وكلّ حادثة على حِدة، فما كان منها مُطابقاً لقانون المعجزات الذي برهنَّا عليه في (تاريخ الغيبة الكبرى)(٩)... أخذنا به، بمعنى أنَّه لم يواجه صعوبة من هذه الناحية، وما كان خارجاً عن حدود هذا القانون، كان مرفوضاً من هذه الناحية، وساقطاً عن الإثبات التاريخي، وقد سبق أن طبَّقنا ذلك بدقَّة في الكتاب المُشار إليه، ويكون ذلك من القواعد العامة الدالَّة على تكذيبه.
إذاً؛ فهذه الصعوبة، لا تكاد تشكل عَقَبة حقيقية تجاه هذا البحث، وإنَّما المُهمُّ هو الصعوبات الخمس الأُولى. ولابدَّ من البحث عن إمكان تذليلها والكفكفة من عمق تأثيرها جَهد الإمكان.
الجهة الرابعة: في أُسلوب الخروج عن الصعوبات السابقة، وتذليلها، بمقدار ما هو المُمكن والمُتوفَّر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٩) ص٣٧.

↑صفحة ١٩↑

وقد أشرنا فيما سبق، إلى أنّ الجواب الحاسم على هذه المشكلات، والقاضي على هذه العقبات - جُملة وتفصيلاً - ممَّا لا يتوفَّر، ولا يمكن توفُّره لأيِّ باحث، ما لم يكن مُعاصراً لعصر الظهور، ومُتأخِّراً.
ومن ثَمَّ؛ ينبغي الاعتراف بقصور هذا البحث عن الإحاطة بالعُمق الحقيقي لليوم الموعود، والحوادث التفصيلية الواقعة فيه، وإنَّما غاية ما نُحاول أن نُصوِّر الأفكار العامة والأعمال الرئيسيّة المُتوفّرة فيه، من خلال ما بلغنا من أخبار وما نعرفه من قواعد، وأنَّ خير ما يخرج من تلك المصاعب السابقة هو اتِّخاذ أُسلوبين مُترتِّبين:
الأُسلوب الأول: تذليل المصاعب عن طريق القواعد العامة المؤسَّسة في الكتاب والسنَّة، وذلك بعرض جميع ما وردَنا في مصادر هذا التاريخ، عرضه على ما هو المعروف من فَهْمِ الإسلام لأُمور ووجهة نظره إلى القضايا العامة والخاصة... ذلك الفَهم المُستنتَج من الكتاب والسنَّة، والمُستشهَد عليه بآية ورواية، والمعروف عن طريق الاستدلال العقلي القطعي.
ونستطيع بهذه القواعد، أن نصل إلى عدَّة نتائج أساسية حاسمة في تذليل تلك المصاعب:
أوَّلاً: مُحاولة فَهْم العبارات الرمزية، بنحو ينسجم مع الفَهم الإسلامي الصحيح؛ باعتبار أنَّ فَهم ظواهرها المباشرة غير مُحتمل أساساً، وإلاَّ كان أساساً لتصورات خاطئة إسلامياً، كما هو المُبرهَن عليه في البحوث الإسلامية.
وإذ يدور الأمر بين إهمالها وتأويلها، يكون تأويلها إلى المعنى الصحيح أفضل، كيف، ونحن نعلم أنَّ استعمال الرمز على لسان النبي (ص) والأئمة (ع) أمر غير غريب، وخاصة فيما يكون فوق فَهم السامعين المباشرين لهم، كما هو الحال في التعبير عن حوادث تاريخ ما بعد الظهور.
ثانياً: مُحاولة ملء بعض الفجوات الموجودة في هذا التاريخ المنقول، بما نعلم عادة قيام المهدي (ع) به بعد ظهوره، بحسب القواعد العامة... وإن لم يُصرَّح به في الأخبار نتيجةً لظروفها الخاصة.
ولكن تبقى - مع ذلك - فجوات واسعة قد نستطيع ملأها، وجملة منها، عن طريق الأُسلوب الثاني الآتي. وبدونه ينبغي الاعتراف بالعجز عن الملء، لكنَّنا سنرى أنَّنا نستطيع بالأخبار مع تحكيم هذين الأُسلوبين تغطية المُهمّ منها.

↑صفحة ٢٠↑

ثالثاً: رفض ما خالف القواعد العامّة من النصوص، وجعلها قرائن فاصلة في رفض وقبول الأخبار ما لم تكن مُستفيضة ومتواترة، وجعلها المَحكَّ في هذا التمحيص.
رابعاً: التوصُّل إلى بعض ما سكتت عنه الأخبار من الاتِّجاهات العامة لدولة المهدي (ع) ممَّا يمكن التوصُّل إليه، بعد تذليل الصعوبة الخامسة جهد الإمكان كما سيأتي.
خامساً: التوصُّل إلى الربط بين الحوادث التي لا تبدو مرتبطة في النقل الواصل إلينا، ومُحاولة ترتيبها زمنيَّاً إن لم يكن الترتُّب موجوداً على ضوء القواعد العامة، مع الإمكان.
إلى غير ذلك من النتائج المُهمَّة التي سيأتي تطبيقها فيما يلي من البحث.
الأُسلوب الثاني: عند إعواز القواعد العامة أحياناً، تنحصر معرفة النتيجة عن طريق عرض (الأُطروحات المُحتملة)، كالذي سبق أن طبَّقناه في تاريخ الغيبة الكبرى... بالنسبة إلى عدد من أُمَّهات الأمور.
وهذا يعني عرض أقرب الاحتمالات في مورد المُشكلة، أمَّا اثنين وثلاثة، ممَّا لا يكون مُخالفاً للقواعد العامة ويكون مُحتمل التحقُّق في زمنه الخاص، ويعني ذلك أيضاً عدم الجزم بأحد المُحتملات، بل تبقى المسألة معروضة بمُحتملاتها، لكن يبقى في الإمكان جمع القرائن الدالَّة على ترجيح أحد المُحتملات، في الأعم الأغلب.
نعم، يبقى لدينا أمران يحتاجان إلى مزيد من التأمُّل:
الأمر الأول: المفهوم الطائفي المؤكَّد عليه في أخبار المصادر الخاصة، كما سبق أن أشرنا... وهو وإن كانت له مُبرِّراته الخاصة في عصر صدور هذه الأخبار، كما عرفنا وإلاَّ أنَّ هذه المُبرّرات تكاد تفقد قيمتها الاجتماعية في العصر الحاضر؛ لأنَّ دولة المهدي (ع) عالمية شاملة للبشرية جمعاء، وإذا كان مقصودها هو الاستيعاب والشمول في التاريخ، فلا ينبغي التأكيد على هذا المفهوم خاصة، وترك ما عداه من الأعمال والأقوال، لعهد ما بعد الظهور بأيِّ حال؛ لأنَّنا نكون قد اقتصرنا على بعض الجوانب دون بعض.
والذي ينبغي أن يُقال: إنَّه بعد التسليم بإمكان تصديق هذه الأخبار، ما كان منها

↑صفحة ٢١↑

صالحاً للإثبات التاريخي... بناءً على الفَهم المهدوي الإمامي.. يُمكننا تغطية هذا الاتِّجاه الطائفي في تاريخنا هذا بأُسلوبين:
الأُسلوب الأول: أنَّنا بعد أن نملأ الفجوات التي عرفنا، ونُبرْهِن على اتِّصال المهدي (ع) بغير المسلمين شعوباً وحكومات، تقديماً لإدراجهم في دولته العالمية... ونستطيع فهم الاتِّجاهات العامة والآثار الكبرى التي تترتَّب على ذلك... وعندئذ يُمكننا أن نُعطي لتلك الأخبار مدلولها الواقعي.
إنَّ الأمَّة الإسلامية ستُصبح هي القائدة والرائدة للبشر أجمعين على طريق العدل الكامل، وبجهودها سيفتح القائد المهدي (ع) العالم، ومن مُنطلقاتها سيستطيع بثّ الدعوة المُقدَّسة إلى العالم، والأمَّة القائدة ينبغي أن تكون على مستوى هذه المسؤولية الكبرى، وإلاَّ كانت جهودها في العالم فاشلة، ومُخلَّة في التخطيط العام في نهاية المطاف.
ومن هنا؛ كان التأكيد على ترتيبها في التخطيط الإلهي كبيراً، سواء في عصر (الغيبة) أم في عصر الظهور، وقد أنتجت تربيتها في عصر الغيبة تمخُّضها عن الجماعة المؤمنة، التي تُمارس فتح العالم بين يدي المهدي، إلى جانب انحراف الأعم الأغلب من البشر وتمرُّسهم بالظلم والطغيان، حتى من الأُمَّة الإسلامية نفسها، وهذه الأمَّة - التي أصبح الأكثر فيها مُنحرفاً - لا يمكن أن تكون على مستوى مسؤولية القيادة العالمية بأيِّ حال.
فإذا لاحظنا درجات الإخلاص الأربعة التي ذكرناها في التاريخ السابق،(١٠) ودرسنا احتمالات تجاوب أفراد الأمّة الإسلامية مع الإمام المهدي (ع) في أول دعوته، وهي احتمالات واسعة جدَّاً بلحاظ ما يحمله الأفراد من درجات الإخلاص، لكن يبقى الكثيرون وممَّا لا يتَّصفون بالإخلاص أساساً، كما ينبغي رفع درجات الإخلاص عند الأفراد، من الدرجات الدانية إلى العالية منها تدريجاً، لتكون الأمَّة بسرعة على مستوى القيادة العالمية، كأمَّة ذات دعوة وهدف.
وهذا يحتاج إلى أعمال عسكريَّة وفكرية واسعة النطاق، قد لا تقلُّ عن المقادير الواردة في الأخبار التي سنسمعها خلال هذا التاريخ، لكن ينبغي أن نفهم أنَّ مَن يعمل المهدي (ع) ضدَّه من الأفراد المسلمين هو كل مُنحرف منهم، وإن كان على مذهب لمهدي نفسه من الناحية النظريَّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٠) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص ٢٤٨ وما بعدها.

↑صفحة ٢٢↑

وهذا الذي يُفسِّر لنا كيف أنَّ جهود المهدي (ع) في أوّل ظهوره، وخلال فترة سيطرته على العالم عسكرياً وفكرياً، وتكون مبذولة على الأمَّة الإسلامية نفسها، أكثر من أيِّ أمَّة أُخرى قائدة للعالم ورائدة للحق، ريثما يستتبُّ له الوضع العالمي؛ ليوزِّع جهوده على العالم على حدٍّ سواء، وليس في مداليل الأخبار التي نحن بصددها ما هو أوسع من ذلك.
الأُسلوب الثاني: في تغطية الاتِّجاه الطائفي للأخبار، وهو الاستغناء عن ذكر ما يوجب جرح العواطف المذهبية، وإثارة الضغائن بين المذاهب الإسلامية، وإن أوجب ذلك وجود فجوة تاريخية.
على أنَّ الأخبار المُتطرِّفة ليست كثيرة، ليست واردة بطريق صحيح، ولا تثبت للنقد أمام الأُسلوب الذي اتَّخذناه بالعمل بالأخبار، فلا يكون تركها مؤسفاً.
الأمر الثاني: ممَّا يحتاج إلى التأمُّل، أنَّ ما قلناه، من قصور الباحث عن إدراك العمق الحقيقي لليوم الموعود، وقيادة المهدي (ع) فيه، حقيقة واقعة لا مناص منها؛ ومن هنا كان الباب مُنسدَّاً أمام التعرُّف على التخطيطات والتشريعات التفصيلية، التي يقوم بها القائد المهدي (ع)، والعمق الحقيقي لثقافة الفرد المسلم والجماعة المسلمة في ذلك العصر.
إلاَّ أنَّ هذا لا يعني - بحال - عدم إمكان التعرُّف على ذلك بنحو الإجمال، على شكل قضايا تجريدية تتَّصف بشيء من العمومية... وذات اختصار تجاه تلك التفاصيل القليلة على ما سنرى.
إذاً؛ فهذا البحث لا يُمكنه أن يُزاحم الحقائق في ذلك العصر، ويُغني عنها، وإنَّما غاية جهده أن يُلِمَّ بعناوينها العامة وقضاياها الإجمالية ونتائجها الرئيسية عن طريق مُبرهَن صحيح.
وبالاطِّلاع على هذه الجهات، نعرف - بوضوح - جواب السؤال الذي ذكرناه في أول التمهيد، من أنَّ هذا البحث خالٍ من الفائدة ورجم بالغيب، قد يتحقَّق في المُستقبل وقد لا يتحقَّق.
أمَّا إنكار فوائد هذا البحث، فقد عرفنا ما يترتَّب عليه من فوائد الجهة الأُولى من هذا التمهيد، فإنَّ كل فائدة منها تكفي في رجحان الدخول في هذا البحث، فضلاً عن المجموع.

↑صفحة ٢٣↑

وأمَّا كونه رجماً بالغيب، فليس كذلك؛ لأنَّنا إذ نتكلَّم على المستوى الإسلامي، إنَّما نأخذ ذلك من مصادر الإسلام الأساسية وقواعده العامة، وليس فيه أيُّ إخبار بالمُغيَّبات على الإطلاق.
نعم، نفس الأخبار الواردة عن النبي (ص) والأئمة (ع) التي نعتمدها في هذا الصدد، تحتوي على الأخبار بالغيب وبحوادث المُستقبل، شأنها في ذلك شأن العديد من الأخبار التي اعتمدناها في التاريخ السابق، والتي أثبتنا صحَّة الأعمِّ الأغلب منها، وهو ممَّا لا يكون مُضرَّاً على المستوى الإسلامي، بعد إمكان تعليم الله تعالى إيَّاهم ذلك... ووجود المصلحة في تبليغه، وهو الإعداد التدريجي للأمَّة الإسلامية لتلقِّي اليوم الموعود.
مضافاً إلى أنَّنا اختبرنا هذه الأخبار، في التاريخ السابق، فوجدناها صادقة، وفيها ما هو مُبرهَن الصدق إلى حدٍّ يدلّ على صدق العقيدة الإسلامية، فضلاً عن قضية المهدي، كما قلنا هناك،(١١) فإذا أمكن أن نُصدِّق بعض الأخبار، أمكننا أن لا نستبعد صدق الجميع.
وأمَّا كون هذا التاريخ ممَّا قد يتحقَّق ولا يتحقَّق، فهذا تابع لقوَّة ما سنعرضه من الأدلَّة، وفيها ما هو قطعي الإنتاج، وما هو مؤكَّد وما هو ظنِّي، وإن كانت كلُّها صالحة للإثبات التاريخي، طبقاً للمنهج الذي ذكرناه، ولا معنى بطبيعة الحال، أن نقول - لما هو قطعي ومؤكَّد -: إنَّه سوف لن يتحقَّق وأنَّ احتماله ضعيف...!!
الجهة الخامسة: في بيان ترتيب أبواب وفصول هذا الكتاب...
نذكره في البدء؛ ليكون القارئ مُلمَّاً بالتسلسل المنطقي لها، قبل الدخول في التفاصيل:
يقع هذا التأريخ في أقسام ثلاثة:
القسم الأوّل: في إرهاصات وتقديمات الظهور، بما فيها من أُسُس عامة، وظواهر خاصة، وفيه بابان:
الباب الأوّل: في الأُسُس العامة للظهور، ونعني بها القضايا الرئيسية التي يبتني عليها اليوم الموعود.
ويتكوَّن هذا الباب من عدَّة فصول:
الفصل الأول: ارتباط يوم الظهور بالتخطيط العام الإلهي للبشريَّة، ذلك التخطيط الذي سبق أن عرضناه وبرهنَّا عليه في تاريخ الغيبة الكبرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص ٥٣٨ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

↑صفحة ٢٤↑

الفصل الثاني: آثار الغيبة الكبرى على ما بعد الظهور، فيما يعود إلى الإمام المهدي (ع) نفسه، وما يعود إلى أصحابه، وما يعود إلى البشرية على وجه العموم.
الفصل الثالث: توقيت الظهور من ناحية شرائطه وعلاماته، وفائدة تحقُّق هذه الأشياء بالنسبة إلى ما بعد الظهور، مع الإلماع إلى أنَّ مثل هذا التوقيت لا يُنافي الأخبار الدالَّة على نفي التوقيت.
الفصل الرابع: الأيدولوجية العامَّة التي يتبنَّاها الإمام المهدي (ع) تجاه الكون والحياة والتشريع.
الفصل الخامس: التخطيط الإلهي لما بعد الظهور، وإنَّ التخطيط الإلهي العام للبشرية لا ينقطع بالظهور، بل يبقى ساري المفعول، لكن على شكل جديد.
الباب الثاني: حوادث ما قبل الظهور، ونعني بها الحوادث التي تقع قبل الظهور بزمن قليل، وهو ما سبق أن أجَّلنا فيه الكلام من تاريخ الغيبة الكبرى إلى هذا التاريخ، بعد إن فصَّلنا الكلام هناك بالحوادث التي لا تكون بطبيعتها قريبة من عصر الظهور.
يندرج في ذلك: حروب السفياني وفتنة الدجَّال، وقتل النفس الزكية، والصيحة والنداء، وغير ذلك، ممَّا ورد النقل عن حدوثه قبل الظهور بقليل.
وقد سبق أن أعطينا فكرة كافية عن الثلاث الأُوَل في التاريخ السابق، إلاَّ أنَّنا نُحاول هنا أن نُعطي فكرة جديدة عنها، في حدود الفرق في أُسُس الإثبات ومنهجة البحث بين الكتابين، وقد ألمعنا إلى المُهمِّ منها قبل صفحات.
القسم الثاني: حوادث الظهور وإقامة الدولة العالمية إلى وفاة الإمام المهدي (ع)، ويندرج فيه عدَّة أبواب:
الباب الأول: في حوادث الظهور، وما يليه إلى حين مسير المهدي (ع) إلى العراق، ويتمُّ الكلام في ذلك ضمن فصول:
الفصل الأوَّل: في معنى الظهور وكيفيَّة، وطريقة معرفة الإمام (ع) بالوقت المُلائم لذلك
الفصل الثاني: في مكان الظهور وزمانه، ونعني بالزمان: اسم اليوم والشهر، ونحو ذلك ممَّا قد في بعض الأخبار تعيينه.
الفصل الثالث: خُطبته الأُولى، مع بيان مغازيها والتعرُّض إلى عُمق مضامينها.

↑صفحة ٢٥↑

الفصل الرابع: عدد أصحابه وخصائصهم وكيفيَّة اجتماعهم.
الفصل الخامس: مُنجزاته الأُولى إلى حين الوصول إلى العراق.
الباب الثاني: فتحه للعالم بالعدل.
وهو على عدَّة فصول:
الفصل الأول: في نقطة الانطلاق، والمراد به المكان الذي يبدأ به المهدي (ع) غزو العالم.
الفصل الثاني: في سعة ملكه.
الفصل الثالث: ضمانات النصر لديه (ع)، وأنَّه كيف يمكن أن ينتصر بالعدد القليل على العالم، وفيه القوى الكبرى ذات العدد والعدَّة.
الفصل الرابع: في كيفيَّة ومدَّة استيلائه على العالم، أعني من أول ظهوره إلى حين تأسيس الدولة العالمية بكاملها.
الفصل الخامس: ما يُحتمل أن يكون موقف الآخرين منه، سواء في ذلك الأفراد أم الجماعات.
الفصل السادس: في مدَّة بقائه في الحُكم.
الباب الثالث: التطبيق الإسلامي المهدوي، والدولة المهدوية العالمية، ويتضمَّن هذا الباب عدَّة فصول:
الفصل الأول: مجيء المهدي (ع) بكتاب جديد وقضاء جديد... وإعطاء الفكرة الصالحة عن ذلك.
الفصل الثاني: موقفه من القضايا السياسية والاجتماعية.
الفصل الثالث: ضمانات التطبيق السريع للعدل الكامل في العالم.
الفصل الرابع: قيادات أصحابه، ومقدار قابليَّتهم وسِعتها.
الفصل الخامس: تمحيص المهدي لأصحابه وللأُمَّة عامة.
الفصل السادس: أُسلوبه في تربية الأمَّة على وجه الإجمال بعد تعذُّر الاطِّلاع على التفصيل.
الفصل السابع: مُنجِّزات المهدي على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، في حدود

↑صفحة ٢٦↑

ما وردنا في الأخبار، وما تقتضيه القواعد العامة.
الفصل الثامن: موقف الإمام المهدي (ع) من أهل الكتاب، ومسألة مشاركة المسيح عيسى بن مريم على نبِّينا وعليه السلام، ومعه في القيادة العالمية.
الباب الرابع: في انتهاء حياة المهدي (ع) والحديث عن سبب موته.
القسم الثالث: العالم بعد المهدي (ع).
وينقسم إلى بابين:
الباب الأول: في قيادة ما بعد المهدي (ع)، وعرض صفات الدولة، ومن حيث الرئاسة والخصائص العامة لها وللمُجتمع.
الباب الثاني: في نهاية البشرية، وهل يصح: أنَّه لا تقوم الساعة إلاَّ على شِرار الخَلق.
هذا، ويكون الكلام في هذا القسم الثالث موجَزاً نسبيَّاً؛ لأجل أن نعرضه بكل تفصيل في الكتاب الرابع من هذه الموسوعة.
وينبغي أن نُشير هنا إلى أنَّنا جعلنا عنوان هذا الكتاب: تاريخ ما بعد الظهور؛ لأنَّ المُهمّ هو التعرُّض إلى تاريخ البشرية من زاوية ما يقوم به المهدي (ع) من أعمال من حين ظهوره فصاعداً، ويبقى التعرُّض إلى العلامات القريبة السابقة على الظهور بقليل، وإلى الظهور نفسه وما يحتويه من ملابسات، يبقى ذلك كأنّه من مُقدِّمات هذا التاريخ.

↑صفحة ٢٧↑

القسم الأول: في إرهاصات الظهور ومُقدّماته
بما فيها من أُسُس عامة وظواهر خاصة.

وفيه بابان:

↑صفحة ٢٩↑

الباب الأول: في الأُسُس العامة لظهور المهدي (ع).
ونعني بها القضايا الرئيسية التي يبتني عليها اليوم الموعد بما يحتويه من ظهور المهدي (ع) ودولته العالمية العادلة ويتكوَّن هذا الباب من عدَّة فصول:

↑صفحة ٣١↑

الفصل الأول: ارتباط الظهور بالتخطيط الإلهي العام
يكون التخطيط الإلهي العام المُنتِج لشرائط الظهور، قد انتهى، وتكلَّل بنتيجة الكبرى، وهو حصول اليوم الموعد.
وحاصل الفكرة التي فصَّلناها في التاريخ السابق(١٢): إنَّنا - انطلاقاً من قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(١٣) - نفهم أنَّ الغرض الإلهي الأسمى من إيجاد الخليقة، وإمدادها بالإدراك والاختيار، هو التوصُّل بها إلى الكمال، وهو تمحيض العبادة الحقيقة لله تعالى، والغرض الإلهي لا يمكن أن يتختلَّف.
وقد ذكرنا هناك معنى العبادة الحقيقية(١٤)... وبرهنَّا(١٥) على أنَّ وجود هذا الهدف يتوقَّف على عدَّة شرائط، هي كما يلي:
أولاً: وجود الأُطروحة العادلة الكاملة المُبلِّغة إلى البشر من قبل الله تعالى؛ لتكون هي القانون السائد في المجتمع.
ثانياً: وجود القيادة الحكيمة التي يقوم بتطبيق تلك الأُطروحة في اليوم الموعود.
ثالثاً: وجود العدد الكافي من المُخلِصين المؤازرين للقائد بتطبيقه العالمي المنشود.
أمَّا الشرط الأول: فقد خطَّط الله تعالى لإيجاده وتربية البشرية عليه. ضمن خَطِّ الأنبياء الطويل، حتى تكلَّل هذا التخطيط بالنجاح بانجاز هذا الشرط ضمن الأُطروحة الإسلامية المُبلَّغة من قِبَل خاتم الأنبياء (ع).
وقد سبق هناك أن برهنَّا أنَّ الأُطروحة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٢) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص ٢٣٣ وما بعدها إلى عدّة صفحات.
(١٣) الذاريات: ٥٦.
(١٤) تأريخ الغيبة الكبرى ص٢٣٤.
(١٥) المصدر ٤٧٦ وما بعدها.

↑صفحة ٣٣↑

العادلة الكاملة هي الإسلام.(١٦)
وأمّا الشرط الثاني: فقد وفّره الله تعالى في المهدي (ع) كقائد أمثَل للبشرية؛ ليكون هو المُطبِّق لتلك الأُطروحة الكاملة في اليوم الموعود... وأكّد على بقائه الطويل خلال أجيال عديدة من البشر، ذلك البقاء الذي سنرى - في الفصل الآتي - كونه ضرورياً لتولية القيادة المأمولة في اليوم الموعود، وقد أعطينا طرفاً مُختصراً عن ذلك في التاريخ السابق.(١٧)
وأما الشرط الثالث: فقد خطّط الله تعالى لإيجاده بعد الإسلام، فإنَّ تربية الفرد على تفهم وتطبيق مناهج سابقة غير الأُطروحة العادلة الكاملة، والتي سبق(١٨) أن برهنّا على مرحليّتها وضيق مضمونها، باعتبار أنّ الذهن البشري لم يكن قابلاً لأكثر من ذلك.
إنّ التربية على تفهم وتطبيق هذه المناهج ممّا لا يكون مُجديا ً في تحقيق العدل في اليوم الموعود.
وإنَّما لا بدّ من تربية الأمّة الإسلامية على الأطروحة الكاملة نفسها، من حيث تفهُّمها واستيعاب مضمونها - من ناحية - والكفاءة لتطبيقها وإطاعة موادّ قانونها - من ناحية ثانية -... ليكون الأفذاذ المُمحَّصين من هذه الأمّة شرفُ المُشاركة في انجاز اليوم الموعود، وتوطيد دعائم الدولة العالمية العادلة.
ومن هنا؛ كان لا بدّ أن تمرّ الأمّة الإسلامية بخطٍّ طويل من التربية، وبظروف مُعيّنة من الامتحان والتمحيص، من الناحيتين الفكرية والعاطفية.
أمّا من الناحية الفكرية، فتتربّى الأمّة - وبشكل غير مباشر كل البشرية - بما يُقدِّمه لها المُفكّرون الإسلاميون من بحوث وتدقيقات لدينهم الحنيف؛ لكي تكون الأمة - ومن ثُمَّ البشرية كلها - على مستوى تفهم الأفكار والتشريعات الجديدة، التي تُعلَن في اليوم الموعود.
وأمّا التربية من الناحية العاطفية، أي من جهة تعميق الإيمان والإخلاص، فالأسلوب الرئيسي لذلك هو أن تمرَّ الأمّة بظروف صعبة، من الظلم والمصاعب والانحراف، ويكون ردُّ فعلهم تجاه هذا الظلم والانحراف، ويكون لدى النخبة الصالحة منها من الإخلاص والإيمان وقوّة الإرادة، بحيث يكون ردُّ فعلهم تجاه هذا الظلم والانحراف ردَّ فعل مُخلص، مُتضمّن للتطبيق الكامل للأُطروحة الكاملة، والإطاعة التامّة للإسلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٦) المصدر ص ٢٦١.
(١٧) المصدر ص ٥٠١ وما بعدها.
(١٨) المصدر ص ٢٥٥ وما بعدها وص ٢٥٨ وما بعدها.

↑صفحة ٣٤↑

وتستمرُّ التربية جيلاً بعد جيل على هذا الأساس، يتزايد خلالها هؤلاء المخلصون، كما يتطرّف العديدون إلى جانب الظلم والانحراف، حتى يأتي اليوم الذي يتوفّر العدد الكافي من هؤلاء المُخلصين لقيادة اليوم الموعود وتنفيذه، وعندئذ يكون الوعد الإلهي ضروري التطبيق، بعد توفّر شرائطه الثلاثة.
ومعه نستطيع أن نفهم - بكل وضوح - مدى ارتباط يوم الظهور الموعود بالتخطيط العام للبشرية، فإنّه في الحقيقة هو اليوم الذي يتحقّق فيه السبب الرئيسي لإيجاد العبادة الكاملة لله تعالى في خلقة... وبإيجاده يتحقَّق الهدف الأسمى لخلق البشرية ككُلّ.
إذاً؛ فيوم الظهور، ليس يوماً ولا عرضاً عارضاً، ولا ظاهرة موقَّتة، وإنّما هو النتيجة الطبيعة المقصودة لله (عزَّ وجلَّ) من خلقة، وعلى طريقة كانت جهودَ الأنبياء والأولياء والشهداء، أولئك الأعاظم الذين لم تتكمَّل جهودهم بالنتيجة الأساسية المأمولة في عصورهم، بل بقيت مذخورة ومُخطّطة لليوم الموعود.
وعلى طريقة كانت تضحيات البشر والآمهم، وما قاسوه من المصاعب والمصائب على مَرِّ التاريخ، وما مرُّوا فيه من ظروف الظلم والعَسْف والانحراف، فهو غياث المُستغيثين، وأمل الآملين، ورافع كرب المكروبين وظلم المظلومين، ومُحقِّق العدل العظيم.
وسيأتي فيما يلي من البحث، المزيد من التفصيل والإيضاح لهذه الفكرة.

↑صفحة ٣٥↑

الفصل الثاني: في نتائج الغيبة الكبرى على ما بعد الظهور
بالنسبة إلى كلٍّ من الإمام المهدي (ع) نفسه، وبالنسبة إلى أصحابه وخاصّته، وإلى الأمّة الإسلامية بشكل عام، بل إلى البشر أجمعين، تنقسم الغيبة الكبرى في مفهومها الضخم الذي حقّقناه في التاريخ السابق إلى ثلاثة مداليل:
المدلول الأول: تأجيل اليوم الموعود إلى أمدٍ بعيد، وإلى موعد مجهول.
المدلول الثاني: طول عمر الإمام القائد المذخور للمُهمّة، ومُعاصرة العالمية في اليوم الموعود... كما يقتضية الفهم الإمامي للمهدويّة، مُعاصرة هذا القائد لتاريخ طويل وأجيال كثيرة للأمّة الإسلامية.
المدلول الثالث: غيبة هذا القائد خلال ذلك، وعدم اطّلاع الناس على شخصه، ومكانه وأُسلوب حياته... بالمعنى الذي ذكرناه من الغيبة في التاريخ السابق،(١٩) ولكلٍّ من هذه المداليل تأثيره الحقيقي الفعّال في اليوم الموعود.
أمّا المدلول الأول: فهو مدلول ثابت ومُنتج، سواء على الفهم الإمامي للمهدي أم على الفهم الآخر؛ لأنّ قضيّة التأجيل أمر واضح للمسلمين عموماً، من صدر الإسلام وإلى المُستقبل... لا يختلف الحال فيه بين أن يكون القائد المهدي (ع) موجوداً خلال هذا الأجل الطويل ولم يكن، وغائباً وليس بغائب.
ولهذا المدلول، أعني التأجيل الطويل، فوائد المُهمّة وآثاره العميقة على اليوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩) انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص٣٤.

↑صفحة ٣٧↑

الموعود والدولة العالمية، من عدَّة نواحٍ:
الناحية الأُولى: مرور الأُمّة الإسلامية بظروف التمحيص والاختيار، التي توضِّح حقيقة أفرادها، وتكشف عن إيمان المؤمنين فيها، وتجعلها على طريق تعميق الإخلاص والوعي.
الناحية الثانية: إنّ ظروف التمحيص الطويل تُنتج العدد الكافي من الإفراد المُخلصين الكاملين، لغزو العالم بالعدل، الذين يكون لهم شرف القيادة في اليوم الموعود، الأمر الذي عرفنا أهمِّيَّته في التاريخ السابق مُفصّلاً.
الناحية الثالثة: إنّ هذه المدّة الطويلة كفيلة بإكمال تربية الأجيال من الناحية الفكرية والعاطفية و- بتعبير آخر: - على فهم الأُطروحة العادلة الكاملة، أولاً، والتدرُّب على إطاعتها والتضحية في سبيلها.
وقد سبق أن عرفنا في تاريخ الغيبة الكبرى فكرة مُفصَّلة عن ذلك، وهذه التربية لا تختصّ بخصوص المُمحّصين الكاملين، بل هي عامة تشمل سائر الأفراد على مُختلف المستويات، كما برهنّا، وهي تؤثِّر في الأُمّة من زاوية جعلها على مستوى فهم القوانين والأفكار، والمفاهيم التي تُعلن في الدولة العالمية، والتي يكون إعلانها ضروريّاً لاستتباب العدل الكامل في الأرض.
وهذه النواحي الثلاث - كما قلنا - لا ترتبط بوجود الإمام الغائب، بل يمكن تصوُّر إنتاجها لفوائدها بدون الإيمان بذلك، طبقاً للتصوُّر غير الإمامي للمهدي... حتى ما إذا علم الله تعالى إكماله للنتيجة بحسب ما هو المقصود في تخطيطه الطويل، أوجد الإمام المهدي في عصره، فأخذ بقيادة الأمّة الإسلامية والبشرية إلى شاطئ العدل والسلام.
إلاَّ أنّ هذا ممّا لا ينبغي المُبالغة في نتيجته، وإن كان صحيحاً على أيّ حال... وذلك بعد أن نلتفت إلى مجموعة أمرين:
الأمر الأول: ما تسالمت عليه مذاهب المسلمين على اختلافها، من أنّ الحقّ مُنحصِر في مذهب واحد على الإجمال، وأنَّ المذاهب الإسلامية الأُخرى بعيدة عن واقع الإسلام بقليل وبكثير، غاية الأمر أنّ كل مذهب يدّعي هذه المزيَّة لنفسه.
الأمر الثاني: إنّ التمحيص الإلهي الضروري لإيجاد اليوم الموعود، لا يكون إلاّ على الحقّ، والتجارب والمِحن لا تنطلق إلاّ من طاعته والإخلاص له، وأمّا المذهب والمذاهب التي يكون في واقعها بعيدة عن الإسلام، فالتربية على أساسها والتدريب على

↑صفحة ٣٨↑

طاعتها تدريب على الباطل، وإن اتّخذ صفة الإسلام.
إذاً؛ فالتمحيص ينحصر في المذهب الواحد الحق المُطابق للإسلام، والمُرضي لله تعالى من المذاهب المُتعدِّدة في الإسلام، وهو - على إجماله - الذي يقوم فيه المُخلصون الكاملون بقيادة البشرية بين يدي الإمام المهدي في اليوم الموعود.
ومعه؛ فالفوائد المَبْنيّة على أساس المدلول الأول والناتجة عنه، لا تترتَّب إلاَّ على ذلك المذهب الحق، ولا يمكن أن يترتَّب على مجموع مذاهب المسلمين.
وأما المدلول الثاني: وهو عمر الإمام المهدي (ع) ومعاصرته لتاريخ طويل للأمّة الإسلامية خاصة، وللبشرية عامة... فما يترتّب عليه من الفوائد يختصّ بالفهم الإمامي للمهدي (ع)، ولا يعمُّ فَهْم المذاهب الأُخرى له، فإذا عرفنا ما لهذا المدلول من فوائد في تكميل وترسيخ العدل في عصر الظهور، أمكننا أن نعرف أفضليّة التصوُّر الإمامي على غيره من هذه الجهة، وأنّ الله تعالى حين يريد أفضل أشكال العدل للدولة العالمية، فهو يختار التخطيط للغيبة، وبذلك نستكشف صحّة التصوُّر الإمامي وتعين الأخذ به في التخطيط الإلهي.
وقد بحثنا ذلك في التاريخ السابق(٢٠) طبقاً لمنهج مُعيّن، ونريد أن نبحثه الآن طبقاً لمنهج آخر، قد يكون أكثر تحليلاً:
وخلاصة القول في ذلك: إنّ الأُطروحة الإمامية لفهم المهدي (ع)، في حدودها الصحيحة المُبرهنة التي عرضناها في التاريخ السابق، تتضمَّن - في حدود المدلول الثاني الذي نحن بصدده - عدّة خصائص مُهمّة:
الخصِّيصة الأُولى: الإيمان بعصمة الامام المهدي (ع)، باهتباره الثاني عشر من الائمة المعصومين.
الخصِّيصة الثانية: الإيمان بكونه القائد الشرعي الوحيد للعالم عامة، ولقواعده الشعبية خاصة، طيلة زمان وجوده، سواء كان غائباً أم حاضراً.
الخصِّيصة الثالثة: مُعاصرته لأجيال مُتطاولة من الأمَّة الإسلامية خاصة، والبشرية عامة.
الخصيصة الرابعة: كونه على مستوى الاطِّلاع على الأحداث يوماً فيوماً، وعاماً فعاماً،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٠) انظر: التخطيط الخاص بإيجاد القائد ص٤٩٧ وما بعدها.

↑صفحة ٣٩↑

عارفاً بأسبابها ونتائجها وخصائصها.
الخصِّيصة الخامسة: كونه على ارتباط مُباشر بالناس خلال غيبته، يراهم ويرونه، ويتفاعل معهم ويتفاعلون معه، لا أنّهم لا يعرفون بحقيقة إلاّ نادراً جدّاً، وذلك طبقاً لـ (أُطروحة خفاء العنوان) التي اخترناها وبرهنّا عليها في تاريخ الغيبة الكبرى.(٢١)
وكل هذه الخصائص ممّا يفقدها الفهم غير الإمامي للمهدي، بكل وضوح، وإنّما المهدي بحسب تلك الأُطروحة شخص يولَد في زمانه، ويُيسِّر له الله عزّ وجلّ ظروف الثورة العالمية، فهل هذا العمل الكبير ممكن التنفيذ من قِبل شخص غير معصوم، أحسن ما فيه أنّه يُمثِّل ثقافة عصره ودرجة وعيه من الناحية الإسلامية؟!
الحق، إنّنا ينبغي أن نُذعن بأنّ مثل هذا الإنسان، لا يمكن أن يؤهَّل للقيادة العالمية بأيّ حال، وأنّ خصائص المهدي في التصوُّر الإمامي ليست بالخصائص الطارئة والثانوية، وإنّما هي أساسية في تكوين قيادته وتمكُّنه من تحقيق المجتمع العادل، كما أراده الله تعالى، وكما وعد به.
أمّا الخصيصة الأُولى: وهي عصمة الإمام المهدي (ع)، فتترتّب عليها عدّة فوائد، يمكن أن نُشير إلى أربعة منها:
الفائدة الأُولى: كونه وارثاً علم الإمامة المُتضمِّن للأُسس الرئيسية للفكر القيادي العالمي... عن آبائه المعصومين، عن رسول الله (ص)، عن الله (عزَّ وجلَّ)، وأنَّى لمَن يوجد في العصور المُتأخِّرة الحصول على ذلك؟! إلاّ بوحي جديد من الله (عزَّ وجلَّ)! وهو ما حصل الإجماع من قِبل سائر المسلمين على عدم حصوله للمهدي (ع).
ولا يخفى ما في الاطِّلاع على هذه الأُسس الرئيسية، من زيادة في القدرة على القيادة العالمية، إن لم تكن في واقعها الطريق الرئيسي الوحيد لذلك، وتعذُّر القيادة العالمية بدونها، وكلّما تعيّن شيء للقيادة العالمية، وكان أفضل لها، كان الله تعالى مُنجِزاً له لا محالة؛ لكونه واقعاً في طريق الهدف البشري الأعلى، وكون اختيار عكسه ظلم للبشرية، وموجب لتخلُّف الهدف وكلاهما مُحال على الله (عزَّ وجلَّ)!
الفائدة الثانية: الشعور بالأُبوَّة للبشر أجمعين، فهو حين يُحارب الكافرين والمُنحرفين، ويقتل العاصين، لا يشعر تجاههم بحقد وضغينة، وإنّما يُحاربهم من أجل مصالحهم أنفسهم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١) انظر ص٣٤ وما بعدها.

↑صفحة ٤٠↑

ونشر العدل والسعادة في ربوعهم، وإيصال الحق إلى أذهانهم.
واجتماع هاتين العاطفتين، أعني الشعور بالأُبوّة مع قصد القتل، لا تتوفّر لدى أيِّ أحد في التجربة الفعلية للفتح الإسلامي، إلاّ إذا كان معصوماً.
ومن هنا؛ رأينا الفتح الإسلامي بعد انحسار القيادة المعصومة عنه، قد تحوّل إلى مقاصد أُخرى لا تمتُّ إلى الشعور بالعطف الأبوي على الشعب المغلوب، بأيِّ صلة... وإنَّما أصبح الفتح تجاريَّاً محضاً، كما سمعنا طرفاً منه في (تأريخ الغيبة الصغرى).(٢٢)
فإذا كان هذا الشعور مُتعذِّراً لغير المعصوم في الفتح الإسلامي العالمي ذو النطاق المحدود، فكيف بالفتح الإسلامي العالمي، بما تزهق فيه من نفوس، وما تحصل فيه من أموال، وما يتّسع فيه من سلطان.
الفائدة الثالثة: عدم الانحراف بالقيادة عن مفهومها الإسلامي الصحيح، الذي يشجب استغلالها في سبيل ترسيخ الكرسي والتمسُّك بدفّة الحُكم والجَشَع الشخصي... هذه الآثار السيِّئة والعواطف المُنحرفة التي لا يكاد تنفكُّ عن كل مَن يحكم رقعة من الأرض، ودولة مُعيَّنة، فكيف إذا أصبح الحُكم عالمياً وأصبحت السيطرة والنفوذ في القمَّة من السعة والشمول.
إنّ الفرد مهما كان صالحاً ونقيَّاً قبل هذه القيادة، سيكون مثل هذه القيادة محكَّاً لانحرافه وطمعه، لمدى ضغط الدافع الشخصي والمصلحي على الفرد الحاكم، ما لم يكن معصوماً بالفعل عن ارتكاب كلِّ قبيح ومعصية في التشريع الإسلامي.
الفائدة الرابعة: الدقَّة الكاملة في التطبيق العالمي للأُطروحة العادلة الكاملة، ومن ثُمَّ الأخذ بزمام المجتمع للعبادة المحضة لله عزَّ وجلَّ، التي هي الهدف الأساسي من إيجاد الخليفة.
وهذه الدقَّة يمكن أن تتوفَّر للمعصوم بكل سهولة، بناءً على الفهم الإمامي للعصمة، وهو أنّ المعصوم مُمتنع عليه الخطأ والنسيان، مضافاً إلى عصمته من الذنوب، وأنّ الإمام (متى أراد أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك) كما نطقت به الأخبار،(٢٣) فإنَّ المشاكل العالمية مهما كثرت وتعقَّدت، يمكن للإمام المُتَّصف بهذه الصفات، أن يُهيِّئ لحلِّها أقرب الأسباب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢) انظر ص٩٦ وما بعدها.
(٢٣) انظر: الكافي (الأصول) لثقة الإسلام الكليني (مخطوط) في باب بعنوان: أنَّ الأئمَّة إذا شاءوا أن يعلموا علموا.

↑صفحة ٤١↑

ولعلَّ هذا هو السرُّ الأساسي في جعل هذه الصفات للمعصوم، واتِّصافه بها، مع أنًّه لا تترتَّب عليها مصالح الدعوة الإلهية بالمعنى الشخصي.
وذلك؛ أنَّه قد يُستشكل في الدليل العقلي التقليدي على العصمة، بأنَّ: غاية ما دلَّ عليه ذلك الدليل هو وجوب عصمته عن الذنوب، وعن الكذب في التبليغ والدعوة؛ لكي يكون كلامه مؤثِّراً في الآخرين ومُقنعاً لهم، بخلاف ما لو عرفوه مُحتمَل الكذب في حياته السابقة، فإنّ هذا التأثير لا يحصل لا محالة، أمّا عصمته عن الخطأ والنسيان فهو ممَّا لا يشمله ذلك الدليل؛ لإمكان تدراك ما فات بعد الالتفات.
والجواب عن ذلك - على ضوء النتائج السابقة: إنّ العصمة عن الخطأ والنسيان ممّا يتوقّف عليه التطبيق العالمي للعدل الكامل،(٢٤) وخاصة في مُهمَّته الأُولى، وتحويل العالم الفاسد إلى عالم صالح عادل، والمفروض في كل معصوم أن يكون على مستوى القيادة الثابتة له نظرياً، أعني أن يكون له من القابليّات ما يمنعه من التقصير في تنفيذها، باعتبار أنَّ إيكال الدعوة إلى شخص قاصر عن تطبيقها مُستحيل على الله عزَّ وجلّ، بل لا بدّ أن تنسجم دائماً مُدّعيات الدعوة الإلهيّة من الناحية النظرية، مع إمكان التطبيق على طول الخطِّ.
هذا حال المعصوم، أم الغير المعصوم، فيتعذَّر عليه تماماً قيادة العالم بالعدل، وخاصة في تحويل لأول مرَّة من الظلم إلى العدل، الأمر المملوء بالمشاكل والعَقبات.
ولعلَّ أطرف ما يُبرِّر ذلك، ما روي عن ذي القرنين، حين أوكل إليه الله تعالى قيادة العالم، ولم يكن حاكماً من الناحية العملية إلاَّ على بعض العالم... وقد أوحى الله تعالى: (يا ذا القرنين، أنت حُجَّتي على جميع الخلائق ما بين الخافقين، من مطلع الشمس إلى مغربها، وهذا تأويل رؤياك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٤) ولا يُنافي هذا ما قلناه في التاريخ السابق عن القاعدة القائلة: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك. فإنّنا حدّدناها هناك (ص٥١٧) ببعض القيود، ولكنّها في ضمن تلك الحدود تكون كافية للقيادة العالمية، ولا يقتضي الدليل الذي ذكرناه هنا ما هو أوسع من ذلك.

↑صفحة ٤٢↑

فقال ذو القرنين: (يا إلهي، إنّك ندبتني لأمر عظيم، لا يقدر قدره غيرك، فأخبرني عن هذه الأمَّة، بأيَّة قوّة أُكابرهم؟ وبأيِّ عدد أغلبهم؟ وبأيِّ حيلة أكيدهم؟ وبأيّ صبر أُقاسيهم؟ وبأيِّ لسان أُكلِّمهم؟ وكيف لي بأن أعرف لغاتهم؟ وبأيّ سمع أعي قولهم؟ وبأيّ بصر أنقدهم؟ وبأيّ حُجّة أُخاصمهم؟ وبأيّ قلب أعقل عنهم؟ وبأيّ حكمة أُدبِّر أمرهم؟ وبأيّ علم أُتْقِنُ أمرهم؟ وبأيّ حِلم أُصابرهم؟ وبأيّ معرفة أُفضِّل بينهم؟ وبأيّ عقل أُحصيهم؟ وبأيِّ جُند أُقاتلهم؟ فإنّه ليس عندي ممّا ذكرت - يا ربِّ شيء ـ! فقوِّني عليهم، فإنَّك الربُّ الرحيم، الذي لا تُكلِّف نفساً إلاَّ وسعها، ولا تُحمِّلها إلاَّ طاقتها).(٢٥)
فهذه الرواية تُبرز بوضوح صعوبة مُمارسة الحُكم العالمي، ولئن ذلَّلت المدينة الحديثة بعض هذه المصاعب إلى حدٍّ ما، فإنَّها أضافت إليها مصاعب وتعقيدات جديدة، تزيد في الطين بَلَّة، ولولا أنّ الله عزَّ وجلَّ وعده بعد ذلك - لو صحَّت الرواية - بالتوفيق والتسديد، لكان من الحقِّ تعذُّر - بل استحالة - القيادة الشخصية غير المعصومة للعالم، بل لبعض العالم، فإنَّ ذا القرنين لم يكن حاكماً للعالم، بل لبعض العالم، فإنَّ ذا القرنين لم يكن حاكماً للعالم كلِّه.
نعم، ترتفع هذه الاستحالة ويقلُّ التعذُّر، مع وجود القيادة الجماعية، إلاَّ أنَّنا سبق أن ناقشناها بالتفصيل في التاريخ السابق،(٢٦) وسيأتي تطبيق ذلك في مُستقبل هذا التاريخ، وسيتَّضح أنَّه لا يمكن للمهدي أن يأخذ بالقيادة الجماعية إلاَّ بعد أن تمرَّ البشرية بتربية طويلة، طبقاً للمناهج التي يضعها بنفسه.
وعلى أي حال، فقد كان المقصود البَرْهنة على أهمِّيَّة الخصِّيصة الأُولى للمهدي (ع)، وهي صفة العصمة، وأنَّه لا يمكن لأيِّ شخص غير معصوم الاضطلاع بمُهمَّة القيادة العالمية.
وأمَّا الخصّيصة الثانية للإمام المهدي (ع) في الفهم الإمامي، وهي كونه القائد الشرعي والوحيد للعالم عامة، ولقواعده الشعبية خاصة، حتى في حال غيبته... فتترتَّب عليها عدَّة فوائد بالنسبة إلى مَن يؤمِن بقيادته، فإنَّ أثرها الكبير في تعميق التمحيص

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٥) انظر إكمال الدين للشيخ الصدوق (نسخة مخطوطة).
(٢٦) انظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص ٤٧٧ وما بعدها.

↑صفحة ٤٣↑

الإلهي وتوسيعه.
فإنَّ الفرد المؤمن بقيادته حال غيبته، حين يكون على محكِّ التمحيص الإلهي، الساري المفعول لأجل صقل إيمانه، وتعميق إخلاصه، وتكميل نفسه... إذا أخذ الفرد مفهوم القيادة المهدوي في ذهنه، فإنَّه سوف ينعكس على سلوكه بكل وضوح، وسيتَّجه إلى العمل والتضحية أكثر من الفرد الخالي من هذه الفكرة بطبيعة الحال، وذلك؛ لاقتران مفهوم القيادة المهدوية في ذهنه بعدَّة حقائق:
الحقيقة الأُولى: كونه جنديّاً مأموراً موجَّهاً بالفعل للعمل في سبيل الله وإطاعة أحكامه، وأنَّ أوامر قائده المهدي (ع) موجودة ومُتوفِّرة لدية مُتمثِّلة بالأحكام الإسلامية، فإنَّ المهدي هو المُمثِّل الحقيقي للإسلام، فأوامر الإسلام أوامره، ورغبات النبي (ص) في أُمَّته رغباته.
الحقيقة الثانية: كونه مسوؤلاً ومحاسَباً أمام هذا القائد، ولو بشكل غير مُباشر، كيف، وأنَّ صوت القائد موجود في ضميره الإسلامي، يحمله على الخير ويردعه عن الشرِّ، وهذا الفرد يعلم أنَّ قائده حيٌّ مُطَّلع على ما يصدر منه من أعمال ويُقيِّم ما يقوم به من حسنات وسيِّئات؟! فأحرى به أن يُدخل السرور عليه بحسناته، وأن لا يخجل أمامه بسيِّئاته وانحرافه.
الحقيقة الثالثة: الشعور بمظلومية هذا القائد حال غيبته، وبمظلومية البشر البائسة التي أوجبت لها غيبة إمامها، ومرورها بعصور الظلم والانحراف، كثيراً من القَمع والاضطهاد.
الحقيقة الرابعة: الشعور باتنظار هذا القائد، واحتمال ظهوره وقيامه بدولة الحق في أيِّ لحظة من الزمن، وهذا يستدعي، بطبيعة الحال، أن يُراعي الفرد تعميق إخلاصه، وإيمانه، وتضحياته في سيبل دينه... ليكون له الزلفة لدى إمامه وقائده عند ظهور وأهليَّة شرف المُشاركة بين يديه في إصلاح العالم وقيادته.
إلى غير ذلك من الحقائق التي تكون كل واحدة منها - فضلاً عن مجموعها - من أكبر المُحفِّزات للفرد المؤمن على مزيد العمل، والتضحية في الخطِّ الإسلامي الصحيح، وهذا نفسه يوجب النجاح في التمحيص الإلهي بشكل أعمق وأسرع بطبيعة الحال، ولا يمكن أن يترتَّب شيء من هذه الفوائد مع عدم الإيمان بقيادة الإمام المهدي (ع) وغيبته.
وهناك فوائد أُخرى تترتَّب على ذلك، تكون مشتركة مع الخصائص الآتية بحسب التطبيق والوجود؛ ومن هنا كان الأفضل ذكرها مع تلك الخصائص.

↑صفحة ٤٤↑

الخصّيصة الثالثة: وهي عبارة عن مُعاصرة الإمام المهدي (ع) لأجيال طويلة من البشرية... ولها عدَّة فوائد، نقتصر منها على فائدتين تعود إحداهما على الإمام نفسه، وتعود الأُخرى على البشرية:
أمَّا الفائدة التي تعود إلى الإمام، فهي ما عرضناه في التاريخ السابق(٢٧) وأقمنا عليه القرائن من أنّ مُعاصرة الإمام للأجيال توجب اطِّلاعه المُباشر على قوانين تطوُّر التاريخ وتسلسل حوادثه، الأمر الذي يؤثِّر تأثيراً كبيراً في عُمق قيادته بعد ظهوره.
وأمّا الفائدة التي تعود إلى البشر، فهي باعتبار ما ورد في أخبار المصادر الخاصة، من الحاجة إلى وجود الإمام حاجةً كونيَّةً قهريَّةً مُضافاً إلى الحاجة القيادية.
منها: ما أخرجه ثقة الإسلام الكُليني في الكافي،(٢٨) بإسناده عن أبي حمزة، قال: قلت لأبي عبد الله - الصادق - (ع): تبقى الأرض بغير إمام؟
قال: (لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت).
وما أخرجه بسنده عن أبي هراسة، عن أبي جعفر - الباقر - (ع)، قال: (لو أنَّ الإمام رُفِع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله).
وهي تدلُّ بظاهرها - بغض النظر عن إمكان حملها على الرمزية - بأنَّ بقاء الإمام ضروري لحفظ بقاء الأرض ومَن عليها، حتى يكون لها وجود ونظام كَوْنِي كامل، يمكن تنفيذ الوعد الإلهي وإنتاج التخطيط العام من خلاله، وهذا إنَّما يتمُّ مع وجود الإمام مُعاصراً لكل الأعوام والأجيال البشرية... وخاصة بعد الاعتقاد الإمامي المؤيَّد بأخبار العامة:(٢٩) بأنَّ الأئمة اثنا عشر. للحصول على هذه الفائدة.
وقد يكون هذا هو المراد من قول الإمام المهدي (ع)، فيما روي عنه: (وإنِّي لأمان لأهل الأرض، كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء).(٣٠)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٧) انظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص ٥١٤ وما بعدها.
(٢٨) انظر باب: إنَّ الأرض لا تخلو من حُجّة، أصول الكافي، (نسخة مخطوطة). وكذلك ما بعده. وانظر أيضاً: الغيبة للشيخ الطوسي ص ٩٢ ط النجف.
(٢٩) أخرجها البخاري: انظر ج٩ ص١٠١ ومسلم انظر ج ٦ ج ٣-٤ وغيرهما من الصحاح وكُتب الحديث.
(٣٠) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص ٥٤ عن الاحتجاج للطبرسي.

↑صفحة ٤٥↑

الخصيصة الرابعة: كون الإمام المهدي (ع) على مستوى الاطِّلاع على الأحداث، يوماً فيوماً، وعاماً فعاماً، عارفاً بأسبابها ونتائجها.
وتحتوي على عدد من الفوائد مُضافاً إلى الفائدة الأُولى من الخصيصة الثالثة، أهمُّها: الحفاظ على المجتمع المسلم، ودفع البلاء الواقع عليه من أعدائه عليه.
فإنَّ الإمام المهدي (ع) حين يعلم يجريان الأحداث وأسبابها ومسبَّباتها، وما قد تؤول إليه من مُضاعفات، وحين يكون مُكلَّفاً إسلامياً برفع الأضرار والدواهي عن المجتمع المسلم، في بعض الحدود التي ذكرناها في التاريخ السابق(٣١)... وقد وعد هو (ع) بذلك فيما وري عنه(٣٢)... حين يكون كذلك، فإنَّه لا محالة يقوم بوظيفته المُقدَّسة خير قيام، وقد عرضنا(٣٣) الأُسلوب الذي يُمكنه (ع) به أن يقوم بالأعمال النافعة خلال غيبته.
هذا مضافاً إلى تقييمه للناس والمجتمعات، طبقاً للميزان العميق الذي يحمله ويعرفه، الأمر الذي يوفِّر عدَّة نتائج:
منها: اطِّلاعه على درجة إيمان المؤمنين وإخلاص المُخلصين، واتِّجاهاتهم السلوكية والعقائدية في الحياة.
ومنها: اطِّلاعه على سلوك المُنحرفين والكافرين، ومُحتملات نتائجه على الإسلام والمسلمين، لأجل التوصُّل من ذلك إلى مُحاولة الحدِّ من تأثيره.
ومنها: معرفته بتحقيق شرط اليوم الموعود، الذي هو يوم ظهوره، وهو وجود العدد الكافي من الناصرين والمؤازرين له على فتح العالم، ومباشرة حكمه بالعدل طبقاً لأحد المُحتملات في أسلوب تعرُّفه على يوم ظهوره، ممَّا سوف يأتي عرضه واختيار الصحيح منه.
الخصيصة الخامسة: وهي اتِّصال الإمام المهدي (ع) بالناس، ومُحادثته لهم وتفاعله معهم... ولها - على الأقلِّ - فائدتان، إحداهما خاصة بالإمام المهدي (ع)، والأُخرى عامة للمجتمع المسلم كله.
أمَّا الفائدة الخاصة به (ع)، فهو اختلاطه بالناس وارتفاع الوحشة عنه، تلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص ٥٣ وما بعدها.
(٣٢) المصدر ص ١٦٧ وص١٧٥.
(٣٣) المصدر ص ١٧٦.

↑صفحة ٤٦↑

الوحشة المُشار إليها في بعض الأخبار،(٣٤) والثابتة له على تقدير بُعْدِه عن الناس وسُكناه في الصحارى والقفار، كما ورد في رواية ناقشناها في التاريخ السابق.(٣٥)
هذا، مضافاً إلى قضاء حوائجه الشخصية الضرورية لكل إنسان، بشكل أسهل من أيِّ أُسلوب آخر يتَّخذه في الحياة.
وأمَّا الفائدة التي تعمُّ المجتمع كله، باتِّصال المهدي (ع) بأفراده، فهي أنَّه (ع)، حين يتَّصل بالناس، يقوم بوظيفة الإسلامية تجاههم، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقريبهم من الطاعة وإبعادهم عن المعصية، وحثِّهم على الأعمال العامة النافعة، وبذور الصلاح في الأفراد والمجتمع... في الحدود وبالشكل الذي سبق أن حوَّلناه على التاريخ السابق، ومن ثُمَّ السير قدماً بتحقيق الشرط الثالث من شرائط الظهور، باعتبار أنَّ الناس كلَّما ازداد إيمانهم وإخلاصهم، كلَّما كان احتمال تحقُّق العدد الكافي لغزو العالم أقرب وأوضح.
وهذا، وينبغي أن نعرف، في نهاية الحديث عن خصائص الإمام المهدي (ع) في غيبته، أنَّها خصائص مُتساندة ومُتعاضدة، باعتبار أنَّ المُتَّصف بها شخص واحد، فمن المنطقي أن تكون الفوائد المُشار إليها منطلقة من مجموع الخصائص، وإن كانت بواحدة ألصق ونحوها أقرب.
وبهذا يتمُّ الكلام عن المدلول الثاني للغيبة الكبرى.
وأمَّا المدلول الثالث للغيبة الكبرى، وهو استتار الإمام القائد، وخفاء شخصه وعمله ومكانه على الناس، أعني بصفته الحقيقية.
... ففائدته الكبرى بالنسبة إلى اليوم الموعود، هو حفظه (ع) من شرِّ الأعداء للقيام؛ ليبقى مذخوراً بالمهامِّ الكبرى في ذلك اليوم المجيد.
وهذا ما أُشير إليه في الأخبار:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٤) عن الإمام الباقر (ع) أنَّه قال: (لابدَّ لصاحب هذا الأمر من عُزلة، ولابدَّ في عُزلته من قوَّة، وما بثلاثين من وحشة...) الحديث. انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص ٤٧ عن غيبة الشيخ الطوسي.

(٣٥) وهو ما ورد عن المهدي (ع) نفسه يقول - عن أبيه (ع) -: (وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلاَّ وَعِرها، ومن البلاد إلاَّ عفرها...) الحديث. المصدر ص ٧٢.

↑صفحة ٤٧↑

أخرج الشيخ الطوسي في الغيبة،(٣٦) بإسناده عن زرارة، قال: (إنَّ للقائم غيبة قبل ظهوره).
قلت: ولِمَ؟
قال: (يخاف القتل).
وفي حديث آخر،(٣٧) عن زرارة بن أعين أيضاً، قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (إنّ للغلام غيبة قبل أن يقوم).
قلت: ولِمَ؟
قال: (يخاف). وأومأ بيده إلى بطنه.
وأخرج الشيخ الصدوق في إكمال الدين،(٣٨) بإسناده عن سعيد بن جبير قال: سمعت سيد العابدين علي بن الحسين يقول: (في القائم منَّا سُنن من سُنَّة الأنبياء (ع)... - إلى أن قال: - وأمَّا موسى فالخوف والغَيْبَة...) الحديث.
وفي حديث آخر،(٣٩) عن محمد بن مسلم الثقفي الطحَّان، قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر، وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلوات الله عليه وعلى آله فقال لي، مُبتدئاً: (يا محمد بن مسلم، إنَّ في القائم من آل محمد (ص) شَبهاً من خمسة من الرُّسل... - إلى أن يقول: - وأمَّا شَبهُه من موسى، فدوام خوفه، وطول غَيْبَته، وخفاء ولادته...) الحديث.
ولعلَّ هذه الفائدة، هي المصلحة الوحيدة التي بيَّنتها الأخبار للغيبة الكبرى؛ باعتبارها المصلحة الوحيدة المناسبة مع المستوى الفكري والثقافي، الذي كان موجوداً في عصر صدور هذه الأخبار.
وثبوت هذه الفائدة واضح، بعد التسليم بأمرين:
الأمر الأول: الفَهْم الإمامي القائل: بأنَّ المهدي هو الإمام الثاني عشر من الأئمة المعصومين (ع). الذي هو الفهم الذي ننطلق منه في إثبات أكثر مداليل الغيبة الكبرى، كما عرفنا.
الأمر الثاني: إنَّ الإمام المهدي (ع) لو كان ظاهراً معروفاً بحقيقته، قبل اليوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٦) ص٢٠١.
(٣٧) نفس المصدر ص٢٠٢.
(٣٨) نسخة مخطوطة غير مُرقَّمة الصفحات.
(٣٩) نفس المصدر.

↑صفحة ٤٨↑

الموعود، لقتله الظالمون لا محالة... بعد التسالم الواضح على أنَّ هدفه الأساسي هو تطهير الأرض من الظلم، وتبديل أوضاع الظالمين.
إذاً؛ فكل مَن لا يرضى بهذا التبديل، انطلاقاً من انحرافه ومصالحة الشخصية، سيكون ضدَّه.
وسيكون القضاء على المهدي (ع) مُتيسِّراً بأسهل طريق؛ لأنه ليس له مَن ينصره ويُدافع عنه، وويوجَد مَن لا يكفي لذلك؛ لما عرفناه مُفصَّلاً من أنَّ نصره مُتوقِّف على تمخُّض التخطيط العام، عن وجود العدد الكافي لغزو العالم بالعدل، وإنَّ هذا لا يتمُّ إلاّ قُبيل ظهوره، وإمّا خلال المدّة المُتخلِّلة قبله، فإنَّ التخطيط لم ينتهِ بعد ولم يُنتج هذا العدد الكافي.
إذاً؛ فقيامه بالثورة العالمية مُتعذِّر تماماً، ودفاعه عن نفسه بدون ذلك مُتعذر أيضاً؛ لاقتران وجوده في أذهان الناس بالثورة العالمية...
إذاً؛ فتعيَّن أن يكون غائباً غير معروف، وأن لا تنكشف حقيقته إلاَّ يوم ظهوره في اليوم الموعود؛ وذلك من أجل أن يبقى مذخوراً لتلك المُهمَّة الأُخرى، ومن الواضح أنَّ مقتله يُفقد اليوم الموعود قائده، الذي لا يوجد غيره - بحسب الفهم الإمامي - ومن ثُمَّ يخلُّ بالدولة العالمية، وبالهدف العام من خلق البشرية.
وقد يخطر في الذهن: أنَّ المهدي (ع) يمكن أن يكون معروفاً، إلاَّ أنَّ الله تعالى يحفظه عن طريق المعجزة؛ لأجل تنفيذ اليوم الموعود والهدف العام... بعد أن عرفنا من قانون المعجزات، أنَّ كل ما يتوقَّف عليه الغرض الإلهي يمكن إقامة المعجزة فيه.
وجواب ذلك: إنَّنا عرفنا إلى جنب ذلك من قانون المعجزات، أنَّه متى أمكن السير نحو الهدف بدون مُعجزة، كان الطريق الطبيعي غير الاعجازي، مُتعيِّناً، ولا تحدث فيه معجزة.
فبالنسبة إلى المهدي (ع)، حين كان هو الإمام الثاني عشر من المعصومين (ع)، ولا إمام بعده، كان حفظه لليوم الموعود وإطالة عمره مُتعيِّناً بالمعجزات، ولا بديل لذلك؛ ومن أجل هذا حدثت المعجزة وطال عمره.
وأمَّا حفظه لذلك اليوم، بمعنى دفع القتل عنه، فهذا لا يتعيَّن عن طريق المعجزة، بل يمكن أن يكون عن طريق الغيبة أيضاً، وهي طريق طبيعي واضح، كما سبق أن برهنَّا في التاريخ السابق(٤٠) لا يتضمَّن في أساسه إلاَّ غفلة كل أفراد البشر عن حقيقته، وعدم العلم بكونه هو المهدي، ومن ثُمَّ لا يوجد عند أحد القصد إلى قتله، بصفته مهديَّاً.
وقلنا: إنَّه إذا أمكن الطريق الطبيعي، ولا تقوم المعجزة بتنفيذه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٠) انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص٣٨.

↑صفحة ٤٩↑

وبمعرفتنا مداليل الغيبة الكبرى ونتائجها الكبرى، بالنسبة إلى الأُمَّة الإسلامية خاصة والبشرية عامة، وبالنسبة إلى الإمام المهدي (ع) خاصة، وتنفيذ اليوم الموعود عامة... يتبرهن لدينا - بوضوح - أهمِّيَّة الغيبة الكبرى، وكونها رئيسياً في التخطيط الإلهي العام لا يمكن الاستغناء عنه.
وأمَّا مع الأخذ بالفهم غير الإمامي للمهدي، وكونه شخصاً يولَد في زمانه، وسيُوفَّق للثورة العادلة في حينه، إنَّ مثل هذا القائد لن يستطيع بأيِّ حال قيادة العالم قيادة عادلة عادةً، ولو فرضنا - جدلاً - أنَّه استطاع ذلك لفترة، فهو لا يستطيع ضمان بقاء التطبيق الإسلامي على الدوام، كما هو المفروض في دولة المهدي، وسيأتي الاستدلال عليه.
وينطلق الحُكم بعدم استطاعة مثل هذا الإنسان القيام بهذه المهمَّة، من حقيقة عدم لياقته لذلك، وقصوره عنه قصوراً تامَّاً، بعد كونه فاقداً لكل النتائج التي عرفناها للغيبة الكبرى، وبخاصّة صفة العصمة التي يكون فاقداً لها ولكلِّ خصائصها المُهمَّة.
وأمَّا المدلول الأول الذي يشمل الفهم غير الإمامي للمهدي، فنتائجه تظهر في الأمَّة والبشرية، وليس لها نتائج خاصة بالمهدي كما مرَّ.

↑صفحة ٥٠↑

الفصل الثالث: توقيت الظهور من ناحية شرائطه وعلاماته
إنَّ أهمَّ الفروق بين شرائط الظهور وعلاماته، هو أنَّ الشرائط عدَّة خصائص لها التأثير الواقعي في إيجاد يوم الظهور والنصر فيه، وانجاز الدولة العالمية، ولولاها لا يمكن أن يتحقَّق، سواء وجدت أم لم توجد، وإنَّما هي أمور جُعلت من قِبَل الله سبحانه، وبلغت إلى البشر من قِبل الصادقين قادة الإسلام الأوائل، بصفتها دوالاَّ ًوكواشف عن قُرب الظهور، إذا كانت من العلامات القريبة، وعن أصل حصوله، لو كانت من العلامات البعيدة؛ وذلك ليكون الأفراد المُنتظِرون لذلك اليوم المُختارون للعمل فيه نتيجة لنجاحهم التامِّ في التمحيص، بحالة التهيُّؤ النفسي الكامل لاستقباله عند حدوث العلامات القريبة.
وهذا هو الذي قلناه في التاريخ السابق،(٤١) وعرفنا فيه(٤٢) عدَّة فروق بين الشرائط والعلامات بالنسبة إلى ما بعد الظهور.
عرفنا في الفصل الأول، أنَّ المُهمَّ المُتبقِّي ممَّا لم يحدث إلى الآن من شرائط الظهور، ولم يتمخَّض التخطيط الإلهي عن إيجاده، أمران:
الأمر الأول: تربية الأمَّة ككل من الناحية الفكريَّة؛ حتى يكون لها القابلية لاستيعاب وفَهْمِ وتطبيق القوانين الجديدة التي تُعلَن بعد الظهور.
الأمر الثاني: تربية العدد الكافي للنَّصْر في يوم الظهور، من الأفراد المُخلصين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤١) تاريخ الغيبة الكبرى ص ٥٣٠.
(٤٢) المصدر ص ٤١٠ وما بعدها.

↑صفحة ٥١↑

الكاملين المُمحَّصين، الذين يكونون على مستوى التضحية والفداء لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة.
وهذان الأمران يحدثان تدريجاً نتيجة للتربية الطويلة البطيئة للأمَّة، تحت الظروف والخصائص التي سبق أن عرفناها، وسوف لن يتمخَّض التخطيط الإلهي لإيجادهما إلاَّ قُبْيل الظهور.
وبتعبير آخر: إنَّهما عندما يتحقَّقان يكون اليوم الموعود نافذاً بجميع شرائطة، ومعه لا يمكن أن يكون مُتخلِّفاً ومُتأخِّراً عن ذلك.
وأمَّا الاطَّلاع على أنَّهما تحقَّقا فعلاً ولم يتحقَّقا، فهو ممَّا لا يمكن أن يعرفه الناس إلاَّ عند الظهور؛ لأنَّه يكون دالاَّ ًعلى تحقُّقهما قبله لا محالة، ولا يحصل هذا الاطِّلاع عند البشر إلاَّ للإمام المهدي نفسه، على ما سنذكره في فصل قادم.
وهذان الشرطان يكونان مُقترنين في تطوُّرهما التدريجي، والوصول إلى الغاية المطلوبة، وبخاصة وهما لا يتضمَّنان في مفهومهما مقداراً مُحدَّداً غير قابل للزيادة؛ إذ في الإمكان تطوُّر الأمَّة من الناحية الفكرية والإخلاص على الدوام، غير أنَّ لهذين الأمرين (حدٌّ أدنى) يصلح أن يقوم عليه اليوم الموعود، ومع تحقُّق هذا الحدِّ الأدنى لكلا الشرطين معاً يكون اليوم الموعود واقعاً ونافذاً لا محالة، ويكون التطوُّر الزائد في جوانب الأمَّة الإسلامية موكولا ً إلى ما بعد الظهور.
وهذان الشرطان مُتشابهان في التطوير إلى حدٍّ كبير، تبعاً لازدياد الظلم والانحراف، المُنتج لهما معاً، ولكن لو فُرِض أنَّ أحدهما كان أسرع من الآخر، فترة من الوقت، بحيث وصل إلى الحدِّ الأدنى المطلوب قبل الآخر كما يُتصوَّر - عادة - في الجانب الفكري، فإنَّه أسرع تطوُّراً من جانب الإخلاص وقوَّة الإرادة، كما برهنَّا عليه في التاريخ السابق(٤٣)... هو حصول الحدِّ الأدنى من العدد الكافي من الجيش الفاتح للعالم، مع تعمُّق القابلية الفكرية للأمَّة أكثر دقَّةً ورسوخاً، وكذلك لو فُرِض تطوُّر الإخلاص أكثر من القابلية الفكرية، فإنَّه ممَّا لا ضير فيه، إن لم يكن أكثر نفعاً بالنسبة إلى يوم الظهور.
وعندما يتكامل هذان الشرطان، تكون كل الشرائط المطلوبة قد اجتمعت في زمن واحد، فالأطروحة العادلة الكاملة موجودة بين البشر، مُتمثِّلة بتعاليم الإسلام كما برهنَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٣) انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص٢٦٥.

↑صفحة ٥٢↑

عليه في التاريخ السابق،(٤٤) والأمَّة قد تربَّت على فَهمها بدقَّة وإتقان، وأصبحت قابلة لتفهُّم القوانين الجديدة التي تكون على وَشَكِ الصدور في اليوم الوعود، والقائد موجود متمثل بالإمام المهدي (ع) على كلا الفَهْمين الإمامي وغيره، والعدد الكافي من الجيش العقائدي القيادي مُتوفِّر لفتح العالم، ونشر العدل والسلام بين ربوعه، مع وجود العامل المُساعد المُهمّ، وهو انكشاف نقاط الضعف لكلِّ التجارب البشريَّة والمبادئ والقوانين الوضعية السابقة على الظهور، واليأس من حلٍّ بشري جديد، كما سبق أن أوضحناه في التاريخ السابق.(٤٥)
وإذا اجتمعت هذه الشرائط، كان تنفيذ الوعد الإلهي والغرض الأهمّ من الخَلق ضرورياً، لاستحالة تخلُّف الوعد والغرض في الحِكمة الإلهية الأزليَّة.
ومن هنا نعرف أنَّ وقت الظهور، منوط باجتماع هذه الشرائط.
ومن أجل ذلك، قد يخطر في الذهن مُنافات ذلك مع ما ورد في أخبار المصادر الخاصة، من نفي التوقيت وتكذيب الوقَّاتين.
كرواية الفضيل، قال: سألت أبا جعفر (ع): هل لهذا الأمر وقت؟
فقال: (كَذَبَ الوقَّاتون! كَذَبَ الوقَّاتان! كَذَبَ الوقَّاتون).
وعن أبي عبد الله الصادق (ع): (كَذَبَ الوقَّاتون! وهلك المُستعجلون، ونجا المُسلِّمون، وإلينا يصيرون).
وعنه (ع): (مَن وقَّت لك من الناس شيئاً، فلا تهابنَّ أن تُكذِّبه، فلسنا نوقِّت لأحد وقتاً).(٤٦)
وأخرج النعماني، عن أبي بكر الحضرمي، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (إنَّا لا نوقِّت هذا الأمر).(٤٧)
وهذه الأخبار بعدد قابل للإثبات التاريخي، وواضحة الدلالة على نفي التوقيت، فلو كان ما ذكرناه من اقتران اليوم الموعود بشرائطه توقيتاً له، إذاً يجب تكذيبه جملةً وتفصيلاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٤) المصدر ص ٢٦١.
(٤٥) تأريخ الغيبة الكبرى ص٢٤٩ وغيرها.
(٤٦) الغيبة للشيخ الطوسي ص٢٦٢... الأخبار الثلاثة كلُّها.
(٤٧) الغيبة للنعماني ص ١٥٥.

↑صفحة ٥٣↑

إلاَّ أنَّه من حُسن الحظِّ! أنَّ التوقيت المنفي ليس هو ذلك، بل المراد به - بوضوح - تحديد الوقت بتاريخ مُعيَّن، كما لو قيل - مثلاً -: إنَّ الظهور واليوم الموعود، يكون في سنة ألفين ميلادية، وفي سنة ألفين هجرية.
والقرينة على ذلك، ما ورد من الأخبار التي تنفي توقيتاً مُعيَّناً، كالذي أخرجه النعماني،(٤٨) بإسناده عن عمار الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (قد كان لهذا الأمر(٤٩) وقت، كان في سنة أربعين ومئة، فحدَّثتم به وأذعتموه، فأخَّره عزَّ وجلَّ).
وعن أبي الثمالي، قال سمعت أبا جعفر (ع) يقول: (يا ثابت، إنَّ الله كان قد وقَّت هذا الأمر في سنة السبعين، فلمَّا حدَّثناكم بذلك أذعتم وكشفتم قناع الستر، فلم يجعل الله لهذا الأمر بعد ذلك عندنا وقتاً، يمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أُمُّ الكتاب).
وفي هذه الأخبار بعض المفاهيم وبعض المُناقشات، لا مجال للدخول فيها، ولكنَّها لا تضرُّ بما نريده الآن، من أنَّها دالَّة على أنَّ المراد من التوقيت تحديد الوقت بتاريخ مُعيَّن، فإنَّ الروايات الأخص تكون قرينة على الأعم.
وهذا النحو من التوقيت فيه عدد من نقاط الضَّعف:
النقطة الأُولى: إنَّه جُزاف بدون أيِّ دليل؛ كيف، وقد أجمع المسلمون على أنَّ وقت اليوم الموعود موكول إلى علم الله عزَّ وجلّ. مع الغموض التام بالنسبة إلى الناس...؟! بل ظاهر الرواية الأخيرة أنَّه خفي حتى على المعصومين أنفسهم، ومن هنا يكون ذكر أيِّ تاريخ مُعيَّن جزافاً محضاً وكذباً صريحاً.
النقطة الثانية: إنَّ تاريخ الظهور لو كان مُحدَّداً معروفاً، لكان من أشدِّ العوامل على فَشل الثورة العالمية، وفناء الدولة العادلة؛ فإنَّه يكفي أن يحتمل الأعداء ظهوره في ذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٨) المصدر ص ١٥٧ وكذلك الخبر الذي يليه.
(٤٩) المراد من هذا الأمر ما يشمل ظهور المهدي (ع) وليس خاصاً بذلك، وفي بعض الروايات ما هو خاص به كذلك أخرجه النعماني، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له: جُعلت فداك، متى خروج القائم عليه السلام. فقال: (يا أبا محمد، إنَّا أهل بيت لا نوقِّت، وقد قال محمد (ص): كَذَب الوقَّاتون...) الحديث (غيبة النعماني ص١٥٥ وما بعدها).

↑صفحة ٥٤↑

التاريخ، ولو اعتبار المسلمين ذلك، فيجتمعوا على قتله في أول أمره وقبل اتِّساع مُلكه واستتباب أمره.
ولذا اقتضى التخطيط الإلهي - من أجل إنجاح اليوم الموعود - أن يكون الظهور فجائيَّاً، مثاله مثال الساعة لا يُجلِّيها لوقتها، كما نطقت بذلك الأخبار وسنرى ما لعنصر المفاجأة من أثر فعال في نصره.

النقطة الثالثة: إنَّ الأُمَّة الإسلامية حين يكون التخطيط الإلهي قد أنتج نتيجته فيها، ولم يُصبح بعد على مستوى مسؤولية اليوم الموعود، فإنَّها تكون مُقصِّرةً بالنسبة إلى كل حدود ومقدِّماته... وتكون هذه الحدود والمقدِّمات فوق مستواها العقلي والثقافي والديني؛ ومن هنا لم يتورَّع الناس عن إفشاء التوقيت الذي كان فيما سبق، ولو أعطوا وقتاً جديداً لأفشوه أيضاً لا محالة... ومن هنا أُلْغي التوقيت، كما سمعنا من هذه الأخبار.
وهذا أيضاً أحد الأسباب في تحريم تسمية الإمام المهدي (ع) خلال غيبته الصغرى، كما سمعنا في تاريخها؛(٥٠) فإنَّهم إن عرفوا الاسم أذاعوه، وإن علموا بالمكان دلُّوا عليه.
وهذا القصور العام في الأمَّة هو المُشار إليه في بعض الأخبار، كقول الإمام موسى بن جعفر (ع): (يا بُني عقولكم تضعف عن هذا، وأحلامكم تضيق عن حمله، ولكن إن تعيشوا تُدركوه).(٥١)
فإنَّ المراد بالعقول ما نُسمِّيه بالمستوى الفكري والثقافي، والمراد بالأحلام ما نُسمِّيه بالإخلاص وقوَّة الإرادة، وكون الأُمَّة على مستوى المسؤولية... وكلاهما ضعيفان بمنطوق الرواية، كما دلَّ عليه البُرهان أيضاً.
وليس المراد من هذه الرواية وأمثالها ما يفهمه بعض الناس، من امتناع التعرُّف على مصلحة الغيبة، وخفاء مصلحة وجود الإمام خلالها... بعد كل الذي سبق أن عرضناه في كُتب هذه الموسوعة مُستفاداً من القرآن الكريم والسنَّة الشريفة نفسها.
النقطة الرابعة: إنَّ وقت الظهور وإن كان مُحدَّداً في علم الله الأزلي، لكنَّه بالنسبة إلى علله وشرائطه ينبغي أن لا يُفترض له وقت مُحدَّد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٠) انظر تأريخ الغيبة الصغرى ص٢٧٧ وما بعدها.
(٥١) رواه النعماني في غيبته ص٧٨، ونقلناه في تأريخ الغيبة الكبرى ص١١.

↑صفحة ٥٥↑

فإنَّ تحديد التاريخ يمكن أن يكون على مُستويين:
المُستوى الأول: علم الله الأزلي بالأشياء منذ القدم، المُتعلِّق بكل المُمكنات والمخلوقات بأسبابها ومسببَّاتها.
المُستوى الثاني: وجود المعلول بالنسبة إلى وجود علَّته، فإنَّ المعلول يحدث متى حدثت عِلَّته، بلا دخل للزمان في ذلك أصلا ً.
مثاله: إنَّنا لو نسبنا تاريخ إكمال بناء البيت بالنسبة إلى القوى المادَّية والبشرية العاملة فيه، كان تاريخه منوطاً بتحقيق هذه المُكوِّنات، حتى ما إذا وضع البنَّاء آخر حجر في كيان الدار، تكون هذه الدار قد انتهت، بغَضِّ النظر عن طول زمن البناء وقصره... فإنَّه قابل للاختلاف حسب الظروف والطوارئ والقابليَّات والإمكانيَّات.
وحيث يُبرهَن فلسفيَّاً بأنَّ علم الله تعالى الأزلي المُتعلِّق بالأشياء ليس علَّة لها، وإنَّما يتعلَّق بها ويكشف عنها على ما هي عليه في الواقع.
إذاً؛ ففي الإمكان قَصر النظر عن تعلُّق ذلك العلم به، ومعه يكون المستوى الثاني للتوقيت صحيحاً، ويكون وجود الشيء منوطاً بوجود عِلَّته واجتماع شرائطه ومُكوِّناته، من دون أن يكون الزمن ملحوظاً في تحديد حدوثه على الإطلاق... بل قد يكون قابلاً للزيادة والنقص، كما قلنا.
ومن هذا القبيل، يوم الظهور، فإنَّنا لو غضضنا النظر عن علم الله الأزلي لم يبقَ لدينا أيُّ وقت مُحدَّد له، وإنَّما هو منوط بحصول شرائطه وعِلله، فمثلاً نقول: متى اجتمع العدد الكافي للغزو العالمي بالعدل الكامل. من المُخلصين المُمحَّصين، كان يوم الظهور ناجزاً، سواء كان زمان وجودهم والفترة التي تُحقِّقهم طويلة جدَّاً أم قصيرة.
وهذا دليل آخر على أنَّ التوقيت بمعنى تحديد التاريخ المُعيَّن جُزاف محض.
وهذا هو مُرادنا من التوقيت الذي برهنَّا عليه، وهو توقيت إجمالي يخلو من التحديد بالزمان تماماً، فلا يكون قولاً جزافاً ولا واجب التكذيب، كما لا يكون تحديده الإجمالي خطراً على الإمام المهدي، وموجباً لفشل مُهمَّته بعد الظهور. هذا تمام الحديث في توقيت الظهور باعتبار شرائطه.
وأمَّا توقيت الظهور باعتبار علاماته، فقد سبق أن عرفنا في التاريخ السابق جملة من العلامات، وفحصنا أدلَّتها ودقَّقنا في معانيها... ولنا موقف آخر معها في الباب الثاني الآتي من هذا التأريخ.

↑صفحة ٥٦↑

والمُهمُّ هنا هو أن نعرف أنَّ العلامات على قسمين:
القسم الأول: علامات واردة في الأخبار، لا على أن تقع قبل الظهور بزمن قليل، بل على أن تقع قبله، ولو بزمان بعيد وأمد طويل.
وقد عرفنا في التاريخ السابق، أنَّ أغلب هذه العلامات قد تحقَّقت وصدَّقت بها الأخبار، إلاَّ إنَّها في واقعها لا تحتوي على أيِّ توقيت بالنسبة إلى الظهور، وإنَّما لها فوائد أُخرى، أهمُّها: أنَّ الخبر الوارد إذا قرن الحادثة بالظهور وأنَّها واقعه قبله في الجملة.
ثمَّ رأينا الحادثة قد حدثت، فنعرف أنَّ الخبر صادق في إخباره عن الحادثة، ومن ثَمَّ فهو صادق بإخباره عن حصول الظهور ولو في مستقبل الدهر، وبهذا تكون هذه الحادثة علامة على الظهور.
القسم الثاني: من العلامات ما صرَّحت الأخبار بقُرب حصوله من زمن الظهور.
وقد قلنا في التاريخ السابق:(٥٢) إنَّ هذا النحو من العلامات وإن لم يكن له ارتباط سببي بيوم الظهور، إلاَّ أنَّه ممَّا جعله الله تعالى تنبيهاً لخاصة أوليائه المُخلصين المُمحَّصين علامةً على قُرب الظهور، ليكونوا على الاستعداد التام من الناحية النفسية والعقائدية لاستقبال إمامهم وقائدهم، وتلقِّي مهامَّهم ومسؤولياتهم عنه.
بل إنَّ التهيُّؤ النفسي غير خاص بالمُمحَّصين، بل شامل لكل مسلم مسبوق بوجود هذه العلامات، وخاصة بعد تحقُّقها والتأكُّد من صدق الإخبار السابق عنها، غير أنَّ تهيُّؤ الأفراد لاستقبال الظهور يختلف باختلاف درجة ثقافتهم وإيمانهم ووعيهم، ويكون أحسن أشكال التهيُّؤ صادراً - بطبيعة الحال - من المُخلصين المُمحَّصين، وسيكون لهذه الفكرة نتائجها في مُستقبل هذا البحث.
وهذا القسم من العلامات يتضمَّن التوقيت بوضوح، ويُشير إلى قُرب حصول الظهور؛ ومن هنا أمكن التهيُّؤ لاستقباله.
إلاَّ إنَّه قد يخطر في الذهن سؤالان حول ذلك:
السؤال الأول: إنَّ هذه العلامات كما تُنبِّه المُخلصين الذين يعدُّون أنفسهم للفداء بين يدي المهدي (ع)، كذلك تكون مُنبِّهة لأعداء المهدي (ع)، فيُعدُّون أنفسهم للقضاء عليه وطمس حركته، في أول حدوثها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٢) انظر تأريخ الغيبة الصغرى ص٥٣٠.

↑صفحة ٥٧↑

وهذا سؤال أثرناه في التاريخ السابق، وأجبنا عنه مُفصَّلاً،(٥٣) ومُجمل الفكرة: أنَّ الأعداء سوف لن يلتفتوا إلى حصول هذه العلامات، ولو التفتوا فإنَّهم لن يعلموا أنَّها من قَبيل العلامات إلى ظهور المهدي (ع)، ولو علموا فإنَّهم لن يستطيعوا التألُّب عليه؛ لأنَّه يظهر في زمان غير مناسب لذلك، على ما سنرى في فصل قادم.
ولو فرضنا أنَّهم التفتوا وتألَّبوا، فلا يكون ذلك مُجدياً أيضاً؛ لما سنعرفه في مُستقبل البحث، من أنَّ المهدي (ع)، لن يُعلن عن أهدافه الكاملة لأول وهْلَة؛ ومن هنا فلن تلتفت الدول إلى خطره المباشر عليها، إلاَّ بعد أن تقوى شوكته ويتَّسع سلطانه.
إذاً؛ فلو كانوا تألَّبوا فإنَّهم سوف لن يستعملوه ضدَّه إلاَّ بعد فوات الأوان.
السؤال الثاني: إنَّ التوقيت بهذه العلامات، مُنافٍ للأخبار النافية للتوقيت، والآمرة بتكذيب الوقَّاتين.
والجواب على ذلك، يكون على مستويين:
المستوى الأول: أن ننظر إلى الزمان المُتخلِّل بين وقوع هذه العلامات كزماننا هذا... ونقول: بأنَّ هذه العلامات لو وقعت لدلَّت على قُرب الظهور، وهذه قضية صادقة لا تشتمل على التوقيت المنهي عنه على الإطلاق، وإنَّما هي توقيت إجمالي، كالذي قلناه في شرائط الظهور تماماً: من أنَّها لو حصلت لظهر المهدي (ع)، فإنَّ عدم الاطِّلاع على زمان وقوع هذه العلامات، مُستلزم بطبيعة الحال لجهالة زمان الظهور وعدم تحديده، ذلك التحديد المُنفي من الأخبار.
المستوى الثاني: أن ننظر إلى الزمان المُتخلل بين وقوع هذه العلامات وبين الظهور، فإنَّ كل فرد يُشاهد إحدى العلامات القريبة، من حقِّه أن يقول: إنَّ المهدي (ع) سيظهر بعد قليل. ويمكن أن نفهم هذا القول على شكلين:
الشكل الأول: إنَّ هذا القول لا يحتوي على تحديد مُعيَّن للوقت، باعتبار أنَّه يبقى مُردَّداً بين اليوم والأيام، بل بين العام والأعوام، فإنَّ تخلُّل عشرة أعوام - ممَّا بين ظهور العلامة القريبة وظهور المهدي (ع) - غير ضائر بكونها قريبة، لضآلة هذه الأعوام العشرة، تجاه الزمان الطويل السابق عليها، ومعه فلا تكون تحديداً، ولا تندرج في الأخبار النافية للتحديد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٣) المصدر السابق ص ٥٣٢.

↑صفحة ٥٨↑

الشكل الثاني: أن نتنازل عمَّا قلناه في الشكل الأول، ونقول: إنَّ هذا القول، أعني: أنَّ المهدي سيظهر بعد قليل... يتضمَّن التحديد والتوقيت.
إذاً، فلا بدَّ من الالتزام بأنَّ الأخبار الدالَّة على وقوع العلامات القريبة مُخصِّصة لأخبار التكذيب، وخارجة عن مدلولها، وتكون النتيجة: أنَّ كل تحديد لتاريخ يوم الظهور كذب وواجب الرفض، إلاَّ إذا كان مُستنداً إلى حدوث علامة من العلامات القريبة، فإنَّه يكون صادقاً وجائز التلقِّي بالقبول.
ولأجل ذلك - في الحقيقة - وضِعت هذه العلامات، وهو تأكُّد المُخلصين المُمحَّصين من قُرب الظهور، ومعه؛ فمن غير المُحتمَل بقاء التحديد كاذباً ومُحرَّماً إلى ذلك الحين، كما أنَّه ليس جزافاً من القول بعد استناده إلى العلامة التي سمع بوقوعها في الأخبار، وقد رآها مُتحقِّقة في عالم الوجود.
مع العلم، أنَّ هذه العلامات لا تدلُّ على أكثر من اقتراب اليوم الموعود، وأمَّا تحديده باليوم والشهر ونحوه، فيبقى سِرَّاً في علم الله تعالى، حتى يتحقَّق الظهور.

↑صفحة ٥٩↑

الفصل الرابع: الأيديولوجيَّة العامَّة التي يتبنَّاها المهدي (ع) تجاه الكون والحياة والتشريع
والذي نريد التعرُّف عليه في هذا الصدد، هو الاطِّلاع الكامل على العُمق الحقيقي للوعي الذي ينشره الإمام المهدي في المجتمع، لا تفاصيل الأُسس العامة التي تبتني عليها الأيديولوجية يومذاك، فإنَّ ذلك ممَّا يتعذَّر الاطِّلاع عليه قبل يوم الظهور، كما ذكرنا في التمهيد.
وإنَّما الذي نُثير التساؤل عنه ونُحاول التعرُّف عليه الآن، هو بعض العناوين العامة التي يُتصوَّر اتجاه الأيديولوجية المهدوية نحوها، والتي قد يخطر في الذهن ذلك منها، ومعه يكون التساؤل مُثاراً عن أمور أربعة:
الأمر الأول: الدين يعتنقه المهدي (ع)، ويُعلنه في العالم.
الأمر الثاني: المذهب الذي يتَّخذه (ع).
الأمر الثالث: التساؤل عمَّا إذا كان يتبنَّى بعض المفاهيم المُحدَّدة الضيِّقة، كالعنصرية، والقومية، والوطنية ونحوها.
الأمر الرابع: التساؤل عمَّا إذا كان نظامه مُشابهاً في المفهوم والمدلول مع الأنظمة السابقة على الظهور، كالرأسمالية والاشتراكيَّة، ولا؟
ونتكلَّم عن كل من هذه التساؤلات الأربعة، في ضمن جهة من الكلام.
الجهة الأُولى: في الدين الذي يتبنَّاه الإمام المهدي (ع) ويحكم العالم على أساسه.
وهو دين الإسلام بصفته الأطروحة الكاملة التي تُحقِّق العبادة الحقيقية المُستهدفة من خلق البشرية أساساً، كما سبق أن عرفنا.

↑صفحة ٦١↑

ويتمُّ الاستدلال على ذلك بعدَّة أساليب، نذكر منها ما يلي:
الأُسلوب الأول: أن نستعرض بعض الظواهر المُهمَّة لنتائج العدل السائدة في دولة المهدي... فإذا عطفنا على ذلك انحصار العدل الكامل بالإسلام، إذاً، فهذا الأُسلوب متوقُّف على مُقدَّمتين:
المُقدِّمة الأُولى: استعراض بعض الظواهر المُهمَّة والنتائج العظيمة للعدل السائد في دولة المهدي العالمية.
وهذا بتفاصيله موكول إلى الباب الثالث من القسم الثاني من هذا التاريخ، وإنَّما نقتصر في المقام على ذكر بعض الأمثلة.
فمن ذلك ما أخرجه ابن ماجه،(٥٤) عن أبي سعيد الخدري: أنَّ النبي (ص) قال: (يكون في أُمَّتي المهدي... فتنعم فيه أُمَّتي نعمةً لم ينعموا مثلها قطُّ، تؤتي أُكلها ولا تدخر منهم شيئاً. والمال يومئذ كدوس، فيقوم الرجل فيقول: يا مهدي، عطني فيقول: خُذْ).
وما يرويه البخاري،(٥٥) عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله (ص) قال، - في حديث -: (ومتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يَهمُّ ربُّ المال مَن يقبل صدقته، ومتى يعرضه فيقول الذي يُعرَض عليه لا أرِبَ لي به).
وقد برهنَّا في التاريخ السابق،(٥٦) بانحصار حدوث هذه الكثرة من المال في دولة المهدي (ع) دون ما قبلها، مضافاً إلى دلالة هذه الأخبار المرويَّة هنا.
وما أخرجه مسلم في صحيحه،(٥٧) عن أبي سعيد وجابر بن عبد الله قالا: قال رسول الله (ص): (يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعدُّه).
وما أخرجه الشيخ المفيد في الإرشاد،(٥٨) عن المفضَّل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (إنَّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٤) انظر السُّنن ج٢ ص١٣٦٧.
(٥٥) انظر الصحيح ج٩ ص٧٤.
(٥٦) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ص ٢٣١ وص٣٣٥.
(٥٧) ج٨ ص ١٨٥.
(٥٨) انظر ص٣٤٢.

↑صفحة ٦٢↑

ربِّها - إلى أن قال: - وتُظهر الأرض من كنوزها حتى الناس الأرض على وجهها، ويطلب الرجل منكم مَن يصله بماله ويأخذ منه زكاته، فلا يجد أحداً يقبل منه ذلك، واستغنى الناس بما رزقهم الله من فضله).
ومثل ذلك ما ورد في كتاب العهدين في وصف دولة العدل المُنتظرة، كقوله:(٥٩) وتنفتح أبوابك دائماً(٦٠) نهاراً وليلاً لا تُغلق، ليؤتى إليك بغنى الأُمم وتُقاد ملكهم؛ لأنَّ الأمة والمملكة التي لا تخدمك تبيد، وخراباً تخرب الأُمم.
وكقوله: بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويُميت المُنافق بنفخة شفتيه... فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي... والبقر والدُّبَّة ترعيان، تربض أولادهما معاً، والأسد كالبقر يأكل تبناً، ويلعب الرضيع على سرب الصل، ويمدُّ الفطيم يده على جحر الأفعوان، لا يسوؤن ولا يفسدون، في كل جبل قدسي؛ لأن الأرض تمتلئ من معرفة الربِّ.(٦١)
إلى غير ذلك من النصوص في كُتب العهدين، ولكلٍّ من هذه النصوص تحليله وتفسيره الذي سيأتي في مستقبل البحث... وإنَّما المراد الإلمام في الجملة بحالة السعادة والرفاه التي يعيشها شعب المهدي (ع) - وهو كل البشرية - في دولته وتحت نظامه.
المُقدِّمة الثانية: انحصار العدل الكامل في الإسلام.
وهذا يحتاج إلى بحث عقائدي لسنا الآن بصدده، وإنَّما نُشير الآن إلى خلاصة نتائجه: وهي أنَّنا بعد أن علمنا الإسلام هو آخر الشرائع السماوية، وأنَّ العقل البشري قاصر عن إيجاد العدل الكامل في العالم، وأنَّ الله تعالى وعد في كتابه الكريم بتطبيق العدل الكامل والعبادة المحضة على وجه الأرض، بل كان هذا هو الغرض الأساسي للخَلق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٩) أشعيا:٦٠/ ١٣.
(٦٠) مرجع ضمير المؤنث المُخاطب هو (أورشليم) عاصمة بني إسرائيل في نظر اليهود، ولكنَّنا سنُبرهن في الكتاب القادم على انحصار صحَّة هذه النبُّؤات بدولة المهدي (ع)، وإنَّما ذكرت أورشليم باعتبارها العاصمة الدينية المُهمَّة في نظر اليهود. فإن انتقلت الأهمِّيَّة إلى غيرها انتقلت النبُّؤات أيضاً؛ لأنَّها تتبع الدين الحق حيث يكون.
(٦١) أشعيا: ١١/ ٤ - ٨.

↑صفحة ٦٣↑

إذن؛ فينحصر أن يكون هذا العدل المُشار إليه هو الإسلام؛ لعدم إمكان حصوله من العقل البشري، وعدم إمكان نزول شريعة أُخرى بعد الإسلام.
وإذا تمَّ الأسلوب الأول وبكلا مُقدِّمتيه، عرفنا أنَّ كل ما ذُكِر من أنحاء وأنواع السعادة والرفاه الموجود في دولة المهدي (ع)، دولة الحق والعدل المُنتَظرة، هو في الحقيقة نتيجة لتطبيق مفاهيم وقوانين الإسلام فيها.
إذاً؛ فقد تبرهن أنَّ الدين الإسلامي الذي يُعتنق، والقانون الذي يُتَّخذ في تلك الدولة هو الإسلام، بقيادة القائد العظيم الإمام المهدي (ع).
الأُسلوب الثاني: أن نستعرض نصوص الأخبار الدالَّة على أنَّ الإمام المهدي (ع) يُطبِّق الإسلام بالخصوص، وهي على عدَّة أقسام:
القسم الأول: الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي من النبي (ص)، ومن عترته، ومن أُمَّته، ومن أهل البيت، وإذا كان المهدي مُتَّصفاً بهذه الصفات، فهو على دين الإسلام بالضرورة.
أخرج أبو داوود،(٦٢) ونعيم بن حماد، والحاكم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (ص): (المهدي منِّي...) الحديث.
وأخرج أحمد، والباوردي في المعرفة، وأبو نعيم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (ص): (أُبشِّركم بالمهدي، رجل من قريش، من عترتي...) الحديث.
وأخرج أبو داود، وابن ماجة، والطبراني، والحاكم، عن أُمِّ سلمة: سمعت رسول الله (ص) يقول: (المهدي منَّا أهل البيت، رجل من أُمَّتي...) الحديث.
وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة، وابن ماجة، ونعيم بن حماد في الفتن عن علي قال: (قال رسول الله (ص): المهدي منَّا أهل البيت...) الحديث.
وأخرج(٦٣) ابن أبي شيبة، والطبراني، والدارقطني في الإفراد، وأبو نعيم،

 

(٦٢) انظر الحاوي للفتاوي للسيوطي ج٢ ص١٢٤. وكذلك الأخبار الأربعة التي تليه.
(٦٣) المصدر ص١٢٥ وكذلك الخبر الذي يليه.

↑صفحة ٦٤↑

والحاكم، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله (ص): (لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله تعالى رجلاً من أهل بيتي...) الحديث.
وأخرج الطبراني، عن ابن مسعود، عن النبي (ص) قال: (لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ ليلة لمَلك فيه رجل من أهل بيتي).
إلى غير ذلك من الأخبار، ودلالتها على المطلوب أوضح من أن تخفى.
القسم الثاني: الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي (ع) يحكم الأُمّة الإسلامية على الأخص، وهو حين يحكمها بصفتها الإسلامية، فسوف لن يكون حُكمه إلاَّ بالإسلام.
أخرج الترمذي(٦٤) وحسَّنه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (ص) قال: (إنَّ في أُمّتي المهدي، يخرج...) الحديث. أقول: يخرج فيها يعني يحكمها.
وأخرج نعيم بن حماد، وابن ماجة، عن أبي سعيد، أنَّ النبي (ص) قال: (يكون في أُمَّتي المهدي...) الحديث.
وأخرج(٦٥) أحمد ومسلم، عن جابر، قال: قال رسول الله (ص): (يكون في آخر أُمَّتي خليفة...) الحديث.
القسم الثالث: الأخبار الدالَّة على تطبيق المهدي (ع) للإسلام وسنَّة النبي (ص).
أخرج الطبراني في الأوسط،(٦٦) وأبو نعيم، عن أبي سعيد: سمعت رسول الله (ص) يقول: (يخرج رجل من أهل بيتي يقول بسنَّتي) الحديث.
وأخرج - يعني نعيم بن حماد ـ،(٦٧) عن علي، عن النبي (ص)، قال: (المهدي رجل من عترتي، يُقاتل على سنَّتي، كما قاتلت أنا على الوحي).
وأخرج ابن حجر في الصواعق(٦٨) قال: وصحَّ أنَّه (ص) قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٤) المصدر ص١٢٦ وكذلك الخبر الذي يليه.
(٦٥) المصدر ص١٣١.
(٦٦) المصدر والصفحة.
(٦٧) المصدر ص١٤٨.
(٦٨) انظر ص٩٨.

↑صفحة ٦٥↑

(يكون اختلاف عند موت خليفة... إلى أن قال: ويعمل في الناس بسنَّة نبيِّهم (ص) ويُلقي الإسلام بجرانه على الأرض).
وروى الشيخ الطوسي في الغيبة،(٦٩) عن أبي جعفر الباقر (ع)، قال: (ويقتل الناس حتى لا يبقى إلاَّ دين محمد (ص)...) الحديث.
واخرج أبو يعلى،(٧٠) عن أبي هريرة قال: حدَّثني خليلي أبو القاسم (ص) قال: (لا تقوم الساعة حتى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي، فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق...) الحديث.
أقول: الحقُّ في نظر رسول الله هو الإسلام.
وروى الشيخ المفيد في الإرشاد،(٧١) عن المفضَّل بن عمر الجُعفي، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (ع) يقول: (إذا أذِنَ الله تعالى للقائم في الخروج، صعد المنبر فدعا الناس إلى نفسه، وناشدهم بالله ودعاهم إلى حقِّه، وأن يسير فيهم بسنَّة رسول الله (ص) ويعمل فيهم بعمله...) الحديث.
القسم الرابع: من الأخبار، ما دلَّ على أنَّ المهدي (ع) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً.
وهي أخبار متواترة، مروية عن النبي (ص) وقادة الإسلام الأوائل، وهم يرون أنَّ القسط والعدل هو الإسلام ليس إلاَّ؛ فيكون المعنى اعتناق وتطبيق الإمام المهدي (ع) للإسلام عقيدة ونظاماً.
وقد أحصى الصافي في مُنتخب الأثر(٧٢) لهذه العبارة الكريمة مئة وتسعة وعشرين حديثاً، وقد روتها المصادر العامة بكثرة، بما فيها الصحاح، كأبي داود، وابن ماجة، والترمذي إلى مصادر أُخرى كثيرة ذكرناها في التاريخ السابق،(٧٣) مضافاً إلى مصادر علماء الإمامية ومُصنِّفيهم، فإنها أكثر من أن تُحصى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٩) انظر ص ٢٨٣.
(٧٠) الحاوي للفتاوي ص١٣١.
(٧١) انظر ص ٣٤٢ وما بعدها.
(٧٢) انظر ص٤٧٨.
(٧٣) تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٨١ وما بعدها.

↑صفحة ٦٦↑

وسيأتي في القسم الثاني من هذا الكتاب ما يزيد هذه الأخبار بأقسامها الأربعة وضوحاً.
وهذان الأسلوبان من الاستدلال على حقيقة الدين الذي يتَّخذه المهدي (ع)، ثابتان بغضِّ النظر عن الدليل القائم على أساس التخطيط الإلهي، والقائل: بأنَّ الأُطروحة العادلة والكاملة المُطبَّقة في اليوم الموعود في دولة المهدي (ع) هي الإسلام، وتصلح نتيجة هذين الأسلوبين للاستدلال على هذه الحقيقة، بأن نقول:
إنَّ المهدي (ع) يُطبِّق الأطروحة العادلة الكاملة في دولته العالمية، كما ثبت في التخطيط العام، وهو يعتنق ويُطبِّق الإسلام، كما ثبت بهذين الأسلوبين الأخيرين...
إذاً؛ فالإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة.
وكذلك يصحُّ الاستدلال بالعكس، بأن نغضَّ النظر عن هذين الأسلوبين، ونتساءل من جديد عن حقيقة الدين الذي يعتنقه المهدي (ع)، فنقول: إنَّ المهدي يُطبِّق الأطروحة العادلة الكاملة في دولته، كما ثبت في التخطيط العام، والإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة، كما استدللنا في التاريخ السابق،(٧٤) وسيأتي الحديث عن ذلك في الكتاب الآتي أيضاً...
إذاً؛ يثبت أنَّ الدين الذي يعتنقه المهدي (ع) ويُطبِّقه هو الإسلام، إذ لا يُحتمل أنَّه يُطبِّق الإسلام وليس بمسلم... فإنَّ التطبيق الإسلامي سوف لن يكون تامَّاً وعادلاً، إلاَّ إذا كان الرئيس الأعلى مسلماً، كما ثبت في الفقه الإسلامي، ويصلح أن يكون هذا أسلوباً ثالثاً إلى جنب الأسلوبين السابقين.
إذاً؛ فهاتان الحقيقتان وهما:
١ـ إنَّ دين المهدي (ع) هو الإسلام.
٢ـ إنَّ الإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة، يمكن الاستدلال بإحداهما على الأُخرى، بعد أخذ إحداهما مُسلَّمة والأُخرى محلاًّ للاستلال، وكلتاهما مدعمتان بأدلَّة أُخرى غير هذه.
وإذا تبرهن على أنَّ المهدي (ع) يُطبِّق الإسلام في اليوم الموعود، باعتبار النظام الذي يتكفَّل العدل الكامل... فإنَّه يترتَّب على ذلك عدَّة نتائج، فيما إذا قورنت دولته بالدولة الحاضرة، وهذا ما سيأتي في القسم الثاني من الكتاب، ونذكر الآن بعضها على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٤) انظر ص ٢٦١ منه.

↑صفحة ٦٧↑

سبيل المثال.
منها: توحيد المُعتقَد الديني في العالم بدين الإسلام، طبقاً لقوله تعالى:
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ...)،(٧٥) على أساس أنَّ هذا الدين هو الذي يُنظِّم العالم ويحلُّ مشاكله، ويُحقِّق له العدل الكامل، ويأتي هذا التوحيد تحت ظروف مُعيَّنة يُهيِّؤها القائد المهدي، نُشير إليها في مُستقبل البحث.
ومنها: أنَّ العالم سوف يحكم بأُطروحة قانونية واحدة، لا يحق فيها التجزئة، ولا يجوز عليها الخروج.
ومنها اتِّحاد السياسة والدين في سير التطبيق والتاريخ، كما كان عليه الحال في زمن النبي (ص) والخلافة الأُولى، وإنهاء فكرة: فصل الدين عن الدولة.
ومنها: إبتناء الحُكم، ابتناء التكامل الفردي والاجتماعي على الأساس الإلهي، ويتمُّ القضاء تماماً على أيِّ اتِّجاه مادي في العالم، مهما كان نوعه.
ومنها: إنهاء فكرة كحق تقرير المصير، فإنَّ مصير البشر قد تقرَّر من الأعلى، من التخطيط الإلهي العام ولن يكون مُنبثقاً من البشر، وناتجاً عن آرائهم الناقصة.
إلى غير ذلك من النتائج، التي سيأتي التعرض لأسبابها ونتائجها مُفصَّلاً.
الجهة الثانية: المذهب الذي يتَّخذه المهدي (ع) من مذاهب الإسلام، يمكن أن يراد من المذهب أحد المعنيين:
المعنى الأول: أن يُراد بالمذهب مجموع الأفكار المُتبنَّاة من العقائد والفقه السائد، بحيث يكون كلام شيوخ المذهب وعلمائه دخيلاً في بلورته وصقل فكرته.
المعنى الثاني: أن يُراد بالمذهب العقائد الرئيسية التي تُشكِّل حجر الزاوية فيه والأساس الرئيس له... كالقول بالعدل والإمامة اللذين كانا محلَّ الخلاف بين الإمامية وغيرهم من المسلمين.
فإن أردنا المعنى الأول من المذهب، فينبغي لنا أن نجزم بأنَّ المهدي (ع) سيُغيِّر في تفاصيل تشريعه كل مذاهب المسلمين الموجودة قبل ظهوره، ولا يُحتمل فيه أن يكون منسوباً إلى أيٍّ من المذاهب السائدة؛ لأنَّ الكثير من أفكار كلِّ مذهب، ناتج عن أفكار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٥) آل عمران: ٣/ ٨٥.

↑صفحة ٦٨↑

مُفكِّريه واستنتاجات علمائه، وهي - على أيِّ حال - قابلة للخطأ والصواب، ما لم تكن من ضروريَّات الدين وواضحات العقل.
والمهدي (ع) سيُطبِّق عند ظهوره الإسلام الواقعي، كما جاء به النبي (ص) سواء وافق الأحكام المعروفة للمذاهب وخالفها، وسيأتي بقوانين إسلامية جديدة لتنظيم العالم؛ ليجعله كله على عتبة الرُّقيِّ والتكامل.
ولذا؛ صرَّح عدد من علماء العامة ومفكريهم في مناسبات مُختلفة، بعد انطباق أحكام المهدي مع شيء من المذاهب الأربعة، ولا غيرها.
قال ابن العربي في الفتوحات المكِّيَّة(٧٦) في كلامه عن المهدي: به يرفع المذاهب من الأرض، فلا يبقى إلاَّ الدين الخالص، أعداؤه مُقلِّدة العلماء أهل الاجتهاد لما يرونه من الحُكم بخلاف ما ذهبت إليه أئمتهم...
وقال السيوطي(٧٧) - عن الحُكم الذي سيُمارسه عيسى بن مريم (ع) وهو العضد الأيمن للمهدي (ع)، كما سنعرف، في دولة الحق، قال -: وإذا قلتم: إنَّه يحكم بشرع نبيِّنا، فكيف طريق حُكمه به أبمذهب من المذاهب الأربعة المُقرَّرة، وباجتهاد منه؟!
هذا السؤال أعجب من سائله!! وأشدُّ عجباً منه قوله فيه: بمذهب من المذاهب الأربعة!! فهل خطر ببال السائل: أنَّ المذاهب في المِلَّة الشريفة مُنحصرة في أربعة، والمجتهدون من الأُمَّة لا يُحصون كثرة...؟! فلأيِّ شيء خَصَّص السائل المذاهب الأربعة؟!
ثمَّ كيف يظنُّ بنبيٍّ أنَّه يُقلِّد مذهباً من المذاهب، والعلماء يقولون: إنَّ المجتهد لا يُقلِّد مُجتهداً؟! فإذا كان المجتهد من آحاد الأمة لا يقلد، فكيف يظن بالنبي أنه يقلد؟!
إلى غير ذلك من الكلمات التي لا حاجة إلى استقصائها.
وأمَّا موقف الإمامية من ذلك فواضح، فإنَّهم يعتبرون المهدي (ع)، مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، بصفته الإمام الثاني عشر من أئمَّتهم (ع)، فمن غير المُحتمل لديهم رجوعه في التشريع وغيره إلى أحد علمائهم وإلى أكثر، بل هو يستقيل ببيان التشريع الإسلامي، ويكون واجب الطاعة في غيبته.
وأمَّا إذا أردنا بالمذهب، ما يعود إلى المقوِّمات الرئيسية، كالاعتقاد بالعدل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٦) ج٣ ص٣٢٧.
(٧٧) انظر الحاوي للفتاوي، للسيوطي ج٢ ص٢٨٠.

↑صفحة ٦٩↑

والإمامة، وعدمه...
فالمُلاحَظ بالنسبة إلى المهدي (ع) سكوت الأخبار الواردة في مصادر العامة والجماعة عن مذهبه، سكوتاً تامَّاً، في حدود اطِّلاعنا، فلو أردنا الجواب على مثل هذا السؤال، وهو: أنَّ المهدي من أهل السنَّة، يؤمِن بأصولهم الاعتقادية، وبالأهمِّ منها على الأقل... كان ذلك مُتعذِّراً عن طريق الأخبار.
ومن هنا سكتت كلمات مُحقِّقيهم عن التعرُّض لذلك... واكتفوا بالقول: بأنَّه يُطبِّق الدين الحقيقي، من دون أيِّ إشارة إلى أنَّه ممَّن يوافقهم في المذهب أولا.
نعم، مَن يرى منهم بأنَّ المهدي (ع) يعمل بفقه أحد المذاهب الأربعة يرى - بطبيعة الحال - أنَّه مُلتزم عقائدياً بما يعتقدونه، غير أنَّ مُحقِّقيهم اعترضوا على هذا القول واستنكروه، كما سمعنا.
إذاً؛ فلم يتمَّ الإثبات التاريخي الكافي لذلك.
نعم، تبقى هناك فكرتان، إحداهما أشمل من الأُخرى، لابدَّ من عرضهما في هذا الصدد:
الفكرة الأُولى: فيما تقتضيه القواعد العامة، من تعيُّن مذهبه على وجه الإجمال.
من المُسلَّم به بين المسلمين، كون أحد المذاهب الموجودة بين مذاهبهم حقَّاً، وأنَّ المذاهب الأُخرى باطلة غير مطابقة للعقائد الإسلامية الصحيحة، وسبق أن قلنا: إنَّ أصحاب الإمام المهدي (ع) المُمحَّصين في عصر الغيبة، إنَّما يكونون من ذلك المذهب - أيَّاً كان - دون غيرهم؛ ليتمَّ تمحيصهم على الحق وإخلاصهم له، لا على غيره، كما هو واضح.
ومعه؛ فلابدَّ من الالتزام بأنَّ مذهب المهدي (ع) هو ذلك المذهب الحقُّ، الذي يختار له الله تعالى عليه أصحابه، ولا يُحتمل أن يكون مُخالفاً لهم في المذهب؛ لأنَّه يلزم منه أن لا يكون أحدهما على الحقِّ. وهو باطل بالضرورة.
وأمّا تعيين هذا المذهب الحق، وتسميته من دون المذاهب الأُخرى... فهذا راجع إلى وجدان كل مسلم، وما قام الدليل عنده من صحَّة أيِّ مذهب من المذاهب.
ستكون الفكرة الأُولى لدى الفرد المسلم أن يقول: إنَّ المذهب الحق هو مذهبي؛ والدليل على صحَّته قائم عندي.
إذاً؛ فالمهدي يكون عليه، هكذا يقول أهل كل مذهب... ويبقى مذهب المهدي - بعد ذلك - مُجملاً.

↑صفحة ٧٠↑

وقد لا يكون هذا ضائراً، فإنَّ التعرُّف الإجمالي على مذهبه، بالشكل الذي قلناه، كافٍ على المستوى الذي يُقنع سائر المسلمين، ويكون البحث فيه إسلامياً عامَّاً غير طائفي، ويكون المهدي (ع) - في ذاته - مختاراً في تطبيق المذهب الذي يُريده على العالم.
الفكرة الثانية: وهي أخصُّ من سابقتها، فإنَّه يمكن القول: بأنَّ المهدي (ع) على المذهب الإمامي الاثني عشري؛ وذلك باعتبار القرائن والمُرجِّحات التالية:
المُرجِّح الأول: ما ورد أنَّ المهدي (ع) من أهل البيت ومن العترة، وقد سمعنا عدداً من هذه الأخبار فيما سبق، ومنها ما هو موجود في الصحاح الستَّة، التي سنقتصر على النقل عنها:
أخرج أبو داود،(٧٨) وابن ماجة،(٧٩) عن أُمِّ سلمة، قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: (إنَّ المهدي من عترتي من وُلْد فاطمة).
وأخرج أبو داود أيضاً(٨٠) قوله (ص): (لو لم يبقَ من الدهر إلاَّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي...) الحديث.
وأخرج ابن ماجة(٨١) قوله (ص): (المهدي منَّا أهل البيت...) الحديث.
وأخرج الترمذي(٨٢) قوله (ص): (لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي).
إلى غير ذلك من الأخبار.
وإنَّ أخص موارد انطباق مفهومي العترة وأهل البيت هم: بنت النبي (ص) الزهراء وزوجها وولداها، وقد يشمل سلمان الفارسي رضوان الله عليه، الذي ورد في شأنه قول النبي (ص): (سلمان منَّا أهل البيت)(٨٣)، فليكن الإمام المهدي (ع) على مذهبهم، وليس هو غامضاً ولا مُجملاً في التاريخ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٨) انظر السُّنن ج ٢ ص ٤٢٢.
(٧٩) انظر السُّنن ج٢ ص ١٣٦٨.
(٨٠) انظر السُّنن ج٢ ص ٤٢٢.
(٨١) انظر السُّنن ج٢ ص ١٣٦٧.
(٨٢) انظر الجامع الصحيح ج ٣ ص ٣٤٣.
(٨٣) انظر أُسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير ٢ ص٣٣١. ذكر له أكثر من رواية.

↑صفحة ٧١↑

المُرجِّح الثاني: ما ورد من الأخبار في مصادر العامة، من أنَّ الأئمَّة اثنا عشر بعد النبي (ص)... أمَّا بالنص على أنَّ المهدي (ع) هو آخرهم، وبدون ذلك، فإنَّها تنطبق على الاتِّجاه الإمامي في فَهْمِ الإسلام بالتعيين، دون غيره، ومعه؛ يتعيَّن الالتزام بأنَّ مذهب المهدي (ع) موافق لهذا الاتِّجاه.
أخرج البخاري(٨٤) عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (ص) يقول: (يكون اثنا عشر أميراً). فقال كلمة لم أسمعها. فقال أبي: إنَّه قال: (كلُّهم من قريش).
وأخرج مسلم(٨٥) نحوه، وذكر له أسناد عديدة إلى جابر بن سمرة.
وأخرج الترمذي،(٨٦) عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله (ص): (يكون من بعدي اثنا عشر أميراً).
قال: ثمَّ تكلَّم بشيء لم أفهمه.
فسألت الذي يليني، فقال: (كلُّهم من قريش).
ثمَّ قال الترمذي: هذا حديث حَسن، وقد روي من غير وجه عن جابر بن سمرة.
وأمَّا ما رواه أحمد وغيره في خارج الصحاح، فكثير.
وإذا تعيَّن صحَّة الاتِّجاه الإمامي، بهذه الأخبار، ثبت كون المهدي هو الثاني عشر من هؤلاء الأُمراء الذين يُشير إليهم النبي (ص)، وهو المطلوب.
كالذي أخرجه القندوزي في ينابيع المودَّة،(٨٧) نقلاً عن فرائد السمطين للحمويني، بسنده عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قدم يهودي يُقال له: نعثل. فقال: يا محمد، أسألك عن أشياء تُلَجْلِجُ في صدري منذ حين... إلى أن يقول: فما من نبيٍّ إلاَّ وله وصي، وأنَّ نبينا موسى بن عمران أوصى يوشع بن نون.
فقال: (إنَّ وصيِّي علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٤) انظر الجامع الصحيح ج ٩ ص ١٠١.
(٨٥) انظر صحيح مسلم ج ٦ ص ٣-٤.
(٨٦) أنظر الجامع الصحيح ج ٣ ص ٢٤٠.
(٨٧) انظر ص ٥٢٩ ط النجف. وص ٣٦٩ ط الهند عام ١٣١١ هـ.

↑صفحة ٧٢↑

الحسن والحسين، تتلوه تسعة أئمة من صُلب الحسين).
قال: يا محمد، قَسِّمْهم لي.
قال: (إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فابنه الحجة محمد المهدي).
فهؤلاء اثنا عشر.
وهذه النتيجة، وهي صحَّة الاتِّجاه الإمامي في فهم المهدي (ع)، ومن ثمَّ القول: بأنَّ المهدي إمامي المذهب، وأنَّه أحد الأئمة الاثنا عشر... هذه النتيجة لازمة لكل مَن يقول من علماء العامَّة: بأنَّ المهدي هو محمد بن الحسن العسكري. كابن عربي في الفتوحات المكِّيَّة على ما نُقل عنه في إسعاف الراغبين،(٨٨) إذ نسمعه يقول: (وهو عترة رسول لله (ص) من وُلْد فاطمة رضي الله عنها، جدُّه الحسين بن علي بن أبي طالب، ووالده الإمام حسن العسكري بن الإمام علي النقي - بالنون - بن الإمام محمد (التقي - بالتاء - بن الإمام علي)(٨٩) الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد (التقي - بالتاء - بن الإمام علي) الباقر بن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم. يواطئ اسمه اسم رسول الله (ص)...).
وكذلك الشعراني في اليواقيت والجواهر،(٩٠) إذ قال هناك: المهدي من وُلْد الإمام حسن العسكري.
وذكر موافقة الشيخ حسن العراقي، وسيدي علي الخواص على ذلك.
وكذلك كمال الدين بن طلحة، في مطالب السؤول،(٩١) حيث قال: الباب الثاني عشر: في أبي القاسم بن محمد الحسن الخالص بن علي المُتوكِّل بن القانع بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الزكي بن علي المرتضى أمير المؤمنين بن أبي طالب. المهدي الحجَّة الخَلَف الصالح المُنتظر (ع) ورحمة الله وبركاته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٨) انظر ص ١٤٢.
(٨٩) ما بين القوسين عبارة نُقلت من محلِّه إلى المحلِّ الذي أثبتناه بين القوسين فيما يلي، وهو خطأ مطبعي غريب. وهي في الأول صحيحة وفي الثاني خاطئة.
(٩٠) انظر ص ٢٨٨ ط ١٣٠٦ وانظر إسعاف الراغبين ص١٤١.
(٩١) انظر ص ٧٩.

↑صفحة ٧٣↑

وكذلك الحافظ الكنجي، في كتابه البيان،(٩٢) حيث قال: وأمَّا بقاء المهدي (ع)، فقد جاء في الكتاب والسنَّة... ثم شرح ذلك إلى أن قال: وأمَّا ألإمام المهدي (ع)، مُذْ غيبته عن الأبصار إلى يومنا هذا لم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما تقدَّمت الأخبار في ذلك، فلابدَّ أن يكون ذلك مشروطاً بآخر الزمان، فقد صارت هذه الأسباب لاستيفاء الأجل المعلوم.(٩٣)
أقول: وهذا الكلام منه واضح في اختيار الاتِّجاه الإمامي في فَهْم المهدي.
وكذلك ابن الصبَّاغ، في الفصول المهمَّة،(٩٤) إذ نجده يتحدَّث عن المهدي مُفصلاً، وقال - فيما قال -: وأمَّا نسبه أُمَّاً وأباً، فهو أبو القاسم، محمد الحجَّة بن الحسن الخالص بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين... وأمَّا لقبه: فالحجَّة، والمهدي، والخَلَف الصالح، والقائم المُنتظر، وصاحب الزمان... إلخ.
وذكر الحافظ القندوزي، في ينابيع المودَّة، عدداً من العلماء الذاهبين إلى ذلك: منهم: الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح الدائرة،(٩٥) وشيخ الإسلام أحمد الجامي النامقي، والشيخ عطَّار النيشابوري، وشمس الدين التبريزي، وجلال الدين الرومي، والسيد نعمة الله الولي، والسيد النسيمي،(٩٦) والشيخ عزيز بن محمد النسفي،(٩٧) مُضافاً إلى مَن ذكرناهم قبل قليل.
المُرجِّح الثالث: اعتراف الأئمَّة المعصومين السابقين عليه به عليه وعليهم السلام... بل تنويههم به والحثُّ على إطاعته وانتظاره في عدد من الأخبار تفوق حدَّ التواتر، وقد نَقل عنهم بعض هذه الأخبار عدد من مصادر العامة، كالبيان للكنجي، وينابيع المودَّة للقندوزي، وغيرهما.
أمَّا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٩٢) انظر ص ١٠٩.
(٩٣) انظر ص١١١ من البيان.
(٩٤) انظر ص٣١٠.
(٩٥) انظر ينابيع المودَّة ص ٥٦٥ ط النجف وص ٢٩٣ ط الهند.
(٩٦) المصدر ص ٥٦٦ ط النجف وص ٢٩٣ ط الهند.
(٩٧) المصدر ص ٥٦٩ ط النجف وص ٣٥٩ ط الهند.

↑صفحة ٧٤↑

فأخرج عنه الكنجي،(٩٨) وابن ماجة(٩٩) وغيرهما، قال: (قال رسول الله (ص): المهدي منَّا أهل البيت يُصلحه الله في ليلة).
وأمَّا فاطمة الزهراء بنت الرسول (ص)، فقد قال لها أبوها - كما أخرجه عنه للكنجي في البيان،(١٠٠) وابن الصبَّاغ في الفصول المُهمَّة(١٠١) وغيرهما، واللفظ للكنجي -: (أنا خاتم النبيِّين وأكرم النبيِّين على الله وأحبُّ المخلوقين إلى الله، وأنا أبوك، ووصيِّي خير الأوصياء وأحبُّهم إلى الله وهو بعلك... ومنَّا سبطا هذه الأُمَّة وهما ابناك الحسن والحسين، وهما سيِّدا شباب أهل الجنَّة، وأبوهما - والذي بعثني بالحق - خير منهما. يا فاطمة، والذي بعثني بالحق، إنَّ منهما مهدي هذه الأُمَّة، إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن...) الحديث.
والإمام الحسن الزكي بن علي (ع) نظر إليه النبي (ص) - فيما رواه السيوطي(١٠٢) - فقال: (إنَّ ابني هذا سيِّد، كما سمَّاه النبي (ص)، سيخرج من صُلبه رجل يُسمَّى اسم نبيِّكم يُشبهه في الخَلق ولا يُشبه في الخُلُق).
واخرج السيوطي،(١٠٣) عن ابن عساكر، عن الحسين (ع): (أنَّ رسول الله (ص) قال: أبْشِري يا فاطمة، المهدي منك).
وأخرج أيضاً،(١٠٤) عن الدار قطني في سُننه، عن محمد بن علي (وهو الإمام الباقر عليه السلام) قال: (إن لمهديِّنا آيتين لم يكونا منذ خلق الله السموات والأرض: ينكسف القمر لأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه...) الحديث.
وأخرج عنه (ع) أيضاً بكُنيته: أبي جعفر(١٠٥) بعض الأخبار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٩٨) انظر البيان ص ٦٥.
(٩٩) انظر السُّنن ج٢ ص ١٣٦٧.
(١٠٠) انظر ص ٥٦.
(١٠١) انظر ص ٣١٤ وما بعدها.
(١٠٢) انظر الحاوي للفتاوي ص ١٢٥ ج ٢.
(١٠٣) نفس المصدر ص ١٣٧.
(١٠٤) المصدر ص ١٣٦.
(١٠٥) المصدر ص ١٤١.

↑صفحة ٧٥↑

وأمّا الإمام أبو عبد الله الصادق (ع)، فقد كان له في ذكر الإمام المهدي (ع) موقف عاطفي عظيم...
أخرج القندوزي،(١٠٦) عن المناقب، عن سدير الصيرفي قال: دخلت أنا والمفضَّل بن عمر وأبو بصير وإبان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله جعفر الصادق (رضي الله عنه) فرأيناه جالساً على التراب وهو يبكي بكاءً شديداً ويقول: (سيّدي، غيبتك نفت رقادي! وسلبت منِّي راحة فؤادي!).
قال سدير: تصدَّعتْ قلوبنا جزعاً. فقلنا: لا أبكى الله - يا بن خير الورى - عينيك!
فزفر زفرةً انتفخ منها جوفه. فقال: (نظرت في كتاب الجفر الجامع صبيحة هذا اليوم... وتأمَّلت فيه مولِد قائمنا المهدي، وطول غيبته، وطول عمره، وبلوى المؤمنين في زمان غيبته...) إلخ الحديث وهو مطوَّل.
والإمام الرضا علي بن موسى (ع) بشر بالمهدي (ع) أيضاً:
أخرج القندوزي(١٠٧)، عن الحمويني الشافعي في فرائد السمطين، بإسناده عن دعبل بن علي الخزاعي قال: أنشدت قصيدة لمولاي الإمام علي الرضا، رضي الله عنه، أولها:

مدارس آياتٍ خَلَتْ من تِلاوةٍ ومنزل وحيٍ مُقفِرُ العَرصاتِ

إلى أن قال دعبل: ثمَّ قرأت باقي القصيدة عنده، فلمَّا انتهيت إلى قولي:

خروج إمامٍ لا محالة واقع يقوم على اسم الله والبركاتِ
يُميِّز فينا كلَّ حقٍ وباطلٍ ويجزي على النعماء والنقماتِ

بكى الرضا بكاء شديداً. ثم قال: (يا دعبل، نطق روح القُدس بلسانك! أتعرف هذا الإمام؟).
قلت: لا، إلاَّ أنِّي سمعت خروج إمام منكم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
فقال: (إنَّ الإمام بعدي ابني محمد، وبعد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٠٦) انظر ينابيع المودَّة ص ٤٥٤ ط النجف وص ٣٧٩ ط الهند.
(١٠٧) المصدر ص ٥٤٤ ط النجف وص ٣٧٩ ط الهند.

↑صفحة ٧٦↑

 محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجَّة القائم، وهو المُنتظر في غيبته المُطاع في ظهوره، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً) الحديث.
وروى القندوزي في الينابيع(١٠٨) حادثة ولادة المهدي (ع)، وفيها بشارة أبيه الإمام الحسن العسكري (ع) بولادته... منها قوله عن أُمِّه رضي الله عنها، أنَّه: (سيخرج منها ولَد كريم على الله عزّ وجلّ، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً).
فهذا ما روته المصادر العامة، عن الأئمة المعصومين (ع)، وقد أخرجت عن كلٍّ منهم عدداً من الأحاديث، ذكرنا قسماً منها كنموذج.
وأمَّا المصادر الإمامية، فقد روت عن جميع المعصومين عدداً وافراً من الأخبار في التبشير بالمهدي (ع)، لا حاجة إلى نقلها.
والأئمَّة المعصومين عليهم السلام - بغضِّ النظر عن المفهوم الإمامي عنهم - أُناس أتقياء علماء صالحون، لا يوجد لهم في المصادر العامة إلاَّ الذكر الجميل، ومذهبهم الإسلامي أشهر من أن يُذكر، فإنَّهم جميعاً إماميُّون اثنا عشريُّون، يؤمن كلٌّ منهم بإمامة نفسه وإمامة الباقين من آبائه وأولاده.
ومن هنا ينبثق عندنا تقريبان لتعيين مذهب الإمام المهدي على هذا الضوء:
التقريب الأول: إنَّه من غير المُحتمَل أن يقوم الأئمَّة المعصومون بهذا التأييد للإمام المهدي (ع)، وينوُّهوا به هذا التنويه المُتواصل الشديد، وهو شخص يختلف عنهم في المذهب، ويُغايرهم في الفَهْم والمُعتقد الإسلامي.
إذاً؛ فيتعيَّن أن يكون الإمام المهدي على مذهبهم واتِّجاههم واعتقادهم، وهو المطلوب.
التقريب الثاني: إنَّنا لو قلنا: بأنَّ المهدي (ع) يختلف عنهم في المذهب، للزم الالتزام ببطلان مذهبه ومذهبهم... باعتبار وضوح أنَّ المذهب الحق واحد في الإسلام بالضرورة والإجماع، وهذا ممَّا لا يمكن التفوُّه به تجاه الأئمَّة المعصومين ولا تجاه المهدي.
إذاً؛ فهُمْ جميعاً على مذهب واحد.
المرجح الرابع: ما اعترف به عدد من علماء العامة والجماعة، من أنَّ المهدي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٠٨) المصدر ص٤٥٠ ط النجف وص٣٧٦ ط الهند. وانظر ص٤٦٤ ط النجف.

↑صفحة ٧٧↑

(ع) لا يُفضَّل عليه أبو بكر وعمر.
روى السيوطي في العرف الوردي،(١٠٩) بسنده عن محمد بن سيرين أنَّه ذكر فتنة تكون، فقال: إذا كان ذلك فاجلسوا في بيوتكم حتى تسمعوا على الناس بخير من أبي بكر وعمر.
قيل: أفيأتي خيرٌ من أبي بكر وعمر؟!
قال: قد كان يُفضَّل على بعض.
قال السيوطي: قلت: في هذا ما فيه.
وقال ابن أبي شيبة في المُصنَّف في باب المهدي: حدَّثنا أبو أُسامة عن عوف بن محمد - هو ابن سيرن - قال: يكون على هذه الأُمَّة خليفة لا يُفضَّل عليه أبو بكر ولا عمر.
قال السيوطي: قلت: هذا إسناد صحيح، وهذا اللفظ أخفُّ من الأول... إلى آخر كلامه.
وظاهر اللفظ أنَّه خبر عن ابن سيرين نفسه، لا عن النبي (ص).
إذاً؛ فابن سيرين يرى عدم أفضلية الشيخين على المهدي، ووافقه البرزنجي في الإشاعة، حيث قال - بعد نقل ما ذكره السيوطي(١١٠) -: وتقدَّم عن الشيخ في الفتوحات أنَّه معصوم في حُكمه مُقْتَفٍ أثر النبي (ص) لا يُخطئ أبداً، ولا شكَّ أنَّ هذا لم يكن في الشيخين، وأنَّ الأمور التسعة التي مرَّت لم تجتمع كلُّها في إمام من أئمَّة الدين قبله؛ فمن هذه الجهات يجوز تفضيله عليهما، وإن كان لهما فضل الصحبة ومُشاهدة الوحي والسابقة، وغير ذلك، والله أعلم.
قال الشيخ علي القاري في المشرب الوردي في مذهب المهدي: وممَّا يدلُّ على أفضليَّته، أنَّ النبي (ص) سمَّاه خليفة الله، وأبو بكر لا قال له إلاَّ خليفة رسول الله، انتهى كلام البرزنجي.
وإذا تمَّ ذلك، فمن البعيد جدَّاً، إن لم يكن من القبيح عقلاً اتِّباع الأفضل للمفضول، ومُسايرته في فَهْمِه واتَّجاهه... مع أنَّ سرَّ فضله كامن في الاطِّلاع على الحقائق، والاتِّساع في النظر، والعمل بشكل غير موجود لدى المفضول.
إذاً؛ فكل واحد من هذه القرائن، يُبرهن على أنَّ مذهب الإمام المهدي (ع) من حيث الأصول الرئيسية، هو المذهب الإمامي الاثنا عشري، بحسب الأدلَّة التي ينبغي أن يعترف بها سائر المسلمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٠٩) انظر الحاوي للفتاوي ج٢ ص ١٥٣.
(١١٠) انظر الإشاعة في أشراط الساعة ص ١١٣.

↑صفحة ٧٨↑

وأمَّا عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية، فهذا من الضروريات القطعيَّات، التي لا يمكن أن يرقى إليها الشكُّ، وتدلُّ عليه أعداد غفيرة من أخبارهم في المهدي، ممَّا لا حاجة إلى الإفاضة فيه، يكفي في ذلك أن نعرف أنَّهم يرون أنَّ المهدي إمامهم الثاني عشر، وأنَّهم يرون وجوب طاعته ولزوم انتظاره.
وفي أخبار المصادر العامة ما يدلُّ على ذلك، وقد سمعنا قبل قليل بعضها، وفيها تعبير الأئمة المعصومين عنه (ع) بقائمنا ومهديّنا، ونحو ذلك، فليرجع القارئ إليها.
الجهة الثالثة: موقف الإمام المهدي (ع) من العنصريَّة وأمثالها.
وهي عدَّة مفاهيم ذات مدلول أناني ضيِّق، يتضمَّن تفضيل عنصر على عنصر من البشر، على أساس الدم، واللغة، واللون، والوطن، والقبيلة، ونحو ذلك، ولنصطلح عليها جميعاً بالعنصرية، من أجل تخفيف التعبير.
والرأي الذي لا بدَّ من الجزم به - باعتبار الأدلَّة الآتية - هو أنَّ موقف الإمام المهدي (ع) من العنصرية دائماً موقف سلبي ومُعارض... بل دعوته ودولته عالمية، تصل إلى كل البشر على حدٍّ سواء، بدون تفضيل لجماعة على أُخرى.
ويُمكن إقامة الدليل على ذلك على عِدَّة مُستويات:
المُستوى الأول: أنَّ دعوة المهدي (ع) قائمة على الإسلام، كما برهنَّا، فإنَّه إنَّما يُطبِّق الإسلام على وجه الأرض، ويرفض أيَّ عنصر غريب عنه وأجنبي.
ونحن نعرف أنَّ الإسلام نصَّ - بكل صراحة - على إلغاء العنصرية، بمثل قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).(١١١)
وقول النبي (ص) المشهور عنه: (لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلاَّ بالتقوى).
والإسلام دين الناس أجمعين، وليس خاصاً بأحد، قال الله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا...).(١١٢)
وقال عزوجل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١١١) الحجرات: ٤٩/ ١٣.
(١١٢) الأعراف: ٧/ ١٥٨.

↑صفحة ٧٩↑

وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).(١١٣)
وقد أعطى الإسلام للتفاضل أُسُساً جديدة، لا تمتُّ إلى أيِّ شكل من أشكال العنصرية بصِلَةٍ، وهي ثلاثة:
الأساس الأول: العلم.
قال الله سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ).(١١٤)
الأساس الثاني: التقوى.
قال تعالى: (... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(١١٥)، ويدلُّ عليه الحديث النبوي الشريف السابق أيضاً.
الأساس الثالث: الجهاد.
قال الله تعالى: (لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاَّ ًوَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).(١١٦)
هذا بعد التساوي بالإسلام وحُسن العقيدة والتطبيق بطبيعة الحال، ولا يبقي ذلك في الإسلام أيَّ تفاضل، وإنَّما الناس سواسية كأسنان المشط، تجاه عدله الكامل... يكون العظيم عنده صغيراً حتى يأخذ منه الحق، والحقير عنده عظيماً حتى يؤخَذ له الحق.
فإذا كان هذا هو الرأي الصريح للإسلام، وهو الأمر العادل بحكم العقل أيضاً وفطرة الفكر، كما أشار إليه سبحانه حين قال: (... إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ).
إذاً؛ فالمهدي (ع) سوف يسير على ذلك أيدولوجيته العامة، وتفاصيل تشريعه وقضائه، وكيف لا، وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويُطبِّق الأطروحة العادلة الكاملة.
وقد يخطر في الذهن هذا السؤال: إنَّ الإسلام مهما شجب العنصرية، فإنَّنا نعرف إلى جنب ذلك أنَّ الإمام المهدي (ع) سيأتي بأمر جديد وكتاب جديد وقضاء جديد، فلعلَّ فيما يأتي به من الأمور إنفاذ العنصرية والاعتراف ببعض حدودها، ومعه لا يكون الدليل تامَّاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١١٣) سبأ: ٢٤/ ٢٨.
(١١٤) الزُّمر: ٣٩ /٩.
(١١٥) الحُجرات:٤٩/١٣.
(١١٦) النساء:٤/٩٥-٩٦.

↑صفحة ٨٠↑

وجواب ذلك: أنَّه سيأتي في مستقبل البحث - أيضاً - أنَّ ما يُعلنه المهدي في دولته، مهما كان جديداً وعميقاً ومُفصَّلاً، إلاَّ أنَّه يتعدَّى مستوى التطبيقات والتنظيمات للمجتمع الذي يحكمه، بالشكل الذي لا يكون خارجاً بأيِّ حال على التشريعات والمفاهيم الرئيسية في الإسلام ولا مضادَّاً لها، ومن الواضح أنَّ شجب العنصرية بكل أشكالها من واضحات الإسلام ونصِّ الكتاب والسنَّة.
إذاً؛ فمن غير المُحتمل أن يقوم الإمام المهدي (ع) بتغيير ذلك.
المستوى الثاني: إنَّ دعوة المهدي (ع) ودولته عالمية، كما هو ضروري الوضوح لكل مُعترف به من المسلمين، وسيأتي التعرُّض للنصوص الدالَّة على ذلك بصراحة.
والدعوة العالمية على طول الخطِّ مُنافية مع العنصرية؛ ولذا نرى سائر المبادئ في التاريخ، ممَّن طمعت بالاستيلاء العقائدي على العالم، تقفُ من العنصرية موقفاً، سلبيَّاً، وتعتبرها نظرة ضيِّقة لا ترقى إلى أُسلوبها الواسع وأُفقها الرَّحب.
وحيث كانت دعوة المهدي (ع) عالمية؛ إذاً، فهي تُنافي العنصرية كأيِّ دعوة عالمية أُخرى، بمعنى أنَّه بمجرد أن يتَّخذ بعض شعارات العنصرية، فإنَّ دائرة دعوته ستكون ضيِّقة، وسيتعذَّر عليه بأيِّ حال، أن تبقى دعوته عالمية، وهذا خلاف الضرورة والتواتر عن دعوة المهدي (ع)، وسيُخلُّ بتأسيس الدولة العالمية، وهو خلاف ما استهدفه هذا القائد العظيم في ظهوره، والغرض الأساسي الذي وجِد التخطيط الإلهي من أجله.
وقد يخطر في الذهن: أنَّ ما دلَّ عليه الدليل القطعي، بالضرورة والتواتر هو استيلاء المهدي (ع) على العالم بأجمعه واتِّساع رقعته، وهذا لا يُنافي الاعتراف من قِبله ببعض أشكال العنصريَّة.
والجواب على ذلك: أنَّ استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم، إن كان غزواً عسكرياً مُجرَّداً، فهذا الذي قاله السائل صحيح؛ فإنَّ الغزو العسكري المُجرَّد لأجل الحصول على السلطة، يُناسب مع الاعتقاد بالعنصرية، ومع رفضها فلا يكون مُجرَّد الاستيلاء على العالم دليلاً على شجب العنصرية.
إلاَّ أنَّ استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم ليس مُجرَّد غزو عسكري، بل هو دعوة عقائدية وأطروحة عادلة، يريد نشرها وتطبيقها على البشرية أجمعين، وتربية البشر على أساسها تربية صالحة؛ لتتحقَّق العبادة المحضة لله عزَّ وجلَّ على وجه الأرض، كما هو الغرض الأساسي من الخَلق ومن اليوم الموعود.

↑صفحة ٨١↑

والدعوة إذا كانت عالمية هذا الشكل، فإنَّها تكون مُنافية للعنصرية بالمرَّة؛ وذلك بعد الالتفات إلى مجموع أمرين:
الأمر الأول: إنَّ التطبيق الحقيقي للعدل والتربية العادلة، لا يمكن إتمامه إلاَّ بجوٍّ من الانسجام والتقبُّل النفسي للفرد والجماعة؛ لكي تترسَّخ القواعد الأساسية والسلوك الصالح في عالم الحياة، وأمَّا مع جوِّ الانزجار والتأفُّف والتباعد، فلا يمكن أن تنال البشرية مثل تلك النتائج الصالحة، ومن ثُمَّ لا يمكن تطبيق العبادة الكاملة على تلك الجماعة؛ فيكون مُخلاَّ ًبالغرض الأساسي لخَلق البشرية.
الأمر الثاني: إنَّ الاعتراف بالعنصرية بأيِّ شَكل من أشكالها، يعني أنَّ العنصر الآخر، الذي لم يُعترَف به من البشر، وقام النظام على الالتزام بتسافله وخسَّته أمام العنصر المُفضَّل، إنَّ هذا العنصر سوف يشعر بالغربة في ذلك النظام، وبالتعقيد النفسي والانزجار والتأفُّف تجاهه، بطبيعة الحال.
ونحن إذا لاحظنا العالم ككلّ، لم نجد أيَّ عنصر من العناصر التي يتبنَّاها العنصريُّون يُشكِّل أكثرية في العالم، وإنَّما يُشكِّل الأقلِّية على طول الخطِّ - وهذا يعني بكل وضوح - أنَّ الدولة العالمية لو تبنَّت أيَّ عنصر من العناصر، وفضَّلته على غيره، فإنَّها تتبنَّى مصالح الأقلِّية من شعبها، وتعتبر أكثريَّتهم من الجنس الأخسِّ الأدنى.
إذاً؛ فستحسُّ الأكثرية بالتعقُّد والانزجار تجاه تلك الدولة، بحكم كونهم محكومين بالخساسة والتسافُل في نظامها؛ وبالتالي ستتعذًَّر تربيتهم الصالحة المطلوبة، ويكون الغرض من أصل الخليقة مُتخلِّفاً وفاشلاً.
وباستحالة تخلُّف هذا الغرض، نعرف لزوم كون الدولة العالمية المهدوية سلبيَّة تجاه العناصر البشرية، وحيادية تجاه التفاضل بينها، ومُلْغِيَة لها كأساس للتفاضل تماماً... توصُّلاً إلى التربية العادلة للبشرية أجمعين
وقد يخطر في الذهن: إنَّ الفكر الحديث قد طوَّر مفهوم العنصرية، فقد أصبحت لا تعني تفضيل عنصر على عنصر، وإنَّما كل ما تعنيه هو الاهتمام بمصالح مجموعة مُعيَّنة مشتركة في اللغة والوطن، وغير ذلك، انطلاقاً من اشتراكها بالمصالح والتاريخ والآمال، وهذا لا يتضمَّن تفضيلاً لأحد.
وجواب ذلك: إنَّه بغضِّ النظر عن أنَّ هذا التطوير لا يخرج بالفكرة عن التحديد والأنانية، ومن ثُمَّ عن العناصر نفسها... بغضِّ النظر عن ذلك، فإنَّها أوضح بُعْدَاً

↑صفحة ٨٢↑

عن الفكرة العالمية المهدوية من العنصرية نفسها؛ لأنَّ المفروض فيها الاهتمام بمجموعة مُعيَّنة لا بمجموع البشر... ومن الواضح إلى حدِّ الضرورة أنَّ الدولة العالميَّة تهتمُّ بمصالح وتربية وآمال مجموع البشر، لا بمجموعة مُعيَّنة مهما كانت صفتها.
وقد يخطر في الذهن: أنَّ هذا الاتِّجاه لا يصحُّ في الدولة العالمية، ولكنَّها قد تُعطي للشعوب والعناصر المُختلفة الاهتمام بصفاتها تلك، من دون أن يكون للحُكم المركزي نفسه تركيز على جهة دون جهة.
وجواب ذلك: إنَّ هذا غير مُحتمل أيضاً؛ لمُخالفة هذا الاتِّجاه مع العدل الكامل من عدَّة جهات، أوضحها ما يحدث بين العناصر المُختلفة من التشاحن والتعاقد، نتيجةً لحُرِّيَّة التفاخر والتركيز العنصري... الأمر الذي يُنافي - كل المُنافات - مع العدل الكامل.
نعم، قد تبقى اتِّجاهات فرديَّة مُتفرِّقة، ناشئة من (لا شعور ما قبل الظهور) تتضمَّن الإحساس بأهمِّيَّة العنصر والطبقة... ولكنَّها تذوب تدريجياً تحت التربية المركَّزة والمُستمرَّة، التي تقوم بها الدولة العالمية طبقاً للأطروحة العادلة الكاملة.
المُستوى الثالث: الاستدلال بما وردنا من الأخبار الدالَّة على نفي العنصرية، وعلى وجود الفكرة المُنفتحة والمُتعادلة من هذه الناحية في دولة المهدي (ع).
وهي على أنحاء:
النحو الأول: ما دلَّ على أنَّ حُكم المهدي (ع) يكون قاسياً وشديداً على العرب... باعتبار فشل أكثرهم في التمحيص الإلهي حال الغيبة، وتقصيرهم تجاه الشريعة الإسلامية، فلو كان الإمام المهدي (ع) عنصرياً لكان يميل إلى أبناء لُغته، على كل حال.
والأخبار بذلك مُتظافرة لدى الفريقين:
فمنها: ما أخرجه البخاري(١١٧) عن زينب بنت جحش، أنَّها قالت: استيقظ النبي (ص) من النوم مُحمرَّاً وجهه يقول: (لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب...!) الحديث.
وتأسُّف النبي (ص) وتحذيره منصبٌّ على انحراف العرب وخروجهم على شريعته،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١١٧) انظر صحيح البخاري ج٩ ص٦٠.

↑صفحة ٨٣↑

بقرينة الحديث الذي يليه، والذي يقول فيه:
(فإنّي لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر).(١١٨)
ورواه الترمذي(١١٩) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجة في سُننه.(١٢٠)
وأخرج ابن ماجة،(١٢١) عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (ص): (تكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار، اللسان فيها أشدُّ من وقع السيف).
وفيه دلالة واضحة على فشل العرب في التمحيص، في عصر الفتن والانحراف خلال الغيبة الكبرى، وهو ما حدث فعلاً، وحيث نعلم موقف الإمام المهدي (ع) من كل فاشل في التمحيص - كما سيأتي مُفصَّلاً - نعرف موقفه من هؤلاء العرب الفاشلين.
ومنها: ما أخرجه النعماني في الغيبة:(١٢٢) عن أبي بصير، قال: قال أبو جعفر (ع): (يقوم القائم بأمر جديد، وكتاب جديد، وقضاء جديد، على العرب شديد، ليس شأنه إلاَّ السيف... ولا تأخذه في الله لومة لائم).
وفي حديث آخر،(١٢٣) عن أبي عبد الله (ع)، أنَّه قال: (إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلاَّ السيف...) الحديث.
إلى غير ذلك من الأحاديث، الدالَّة على أنَّ الميزان الصحيح في نظر القائد المهدي (ع) هو الإيمان والنجاح في التمحيص، وليس هو اللغة ولا القبلية، فهو لا يميل إلى أهل لغته (العرب) ولا إلى قبيلته (قريش) بل يأخذهم أخذاً شديداً نحو طاعة الله تعالى، ويُعاقبهم على ما سلف منهم من الذنوب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١١٨) المصدر والصفحة.
(١١٩) انظر الجامع الصحيح للترمذي ج٣ ص٣٢٥.
(١٢٠) انظر ج٢ ص١٣٠٥ منه.
(١٢١) المصدر ص١٣١٢.
(١٢٢) ص١٢٢.
(١٢٣) المصدر والصفحة.

↑صفحة ٨٤↑

وفي هذه أحاديث عديدة، اقتصرنا منها على مقدار النموذج.
النحو الثاني: ما دلَّ من الأخبار على أنَّ أصحابه المُمحَّصين الخاصِّين، الذين يجتمعون إليه، ويُحاربون بين يديه ليسوا من عنصر واحد، بل هم من مُختلَف بُلدان العالم.
فمن ذلك:
ما أخرجه الشيخ في الغيبة،(١٢٤) عن أبي بصير، عن عبد الله يقول فيه (ع) عن أصحاب القائم (ع): (فيتوافون من الآفاق ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، عدَّة أهل بدر).
أقول: وفيه دلالة على ورودهم إليه من مُختلف البلدان في العالم.
وما أخرجه النعماني في غيبته،(١٢٥) بإسناده عن علي (ع) يقول فيه: (ثمَّ يجتمعون قزعاً كقزع الخريف من القبائل، ما بين الواحد والاثنين، والثلاثة والأربعة، والخمسة والستَّة، والثمانية والتسعة والعشرة).
أقول: وهو نصٌّ في عدم التمييز بين القبائل والأنساب في أصحابه، وإنَّما الميزان هو عُمق الإخلاص وقوَّة الإيمان والإرادة.
وأخرج(١٢٦) في خبر آخر، عن الإمام الباقر (ع) وقال: (أصحاب القائم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، من أولاد العجم بعضهم).
أقول: والمراد بالعجم غير العرب لا خصوص الفرس، كما هو معروف في اللغة.
فليس الميزان هو اللغة والدم والعنصر، وإلاَّ لم يقبل المهدي (ع) القائم في أصحابه إلاَّ العرب، بل الميزان أمور أُخرى أوسع وأعمق.
النحو الثالث: ما دلَّ من الأخبار على مُشاركة غير العرب في حُكم العالم، وهداية الناس تحت ظلِّ دولة المهدي (ع).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٢٤) ص٢٨٤ وما بعدها.
(١٢٥) غيبة النعماني ص١٦٨.
(١٢٦) المصدر ص١٧٠.

↑صفحة ٨٥↑

فمن ذلك: ما رواه النعماني في غيبته، بسنده عن الأصبغ بن نباته قال: سمعت علياً (ع) يقول: (كأنِّي بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة، يُعلِّمون الناس القرآن، كما أُنزل).
أقول: وهذا إمَّا يحدث في دولة المهدي (ع)؛ لأنَّهم إنَّما يعلمون القرآن على أساس مُعانيه الواقعية، مأخوذة من الإمام المهدي (ع) نفسه، وإمَّا قبل ذلك، فهو مُتعذِّر بطبيعة الحال.
المستوى الرابع: في الاستدلال على موقف المهدي (ع) من العنصرية.
إنَّنا نضمُّ فكرتين اثنتين واضحتين، تُنتِجان نتيجةً واضحةً.
الفكرة الأُولى: إنَّ الإمام المهدي (ع) يسير بسيرة النبي (ص)، ويُطبِّق منهجه على المُجتمع والحياة، وهو ما سبق أن أقمنا عليه الدليل.
الفكرة الثانية: إنَّ سيرة النبي (ص) في أصحابه ومجتمعه، كانت بالضرورة على نفي العنصرية وشجبها بكل أشكالها، وإعلان عقيدة الإسلام ونظامه عاماً عالمياً لكل الناس، وقد جمع في أصحابه بين عبيد المُجتمع وأحراره، وبين عربه وعجمه، وبين مختلف القبائل، وراسل ملوك العالم في عصره يدعوهم إلى الإسلام، وكلُّهم لم يكونوا عرباً، وإنَّ أشهر أصحابه من غير العرب سلمان الفارسي، وبلال، وصهيب الحبشيان... وهناك الكثير وغيرهم.
وأودُّ بهذه المناسبة أن أروي ما أخرجه الترمذي،(١٢٧) عن أبي هريرة، قال: كنَّا عند رسول الله (ص) حين أُنزلت سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ...)،(١٢٨) قال له رجل: يا رسول الله، مَن هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟
فلم يُكلِّمه.
قال: وسلمان الفارسي فينا.
قال: فوضع رسول الله (ص) يده على سلمان، فقال: (والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثُّريَّا لتناوله رجل من هؤلاء).
قال الترمذي: هذا حديث حَسَن، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي (ص).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٢٧) انظر الجامع الصحيح: ج٥ ص٣٨٣.
(١٢٨) الجمعة: ٦٢/ ٣.

↑صفحة ٨٦↑

أقول: وهو يدلُّ - بوضوح - على مشاركة غير العرب بالإيمان العميق، عقيدة وتطبيقاً... إذا كان المراد جعل سلمان الفارسي (رض) مُمثِّلاً لهم، مع احتمال أن يكون المراد جعله مُمثِّلاً لمستوى معُيَّن في الإخلاص والتفكير، ويكون قوله (ص): (رجال من هؤلاء...). يعني مَن كان مُتَّصفاً بذلك المستوى.
وعلى أيِّ حال، فإنَّ المُلاحّظ أنَّ هذا الخبر غير دالٍّ بالمرَّة على أنَّ سلمان الفارسي من الآخرين الذين لم يلحقوا بهم، المذكورين في الآية الكريمة، بل هو دالٌّ على العكس، كما هو واضح لمَن يُفكِّر، وأمَّا السؤال عن معنى الآية، فقد أعرض النبي (ص) عن جوابه.
وعلى أيِّ حال، فما دامت دولة النبي (ص) خالية من العنصرية، إذاً فستكون دولة المهدي (ع) كذلك؛ لأنَّه يستنُّ بسنَّته، ويسير بسيرته.
الجهة الرابعة: نظام الدولة المهدوية، هل هو مُشابه لبعض الأنظمة السابقة عليه، كالرأسمالية والاشتراكية وغيرهما، أولا؟
والذي ينبغي الجزم به أساساً هو النفي المطلق، وأنَّ شيئاً من الأنظمة السابقة على الظهور، لا تصدق على نظام المهدي ولا تشمله.
والدليل الحسِّي التطبيقي، سوف لن يظهر، إلاَّ بعد الظهور، حين يتمُّ تطبيق نظام الإمام المهدي (ع) ودولته العالمية، ويكون في الإمكان مُقارنته بالأنظمة السابقة عليه مُقارنةً حسِّيَّة، وهذا لا يتمُّ في العصر الحاضر بطبيعة الحال.
ولكنَّنا نستطيع - طبقاً للأدلة التالية - الجزم بأنَّ نظام المهدي (ع) مُباين ومُغاير تماماً مع أيِّ نظام سابق عليه، وذلك باعتبار الأدلة التالية:
الدليل الأول: أنَّنا عرفنا أنَّ الإمام المهدي (ع) سوف يُطبِّق الإسلام، بصفته الأطروحة العادلة الكاملة... وقد تمَّ البرهان في بحوث الفكر الإسلامي على مغايرة نظام الإسلام لسائر الأنظمة الأُخرى، وأنَّه أطروحة مُستقلَّة لحلِّ مشاكل البشرية لا تمتُّ إلى الحلول الأُخرى بصِلَةٍ.
ولا مجال لسرد تلك الأدلة في هذا التاريخ - بطبيعة الحال - إلاَّ أنَّها تُنتِج بعد التسليم بصحتها مُغايرة نظام الإمام المهدي (ع) للأنظمة السابقة عليه... لأنَّ نظامه هو الإسلام المُغاير لتلك الأنظمة.

↑صفحة ٨٧↑

الدليل الثاني: إنَّنا ننطلق من فكرة الحديث النبوي المتواتر، القائل: (إنَّ المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلِئت ظلماً وجوراً...)، ننطلق منه إلى النتيجة المطلوبة، فإنَّنا قلنا - في تاريخ الغيبة الكبرى(١٢٩) -: إنَّ البشرية عامة والأمَّة الإسلامية خاصة، لا بدَّ أن تمرَّ بظروف صعبة وقاسية من الظلم والجور والانحراف... لكي تتمخَّض في نهاية المطاف عن عدد من المُخلصين المُمحَّصين، يكفي للقيام بمسؤولية الدولة المهدوية، ونتيجة لتلك الظروف (تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً)، وبجهود هؤلاء المُخلصين تحت قيادة الإمام المهدي (ع) (تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً).
وإذا تساءلنا عن أسباب هذه الظروف، تكشفت لنا خلال التاريخ المُعاصر والسابق، عن سلسلة مُتَّصلة ومُتواصلة من الأسباب الكبيرة... التي من أهمِّها أساليب الحُكم الفردي الدكتاتوري، التي مورست خلال التاريخ، وجود الكيان الرأسمالي الأوروبي - الأمريكي وما تبعه من الاستعمار بشكليه القديم والحديث - وما لاقى منه العالم بشكل عام، والأمَّة الإسلامية بشكل خاص من بلايا وأضرار، وكذلك مُحاولة فرض الحلول المُدعاة لمشاكل العالم على الشعوب عن طريق الغزو الفكري للعالم،(١٣٠) كما قامت به الشيوعية، وهي تُعلن إيمانها بحق تقرير المصير للشعوب، فيبدو موقفها مُتهافتاً غريباً.
ولئن كان الرأي العام العالمي، قد أُحيط علماً - بحسب التجربة التاريخية القاسية التي عاشوها - بالأضرار الناتجة عن الحُكم الفردي والاستعمار الرأسمالي، فإنَّ الأعوام الآتية كفيلة بكشف ما في النظام الشيوعي من هنات ونقاط ضعف، ومُنطلقاً من ذلك نستطيع أن نُعمِّم، ونقول: إنَّ أيَّ نظام وضعي بشري المولد، موجود قبل الظهور، يُمثِّل في واقعه أهمَّ أسباب الظلم والانحراف في العالم، إن كان بدوره ناتجاً عن ظلم وانحراف سابقين... ومعه فستكون المُهمَّة الرئيسية للإمام المهدي (ع) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، أن يقوم بتغيير هذه الأنظمة والقضاء على جذورها وتفاصيلها.
الدليل الثالث: إنَّ سائر الأنظمة والقوانين الوضعية، قائمة على المادية وإسقاط العنصر الإلهي عن نظر الاعتبار، إمَّا بالصراحة، كالشيوعية والوجودية، وبالخفاء كالرأسمالية، والفاشية، والنازية، والقوانين الرومانية، والجرمانية، ومُتفرَّعاتها الحديثة؛ فأنَّها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٢٩) انظر ص٢٤٦ وما بعدها.
(١٣٠) بل قامت الشيوعية بالغزو العسكري المُباشر، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٦٩ وفي إنغولا هذا العام أعني ١٩٧٦.

↑صفحة ٨٨↑

قائمة على أساس دنيوي مادِّي صرف، لا أثر للروح ولله تعالى فيه.
وقد علمنا أنَّ نظام المهدي (ع) سيقوم على ربط الإنسان بربِّه، وتربيته لجسمه وروحه، والربط بين هذه العناصر ربطاً عادلاً وعميقاً، وستكون كل القوانين المُطبَّقة قوانين إلهيَّة إسلامية، حتى إنَّ المهدي (ع) نفسه إنَّما يكون واجب الإطاعة باعتباره أحد أئمة المسلمين المخوَّلين من قِبل الله تعالى للحُكم والتقنين والتطبيق.
إذاً؛ فسوف لن يكون في دولة المهدي مجال للمادِّية بشكليها الصريح والخفي، وسوف يتمُّ القضاء عليها قضاء تامَّاً.
الدليل الرابع: الانطلاق من زاوية أُخرى من القواعد التي فهمناها عن فكرة المهدي... وقد أشرنا إليها في التاريخ السابق.(١٣١)
وهي: أنَّ التخطيط الإلهي قائم على اكتساح التمحيص الدقيق للأفراد والمبادئ، وبذلك ينكشف بشكل حسِّي مُبرهَن ومُدعم بالتجارب الكثيرة والمريرة، عن فشل كل دعوة تدِّعي لنفسها حلَّ مشاكل العالم وتذليل مصاعبه، حتى ما إذا انكشفت وبانَ زيفُها ونقاط الضعف فيها وأيَّست البشرية من أن تضع حلَّها لنفسها... انبثق الأمل في أنفسها من جديد إلى حلٍّ جديد ونظام جديد يُنقذها من وهْدَتِها، ويُخرجها من ورطتها، وهذا الأمل إحساس نفسي مُجمل، لا زال في طريق التربية في نفوس البشر، كما هو المحسوس الآن بالوجدان، ولا زالت الحوادث وما ينكشف من مساوئ الأنظمة والفلسفات الوضعية تؤيِّده وتدعمه.
وهو أمل مُجمل، لا يُشير - على التعيين - إلى الإسلام، وإلى نظام المهدي (ع)، ولكنَّ الله تعالى يكون قد أعدَّ لخلقه الإنقاذ الحقيقي والعدل الكامل، على يد القائد المهدي (ع) ومُخلصيه، فإذا رأت البشرية نظامه وعدله، فإنَّها ستؤمِن بكل وضوح بأفضليَّته على كلِّ التجارب والمُدَّعيات السابقة التي مرَّت بها، وأنَّه الحلُّ الأساسي الذي يُنقذها من ورطتها، وبالتالي هو الصورة الحقيقية لذلك الأمل المُجمل، وقد أُشير إلى هذا التخطيط في المصادر الخاصة، في بعض الأخبار، كالخبر الذي رواه الشيخ المفيد في الإرشاد،(١٣٢) والطبرسي في أعلام الورى،(١٣٣) والذي يقول فيه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٣١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٤٩ وما بعدها.
(١٣٢) انظر ص ٣٤٤.
(١٣٣) انظر ص ٤٣٢.

↑صفحة ٨٩↑

(إنَّ دولتنا آخر الدول، ولم يبقَ أهل بيت لهم دولة إلاَّ ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء، وهو قوله تعالى: (... وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)).
وليس المراد بحكم (... أهل بيت لهم دولة...) حُكم (الأُسَر) والقبائل، بل المراد بهم الجماعة الذين يتَّخذون أيدولوجية مُعيَّنة في دولتهم، بقرينة قوله في الحديث: (... إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء...)، فإنَّ مَن يقول ذلك إنَّما هم مثل تلك الجماعة، لا الحاكم القبلي، وهو يخلو حكمه من أيِّ هدف اجتماعي وعادل، بحيث لا يكون قابلاً للمُقارنة أساساً، وإنَّما عَبَّر الحديث الشريف بهذا التعبير بقانون: (كَلِّمْ الناس على قدر عقولهم).
وفي رواية أُخرى،(١٣٤) عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع)، وأنَّه قال: (ما يكون هذا الأمر - يعني دولة المهدي (ع) - حتى لا يبقى صنف من الناس إلاَّ وقد ولَّوا من الناس - يعني باشروا الحُكم فيهم - حتى لا يقول قائل: إنَّا لو ولِّينا لعدلنا. ثمَّ يقوم القائم بالحق والعدل).
أقول: لأنَّهم لو قالوا ذلك بعد ظهور القائم المهدي (ع) فإنَّ جوابهم يكون واضحاً، وهو: أنَّكم حكمتم وفُضِّلتم في حلِّ مشاكل العالم، بل كان حُكمكم وظلمكم من جملة مشاكله وويلاته.
إذاً؛ فالتخطيط قائم على كشف الحلول المُدَّعاة للعالم أمام الرأي العام العالمي، قبل تولِّي دولة العدل للحُكم ومُمارستها إيَّاه في الخارج... وإعطاء روح اليأس من تلك الحلول عالمياً، بشكل لا يؤمل معه وجود حلٍّ بشري جديد... كما هو المفهوم من الحصر الموجود في هذه الأخبار (... حتى لا يبقى صنف من الناس إلاَّ قد ولوا من الناس...)، المُستفاد من الاستثناء بعد النفي.
وهذا معناه - بكل بساطة وصراحة - تنافي نظام دولة المهدي (ع) مع النُّظُم السابقة، وقيامها على إنقاضها وبعد انكشاف زيفها وبطلانها، وهل من المُحتمل أن يتَّبع القائد المهدي - في دولة العدل المطلق - إحدى النُّظم التي بانَ زيفها وفشلها.
إذاً؛ فقد تبرهن عدم أخذ الإمام المهدي (ع) في دولته بشيء من النُّظم السابقة على ظهوره، واستغنائه بالعدل الإلهي المُعدُّ لتطبيقه في دولته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٣٤) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ٣٨٩ نقلاً عن غيبة النعماني.

↑صفحة ٩٠↑

وسوف يشعر الرأي العام العالمي - بكل وضوح - بهذا الاستغناء، فإنَّ مَن يتَّخذ أحد هذه المبادئ الحاضرة مذهباً له وطريقة في الحياة، يستهدف - لا محالة - إمَّا الهدف الشخصي في الحصول على المال والشهرة والسعادة، والهدف العام في الدفاع عن الفقراء والمُضطهَدين باعتقاده، وكلا هذين الهدفين يتحقَّق بأجلى مظاهره في دولة المهدي (ع)، على ما سمعناه مجملاً من كَثرة المال لدى كل الأفراد في عصره، وما سنسمعه من سائر التفاصيل في مُستقبل البحث.
إذاً؛ يكون بإمكان الهادفين في العالم أن يُحقِّقوا النتائج الجيِّدة، التي يعتقدونها لأهدافهم بنظام المهدي (ع)، ويتخلَّصوا - في نفس الوقت - من نقاط الضعف التي كانت فيها.
وبالنتيجة؛ فالعنوان العام لأيدولوجية دولة المهدي (ع) وهو الإسلام، بصفته النظام العادل الكامل، كما جاء به النبي الأعظم (ص)، ولا يمتُّ إلى النُّظم السابقة عليه بصِلَة.

↑صفحة ٩١↑

الفصل الخامس: التخطيط الإلهي لما بعد الظهور
كما يوجد لعصر ما قبل الظهور تخطيطه العام - وهو الذي شرحناه مُفصَّلاً في التاريخ السابق - يوجد لعصر ما بعد الظهور تخطيطه أيضاً.
وهذا القسم هو محلُّ الحديث الآن، فأنَّ التخطيط الإلهي العام لتكامل البشرية، لا يكون مُنقطعاً بحصول نتيجة التخطيط السابق، بل يكون مواكباً مع البشرية إلى نهايتها، بمقدار استحقاقها في وضعها العادل الجديد... وسيهدف عندئذ نتيجةً أبعد تمتُّ إلى عميق العدل والتربية البشرية بصِلَة.
فهذا التخطيط، وهو الامتداد الطبيعي السابق والموافق - أيضاً - للموازين الثابتة في الفلسفة الإسلامية القائلة: بأنَّ الله تعالى يُفيض نعمة الكمال على كلِّ موجود بقدر استحقاقه، فإذا كانت درجته من الكمال دانية كان استحقاقه مُنحصِراً في الرتبة الكمالية التي فوقها مباشرة، وإذا كانت درجة الموجود عالية في الكمال، كان استحقاقه لدرجة أعلى من الكمال مُتحقِّقاً، والله تعالى كريم مطلق، فيُفيض عليه الكمال الجديد، فإنَّه سيستحقُّ رُتبة أُخرى، وهكذا يسير في طريق الكمال اللا نهائي.
وإذا طبّقنا ذلك على محلِّ الكلام، نقول: إنَّ البشرية بعد اجتماع شرائط الظهور - طِبقاً للتخطيط السابق - تكون مُستحقَّةً لدرجة جديدة من الكمال، وهو تطبيق العدل الكامل فيها، بواسطة ظهور المهدي (ع).
وبتطبيق العدل تكون البشرية قد بلغت درجة أعلى من الكمال، تستحقُّ بعدها درجة أعلى، وهو عمق هذا العدل وترسُّخه، إلى أن تصل إلى استحقاق صفة (العصمة) حيث يوجد المجتمع المعصوم، كما سوف نُشير في مستقبل البحث.

↑صفحة ٩٣↑

وبهذا يتبرهن فلسفيَّاً ما بعد الظهور...
إلاَّ أنَّ إنتاج هذا التخطيط لنتائجه النهائية، منوط ببقاء البشرية مدَّة كافية من الدهر؛ لكي تتربَّى على عُمق العدل ورسوخه، ولكي نصل في نهاية المطاف إلى الكمال الإنساني الأعلى.
وأمَّا إذا انتهت حياة البشرية جميعها، وقامت القيامة خلال زمن قصير ينسدُّ باب الترقِّي والتكامل بطبيعة الحال.
ومن هنا ينفتح احتمالان:
الاحتمال الأول: قصر عمر البشرية بعد الظهور، وتَحقُّق اليوم الموعود.
الاحتمال الثاني: بقاء البشرية لفترة طويلة من الدهر بعد ذلك.
ولكل من الاحتمالين مرجِّحاته - على ما سنذكر - على حين لم يكن للاحتمال الأول وجود في التخطيط السابق، باعتبار ضرورة إنتاجه لليوم الموعود، وذلك لأكثر من دليل:
الدليل الأول: كونه وعداً إلهيَّاً، والله لا يُخلف الميعاد؛ وذلك في قوله (عزَّ وجلَّ): (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم...).(١٣٥)
الدليل الثاني: كونه غرضاً أصلياً في خَلق البشرية، ومن المُستحيل أن يزول الشيء من الكون قبل أن يستوفي غرضه، وقد سبق في التاريخ السابق(١٣٦) أن برهنَّا على كونه غرضاً، وسيأتي في الكتاب الآتي تركيزه بشكل أوسع وأعمق.
وهذا هو الذي أشارت إليه الأخبار من الفريقين.
فمنها: ما أخرجه النعماني في الغيبة،(١٣٧) بسنده إلى أبي هاشم الجعفري، قال: كنَّا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (ع)، فجرى ذِكْرُ السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره المحتوم. فقلت لأبي جعفر (ع): هل يبدو لله في المحتوم؟
قال: (نعم).
قلنا له: فنخاف أن يبدو في القائم.
فقال: (إن القائم من الميعاد، والله لا يُخالف الميعاد).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٣٥) النور: ٢٤/٥٥.
(١٣٦) تأريخ الغيبة الكبرى ص٢٢٥.
(١٣٧) ص١٤٢.

↑صفحة ٩٤↑

ومنها: ما أخرجه أبو داود،(١٣٨) عن زر، عن عبد الله، عن النبي (ص) قال: (لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً منِّي - ومن أهل بيتي - يواطئ اسمه اسمي...) الحديث.
وأخرج أيضاً،(١٣٩) عن علي (ع)، عن النبي (ص): (قال: لو لم يبقَ من الدهر إلاَّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي...) الحديث.
وهذه التأكيدات في الأخبار كثيرة ومُتضافرة، وكلّها دالّة على ضرورة تمخُّض التخطيط الإلهي السابق عن وجود اليوم الموعود، وعدم فناء البشرية قبله.
وأمَّا بالنسبة إلى التخطيط الموجود بعد الظهور، حيث يكون الوعد قد تحقَّق، والغرض الأساسي من خلق البشرية قد أُنجِز، فقد يبدو أنَّه لا حاجة لبقاء البشرية بعد ذلك، ولا دليل عليه.
وستأتي مُناقشة ذلك مُفصَّلة في القسم الثالث من هذا التاريخ، غير أنَّ الصحيح هو طول عمر البشرية؛ لأجل دليلين رئيسين:
الدليل الأول: أنَّنا فهمنا في التاريخ السابق(١٤٠) من قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ...)(١٤١)، فهمنا: أنَّ الغرض الأساسي من خَلق البشرية هو إيجاد العبادة الكاملة في ربوعها، وفهمنا هناك(١٤٢) من العبادة الكاملة وجود المجتمع الصالح، والدولة العالمية الصالحة.
فلو أنَّنا اقتصرنا على هذا المقدار من الفَهْم، لكان الغرض من خَلق البشرية مُتحقِّقاً بمُجرَّد تأسيس المهدي (ع) لدولته العالمية العادلة، ومعه؛ فقد يخطر في الذهن: أنَّ المقصود هو إيجاد هذا النوع العالي من العبادة، ولو في فترة قصيرة من الزمن، فلا بقى أيُّ دليل على استمرار البشرية بعد ذلك ردحاً طويلاً من الزمن، إن لم يكن ذلك مُستحيلاً؛ لأنَّ بقاء الشيء بعد استيفاء لأغراضه مُحال في الحكمة المُطلقة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٣٨) ج٢ ص٤٢.
(١٣٩) المصدر والصفحة.
(١٤٠) تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٣٥.
(١٤١) الذاريات: ٥١/٥٦.
(١٤٢) ص٢٢٤.

↑صفحة ٩٥↑

لكنَّنا نريد في هذا الدليل أن نخطو خطوةً جديدةً في فهم هذه الآية، وهي: إنَّ المعنى الذي ذكرناه للعبادة، وإن كان مُهمَّاً ورئيسياً جدَّاً... إلاَّ أنَّه ليس نهائياً بحال، بل هناك مراتب أعلى من العبادة، تكون تلك المرتبة الأُولى مقدِّمة لها، وإعداداً لإيجادها، وكلُّها مُمكنة الحصول من البشريَّة، واتِّصفاها بها في المدى الطويل، كما سيتَّضح عند استعراضها.
وبطبيعة الحال، كما تصوَّرنا مرتبة من العبادة مُمكنة للبشرية، كانت مُندرجة في مدلول الآية الكريمة، لعدم وضع الآية أيَّ تحديد على مفهوم العبادة، فيكون إيرادها مُطلقة، دليلاً على إيراد العبادة المطلقة.
إذاً؛ فالغرض الأساسي من خلق البشرية أبعد بكثير من مُجرَّد وجود الدولة العالمية، وإنَّما وجِدت هذه الدولة العظيمة، وخُطِّطَ لها في تاريخ البشرية الطويل، من أجل هدف أعلى وأمامها، ويكفينا الآن أن نُعبِّر عنه بـ(العبادة المطلقة) لخالق الكون، حتى يأتي في مُستقبل البحث ما يُلقي الأضواء الكافية على هذا المفهوم.
إذاً؛ فوجود الدولة العالمية، لا يعني نَجاز الغرض الأقصى من خلق البشرية، وتحقُّقه في عالم الوجود، بل هو لم يوجد بتأسيس هذه الدولة، ولا زال أمام البشرية الكثير لكي تصل إليه.
إذاً؛ فلا معنى لقُصر عُمر البشرية بعد تأسيس هذه الدولة، بل لا بدَّ أن تبقى حتى تستوفي غرضها الأعمق؛ إذ يستحيل تخلُّف الأغراض في الحكمة الإلهية الأزلية.
الدليل الثاني: أنَّه يُستبعد أن يكون زمان النتيجة أقصر بكثير من زمان المُقدِّمات.
فإنَّنا عرفنا كم من الزمان يستغرق إعداد البشرية لليوم الموعود... وهو كل عمرها منذ أول وجودها إلى حين نَجاز ذلك اليوم العظيم، وهو ما لا يقلُّ عن عِدَّة الآف من السنين، إن لم يكن أكثر من ذلك، كما عليه أنصار الفكر الحديث، وقد استوعبت هذه المدَّة ملايين الحوادث من تضحيات البشرية وآلامها ومظالمها، ومن جهود الأنبياء والأولياء والمصلحين والشهداء، ومن ظروف التمحيص الإلهي، وما أدَّته البشرية من خيرات، وما ارتكبته من جرائم، فإنَّ كل ذلك، كان مُقدِّمة لليوم الموعود، وإعداداً لحصول شرائطه المطلوبة التي لا يمكن تحقُّقه بدونه، كما عرفنا من التخطيط الإلهي السابق على الظهور.
وقد عرضنا ذلك في التاريخ السابق مُفصَّلاً.(١٤٣)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٤٣) انظر الفصل الخاص بالتخطيط الإلهي ص٢٣٣.

↑صفحة ٩٦↑

فهل من المعقول أن تستمرَّ المقدَّمات آلافاً من السنين، ثمَّ لا تكون النتيجة غير تسع سنوات وأقلَّ، كما تدَّعي الفكرة التقليدية، إنَّ هذا في غاية البُعد بحكم العقل؛ فإنَّه يعني بكل وضوح استخدام الأجيال البشرية المُتطاولة في سبيل إسعاد جيل ونصف جيل!! إنَّ هذا قبيح عقلاً ومُستحيل في الحكمة المطلقة الأزلية.
وتبقى هذه الاستحالة سارية المفعول، ما لم تصل النتائج - أعني أجيال ما بعد الظهور - إلى حدٍّ من الكثرة، بحيث تكون التضحية بالأجيال السابقة في سبيلها، من قبيل التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة، وبالمصلحة القليلة في سبيل المصلحة الكبيرة، فليكن القارئ مُتذكِّراً لذلك، حتى يأتي موضع الحاجة منه وإيضاحه.
وإذا تمَّ البرهان على طول عمر البشرية بعد الظهور، وعدم وصولها إلى هدفها الأسمى بمُجرَّد حصوله.
إذاً؛ فمن اللازم التخطيط لهذا الهدف خلال هذا العمر، إذ لا يوجد شيء مُهمل في هذا الكون، ولا بدَّ من إعداد البشرية بالشكل الذي يُمكنها الوصول إلى ذلك الهدف، كما كانت قد أُعدَّت للتشرُّف بلقاء اليوم الموعود.
ومعه؛ يكون قد تبرهن هذا التخطيط وثبت ثبوتاً كاملاً، ولا بدَّ لنا فيما يلي أن نُعطي المؤدَّى العام لهذا التخطيط، فنتعرَّف على صياغته وخطواته، كما تعرَّفنا على صياغة وخطوات التخطيط السابق عليه.
ما بين التخطيطن:
إذا كان المقصود من التخطيط الإلهي السابق، هو التوصُّل إلى ظهور المهدي (ع) وحسب.
إذاً، يكون هذا التخطيط مُنتهياً في لحظة الظهور.
إلاَّ أنَّ التخطيط الجديد سوف لن يبدأ بلحظة الظهور بطبيعة الحال؛ لأنَّ تخطيط للعالم الذي تمَّ فيه تطبيق العدل للسير باتِّجاه (العبادة المطلقة)، وهذا التطبيق لا يتمُّ في اللحظة الأُولى... بل يحتاج إلى جهود عميقة وواسعة من قِبَل القائد المهدي (ع) وأصحابه المُخلصين، في غزو العالم عسكرياً وثقافياً، والسيطرة عليه تماماً، فإذا تمَّت وأثمرت هذه الجهود، يكون التخطيط قد بدأ.
ومن ثُمَّ نواجه في فَهْم الموقف ثلاث أُطروحات مُحتملة:
الأُطروحة الأُولى: أنَّ هناك ما بين التخطيطين، فترة من الزمن محدودة، ذات تخطيط خاص بها، يستهدف سيطرة القائد المهدي (ع) على العالم، واستتباب الدولة العالمية

↑صفحة ٩٧↑

العادلة...
حتى ما إذا أثمرت جهوده، وتمَّ تطبيق العدل الكامل على العالم، كان أول يوم لذلك، وأول يوم لتطبيق العام الجديد.
الأُطروحة الثانية: إنَّ الأُطروحة الأُولى لا تخلو من تسامح في التصوُّر؛ فإنَّ ظهور الإمام المهدي (ع) لم يُخطَّط لإيجاده بمُجرَّده، بل خُطِّط له من أجل تأسيس الدولة العالمية العادلة، وقد كانت شرائط الظهور التي عرفناها، وبرهنَّا عليها في التاريخ السابق.(١٤٤)
شرائط لهذا الهدف... وإنَّما كانت شرائط للظهور نفسه، باعتبار كونه المُقدّمة الرئيسية الأخيرة له أيضاً.
إذاً؛ فإنتاج التخطيط السابق كاملاً لا يكون إلاَّ بتأسيس الدولة العالمية، ومعه تكون جهود الإمام المهدي (ع) وأصحابه للسيطرة على العالم داخلة في التخطيط السابق نفسه، باعتبارها الحلقة الأخيرة لهذه النتيجة الكبيرة
فإذا تمَّ تطبيق العدل وتأسيس الدولة العادلة، يكون التخطيط السابق قد انتهى.
وبلحظة البدء بتطبيق العدل تكون بداية التخطيط الثاني، ولا يكون بين التخطيطين فاصل زماني ملموس.
الأُطروحة الثالثة: إنَّ فترة السيطرة على العالم بالعدل والجهود المبذولة في هذا السبيل، داخلة في التخطيط الجديد، لا في التخطيط السابق.
وذلك بأن نفترض أنَّ الهدف من التخطيط السابق هو الظهور نفسه، بصفته كاشفاً عن القائد العالمي المؤسِّس لدولة العدل الكبرى، بهذا ينتهي هذا التخطيط عند الظهور، ولا معنى لبقائه بعد تحقُّق نتيجته.
ويبدأ التخطيط الجديد من حين الظهور فصاعداً، وتكون فترة السيطرة على العالم بالعدل مُندرجة فيه، باعتبارها مُقدِّمة لهدفه، فإنَّه يستهدف إيجاد (العبادة المطلقة) في ربوع البشرية، وهذا الهدف يحتاج إلى مُقدِّمته الرئيسية، وهي إيجاد الدولة العالمية العادلة، وهذه الدولة تحتاج إلى السيطرة على العالم بطبيعة الحال في أول تأسيسها، ومن هنا تكون الجهود المبذولة في هذه السيطرة واقعة في هدف التخطيط الثاني، فتكون مندرجة فيه. وبالرغم من أنَّ ما عرضناه خلال الأطروحة الثانية كافٍ للقول: بأنَّها هي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٤٤) تأريخ الغيبة الكبرى ص٤٧٦ وما بعدها.

↑صفحة ٩٨↑

الصحيحة، وإلاَّ أنَّ نتيجة هذا البحث تبدو وكأنَّها مجرد اصطلاح؛ فإنَّه سواء كانت فترة السيطرة على العالم بالعدل مُندرجة في التخطيط السابق أم في التخطيط اللاحق، فإنَّها واقعة في خطِّ تكامل البشرية العام الذي لا بدَّ منه باستمرار، وإنَّما عقدنا هذا البحث لأجل إيضاح جوانب الفكرة لا أكثر.

↑صفحة ٩٩↑

الأُسُس العامة لتخطيط ما بعد الظهور
إذا أردنا التعرُّف على أُسس وتفاصيل التخطيط العام لما بعد الظهور، لا بدَّ لنا من التفاتة إلى ما سبق أن قلناه في التمهيد، من أنَّه يتعذَّر على الباحث الذي يعيش الفترة السابقة على الظهور أن يُدرك العُمق الحقيقي للاتِّجاهات القانونية والفكرية العميقة، التي تكون سائدة بعد الظهور، وعند تطبيق العدل الكامل على العالم.
ومن هنا؛ ينبغي أن تبقى التفاصيل والتفريعات مصونة في الغيب إلى حين تحقُّقها، وإنَّما غاية جُهد الباحث أن يُدرك الخطوط العريضة، والقضايا العامَّة المهمَّة التي يمكن الاطِّلاع عليها في حدود الثقافة الإسلامية الموجودة في العصر الحاضر.
وبذلك نعرف إحدى نقاط الاختلاف بين التخطيطين، فإنَّ التخطيط الإلهي السابق مُتَّخذ للسير بالبشرية الماضية والحاضرة إلى نتائجها المطلوبة...
وبتعبير أوضح: أنَّنا - بحسب وجودنا في هذا الزمن - نعيش التخطيط الساري المفعول فيه.
ومن هنا يكون اطِّلاعنا على تفاصيل هذا التخطيط مُمكناً ومتيسِّراً إلى حدٍّ كبير، عن طريق القواعد العامة المعروفة، وعن طريق ما هو مُشاهد بالوجدان ممَّا قد تحقَّق من حلقاته وتفاصيله، كما سبق أن عرضنا ذلك مُفصَّلاً في التاريخ السابق.
وأمَّا تخطيط ما بعد الظهور، فيحتوي على عدِّة نقاط ضعف في التعرُّف عليه:
أولاً: بُعْدنا الزماني عنه، بحيث لا يمكن مُشاهدته بالوجدان، ولا أن يصل منه شاهد عيان.
ثانياً: إنَّنا نقتصر - في الغالب - في التعرُّف عليه على القواعد العامة، وهي لا تُعطي إلاَّ العموميات، ولا يمكنها الوصول إلى التفاصيل.
ثالثاً: إنَّنا نجهل القوانين الجديدة والنُّظم التي ستكون مُعلنة في ذلك العصر، الأمر

↑صفحة ١٠٠↑

الذي يوفِّر لنا طريقاً سهلاً، في معرفة التخطيط لو كان مُتوفِّراً، إلى غير ذلك، ممَّا يحدونا إلى الكفكفة من غلواء البحث، والاقتصار في النتائج على مقدار الإمكان.
والكلام في ذلك يقع ضمن جهات ثلاث:
الجهة الأُولى: في الخصائص العامة للمجتمع الذي ينطلق منه التخطيط، وهو المجتمع العالمي الذي يتمُّ فيه حُكم الإمام المهدي (ع) وتطبيق العدل الكامل لأوَّل مرَّة.
وإزالة العوائق التي يُمكن أن تُشكِّل خطراً عليه، وليس معناه صياغة كل نفوس الأفراد صياغة إسلامية عادلة كاملة لأول وهْلَة.
إنَّ المهدي (ع) سيقتل عدداً كبيراً من الأفراد ممَّن فشل في التمحيص الموجود في التخطيط الإلهي السابق، وأصبح يُشكِّل خطراً على العدل الكامل في المجتمع الجديد، على ما سيأتي تفصيله... ولكن سيبقى مع ذلك عدَّة فجوات ونقاط ضعف في العالم - يكون على التخطيط الجديد بشكل عام، وعلى المهدي (ع) بشكل خاص، ملؤها وتذليل مصاعبها، ممَّا لا يؤثِّر فيه الفتح العسكري عادة -:
النقطة الأُولى: وجود أهل الذمَّة، وهم الشعوب التي تؤمِن بالأنبياء السابقين على الإسلام، وسيُسمح لها - بمقتضى القواعد الإسلامية المعروفة الآن - البقاء على دينها مع دفع الجزية... ويكون لها أن تدخل في دين الإسلام طواعية.
النقطة الثانية: وجود المذاهب المُتعدِّدة من مُعتنقي الإسلام، ممَّن لا يُظهرون مُعارضةً للنظام الجديد.
النقطة الثالثة: نقص الثقافة الإسلامية العامة، بالنسبة إلى العالم الذي يواجه قوانين الإسلام لأول مرَّة، وهي الشعوب التي كانت كافرة قبل الظهور، ورضيت بالإسلام ديناً بعده.
النقطة الرابعة: نقص الثقافة الإسلامية العامة، في الأمَّة الإسلامية نفسها؛ نتيجة لبُعدها عن الإسلام في عصور الفتن والانحراف.
النقطة الخامسة: نقص الثقافة الإسلامية في الأمَّة خاصة وفي البشرية عامة،

↑صفحة ١٠١↑

بالنسبة إلى القوانين الجديدة التي يُصدرها القائد المهدي (ع)، والأفكار العميقة التي يُعلنها، ريثما يتمُّ إعلانها وتوضيحها للناس.
النقطة السادسة: نقص الإخلاص وقوَّة الإرادة لدى الأعمِّ الأغلب من المسلمين، فإنَّ غاية ما تمخَّض عنه التخطيط الإلهي الأول، هو وجود الإخلاص العميق لدى جماعة من المسلمين، ولم يؤثِّر - بطبيعة الحال - نفس الأثر في مجموعهم، كيف وإنَّ الأرض امتلأت ظلماً وجوراً؟!
فهذه أهمُّ نقاط الضعف من الناحية الدينية، التي يزخر بها المجتمع الذي يواجهه المهدي (ع) لأول وهْلَةٍ، وهي النقاط الأهمُّ تأثيراً في بناء الدولة العالمية، باعتبار ما عرفناه، من أنَّ الإسلام هو الأُطروحة العادلة الكاملة، التي يقوم الإمام المهدي (ع) بتطبيقها، والأُمَّة الإسلامية هي الأمَّة الرائدة في خِضَمِّ تلك الجهود البانية للدولة، فأيُّ صعوبة في هذه الأمَّة تعني الصعوبة في نيل الهدف أيضاً.
وأمَّا الصعوبات (الدنيوية) - لو صحَّ هذا التعبير - وأعني بها الصعوبات ونقاط الضعف الموجودة في الاتِّجاهات غير الدينية، وما أنتجته الناديَّة والعلمانيَّة من ويلات في العالم، فهي أكثر من أن تُذْكر وتُحْصَر.
وإذ يواجه نظام الإمام المهدي (ع) كل هذه المصاعب، سيكون مسؤولاً عن اتِّخاذ الخطوات الحاسمة اللازمة لحلِّ كل مشكلة وتذليل كل عقبة، وسيكون على مستوى المسؤولية، بعد أن كان مُتدرِّعاً بالسلاح ومُتذرِّعاً بالإخلاص، ومُنطلقاً من الأطروحة العادلة الكاملة، ومُتَّصفاً بصفات شخصية عُلْيَا، حاولنا أن نحمل عنها فكرة في التاريخ السابق(١٤٥) الأمر الذي قلنا: إنَّه يُيسِّر له القيادة والتطبيق العادل في اليوم الموعود.
الجهة الثانية: يستهدف هذا التخطيط الثاني، الكمال الإنساني الأعلى للبشر، في الحدود المُمكنة له على هذه الأرض، فهو يوفِّر الأرضية الكافية لتكامل الإنسان إلى غاية ما يمكن أن يحصل عليه من الكمال... حتى يكون بالتدريج البطيء في إمكان الفرد أن يكون معصوماً، وأن يتكامل في عصمته.(١٤٦)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٤٥) انظر: من صفحة ٥٠٤ إلى ص٥٢٠.
(١٤٦) أعني من العصمة ما يُسمَّى بـ (العصمة غير الواجبة)، وهي التي ينعدم فيها احتمال الظلم والعصيان دون الخطأ والنسيان، وسيأتي إيضاحه في الكتاب الآتي، وأمَّا التكامل فيما بعد العصمة، فقد برهنَّا من التاريخ السابق على إمكانه.

↑صفحة ١٠٢↑

وليس معنى ذلك أنَّ البشر جميعاً يكونون لأول وهْلَة، على هذا المستوى العالي، بل معناه توفير الطريق لأن ينال كل فرد من هذا الهدف بمقدار قابليَّاته الشخصية، وبمقدار ما يؤدِّي من إطاعة وتضحيات في سبيل الحق والعدل.
وهو من هذه الناحية يُشبه ما رأيناه في التخطيط السابق على الظهور، فإنَّه كان يستهدف - فيما يستهدف إليه - تعميق الثقافة الإسلامية في الأمَّة،(١٤٧) وتقوية الإرادة الإيمانية تجاه المشاكل، وقد رأينا كيف يأخذ الناس من هذه الأهداف بمقدار قابليَّاتهم ومقدار ما يؤدُّونه من تضحيات، وكيف يُنتج هذا التخطيط تكاملهم التدريجي البطيء.
غير أنَّ هذا التخطيط الجديد يختلف عن سابقه في نتيجته، فإنَّه بينما رأينا في التخطيط السابق أنَّه لم يتَّصف بالنجاح الحقيقي خلاله إلاَّ عدد قليل نسبيَّاً، فإنَّ هذا التخطيط الجديد سيشمل بالنجاح أكثر الأفراد، وسيصل في المدى البعيد كل الأفراد إلى المستوى المطلوب، بالتدريج البطيء.
وسيأتي في مستقبل هذا البحث أنَّ المجتمع البشري، نتيجة للتدابير الآتية التي تضعها الدولة العالمية، سيمرُّ بمرحلتين من العصمة:
المرحلة الأُولى: أن يكون الأفراد غير معصومين، ولكنَّ الرأي العام المُتَّفق عليه بينهم معصوماً، وقد أشرنا في التاريخ السابق(١٤٨) إلى ذلك مُختصراً، وسيأتي في مُستقبل البحث ما يزيده إيضاحاً.
المرحلة الثانية: أن يكون كل الأفراد معصومين... بتلك العصمة القائمة على أساس العدل الكامل مفاهيميَّاً وتشريعيَّاً، الذي كان ولا زال - في تلك الفترة - مُطبقَّاً منذ عهد بعيد، وسيأتي ما يوضِّح ذلك أيضاً.
الجهة الثالثة: في التعرُّف على تفاصيل التخطيط الإلهي العام لما بعد الظهور وأُسسه العامة بمقدار الإمكان، تلك التفاصيل والأُسس التي يُمكنها أن تُحوِّل المجتمع الذي عرفنا نقاط ضعفه في الجهة الأُولى، إلى الصفات الكبرى التي حملنا عنها فكرة كافية في الجهة الثانية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٤٧) يسير هذا العُمق إلى جنب الشعور الديني... ومن هنا لم يكن وجود هذا العُمق في الثقافة الإسلامية لدى عدد كبير في الأُمَّة، مُنافياً مع وجود الضحالة من هذه الجهة لدى عدد كبير أيضاً، كما أشرنا غير بعيد، في النقطة الثالثة من نقاط الضعف.
(١٤٨) تاريخ الغيبة الكبرى ص٤٨١.

↑صفحة ١٠٣↑

ونحن إذ نتحدَّث عن هذه الأُسس، إنَّما نتحدَّث عمَّا يمكن أن يكون كذلك في الفترة الأُولى للدولة العالمية، وهي التي تسبق المجتكع المعصوم بكلا قسميه، فإنَّ هذا أقرب إلى إمكان التعرُّف عليه من تلك المجتمعات العُلْيَا المُتأخِّرة، فإنَّنا سبق أن أكَّدنا عجز الباحث عن إدراك العُمق الحقيقي للفكر والتشريع لما بعد الظهور، وهذا ثابت منذ تأسيس الدولة العالمية، فضلاً عن المجتمعات المعصومة.
إذاً؛ فليس لنا أن نعرف عن المجتمعات المعصومة شيئاً مُفصَّلاً.
وما يمكن لنا الآن تصوُّره ولإثباته بالقواعد العامة، من الأُسس لتلك الفترة. ما يلي:
الأساس الأول: تربية العالم ثقافياً من جهة الإسلام الواقعي، والعدل الكامل الذي يقوم عليه نظام المهدي (ع) في دولته العالمية.
ويُعطي من ذلك لكل فرد ولكل شعب ما يحتاجه من أساليب التثقيف ومقداره، بشكل تدريجي وعلى مراحل، وكلَّما طويت مرحلة، استحقَّ الفرد والجماعة مرحلة جديدة من الثقافة.
فالشعوب غير المسلمة، سوف تُدْعى إلى الإسلام، وسوف يعتنقونه باقتناع وسهولة؛ نتيجة للأسباب التي سوف نذكرها بعد ذلك، وكل مَن أسلم من جديد وهو مُسلم سلفاً سوف يُربَّى على الثقافة الإسلامية العامة الضرورية لوجود الطاعة والابتعاد عن المعصية، إن لم يكن قد نال ذلك نتيجة للتخطيط الإلهي السابق.
وكل مَن تربَّى إلى هذه الدرجة، فإنَّه يُعطى الثقافة التي تؤهِّله استيعاب الأفكار والمفاهيم والقوانين الجديدة التي تُعلن في ذلك العهد، طبقاً للمصالح الموجودة يومئذ.
ثمَّ يبدأ التصاعد والتكامل الثقافي من هذه الدرجة أيضاً، ويأخذ كل فرد من البشر من ذلك بقدر قابليَّاته وجهوده أيضاً.
ولئن كانت المراحل الأُولى والأُسس الرئيسية من هذا التثقيف، سيُنجزها الإمام المهدي (ع) بسهولة وسرعة، على ما سوف نسمع في هذا التاريخ، إلاَّ أنَّ المراحل المُتأخِّرة التي تُعتبَر تفريعاً وتطبيقاً للأُسس، سوف تكون تدريجية وبطيئة، طبقاً لتربية كل أُمَّة.
الأساس الثاني: تربية البشرية من حيث الإخلاص وقوَّة الإرادة تجاه المسؤوليات الجديدة في دولة العدل.
ويكون الأُسلوب العام في ذلك مُشابهاً في الفكرة للأُسلوب الذي كان متَّخذاً في

↑صفحة ١٠٤↑

التخطيط الأول، وهو مرور الفرد بمصاعب وعقبات تجاه العدل، ليرى موقفه منها وردَّ فعله تجاهها، فإن وقف موقفاً إسلامياً عادلاً كان ناجحاً في هذا التمحيص، وإلاَّ كان فاشلاً.
لكن يختلف سبب التمحيص في التخطيط السابق عنه في هذا التخطيط الجديد، فإنَّنا قلنا في التخطيط الأول: إنَّ ظروف الظلم والانحراف كافية في التمحيص، من حيثُ ردِّ الفعل الإسلامي الصحيح من الفرد تجاهها، وأمَّا التخطيط الثاني، فسوف لن يكون لعصور الظلم وظروف الفساد أيُّ أثر، وإنَّما ينبثق التمحيص في العهد الجديد من المسؤوليَّات التي يفرضها التمسُّك بالعدل الكامل وتطبيقه، والمحافظة على بقائه في علاقة الفرد مع نفسه ومع ربِّه ومع الآخرين ومع النظام القائم... تلك العلاقات التي يتوقَّع من الفرد خلالها ردَّ فعل إسلامي عادل كامل.
وسوف يكون التمحيص شاملاً لكل فرد بمقدار قابليَّاته وثقافته؛ لأنَّه يتناسب دائماً مع ارتفاع الثقافة تناسباً طردياً مُطِّرداً... إذ يقبح على الله (عزَّ وجلَّ) أن يوفِّر للفرد امتحاناً وتمحيصاً يكون الفرد فيه فاشلاً باليقين، فإنَّ ذلك خلاف العدل الإلهي، وإنَّما يكون التمحيص على مقدار الثقافة والقابلية دائماً، حتى ما إذا وصلت الثقافة قمَّة عالية، كان التمحيص في غاية الدقَّة والصعوبة، وكان النجاح المتوقَّع منها نجاحاً مناسباً لتلك المرتبة، والفشل الصادر فيها مُسجَّلاً بأدقِّ الموازين وبأهون العثرات.
وقد وردت في أخبار - المصادر الخاصة - نماذج التمحيصات التي يقوم بها المهدي (ع) في الفترة الأُولى من عهده، تجاه الأمَّة عامة، وتجاه أصحابه الخاصَّين ممَّن نجحوا في تمحيص التخطيط الأول خاصة، على ما سوف نعرف تفصيله في ما يأتي.
وقد يخطر في الذهن: إنَّه ما الحاجة إلى التمحيص في التخطيط الإلهي الجديد، وإنَّما كانت الحاجة في التخطيط السابق إلى التمحيص، لإيجاد العدد الكافي من أفراد الجيش الفاتح للعالم بين يدي المهدي (ع)، وقد أنْجَزَ هذا الجيش عمله وانتفت الحاجة إلى مثله، فلماذا يستمرُّ التمحيص ساري المفعول في البشر؟
وجواب ذلك: أنَّ ناموس الله في خلقه هو تربيتهم عن طريق التمحيص، كما دلَّ عليه الكتاب الكريم في عدد من آياته، والسنَّة الشريفة، منها، قوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...).(١٤٩)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٤٩) آل عمران: ٣/١٧٩.

↑صفحة ١٠٥↑

فإنَّه قانون عام لاختبار طاعة الأفراد في عصر ما قبل التمحيص... وهو كل عصر يواجه فيه الناس دعوة جديدة وتربية جديدة لم تُختبَر مواقفهم تجاهها، ولم تُعرَف ردود فعلهم حيال المشاكل التي تعترضها، فلا بدَّ أن تمرَّ الأُمَّة المسلمة خلال هذا القانون؛ ليكون له الأثر الفعَّال في تربية الأفراد وتعميق إخلاصهم وتقوية إرادتهم تجاه المشاكل، وبذلك يتميَّز الخبيث من الطيِّب، ويُعرف مَن يكون له موقف إسلامي صحيح تجاه المصاعب والعقبات، ومَن يكون ذا موقف مُنحرِف باطل، وهذا مَيْز واقعي بين الأفراد يمتُّ إلى اختلاف قابليَّاتهم ومُسبقاتهم الفكرية والعقلية والنفسية بصِلَةٍ... قبل أن يكون مُجرَّد انكشاف لدى الآخرين.
وقد سمعنا كيف أنَّ هذا القانون، كان شاملاً لدعوات الأنبياء السابقين على الإسلام، ومشاركاً في تربيتهم مشاركةً فعَّالةً، وقد شرحناه في التاريخ السابق(١٥٠) وقلنا:(١٥١) إنَّ الحاجة - مع ذلك - تعنُّ إلى سريان قانون التمحيص إلى ما بعد الإسلام؛ لتتربَّى البشرية طبقاً لمفاهيم وتشريع الأطروحة العادلة الكاملة.
وكما واجه المجتمع المؤمن دعوة جديدة في صدر الإسلام، فكان مُقتضى هذا القانون تمحيص الأفراد على أساسه، خلال تربية الأجيال تربية بطيئة وطويلة، وهذا هو التمحيص الساري في تخطيط ما قبل الظهور، كذلك سوف يواجه المجتمع المؤمن والبشرية جمعاء دعوةً إسلاميةً جديدةً، بعد اندراس الإسلام وعوده غريباً، ونسيان وعصيان الكثير من أحكامه، وسيواجه في هذه الدعوة الجديدة نظاماً وقوانين ومفاهيم، لم يكن له بها سابق عهد مضافاً إلى القواعد الإسلامية السابقة.
ومن هنا يكون المجتمع بالنسبة إلى هذه الدعوة الجديدة، مجتمع ما قبل التمحيص، ويحتاج بمقتضى هذا القانون الشامل إلى أن يمرَّ بعصر التمحيص خلال تربية طويلة وبطيئة، لتتميَّز مواقف الناس تجاه النظام الجديد والدعوات الجديدة، ويأخذ كل فرد على قدر قابليَّاته وجهوده من النجاح والتكامل خلال التمحيص، ما يستطيع.
وبينما كان التمحيص السابق يُنتج فشل الأعم الأغلب من البشر - كما عرفنا - فإنَّ هذا التمحيص وبصفته مُدعَماً بالأُسس، التي سنعرفها، ينتج نجاح الأعم الأغلب من البشر، وسيكون النجاح مُطِّرداً، حتى تصل البشرية في النتيجة إلى المجتمع المعصوم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٥٠) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٥٥ وما بعدها.
(١٥١) المصدر السابق ص٢٦٦.

↑صفحة ١٠٦↑

الأساس الثالث للتخطيط الجديد: توفير جوٍّ من السعادة والرفاه المادِّي المُتزايد، تحت جوٍّ من الأُخوَّة والتضامن والعدل الكامل، بأساليب مُعيَّنة، ستأتي في القسم الثاني الآتي من الكتاب.
والأساس النظري لإيجاد هذا الرفاه، ليس هو مُجرَّد نيل اللَّذَّة؛ لأنَّها مهما كانت مُهمَّةً، فإنَّها لا تكفي وحدها للسير بالبشرية نحو هدفها المقصود النهائي... وإنَّما يلاحظ الرفاه المادِّي بمقدار ما يستطيع أن يؤثِّر في ذلك الهدف البعيد ويُربِّي البشرية باتِّجاهه.
وذلك من زاوية أنَّ الرفاه المادِّي مُتناسباً مُطَّرداً مع توفير الجوِّ الكافي لذلك، ولا يمكن أن يكون عائقاً عنه، بعد أن يتشرَّب الناس ذلك الأساس النظري، وهو ملاحظة الرفاه بصفته طريقاً نحو الهدف، لا أنَّه بنفسه الهدف، ومن ثمَّ ستكون زيادة الرفاه مؤيِّدة لتركيز التربية وترسيخ العدل، ومن ثمَّ المُشاركة في بناء ذلك الهدف.
وهذا هو المؤدِّى الحقيقي لما سمعناه من الأخبار في فصل سابق، من كثرة المال في عهد الإمام المهدي (ع)، وأنَّه يُقسِّم المال ولا يَعدُّه... تلك الأخبار المرويَّة من قِبل الفريقين، وقد سمعنا ما ورد منها في الصحيحين.
وقد يخطر في الذهن: أنَّ توفير المال والرفاه إنَّما يكون من زيادة العمل، فيكون مُتناسباً عكسيّاً مع الهدف؛ لأنَّ زيادة العمل في سبيل الرفاه سوف يمتصُّ الجُهد الذي يمكن أن يُبذل في الجانب الأخلاقي والعبادي، ولا تكون زيادة الرفاه مؤيِّدة لتركيز التربية، كما قلنا.
والجواب على ذلك واضح جدَّاً لمَن استطاع استيعاب المفهوم الصحيح للعبادة مع المفهوم الصحيح للعمل، فإنَّه سيستغرب كيف تكون العبادة عائقاً عن العمل، مع أنَّه الأسلوب المُهمُّ في حصول الرفاه الاقتصادي المطلوب من أجل العبادة نفسها، وكيف يكون العمل عائقاً عن العبادة، وهي الهدف الرئيسي للحياة؛ وبالنتيجة هُمْ معاً واقعين في طريق الهدف البشري الأعلى.
ومن هنا يمكن أن ننطلق إلى الجواب على مستويين:
المستوى الأول: أنَّنا إذا فَهْمِنا من العبادة معنى لا ينطبق على العمل، وأصبح

↑صفحة ١٠٧↑

العمل المتزايد عائقاً عن العبادة، فإنَّ ذلك لا يمكن أن يحدث تحت ظلِّ النظام العالمي العادل؛ إذ يمكن التوفيق بين العبادة والعمل، وتنظمها تنظيماً عادلاً يكفل إيفاء كلٍّ منهما للحاجة التربويَّة، وتحصيله لنتيجته المطلوبة، تحت إشراف القانون والدولة.
المستوى الثاني: أنَّنا نفهم من العبادة معنى ينطبق على العمل، ولا يتنافى معه، فإنَّ العمل نفسه يمكن أن يُصبح عبادة، إذا كان واقعاً في طريق العبادة، ومُطابقاً للنظام العادل الكامل، فإنَّه يُصبح آنئذٍ من أفضل العبادات في علاقة الفرد مع الآخرين، ولا نريد بالعبادة خصوص الطقوس الفردية التي تربط الفرد بربِّه، وقد أعطينا في هذا الكتاب والكتاب السابق فكرة كافية عن ذلك.
... لكن بشرط أن يشعر الفرد العامل بهذا الترابط وهذا الاستهداف، فإنَّ شعوره بذلك يجعله مُتَّصفاً من خلال عمله بالعبادة وهو في معمله، ومَتْجَره ومَنْجَمه.
وهذا الشعور متوفِّر - بطبيعة الحال - تحت الإشراف التربوي للدولة العادلة.
لكنَّ العمل إذا انطلق من المفهوم، فلن يكون مُستهدَفاً لذاته، ولمُجرَّد الحصول على المال، فإنَّ العمل ما دام في سبيل المصالح العامة وتحقيق العبادة التامَّة... إذاً؛ فيجب أن يتحدَّد بحدودها، يكثر حين يقتضي كثرته، ويقلُّحين تقتضي تلك المصالح قلَّته، ولا معنى لأن يكون العمل مُعيقاً عن تحقيق المصالح والأهداف.
الأساس الرابع للتخطيط الثاني: الإشراف العام لدولة على تفاصيل التطبيق من الناحيتين القانونية والاجتماعية.
حيث تُشرِف الدولة العادلة على نشر الثقافة العامة، وتقوم ببعض التمحيصات على ما سنسمع، ونُراقب الأفراد من حيث رُقيِّهم في الدرجات المطلوبة من الكمال، وتُساعدهم على النجاح والتكامل بالمقدار اللازم، وتُسجِّل في سجِّل ضميرها مَن نجح من الأفراد ومَن فَشِل منهم في التمحيص، ومَن له قابلية الرُّقِّي ممَّن ليس له ذلك.
وسنرى كيف يكون للدولة من أثر مباشر في تربية الأفراد في العالم، والتدخُّل في حياتهم الروحية والعاطفية والعقلية والاجتماعية، وهذا ممَّا يؤكِّد نجاح الدعوة المهدوية والتطبيق الكامل للعدل، كما يؤكِّد اجتياز الأفراد للمراحل الأُولى من الكمال بنجاح وسرعة وسهولة، وهذا الأساس ممَّا يفترق به هذا التخطيط عن سابقه؛ نتيجةً لاختلافهما في الأهداف، فقد كان الهدف من التخطيط السابق تمييز الخبيث من الطيِّب وتكريس جهود

↑صفحة ١٠٨↑

الطيِّبين، وتعميق إخلاصهم ليكونوا الطليعة الأُولى لدولة العدل العالمية في اليوم الموعود، ولم يكن هناك أيُّ تأكيد على إنجاح الراسبين وتوفير فرص النجاح، بل إنَّ الفرد إذا رسب في التمحيص وعصى الأحكام الإلهيَّة الإسلامية، فقد جنى بنفسه على نفسه، وسعى بظلفه إلى حتفه، فليس وراءه إلاَّ استحقاق العقاب.
ولذلك لم يكن هناك حاجة للإشراف المركزي على التثقيف والتمحيص، وإن كان هذا راجحاً، إلاَّ أنَّه في إمكان التخطيط العام أن يصل إلى نتيجته وصولاً تلقائيَّاً وفي كل الظروف.
ولكنَّ التخطيط الثاني يختلف عن الأول في هذه النقطة؛ وذلك لأنَّه لا يستهدف مُجرَّد التمحيص، بل الوصول إلى الهدف الأعلى للإنسانية على الصعيد العالمي كلِّه، وهذا يستدعي القيام بأمرين مُقترنين:
الأمر الأول: تعميق التمحيصات تبعاً لتعميق الثقافة الإسلامية المُعْلَنة في العالم يومئذ، وتشديد النكير على الراسبين في هذا التمحيص، إلى حدٍّ قد يؤدِّي بهم إلى القتل؛ لعدم انسجام الفرد الراسب في التمحيص مع مجتمع العدل المطلق.
الأمر الثاني: توفير الفرص الكافية للأفراد، ممَّن لا يتَّصف بالقابلية العُلْيَا والثقافة العميقة، إلى النجاح، تحت إشراف الدولة العادلة؛ ليكون الوصول إلى نتيجة التخطيط أسرع وأسهل وأوسع.
وليس بين هذين الأمرين تنافٍ، بل هما مُتَّفقان في الإيصال المطلوب إلى النتائج المُتوخَّاة، وسوف يكون الأمر الأول أشدَّ وضوحاً وأهمِّيَّة مع وجود الأمر الثاني، فإنَّ مَن يرسب في التمحيص، بالرغم من وجود الفرص الكافية للنجاح، يكون أشدَّ إجراماً وأبعدَ عن الحق والعدل، ممَّن يرسب بدون هذه الفرص، كما هو واضح.
وهذا يُشكِّل إحدى الفروق في النتائج بين هذا التخطيط وسابقه، فبينما نجد أنَّ التخطيط السابق يتمخَّض عن ضعف المسؤولية، كما سبق أن برهنَّا في التاريخ السابق(١٥٢) نرى هذا التخطيط مُساوقاً مع عُمق المسؤوليَّة ودقَّتها.
ويرجع ذلك لعدَّة أسباب، لعلَّ من أوسعها وأوضحها، كون تطبيق العدل في التخطيط السابق مُخالفاً للاتِّجاه العام المملوء بالظلم والجور، حتى يكون القابض على دينه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٥٢) تاريخ الغيبة الكبرى ص ٤٥١ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

↑صفحة ١٠٩↑

كالقابض على جمرة من النار - كما ورد في بعض الأخبار - ومن الواضح أنَّ القبض على الجمر يحتاج إلى قوَّة إرادة عُلْيَا، وإنَّ عدم القبض عليه لا يتضمَّن المسؤولية العُلْيَا والإجرام الكبير، بخلاف الحال في التخطيط الجديد، فإنَّ تطبيق العدل موافق للاتجاه العام المملوء قسطاً وعدلاً، ومن هذه الجهة يكون موافقاً للهوى، ويكون الانحراف مُخالفاً للاتجاه العام، فتكون مسؤوليته ذات درجة عُلْيَا من الأهمِّيَّة ومن استحقاق العقاب.
فهذه هي الأُسس الرئيسية التي يمكن التوصُّل إليها الآن، وبها وأشباهها يستطيع القائد المهدي (ع) تربية الأُمَّة الإسلامية بسرعة وبسهولة، وأمَّا بالنسبة إلى سائر أجزاء العالم، فهذه الأُسس سوف تُشارك في تربيته بعد استتباب السيطرة عليه، وأمَّا حصول هذه السيطرة فلا، وكيفيَّتها، فهو ما سنذكره مُفصَّلاً في فصل قادم.

↑صفحة ١١٠↑

الباب الثاني: حوادث ما قبل الظهور

ونعني بها الحوادث التي تقع قبل الظهور بزمن قليل، حسب ما نعرف من أدلَّتها، وهو ما سبق أن أجَّلنا الحديث عن الأعمِّ الأغلب من (تاريخ الغيبة الكبرى) إلى هذا التاريخ، باعتبار ما أُلصق به، وإن كانت هذه الحوادث - في واقعها - تحصل في عصر الغيبة الكبرى، إلاَّ أنَّ قصر الزمان نسبيَّاً، بينها وبين الظهور يجعلها أشدَّ ارتباطاً به ممَّا قبله، كما سيتَّضح فيما يلي من البحث.

↑صفحة ١١١↑

تمهيد

لا بدَّ لنا - في هذا الصدد - أن نأخذ بنظر الاعتبار، عدَّة أُمور:
الأمر الأول: أنَّنا سرنا في التاريخ السابق(١٥٣) على أُسلوب مُعيَّن في فَهْمِ غالب الحوادث الواردة في الأخبار، وهو أُسلوب الحمل على الرمزية؛ لوجود الاطمئنان - في كثير من الأحيان - بأنَّ المداليل اللفظية للأخبار الناقلة لهذه الحوادث غير مقصودة، وإنَّما المقصود من ورائها الإشارة إلى حوادث اجتماعية، ممَّا قد يتمخَّض عنها التخطيط السابق على الظهور، وإنَّما صيغت بأُسلوب الرمز لمصالح مُعيَّنة... لعلَّ من أهمِّها:
أولاً: عدم الموافقة بهذه الحوادث مع المُستوى الفكري للعصر الذي صدرت فيه هذه الأخبار.
ثانياً: إنَّه لو صُرِّح بهذه الحوادث وشُرِحت بوضوح، لأمكن استغلالها واتِّخاذ مواقف سيِّئة منها، بنحو يُخلُّ بالتخطيط الإلهي العام.
ثالثاً: إنَّ مؤدَّى جملة كبيرة من الأخبار الناقلة للحوادث، ظاهر بأنَّها تحصل عن طريق إعجازي غير طبيعي، بشكل يكون مُنافياً مع قانون المعجزات الذي برهنَّا على صحَّته، فيدور الأمر بين طرح الحديث أساساً وبين حملة الرمز، وقلنا هناك(١٥٤): بأنَّ الحمل على الرمز أولى من الطرح، وخاصَّة فيما إذا كانت الحادثة منقولة بأخبار كثيرة، صالحة للإثبات التاريخي، ولا يمكن طرحها.
وهنا نواجه هذه النقاط مرَّة أخرى - وبشكل وآخر - في الأخبار الناقلة لحوادث ما بعد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٥٣) انظر - مثلاً - ص٢١٢ منه.
(١٥٤) ص٢١٧ وما بعدها.

↑صفحة ١١٣↑

الظهور، مع وجود اختلافين: أحدهما نقطة قوَّة، والأُخرى نقطة ضعف.
الاختلاف الأول: الذي يُمثِّل نقطة القوَّة، وهو أنَّنا هنا لن نواجه العقبة التي قلناها في تمهيد هذا التاريخ، وهي أنَّنا لا نستطيع التعرُّف على العُمق الحقيقي للحادثة ولمجموع الحوادث؛ وذلك لأنَّ ذلك إنَّما يصدق على حوادث ما بعد الظهور، وأمَّا ما يكون موجوداً قبل الظهور - كما هو شأن العلامات التي نتحدَّث عنها في هذا الفصل - فاستيعاب فَهْمِه مُتيسِّر إلى حدٍّ كبير.
الاختلاف الثاني: الذي يُمثِّل نقطة الضعف، ينطلق من صعوبة اختيار المعنى المرموز إليه، في الموارد التي نحتاج فيها إلى ذلك، فإنَّه بعد أن يتبرهن الحمل على الرمزية، قد لا يتعيَّن المعنى المُشار إليه بالرمز، ولعلَّه من الممكن انطباقه على أكثر من مفهوم وعدَّة وقائع.
ومع وجود هذه المصاعب، قد لا يتعذَّر الاطِّلاع على المعنى المرموز إليه، إذ وجِدت من القرائن والمُثبتات حوله ما يكفي، ولكن مع تعذُّر ذلك لا بدّ أن نبني البحث على أُسلوب الأُطروحات، بمعنى عرض أقرب المعاني المُحتملة إلى الواقع وإلى القواعد العامة، وقد لا يكون المعنى المُحتمل بلحاظ ذلك أكثر من معنى واحد، فيتعيَّن، وإن كان لا يعدو كونه (أُطروحة) باعتباره معنى مُحتمَلاً.
وتوجد هناك صعوبة أُخرى، قد نواجهها في فَهْم بعض الأخبار، وهي أنَّنا نجهل ما هو الرمزي - من ألفاظ الروايات - ممَّا هو صريح، فهل كل ألفاظها رمزيَّة؟ ويوجد بعضها ما يمكن حمله على معناه الصريح؟ وهل يمكن التبعيض في ألفاظ الحديث الواحد؟ وهل نحن مُحتاجون إلى هذه الرواية، للحمل على الرمز ولا؟
أمَّا من حيث أُسس ذلك، وهي إمكان التبعيض في ألفاظ الحديث الواحد، فالصحيح المطابق للفهم العام في الكلام، أنَّ ذلك ممكن إذا لم يكن مجموع الفَهم من ألفاظ الحديث مُتنافراً، بمعنى ضرورة الانسجام بين المعاني التي فهمناها، سواء الصريح منها والرمزي.
وأمّا الحاجة إلى الرمزية وعدمه، فهو ما سبق أن بحثناه في التاريخ السابق،(١٥٥) وخلاصته عدم إمكان الحمل على الرمز، مع إمكان فَهْم المعنى اللفظي المطابقي نفسه، ومع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٥٥) تاريخ الغيبة الكبرى ص٢١٨ وما بعدها.

↑صفحة ١١٤↑

إمكان الحمل على المجاز والكناية؛ إذ مع إمكانه لا حاجة إلى الرمز.
انطلاقا من هذه الأُسس سنقوم بتذليل هذه الصعوبة، أعني تعيين الرمز من الصريح من الألفاظ، عن طريق (القواعد العامة) ودلالة الأخبار الأُخرى أولاً، فإن تعذّر ذلك، كان أُسلوب (الأطروحات) كفيلاً بتذليل هذه المشكلة؛ لأنَّنا حين نعرض الأُطروحة المُعيَّنة القريبة إلى الذهن، سنعرف بطبيعة الحال ما يدلُّ عليها من الأخبار بنحو الرمز، وما يدلُّ عليها بنحو الصراحة.
الأمر الثاني - من التمهيد -: في تمحيص ما ورد من الحوادث.
يمكن تقسيم هذه الحوادث - من حيث إعرابها عن المعجزات - إلى قسمين:
القسم الأول: ما كان بدلالته اللفظية، وبعد حمله على الرمزية، دالاَّ ًعلى حوادث غير إعجازية، اجتماعية وطبيعية.
القسم الثاني: ما كان دالاَّ ًعلى حوادث إعجازية، بشكل واضح، لا يمكن صرفه عنها.
ويختصُّ القسم الثاني بتحفُّظين لا حاجة إليهما في القسم الأول:
التحفُّظ الأول: إنَّ هذا القسم مربوط بقانون المعجزات، فما كان منه مُنسجماً معه أمكن الأخذ به لو تمَّ فيه التحفُّظ الثاني الآتي... وما لم يكن مُنسجماً معه، فلا بدَّ من رفضه على كلِّ حال.
التحفُّظ الثاني: إنَّ القسم الأول يمكن قبول حدوثه مع الانسجام مع المنهج العام الذي قلناه في هذا التمهيد العام لهذا التاريخ... في حين أنَّ القسم الثاني يحتاج إلى درجة أعلى من التشدُّد في القبول، كما عملنا عليه في التاريخ السابق،(١٥٦) ففي الوقت الذي قبلنا فيه الخبر الموثوق الواحد المُجرَّد عن القرائن المُثبتة في التمهيد... لم نكن قد قبلناه في التاريخ السابق، ولا نستطيع قبوله في أخبار القسم الثاني المُتكفِّل لنقل أخبار المعجزات، باعتبارٍ ما، فينقلها من مظنَّة الخطأ والدسِّ، كما سبق أن عرضناه في التاريخ السابق،(١٥٧) فنقتصر فيه على قبول الخبر المُستفيض والمحفوف بالقرائن الموافقة.
الأمر الثالث: سبق منَّا في التاريخ السابق(١٥٨) أن ذكرنا حوادث ما قبل الظهور

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٥٦) تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٠٨.
(١٥٧) المصدر ص٢٠٤.
(١٥٨) المصدر فصل الأخبار الدالَّة على التنبُّؤ بالمُستقبَل ص٢٨٠، وفصل علامات الظهور ص٥٢١.

↑صفحة ١١٥↑

مُفصَّلة، وعرفنا ما حدث منها وما لم يحدث، وما هو محمول على الرمزية وما ليس كذلك، وعرفنا هناك خصائص كثيرة لا حاجة إلى تكرارها في هذا التاريخ.
إلاَّ أنَّ هذا التركيز فيما سبق، كان على حوادث ما قبل الظهور، ككل سواء منها البعيد عنه والقريب... بل كان التركيز على البعيد عنه أشدَّ، الحديث عنه أوسع... باعتباره بعضاً من حلقات تاريخ الغيبة الكبرى.
ومع تجنُّب التكرار في هذا التاريخ، والاستغناء عن ذكر الحوادث البعيدة والمُحتملة البُعْد عن يوم الظهور، يبقى على هذا الفصل أربعة مهامٍّ:
المُهمَّة الأُولى: التعرُّض إلى بعض العلامات التي لم تكن قد ذُكِرت في التاريخ السابق، مع مُحاولة تمحيصها، وإعطائها الفَهْم اللازم.
المُهمَّة الثانية: مُحاولة إثبات بعض العلامات التي سبق ذكرها، طبقاً لتغيير المنهج في الإثبات التاريخي، كما سبق أن أوضحنا في التمهيد.
المُهمَّة الثالثة: مُحاولة إعطاء فَهم جديد لبعض العلامات القريبة، التي لم تكن قد أخذت حظَّها الكافي من البحث في التاريخ السابق... وعرض جوانب جديدة منها، لم تكن قد عُرِضت هناك.
المُهمَّة الرابعة: مُحاولة ضبط التسلسل التاريخي للحوادث مهما أمكن، وهذا ما لم نتوفَّر عليه في التاريخ السابق، في حين يكون استنتاجه مُهمَّاً في هذا التاريخ.
وإذا تمَّت هذه المهامُّ، فسيكون هناك فرق أساسي كبير بين بحث التاريخ السابق، وبين هذا الباب، كما سوف يظهر عند الدخول في التفاصيل.
وعلى أيِّ حال، فتنقسم هذه الحوادث، أعني القريبة إلى الظهور، إلى قسمين رئيسين:
الأول: الظواهر الطبيعية والسماوية التي لا تمتُّ إلى اختيار الناس بصِلَةٍ.
الثاني: الظواهر الاجتماعية التي تعود إلى تصرُّفات الناس، وما يعود إلى الحوادث التي تحصل للأمًّة الإسلامية بين آونة وأُخرى.
وينبغي أن يقع الحديث عن القسم الأول سابقاً على الحديث عن القسم الثاني؛ لأجل أن تتَّصل حوادث القسم الثاني بما بعدها من التاريخ؛ حفظاً للتسلسل الزماني لها، وسنتحدَّث عن كل قسم في فصل مُستقلٍّ.

↑صفحة ١١٦↑

الفصل الأوَّل: الظواهر الطبيعية والسماوية
ونريد بها الحوادث المنقول حدوثها في الطبيعة، وإن كانت صفتها إعجازية.
والمنقول منها أُمور عديدة، ونحن نقتصر - اختصاراً للكلام وتمحيصاً للروايات - على ما كان مُتَّصفاً بشرائطَ ثلاثة:
الشرط الأول: عقدنا من أجله هذا الباب، وهو خصوص الحوادث القريبة من الظهور، بحسب أدلَّتها دون البعيد منها.
الشرط الثاني: أن تكون الحادثة ممَّا يمكن إثباته، بحسب المنهج الذي اتَّخذناه مع مُحاولة تجنُّب ما لا يمكن إثباته.
الشرط الثالث: أن يكون ممَّا ورد ارتباطه في الأخبار نفسها بظهور المهدي (ع)، وبهذا نختصر هذه الحوادث بالمصادر الخاصة الإمامية، وليس في المصادر العامة منها إلاَّ النادر.
وما يبقى مُندرجاً تحت هذه الشروط، من الحوادث، عدَّة أمور، نذكر كلاَّ ًمنها في جهة:
الجهة الأُولى: الخسوف والكسوف:
ويُراد به حدوثهما بشكل يختلف عن الشكل الاعتيادي له، فبدلاً عن أن يحدث الكسوف في أول الشهر والخسوف في وسطه، كما هو المُعتاد، فإنَّ حدوثهما سوف يكون بالعكس، فيحدث الكسوف في وسط الشهر والخسوف في أوله... بشكل لم يسبقْ له نظير منذ أول البشرية إلى حين حدوثه، وهذا ما تُعرِب عنه عدد من الروايات، ذكرنا ثلاث منها في التاريخ السابق،(١٥٩) عن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٥٩) انظر ص٥٧٤.

↑صفحة ١١٧↑

الشيخ الطوسي، والشيخ المفيد، والشيخ النعماني.
وأخرج الشيخ الطوسي في (الغيبة)(١٦٠) أيضاً، بسنده عن بدر الأزدي، قال:
قال أبو جعفر الباقر (ع): (آيتان تكونان قبل القائم لم تكونا منذ هبط آدم (ع) إلى الأرض: تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان، والقمر في آخره).
فقال رجل: يا بن رسول الله، تنكسف الشمس في آخر الشهر والقمر في النصف؟
فقال أبو جعفر: (إنِّي لأعلم بما تقول! ولكنَّهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم (ع)).
وأخرج السيوطي في العُرف الوردي،(١٦١) عن الدار قطني في سُننه، عن محمد بن علي الإمام الباقر (ع)، قال: (إنَّ لمهدينا آيتين لم تكونا منذ خلق الله السموات والأرض: ينخسف القمر لأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه، ولم يكونا منذ خلق الله السموات والأرض).
وفيما روينا هناك ما يدلُّ على أنَّ انخساف القمر يكون في الخامس والعشرين من رمضان، وأمَّا انكساف الشمس، فهو في ثلاث عشرة وأربع وخمس عشرة منه.
ويدل سياق هذه الرواية - وأكثر من رواية أخرى - على قُرب هذه العلامة من قيام القائم، أعني ظهور المهدي (ع).
وهذا العدد من الروايات يكفي للإثبات التاريخي حتى مع (التشدُّد السَّندي) الذي سِرْنا عليه في التاريخ السابق، وطبَّقناه هنا على الروايات الناقلة للمعجزات.
وقد أشرنا هناك إلى المُبرِّر الذي دعا إلى إيجاد هاتين الواقعتين في التخطيط الإلهي لما قبل الظهور، وهو - باختصار - ترسيخ فكرة المهدي (ع) عند حدوث هذه العلامة، أولا، والإيعاز إلى المُخلصين من الخاصة إلى قُرب الظهور ثانياً.
يبقى علينا الآن أن نتكلَّم عن المُبرِّر الكوني لوجودها، وهل هو بطريق إعجازي وطبيعي... وإذا كان طبيعياً، فكيف يحصل... وهذا ما لم نُفِضْ فيه الحديث في التاريخ السابق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٦٠) ص٢٧٠.
(١٦١) الحاوي للفتاوي ج٢ ص١٣٦.

↑صفحة ١١٨↑

إنَّ لحدوث هذه الوقائع عدَّة أُطروحات، لا بدَّ من استعراضها ونقدها:
الأُطروحة الأُولى: حصول الكسوف والخسوف بسببه (العلمي) الاعتيادي، لكن مع اختلاف بسيط، هو الاختلاف في الزمان، فإن ثبت في العلم الحديث أنَّ الكسوف يحصل بتوسُّط الأرض بين الشمس والقمر، أمكن حصول ذلك في زمان آخر جديد.
وهذه الأُطروحة هي الأوفق بالظاهر الأوَّلي من الروايات، لو فُرِض الالتزام بكون هذه الحوادث طبيعية غير إعجازية.
إلاَّ أنَّها واضحة المُناقشة طبقاً للنظرية العلمية الحديثة، ومن ثمَّ لا بدَّ من التنازل عن هذا الظهور الأوَّلي في الروايات.
فإنَّ القمر - وهو يستمدُّ نوره من الشمس، والنور يسير بخطوط مُستقيمة لا يمكن أن تنعطف انعطافاً كبيراً -... أنَّ القمر لا يمكن أن يكسف الشمس حال كونه بدراً في وسط الشهر؛ لأنَّ انكساف الشمس به، يلازم بالضرورة كون الوجه المُظلم من القمر مُتوجِّهاً إلى الأرض، وهذا يُنافي بالضرورة كونه بدراً.
كما أنَّ خسوف القمر لا يكون إلاَّ بوقوع ظلِّ الأرض على القمر، بعد توسُّطها بينه وبين الشمس، وهذا معناه: أنَّ الأرض أقرب إلى الشمس من القمر، وهذا لا يحدث إلاَّ في وسط الشهر حين يكون القمر بدراً.
ولا يمكن دفع هذه المُناقشة، إلاَّ بالطعن بالنظرية العلمية، انطلاقاً من زاوية أنَّ النظريات العلمية مهما تأكَّدت، فإنَّها قائمة على الحساب الظنِّي، وإن كان راجحاً، ولا تُنتج يقيناً تامَّاً بأيِّ حال، وهذا موكول إلى وجدان القارئ.
الأطروحة الثانية: أن تكون رؤية الكسوف والخسوف في غير الأرض، بل في مناطق وكواكب أُخرى من المجموعة الشمسية.
أمَّا بالنسبة إلى كسوف الشمس، فقد حدث فعلاً عام (١٣٩١ هـ - ١٩٧١م)، حين كان بعض روَّاد الفضاء على القمر، فشاهدوا الشمس مكسوفة كلِّيَّاً بتوسُّط الأرض بينهم وبينها، وهذا التوسُّط لا يحدث عادة إلاَّ في وسط الشهر.
وأمَّا الخسوف فلم يحدث إلى حدِّ الآن، لكن في الإمكان تصوُّر حدوثه، فيما إذا انتقل بعض أفراد الإنسان إلى كوكب آخر من المجموعة الشمسية، كالمرِّيخ والزهرة، فإنَّه قد تُصبح الأرض ما بين القمر وذلك الكوكب، فيحدث الخسوف في نظرهم. ومن

↑صفحة ١١٩↑

الواضح أنَّ هذا غير مشروط بحدوثه في وسط الشهر القمري، بل قد يحدث في أوَّله وآخره أيضاً.
ويمكن المُناقشة في هذه الأُطروحة من أكثر من جهة:
أوَّلاً: أنَّ الظهور الأوَّلي للروايات يقتضي حدوث الكسوف بالنسبة إلى ساكني الأرض، لا بالنسبة إلى مَن في القمر والمرِّيخ.
غير أنَّه يمكن الاستغناء عن هذا الظهور، من زاوية أنَّ ظهورها في أنَّ الإنسان هو الذي يرى هاتين الواقعتين، وهو أمر لا يختلف فيه الحال بين الأرض والمرِّيخ، ما دام الإنسان هو المُشاهد.
ثانياً: إنَّ الظهور الأوَّلي للروايات يقتضي حدوث هاتين العلامتين في شهر واحد، هو شهر رمضان، وهذا ممَّا لم يتحقَّق في الخارج.

ثالثاً: إنَّ الظهور الواضح لهذه الروايات - كما قلنا - يقتضي قُرب هذه الوقائع إلى اليوم الموعود، فإذا كان قد حدث أحد الأمرين، إذن؛ فهو لم يحدث قريباً من اليوم الموعود.
الأُطروحة الثالثة: أن يحدث الكسوف والخسوف بتوسُّط جُرم آخر طارئ في الفضاء صدفة، من الأجرام التي تُعتبر علميَّاً تائهة في الفضاء، وذات مدار ضخم جدَّاً وغير مُحدَّد، فيحجب القمر عن الشمس، فيحدث الخسوف، ويحجب الشمس عن الأرض في وسط الشهر، فيحدث الكسوف، ومن الواضح أنَّ مرور الجرم الطارئ غير مُحدَّد بزمان مُعيَّن في الشهر.
وقد يؤيَّد ذلك بقوله في أكثر من رواية: (إنَّهما آيتان لم تحدثا منذ هبط آدم (ع)).
فلعلَّ جُرماً ما قد أوجد هذه الظاهرة قبل وجود البشرية، ثمَّ يكون وقت مروره بالمجموعة الشمسية منوطاً بتاريخ مُعيَّن يُصادف قبل ظهور المهدي بقليل.
وهذه الأُطروحة لا ترد عليها المُناقشة الأُولى للأطروحة السابقة، لفرض أنَّها تُرى من الأرض.
وأمَّا المناقشة الثانية، فمن حيث حصول الواقعتين في شهر واحد، أمر لا غبار عليه، إذا التفتنا إلى أنَّ جُرماً واحداً هو الذي يعمل كلا العملين، فإنَّ المُذنَّب وأمثاله إذا ظهر قريباً من الأرض لا يختفي عادة لليلة واحدة، بل يبقى مدَّة من الزمن، حتى ينتهي عبوره فضاء المجموعة الشمسية، فيمكن أن يحدث خلال وجوده كلا هذين الأمرين.

↑صفحة ١٢٠↑

وأمَّا حدوث ذلك في شهر رمضان دون غيره، فهذا على تقدير ثبوته، لا بدَّ من إيكال علمه إلى أهله، وسيأتي ما يوضِّحه فيما يلي:
الأطروحة الرابعة: أن يحدث الكسوف والخسوف بتوسُّط جرم آخر طارئ، ولكنَّه من الأجرام المنطلقة من الأرض لبعض الإغراض العلمية والحربية؛ إذ لعلَّ البشرية تتطوَّر حتى تصل إلى المستوى الذي يؤهِّلها لإطلاق الأجرام الضخمة المُنتجة لمثل هذه النتائج الكبيرة.
وقد يرد في الذهن: أنَّه كان ذلك بفعل البشر، فكيف يكون ذلك علامة على اليوم الموعود.
وجوابه من عِدِّة وجوه:
أولاً: لعلَّ البشر يُطلقون الجرم لا لأجل إحداث الكسوف والخسوف، بل لغرض آخر، فيترتَّب عليه من حيث لا يعلمون، فإذا كان من الضروري أن تكون العلامة قهريَّة الوقوع، فهذه بمنزلة العلامة القهريَّة.
ثانياً: أنَّ البشر حتى لو كانوا مُلتفتين إلى إمكان حدوث الخسوف والكسوف من إطلاق الجرم، إلاَّ أنَّ الذين يُطلقونها لا يحملون عن المهدي (ع) وعلامات ظهوره أيَّة فكرة، فتكون هذه العملية بالنسبة إلى فكرة علاميَّتها كالقهريَّة.
ثالثاً: أنَّ البشر الذين يُطلقون الجرم حتى لو التفتوا إلى فكرة العلاميَّة، إلاَّ أنَّهم لا يمكن أن يُطلقوه إلاَّ بعد بلوغهم مستوى (مدنياً) مُعيَّناً، فمن الممكن أن تكون العلامة في الواقع هو هذا المستوى المدني العلمي، وإنَّما ذكرت الروايات وجود الكسوف والخسوف للإشارة إليه، بشكل لا يُنافي المستوى الفكري العام لعصر صدور الأخبار.
وأمَّا ورود المُناقشات التي أوردناها عن الأُطروحة الثانية، فهو غير مُهمٍّ، كما هو واضح لمَن يُفكِّر، سوى حصول ذلك في شهر رمضان، وهو ما سيأتي إيضاحه.
وقد يخطر في الذهن: أنَّ الروايات دالَّة على حدوث هاتين الواقعتين قبل وجود البشرية، فكيف ينسجم ذلك مع هذه الأطروحة.
وجوابه واضح من زاوية أنَّ الروايات لم تدلَّ على أكثر من عدم حصوله خلال عمر البشرية (منذ هبط آدم (ع))، وأمَّا حصوله قبل ذلك، فليس لها ظهور تامٌّ في ذلك، وإن كانت مُشعرة به قليلاً، ويمكن الاستغناء عن هذا الإشعار مع تأكُّد هذه الأطروحة.

↑صفحة ١٢١↑

فهذه جملة من الأطروحات الطبيعية، أعني حدوث هاتين العلامتين بشكل غير خارق لنظام الطبيعة، وهناك بعض الأُطروحات الأُخرى، منها ما هو مبتنٍ على النظرية النسبية، لا حاجة إلى التطويل بذكرها.
ويرد على هذه الأطروحة إشكال مُشترك: هو ما أشرنا إليه من التوقيت، سواء منه التوقيت بشهر رمضان وبقُرب الظهور، فإنَّهما معاً قد يُستشكَل بعدم انسجامهما مع الحدوث الطبيعي لهاتين الواقعتين، بأيِّ أُطروحة كان.
ويمكن الجواب على هذا الإيراد من أكثر من وجه واحد، نذكر منها ما يلي:
الوجه الأول: الطعن بصحَّة هذا التوقيت، والالتزام بأنَّ أقصى ما يثبت هو وجود هاتين الواقعتين في غير أوانهما الطبيعي من الشهر، فإنَّ هذا المعنى تسالمت عليه الروايات، وأمَّا غير ذلك من الصفات فهو ممَّا استقلَّت به البعض دون البعض، فلا يكون له الإثبات التاريخي الكافي، فلا يكون هذا الإشكال المشترك وارداً.
إلاَّ أن هذا الوجه لا يتمُّ في بعض الصفات الأساسية، كحدوث الواقعتين قُرب الظهور... وإن صحَّ الاستغناء عن بعض الصفات الأُخرى.
الوجه الثاني: أنَّنا إذا سلَّمنا بثبوت التوقيت، لا يبقَ من إشكال إلاَّ في أصل جعلها علامة على الظهور، مع أنَّها حوادث مُستقبَلة، وهي ممَّا لا يمكن الاطِّلاع عليها من قِبل أحد، وهذا ما سبق أن ناقشناه في الكتاب السابق،(١٦٢) ومع ارتفاعه وتسليم إمكان التنبُّؤ بالمُستقبل من قِبل قادة الإسلام المعصومين (ع)، وتسليم ثبوت هذه الصفات - كما قلنا -... لا يبقى لهذا الإشكال مجال.
الأُطروحة الخامسة: أن يحدث هذا الخسوف والكسوف على نحو الإعجاز، بخرق نواميس الطبيعة.
وقد تؤيَّد هذه الأطروحة ببعض القرائن المؤيِّدة:
القرينة الأُولى: قوله في أكثر من رواية: (أنَّهما آيتان لم تحدثا منذ أن هبط آدم (ع) إلى الأرض...)، إذ لو كانت هذه الحوادث طبيعية لحدثت خلال وجود البشرية أكثر من مرَّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٦٢) تاريخ الغيبة الكبرى ص٥٣٢.

↑صفحة ١٢٢↑

إلاًَّ أنَّ هذه القرينة لا تتمُّ مع ثبوت إحدى الأُطروحتين الأخيرتين، بل مع مُجرَّد احتمالهما، فإنَّهما يُعطيان التبرير (الطبيعي) لعدم حدوث هذه الوقائع خلال عُمر البشرية، فلا ينحصر أن يكون هذا إعجازياً.
القرينة الثانية: إنَّ إعجازية هذه الوقائع هي المناسبة مع جعلها علامة للظهور، ومُنبِّهة للمُخلصين المُمحَّصين، وأمَّا مع وجودها وجوداً طبيعياً، فتضعف فكرة جعلها علامة إلى حدٍّ كبير.
وهذه القرينة أيضاً قاصرة؛ لأنَّها تتضمَّن غفلة عن معنى جعل العلامة، الذي سبق أن ذكرناه في التاريخ السابق،(١٦٣) وعرفنا هناك أنَّ السرَّ الأساسي فيه ليس منطلقاً من الإعجاز، بل من الإخبار نفسه، حيث يختار قادة الإسلام (ع) شيئاً مُهمَّاً مُلفِتاً للنظر، فيُخبرون به مرتبطاً بالظهور، حتى ما إذا وقعت الحادثة ثبت عند الجيل المعاصر لها صدق الإخبار عنها بالوجدان، فيثبت بالوجدان أيضاً صدق ما ارتبط بها في الرواية، وهو أصل الظهور إن كانت علامة مُطلقة، وقربه إن كانت علامة قريبة.
وأضفنا هناك: ومن هنا لا معنى لكون بعض هذه الحوادث علامة، إلاَّ إذا ورد في الروايات ذكره، وجعل منها علامة على الظهور.
أقول: فالأساس في ذلك هو الإخبار لا الإعجاز، وما دام الإخبار موجوداً وكافياً للإثبات التاريخي، لا يكون حدوثها (الطبيعي)، مُخلاَّ ًبفكرة جعلها علامة.
هذا، وينبغي الإلماع إلى أنَّ في هذه الأُطروحة الإعجازيّة، نقطة ضعف ونقطة قوَّة، بالنسبة إلى (قانون المعجزات)، فهي موافقة له من زاوية كون هذه الوقائع واقعة في طريق الهداية، كما أسلفنا في التاريخ السابق،(١٦٤) وهذه نقطة قوَّته، ولكنَّها مُخالفة له باعتبار عدم انحصار طريق الهداية بها، ولا أقلّ من الشكِّ في ذلك، ومعه لا تكون موافقة مع هذا القانون من جميع جهاته، فلا تكون صحيحة، فإذا انحصر الأمر بالأطروحة الإعجازيّة، كان اللازم رفض الأخبار الدالَّة عليها؛ لأنَّنا عرفنا عدم الانحصار بها، ومعه يتبيَّن رفض هذه الأُطروحة والحفاظ على الأخبار مع حملها على إحدى الأطروحات الطبيعية.
الجهة الثانية: الفَزْعة والصيحة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٦٣) انظر ص٥٢٩ وما بعدها.
(١٦٤) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٥٧٥.

↑صفحة ١٢٣↑

وهما أيضاً من الحوادث المنقولة في الأخبار، وإنَّما دمجناهما في عنوان واحد، لاحتمال أن يكون المراد بهما شيء واحد، على ما سوف نُشير.
أخرج الصدوق،(١٦٥) بإسناده إلى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع) في حديث، قال فيه: (ومن علامات خروجه (ع)... وصيحة من السماء في شهر رمضان).
وأخرج أيضاً، عن الحرث بن المغيرة، عن أبي عبد الله (ع): (الصيحة التي في شهر رمضان تكون ليلة الجمعة، لثلاث وعشرين مَضَين من شهر رمضان).
وأخرج عن عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (قبل القائم خمس علامات محتومات...)، وعدَّ منها: الصيحة.
ونحوه أخرج النعماني في (الغيبة)(١٦٦)، إلاَّ أنَّه قال: (... والصيحة في السماء).
وأخرج النعماني أيضاً،(١٦٧) عن داود الدجاجي، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) قال: (سُئل أمير المؤمنين (ع) عن قوله تعالى: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ...). فقال: انتظروا الفرج من ثلاث! فقيل: يا أمير المؤمنين، وما هُنَّ؟ فقال:... والفزعة في شهر رمضان. فقيل: وما الفزعة في شهر رمضان؟ فقال: أوَ ما سمعتم قول الله (عزَّ وجلَّ) في القرآن: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)، هي آية تُخرِج الفتاة من خِدرها، وتوقِظ النائم، ويُفزِع اليقظان).
وأخرج أيضاً،(١٦٨) عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (ع) في حديث قال: (وفزعة في شهر رمضان توقِظ النائم، وتُفزِع اليقظان، وتُخرِج الفتاة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٦٥) انظر إكمال الدين للصدوق (نسخة مخطوطة).
(١٦٦) ص ١٣٣.
(١٦٧) نفس الصفحة.
(١٦٨) انظر غيبة النعماني ص ١٣٤، وكذلك الحديث الذي يليه.

↑صفحة ١٢٤↑

من خِدرها).
وفي حديث آخر، عن أبي بصير، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع)، في حديث أنَّه قال: (الصيحة لا تكون إلاَّ في شهر رمضان شهر الله، وهي صيحة جبرئيل إلى هذا الخلق - ثمَّ يقول بعد حديث طويل - إذا اختلف بنو فلان فيما بينهم. فعند ذلك فانتظروا الفرج، وليس فرجكم إلاَّ في اختلاف بني فلان، فإذا اختلفوا فتوقَّعوا الصيحة في شهر رمضان وخروج القائم، إنَّ الله يفعل ما يشاء...) الخبر.
ولعلَّ من أهمِّ ما دلَّ على وقوع الصيحة من الأخبار، ما ورد في الخطاب الذي أخرجه السفير الرابع عن الإمام المهدي (ع)، والذي أعلن فيه المهدي (ع) انتهاء السفارة بموت هذا السفير، يقول فيه: (إلاَّ فمَن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذَّاب مُفترٍ).(١٦٩)
وأخرج القندوزي في ينابيع المودَّة بعض هذه الأخبار.
ونستطيع أن نُعطي لفهم هذه الصيحة، عدَّة أُطروحات، لنرى ما يصحُّ منها وما لا يصحُّ:
الأُطروحة الأُولى: إنَّ الصيحة والفزعة بمعنى واحد، ويُراد بها صوت عظيم يكون في السماء، يوقِظ النائم ويُفزِع اليقظان، ويُخرِج الفتاة من خِدرها خوفاً وفزعاً؛ ومن هنا سُمِّيت بالفزعة، ويكون الصوت حادثاً بالمعجزة، ولا يكون له مدلول كمداليل الكلام، وإنَّما هو صوت كالرعد والهَدَّة العظيمة.
إلاَّ أنَّ هذا ممَّا لا يكاد يصحُّ؛ فإنَّ أهمَّ ما يُنافيه في الروايات، قوله: (وهي صيحة جبرئيل إلى هذا الخَلْق)، فإنَّ صحَّته تكون - لا محالة - ذات معنى كمعاني الكلام، لا أنَّها مُجرَّد صيحة صامتة، وسيأتي ما يدلُّ على ذلك في أخبار (النداء).
الأُطروحة الثانية: إنَّ المراد بالصيحة هو النداء الآتي ذكره، وهو نداء جبرئيل على ما سنسمعه من الأخبار، وفي التعبير بأنَّها صيحة جبرئيل، ما يؤيِّد ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٦٩) انظر الاحتجاج للطبرسي ط النجف ص٢٩٧، وانظر تاريخ الغيبة الصغرى ص٦٣٣ وما بعدها.

↑صفحة ١٢٥↑

ويكون السبب في هذا الصوت شيء من قبيل المعجزة، فإنَّ سببه صادر من فوق الطبيعة المادِّية؛ لأنَّه صوت أحد الملائكة الكرام، كما سمعنا في الأخبار.
وعلى أيِّ من هاتين الأُطروحتين، يكون الصوت إعجازياً حادثاً من أجل مصالح مُعيَّنة، أهمُّها ما أشرنا إليه من التنبيه على قُرب الظهور، من أجل إيجاد الاستعداد النفسي لدى المُخلصين والمسلمين لاستقباله.
الأُطروحة الثالثة: أن يكون المراد بالصيحة والفزعة معانٍ طبيعيَّة غير إعجازية، فالفزعة تعبير عن وجود رُعب عام لسبب من الأسباب، كتوقُّع حرب ووباء مثلاً، ويكون المراد بالصيحة صوت عظيم صادر من بعض القنابل والصواريخ، ومن اختراق إحدى الطائرات حاجز الصوت، وانفجار بعض المُستودعات... ونحو ذلك غير أنَّ الأُطروحة بعيدة للغاية عن مداليل هذه الأخبار وسياقها العام، وخاصة مع الاستدلال بقوله تعالى: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ).(١٧٠)
وقد استدلَّ بهذه الآية على الفزعة، كما سبق أن سمعنا، وعلى الصيحة، فيما رواه الصافي في مُنتخب الأثر،(١٧١) والقندوزي في الينابيع،(١٧٢) عن أبي عبد الله (ع)، وقال في آخره:... تلوتُ هذه الآية، أي: قوله تعالى: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً...) الآية، فقلت: أهي الصيحة؟
قال: (أما لو كانت الصيحة خضعت أعناق أعداء الله عزَّ وجل).
وإنَّما تخضع أعناق أعداء الله نتيجةً لحادث كَوْنيِّ كبير غير معهود، فيه عنصر إعجازي، لا لحادث بسيط كصوت صاروخ وطائرة.
ولعلَّ في تفسير الآية تارةً بالصيحة وأُخرى بالفزعة ما يوحي بالأُطروحة الأُولى.
أو أن تكون الفزعة بمعنى الصيحة، فإنَّهما آية واحدة تخضع لها أعناق أعداء الله سبحانه.
ويكون ذلك مُطابقاً للأُطروحة الثانية، ويكون الفزع ناشئاً من صوت جبريل الأمين، في قلوب أعداء الله.. وأمَّا المؤمنين، فيكون الصوت بشارةً كبرى لهم عن قُرب الفرج وتوقُّع الظهور.
ومن أجل هذا يحصل الاهتمام الكبير بهذا الصوت، ويستيقظ منه النائم، ويفزع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٧٠) الشعراء: ٢٦/٤.
(١٧١) ص٤٠٤.
(١٧٢) ص ٤٢٦.

↑صفحة ١٢٦↑

اليقظان، وتخرج الفتاة الحييَّة المُخدَّرة من خدرها، ولا تتحدَّث عن الفتيات غير المُتَّصفات بالحياء.
هذا، والظاهر من سياق هذه الأخبار، وخاصة مثل قوله: (فتوقَّعوا الصيحة وخروج القائم...)، أن تكون الصيحة قبل الظهور بزمن قليل نسبيَّاً... وهو المقصود.
الجهة الثالثة: النداء.
والأخبار عن ذلك على ثلاثة أشكال:
الشكل الأول: ما كان دالاَّ ًعلى وجود النداء إجمالاً، وإنَّه من المحتوم.
أخرج الصدوق،(١٧٣) بسنده إلى ميمون البان، عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: (خمس قبل قيام القائم...)، وعد منها: (المُنادي يُنادي من السماء).
وروى المفيد، بسنده(١٧٤) عن أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي جعفر (ع): خروج السفياني من المحتوم؟ قال: (نعم، والنداء من المحتوم). الحديث.
وأخرج النعماني،(١٧٥) بسنده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (النداء من المحتوم...) الحديث.
الشكل الثاني: النداء بالحق وبالباطل، ويكون النداء بالحقِّ أولاً، ثمَّ النداء بالباطل.
أخرج الصدوق،(١٧٦) بسنده إلى ميمون البان، في حديث عن أبي جعفر (ع) قال: ثمَّ قال: (يُنادي منادٍ من السماء: إنَّ فلان بن فلان هو الإمام باسمه، ويُنادي إبليس لعنه الله من الأرض، كما نادى برسول الله (ص) ليلة العقبة).
وأخرج النعماني في الغيبة،(١٧٧) عن أبي بصير، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع)، في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٧٣) إكمال الدين (المخطوط).
(١٧٤) الإرشاد ص٣٣٨.
(١٧٥) الغيبة ص١٣٤.
(١٧٦) انظر إكمال الدين المخطوط ص١٣٤.
(١٧٧) ص١٣٤.

↑صفحة ١٢٧↑

حديث طويلٍ قال فيه:
(... يُنادي مُنادٍ من السماء باسم القائم، فيُسمع من بالمشرق ومن بالمغرب، لا يبقى راقد إلاَّ استيقظ، ولا قائم إلاَّ قعد، ولا قاعد إلاَّ قام على رجليه فزعاً من ذلك الصوت، فرحم الله عبداً اعتبر بذلك الصوت فأجاب، فإنَّ الصوت صوت جبرئيل الروح الأمين).
وقال (ع): (الصوت في شهر رمضان في ليلة جمعة، ليلة ثلاث وعشرين، فلا تشكُّوا في ذلك، واسمعوا وأطيعوا.
وفي آخر النهار صوت إبليس اللعين يُنادي: ألا إنَّ فلاناً قُتِل مظلوماً، ليُشكِّك الناس ويفتنهم، فكم ذلك اليوم من شاكٍّ مُتحيِّر قد هوى في النار.
فإذا سمعتم الصوت في شهر رمضان، فلا تشكُّوا فيه أنَّه صوت جبرئيل، وعلامة ذلك أنَّه يُنادي باسم القائم واسم أبيه (ع)، وحتى تسمعه العذراء في خدرها، فتُحرِّض أباها وأخاها على الخروج - إلى أن قال: - فاتَّبعوا الصوت الأول وإيِّاكم والأخير أن تُفتنوا به...) الحديث.
وأخرج السيوطي في العُرف الوردي،(١٧٨) قال: أخرج نعيم عن علي، قال: (إذا نادى مُنادٍ من السماء: إنَّ الحق في آل محمد. فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس، ويُشْرَبون حُبَّة، ولا يكون لهم ذِكْر غيره).
وأخرج أيضاً،(١٧٩) عن نعيم بن حماد أيضاً، عن أبي جعفر، قال: (يُنادي مُنادٍ من السماء: إنَّ الحق في آل محمد، ويُنادي مُنادٍ من الأرض: إنَّ الحق في آل عيسى - وقال: العباس شكَّ فيه - وإنَّما الصوت الأسفل كلمة الشيطان، والصوت الأعلى كلمة الله العُلْيَا).
وأخرج القندوزي في الينابيع شيئاً من ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٧٨) انظر الحاوي للسيوطي ج٢ ص١٤٠.
(١٧٩) المصدر ص١٥١.

↑صفحة ١٢٨↑

القسم الثالث: النداء باسم القائم (ع)، بدون أن يكون في الأخبار تعرُّض إلى نداء آخر:
أخرج الصدوق،(١٨٠) بسنده إلى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر (ع)، في حديث، قال: (... ومن علاماته خروج السفياني، ومُنادٍ نُادي باسمه واسم أبيه).
وأخرج النعماني،(١٨١) بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع)، قال:
قلت له: جُعِلت فداك، متى خروج القائم. فقال: (يا أبا محمد، إنَّا أهل بيت لا نوقِّت... - إلى أن قال: - ولا يخرج القائم حتى يُنادى باسمه في جوف السماء، في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان، ليلة جمعة).
قلت: بِمَ يُنادى؟
قال: (باسمه واسم أبيه، ألا إنَّ فلان بن فلان قائم آل محمد، فاسمعوا له وأطيعوه).
وأخرج الشيخ في الغيبة،(١٨٢) بسنده عن محمد بن مسلم، قال: (يُنادي منادٍ من السماء باسم القائم، فيُسمع ما بين الشرق إلى الغرب، فلا يبقى راقد ولا قائم إلاَّ قعد، ولا قاعد إلاَّ قام على رجليه من ذلك الصوت، وهو صوت جبرئيل الروح الأمين).
وأخرج أيضاً(١٨٣) عن أبي بصير (ع) قال: قال أبو عبد الله (ع): (إنَّ القائم صلوات الله عليه، يُنادى اسمه ثلاث وعشرين...) الحديث.
إلى غير ذلك من الأخبار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٨٠) انظر إكمال الدين المخطوط.
(١٨١) انظر غيبة النعماني ص١٣٤.
(١٨٢) انظر ص٢٧٤.
(١٨٣) الغيبة للطوسي ص٢٧٤.

↑صفحة ١٢٩↑

والمعنى المفهوم من مجموع هذه الأخبار وأخبار الجهة السابقة: أنَّ أخبار الصيحة والفزعة وأخبار النداء بأقسامها، تُشير إلى معنى مُشترك وحادثة واحدة، لا اختلاف فيها، وإن تعدَّدت أساليب الأخبار، ولا تعارض بينها في الحقيقة، كما أنَّها لا تدلُّ على كثرة النداءات أكثر من صوتين لو تمَّ القسم الثاني من الأخبار.
وعلى ذلك عدَّة قرائن، من هذه الأخبار نفسها:
منها: أنَّ الصيحة والنداء معاً نُسِبا إلى جبرئيل (ع) بشكل مُستفيض.
ومنها: أنَّ وقتهما معاً في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شهر رمضان.
ومنها: أنَّها جميعاً تورِث الاهتمام الكبير، يستيقظ النائم، ويقوم القاعد، وتخرج العذراء من خدرها.
ومنها: أنّ الصيحة والنداء من المحتوم.
إلى غير ذلك ممَّا لا يخفى على المتتبِّع.
وبعد حمل المُطلق على المقيَّد، والمُجمَل على المُفصَّل، ما يلي:
١- إنَّ المراد من النداء الذي هو من المحتوم هو نداء جبرائيل باسم القائم.
٢- إنَّ المراد من النداء بالحق ليس إلاَّ ذلك.
٣- إنَّ صيحة جبرئيل هي هذا النداء أيضاً.
٤- إنَّ الآية التي تخضع لها أعناق أعداء الله هو ذلك أيضاً.
٥- إنَّ الفزعة التي تُخرِج الفتاة من خدرها هو ذلك أيضاً.
٦- إنَّ التوقيت في الثالث عشر من شهر رمضان، توقيته أيضاً.
فإنَّ القسم الثالث من أخبار النداء، أعني النداء باسم القائم واسم (أبيه) هي أخصُّ هذه الأخبار جميعاً، بما فيها أخبار الصيحة والفزعة... فتصلح أن تكون مُفسِّرة لها وشارحة لمدلولها... كما ستكون الصفات الأُخرى المُعطاة في تلك الأخبار، صفة للنداء أيضاً، كالتوقيت والحتميَّة وغيرهما.
وإذا تمَّ هذا الفَهْم العام، كانت الأخبار الدالَّة، على هذا المعنى المُشترك متواترة، بل تزيد على التواتر، فإنَّ أخبار النداء وحدها مُستفيضة، فإذا أضفنا إليها أخبار الفزعة والصيحة كانت متواترة.
كما أنَّ بعض الخصائص المذكورة لها مُستفيضة، كحصول الاهتمام المتزايد

↑صفحة ١٣٠↑

والتوقيت الذي عرفناه، وكونها من المحتوم، وكونها صوت جبرئيل الأمين، وأنَّها تكون بالحق وضدَّ أنصار الباطل.
لا يبقى بعد ذلك مجال للنقد إلاَّ في مستويين.
المُستوى الأول: ما هو محتوى النداء؟
هذا ما بيَّنته الروايات التي سمعناها على شكلين:
الشكل الأول: النداء باسم المهدي واسم أبيه.
الشكل الثاني: النداء بأنَّ الحقَّ في آل محمد.
فقد تَحْصَل المُعارضة بين هذه الروايات، ويبقى محتوى النداء خالياً من الدليل الصالح للإثبات.
والصحيح هو عدم التعارض، باعتبار إحدى النقاط:
النقطة الأُولى: إن افترضنا أنَّ كلاَّ ًمن الندائين ذو دليل كافٍ لإثباته، إذاً؛ فينبغي أن نلتزم بوجود نداء واحد يحتوي على كلا المدلولين، فهو يقول: إنَّ الحق في آل محمد، وإنَّ أمامكم فلان بن فلان. ولا تنافي بين الأمرين.
النقطة الثانية: أن نفهم الشكل الثاني للنداء راجع إلى الشكل الأول منه، وإنَّ ما يحصل في الخارج هو الشكل الأول فقط، وإنَّما ذكر الشكل الثاني نتيجةً لظروف تاريخية مُعيَّنة.
وخاصَّة إذا التفتنا أنَّ الأخبار الناقلة للندائين بالحق أوَّلاً، ثمَّ بالباطل، نقلت النداء الأول على شكلين، هما نفس الشكلين اللذين أشرنا إليهما، فيكون ما دلَّ على النداء هو من الشكل الأول قرينة على فَهْم مُعيَّن لما دلَّ على أنَّ النداء هو من الشكل الثاني، وأنَّه صدر في ظروف مُعيَّنة.
النقطة الثالثة: أنَّنا لو تنزَّلنا عن كلا النقطتين السابقتين، وافترضنا حصول التنافي بين الندائين، للعلم بأنَّ أحدهما غير حاصل. إذاً؛ يتعيَّن الأخذ بالشكل الأول من النداء، ورفض الشكل الثاني؛ لوفرة الأخبار الدالَّة على أنَّه يُنادى باسمه واسم أبيه، لأنَّ منها ما ورد مُستقلاًَّ، وهو القسم الثالث من الأخبار، ومنها ما ورد مع عطف النداء الباطل عليه، وهو أغلب القسم الثاني، فلا يكون ما دلَّ من الأخبار على الشكل الثاني للنداء معارضاً، لقلَّة عدد الأخبار فيه... فيكون مرفوضاً.
المستوى الثاني: هل الأخبار الدالَّة على وجود النداء بالباطل كافية للإثبات

↑صفحة ١٣١↑

ولا؟
هناك بعض المُقدِّمات الفكرية التي يمكن أن تُنتج رفضها:
المُقدِّمة الأُولى: إنَّ عدد الأخبار الدالَّة على النداء بالباطل أقلُّ بكثير من الأخبار الدالَّة على النداء بالحق، فبينما نرى الأخبار الدالَّة على النداء بالحق، وباسم المهدي (ع) عديدة، فإذا ألحقنا بها أخبار الفزعة والصيحة - كما سبق - أصبحت متواترة... نرى أنَّ الأخبار الدالَّة على النداء بالباطل ذات عدد قليل، تُمثِّل قسماً من أخبار النداء فقط.
المُقدِّمة الثانية: إنَّنا إذا سرنا على الفهم التقليدي لهذه الأخبار المُطابق مع ظهورها الأُولي، وهو صدور النداء بالباطل بشكل إعجازي وميتافيزيقي، فيكون هذا مُعجزةً صادرة في جانب الباطل، وقد برهنَّا على استحالة ذلك في التاريخ السابق؛(١٨٤) لما فيه من التغرير بالجهل، والدفع إلى الفتنة والانحراف، وهو مُستحيل على الحكيم المُطلق جلَّ وعلا.
فإذا تمَّت هاتان المُقدِّمتان، لزمنا رفض هذه الأخبار؛ لأنَّها أخبار قليلة نسبيَّاً ودالَّة على أمر مُستحيل، فيكون الأخذ بمضمونها مُستحيلاً.
وهذا لا يعني إسقاط القسم الثاني من أخبار النداء كلِّه، بل الساقط هو الجزء الدالّ على وجود النداء بالباطل فقط، وأمَّا الجزء الدالُّ منها على النداء بالحق، فيبقى ساري المفعول، مُعتضداً بالأخبار الدالَّة على ذلك، وقد سبق أن برهنَّا على إمكان التبعيض في الأخذ بمدلول الخبر.
نعم، لو ناقشنا بالمُقدِّمة الثانية، وأمكننا حمل النداء عموماً والنداء بالباطل خصوصاً، على معنى (طبيعي) غير إعجازي، أمكن الأخذ بالأخبار الدالَّة عليه، غير أنَّ هذا سوف يكون قابلاً للمُناقشة على ما سيأتي.
وإذا نُحاول تكوين فَهْمٍ مُتكامل عن هذين الندائين، نواجه عدَّة أُطروحات، منها الطبيعي، ومنها الإعجازي.
الأُطروحة الأُولى: أن نفهم من (جبرئيل) المُنادي بالحق و(إبليس) المُنادي بالباطل، أن نفهم منهما - ولو بنحو الرمز والمجاز - التعبير عن أنصار الحق وأنصار الباطل، فجبرئيل كناية عن المهدي نفسه، ونداؤه نداء الحق، وإبليس عبارة عن أعداء المهدي والمُنحرفين من البشر عموماً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٨٤) انظر ص٥٧٧.

↑صفحة ١٣٢↑

ويكون المراد بسِعَة الصوت وانتشاره إلى الشرق والغرب، وإلى كل إنسان، كونه مبثوثاً عن طريق وسائل الإعلام الحديثة، كالإذاعة والتلفزيون، وما ورد من أنَّ الصوت من السماء، فباعتبار أنَّ البثَّ الإذاعي والتلفزيوني لا يكون التقاطه إلاَّ من الفضاء، وخاصة مع وجود الكواكب الصناعية للبثِّ الإذاعي والتلفزيوني.
ومعه؛ يكون من السهل - بل من الطبيعي - أن نتصوَّر أنَّ جبهة الإمام المهدي (ع) تُنادي باسمه بطريق الوسائل الحديثة... و(جبهة) أعدائه تُنادي بنداء مُضادٍّ - سوف نعرف مدلوله - تريد به الفتنة، وصرف الناس من الحق إلى الباطل.
ويكون السبب في التأثير النفسي البالغ، والاهتمام الذي يُحدِثه الصوت الحق في العالم، ليس هو ارتفاع الصوت، بل هو أهمِّيَّة المضمون، فإنَّ الإعلان العام عن ظهور المهدي (ع) لأول مرَّة، وإعطاء المفهوم الواضح لثورته العالمية، مع كون المسلمين عامة، بل أكثر البشر ممَّن يتوقَّع حدوث دولة الحق، سوف يحدث ردود فعل عنيفة مُختلفة في الناس بلا شكٍّ.
وهذه الأُطروحة وإن كانت واضحة منطقيَّاً، غير أنَّه يرد عليها بعض الإشكالات التي من أهمِّها: أنَّ ما يُستفاد من سياق هذه الأخبار من أنَّ النداء، صوت الحق وصوت الباطل، إنَّما يكون قبل ظهور المهدي (ع) وليس بعده... وهذا يكون مُنافياً مع مضمون هذه الأُطروحة؛ لأنَّها تنظر إلى دعوات الحق والباطل بعد الظهور.
الأُطروحة الثانية: أن نلتزم - طبقاً لظاهر الأخبار - بأنَّ هذين الصوتين يوجَدان قبل ظهور المهدي (ع)، لكن بطريق طبيعي أيضاً، وعن طريق وسائل الإعلام الحديثة، ويكون السبب في هذين الصوتين، وجود حركتين مُتناحرتين في العالم الإسلامي: إحداهما مُحقّة، تهدي الناس إلى الإسلام الصحيح، والأُخرى حركة مُبطلة، تغوي الناس وتخدعهم وتُثير فيهم الشبهات.
ويكون التأييد لحركة الحق، في أول قيامها تأثيراً كبيراً في الناس، حتى إنَّ المرأة تحثُّ أباها وأخاها على نُصرة هذه الحركة وتأييدها، ولكنَّ هذه الحركة لن تدوم طويلاً، بل تكون ضدَّها حركة مُبطلة، تُعلن عن رأيها، وتُصرِّح بمقاصدها، فتوقع الناس في بلبلة وشبهات في العقيدة الإسلامية وما يمتُّ لها بصِلَةٍ.
ويكون من نداءاتها وشعاراتها المُهمَّة: أنَّ فلان قُتِل مظلوماً، والمراد به - والله العالم - ذلك الشخص الذي قتلته وقضت على حكمه الحركة الأُولى المُحقَّة، ومن هنا

↑صفحة ١٣٣↑

تُصرِّح الحركة الثانية بمظلوميَّته وانتهاج سبيله، والاحتجاج على قتله.
ولعلَّ التعبير يكون نداء الحركة الأُولى صادراً من السماء، ونداء الحركة الثانية صادراً من الأرض، باعتبار احترام النداء الأول، وكونه مُحقَّاً وانتقاص النداء الثاني باعتباره باطلاً وزُخرفاً.
إلاَّ أنَّ هذه الأُطروحة لا تصحُّ؛ لوضوح أنَّ نداء الحركة المُحقَّة سوف يكون هو الدعوة إلى مبادئها وتأييدها، لا النداء باسم القائم المهدي (ع) واسم أبيه، كما صرَّحت به الأخبار العديدة، ومعه يبقى هذا النداء بلا تفسير من زاوية هذه الأُطروحة.
وأمَّا احتمال أن يكون المراد من لفظ القائم: قائد الحركة المُحقَّة. باعتبار أنَّه قائم بالسيف، وناصر للحق بالسلاح في الجملة، وإن لم تكن حركته عالمية، فهذا الاحتمال غير صحيح، فإنَّ الأخبار صرَّحت بكونه قائمَ آل محمد وأنَّه المهدي، وفي بعضها وجود الصلاة والسلام عليه، وهو ممَّا لا ينطبق إلاَّ على المهدي الموعود.
الأُطروحة الثالثة: وهي المُطابقة مع ظاهر الأخبار وسياقها العام... وهو أن نفهم الأسلوب الإعجازي للنداء بالحق، باسم القائم واسم أبيه، ويكون ذلك من المُنبِّهات للاستعداد النفسي للظهور، كما قلنا.
وهو في عين الوقت يُضفي أهمِّيَّة عُظمى مُسبقة على يوم الظهور، ويُعيِّن اسم القائد العظيم فيه، ويكفي أن يُقال - بعد الظهور الذي يبدو أنَّه سوف لن يتأخَّر كثيراً بعد النداء -: أنَّ هذا القائد العظيم هو الذي هتف الهاتف باسمه، وحدثت المعجزة الضخمة آمرة بإطاعته والتسليم بأمره، وسوف يكون لذلك أعظم الأثر في نصره وانتشار دعوته، وقد عرفنا أنَّ يوم الظهور هو نتيجة جهود الأنبياء والأوصياء، والصالحين والشهداء، وهو الغرض الأسمى من خلق البشرية، فلا عجب أن يُمهِّد الله تعالى بمثل هذه المعجزات.
وهو ممَّا دلَّت الأخبار المتواترة عليه، كما عرفنا، وهو غير مُنافٍ مع قانون المعجزات؛ لوقوعه في طريق الهداية، إذاً؛ فلا بدَّ من التسليم به والاعتراف بوقوعه.
ويكون هذا الصوت في شهر رمضان في ليلة ثلاث وعشرين، التي هي - الأرجح - ليلة القدر، وهي أفضل ليالي السنة، ويكون التوجُّه الديني في ذلك الحين لدى المسلمين، وتقبُّل المفاهيم الدينية والأمور الروحية قد بلغ ذروته، فإنَّه يزداد في مُناسبات العبادة وخاصة في شهر رمضان، بالأخص في ليلة القدر.
وسيكون ردُّ الفعل بالاهتمام والفزع لهذا النداء، ناشئاً من عوامل ثلاثة مُقترنة.

↑صفحة ١٣٤↑

العامل الأول: ارتفاع الصوت وانتشاره، بحيث يُسمع الآفاقَ كلَّها.
العامل الثاني: جانبه الإعجازي، الذي لا يكاد يمكن تفسيره مادِّياً.
العامل الثالث: مضمونه، من حيث كونه مُشيراً إلى القائد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلِئت ظلماً وجوراً.
وأودُّ أن أُلاحِظَ على النداء بعض المُلاحظات.
المُلاحظة الأُولى: هناك فَهْم تقليدي للنداء، بأنَّه يقع في لحظة الظهور، إعلاناً عنه وإيذاناً بوقوعه، وهذا ما لم نجد من الروايات شيئاً دالاَّ ًعليه، ومن هنا لا يمكن الالتزام بصحَّته.
ولكن لا يمكن - مع ذلك - رفع اليد عن فكرة الإيذان والإعلان عن الظهور، إلاَّ أنَّ هذا كما يمكن أن يحصل عند إيجاد النداء مع الظهور، كذلك يمكن أن يحصل مع إيجاد النداء قبله بقليل، ويبدو كأنَّ الظهور قائم على أساس النداء ومنطلق منه، وإن كان الأمر - في الواقع - بالعكس.
ولا يبعد القول بإمكان البرهنة على تقديم النداء قبل الظهور بفترة زمنية؛ وذلك أنَّ النداء إذا حصل مع الظهور، كان المُتعيَّن عالمياً انطباقه على المهدي (ع)، الذي لا زال في أول ظهوره غير راسخ المُلك والقوَّة؛ ومن هنا ينفتح احتمال توجُّه الأسلحة العالمية ضدَّه، وهو خلاف بعض الضمانات التي سنذكرها لانتصاره، بخلاف ما لو حصل النداء قبله، فإنَّ حركة المهدي (ع) في أول عهدها سوف لن تكون ضرورية الانطباق على ذلك النداء، عالمياً، وسوف لن يلتفت إلى ذلك إلاَّ المؤمنون به والمنطقة التي تُعاصر حركته الأُولى، وهذا هو الأنسب مع بعض الضمانات التي سنذكرها.
وحيث إنَّ النداء باسم المهدي (ع) مع ظهوره مُخلاَّ ًبانتصاره، إذاً؛ فيتعيَّن عدم حصوله ساعتئذٍ، وحيث ثبت وجود النداء إجمالاً، إذاً؛ فهو يحصل قبل الظهور، بزمن قليل لا يضرُّ مع وجود فكرة الإعلام والتنبيه.
المُلاحظة الثانية: إنَّ حصول النداء قبل الظهور، معناه حصوله في عصر الغيبة، طبقاً للمفهوم الإمامي عن المهدي.
وهذا النداء عندئذٍ، لا يُنافي الغيبة الحاصلة في الفترة المُتخلّلة بين النداء والظهور؛

↑صفحة ١٣٥↑

لأنَّ المعنى الأساسي للغيبة - كما عرفناه في التاريخ السابق(١٨٥) - هو الجهل المطلق بحقيقة شخص المهدي (ع)، فبالرغم من أنَّ الناس يرون الإمام ويُعاشرونه، إلاَّ أنَّهم يعرفونه باسم آخر غير صفته الواقعية، ومن الواضح أنَّ هذا المعنى لا يتغيَّر بوجود النداء، ما لم يُطبِّقه المهدي نفسه على نفسه عند ظهوره.
وكذلك الحال مع الأُطروحة الأُخرى التي رفضناها هناك، وسميَّناها بـ (أُطروحة خفاء الشخص) حتى مع وجود النداء، ولا يرتفع إلاَّ مع الظهور.
المُلاحظة الثالثة: كم هي الفترة المُتخلِّلة بين النداء والظهور؟
دلَّت الروايات السابقة على وقوع النداء في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان،(١٨٦) ولعلَّه هو الشهر الذي قع فيه الكسوف والخسوف على غير المألوف، ورمضان آخر قريب منه نسبيَّاً.
والمُلاحَظ أنَّ هذا التوقيت في روايات النداء مُستفيض صالح للإثبات التاريخي، إلاَّ أنَّ هذا التوقيت لم يبلغ إلى هذه الدرجة من الكثرة في روايات الخسوف والكسوف.
وسوف يأتي أنَّ الروايات تدلُّ على حصول الظهور في مساء اليوم العاشر من مُحرَّم الحرام... فإذا استطعنا أن نُبرهن - كما سبق - على قُصر المُدَّة بين النداء والظهور، تعيَّن القول: إنَّ المُحرَّم الذي يتمُّ فيه الظهور هو المُحرَّم الذي يأتي بعد ذلك الرمضان الذي يوجَد فيه النداء، ويفصل بينها - في كل عام - ثلاثة من الأشهُر القمريَّة، فتكون المُدَّة المُتخلِّلة ثلاثة أشهُر وسبعة عشر يوماً، وإن كان شهر رمضان تامَّاً.
وستكون هذه المُدَّة المُتخلِّلة كافية لتنيبه المؤمنين، واجتماعهم لاستقبال إمامهم وقائدهم عند ظهوره، كما سيأتي.
فهذه المُلاحظات، عن النداء بالحق، وهو الصالح للإثبات كما عرفنا، وأمَّا النداء بالباطل، فهو غير صالح للإثبات، فلا يُهمُّ التعرُّض إلى تفاصيله.
الجهة الرابعة: المطر.
أخرج الطبرسي في أعلام الورى،(١٨٧) عن عبد الكريم الخثعمي، عن أبي عبد الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٨٥) تاريخ الغيبة الكبرى ص٣٤ وما بعدها.
(١٨٦) المصدر ص٣١ ومابعدها.
(١٨٧) ص٤٣٢.

↑صفحة ١٣٦↑

الصادق (ع)، في حديث عن القائم يقول فيه: (وإذا آن قيامه، مُطِر الناس في جُمادى الآخرة وعشرة أيَّام من رجب مطراً لم يُرَ مثله...) الحديث.
وذكر المفيد في الإرشاد(١٨٨): قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (ع)، وحوادث تكون أمام قيامه، وآيات ودلالات.
ثمَّ إنَّه (عليه الرحمة) ذكر العديد منها إلى أن قال:
ثمَّ يختم ذلك بأربع وعشرين مطرةٍ تتَّصل فتُحيى بها الأرض بعد موتها وتُعرَف بركاتها.
وأخرج الشيخ في (الغيبة)،(١٨٩) بإسناده عن سعيد بن جبير قال: السنة التي يقوم فيها المهدي تمطر أربعاً وعشرين مطراً يُرى أثرها وبركاتها.
ولا تخفى الحكمة من هذا المطر، وهو الاستعداد للظهور، بإنعاش الأرض إنعاشاً كافياً لتوفير الزراعة، ذلك التوفير العظيم الذي سنسمع عنه فيما يلي من الفصول:
وهذا التقديم خير من نزول المطر بعد الظهور بغزارة، بحيث قد يعيق عن جملة من الأعمال التي يريد القائد المهدي (ع) انجازها، ففي تقدُّمة على الظهور جني لفوائد المطر مع تفادي مُضاعفاته.
ونزول المطر ليس إعجازياً - بطبيعة الحال - إلاَّ أنَّ توقيته وكمِّيَّته، يبدو من سياق الروايات أنَّها بقصد إعجازي خاص من قِبل البارئ الحكيم، توصُّلاً للنتائج المطلوبة من ورائها.
غير أنَّ عدَّة نقاط ضعف تبرز في هذا الصدد.
النقطة الأُولى: ضعف الروايات من حيث السند؛ فإنَّ روايتي الطبرسي والمفيد مُرسلتان، ورواية الشيخ منقولة عن سعيد بن جبير، لا عن أحد الأئمة المعصومين، فلا تكون صالحة للإثبات التاريخي.
النقطة الثانية: قلَّة عدد الروايات الدالَّة على ذلك؛ فإنَّ منهجنا في هذا الكتاب وإن كان قائماً على أساس قبول الخبر الواحد، غير أنَّنا أشرنا إلى لزوم تطبيق (التشدُّد السندي)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٨٨) انظر ص٣٣٧.
(١٨٩) انظر ص٢٦٩.

↑صفحة ١٣٧↑

في روايات المُعجزات، وهذه منها بلحاظ ما قلناه من التوقيت الاعجازي، فلا تكون هذه الروايات كافية للإثبات حتى ولو لم تكن مُرسلة.
النقطة الثالثة: إنَّ هذه الروايات لا تدلُّ على أمطار ضخمة جدَّاً، فإنَّ أربعاً وعشرين مطرة موزَّعة على شهر وشهرين ممَّا يحدث في البلاد المتوسِّطة المطر، فضلاً عن الغزيرة الباردة، ومعه لا يمكن أن يكون هذا المطر علامة على الظهور؛ لأنَّ فكرة العلامة منطلقة من الإخبار عن شيء مُهمٍّ ومُلفت للنظر في التأريخ، وليس هذا المطر كذلك.
النقطة الرابعة: إنَّ هذه الروايات لا تدلُّ على مكان حدوث هذه الأمطار، فقد تكون بلاداً باردة مُمطرة، وقد تكون بلاداً جافَّة... كل ما يمكن قوله: إنَّ المطر سوف يحدث في بلاد الشرق الأوسط الإسلامية، إلاَّ أنَّ هذه البلاد نفسها تحتوي على كلا القسمين من المناخ، فهناك الباردة الممطرة كإيران ولبنان، وهناك الجافَّة المُمحلة كالحجاز ونَجد على العموم.
نعم، يمكن أن يُقال - كـ (أُطروحة) من أجل اكتساب هذا المطر الأهمِّيَّة ومن ثمَّ تصدق عليه فكرة العلامية -: إنَّ مكان هذا المطر يمكن أن يكون على شكلين:
الشكل الأول: أنَّه ينزل في الأماكن المُقدَّسة: مكَّة والمدينة، المُشرَّفتين، وهي من البلاد الجافَّة المُمحِلة، فيكون وجود هذه الكمِّيَّة من المطر فيه مُهمَّاً جدَّاً.
الشكل الثاني: أن ينزل في كل منطقة الشرق الأوسط جميعاً، وبشكل مشترك... بالعدد والزمان المُحدَّدين السابقين؛ فيكتسب أهمِّيَّة كبيرة أيضاً.
غير أنَّ هذين الشكلين إنَّما يكتسبان الأهمِّيَّة، لو تمَّ إثباتهما التأريخي، وقد عرفنا في النقطتين الأوليتين عدم صلاحيَّة الروايات للإثبات التأريخي.
وإذا لم يثبت ذلك، كان العديد ممَّا ذُكِر في المصادر من الحوادث والعلامات القريبة للظهور، غير قابل للإثبات التأريخي أيضاً؛ لأنَّه ليس أحسن حالاً في النقل من هذه الحادثة على أيِّ حال؛ ومن ثَمَّ يكون الأحجى أن نُعرِض عنها، وندع العلم بها إلى أهله.
فهذا هو الكلام عن العلامات (الطبيعية)، أعني الكَوْنيَّة الخارجة عن المجتمع البشري، وعرفنا أنَّ أهمَّها وأوضحها اثنان فقط، هما النداء باسم القائم واسم أبيه، ويليه الكسوف الخسوف، وليس هناك ما يمكن إثباته من الحوادث والعلامات (الطبيعية) غير ذلك، إذا مشينا على منهجنا في التمحيص التأريخي.

↑صفحة ١٣٨↑

الفصل الثاني: الظواهر الاجتماعية

أعني الظواهر التي تنطلق من المجتمع وتصرُّفات الناس وهي عِدَّة علامات، نذكر كلاَّ ًمنها بعنوان
الدجَّال:
وقد سبق أن عرضناه مُفصَّلاً في التاريخ السابق، وقدَّمنا هناك الفَهْم المُتكامل عنه، والمُناسب مع كل ما ورد وثبت عنه من الخصائص والصفات.
وإنَّما كرَّرنا العنوان في التاريخ، باعتبار ما دلَّت عليه بعض الأخبار، ممَّا سيأتي من قُرب ظهور الدجَّال إلى ظهور المهدي (ع)، فيكون من العلامات القريبة للظهور، التي نحن بصددها، وهذا ممكن الصدق على كلا الفهمين اللذين قدَّمناهما للدجَّال في التاريخ السابق.
وسوف لن نُكرِّر ما ذكرناه هناك - بطبيعة الحال - وإنَّما المُهمُّ هنا أن نسير خطوات أُخرى إلى الأمام في فَهْم الدجَّال، ونؤكِّد على مدى علاقة الدجَّال بالمهدي والمسيح (ع)، وإيراد ما ورد في ذلك من الأخبار، ونحوها من الخصائص التي لم نتوفَّر على عرضها في التاريخ السابق.
الناحية الأولى: موقف الدجَّال من الأمَّة الإسلامية، ومدى تأثيره فيها، ذلك التأثير الذي نستطيع أن نفهم استمراره إلى حين الظهور، ويواجهنا بهذا الصدد عدد من الأخبار، نذكر ما أورده الشيخان من العامة وبعض الإمامية.

↑صفحة ١٣٩↑

أخرج مسلم،(١٩٠) بسنده عن حذيفة، قال: قال رسول الله (ص): (لأنا أعلم بما مع الدجَّال منه، معه نهران يجريان وأحدهما: رأى العين ماء أبيض، والآخر رأى العين نار تُأجَّج. فأمَّا أدركن أحد، فليأت النهر الذي يراه ناراً، وليُغمِض، ثمَّ ليُطأطِئ رأسه فيشرب منه، فإنَّه ماء بارد، وإنَّ الدجَّال ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة ومكتوب بين عينيه: كافر. يقرأه كاتب وغير كاتب).
وفي حديث آخر أخرجه(١٩١) أيضاً عن النواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله الدجَّال، إلى أن قال: (إنَّه خارج خلَّة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله، فاثبتوا - إلى أن قال: - فيدعوهم فيؤمنون ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتُنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراً وأسبغه ضروعاً وأمدَّه خواصر.
ثمَّ يأتي القوم فيردُّون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيُصبحون مُمحلين، ليس بأيديهم شيء من أموالهم...) إلخ.
وأخرج البخاري(١٩٢) عن أنس بن مالك، قال: قال النبي (ص): (يجيء الدجَّال حتى ينزل في ناحية المدينة، ثمَّ ترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كلُّ كافر ومُنافق).
وأخرج الصدوق(١٩٣)، بإسناده عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يتحدَّث عن الدجَّال ويقول عنه: (يُنادي بأعلى صوته يُسمِع ما بين الخافقين... يقول: إليَّ أوليائي، أنا الذي خلق فسوى! وقدَّر فهدى أنا ربُّكم الأعلى. وكَذَب عدوُّ الله، إنَّه أعور يُطعَم الطعام ويمشي في الأسواق، وإنَّ ربَّكم ليس بأعور ولا يُطعَم ولا يمشي في الأسواق، ولا يزول، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩٠) انظر صحيح مسلم ج٨ ص١٩٥ ونحوه في البخاري ج٩ ص٧٥.
(١٩١) صحيح مسلم نفس الجزء والصفحة.
(١٩٢) انظر الصحيح ج٩ ص٧١.
(١٩٣) أنظر كمال الدين المخطوط.

↑صفحة ١٤٠↑

ألا وإنَّ أكثر أتباعه يومئذ أولاد الزِّنا، وأهل الطيالسة الخضر...) إلخ الحديث، وغير ذلك من الأخبار.
قد أعطينا في التاريخ السابق أُطروحتان لفَهْم الدجَّال (إحداهما: تقليديَّة تقول: إنَّ الدجَّال شخص مُعيَّن طويل العمر، سيظهر في آخر الزمان من أجل ضلال الناس وفتنتهم عن دينهم. ويدلُّ عليه قليل من الأخبار.(١٩٤)
والأُخرى: إنَّ الدجَّال عبارة عن مستوى حضاري أيديولوجي مُعيَّن، مُعادٍ للإسلام والإخلاص الإيماني ككل، وقد سبق هناك أن ناقشنا الأُطروحة الأُولى ورفضناها بالبرهان، ولا بدَّ من طرح ما دلَّ عليها من الأخبار، ودعمنا الأُطروحة الثانية وهي، التي ستكون منطلق كلامنا الآن.
ونحن نعلم، فيما يخصُّ الحضارة المادِّية المُعاصرة، كيف استطاعت غزو المجتمع المُسلم فكريَّاً وعسكريَّاً ونادت بأعلى صوتها فأسمعت ما بين الخافقين، عن طريق وسائل الإعلام الحديثة، فجمعت إليها أولياءها، وهم كل مَن يؤمِن بعظمتها وصدقها وأغراه العيش بين أكنافها.
ونرى كيف أنَّها أمدَّت هؤلاء بالخير الوفير والقوَّة والسيطرة (فتروح سارحتهم) أي أغنامهم، وهو كناية ورمز عن كل مصدر للمال والقوَّة (أطول ما كانت ذراً وأسبغه وأمدَّه خواصر) يكنى بذلك عمَّا ينال المُنحرفون من خير الحضارة المادِّية وما تستطيع هذه الحضارة أن تضمنه لهم من مُستقبل عريض.
على حين نرى الخاصَّة المُخلصين، الذين شجبوا هذه الحضارة، وأنكروا عليها مادِّيَّتها ولا أخلاقيَّتها وظلمها، يعيشون في الضيق والضرر (يُصبحون مُمحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم) كما يقول الخبر.
(يجيء الدجَّال) مُمثِّل هذه الحضارة (حتى ينزل في ناحية المدينة) أي مدينة، ليس له فيها إلاَّ مركز واحد غير مُلفت للنظر، قد يكون هو سفارة، وقد يكون مركز تبشير، وقد يكون مدرسة ومُستشفى، ولكن بمضيِّ الأيَّام والليالي (ترجف المدينة ثلاث رجفات) خلالها، وهو كناية ورمز عن المصاعب والمِحن التي تمرُّ بها المجتمعات، وهي محن التمحيص دائماً (فيخرج إليه كل كافر ومُنافق) فاشل في التمحيص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩٤) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٥٧٨ وما بعدها وص٦١٧.

↑صفحة ١٤١↑

وقد ذكرنا في التاريخ السابق(١٩٥) معنى ادِّعاء الدجَّال للربوبية، وإنَّ له نهرين... طبقاً لهذه الأُطروحة... فلا نُعيد.
(أكثر أتباعه أهل الطيالسة الخضر) وهم - حسب ما يبدو - أهل الأموال والسُّمعة والسيطرة الاجتماعية في المجتمع المسلم المُنحرف، و(أولاد الزنا) يمكن أن يُراد بذلك أحد معنيين:
المعنى الأول: أُولئك الذين انقطعوا عن آبائهم عقائديَّاً ومفاهيميَّاً... وأصبحوا أولاداً للناس الآخرين، الذين آمنوا بربوبيتهم وولايتهم ومبادئهم.
المعنى الثاني: إنَّ الإيمان بالاتجاه المادِّي الحديث، يُنتج إنكار عقد الزواج وتكوين الأُسرة بدونه، كما عليه عدد من الناس في البلاد الإسلامية الآن، فيُنتجون ذُرِّيَّة تكون لقمةً سائغةً في شدق السبع المادِّي الهائل.
وليس هذا موقف الحضارة المادِّية المُعاصرة فقط، بل موقف كل حضارة مادِّية على مدى التاريخ، وخاصة فيما إذا استمرَّت في المُستقبل عدداً مهمَّاً من الأجيال، ومفهوم (الدجَّال) شامل لمجموع الحضارة المادِّية على مدى التاريخ، لا خصوص حضارتنا المُعاصرة المُحترمة!!
وإذا كان للدجِّال أن يُعاصر ظهور المهدي ونزول المسيح، وأن يوجَد قبل ذلك بقليل، ليكون من علاماته القريبة... فمعنى ذلك استمرار الحضارة المادِّية إلى ذلك الزمان، مهما كان بعيداً، لكي يستمرَّ التمحيص ويتعمَّق بالتدريح، حتى يُنتج نتيجته المطلوبة المُنتظَرة.
والدجَّال يقتله المسيح والمهدي (ع)، كما سنسمع؛ لأنَّ نظامهما تماماً سيقضي على الحضارة المادِّية، وما ملأت به الأرض من الظلم والجور والانحراف، ويتبدَّل إلى القسط والعدل والإنصاف والرفاه.
الناحية الثانية: علاقة الدجَّال بالمسيح (ع) عند نزوله.
أخرج مسلم(١٩٦) من حديث عن النواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله (ص) الدجَّال... إلى أن يقول: (فبينما هو كذلك، إذ بعث الله المسيح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩٥) انظر ص٦٤٢ وص٧٤٥.
(١٩٦) صحيح مسلم ص١٩٧- ١٩٨ ج٨.

↑صفحة ١٤٢↑

ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفَّيه على أجنحة مَلكين، فيطلبه حتى يُدركه بباب لُدّ، فيقتله، ثمَّ يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويُحدِّثهم بدرجاتهم في الجنَّة...) الحديث.
وفي حديث آخر لمسلم(١٩٧) قال: قال رسول الله (ص): (يخرج الدجَّال في أُمَّتي فيمكث أربعين... فيبعث الله عيسى بن مريم، كأنَّه عروة بن مسعود، فيطلبه فيُهلكه، ثمّ يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة...) الحديث.
وهناك في المصادر العامَّة الأُخرى أخبار بهذا لمضمون، ولكنّنا نقتصر على ما أخرجه مسلم.
والمصادر العامة اقتصرت على ذكر العلاقة بين الدجّال - بأيِّ معنى فهمناه - وبين المسيح (ع) على حادثة قتله، كما اقتصرت في قاتل الدجّال على المسيح (ع)، ولم تتعرّض للمهدي (ع) على ما سنسمع ذلك ونُناقشه.
وسنتعرّض إلى حادثة نزول المسيح في القسم الثاني من هذا التاريخ، وسنوافق عليها إجمالاً، فإذا تمّ ذلك، وهو لا يتمُّ إلاَّ بعد طغيان الدجّال واستفحال أمره - بأيِّ معنى فهمناه - كان من أهمِّ الأعمال التي يستهدفها هو القضاء على الدجّال والإجهاز على نظامه ومفاهيمه.
ومنطق الأشياء أن يسبق مقتل الدجّال حرب سجال بينه وبين المسيح، يُكتب فيها النصر للمسيح فيقتله، وأمّا فوزه عن طريق المُعجزة، كما يظهر من البرزنجي في (الإشاعة)،(١٩٨) فهو مُخالف لما قلناه: من أنَّ أُسلوب الدعوة الإلهية غير قائم على المعجزات، ما لم ينحصر بها الأمر، وإلاَّ كان نبي الإسلام (ص) في نصره على قريش أولى بالمعجزات، ولاستطاع السيطرة على كل العالم بين عشيِّةٍ وضحاها؛ ومن هنا لا نقول بوجود المعجزات في طريق نصر المهدي (ع) إلاَّ بمقدار الضرورة التي لا بديل عنها.
وقد سمعنا في هذه الأخبار عدَّة خصائص، من حيث إنَّ قتل الدجَّال سيكون في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩٧) صحيح مسلم ج٨ ص٢٠١.
(١٩٨) انظر ص١٣٥.

↑صفحة ١٤٣↑

دمشق، وهو أمر يصعب إثباته تاريخياً، ولكنّه لو تمّ فهو يدلُّ على أنّ هذه البلدة ستُصبح مسرحاً مُهمَّاً ومركزاً رئيسيّاً للدجّال - بأيّ معنى فهمناه - ولا يخفى أنّه طبقاً للأُطروحة التي فهمناها للدجّال لا يكون لقتل الدجّال هناك أكثر من هذا المعنى، أعني تحويل دمشق من الانحراف إلى الإيمان.
وهذا ممَّا يُفسِّر لنا ما سيأتي من وجود عدد من المُخلصين المُمحّصين الراسخين في الإيمان في دمشق، على ما دلّت عليه الأخبار - وسيأتي في محلِّه من هذا الكتاب - فإنَّ انحراف المجتمع كلّما تزايد والظلم كلّما تضاعف، أوجب ذلك عمق التمحيص ودقّته؛ الأمر الذي يوجب زيادة عدد المؤمنين وزيادة إخلاص الموجود منهم... حتى وصِفوا في هذه الأخبار بالأولياء والأبدال، وهؤلاء وأمثالهم هم الذين يأتي إليهم عيسى بن مريم (فيمسح عن وجوههم ويُحدِّثهم بدرجاتهم في الجنَّة)، كما سمعنا في الحديث.
غير أنَّ ظاهر الحديث أنَّه يأتي إليهم بعد أن يتمَّ قتل الدجَّال على يديه، لا أنّه يرتكز عليهم في قتاله، والصحيح أنَّ الحديث دالٌّ على أنَّه (ع) يأتي إليهم ويُبشِّرهم بالجنَّة بعد قتل الدجَّال، ولكنَّه لا يدلُّ على عدم مشاركة هؤلاء في قتله وقتاله، بل لعلَّ الدرجات التي استحقُّوها في الجنَّة ناشئة إلى حدٍّ كبير من هذه الأعمال الكبرى.
الناحية الثالثة: في علاقة الدجَّال بالمهدي (ع).
وهذا ما وجدناه في المصادر الخاصة، دون العامة.
أخرج الشيخ الصدوق،(١٩٩) بإسناده عن النزال بن سبرة، قال خطبنا علي بن أبي طالب (ع)، فحمد الله (عزَّ وجلَّ) وأثنى عليه، وصلَّى على محمد وآله، ثمَّ قال: (سلوني قبل أن تفقدوني - ثلاثاً ـ).
فقام إليه صعصعة بن صوحان.
فقال: يا أمير المؤمنين، متى يخرج الدجَّال؟
فقال له: (اقعد، فقد سمع الله كلامك وعلم ما أردت... - إلى أن يقول بعد حديث طويل: - يقتله الله عزَّ وجلَّ بالشام على عقبة تُعرف بعقبة أَفيق، لثلاث ساعات مضت من يوم الجمعة على يد من(٢٠٠) يُصلِّي عيسى بن مريم خلفه...) الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩٩) انظر كمال الدين (المخطوط) باب حديث الدجّال وما يتَّصل به من أمر القائم صلوات الله وسلامه عليه.
(٢٠٠) في المخطوط: على من يد من... وهو تحريف.

↑صفحة ١٤٤↑

أقول: والذي يُصلِّي عيسى بن مريم خلفه هو المهدي (ع)، كما وردت بذلك الآثار المُستفيضة، ومنها ما في الصحيحين(٢٠١): (كيف بكم إذا نزل عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم).
وأخرج الصدوق(٢٠٢) أيضاً، بإسناده عن المفضَّل بن عمر، قال: قال الصادق جعفر بن محمد (ع): (إنَّ الله تبارك وتعالى خلق أربعة عشر نوراً قبل خَلِق الخلق بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا).
فقيل له: يا بن رسول الله، ومَن الأربعة عشر؟
فقال: (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، والأئمَّة من وُلْد الحسين، آخرهم القائم الذي يقوم بعد غيبته فيقتل الدجَّال(٢٠٣)، ويُطهِّر الأرض من كلِّ جور وظلم).
وفي مُنتخب الأثر،(٢٠٤) في حديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) يقول فيه: (ومنَّا رسول الله، ووصيُّه، وسيِّد الشهداء، وجعفر الطيار في الجنَّة، وسبطا هذه الأُمَّة، والمهدي الذي يقتل الدجَّال).
ومن الغريب أنَّ الصحاح تذكر أحاديث في علاقة الدجَّال بالمسيح، وأحاديث في علاقة المسيح بالمهدي (ع)، ولا تورِد أيَّ خبر في علاقة المهدي بالدجَّال! مع أنَّه تفهم من تَيْنَك العلاقتين مُعاصرته له، ومن المعلوم كون المهدي (ع) هو رائد الحق في العالم، فكيف لا يكون له اليد الطَّولى في قتله وقتاله؟!
لو نظرنا من زاوية أُخرى، رأينا أنَّ تأخُّر نزول المسيح (ع) عن ظهور المهدي (ع) بفترة من الزمن - على ما سنسمعه عن المصادر العامة - يُنتج لنا: أنَّ السبب الرئيسي الوحيد في زوال الدجَّال هو عمل القائد المهدي (ع) ضدَّه، وتخطيطه للقضاء عليه، ومن المقطوع بزيفه وبطلانه باليقين أن يظهر الإمام المهدي (ع) فلا يُحارب الدجَّال - بأيِّ معنى فهمناه ـ، ويُرجئ قتاله إلى حين نزول المسيح من السماء، فإنَّ ذلك خالف تكليفه الإسلامي ووظيفته الإلهية، في قمع الكفر والانحراف ونشر الهداية في العالم.
كما أنَّ المقطوع ببطلانه: أن يُفترض أنَّ المهدي (ع) يُحارب الدجَّال فيندحر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٠١) انظر صحيح البخاري ج٤ص٢٠٥، وصحيح مسلم ج١ ص٩٤.
(٢٠٢) انظر إكمال الدين المخطوط.
(٢٠٣) كذا نقله في مُنتخب الأثر (ص٤٨٠) ولكنَّه في المخطوط: الرجَّال بالراء.
(٢٠٤) انظر ص١٧٢ وما بعدها.

↑صفحة ١٤٥↑

أمامه، وينتصر الدجَّال ويُحاصر المهدي (ع) ورجاله، كما يظهر من البرزنجي في الإشاعة،(٢٠٥) وكيف يمكن أن يتحقَّق ذلك، وقد ثبت بضرورة الدين وتواتر الأخبار، وعن طريق البرهان على التخطيط العام الذي عرفناه، كون الإمام المهدي (ع) منصوراً مؤيَّداً حتى يفتح العالم بأجمعه، ويجمع البشر على الحق والعدل؟!
إذاً؛ فاليد الطَّولى في الإجهاز على الدجَّال ونظامه، للمهدي (ع) نفسه.
نعم، يمكن أن نفترض مشاركة المسيح (ع) من قَتل الدجَّال ضمن إحدى أُطروحتين:
الأُطروحة الأُولى: إنَّ المسيح (ع) يقتل الدجَّال بالمُباشرة، والمهدي (ع) يقتل الدجَّال بالتسبُّب، أعني بصفته قائداً أعلى لا تصدر التعليمات الأساسية إلاَّ منه؛ فيكون إسناد القتل إلى المهدي (ع) من قبيل قولنا: فتح الأمير المدينة، يعني بأمر منه، والفاتح المُباشر هو الجيش بطبيعة الحال.
وهذه الأُطروحة، كما تُناسب الفهم الكلاسيكي للدجَّال، وهو كونه شخصاً بعينه، كذلك تُناسب مع الفهم الرمزي الذي دعمناه، ويكون الإجهاز على الدجّال من قِبَل المسيح (ع) بصفته أحد القادة الرئيسين في دولة المهدي العالمية.
الأُطروحة الثانية: إنَّ المسيح (ع) إذا كان يتأخَّر نزوله عن ظهور المهدي (ع)، فقد نتصوَّر أنَّ المهدي (ع) عند ظهوره يُقاتل الدجّال، بأيِّ فَهْمٍ فهمناه، وبعد نزول المسيح يوكِل هذه المُهمَّة إلى المسيح (ع).
ولا تُنافي بين هاتين الأُطروحتين، كما هو واضح لمَن يُفكِّر، وبها نجمع بين الأخبار الدالَّة على أنَّ المسيح يقتل الدجَّال والأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي يقتله؛ فإن كلا هذين القسمين من الأخبار صادقاً، ولا تنافي بينهما.
يأجوج ومأجوج:
وهذا ما ورد عنه في القرآن الكريم، في أكثر من موضع... وتطاحنت التفاسير فيه، حتى لم تكَدْ ترسو على أمر مُشترك، وذُكِر لهم بعضها صفات غريبة، وليس المُهمُّ الآن الدخول في تفاصيل ذلك، وإنَّما المقصود، هو معرفة مدى ارتباطه بالظهور، ومدى ما يمكن أن يكون مدى تأثيره لو كان له ارتباط.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٠٥) انظر ص١٣٥.

↑صفحة ١٤٦↑

وقد ذكر في التاريخ السابق(٢٠٦) شيئاً من الأخبار عن يأجوج ومأجوج، وتكلَّمنا عمَّا إذا كان القرآن بضمه إلى الإخبار دالاَّ ًعلى تقدُّم خروج يأجوج ومأجوج على الظهور، ولم نستطع أن نتميَّز ظهور القرآن في ذلك، بل بات الأمر مُحتملاً غير قابل للإثبات التاريخي، وإن كان مُحتملاً جدَّاً.
وقد روينا هناك(٢٠٧) ما أخرجه مسلم عن هؤلاء، نُكرِّر منه هذه الفقرة:
(ثمَّ يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس.
فيقولون: لقد قتلنا أهل الأرض، هلمَّ فلنقتُل مَن في السماء، فيرمون بنشَّابهم إلى السماء، فيردُّ الله عليهم نشَّابهم مخضوبة بالدم).
وأخرج ابن ماجة(٢٠٨) عن أبي سعيد الخدري، أنَّ رسول الله (ص)، قال:
(تفتح يأجوج ومأجوج، فيخرجون. كما قال الله تعالى: (... وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)، فيعمُّون الأرض وينحاز منهم المسلمون، حتى تصير بقيَّة المسلمين في مدائنهم وحصونهم، ويضمُّون إليهم مواشيهم، حتى إنَّهم ليمرُّون بالنهر فيشربونه، حتى ما يذرون فيه شيئاً، فيمرُّ آخرهم على أثرهم، فيقول قائلهم: لقد كان بهذا المكان مرَّة ماء.
فبينما هم كذلك، إذ بعث الله دوابّ كنَغف الجُراد، فتأخذ بأعناقهم، فيموتون موت الجُراد، يركب بعضهم بعضاً.
فيصبح المسلمون لا يسمع لهم حسَّاً، فيقولون: مَن رجل يشري نفسه، وينظر ما فعلوا؟
فينزل منهم رجل قد وطَّن نفسه على أن يقتلوه، فيجدهم موتى، فيناديهم: ألا أبشروا، فقد هلك عدوُّكم. فيخرج الناس ويُخلُّون سبيل مواشيهم، فما يكون لهم رعي إلاَّ لحومهم، فتشكر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٠٦) انظر ص٦٣٣ وما بعدها.
(٢٠٧) المصدر والصفحة.
(٢٠٨) انظر السُّنن ج٢ ص١٣٦٣.

↑صفحة ١٤٧↑

عليها، كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قطُّ).
وأخرج الصحيحان(٢٠٩) وغيرهما، بالإسناد عن زينب بنت جحش قالت: إنَّ النبي (ص) استيقظ من نومه وهو يقول: (لا إله إلاَّ ألله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه).
وعقد سفيان بيده عشرة.
قلت: يا رسول الله، أفَنَهْلَك وفينا الصالحون؟
قال: (نعم، إذا كثر الخُبْث).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، جوَّد سفيان هذا الحديث.
وأخرج أبو داوود،(٢١٠) بإسناده عن حذيفة الغفاري في حديث قال فيه: فقال رسول الله (ص): (لن تكون ولن تقوم الساعة حتى يكون قبلها عشر آيات:... - وعد منها - خروج يأجوج ومأجوج).
وينبغي أن نتكلَّم حول هذه الأخبار في عدَّة نواحي:
الناحية الأُولى: أنَّه لا يمكن الأخذ بالدلالة (الصريحة) لهذه الأخبار، الأمر الذي يُعيِّن علينا الالتزام بالفهم (الرمزي) لها؛ وذلك لوجود عدَّة موانع عن الأخذ بصراحتها، نذكر منها ما يلي:
المانع الأول: وجود التهافت بين بعض مدلولاتها؛ الأمر الذي يُسقطها عن قابليَّة الإثبات التاريخي.
فإنَّ الخبر الذي أخرجه مسلم، ورويناه في التاريخ السابق، يدلُّ على وجود نبي الله عيسى بن مريم (ع) بين المسلمين، عند انتشار يأجوج ومأجوج، وقد أعرضتْ عنه سائر الأخبار الأُخرى، فتكون دالَّة على عدم وجوده؛ لأنَّ وجوده ليس بالواقعة البسيطة التي يمكن إهمالها.
كما أنَّ ذاك الخبر دالٌّ على أنَّ زوال يأجوج ومأجوج كان بدعاء المسيح وأصحابه، وإنَّ إزالة جُثثهم كان بدعائه أيضاً، والأخبار الأخرى خالية عن ذلك، ويدلُّ خبر ابن ماجة على أنَّهم يهلكون بإرادة مُباشرة من الله عزَّ وجلَّ.
كما أنَّ خبر مسلم يتضمَّن لوجود المَطر الذي يغسل الأرض من نَتْنِهم بعد زوال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٠٩) انظر صحيح البخاري ج٨ص ٧٦ وصحيح مسلم ج٨ ص ٢٦٥ واللفظ لمسلم.
(٢١٠) انظر السنن ج٢ص٤٢٩.

↑صفحة ١٤٨↑

جثثهم... وهذا ما سكتت عنه الأخبار الأُخرى، واعتبرته كأنَّه لا حاجة إليه.
كما أنَّ خبر مسلم دالٌّ على أنَّ الطير تنقل الجثث إلى حيث يشاء الله، ولكنَّ خبر ابن ماجة دالٌّ على أنَّ الأغنام تأكل لحومها، فتشكر عليها، أي تسمن أحسن من أكلها للنبات.
المانع الثاني: قيام عدد من الحوادث في نقل هذه الأخبار على المعجزات، بشكل يتنافى مع (قانون المعجزات) الذي تمَّ البرهان عليه في محلِّه.
منها: موت يأجوج ومأجوج، فجأة بطريق إعجازي، وهذا غير ممكن في قانون المعجزات، فإنَّ أُسلوب الدعوة الإلهية - كما قلنا - قائم على مقابلة السلاح بالسلاح، وتحصيل النصر بالكفاح، لا عن طريق المعجزات.
وبتعبير آخر: إنَّ كل ما يمكن حصوله بالطريق الطبيعي - مهما يكن صعباً وبعيداً - لا تقوم المعجزة بتحصيله، ومن الواضح أنَّ تربية وتأديب يأجوج ومأجوج، واستئصالهم إذا لم يتأدَّبوا، أمر ممكن بالطريق الطبيعي.
ومنها: أنَّ افتراض أكل الماشية للحم، وهو أمر غريب ولا مُبرِّر له في قانون المعجزات، ويزيد غرابة استفادتهم الصحية من أكل اللحم أكثر من أكل النبات.
ومنها: ما ذكر من تصرُّفات يأجوج ومأجوج أنفسهم، كشربهم بُحْيرة طبرية حتى تجفُّ، كما في خبر مسلم، وشربهم النهر حتى يجفُّ، كما في خبر أبن ماجة، فإنَّ هذا ممَّا لم يتَّضح فهمه، مهما تزايد عددهم وطال بقاؤهم، ومهما طالت أجسامهم، كما تقول الأساطير.
ومنها: إرسالهم السهام إلى السماء لأجل غزوها... وليس في هذا غرابة، إذا كانوا أغبياء إلى هذه الدرجة... وإنَّما الغرابة في أن تعود السهام مكسوَّة بالدم؛ من أجل إيهامهم بأنَّهم قد قتلوا الناس الموجودين في السماء... فإنَّه من الأساطير التي لا يمكن أن يكون لها أيُّ مُبرِّر، فضلاً عن موافقته لقانون المعجزات.
هذا، ولكنَّ أغلب هذه الأشياء ستُصبح حقائق، عند دمجها في تكوين مُتكامل من الفهم الرمزي، على ما سنذكر بعد قليل، ومعه تُصبح هذه الاعتراضات، واردة على الفهم التقليدي لمثل هذه الأخبار، لا للمقاصد الحقيقية منها.
الناحية الثانية: في عرض أُطروحة مُتكاملة لفهم يأجوج ومأجوج، منطلقة من الفهم الرمزي للأخبار.

↑صفحة ١٤٩↑

مرّت البشرية - بحسب ما هو المقدر لها في التخطيط الإلهي العام - بشكلين مُنفصلين من الأيديولوجية:
الشكل الأول: الاتِّجاه الذي ينفي ارتباط العالم بخالقه بالكلِّية، ونستطيع أن نُسمِّيه بالمادِّية المحضة والإلحاد التام.
الشكل الثاني: الاتِّجاه الذي يربط العالم بوجود لخالقه، بشكل وآخر.
ولكلٍّ من هذين الاتِّجاهين فروعه وانقساماته، التي تختلف باختلاف المستوى العقلي والحضاري للمجتمع البشري.
ويمكن القول: بأنَّ تاريخ البشرية على طوله عاش في الأعمِّ الأغلب الاتِّجاه الثاني، بمُختلف مستوياته، نتيجةً لجهود الأنبياء وتربية الصالحين، ومهما فسد المُنحرفون والمصلحون، فإنَّهم لم يخرجوا عن الاعتراف الغامض بالخالق الحكيم، ويكفينا مثالاً على ذلك قوله تعالى على لسان مُشركي قريش: (... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى...)،(٢١١) فهم بالرغم من تطرُّفهم بالكفر، مؤمنون بالخالق، ومن ثَمَّ مندرجون في الاتِّجاه الثاني، وعلى هذا الغرار.
يُقابل ذلك، الاتِّجاه الأول الرافض لوجود الخالق تماماً... والمُعطي زمام قيادة الإنسان بيد نفسه، بالرغم من قصوره وتقصيره.
ولم يوجد - على مرِّ التاريخ - لهذا الاتجاه وجود مُهمٌّ، فيما عدا الأفكار الشخصية المُتفرِّقة في التاريخ... ما عدا مرَّتين - فيما نعرف -:
المرَّة الأُولى: اتِّجاه المادِّية البدائية، المُتمثِّلة بشكل رئيسي في قبائل يأجوج ومأجوج.
والمرَّة الثانية: اتِّجاه المادِّية الحديثة المُعاصرة، بمختلف أشكالها وألوانها.
وقد كان المَدُّ المادِّي الأول خطراً - وبالغ الضرر - على ذوي الاتجاه الثاني عموماً، وبخاصة تلك الشعوب الصالحة المُتَّبعة لدعوات الأنبياء، ولعل القسط الأهمَّ من الضرر لم يكن هو الإفساد العقيدي، وإن كان هذا موجوداً من أولئك المُلحدين البدائيين... وإنَّما الأهمُّ من أشكال الضرر هو الضرر الاجتماعي والاقتصادي، وأشكال القتل والنهب الذي كانت توقِعه القبائل البدائية المُلحِدة على المجتمع المؤمن.
ومن هنا؛ خطَّط الله تعالى للقضاء الحاسم على هذا المَدِّ الواسع، بإيجاد قائد كبير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١١) الزمر: ٢٩/٣.

↑صفحة ١٥٠↑

ذو حركة عالمية وقدرة واسعة، ومُمثِّل لأفضل أشكال الاتِّجاه المؤمن، هو الإسكندر ذو القَرنين.
وقد شكا المجتمع المُتضرِّر لهذا القائد من حملات أولئك البدائيِّين: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا...)،(٢١٢) أي أُجرة، لكي تكفينا شرَّهم وتكسر شوكتهم.
وقد استطاع هذا القائد الكبير أن يُعلن دعوة الله في الأرض، ويحصر نشاط ذلك المَدِّ المادِّي في أضيق نطاق، وأن يُعيد المجتمع البشري إلى سابق عهده، من كون الاتِّجاه المُسيطر هو الشكل الثاني للأيديولوجية، ويبقى الاتِّجاه الأول اتِّجاهاً شخصيَّاً مُتفرِّقاً.
وقد اتِّخذت تدابير ذي القرنين في هذا الصدد، شكلين أساسيّين:
الشكل الأوَّل: بناء السدِّ الموصوف في القرآن الكريم، المتكوِّن من الحديد والصفر، وهو يحتوي على الحماية (العسكرية) من هجمات القبائل البدائية المُلحِدة.
الشكل الثاني: بناء السدِّ المعنوي في المجتمع المؤمن، وزرع المفاهيم وقوّة الإرادة الكافية ضدّ الانحراف والفساد.
ولعلّ في الإمكان مع بعض التوسُّع في فَهْمِ القرآن الكريم، أن نحمل السدّ الموصوف فيه على السدِّ المعنوي، الذي يفصل بين الحقِّ والباطل، وأنّ الحديد والصفر عبارة عن مكوِّناته المفاهيميَّة، إلاَّ أنَّنا نعرض ذلك كأُطروحة مُحتملة، على غير اليقين... وإن كان ذلك مُمكناً في لغة العرب، ولكنَّنا سنسير بهذا الاتِّجاه ريثما تتمُّ هذه الأطروحة.
(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ...)، ممَّا لديكم من المال والحطام، بعد أن مكَّنه الله تعالى من المُلك والهداية معاً.
وكان السدُّ الذي بناه ذو القرنين، ضخماً ومُهمَّاً إلى حدٍّ يكفي لكبح جِماح البدائيِّين المُلحدين وردِّ عاديتهم، (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً)، فإنَّ الاتِّجاهات المُلحِدة تكون دائبة في نشر عقيدتها، واختراق السدِّ الإيماني، وقهر قوَّة الإرادة والإخلاص عند المؤمنين، وإلاَّ أنَّ سدَّ ذي القرنين كان منيعاً لا يمكن لهذه الاتِّجاهات أن تؤثِّر فيه.
ولكنَّه على أيِّ حال، لم يستطع القضاء عليه نهائياً، بل بقي بوجوده الضعيف مؤثِّراً في المجتمع الإنساني بمقدار ما يستطيع (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ...)، ولم يكن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٢) الكهف: ١٨ / ٤٩.

↑صفحة ١٥١↑

مُقدَّراً في التخطيط الإلهي استئصاله عن الوجود؛ لإمكان مشاركته في التمحيص العام الذي حملنا عنه فكرة كافية، ولذا كان لا بدَّ من الاقتصار على كبح جماحه، وكسر شوكته فقط، ببناء السدِّ ضدَّه، على وجه الأرض، وفي نفوس المؤمنين.
ومن هنا بقي هذا الاتجاه في التاريخ، لكي يتمحَّض بعد حوالي ثلاثة آلاف عام من السيطرة الجديدة للمادِّيَّة على البشر للمرَّة الثانية، ولكنَّها في هذه المرَّة لست بدائيَّة، ولكنَّها مادِّية (تقدُّمية) ومُعقَّدة ومُفلسفة وذات شعارات برَّاقة، وذات قوَّة ومنعة بحيث يصعب مجرَّد التفكير في منازلتها، فضلاً عن القضاء عليها، وهو معنى قوله في أحد الأخبار السابقة: لا يدان لأحد في قتالهم.
لقد خرقت السدَّ القديم، ولم يعد كافياً للسيطرة عليهم وكبح جماحهم، إن ذلك السد كان مناسباً مع مستوى عصره العقلي والثقافي والعسكري، ولم يعد الآن كافياً (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ(٢١٣) أي من كل جهة ينتشرون، كذلك انتشرت المادّية الحديثة.
وتُسيطر الحضارة المادّية على خيرات البلاد الإسلامية، في ضمن سيطرتها على العالم كله، وتستولي مصادرها الطبيعية، فتشرب البحيرات والأنهار - كما أشارت الأخبار - بمعنى أنَّها تستغلُّها تماماً لصالحها، وتمنع أهلها من الاستفادة منها، فيحصل الفقر والقحط في البلاد المحكومة المستعمرة: (... حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مئة دينار لأحدكم اليوم).
وتأتي الأجيال المتأخِّرة من أتباع الحضارة المادّية، فيقولون: (... لقد كان بهذا المكان ماء)، فإنَّهم عرفوا من التاريخ أنَّ هذه المنطقة كانت تغلُّ لأهلها وتُفيدهم، وأمَّا الآن - بعد سيطرة الحضارة الكافرة - فقد أصبحت الغلاَّت لها، وأصبح وجود الماء كالعدم بالنسبة إلى أهل البلاد.
وأمَّا المسلمون المُخلصون، فينحازون عنهم ويبتعدون عن مُمالأتهم والسير في طريقهم، خوفاً على إيمانهم من الانهيار، وعلى سلوكهم من التفسُّخ والانحلال.
وحين تتمُّ للحضارة المادّية المُلحدة، بسط السيطرة على الأرض، تتَّجه أطماعها إلى السماء، ومن هنا نجدهم يقولون: (هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، ولنُنازلنَّ أهل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٣) الأنبياء: ٢١/ ٩٦.

↑صفحة ١٥٢↑

السماء). وهذا بمعناه - الرمزي - ممَّا حدث فعلاً؛ فإنَّ الحضارات المادَّية بعد أن أحكمت قبضتها على الأرض، طمعت بغزو السماء، بدئة بالأقرب من الكواكب، ومن هنا انبثقت فكرة غزو الفضاء الخارجي والسير بين الكواكب.
(فيرمون نشَّابهم إلى السماء، فيردُّ الله عليهم نشَّابهم مخضوبة بالدم)، وهذا - بمعناه الرمزي - مما حدث فعلاً، مُتمثِّلاً بإطلاق الأقمار الصناعية، والمركبات الفضائية والصواريخ الكونية، فأعجب لمثل هذه التنبُّؤ الصادق الذي لم يكن للنبي (ص) أن يُصرِّح به في عصره إلاَّ بمثل هذا الرمز، طبقاً لقانون (كَلِّم الناس على قدر عقولهم).
ومعنى كونها تعود مُخضَّبة بالدم، هو أنَّها مُحاولات ناجحة، تُنتج الأثر المطلوب المُتوقَّع... فكما أنَّ المتوقَّع من القتل بالحربة والسهم أن تتخضَّب بالدم، كذلك من المُتوقَّع للمركبات أن تُنتج الخُبرات العلمية المطلوبة، وأن تجلب التراب من القمر مَثلاً.
ولعلَّ في التعبير بأنّ السهام (ترجع عليها الدم الذي أجفظ) أي فاض وغزر... فيه إشارة واضحة على ذلك... بعد العلم أنَّ السهم الاعتيادي لا يفيض منه الدم، وإنَّما يُراد بذلك التأكيد على مدى نجاح الرحلات الفضائية، وسعة ما تُنتجه من نتائج، ومن حيث العمق والانتشار في العالم.
وحين يتمُّ لهم ذلك، ينالهم الغرور بعلومهم ومدنيَّتهم، فقولون: (قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء). وكل حضارة ينالها الغرور، وتفشل في التمحيص الإلهي العام للبشرية، لا بدّ أن يُحكم عليها بالزوال، ويكون غرورها نذير فنائها واندثارها... طبقاً للقانون الذي يُعرب عنه قوله تعالى: (... حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).(٢١٤)
وكما كان للإسكندر ذي القرنين الدور الأهمَّ في منازلة المادِّية الأُولى... سيكون للقائد المهدي (ع) الدور الأهمَّ في منازلة المادّية الحديثة؛ ولذا قورِن الإمام المهدي (ع) بذي القرنين بعدد من الروايات، كما سنسمع بعد ذلك.
وسيكون للمسيح (ع) مشاركة فعَّالة في هذا الصدد، تحت قيادة القائد المهدي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٤) يونس ١٠/٢٤.

↑صفحة ١٥٣↑

(ع)... إلى حدٍّ يمكن أن نُعبِّر عنه بأنَّه السبب المُباشر لذلك، مع شيء من التجوُّز والتعميم؛ ومن هنا تسبّب موت يأجوج ومأجوج إلى عمله وجهوده، كما سمعنا من بعض الأخبار.
وأمّا أُسلوب موت هؤلاء، فيُمكن أن نطرح له أُطروحتان:
الأُطروحة الأُولى: موتهم عن طريق تفشِّي الأمراض والأوبئة فيهم... كما هو الموافق مع ظاهر الأخبار، على المستوى (الصريح) دون الرمزي، ففي خبر مسلم: (فيُرسل الله عليهم النَّغف في رقابهم).
وفي خبر ابن ماجة: (فبينما هم كذلك، إذ بعث الله دواب كنَغف الجُراد، فتأخذ بأعناقهم فيموتون كموت الجُراد، يركب بعضهم بعضاً)، والنَّغف دود صغار يكون في الإبل، وكل ما هو حقير عند العرب فهو نغفة)(٢١٥)؛ ومن هنا يكون الأرجح كونه تعبيراً عن مكنونات الأمراض (الميكروبات)، ومن هنا يكون الخبر نبوءة عن هلاك المادِّيين الجُدد عن طريق الأوبئة الفتاكة، والحرب الجرثومية ونحوها.
الأُطروحة الثانية: أن نفهم من الموت موت الكفرة الانحراف، لا موت الأبدان.
وهي المُهمَّة الكبرى التي يقوم بها المهدي والمسيح (ع) في العالم، ولئن كان الكفر قاتلاً للإيمان، وهو أشدُّ من موت الأبدان (... وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ...)(٢١٦)، فإنَّ الإيمان قاتل للكفر، وهو أفضل شكلَي الحياة.
وهذا هو الذي يُفسِّر لنا ما يظهر من الأخبار السابقة، من أنَّ موتهم جميعاً يكون سريعاً وفي زمان مُتقارب جدَّاً، فإنَّه - طبقاً للأطروحة الثانية - نتيجة للجهود الكبيرة المركَّزة في السيطرة على العالم بالعدل وتربية البشرية باتِّجاه الكمال، وهو - أيضاً - دليل على النجاح الفوري لتلك الجهود في اليوم الموعود.
وستكون مُخلَّفات الحضارة المادِّية كبيرة جدَّاً من الناحية الصناعية والعلمية، وسيكون لذلك الأثر الكبير في دعم الدولة العاليمة العادلة، وترسيخ جذور التربية في المجتمع البشري، (فما يكون لهم(٢١٧) رعي إلاَّ لحومهم، فتشكر عليها كأحسن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٥) راجع أقرب الموارد، مادّة نغف.
(٢١٦) البقرة: ٢/٢١٧ وانظر أيضاً: ٢/١٩١.
(٢١٧) الضمير في العبارة راجع إلى المواشي، والملحوظ أنّه ضمير لمَن يعقل، ولو أراد الماشي على التعيين لقال: لها؛ ومن هنا يمكن أن نفهم التعميم.

↑صفحة ١٥٤↑

ما شكرت على نبات قط).
فلحومهم - طبقاً لهذه الأُطروحة - مُخلَّفاتهم،(٢١٨) ومن المعلوم أنَّ المستوى التكتيكي الرفيع إذا اقترن بمستوى اجتماعي عادل، وأنتج أضعافاً مُضاعفة من النتائج، ممَّا إذا لم يقترن بالمستوى الاجتماعي العادل.
ولم تَنجُ البشرية، ما بين المادّيتين: البدائية والتقدمية!! من جذور وبذور وإرهاصات للتجدُّد والاشتعال، ومن هنا تأسّف نبي الإسلام (ص) أسفاً شديداً؛ لأنّه قد (فتح اليوم من رَدم يأجوج ومأجوج مثل هذه - وعقد عشراً ـ)، من حيث إنّ هذا الردم الإيماني قد بدأ بالتصدُّع مُقدّمة لوجود المادّية التقدمية...!!
غير أنّ موقف المهدي والمسيح (ع)، سيختلف عن موقف ذي القرنين، فلئن اكتفى ذو القرنين ببناء السدِّ، مع الحفاظ على وجودهم إجمالاً - طبقاً للتخطيط العام - فإنّ المهدي (ع) سيتّخذ موقف الاستئصال التام لكل العقائد المُنحرفة والكفر والضلال، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، (فيموتون موت الجُراد، يركب بعضهم بعضاً).
الناحية الثالثة: في الفرق بين يأجوج ومأجوج، والدجّال.
فإنّه قد يرد إلى الذهن: أنّنا بعد أن فسّرنا الدجّال بالحضارة المادّية، كيف صحّ لنا أن نُفسِّر يأجوج ومأجوج بنفس التفسير، وهل يمكن أن نعترف أنّهما تعبيران عن حقيقة واحدة، مع العلم أنّ تعدُّد الأسماء والعناويين دليل على تعدُّد الحقائق.
ويمكن أن يُجاب ذلك بعدّة أجوبة، يصلح كلٌّ منها تفسيراً كاملاً للموقف:
الجواب الأول: إنَّ مفهوم (الدجَّال) ناظر إلى الحضارة المادّية ككُل، ومُستوعب لها على نحو المجموع، وأمّا مفهوم (يأجوج ومأجوج) فيُقسِّم تلك الحضارة إلى قسمين مُتميِّزين؛ فإنّه بالرغم من أنّ للحضارة المادِّية ككُل مُميِّزاتها وخصائصها التي تفصلها عن الاتجاه الآخر بميزاته وخصائصه، ولها فروقها عن الحضارة الإسلامية والمفاهيم الدينية الإلهية.
وهذه الحضارة المادّية المنظور إليها بهذا الشكل، هي التي تُمثِّل مفهوم الدجّال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٨) وأوضح في الاستفادة من المُخلفّات ما أخرجه ابن ماجة (ج٢ص١٣٥٩): قال رسول الله (ص): (سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشّابهم وأترستهم سبع سنين). أقول: ذلك النشّاب الذي سمعنا أنَّهم يُرسلونها إلى السماء.

↑صفحة ١٥٥↑

... بالرغم من ذلك، فإنّ للحضارة المادّية انقساماتها الداخلية التي تجعلها في معرض الصراع الداخلي، الذي يكون في الأعمّ الأغلب عنيفاً وعميقاً، وهذا الانقسام هو المُعبّر عنه بمفهوم (يأجوج) مرّة ومفهوم (مأجوج) أُخرى.
وهذا الانقسام ليس حديثاً، بل هو قديم قِدَم المادّية نفسها، فالمادّية البدائية كانت مُنقسمة، وكان انقسامها مشوباً بالشعور القبلي، والمادّية (التقدمية) مُنقسمة، ولكنّ انقسامها أيديولوجي ومصلحي معاً.
الجواب الثاني: إنّ مفهوم الدجّال يُمثِّل المادّية الحديثة... ولذا لم يُنقل عنه قبل الإسلام أيُّ وجود، وإنّما بدأت إرهاصاته - حسب إفادات الأخبار التي عرفناها في التاريخ السابق(٢١٩) - بعد بدء الإسلام، وكان وجوده الكامل مُتأخِّراً عنه بألف عام.
وأمّا مفهوم (يأجوج ومأجوج)، فهو يُمثِّل الخطَّ المادِّي بتاريخه الطويل؛ ولذا كان له وجود بدائي ووجود حديث، ولم يخلُ التاريخ المُتوسِّط بينهما من التأثيرات والإرهاصات.
وهذا يعني أنّ الوجود الحديث ليأجوج ومأجوج، هو الدجَّال نفسه، وليس شيئاً آخر.
الجواب الثالث: إنَّ مفهوم يأجوج ومأجوج، يعني الحضارتين المادِّيتين بوجودهما الأصيل، وأمَّا عنوان الدجَّال فلا يعني ذلك بالضبط، وإنَّما النظر فيه إلى نقطة تأثُّر المسلمين بتلك الحضارة المادَّية، فالدجّال يُعبِّر عن عُملاء تلك الحضارة في البلاد الإسلامية، وهم مُتَّصفون بنفس أوصافهم ومُتّخذون نفس منهجهم في الحياة... وكثيراً ما مارسوا الحُكم وزرعوا الشبهات، وحاولوا فكَّ المسلمين عن دينهم، وإبعادهم عن طريق ربِّهم.
ويؤيِّد ذلك اتِّخاذ مفهوم الدجّال، الدالُّ على أنّه مُسلِم بالأصل، ولكنّه أصبح كافراً ومُنحرفاً، يدعو الناس إلى الكفر والانحراف، وقد ينطلق في إثبات أفكاره في الأذهان عن طريق الخداع والتمويه، باستعمال المفاهيم الإسلامية بشكل مُشوّه ومُستغلٍّ للمنافع الشخصية والنتائج الباطلة، كما يدلُّ عليه الحديث الذي أخرجه أبو داود،(٢٢٠) قال: قال رسول الله (ص): (مَن سمع الدجَّال فلينأ عنه! فوالله، إنَّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنَّه مؤمن، فيتبعه ممَّا يبعث به من الشبهات).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٩) انظر ص٦٤٤.
(٢٢٠) انظر السُّنن ج٢ص٤٣١.

↑صفحة ١٥٦↑

وهناك أجوبة أُخرى مُحتملة للجواب على السؤال الذي ذكرناه في هذه الناحية، لا حاجة إلى سردها.
وللقارئ أن يختار أيَّاً من هذه الوجوه الثلاثة شاء... فإنَّ أيَّاً منها كافٍ في تصحيح تفسيرنا للدجَّال وليأجوج ومأجوج معاً.
الناحية الرابعة: طبقاً للأُطروحة التي فهمناها عن يأجوج ومأجوج، فإنَّ انتشارهما من ردمهما سيكون قبل عصر الظهور، وسيظهر المهدي (ع) وينزل المسيح عيسى بن مريم، وهم حلبة العالم، فيتمُّ القضاء عليهم تماماً، غير أنَّ بعض الأخبار دالٌّ على تأخُّر انتشارهما عن عصر الظهور.
منها: ما أخرجه الحاكم في المُستدرَك،(٢٢١) في حديث يتحدَّث فيه عن نزول المسيح، وسيطرة المسلمين وقتلهم لليهود، ويقول: (يظهر المسلمون فيكسرون الصليب ويقتلون الخنزير ويضعون الجزية، فبينما هم كذلك، أخرج الله أهل يأجوج ومأجوج...) الحديث.
فإذا عرفنا أنَّ نزول المسيح وكسر الصليب وقتل الخنزير تعبير آخر عن قيام الدولة العالمية المهدوية العادلة... كان الحديث دالاَّ ًعلى خروج يأجوج ومأجوج بعد تأسيس هذه الدولة.
ومنها ما أخرجه مسلم،(٢٢٢) ورويناه في التاريخ السابق،(٢٢٣) في حديث يذكر فيه حادثة نزول المسيح، ثمَّ يقول: (... فبينما هو كذلك، إذ أوحى الله إلى عيسى أنِّي قد أخرجت عباداً لي لا يُدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج، (... وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)...) الحديث.
فإذا استطعنا أن نُبرهن - كما سيأتي - على تأخُّر نزول المسيح (ع) عن ظهور المهدي (ع)، وكان انتشار يأجوج ومأجوج بعد نزول المسيح - كما قال الخبر - إذاً؛ فسيكون انتشارهم بعد ظهور المهدي (ع).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢١) انظر المُستدرك على الصحيحين ج٤ ص٤٩١.
(٢٢٢) انظر صحيح مسلم ج٨ ص١٩٧وما بعدها.
(٢٢٣) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٦٣٣.

↑صفحة ١٥٧↑

إلاَّ أنَّه يمكن المُناقشة في هذه الأخبار من وجهين:
الوجه الأول: وجود الدلالات المُعارضة في الأخبار لهذه الدلالة... تدلُّ على تقدُّم ظهور يأجوج ومأجوج على الظهور.
ولعلَّ أهمَّ ما يدلُّ على ذلك ما دلَّ من الأخبار على خوف المسلمين من فتح يأجوج ومأجوج، وهي عديدة وقد سمعنا بعضها، وهي دالَّة بوضوح على تحصُّن المسلمين منهم، وعجزهم عن قتالهم، وسحبهم لمواشيهم معهم، وهذا الخوف إنَّما يمكن تحقُّقه قبل تأسيس الدولة العالمية، بل قبل ظهور المهدي (ع) أساساً؛ إذ لا معنى للخوف بعد الظهور، حين يكون النصر مُحرزاً والأمن مُستتبَّاً... طبقاً لقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً...).(٢٢٤)
إذاً؛ فيتعيَّن أن يكون انتشار يأجوج ومأجوج الموجب للخوف والتحرُّز بين المسلمين، سابقاً على الظهور، حين لا يكون للمسلمين قوَّة مهيمنة عُلْيَا.
وقد يخطر في الذهن: أنَّ هذه الأخبار دلَّت على وجود هذا الخوف بين المسلمين، بالرغم من وجود المسيح (ع) فيهم، وأنَّه (ع) مأمور بتحصينهم ضدَّ اعتداءات يأجوج ومأجوج، فإذا كان نزول المسيح (ع) بعد الظهور كما أسلفنا، إذاً؛ فسيكون فتح يأجوج ومأجوج بعده أيضاً.
والصحيح: أنَّ هذه الرواية إنَّما تدلُّ على تقدُّم نزول المسيح على الظهور، وأنَّه ينزل في زمان اضطراب المسلمين وضعفهم ووجود الفتن فيهم، وهذا ما سوف نُناقشه في القسم الثاني من هذا التاريخ... ويكفينا الآن أن نعلم بوجود عدد من الأخبار دالِّ على تأخُّر نزوله (ع) عن الظهور.
إذاً؛ فلا بدَّ من الالتزام بأنَّ انتشار يأجوج ومأجوج سابق على النزول والظهور

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢٤) النور: ٢٤/ ٥٥.

↑صفحة ١٥٨↑

معاً، ونرفع اليد عن دلالة هذا الخبر بهذا المقدار، وهو المطابق مع الأُطروحة التي عرفناها قبل قليل.
الوجه الثاني: وجود الدلالات المعارضة من ناحية أُخرى.
وذلك: أنَّنا سنسمع الروايات الواردة لسرد حوادث ما بعد الظهور، وسنجدها جميعاً خالية من التعرُّض ليأجوج ومأجوج، وإنَّما سنجد العالم هو العالم الذي نعرفه خالياً من الغرائب التي نُسبت إلى هاتين القبيلتين... يظهر المهدي (ع) وينزل المسيح (ع)، فيحكمان فيه بالعدل، ومعه تكون تلك الأخبار ككل دلالة على عدم انتشار يأجوج ومأجوج يومئذ.
وحيث علمنا من القرآن الكريم والسنَّة الشريفة، أنَّهم لا بدَّ أن ينتشروا في يوم ما، إذاً؛ فهذا واقع قبل الظهور لا محالة.
وهنا لا بدَّ لنا أن نتنازل عمَّا دلًَّت عليه بعض الأخبار السابقة، عن تأخُّر انتشار هاتين القبيلتين عن نزول المسيح تماماً، كما قلنا في الجواب السابق.
وينبغي أن نُلاحِظ - أيضاً - أنَّه طبقاً للأُطروحة التي فهمناها لا تكون هناك أيَّة معارضة بين أخبار يأجوج ومأجوج وبين الروايات التي تذكر حوادث ما بعد الظهور؛ لأنَّ هذه الأطروحة كما تقول بتقدُّم انتشار يأجوج ومأجوج المادّية على الظهور، تنفي عن هاتين القبيلتين كل الغرائب، وإنَّما هما يُمثِّلان العالم نفسه كما نعرفه، فيما عرفناه من دلالة الأخبار على سيطرة المهدي (ع) على العالم كما نعرفه، يكون مُنسجماً مع الأُطروحة كل الانسجام.
نعم، طبقاً للأُطروحة يكون عمل المهدي (ع) مُكرَّساً في أول ظهوره للسيطرة على يأجوج ومأجوج، والمادِّية السابقة على ظهوره، وهذا المفهوم لم يرد في أخبار ما بعد الظهور، وهذا يعني تحوُّل المفهوم في هذه الأخبار، وترك التعرُّض إلى عنوان يأجوج ومأجوج... ولا يعني وجود الأشكال في هذه الأُطروحة.
السُّفياني:
وهو من الحركات الاجتماعية التي أكَّدت عليها المصادر الإمامية تأكيداً كبيراً،

↑صفحة ١٥٩↑

وأهملتها مصادر العامة إلى حدٍّ كبير، على العكس من الدجَّال، كما أشرنا في التاريخ السابق،(٢٢٥) وقد سبق هناك أن ذكرنا العديد من تفاصيل أوصافه وأعماله، وأعطينا عنه فَهْماً خاصَّاً، وهو كونه يُمثِّل حركة الانحراف، وحركةً مُنحرفةً واسعةَ النفوذ، في داخل المجتمع المسلم.
والمهمُّ في تاريخنا هذا، أن ننظر إلى أعمال السفياني، كشيءٍ سبق على الظهور بقليل، بحيث يتمُّ الظهور، ولا يزال السفياني يعمل عمله وينشر حُكمه ودعوته، كما عليه ظاهر الأخبار.
وينبغي أن نتكلَّم حول ذلك ضمن عدَّة نواحي.
الناحية الأُولى: في سرد الأخبار التي تُفيدنا في حدود الغرض الذي أشرنا إليه، بعد سردنا من أخبار السفياني في التاريخ السابق(٢٢٦) الشيء الكثير، وعرفنا أنَّها متواترة لا مناص من الأخذ بها إجمالاً.
أخرج الصدوق،(٢٢٧) عن أبي منصور البجلي، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن اسم السُّفياني.
فقال: (وما تصنع باسمه؟! إذا مَلَكَ كور الشام الخَمْس: دمشق، وحمص، وفلسطين، والأردن، وقنسرين، فتوقَّعوا الفَرَج).
قلت: يملك تسعة أشهُر؟
قال: (لا، ولكن يملك ثمانية أشهُر لا يزيد يوماً).
وأخرج النعماني في الغيبة،(٢٢٨) عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) في حديث طويل يقول فيه:
(لا بدَّ لبني فلان من أن يملكوا، فإذا ملكوا ثمَّ اختفوا تفرَّق مُلكهم وتشتَّت أمرهم، حتى يخرج عليهم الخراساني والسُّفياني، هذا من المشرق وهذا من المغرب، يستبقان إلى الكوفة كفَرَسي رهان، هذا من هنا وهذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢٥) انظر ص٦٢١ وما بعدها.
(٢٢٦) انظر ص٦٢٢ وما بعدها.
(٢٢٧) انظر إكمال الدين (المخطوط).
(٢٢٨) ص١٣٥.

↑صفحة ١٦٠↑

من هنا، حتى يكون هلاك بني فلان على أيديهما، أما إنَّهم لا يُبقون منهم أحداً).
ثمَّ قال: (خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، كنظام الخرز، يتبع بعضه بعضاً) الحديث.
وأخرج النعماني أيضاً،(٢٢٩) بسنده عن الحارث، عن أمير المؤمنين (ع) في حديث يقول فيه: (... وإذا كان ذلك، خرج السفياني، فيملك قدر حمل امرأة، تسعة أشهُر، يخرج بالشام، فينقاد له أهل الشام إلاَّ طوائف من المُقيمين على الحق، يعصمهم الله من الخروج معه، ويأتي المدينة بجيش جرَّار، حتى إذا انتهى إلى بيداء المدينة خسف الله به، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ في كتابه: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ)).(٢٣٠)
وأخرج أيضاً،(٢٣١) بسنده عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (ع) قال: (السفياني أحمر أصفر أزرق، لم يعبد الله قطُّ، ولم يرَ مكَّة ولا المدينة قطُّ، يقول: يا ربّ، ثأري والنار! يا ربّ، ثأري والنار!).
وأخرج الشيخ في الغيبة،(٢٣٢) عن بشر بن غالب (قال): يُقبل السفياني من بلاد الروم مُنتصراً، في عُنقه صليب، وهو صاحب القول.
وأخرج أيضاً،(٢٣٣) عن أبي عبد الله (ع) قال: (كأنِّي بالسُّفياني - ولصاحب السفياني - قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة، فنادى مُناديه: مَن جاء برأس شيعة علي، فله ألف درهم، فيثبُ الجار على جاره، ويقول: هذا منهم. فيضرب عُنقه ويأخذ ألف درهم، أما إنَّ إماراتكم يومئذ، لا تكون إلاَّ لأولاد البغايا).
ولعلَّ أهمَّ الأخبار التي تُحدِّد حركات السفياني وحروبه خبران:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢٩) ص١٦٣.
(٢٣٠) سبأ ٣٤/٥١.
(٢٣١) الغيبة ص١٦٤.
(٢٣٢) ص٢٧٨.
(٢٣٣) المصدر ص٢٧٣.

↑صفحة ١٦١↑

أحدهما: ما أخرجه الشيخ،(٢٣٤) عن عمار بن ياسر(أنّه قال): إنَّ دولة أهل بيت نبيِّكم في آخر الزمان، ولها إمارات... - إلى أن قال: - ويظهر ثلاثة نفر بالشام، كلهم يطلب المُلك: رجل أبقع، ورجل أصهب، ورجل من أهل بيت أبي سفيان، يخرج من كلب، ويحضر الناس بدمشق، ويخرج أهل الغرب إلى مصر، فإذا دخلوا، فتلك إمارة السفياني.
ويخرج قبل ذلك مَن يدعو لآل محمد، وتنزل التُّرك الحِيرة، وتنزل الروم فلسطين، ويسبق عبدُ الله عبدَ الله حتى يلتقي جنودهما بقرقيسيا على النهر، ويكون قتالٌ عظيمٌ، ويسير صاحب المغرب فيقتل الدجَّال ويسبي النساء، ثمَّ يرجع في قيس حتى ينزل الجزيرة السفياني، فيسبق اليماني، ويحوز السفياني ما جمعوا، ثمَّ يسير إلى الكوفة، فيقتل أعوان آل محمد (ص)، ويقتل رجلاً من مُسمِّيهم، ثمَّ يخرج المهدي على لوائه شعيب بن صالح.
وإذا رأى أهل الشام قد اجتمع أمرها على ابن أبي سفيان، فألحقوا بمكَّة، فعند ذلك تُقتَل النفس الزكيَّة، وأخوه بمكَّة ضيعة، فيُنادي مُنادٍ من السماء: أيُّها الناس، أميركم فلان، وذلك هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً).
ثانيهما: ما أخرجه النعماني،(٢٣٥) بسنده إلى جابر الجُعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) في حديث طويل يقول فيه: (يختلفون عند ذلك على ثلاث رايات: راية الأصهب، وراية الأبقع، وراية السفياني. فيلتقي السفياني بالأبقع فيقتتلون، فيقتله السفياني ومَن تبعه، ويقتل الأصهب. ثمَّ لا يكون له همَّة إلاَّ الإقبال نحو العراق. ويمرُّ جيشه بقرقسيا، فيقتتلون بها، فيُقتل بها من الجبَّارين مئة ألف. ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة، وعدَّتهم سبعون ألفاً، فيُصيبون أهل الكوفة قتلاً وصلباً وسبياً، فبينما هم كذلك، إذ أقبلت رايات من خراسان، وتطوي المنازل طيَّاً حثيثاً، ومعهم نفر من أصحاب القائم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٣٤) المصدر ص٢٧٨.
(٢٣٥) انظر الغيبة للنعماني ص١٤٩.

↑صفحة ١٦٢↑

ثمَّ يخرج من موالي أهل الكوفة في ضعفاء، فيقتله أمير جيش السفياني بين الحِيرة والكوفة، ويبعث السفياني بعثاً إلى المدينة، فينفر المهدي (ع) منها إلى مكَّة، فيبلغ أمير جيش السفياني أنَّ المهدي قد خرج إلى مكَّة. فيبعث جيشاً على أثره، فلا يُدركه حتى يدخل مكَّة خائفاً يترقَّب على سنَّة موسى بن عمران).
قال: (وينزل أمير جيش السفياني البيداء، فيُنادي مُنادٍ من السماء: يا بيداء، أبيدي القوم. فيخسف بهم، فلا يفلت منهم إلاَّ ثلاثة نفر...) الحديث.
ثمَّ يبدأ الحديث بشرح حوادث الظهور التي ستسمعها في القسم الثاني.
وسنذكر الأخبار الدالَّة على قتال السفياني للمهدي ومقتله على يده في ناحية آتية.
الناحية الثانية: في إمكان الاعتماد على هذه الأخبار في الإثبات التاريخي؛ طبقاً لمنهج الذي سردنا عليه في هذا الكتاب.
إنّ الاتجاه العام لهذه الأخبار مُنطبق على هذا المنهج، لولا بعض نقاط الضعف:
النقطة الأُولى: أنَّ الخبر الذي رواه الشيخ عن عمار بن ياسر، لم يروَ عن أحد المعصومين (ع)، بل عن عمار نفسه، وإن كان من المُرجَّح أنَّه استقى هذه المعلومات عنهم (ع)، إلاَّ أنَّ الكلام كلامه؛ بدليل قوله في أول الخبر: أنَّ دولة أهل بيت نبيِّكم في آخر الزمان. الدالّ على أنّ المُتحدِّث لم يعتبر نفسه من أهل البيت، وهذا ما لا يحدث لو كان المُتحدِّث أحد المعصومين (ع)؛ ومعه يسقط الخبر عن الإثبات التاريخي، وتكون صحَّته مُتوقِّفة على القرائن واشتراك نقله مع الأخبار الأُخرى، وتحقُّق ما أخبر به في العالم الخارجي.
وهذا هو الحال في الخبر الذي أخرجه الشيخ عن بشر بن غالب، فإنّ الظاهر منه أنّه هو المُتكلِّم؛ فلا يكون قابلاً للإثبات التاريخي.
النقطة الثانية: أنّ خبر عمار غير مُرتّب من حيث الزمان، فهو يحتوي على حوادث مُختلطة، مُتقدِّمة ومتأخِّرة، وغير مُحدَّدة على ما يبدو.
فنزول التُّرك الحِيرة، تعبير عن السيطرة العثمانية على العراق، ونزول الروم فلسطين هو الغزو الصليبي.
وصاحب المغرب هو - على الأرجح - أبو عبد الله الشيعي،

↑صفحة ١٦٣↑

الذي مهَّد بقتاله الواسع في شمال أفريقيا لحُكم المهدي الإفريقي (محمد بن عبد الله)(٢٣٦)، جدِّ الفاطميين الذين حكموا بعدئذ مصر ردحاً من الزمن.
وهذه الحوادث وردت في الحديث على عكس حدوثها التاريخي تماماً، كما يتَّضح بمراجعة التاريخ الإسلامي، وإذا كانت حوادث الماضي فيه غير مرتَّبة فلعلَّ حوادث المُستقبل فيه كذلك.
النقطة الثالثة: أنَّ هناك تهافتاً بين بعض مضامين هذه الأخبار.
فمن ذلك: مدَّة بقاء حكم السفياني، فبينما يُصرِّح أحد الأخبار أنَّه يملك قدر حمل امرأة تسعة أشهُر، نرى خبراً آخر ينفي ذلك بصراحة، وأنَّه لا يملك إلاَّ ثمانية.
ومن ذلك: موعد وجود حركة السفياني، فبينما يظهر من بعض هذه الأخبار أنَّ زوال دولة بني العباس يكون على يده، إذا فهمنا من بني فلان وذلك كما هو الظاهر، ومعنى ذلك أن حركة السفياني قد وجِدت وانتهت منذ أمَدٍ بعيد، نجد - إلى جنب ذلك - ارتباط حركة السفياني بالخسف، وأنَّ المهدي (ع) نفسه هو الذي يقتله، ومعنى ذلك أنَّ حركته لم تحدث لحدِّ الآن، وكم بين هذين الموعدين من بُعْدٍ شاسع.
غير أنَّنا في التاريخ السابق(٢٣٧) ناقشنا الخبر الدالَّ على إزالته لدولة بني العباس، ومعه يكون هذا الموعد مُنتفياً، ويتعيَّن الموعد الآخر.
ومن ذلك: تعيين دين السفياني، فبينما نسمع من أحد الأخبار أنَّه مسيحي بشكل وآخر (في عُنقه الصليب)، نجد في خبر آخر أنَّه من المسلمين المُهتمِّين باستئصال شيعة علي (ع)، مع الالتفات إلى أنَّ المسيحي قلَّما يكون له اهتمام خاص بذلك.
ومن ذلك: أنَّ هناك تشويشاً وتضارباً في تسمية القادة الموجودين قبل الظهور؛ فإنَّ ظاهر الأخبار تعاصر هذه الحركات تقريباً، وكلها ذات أهمِّية في المجتمع، إلى درجة يكون إهمال الخبر لذكر بعض قرينة على عدمه أساساً؛ لعدم إمكان الإغراض عن ذكره - عادة - مع وجوده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٣٦) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ص٣٥٤.
(٢٣٧) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٦٢٤.

↑صفحة ١٦٤↑

ففي بعض الأخبار لا نجد غير السفياني، وفي بعضها نجد الخراساني والسفياني دون غيرهما، وفي أخبار أُخرى نسمع بوجود عدَّة قوَّاد: أبقع، وأصهب، وسفياني، ويماني.
وقلَّ مثل ذلك في المنطقة التي يحكمها السفياني، فإنَّ المقدار الواضح من الأخبار انطلاقه من دمشق وسيطرته عليها، إلى جنب عدم وصوله إلى مكّة والمدينة المُشرّفتين.
وأمّا بالنسبة إلى باقي البلدان، فالأمر لا يخلو من تشويش.
ولعلّ من أوضح موارد التشويش هذه (الكوفة)؛ حيث نسمع من بعض الأخبار ارتكازه فيها وسيطرته عليها، نجد في بعضها الآخر أنَّ (الخراساني) يحتلَّها معه أيضاً.
بل إنَّ انطلاقه من دمشق أيضاً لا يخلو من ظِلال، نظراً إلى الخبر القائل: بأنَّ السفياني يُقبِل من بلاد الروم.
غير أنَّ الذي يُهوِّن الخطب، أنَّ أكثر مُنطلقات هذه النقطة قابلة للتذليل مع شيء من التفكير، كما سوف نُطبِّق بعضه فيما يلي:
الناحية الثالثة: من الحديث عن السفياني، في مُحاولة فَهْم الحوادث التي تدلُّ عليها هذه الأخبار، ومُحاولة ضبطها وترتيبها، وانطلاقاً من ظاهرها على المستوى (الصريح) دون (الرمزي)... ما لم تَعنِّ الحاجة إلى الحمل على الرمز أحياناً.
إنَّ مُنطلق السفياني سيكون هو الشام دون بلاد الروم، وأمَّا الخبر الدالُّ على إقباله من هناك، فسنذكر له فَهْمَاً خاصَّاً في حديثنا عن علاقة السفياني بالدجَّال.
إنَّ دمشق ستكون في يوم من الأيّام مسرحاً لحروب داخلية، وصِدْامٍ مُسلَّح بين فئات ثلاث، كلُّها مُنحرفة عن الحق، وكلٌّ منها يريد الحكم لنفسه، ولا تُعبِّر لنا الأخبار عن اتجاهات هؤلاء وعقائدهم بوضوح، غير أنَّها توضِّح وجود الاختلاف بينها عن طريق اختلاف ألوانها... وهي تُعبِّر عن ألوان الأُمراء باعتبارهم مركز الثقل في التوجيه الفكري والعسكري لقواعدهم الشعبية، فأحدهم أبقع، والآخر أصهب، والآخر أحمر أصفر أزرق، وهو السفياني، وهو الذي يُكتب له النصر في المعمعة، ويستطيع السيطرة على الموقف في الشام، ويتبعه أهلها، إلاَّ أنَّ عدد قليل من الناس، يعصمهم الله تعالى عن اتِّباعه، وهم جماعة من المُخلصين المُمحَّصين الكاملين، المُعبَّر عنهم في بعض الأخبار بالأولياء والأبدال، كما أسلفنا.
ويحكم السفياني الكور الخَمس: دمشق، وحمص،

↑صفحة ١٦٥↑

وفلسطين، والأردن، وقنسرين(٢٣٨) إلى جنب ما سوف يملكه من مُدن العراق.
وحين يستتبُّ له الأمر يطمع بالسيطرة على العراق، ويُفكِّر في غزوها عسكريّاً، فيوجِّه إليها جيشاً يكون هو قائده، فيلتقي في طريقه جيش أرسله حُكَّام العراق من أجل دفعه، فيقتتل الجيشان في منطقة تُسمَّى بقرقيسيا (٢٣٩) ويكون قتالهم ضارباً، يُقتل فيه من الجبّارين حوالي مئة ألف، والجبّار العنيد هو كلُّ حاكم مُنحرف... وهو كناية عن أنّ كل مَن يُقتل يومئذ من أيِّ الجيشين هو من الفاسقين المُنحرفين، وبذلك تتخلّص المنطقة من أهمِّ القوَّاد العسكريين الذين يُحتمل أن يُجابهوا المهدي (ع) عند ظهوره.
وعلى أيِّ حال، فالنصر سوف يكون للسفياني أيضاً، فيدخل العراق، ويضطرُّ إلى منازلة (اليماني) في أرض الجزيرة،(٢٤٠) فيسيطر عليه أيضاً ويحوز من جيش اليماني ما كان قد جمعه من المنطقة خلال عمليّاته العسكرية.
ثمّ يسير إلى الكوفة، فيُمعن فيها قتلاً وصلباً وسبياً... ويقتل أعوان آل محمد (ص)، ورجلاً من مُسمِّيهم يعني المحبوسين عليهم، وقد سمعت ما في أحد الأخبار من أنَّه يُنادي مُناديه في الكوفة: مَن جاء برأس من شيعة علي، فله ألف درهم، فيثبُ الجار على جاره، وهما على مذهبين مُختلفين في الإسلام، ويقول: هذا منهم، فيضرب عنقه، ويُسلِّم رأسه إلى سُلطات السفياني، فيأخذ منها ألف درهم.
ولا تستطيع حركة ضعيفة وتمرُّد صغير يحدث في الكوفة من قِبل مؤيِّدي اتِّجاه أهلها... لا تستطيع التخلُّص من سُلطة السفياني، بل سوف يفشل وسيتمكّن السفياني من قتل قائد الحركة بين الحِيرة والكوفة، وكأنّه يكون قد انهزم بعد فشل حركته، فيُلقي السفياني عليه القبض في الطريق فيقتله.
وفي بعض الأخبار أنّه تُراق بين الحِيرة والكوفة دماء كثيرة، وهو إشارة إلى هذه الحادثة... فيها الدلالة على أنَّ لقائد الحركة مركزاً مُهمَّاً هناك، لن يستطيع السفياني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٣٨) الكور جمع كورة، وهي المدية والبقعة (انظر أقرب الموارد ج٢ ص١١١٢)، وقنسرين كورة بالشام بالقرب من حلب، وهي إحدى أجناد الشام، قال ابن الأثير: وكان الجُند ينزلها في ابتداء الإسلام، ولم يكن لحلب معها ذِكْر (تاج العروس ج٣ ص٥٠٨ مادة: قنسر).
(٢٣٩) في مراصد الإطلاع بالمدِّ: بلد على الخابور عند مصبِّه، وهي على الفرات، جانب منها على الخابور وجانب على الفرات، انظر ج٣ص١٠٨٠. أقول: وهي منطقة واقعة في سوريا الآن قريبة من الحدود العراقية.
(٢٤٠) وهي أرض ما بين النهرين في العراق.

↑صفحة ١٦٦↑

السيطرة عليه بسهولة.
وحين يستتبُّ له الأمر في العراق أيضاً، يطمع في غزو الأراضي المُقدَّسة في الحجاز، فيُرسل جيشاً ضخماً إلى المدينة لاحتلالها، وظاهر أغلب الأخبار أنّ السفياني نفسه ليس فيه، فيسير هذا الجيش بعُدَّته وسلاحه مُتوجِّهاً نحو المدينة المنوَّرة، ويكون الإمام المهدي (ع) يومئذ في المدينة، فيهرب منها إلى مكَّة فيعرف السفياني ذلك - عن طريق استخباراته - فيُرسل جيشاً في أثره مُتوجِّهاً نحو مكَّة، مُحاولاً قتله والإجهاز عليه وعلى أصحابه، وظاهر سياق الأخبار أنَّ الجيش المتوجِّه إلى مكَّة هو جزء من الجيش الذي كان مُتوجِّهاً إلى المدينة المنوَّرة.
إلاَّ أنَّ مكَّة حرم آمن بنصِّ القرآن الكريم، لا يمكن أن يخاف فيه المُستجير، كما أنَّ الإمام المهدي (ع) قائد مذخور لليوم الموعود وهداية العالم، لا يمكن أن يُقتل، ولا بدّ من حمايته... ومن هنا تقتضي الضرورة إفناء هذا الجيش، والقضاء عليه بفعل إعجازي إلهي، فيُخسف به في البيداء، ولا ينجو منه إلاَّ نفر قليل - اثنين وثلاثة - يُخبرون الناس عمَّا حصل لرفاقهم.

إلاَّ أنَّ ذلك لا يعني الكفكفة من غلواء السفياني، بعد أن ملك سوريا والعراق، والأردن وفلسطين، ومنطقة واسعة من شبه الجزيرة العربية، وهدَّد الإمام المهدي وحاربه... بل سيبقى حُكمه ريثما يظهر المهدي (ع) بعد الخسف بقليل ويردُّ جيشه إلى العراق، ويُناجزه القتال فيُسيطر عليه ويقتله، كما سنذكر.
هذا وقد اعتبرنا في هذا الفهم لتسلسل الحوادث، أنَّ كل ما ورد في شيء من الأخبار من دون أن يكون له نافٍ ومُعارِض في خبر آخر، فهو ثابت، وهذا صحيح في سائر الأخبار، غير الخبرين اللذين عرفنا ورودهما من غير المعصومين (ع)، وهما من نقاط الضعف في هذا الفهم.
كما أنَّها قد تواجه نقاط ضعف أُخرى، ينبغي عرضها ونقدها:
النقطة الأُولى: أنَّه قد يخطر في الذهن: أنَّ هذه التحرُّكات العسكرية وما رافقها من المُلابسات، صيغت على غرار تحرُّكات الجيوش القديمة، التي كانت تُحارب خلال العصر العباسي - مثلاً - حيث لا يوجد قانون دولي ولا أُمَم مُتَّحدة ولا حدود مُعترَف بها، وأمَّا بعد أن تقدَّمت الحضارة وأسَّست هذه الأُسس، فمن غير المُحتمَل أن تحدث مثل هذه التحرُّكات.

↑صفحة ١٦٧↑

ويمكن عرض عدَّة أجوبة على هذه الأجوبة على النقطة، نذكر منها جوابين:
الجواب الأول: أنَّ قيمة القانون وما يستتبعه، من الاعتراف بالأُمم المُتَّحدة والحدود الآمنة المُعترَف بها، إنَّما تنطلق من المصلحة الخاصَّة ليس إلاَّ؛ لأنَّ الفرد والدولة إذا تنازلت عن شيء من المصلحة أمكن تبادل هذا التنازل مع الآخرين، وبذلك تنحفظ مصالح خاصّة أهمُّ وأشمل.
وأمَّا في الوقت الذي يُحرز الفرد والحاكم إمكان سيطرته على الآخرين، وحصوله على الربح مع إحراز دفع الضرر عن نفسه، فسيكون هو وبنود القانون على طرفي نقيض.
ومن هنا؛ لم يكن وجود القانون ولا الأُمم المُتَّحدة، ولا محكمة العدل الدولية مانعاً عن أنواع الاعتداءات، وأشكال الغزو والسيطرة على الشعوب الضعيفة من قِبَل مُختلف الأنظمة، كما نُشاهده باستمرار، وليست حركة السفياني بأفضل من أيِّ واحد من هذه الاعتداءات.
الجواب الثاني: أنَّه من المُحتمل - على الأقلِّ - أن تكون تحرُّكات السفيناي ذات طابع (قانوني) مشروع في حدود الفهم الحديث لهذه المشروعية، كما لو كانت نتيجة لاتفاقيَّات بين الدول واتِّحاد في شكل الأنظمة فيما بينها، وإعلان شكل من الاتِّحاد بين اثنين وأكثر منها، وغير ذلك ممَّا لا حاجة إلى الدخول في الحديث عن تطبيقاته في عالم اليوم.
وبهذا يرتفع الإشكال الذي قد يرد إلى الذهن، من حيث إنَّ ظاهر الأخبار عدم وجود أيَّة مُقاومة ضدَّ جيش السفياني حين يدخل الحجاز... فإنَّ ذلك يكون نتيجةً لاتفاقات مُعيَّنة، ولضعف الحكم القائم هناك يومئذ تجاه الجيش المُحتلِّ ضعفاً شديداً.
النقطة الثانية: إنَّ ظاهر بعض الأخبار التي سمعناها، كون الإمام المهدي (ع) قبل ظهوره معروفاً للسفياني، ويبدو أنَّ الهدف الرئيسي للجيش الذاهب إلى الحجاز هو قتل المهدي (ع)؛ ومن هنا يخاف (ع) ويهرب من المدينة إلى مكَّة على سنَّة موسى بن عمران (ع) حين هرب إلى مَدْيَن... ويكون الخسف بالجيش إنقاذاً له، ويفهم السفياني بهرب المهدي (ع)، فيُرسل خلفه جيشاً فيُخسف به.
وهذا - بظاهره - مُنافٍ لمسلك الغيبة الذي يتَّخذه الإمام (ع) إلى حين ظهوره، وخاصة من الأعداء الذين يُحتمل فيهم أن يقتلوه ويُشكِّلون خطراً عليه، ولو انحصر الأمر بذلك وجب رفض دلالة الخبر للجزم بثبوت الغيبة قبل الظهور.
لكنَّنا يمكن الاستغناء عن هذه النقطة أيضاً، لو التفتنا إلى (أُطروحة خفاء العنوان)

↑صفحة ١٦٨↑

التي عرضناها في التاريخ السابق، والتي تقول: إنَّ المهدي (ع) خلال غيبته يرى الناس ويرونه ولا يعرفونه. وإنَّما تكون غيبته باعتبار غفلة الناس مُطلقة عن حقيقته... ويعرفونه بعنوان مُستعار وشخصيّة (ثانوية) يتّخذها المهدي (ع) في المجتمع.
ومعه؛ فمن الممكن أنَّ السفياني يعرف تلك (الشخصية الثانوية)، أعني ما اتَّخذه المهدي من عنوان مُستعار في ذلك العصر، ويُتابع أخباره بتلك الصفة، ويُرسل جيشاً لقتله بتلك الصفة أيضاً، وإنَّما عبَّر عنه في الأخبار بالمهدي باعتبار حقيقته، وإنَّما يُخسف بالجيش المُعادي له باعتبار ذلك أيضاً، إلاَّ أنَّ السفياني لن يشعر أنَّه قاصد لقتل المهدي (ع) نفسه، ولن يشعر الناس بذلك أيضاً؛ لأنَّه، والناس إنَّما يعرفونه بشخصيَّته الثانوية دون الحقيقية.
النقطة الثالثة: أنَّه تبقى عدَّة فجوات في تسلسل الحوادث لم تنطق بها الأخبار بوضوح... ومن الصعب استدراكها بطبيعة الحال، نذكر لها بعض الأمثلة.
منها: دور الجماعة المُقبلة من خراسان، وفيها بعض أصحاب القائم (ع) بقيادة الخراساني، ما هو دورها في العراق هل هو عسكري وفكري وليس لها دور؟ ما هو موقف السفياني منها حين يُسيطر على البلاد؟
ومنها: دور اليماني عسكرياً وفكرياً وعقائدياً، وإن كان المظنون أنَّه هو المُشار إليه في بعض الأخبار، بأنَّ رايته راية هُدى، كما سمعنا في التاريخ السابق،(٢٤١) والسفياني سيُجْهِز عليه وسيُخلِّي الساحة العراقية منه، إلاَّ أنَّ فجوات أُخرى سوف تبقى غير قابلة للجواب.
ومنها: عدد أفراد الجيش الذين يتَّجهون إلى مكَّة المُكَّرمة للقبض على المهدي (ع)، فهل هو جماعة كبيرة وصغيرة، فبينما يُعبِّر عنه في عدد من الأخبار بالجيش، وهو يوحي بالعدد، ويؤيِّده ما في بعض الأخبار من أنَّهم ثمانون ألفاً.(٢٤٢)
إلاَّ أنَّ بعض الأخبار تقول: فيُبعث إليه بعثٌ،(٢٤٣) وهو يوحي بالإرسالية الصغيرة نسبيَّاً، إلاَّ أنَّ الأغلب على التعبير بالجيش على أيِّ حال.
الناحية الرابعة: أنَّنا فهمنا في التاريخ السابق،(٢٤٤) من الأخبار التي تذكر خروج

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٤١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٦٣٢.
(٢٤٢) المصدر ص٦٠٢. غير أنَّ الخبر مروي عن ابن عباس لا عن أحد المعصومين (ع).
(٢٤٣) المصدر ص ٥٩٩.
(٢٤٤) المصدر ص ٥٤٧.

↑صفحة ١٦٩↑

الرايات السود من خراسان... فهمنا الإشارة إلى حركة أبي مسلم الخراساني، التي أجهزت على حُكم بني أُميَّة، ومهَّدت لحُكم العباسيين... ومعه فقد يخطر في الذهن: أنّ الخراساني المذكور في الأخبار التي ذكرناها هنا هو أبو مسلم أيضاً.
وهذا احتمال معقول لو استطعنا أن نفهم من (بني فلان) في الخبر الذي نقلنا عن النعماني في (الغيبة)... بني أُميَّة دون بني العباس. فكأنَّه قال: لابدَّ لبني أُميَّة أن يملكوا، فإذا ملكوا خرج عليهم الخراساني فأهلكهم، فيكون واضح الانطباق على أبي مسلم دون شكٍّ.
غير أنَّ هذا الفهم لا يخلو من بعض المصاعب:
أولاً: إنّ الخبر مروي عن الإمام محمد بن علي الباقر (ع)، وهو مُعاصر لدولة بني أُميَّة... فلا يكون لقوله: (لا بدَّ لبني أُميَّة أن يملكوا) معنى واضح، بل يتعيَّن حمله على الدولة التي لم تحدث في زمانه، وهي دولة بني العباس، ومن المعلوم أنَّ أبا مسلم أسَّس دولة العباسيين لا أنَّه أهلكها.
ثانياً: إنَّ الخبر كالصريح في تعاصر حركة الخراساني والسفياني، ومن المعلوم عدم تحقُّق حركة السفياني لحدِّ الآن!!
إذاً؛ فحركة الخراساني لم تتحقَّق... إذاً؛ فهي ليست مُنطبقة على حركة أبي مسلم على أيِّ حال.
ومعه؛ تكون الحركة المُشار إليها في أخبار الرايات السود غير الحركة المُشار إليها في هذه الأخبار بقيادة الخراساني، غير أنَّنا نخسر بذلك شيئاً ذا بالٍ، وهو: إنَّ الحادثة المُشار إليها لو كانت واحدة، لاستطعنا ضمَّ أخبار الرايات السود إلى أخبار (الخراساني)، فتُصبِح كثيرة ومُستفيضة، إن لم تكن متواترة، وهذا غير ممكن مع تعدُّد الحادثة المقصودة.
ولكنَّ هذا لا يعني سقوط كلا الطائفتين من الأخبار عن إمكان الإثبات التاريخي، كلٌ بمُقدار قابليَّته.
الناحية الخامسة: قد ثبت بهذه الأخبار وغيرها، كون الخسف الذي استفاضت به الأخبار في مصادر الفريقين....إنَّما يكون بجيش السفياني، حين يقصد قتل الإمام المهدي (ع) وهو مُستجير بمكَّة.
وبذلك نحصل على شيء ذي بالٍ - على عكس الناحية السابقة - وهو انضمام أخبار الخسف المُستفيضة إلى أخبار السفياني، وإن لم تذكر السفياني بالصراحة، فإذا علمنا أنَّ أخبار السفياني مُستفيضة، كان ضمُّ المستفيض إلى المُستفيض مُنتِجاً للتواتر لا محالة.

↑صفحة ١٧٠↑

الناحية السادسة: بقي علينا التعرُّض إلى مقتل السفياني على يد الإمام المهدي (ع)، ولا زلنا نتكلَّم طبقاً للفهم (الصريح) دون الرمزي لمفهوم السفياني، لنتوفَّر في الناحية الآتية على عرض الفهم الرمزي له.
وقد وردت في ذلك عدَّة أخبار:
قال في إسعاف الراغبين،(٢٤٥) وهو يُعدِّد ما ورد في الروايات من حوادث ظهور المهدي (ع)... قال:
وإنَّ السفياني يبعث إليه من الشام جيشاً، فيُخسف بهم البيداء، فلا ينجو منهم إلاَّ المُخبِر، فيسير إليه السفياني بمَن معه، فتكون النصرة للمهدي، ويُذبح السفياني.
وروي في البحار(٢٤٦) حديثاً طويلاً عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر (ع)، يتحدَّث فيه عن المهدي (ع) وظهوره وما يحدث بعد ذلك، إلى أن قال: (... ثمَّ يأتي الكوفة فيُطيل فيها المَكْث ما شاء الله أن يمكث، حتى يظهر عليها، ثمَّ يسير حتى يأتي العذرا(٢٤٧) هو ومَن معه، وقد أُلحِقَ به ناس كثير والسفياني يومئذ بوادي الرملة، حتى التقوا وهم يوم الأبدال، يخرج أُناس كانوا مع السفياني من شيعة آل محمد (ص)، ويخرج ناس كانوا مع آل محمد إلى السفياني، فهم من شيعته حتى يلحقوا بهم، ويخرج كل ناس إلى رايتهم، وهو يوم الأبدال. قال أمير المؤمنين (ع): يُقتل يومئذ السفياني ومَن معه حتى لا يُدرك منهم مُخبِر، والخائب يومئذ مَن خاب من غنيمة كلب(٢٤٨)...) الحديث.
وفي خبر مُطوَّل آخر أخرجه المجلسي في البحار أيضاً،(٢٤٩) عن عبد الأعلى الحلبي قال:
قال أبو جعفر (ع): (يكون لصاحب هذا الأمر غيبة... إلى أن يقول لأصحابه: سيروا إلى هذا الطاغية، فيدعو إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٤٥) انظر ص١٣٨.
(٢٤٦) ص١٦٠-١٦١ج١٣.
(٢٤٧) في مراصد الإطلاع بالمدِّ: قرية بغوطة دمشق معروفة إليها يُنسب مرج عذراء ج٢ ص٩٢٤.
(٢٤٨) أخوال السفياني والمُحاربين معه، كما يظهر من الخبر الآتي وغيره.
(٢٤٩) انظر ج١٣ ص١٨٩.

↑صفحة ١٧١↑

(ص)، فيُعطيه السفياني من البيعة سلماً، فيقول له كلب - وهم أخواله -: ما هذا؟! ما صنعت؟! والله، ما نُبايعك على هذا أبداً...
فيقول: ما أصنع؟!
فيقولون:... استقبله! فيستقبله.
ثمَّ يقول له القائم صلى الله عليه: خُذْ حذرك، فإنَّني أدَّيت إليك، وأنا مُقاتلك، فيُصبح فيُقاتلهم، فيمنحه الله أكتافهم، ويأخذ السفياني أسيراً، فينطلق به يذبحه بيده...) الخبر.
ولا نجد في هذه الأخبار تنافياً يُذكر، مع الأخبار السابقة والفهم العام الذي فهمناه عنها، فإنَّ الجوَّ العام لها واحد، فينبغي الآن قصر الكلام على الحوادث الزائدة التي تُعرب عنها هذه الأخبار، ممَّا لم يكن موجوداً في الأخبار السابقة، ويكون فهمنا الآن تتمَّة للفهم العام السابق.
إنَّ مركز حُكم السفياني سيكون هو العراق بعد انتقاله عن الشام، ولن يوجب الجيش الذي تفشل مُهمَّته في الحجاز، انتقال مركز حُكمه إلى هناك.
ومن هنا سوف يواجه المهدي عند دخوله إلى العراق حُكم السفياني بكل جبروته، غير أنَّ السفياني - على ما يبدو - سوف يكره مُناجزته القتال؛ لأنَّ ذلك سوف يُثير ضدَّه مشاكل لا تُطاق، ومن هنا يدخل المهدي (ع) العراق سلماً، ويمكث في الكوفة ما شاء الله له ذلك كزعيم شعبي، حتى ما إذا اجتمع له من الرجال والسلاح ما يكفي للسيطرة على الحُكم استطاع مواجهة السفياني بصراحة.
وطبقاً للقواعد الإسلامية، سيبدأ المهدي (ع) بعرض العقائد الإسلامية الحقَّة على السفياني، فإن قَبِلَ بذلك وصار معه فهو... وإلاَّ ناجزه القتال.
وطبقاً للاتجاه النفسي لدى السفياني لمُجاملة المهدي (ع)، سيُعطي للمهدي ما يطلبه من الشهادة، إلاَّ أنَّ بطانته سوف تحتجُّ على ذلك وتشجب موقفه، وتُلزمه بأن يواجه المهدي (ع) مواجهة كاملة.
ولعلَّ هذا الاتجاه النفسي، هو الذي يفسح المجال لتسرُّب كل المؤمنين المُشتغلين في جيش السفياني إلى جيش المهدي (ع)، وفي نفس الوقت يميل الفسَّاق - الفاشلين في التمحيص من سكَّان الكوفة قبل الظهور - إلى الالتحاق بجيش السفياني، وهو يوم الإبدال.. أي تبادل الأصحاب، ويتمُّ ذلك في الفترة الأُولى قبل مُناجزة القتال.
وإذ يخضع السفياني لاقتراح بطانته، ينكمش ضدَّ المهدي (ع) ويتحدَّاه، فيُنذره

↑صفحة ١٧٢↑

المهدي (ع) بالقتال، فيضطرُّ السفياني إلى الصمود ضدَّه، فتحدث المعركة بين المعسكرين، ويكون الفوز للقائد المهدي، وينتهي حكم السفياني، ويؤخَذ أسيراً، ويقتله المهدي في الأسر، وبذلك تتمُّ سيطرة المهدي على العراق.
بل سوف تتمُّ سيطرة المهدي (ع) على كلِّ المنطقة التي عرفناها محكومة للسفياني، وهي العراق والشام والأردن وفلسطين؛ ومن هنا سوف تنفتح الفرصة المؤاتية للغزو العالمي، كما سيأتي في القسم الثاني من الكتاب.
الناحية السابعة: في مُحاولة إعطاء الفهم الرمزي عن السفياني، مع الإلماع إلى علاقة السفياني بالدجَّال.
ويحتاج الفهم الرمزي إلى شرطين أساسين، لا يصحُّ إلاَّ من خلالهما، فإن فُقِدَ أحد الشرطين، فضلاً عنهما معاً، كان الفهم الرمزي ممَّا لا لزوم له.
الشرط الأول: أن يكون العمل بظاهر الأخبار مُتعذِّراً، والفهم (الصريح) منها مُمتنِعاً... باعتبار قيام القرائن على عدم صحَّته واقتضاء القواعد العامَّة لنفيه.
وهذا ما كنَّا نواجهه في مفهوم الدجَّال، ومفهوم يأجوج ومأجوج، من حيث إنَّ ظاهر الأخبار نسبةُ الخوارق والمعجزات إلى المُنتسبين إلى الباطل، وهو مستحيل، وهو يُعطي لهذين المفهومين صورة مُخالفة للبشر الاعتياديِّين، ممَّا يوثق بعدم صدقه؛ فيكون ذلك سبباً للانطلاق إلى الفهم الرمزي الذي يُذلِّل هذه المصاعب، مع أخذ الشرط الثاني بنظر الاعتبار.
الشرط الثاني: أن يكون الفهم الرمزي أقرب ما يمكن إلى الظواهر، مُعطياً صورة شاملة ومُتكاملة ومُتساندة لمجموع الظواهر والمفاهيم الواردة في الأخبار... بحيث لا يندُّ عن ذلك إلاَّ الخبر الشاذُّ، غير القابل للإثبات التاريخي أساساً.
وهذا ما حاولنا تطبيقه في فهمنا الرمزي لمفهوم الدجَّال، ومفهوم يأجوج ومأجوج.
غير أنَّ مفهوم السفياني فاقد للشرط الأول؛ إذ من الواضح بعد استعراض الأخبار السابقة وغيرها ممَّا ورد في السفياني، أنَّها خالية من أيَّة معجزات وخوارق منسوبة إليه، وإلى غيره من المُبطلين، بل هي تخلو من أيَّة معجزة سوى الخسف بالبيداء الذي يحدث دفاعاً عن الحق لا عن الباطل، وقد عرفنا مُبرِّره الكامل فيما سبق.
كما أنَّ هذه الأخبار تعرض البشر على حالهم في عصر التمحيص والفتن، فهناك الآراء المُتعارضة والجيوش المُتحاربة والحُكَّام الظالمون، والقلَّة المُدافعة عن الحق، وكل هذه

↑صفحة ١٧٣↑

الأمور صفات أساسيَّة للمجتمع المعاصر، وبالتالي فهي لا تُعطي صورة مُخالفة للبشر الاعتياديِّين ليكون الوثوق بعدم صدقها موجوداً، ليكون ذلك مُنطلقاً إلى الفهم الرمزي.
إذاً؛ فالفهم الرمزي الكامل ممَّا لا لزوم له، وإنَّما الشيء الممكن هو ملاحظة الخصائص والصفات حول هذا المفهوم، وإسقاط ما يمكن إسقاطه منها.
فإذا أسقطناها جميعاً والأعمَّ الأغلب منها، كان (الفهم) الذي ذكرناه في التاريخ السابق(٢٥٠) صحيحاً، وهو أنَّ السفياني يُمثِّل خطَّ الانحراف داخل المعسكر الإسلامي ككل، فتندرج تحته كلُّ الحركات والعقائد التي تدَّعي الانتساب إلى الإسلام، ممَّا كان (بعد زوال الدولة العباسية) ويكون إلى يوم الظهور الموعود.
وأمَّا إذا أخذنا عدداً من الصفات بنظر الاعتبار، ممَّا تسالمت الروايات على صحَّته، فإنَّ هذا المفهوم الواسع سوف يضيق، وسوف ينحصر في تطبيق واحد من تطبيقاته، فإنَّني أود أن أقول: إنَّ مفهوم السفياني يُعبِّر عن آخر حُكم مُنحرف للمنطقة قبل ظهور المهدي (ع)، ويُمكننا أن نصف هذا الحُكم ممَّا ثبت له من الصفات، كدخول سوريا والعراق تحت حُكم واحد ومُتشابه، وحقده على أهل الحق، وإرساله الجيش ضدَّ المهدي (أو ضدَّ جماعة من أهل الحقِّ المُخلصين، يكون المهدي (ع) موجوداً فيهم بعنوان آخر غير حقيقته)، وحدوث الخسف على هذا الجيش.
وأمَّا الصفات الأُخرى، كتسميته بعثمان بن عنبسة، وخروجه من الوادي اليابس، وصفات جسمه وسيطرته على الأردن وفلسطين، وتفاصيل مواقفه العسكرية، فهي ممّا ينبغي إسقاطها تحت وطأة الفهم الرمزي، وإيكال علمها إلى أهله، وإن كان الوارد من الأخبار في بعض هذه الصفات صالح للإثبات التاريخي، وإن لم يكن أكيداً.
وانطلاقاً من فَهْمنا هذا، تتَّضح علاقة السفياني بالدجَّال بالمعنى الذي فهمناه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٥٠) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٦٤٧.

↑صفحة ١٧٤↑

أيضاً، بعد أن برهنَّا في التاريخ السابق،(٢٥١) على أنَّ هذين المفهومين يُعبِّران عن شيئين لا عن شيء واحد، فإنَّ للفهمين (الصريحين) التقليدين للسفياني والدجَّال، اتجاه إلى عزل أحدهما عن الآخر عزلاً تامَّاً، طبقاً للظهور الأوَّلي للأخبار... فالمسيح ينزل فيقتل الدجَّال في دمشق، بدون أن يكون السفياني موجوداً في العالم، والمهدي (ع) يظهر فيُحارب السفياني بدون أن يكون الدجَّال موجوداً في العالم.
ولكنَّنا إذا علمنا أنَّ زمن ظهور المهدي (ع) ونزول المسيح واحد، حتى إنَّ المسيح يُصلِّي وراء المهدي (ع) تكرمةً لهذه الأُمَّة، كما وردت بذلك الأخبار، وسنرويها فيما يلي؛ إذاً؛ سيكون هذا الاتجاه التقليدي مُبرهَن البطلان، ولا بدَّ من أن يكون الدجَّال والسفياني مُتعاصرين، ولابدّ من وجود العلاقة بينهما بشكل من الأشكال.
وإذا كان الدجّال عبارة عن الحضارة المادّية الحديثة بخطِّها الطويل، وكان السفياني آخر الحُكّام المُنحرفين في الشرق، فسوف لا يصعب علينا تصوُّر العلاقة يبنهما، بعد أن أصبحنا نعيش بكل حواسِّنا تطبيقات الدجَّال والسفياني بكل وضوح... ونعلم الأشكال الصريحة والمُبطَّنة لعلاقة أحدهما بالآخر، بشكل نكون في غنىً عن عرضه.
وهذا التحديد للعلاقة، منطلق من فهمنا لذينك المفهومين، بغضِّ النظر عمَّا اكتسبه مفهوم الدجَّال من رتوش مُحتملة عند الحديث عن علاقته بيأجوج ومأجوج، إذ مع الأخذ ببعض الأُطروحات التي ذكرناها هناك، سوف نحتاج إلى بعض التغيير في تصوُّر العلاقة... وهذا ما نوكِله إلى القارئ الذكي.
النفس الزكية:
وهو إنسان قُرِنت حركته ومقتله بظهور الإمام المهدي (ع)، في أخبار المصادر الخاصَّة على الأغلب.
وقد سبق في التاريخ السابق(٢٥٢) أن بحثنا ذلك، وعرضنا الأخبار التي تُصرِّح بأنَّ مقتل النفس الزكية من المحتوم، وغيرها.
ولكنَّنا لم نستطع هناك - بما كان لنا من منهج في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٥١) تاريخ الغيبة الكبرى ص٦٣٠وما بعدها.
(٢٥٢) انظر ص٦٠٤ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

↑صفحة ١٧٥↑

الإثبات التاريخي - أن ندفع احتمالاً مُعيَّناً، هو أن تكون النفس الزكيَّة هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع)، وحيث إنَّ مقتله قد حصل في العهد العباسي الأول، فلا ينبغي انتظار حادثة أُخرى لمقتل النفس الزكية في مُستقبل الدهر.
ولكنَّنا نُحاول الآن أن نبحث المطلب بشكل جديد، انطلاقاً من المنهج الذي اتَّخذناه في هذا التاريخ، وهو التنزُّل عن التشدُّد السندي وقبول الخبر الموثوق، وإن لم تَقُم القرائن على صدقه من الخارج، وهذه هي نقطة الاختلاف بين المنهجين، كما أشرنا في أول الكتاب.
وينبغي أن نتكلَّم عن (النفس الزكية) ضمن عدَّة نواحي:
الناحية الأُولى: في سرد الأخبار الواردة في هذا الموضوع، غير ما نقلناه في التاريخ السابق، إلاَّ القليل الذي نحتاجه فنُكرِّره.
روينا في التاريخ السابق،(٢٥٣) عن المفيد في الإرشاد،(٢٥٤) عن أبي جعفر الباقر (ع) والشيخ في الغيبة(٢٥٥) والصدوق في إكمال الدين،(٢٥٦) عن أبي عبد الله الصادق (ع) بلفظ مُتقارب - واللفظ للمفيد -: أنَّه قال: (ليس بين قيام القائم (ع) وقتل النفس الزكية، أكثر من خمس عشرة ليلة).
وقال في الإرشاد(٢٥٧): قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (ع)... وعدَّ منها: ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام.
وأخرج في البحار،(٢٥٨) عن السيد علي بن عبد الحميد، بالإسناد إلى أبي بصير، عن أبي جعفر (ع)، في حديث طويل، يقول فيه: (... يقول القائم (ع) لأصحابه: يا قوم، إنَّ أهل مكَّة لا يُريدونني، ولكنِّي مُرسَل إليهم لأحتجَّ عليهم بما ينبغي لمثلي أن يحتجَّ عليهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٥٣) المصدر ص٦٠٥.
(٢٥٤) ص٣٣٩.
(٢٥٥) ص٢٧١.
(٢٥٦) انظر المصدر المخطوط.
(٢٥٧) ص٣٣٦.
(٢٥٨) ج١٣ ص١٨٠.

↑صفحة ١٧٦↑

فيدعو رجلاً من أصحابه، فيقول له: امضِ إلى أهل مكَّة، فقل: يا أهل مكَّة، أنا رسول فلان إليكم، وهو يقول: إنَّا أهل بيت الرحمة ومَعدِن الرسالة والخلافة، ونحن ذُرِّيَّة محمد وسُلالة النبيِّين، وإنَّا قد ظُلمنا واضطُهِدنا وقُهِرنا وابتُزَّ منَّا حقُّنا، منذ قُبض نبيُّنا إلى يومنا هذا، فنحن نستنصركم فانصرونا.
فإذا تكلَّم هذا الفتى بهذا الكلام، أتوا إليه فذبحوه بين الركن والمقام، وهو النفس الزكية...) الحديث.
وأخرج أيضاً(٢٥٩) عن الكافي، بسنده عن يعقوب السراج، عن أبي عبد الله (ع) في حديث عن المهدي (ع) يقول فيه: (... ويستأذن الله في ظهوره، فيطَّلع على ذلك بعض مواليه، فيأتي الحسني فيُخبره الخبر، فيبتدر الحسني إلى الخروج، فيشبُّ عليه أهل مكَّة، فيقتلونه، ويبعثون برأسه إلى الشام، فيظهر عند ذلك صاحب الأمر...) الخبر.
وقال الرواندي في الخرايج والجرايج(٢٦٠): وروي أنَّ النفس الزكيَّة هو غلام من آل محمد، اسمه محمد بن الحسن يُقتل بلا جُرم، فإذا قُتِل فعند ذلك يبعث الله قائم آل محمد.
أقول: وأرسل الصافي في مُنتخب الأثر(٢٦١) هذا المعنى إرسال المُسلَّمات.
وأخرج الصافي،(٢٦٢) عن غيبة الشيخ، بسنده عن سفيان بن إبراهيم الجريري أنَّه سمع أباه يقول: النفس الزكيَّة غلام من آل محمد، اسمه محمد بن الحسن، يُقتَل بلا جُرم ولا ذنب، فإذا قتلوه لم يبقَ لهم في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر، فعند ذلك يبعث الله قائم آل محمد... الحديث.
فهذا هو كل ما وجدناه من الأخبار بهذا الصدد، وسنُمحِّصها بعد إعطاء الفهم المُتكامل عنها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٥٩) البحار ج١٣ص١٧٨.
(٢٦٠) ص١٩٦.
(٢٦١) انظر ص٤٥٤.
(٢٦٢) ص٤٥٥.

↑صفحة ١٧٧↑

الناحية الثانية: في مُحاولة فَهْمِ هذه الأخبار ككلِّ، على تقدير صحَّتها وكفايتها للإثبات التاريخي، ويكون فهمنا هذا تتمَّةً - بشكل وآخر - للفهم العام الذي ذكرناه للسفياني.
إنَّ المهدي (ع) مع خاصَّة أصحابه حين يهربون من وجه جيش السفياني المبعوث ضدَّهم، من المدينة المنوَّرة إلى مكَّة المُكَّرمة، يُصبح من الواجب على أهل مكَّة نُصرته، بحسب تكليفهم في نُصرة المؤمنين المظلومين ضدَّ الظالمين، ممَّن كان على شاكلة السفياني.
ولكن لن يكون لأهل مكَّة استعداد للنُّصرة، إمَّا لأجل اختلاف مذهبهم عن مذهب المهدي (ع) في الإسلام، وإمَّا لأجل خوفهم من سطوة السفياني وسلطته، وحسبنا أنَّنا سمعنا أنَّ السفياني دخل الحجاز من دون مُقاومة عسكرية، لمدى الرهبة والخوف الذي زرعه في النفوس، ومن هنا يُحافظ أهل مكَّة على مصالحهم الخاصة وينكمشون ضدَّ المهدي (ع)، أعني: بعنوانه المُعلَن وإن جهلوا حقيقته.
ويعلم الإمام المهدي (ع) بعدم استعدادهم لنُصرته، فيقول لخاصته: (يا قوم، إنَّ أهل مكَّة لا يُريدونني.ولكنِّي مُرسل إليهم لأحتجَّ عليهم، بما ينبغي لمثلي أن يحتجَّ عليهم).
ويكون هذا الاحتجاج إتماماً للحجَّة عليهم، ومواجهة صريحة لهم بالموقف؛ حتى لا يبقى منهم غافل ومُماطل.
ومن هنا يُفكِّر المهدي (ع) بأن يُرسل شخصاً من قِبَله إلى أهل مكَّة ليقوم بهذا الاحتجاج، فيدعو بعض أصحابه، وهو من الهاشميين ومن المُخلصين المُمحَّصين - على ما سنعرف في الوجه فيه... - ويُحمِّله رسالة شفويَّة مُعيَّنة، ويأمره بأن يخطب بها في المسجد الحرام بين الركن والمقام، وقد سمعنا نصَّ الخُطبة في الأخبار.
وينبغي هنا أن نُلاحِظ أنَّه حين يقول: أنا رسول فلان إليكم... لا دليل على أنَّه يورِد اسم المهدي (ع) بحقيقته ويُعرِّف المُخاطَبين أنَّه هو المهدي الموعود، بل لعلَّه يورِد الاسم والعنوان المُعلن اجتماعياً له (ع) في ذلك الحين.
وما أن يسمع أهل مكَّة هذه الخُطبة، حتى يجتمعون عليه ويقتلونه بين الركن والمقام، قُرب الكعبة المُشرّفة في بيت الله الحرام، ولعلَّهم يقطعون رأسه ويُرسلونه إلى السفياني، ليكون لهم الزُّلفى لديه.

↑صفحة ١٧٨↑

هكذا تقول إحدى الروايات السابقة، ولكنَّنا عرفنا أنَّ مركز السفياني يومئذ لن يكون هو الشام، بل هو العراق، وإن كان كلاًّ القطرين تحت سيطرته وهذا له عدَّة توجيهات، أوضحها احتمال أن يكون السفياني في ذلك الوقت قد ترك مركزه وسافر إلى الشام لإنجاز بعض المصالح المُعيَّنة، ريثما يعود مرَّة أُخرى.
وعلى أيِّ حال، فإنَّهم حين يفعلون ذلك، يكونون قد عصوا العديد من أهمِّ أحكام الإسلام وضروريَّات الدين.
منها: المُحافظة على حُرمة البيت الحرام، الذي اعتبره القرآن الكريم حرماً آمناً.
ومنها: قتل النفس المؤمنة بدون جرم وبغير نفس.
ومنها: رفض نُصرة المُستنصرين بالحق.
فيشتدُّ غضب الله تعالى على أهل الأرض، فيأمر الإمام المهدي (ع) بالظهور لأخذ الحق ودحر الظالمين.
ويكون رسول المهدي (ع) هذا هو النفس الزكية، الموعود قتلها بين الركن والمقام، وسوف لن يكون بين مقتلها وبين الظهور أكثر من خمس عشرة ليلة.
وهذا هو التصوُّر العام الذي تعكسه هذه الأخبار ولتاريخ تلك الفترة، وهو تصوُّر سليم إلى حدٍّ كبير، لا يكاد يرد عليه إلاَّ المُناقشات القليلة الآتية التي لا تُغيِّر من جوهره شيئاً، ومعه لا حاجة إلى الحمل على الرمز، لمَّا قلناه: من أنَّه يتعيَّن ذلك عند قيام الدليل على بطلان المعنى (الصريح).
إلاَّ أنَّ ارتفاع هذا الفهم إلى مستوى الإثبات التاريخي، منوط بصحَّة تلك الأخبار وصلاحيَّتها للإثبات، وهذا ما سنبحثه غير بعيد.
الناحية الثالثة: في نقد بعض الاعتراضات التي تورَد على هذا الفهم العام:
الاعتراض الأول: أنَّه كيف تيسَّر لرجل واحد أن يُخاطب أهل بلدة بكاملها، بشكل طبيعي غير إعجازي؟
إلاَّ أنَّ هذا السؤال يحتوي على سذاجة واضحة؛ لوضوح كفاية قيام الفرد خطيباً في المسجد الحرام المُحتشد بأهل مكَّة، مُستعملاً الأجهزة الحديثة لبثِّ الصوت وتكبيره؛ لكي يستطيع الفرد أن يُخاطب لأهل مكَّة جميعاً، ويُبلِّغ الحاضر منهم الغائب في أقلِّ من ساعة من نهار.
وقد يخطر في الذهن: أنَّه من أين للنفس الزكية حصول مثل هذا الجمع، واستعمال المُكبِّرات.
وجوابه: أنَّنا لم نُلاحِظ إلى الآن في (النفس الزكية) إلاَّ جهته الخفيَّة، وهو أنَّه من

↑صفحة ١٧٩↑

خاصة الإمام المهدي (ع) في أواخر عصر الغيبة، ولم يتيسَّر لنا مُلاحظة الجهة الاجتماعية المُعلِنة له عادة.
إنَّ اختيار المهدي (ع) له لينوب عنه بالتبليغ ليس جزافياً، إلاَّ بعد إحراز النجاح في ذلك، أعني التبليغ، وله القابلية الفكرية والاجتماعية، المُعلنة له دخيلة لا محالة في ترجيح اختياره.
فقد يكون هذا الرجل خطيباً معروفاً ووجيهاً، وله درجة من المسؤولية والسُّلطة في المجتمع، ومن الممكن له أن يجمع الناس ويخطب بهم بواسطة أجهزة التكبير.
وخاصَّة إذا عرفنا أنَّه سيقول قولته والناس لا زالت مجتمعة بعد الحج، فقد وردت روايات سنسمعها تُعرِب عن أنَّ الظهور سيتمُّ في اليوم العاشر من مُحرَّم الحرام، فإذا استثنينا من ذلك خمس عشرة ليلة، كان موعد خطاب النفس الزكية هو اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجَّة الحرام، أي بعد انتهاء أعمال الحج بحوالي عشرة أيَّام.
الاعتراض الثاني: أنَّه كيف أمكن للنفس الزكية أن يطَّلع على حقيقة الإمام المهدي (ع) خلال عصر غيبته، ويحمل منه الرسالة إلى أهل مكَّة، مع أن ذلك مُتعذِّر بالنسبة إلى كل أحد، إلى حين حصول الظهور؟
والجواب الأوَّلي الواضح لذلك: هو أنَّ الإرسال كان من قِبَل الإمام المهدي (ع) نفسه، وهو العالم بالمصالح، ويستطيع أن يكشف حقيقته للفرد، أيَّاً كان، في حدود ما يعرفه من ملابسات وحقائق.
لكنَّنا لو عبَّرنا عن الاعتراض بتعبير آخر، من زاوية ما عرفناه في التاريخ السابق،(٢٦٣) من أنَّ مصلحة الغيبة مُقدَّمة على كل مصلحة، فكيف جاز للإمام (ع) أن يكشف حقيقته أمام هذا الرجل، مهما كان صالحاً؟
يمكن الجواب على ذلك من عدَّة وجوه، نُلخِّصها فيما يلي:
الجواب الأول: أنَّ ما عرفناه من تقديم مصلحة الغيبة على كل مصلحة، وإن كان صحيحاً، إلاَّ أنَّ السرَّ الأساسي فيه هو أنَّ كشف الغيبة وارتفاعها مُنافٍ مع حفظ المهدي (ع) لليوم الموعود، ومن ثَمَّ تكون مصلحة الغيبة هي مصلحة اليوم الموعود.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٣) تاريخ الغيبة ص٤٩.

↑صفحة ١٨٠↑

ومصلحة ذلك اليوم مُقدَّمة على كل مصلحة.
وهذا البرهان لا يرد في واقعة إرسال النفس الزكية؛ لأنَّ مصلحة الظهور واليوم الموعود نفسه أصبحت مُتوقِّفة على انكشاف الغيبة بالنسبة إلى هذا الشخص، وتعرُّفه على حقيقة المهدي (ع)، بغضِّ النظر عن الأجوبة الآتية؛ فيكون مُقتضى تقديم مصلحة هو هذا الانكشاف لا الغيبة.
الجواب الثاني: أنَّنا قلنا في التاريخ السابق(٢٦٤) أيضاً: إنَّ كل ناجح نجاحاً تامَّاً في التمحيص الإلهي، بحيث يكون مؤهَّلاً للمشاركة في مهامِّ عصر الظهور، يكون في إمكانه رؤية المهدي (ع) خلال عصر غيبته؛ إذ لا يحتمل أن يكون مورد خطر بالنسبة إليه، وقد دلَّت كثير من الروايات وعدد من أخبار المشاهدة، بأنَّ المجتمعين به (ع) في عصر الغيبة مُتعدِّدون، ممَّن يعرف هويَّته وصفته، وأنَّه يجمع إليه أنصارُه ممَّن بلغ في التمحيص غايته، ونجح فيه النجاح المطلوب، وإنَّ في ذلك من المصالح التي تمتُّ إلى مُمارسة هؤلاء للقيادة في اليوم الموعود، ما لا يخفى.
ويبدو من سياق الرواية التي تُعرِب عن إرسال النفس الزكية، أنَّ هذا الرجل إنَّما هو من هؤلاء الخاصة الذين يجمعهم المهدي (ع) ويُعرِّفهم بحقيقته؛ ومن هنا لا يكون في اطِّلاع النفس الزكية على حقيقة الإمام المهدي (ع) أي إشكال.
وينبغي أن نُلاحِظ هنا: أنَّ النفس الزكية حتى لو كان مُطَّلعاً على حقيقة المهدي (ع) حين إرساله، فإنَّه ليس من الضروري أن يُسمِّيه في خطبته، بل قد يذكر العنوان المُعلَن للمهدي (ع)، ويتجنَّب ذكر الحقيقة بالرغم من معرفته لها، تبعاً لأمر إمامه وقائده (ع).
الجواب الثالث: أن ننطلق من الزاوية التي تصوَّرنا بها تعرُّف السفياني، على تحرُّكات الإمام المهدي (ع)، وهي اطِّلاعه عليه بعنوانه المُعلَن لا بحقيقته.
فمن المُحتمَل أن لا يكون (النفس الزكية) مُطَّلعاً على حقيقة الإمام المهدي (ع) الذي أرسله... بل يذهب لتبليغ الرسالة، وهو لا يعلم أكثر من كونها صادرة عن (فلان) الذي يُسمِّيه في خطبته، وهذا كافٍ في إقامة الحجَّة على الناس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٤) ص١٥٠ وما بعدها.

↑صفحة ١٨١↑

كما أنَّه كافٍ لتفسير مقتله؛ إذ لا دليل على أنَّهم يقتلونه باعتبار رسالته عن المهدي (ع) بالذات، بل باعتبار مضمون خُطبته، وقد يكون المهدي بعنوانه العلني مبغوضاً لديهم أيضاً، فينزعجون من تجاوب (النفس الزكية) معه، وقبوله لتحمُّل رسالته.
الاعتراض الثالث: إنَّ هذا التسلسل التاريخي الذي عرفناه في (الفهم العام) مُنافٍ مع ما برهنَّا عليه، من أنَّ شرائط الظهور هي الحُكم الفصل في إنجازه عند تحقُّقها، وهذه الأخبار تدلُّ على أنَّ سبب الظهور هو تهديد السفياني للمهدي (ع) بالقتل، وقتل النفس الزكية فأيُّهم نأخذ؟
والجواب: إنَّ كلا الفكرتين صادقتان، وكلا السببين سبب صحيح في نفسه، وليس مقتل النفس الزكية وتهديد المهدي (ع) إلاَّ نتيجة من نتائج شرائط الظهور.
فإنَّ التخطيط العام السابق على الظهور، بما له من خصائص وصفات، عرفناها في التاريخ السابق، مُنتِجٌ لعدَّة نتائج يُهمُّنا الآن منها اثنتان:
النتيجة الأُولى: وجود العدد الكافي من الأفراد المُخلصين المُمحَّصين، لغزو العالم بالعدل بين يدي المهدي (ع)، وهذا هو الشرط الأخير المُتبقِّي من شرائط اليوم الموعود الثلاثة التي عرفناها في التاريخ السابق،(٢٦٥) وبُمجرَّد نجازه يتمُّ الظهور ويُنجَز اليوم الموعود.
النتيجة الثانية: تطرُّف العدد الأكبر من أفراد المسلمين - فضلاً عن غيرهم - إلى جانب الانحراف والضلال، وأخذهم بالأفكار اللا إسلامية، وعصيانهم أحكام الإسلام.
وكلَّما ازداد الزمان، ازدادت نتائج التمحيص تركيزاً... وحصلت كلتا النتيجتين بشكل أوسع وأوضح، فيتكاثر في أحد الجانبين قوى الحق والإخلاص، ويتكاثر في الجانب الآخر انحراف المُنحرفين وظلم الظالمين، على مُختلف المستويات الاجتماعية.
حتى يُصبح جانب الانحراف والفساد في المجتمع عاصياً لأوضح أحكام الإسلام، ومُنكِراً لضروريَّات الدين، ومُهدِّداً لحُرمات الشريعة من أجل مصالحه وشهواته... الأمر الذي يُنتج أفظع النتائج لدى احتكاك اجتماعي بين الجانبين.
ومعه تكون كلتا النتيجتين اللتين سمعناهما من الأخبار، طبيعية وواضحة، فموقف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٥) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٤٧٥ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

↑صفحة ١٨٢↑

المهدي (ع) من السفياني سوف لن يكون إلاَّ الشجب والاستنكار، في حدود المقدار الممكن له حال غيبته... الأمر الذي يولِّد ردَّ الفعل لدى السفياني، بإرسال الجيش وتهديده بالقتل، وأمَّا موقف النفس الزكية فواضح من خُطبته، وإن هو إلاَّ صورة أُخرى من صور الشجب والاستنكار، وسيكون ردُّ الفعل هو قتله من داخل بيت الله الحرام.
وستكون ردود الفعل هذه مُتطرِّفة إلى درجة إهدارها للأحكام الضرورية في الدين، الأمر الذي يكشف عن تمخُّض التخطيط والتمحيص الإلهيَّين عن نتائجهما المطلوبة... فيكون موعد اليوم الموعود قد تحقَّق.
الاعتراض الرابع: أنَّه قد يخطر في الذهن، أنَّ المُستفاد من سباق الأخبار، أنَّ سبب الظهور هو إثارة غضب المهدي (ع) من الحادثتين المُشار إليهما، وهذا غير صحيح، بعد أن قامت الضرورة القطعية لدى كل مؤمن بالمهدي كونه مذخوراً لإصلاح العالم برمَّته، وأنَّه ممَّن لا تُهمُّه مصالحه الشخصية على الإطلاق، فكيف يصحُّ أن يكون ظهوره ثأراً لهاتين الحادثتين؟!
والجواب على ذلك واضح ممَّا سبق، وواضح في ضمير كل مؤمن بعد وجود الضرورة القطعية المُشار إليها:
إنَّ هاتين الحادثتين ستُغضبان الله تعالى، لا المهدي وحده... بما يستبطنان من إهدار لضروريات الدين، ولكنَّ الظهور سوف لن يكون ثأراً لأيٍّ منهما... فإنَّ مُهمَّة المهدي (ع) الموعود أوسع وأعمق من هذا المجال الضيِّق، بالرغم من أهمِّيَّته، كلَّما في الأمر أنَّ ظهوره سيكون قريباً منهما زماناً، باعتبار تحقُّق شرائط الظهور، وليس لهاتين الحادثتين من صلة بالظهور، إلاَّ ما قلناه من الكشف عن تحقُّق الشرائط، إلى جانب جعلها علامة عليه في الأخبار... الأمر الذي يُنبِّه المُخلصين المُمحَّصين إلى قُرب الظهور.
وهذا - في واقعه - يُمثِّل إحدى الفروق الجوهرية بين شرائط الظهور وعلاماته، تلك الفروق التي أنهيناها في التاريخ السابق(٢٦٦) إلى سبعة.
الناحية الرابعة: في مُحاولة تمحيص تلك الأخبار التي ذكرناها في الناحية الأُولى، من حيث قابليّتها للإثبات التاريخي وعدمه.
وفي هذا الصدد نواجه عدَّة نقاط:
النقطة الأُولى: أنَّها روايات قليلة وغير مُستفيضة، بخلاف ما جاء في السفياني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٦) انظر ص٤٧٠ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

↑صفحة ١٨٣↑

والدجَّال، فإنَّه كثير، منها ما ذكرناه، ومنها ما تركناه.
إلاَّ أنَّ هذه النقطة غير مُضرَّة، تمشِّياً مع ميزان الإثبات التاريخي الذي سرنا عليه... لو كانت الروايات مُتَّفقة في المضمون، وكان بعضها موثوقاً سنداً... ولم نكن نتوخَّى في الإثبات حصول الاستفاضة في الأخبار.
وقد يخطر في الذهن: أنَّ أخبار (النفس الزكيَّة) الموعودة، كثيرة العدد، ومُستفيضة، كما هو معلوم لمَن استعرضها... وليست قليلة كما قلناه.
والحق: أنَّنا إذا نظرنا إلى مجموع أخبار (النفس الزكيَّة)، بما فيها من الأخبار الدالَّة على أنَّ مقتل النفس الزكية من المحتوم، وأنَّه من علامات القائم، كانت الأخبار مُستفيضة حتماً.
إلاَّ أنَّ هذا المجموع، لا يُثبت إلاَّ مقتل النفس الزكية إجمالاً، وهذا لا يُفيدنا في صدد كلامنا الحاضر، لاحتمال انطباقها على محمد بن عبد الله الحسني، المُلقَّب بالنفس الزكية، وأمَّا الأخبار التي تتحدَّث عن التفاصيل، والتي تُوضِّح أنَّ هناك شخصاً آخر بهذا اللقب سوف يُقتل في المستقبل، وهي ما سمعناه في أول الفصل، فليس مُستفيضاً، وإن لم يكن عدم الاستفاضة مُضرَّاً، كما أشرنا.
النقطة الثانية: إنَّ في هذه الأخبار عدداً من جوانب الضعف:
الجانب الأول: ما كان رواية عن غير المعصوم، كالخبر الذي نقله الشيخ، عن سفيان ابن إبراهيم الحريري عن أبيه... وكلام الصافي في مُنتخب الأخبار.
الجانب الثاني: ما كان مُرسلاً، بدون ذكر أيِّ راوٍ على الإطلاق، كخبر الإرشاد، وخبر الخرايج والجرايح.
الجانب الثالث: ما كان مرفوعاً مع وجود جزء من السند، أعني بعض الرواة وجهالة الباقي، وهو رواية البحار المُتضمِّنة لخُطبة النفس الزكية... حيث رواها المجلسي عن السيد علي بن عبد الحميد، بإسناده إلى أحمد بن محمد الأيادي، يرفعه إلى أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام).
الجانب الرابع: ما كان قاصراً في دلالته أساساً على ما فهمناه، مثل خبر الإرشاد الذي يذكر من العلامات: ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام، فإنَّه لا يتعيَّن أن يكون هو النفس الزكية، المُسمَّى بمحمد بن الحسن في الأخبار الأُخرى، وإن كان المظنون هو ذلك، لاستبعاد أن يُقتَل قبل الظهور بين الركن والمقام شخصان... مع قدسيَّة بيت الله

↑صفحة ١٨٤↑

الحرام لدى المسلمين ووضوح حُرمته.
وكذلك الخبر الثاني للبحار، فإنَّه يُصرِّح باسم النفس الزكية، وإنَّما قال: فيبتدر الحسني إلى الخروج. وهو أيضاً غير مُتعيِّن الانطباق عليه.
الجانب الخامس: وجود التعارض في دلالات بعض هذه الأخبار.
فلو حاولنا أن نعرف أنَّ النفس الزكيَّة هل هو مُرسل من قِبَل المهدي (ع) ولا؟
نجد أنَّ الخبر المُطوَّل الذي نقلناه عن البحار، يُصرِّح بالإيجاب، ونجد الخبر الثاني ينفيه بقوله: فيبتدر الحسني للخروج. وهو واضح في عدم استئذانه من المهدي (ع)، فضلاً عن تحمُّل الرسالة عنه، مع افتراض أنَّه هو النفس الزكية والغضِّ عما سبق.
النقطة الثالثة: وفي هذه الأخبار بعض جوانب القوَّة، وإن لم تكن تعدل جميع جوانب الضعف السابقة.
الجانب الأول: إنَّ الخبر القائل: (ليس بين القائم وبين قتل النفس الزكيَّة إلاَّ خمس عشرة ليلة)، خبر موثوق قابل للإثبات التاريخي، بحسب منهج هذا الكتاب.
فقد رواه الشيخ المفيد في الإرشاد،(٢٦٧) عن ثعلبة بن ميمون، عن شعيب الحداد، عن صالح بن ميثم (الجمَّال)، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام).
وكل هؤلاء الرجال موثقون أجلاَّء، وكان بودِّي أن أُشير إلى تصريحات العلماء لولا أنَّه يطول به المقام، فنوكله إلى القارئ الباحث.
ورواه الشيخ الطوسي في الغيبة،(٢٦٨) عن الفضل بن شاذان، عن الحسن بن علي بن فضَّال، عن ثعلبة إلى آخر السند. وكلاهما من العلماء الثقات.
وعليه؛ فما ذكرناه في التاريخ السابق(٢٦٩) من المُناقشة في سند هذا الحديث مبنيٌّ على التشدُّد السندي الذي التزمناه هناك... وقد رفعنا اليد عن الالتزام به هنا.
الجانب الثاني: أنَّ الخبر الثاني الذي نقله عن البحار موثوق أيضاً، فقد نقله(٢٧٠) عن الكافي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٧) ص٣٣٩.
(٢٦٨) ص٢٧١.
(٢٦٩) ص٦١٣.
(٢٧٠) ص١٧٨.

↑صفحة ١٨٥↑

لثقة الإسلام الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن يعقوب السراج، عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) وكلُّهم ثقات أجلاَّء.
الجانب الثالث: أنَّنا يمكن أن نستفيد من مجموع هذه الأخبار، ومن كلمات مَن سمعنا تصريحاتهم، كالراوندي، والصافي، وإبراهيم الحريري، الذين اعتبروا الأمر في عداد المُسلَّمات، فنستفيد وجود التسالم والشهرة الواسعة على أنَّ مقتل النفس الزكية يكون قبل الظهور بقليل بين الركن والمقام، وأنَّه غير مقتل الثائر الحسني المُلقَّب بهذا اللقب.
غير أنَّ هذا الجانب لا يخلو من المناقشة:
أولاً: لأنَّه لم يثبت وجود شهُرة وتسالم أوسع من الأخبار الموجودة، لتكون قرينة عليها، وكلمات الراوندي والصافي وغيرهما قد تكون اعتماداً على هذه الأخبار فقط.
ثانياً: إنَّ الشهرة - لو ثبتت - تدفع احتمال انطباق مقتل النفس الزكية على الثائر الحسني السابق، إلاَّ أنَّها لا تُثبت كل الخصائص المطلوبة، ككونه رسول المهدي (ع) إلى الناس وخُطبته فيهم، ويكون سبب مقتله بين الركن والمقام مجهولاً.
غير أنَّ الأخذ بهذا الجانب الثالث قريب من النفس، وإن لم يصل إلى درجات الإثبات التاريخي.
فهذه هي النُّخبة من الحوادث الاجتماعية المرويَّة، لما قبل الظهور، وهناك أُمور مُتفرِّقة مرويَّة أيضاً أعرضنا عنها؛ لقصورها عن الإثبات التاريخي، فيكون الدخول في تفاصيلها تطويلاً بلا طائل.
كما أنَّ هناك تفاصيل في تحديد الوضع العالمي قبل الظهور، ممَّا يمتُّ إلى إيجاد الظرف المُناسب للنصر بعد الظهور بصِلَةٍ، وهي تفاصيل مُهمَّة، سنعرض إلى مُحتملاتها والاستدلال عليها في القسم الثاني الآتي عند عرض ضمانات النصر للمهدي (عليه السلام).

↑صفحة ١٨٦↑

القسم الثاني: حوادث الظهور وإقامة الدولة العالمية إلى وفاة المهدي عليه السلام
وتندرج في هذا القسم عدَّة أبواب

↑صفحة ١٨٧↑

الباب الأول: في معني الظهور وكيفيته وما يليه من الحوادث إلى حين مسير الامام المهدي (عج) إلى العراق ويتم الكلام في ذلك ضمن عدة فصول

↑صفحة ١٨٩↑

تمهيد

حين يُنتج التخطيط الإلهي العام لعصر الغيبة نتيجته، ويتمخَّض عن وجود العدد الكافي لغزو العالم بالحق والعدل، يترتَّب على ذلك نتيجتان كبيرتان:
النتيجة الأُولى: إمكان الحفاظ على حياة الإمام المهدي (عج) بالطريق الطبيعي الاعتيادي، بالرغم من معروفيَّته وانكشاف حقيقته للناس، وذلك لوجود العدد الكافي من الأفراد الذين يُمكنهم بإخلاص أن يذودوا الأخطار بعون الله عزَّ وجلَّ عن إمامهم وقائدهم العظيم.
وبذلك ترتفع الحاجة إلى الغيبة بكلا شكليها: الإعجازي والطبيعي، أعني (أُطروحة خفاء الشخص) الإعجازية، و(أُطروحة خفاء العنوان) الطبيعية، ومع ارتفاع الحاجة إلى الغيبة، لا معنى لاستمرارها.
بل سيكون استمرارها مانعاً عن تحقيق الغرض الإلهي المطلوب في اليوم الموعود؛ ومن هنا تكون مُحرَّمة على الإمام المهدي (عج)... باعتبار أنَّه يجب عليه بحُكم الله عزَّ وجلَّ تنفيذ ذلك الغرض الذي ذُخِر من أجله، وقد أصبح بعد نجاز التخطيط مُمكناً.
فكل ما يكون مانعاً عنه وحائلاً عن تنفيذ، ممَّا يعود إلى عمله الشخصي واختياره، يكون مُحرَّماً عليه.
النتيجة الثانية: إمكان الفتح العالمي بالحق والعدل، بهذا العدد الكافي المُهيّأ لهذه المُهمَّة، وهو ما لم يتوفَّر لأحد من الأنبياء والأولياء، والعظماء والمصلحين السابقين عليه (ع)، وإنَّما شارك كل واحد منهم بقسط من الأعداد طبقاً للتخطيط العام، وبقيت النتيجة مؤجَّلة ومنوطة بالمهدي (عج)، عندما يتمخَّض هذا التخطيط عن نتائجه.
وإذ يكون الفتح العالمي بهذا العدد المُتوفِّر مُمكناً، ويكون واجباً لا محالة طبقاً

↑صفحة ١٩١↑

للتكليف الإسلامي في كل زمان ومكان، والمتكوِّن من أمرين:
الأمر الأول: أنَّ الفتح الإسلامي لأيِّ مقدار ممكن من الأرض المسكونة، واجب... طبقاً لمفاهيم وأحكام الجهاد المنصوصة في الكتاب والسنَّة، فإذا كان الفتح لمجموع الكرة الأرضية ممكناً كان واجباً لا محالة.
الأمر الثاني: إنَّ امتثال كل تكليف في الإسلام، بما فيه وجوب الفتح الإسلامي منوط في الشريعة بإمكان حصوله وتوفُّر مُقدِّماته... فمتى كان المُكلَّف قادراً على امتثال التكليف - أيَّاً كان - وجب عليه، وكان مُعاتَباً ومُعاقبَاً على تركه، وإذا كان الفرد عاجزاً عن الامتثال؛ باعتبار قصوره وقصور فيه وفي الظروف المُحيطة به، كان التكليف ساقطاً عن الذمَّة؛ لأنَّ الله لا يُكلِّف نفساً إلاَّ وسعها، وليس معنى عدم وجود التكليف في الشريعة، وإنَّما معناه إناطته بحال القُدرة والاستطاعة.
إذا عرفنا ذلك، استطعنا أن نُشخِّص بوضوح أنَّ النبي (ص) والأئمة المعصومين الماضين (ع)، حيث لم يكن لديهم العدد الكافي من الأفراد لغزو العالم بالعدل، كان التكليف به ساقطاً عنهم؛ لأنَّ الغزو في تلك الظروف التي عاشوها لم يكن مُمكناً إلاَّ بالمُعجزة، وهو ما لم تَقُمْ الدعوة الإلهية على اتِّخاذه على طول التاريخ... بل كان يقتصر كل منهم على المقدار الممكن له من الأعمال المؤثِّرة في إقامة الحق.
وقد كان للنبي (ص) عدداً كافياً لفتح منطقة من الأرض، فكان يجب عليه المُبادرة إلى ذلك، وقد كان (ص) على مستوى المسؤولية فأدَّى تكليفه على أحسن وجه، وبذلك انتشر الإسلام.
ثمَّ إنَّ الله عزَّ وجلَّ خطَّط خلال عصر الغيبة - كما عرفنا - لوجود العدد الكافي من المُخلصين لغزو العالم... وإنَّ التكليف بذلك عند نجاز هذا الشرط، وسيكون هذا التكليف مُتوجِّهاً إلى الإمام المهدي (عج)، وسيكون هو على مستوى المسؤولية، وفي أعلى مراتب الحِكمة وأفضل أشكال القيادة... بعد الذي عرفناه من آثار طول الغيبة في ترسيخ وتعميق القيادة لديه.
وعلى أيِّ حال، فسيكون الظهور والقيام بالسيف والتحرُّك العسكري من قِبَل الإمام المهدي، عند نجاز التخطيط، مُتعيِّناً لازماً، بحسب الوعد الإلهي في القرآن الكريم، والغرض الأسمى من خلق البشرية، وبحسب التكليف الإسلامي للإمام المهدي نفسه.
وليس الإمام وحده مُكلَّفاً، بل مع تحقيق الإمكان، تكون كل البشرية مُكلَّفة

↑صفحة ١٩٢↑

بذلك، كل ما في الأمر، أنَّ مَن يكون على مستوى المسؤولية الكاملة لإطاعة هذا الحُكم وتنفيذه، هو الإمام المهدي (ع) وأصحابه... دون الكفَّار والمُنحرفين الذين يكون العدل مُنافياً لمصالحهم الشخصية.
ومن هنا أيضاً؛ كان من اللازم على كل فرد التجاوب مع ثورة المهدي (ع) بأقصى إمكانه، فإن استطاع الجهاد العسكري وجب، وإلاَّ فعليه التجاوب مع مفاهيمه وقوانينه وتطبيقها تطبيقاً دقيقاً.

↑صفحة ١٩٣↑

الفصل الأول: في معنى الظهور وكيفيَّته وأُسلوب معرفة المهدي (ع) للوقت الملائم

للظهور معنيان مُقترنان يصدقان معاً بالنسبة إلى المهدي (ع)، طبقاً للفهم الإمامي، ويصدق أحدهما طبقاً للفهم الآخر، وله معنى ثالث لا يصدق إلاَّ في زمن مُتأخِّر نسبيَّاً.
المعنى الأول: أن يُراد من الظهور: البروز والانكشاف بعد الاحتجاب والاستتار.
وهذا ما يحصل فعلاً بالنسبة إلى الإمام المهدي (ع)، عند تعرُّف الناس إليه بعد غيبته واستتاره، وهو خاص بالفهم الإمامي الذي يرى حصول الغيبة.
المعنى الثاني: أن يُراد بالظهور: إعلان الثورة (في منطق العصر الحاضر)، والقيام بالسيف (في منطق العصر القديم).
وهو صادق بالنسبة إلى المهدي (ع) على كلا الفهمين الإمامي وغيره؛ لوضوح كونه عليه السلام الثائر الأكبر ضدَّ الظلم والطغيان، والتخلُّف على وجه الأرض.
ومن هنا نعرف؛ أنَّ كلا المعنيين صادقان من زاوية (إمامية)؛ إذ نجد الإمام المهدي (ع) يظهر بعد الاستتار، ثائراً على الظلم والطغيان.
المعنى الثالث: أن يُراد الظهور: الانتصار والسيطرة، يُقال: ظهر عليه. إذا انتصر ضدَّه وسيطر عليه. وهذا المعنى يصدق عند استتباب الأمر للمهدي (ع) على العالم كلِّه، وهو غير ما نُريده من كلمة الظهور.
إذن؛ فينحصر معنى الظهور في لحظاته الأُولى، بالمعنيين الأوَّلين.
ونحن حين ننظر إلى الظهور مُقابلاً للغيبة والاحتجاب، نحتاج إلى التساؤل عن كيفيَّته وطريقة تحقُّقه، كما أنَّنا حين ننظر إلى الظهور بوصفه ثورة عالمية وتنفيذاً لليوم الموعود، نحتاج إلى التساؤل في أُسلوب معرفة الإمام المهدي (ع) للوقت الملائم له،

↑صفحة ١٩٥↑

وطريقة اطِّلاعه على تمخُّض التخطيط الإلهي عن نتائجه.
فباعتبار هذين التساؤلين، ينبغي أن نتكلَّم في جهتين:
الجهة الأُولى: في كيفيَّة الظهور بعد الغيبة.
وإذا نظرنا إلى الظهور من هذه الزاوية، نجد أنَّ له معنيين مُقترنين، عملي ونظري يصدقان معاً:
المعنى الأول: وهو المعنى العملي... وهو أن يرى الناس الإمام المهدي (ع) في أول ظهوره، فيُعرِّفهم بنفسه، ويكشف لهم عن صفته الحقيقية، ويُطالبهم بنصره ومؤازرته، وهذا ما سنعرف تفاصيله في هذا القسم من التاريخ.
المعنى الثاني: وهو المعنى النظري... ويتلخَّص بارتفاع الغيبة التي كان عليه السلام قد اتَّخذها مسلكاً لنفسه، طبقاً للتخطيط الإلهي... سواء كان معنى الغيبة هو (أُطروحة خفاء الشخص) أم (أُطروحة خفاء العنوان)، اللذين شرحناهما في التاريخ السابق، فيكون شخصه مكشوفاً وعنوانه معروفاً... تقديماً لإنجاز مهامِّه العالمية، المُتوقَّعة منه منذ الآن.
فإن صحَّت (أُطروحة خفاء الشخص) الإعجازية، كان معنى الظهور ارتفاع المعجزة عنه، وانكشاف جسمه للناس، مُضافاً على ضرورة تعريفه إيَّاهم بنفسه وإطلاعهم على حقيقته، فإنَّ هذه المعجزة إنَّما كانت سارية المفعول في إخفائه لأجل حفظه من الأعداء والطوارئ؛ ليتولَّى القيادة الكبرى في اليوم الموعود، فإذا حلَّ اليوم الموعود، واجتمعت شرائطه، لم يكن لبقاء ذلك الاختفاء من موضوع.
وإن صحَّت (أُطروحة خفاء العنوان) التي هي طريق لحفظ الإمام، يُغني عن الطريق الإعجازي، إلاَّ في أوقات الخطر، كما سبق أن ذهبنا إليه في التاريخ السابق... وكل ما في الأمر أنَّه عليه السلام يعيش (بشخصيَّة ثانوية)، مُتكوِّنة من اسم مُستعار، وعمل مُعيَّن وأُسلوب في الحياة غير مُلفت للنظر، ولا يمتُّ إلى الإمامة والقيادة بصِلَةٍ.
ومُقتضى هذه الأُطروحة، أنَّه ليس هناك أيُّ إعجاز في الاختفاء ليحتاج إلى زواله، بل يكفي في الظهور: أن يُبدِّل المهدي (ع) شخصيَّته الثانوية بشخصيّته الحقيقية، ويُعرِّف الناس بصراحة بصفته الواقعية، ويُقيم الحجّة على ذلك، بالأُسلوب الذي سوف يأتي.
فيثبت باليقين على أنَّ هذا الشخص الذي كان يُسمَّى بفلان ويعمل كيت، إنَّما هو المهدي الموعود، وقد باشر من الآن مُهمَّاته الكبرى.

↑صفحة ١٩٦↑

ويؤيِّد ذلك من الأخبار ما رأيته في بعض المصادر التي لا تحضرني الآن، من أنَّه (عليه السلام) حين يظهر، يقول عدد من الناس: إنَّنا كنَّا رأينا هذا الشخص قبل هذا.
أقول: وهو أيضاً من الأخبار الصريحة في نفي الأُطروحة.
وهنا ينبغي أن نتذكَّر ما عرضناه من أُسلوب تعرُّف (السفياني) على تحرُّكات المهدي (ع)، ومُطاردته له في عصر غيبته... فإنَّه ممَّا لا موضوع له مع صدق الأُطروحة الأُولى، فتكون كل الأخبار الدالّة على ذلك دالَّة على صدق الأُطروحة الثانية.
ومعه؛ فإتماماً للفهم العام السابق، نفهم أنَّ هذا الشخص الذي كان السفياني يُطارده، وقد حصل الخسف من أجله، ولم يؤثِّر موقف (النفس الزكية) في ترجيح كفَّة الميزان الاجتماعية إلى جهته، إنَّ هذا الشخص سوف يذهب إلى المسجد الحرام، فيُعلن عن شخصيَّته الحقيقية، ويطلب من الناس نُصرته والفداء في سبيل أهدافه، ضدَّ السفياني وغير السفياني من الطُّغاة الظالمين.
الجهة الثانية: في أُسلوب معرفة الإمام المهدي (ع) بالوقت المُناسب للظهور، ذلك الوقت الذي يكون التخطيط الإلهي قد أنتج به نتائجه الكبرى.
والسؤال عن ذلك ينبغي أن يتوجَّه تارةً إلى الفهم غير الإمامي للمهدي، وأُخرى إلى الفهم الإمامي عنه.
أمَّا طبقاً للفهم غير الإمامي، وهو أنَّ المهدي رجل يولَد في عصره، فيوفَّق للثورة العالمية، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظُلماً وجوراً.
فطبقاً لذلك؛ لا نكاد نحسُّ بالحاجة إلى السؤال، إذ يكون شأن المهدي شأن أيِّ قائد آخر تتوفَّر له الظروف الموضوعية للثورة، ويُدرِك إمكان نجاح حركته، كما يُدرك أيُّ قائد ذلك لنفسه، وإنَّما يبقى الفرق بينه وبين سائر القادة، بأمرين:
الأمر الأول: أنَّه بينما يُفسِّر سائر القادة الأوضاع الاجتماعية من زواياهم الشخصيَّة، وينظرون الظروف والفرص من مُنظار مصالهم الخاصة، فإنَّ المهدي ينظر إلى ذلك من زاوية مصالح الإسلام الذي هو (الأُطروحة العادلة الكاملة)، الذي يُخرج البشر من الظلمات إلى النور والحق والعدل.
الأمر الثاني: أنَّه يتلقَّى الإلهام من الله (عزَّ وجلَّ)، ويكون مؤيَّداً ومُسدَّداً من

↑صفحة ١٩٧↑

عنده كما يذهب إليه أبن عربي في الفتوحات المكِّيَّة(٢٧١) وغيره، وإن لم نجد دليلاً واضحاً على ذلك من المصادر العامَّة، ممَّا اضطرَّ ابن عربي أن ينسبه إلى (الكشف الصحيح) دون الكتاب الكريم والسنَّة الشريفة.
ونحن ذهبنا في التاريخ السابق(٢٧٢) إلى صحَّة ثبوت الإلهام للمهدي... لكنَّ ذلك باعتبار الفهم الإمامي، وإما طبقاً للفهم الآخر، فيكاد أن يكون إثباته مُتعذِّراً.
وأمَّا التعرُّف على إنتاج التخطيط الإلهي لشرائط الظهور، فيكون هذا موكولاً إلى الله تعالى وحده؛ ومن هنا سيُقدَّر ميلاد المهدي في الزمان الذي يكون نُضجه الكامل شخصياً مُساوقاً ومُعاصراً مع إنتاج التخطيط واجتماع الشرائط، فإذا حان الوقت، فسيعرف المهدي بفطنته وجود الفرصة المؤاتية والعدد الكافي من الأفراد لغزو العالم مُتوفِّراً، فيصدع بمُهمَّته الكبرى.
وأمَّا لو أخذنا بالفهم الإمامي، فسيكون هذا السؤال وجيهاً... باعتبار أنَّ أيَّام الغيبة مُتساوية النسبة بالنظر السطحي، تجاه موعد الظهور، فلا يكون في بعض الأيام أوْلى من بعض لإنجاز ذلك، ما لم يحصل هناك علم إضافي وانتباه خاص حول الموضوع.
وهذا العلم لا شكَّ في أنَّه سيحصل للإمام الغائب (ع)، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ بحكمته الأزليَّة وتخطيطه العام سيُمكِّن المهدي (ع) من العلم بموعد ظهوره؛ لتوقُّف نجاحه عليه، وتوقُّف تنفيذ الوعد الحق والغرض الأسمى على الظهور، فيتوقَّف ذلك الغرض على العلم بحلول الموعد، فيكون علمه عليه السلام ضرورياً بالبرهان.
وإنَّما ينفتح السؤال عن أُسلوب علمه ذلك، وأنَّه هل هو بطريق إعجازي وطبيعي؟ وهو ما أجابت عليه جملة من الأخبار الخاصة، فتحصَّلت عندنا عدَّة أُطروحات في مقام الجواب على ذلك... وقد لا تكون مُتنافية فيما بينها، بل في الإمكان صدقها جميعاً لو صحّت بالدليل عليها، وتمّ عليها الإثبات التاريخي:
الأُطروحة الأُولى: أن يكون علم المهدي (ع) بموعد ظهوره وثورته، بنحو الرواية عن آبائه المعصومين، عن جدِّه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.
وتُتصوَّر هذه الرواية على أشكال، تكون كل واحدة في واقعها منها أُطروحة مُستقلَّة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٧١) ج٣ ص٣٢٧ وما بعدها.
(٢٧٢) ص٥٠٥ وما بعدها.

↑صفحة ١٩٨↑

الشكل الأول: أن يُحدَّد له الزمان في تاريخ مُعيَّن، في ساعة من يوم من شهر من عام بعينه... يكون معلوماً عنده مجهولاً عندنا.
الشكل الثاني: أن تُحدَّد له حادثة مُعيَّنة وعدَّة حوادث، تكون مُعاصرة للموعد المطلوب في حكمة الله عزَّ وجلَّ وتخطيطه، كمقتل النفس الزكية والخسف وأيِّ شيء آخر.
الشكل الثالث: أن يوصَف له جيل مُعيَّن، بأسماء أشخاصه وأعمالهم، وأحد منهم، وأكثر، ويكون الموعد نقطة مُعيَّنة من عمر ذلك الجيل.
إلى غير ذلك من الأشكال... كلُّها مُمكنة ومُحتملة، إلاَّ أنَّه لم يدلَّ عليها نصٌّ مُعيَّن في القرآن الكريم ولا السنَّة الشريفة، بحسب تتبُّعنا، غير أنَّ توقُّع وجود نصٍّ على ذلك ممَّا لا معنى له؛ لأنَّ النصَّ لا يرد إلاَّ فيما أُريد إبلاغه إلى الآخرين، إلى الناس، وأمَّا ما كان خاصَّاً بشخص المهدي (ع) فلا معنى لوروده في دليل عام، أعني واسع الانتشار، ومعه فتبقى هذه الأُطروحة ذات احتمال مُحتَرم.
وهذا هو أحد الفروق الرئيسية التي تمتاز بها الأُطروحة الإمامية عن غيرها؛ إذ لا يُتصوَّر بمن يوجد مُتأخِّراً عن صدر الإسلام، أن يتحمَّل مثل هذه الرواية، دون أن تشتهر وتتناقلها الألسن.
الأطروحة الثانية: أن يكون علم الإمام المهدي (ع) بموعد ظهوره إعجازيَّاً، بمعنى أنَّه يحين الموعد الذي يراه الله عزَّ وجلَّ صالحاً للظهور وانتصار الثورة العالمية، فإنَّه عزَّ وجلَّ يُحقِّق أمام الإمام المهدي (ع) مُعجزة بشكل وآخر توجِب إلفاته إلى ذلك... كما سنسمع.
وذلك بأحد أُسلوبين، وبالأُسلوبين معاً، وإن لم يكن أحدهما مُغنياً عن الآخر.
الأُسلوب الأول: وهو أوضحهما وأصرحهما بالإعجاز، ما لم يُحمَل على الرمز، لو أمكن.
فمن ذلك: ما أخرجه الراوندي،(٢٧٣) مُرسلاً عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، في حديث عن القائم يقول فيه: (إذا كان وقت خروجه انتشر العَلَم بنفسه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٧٣) انظر الخرايج والجرايح ص١٩٨.

↑صفحة ١٩٩↑

فناداه العلم: اخرُج يا وليَّ الله، اقتل أعداء الله. وله سيف الله، إذا حان وقت خروجه اقتُلِع السيف من عنده (غمده) فناداه السيف: اخرُج يا ولي الله، فلا يحلُّ لك أن تقعد عن أعداء الله)، وروي ذلك مُرسَلاً مُكرَّراً أيضاً.(٢٧٤)
وهذا الأُسلوب، كما ترى، فيه عدَّة نقاط ضعف:
النقطة الأُولى: أنَّ رواياته قليلة، وكلُّها مُرسَلة، لم يذكر لها الراوندي أيَّ سند؛ ومعه فلا يمكن الأخذ بها طبقاً لأبسط وأوضح الموازين.
النقطة الثانية: أنَّها مُنافية لقانون المعجزات، القائل: بأنَّ المعجزة لا تقوم مع إمكان وجود البديل الطبيعي عنها، المُنتِج لنفس النتيجة، ومن المعلوم - بوضوح - وجود البديل عن أمثال هذه المعاجز المنقولة من هذه الأخبار؛ فإن معرفة الإمام لمهدي (ع) بموعد الظهور لا ينحصر بها، ولا يتوقَّف عليها، بعد إمكان الأُطروحة الأُولى والثالثة، اللتان ترجعان إلى معنى طبيعي غير إعجازي.
النقطة الثالثة: أنَّها مُبتنية على المفاهيم القديمة في تصوُّر الحرب، وأنَّ سلاح الإمام المهدي (ع) في ظهوره سوف يكون هو السيف على التعيين، وإنّ قيادته سوف تكون بالراية وهي العلم الكبير، وكل هذا ممَّا ثبت بالوجدان تغيُّره وتطوُّره.
وقد يخطر في الذهن: أنَّنا سنحمل فيما يلي من البحث معنى السيف على كل سلاح، ونحمل معنى الراية على القيادة العقائدية ككل... فلماذا لا نحملها هنا على ذلك أيضاً؟
والجواب على ذلك: أنَّ من الأخبار ما يكون قابلاً للحمل على ذلك، وبعضها ما يكون كالصريح فيه، كما سنسمع، وأمَّا مثل هذه الأخبار المُرسلة، فلا يمكن أن تُحمل على ذلك... لوضوح أنَّ القيادة المعنوية لا يُتصوَّر فيها النطق والكلام، حتى وإن كان إعجازياً، كما أنَّ حَمْلَ السيف على المدفع والصواريخ الموجَّهة مثلاً، فتكون هي الناطقة بدل السيف... بعيد جدَّاً، كما هو واضح.
الأُسلوب الثاني: أنَّ الإمام المهدي (ع) يعرف موعد ظهوره عن طريق الإلهام.
فمن ذلك: ما أخرجه الصدوق في إكمال الدين،(٢٧٥) عن عمر بن إبان بن تغلب، قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٧٤) المصدر ص١٢٩ وص١٦٢.
(٢٧٥) انظر المصدر المخطوط.

↑صفحة ٢٠٠↑

قال أبو عبد الله (ع): (يأتي على الناس زمان... - إلى أن قال: - فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ إظهار أمره، نكت في قلبه نكتة فظهر...) الحديث.
والنَّكْتُ في القلب هو الإلهام، كما تُفسِّره الأخبار الأُخرى.
أخرج الكليني في الكافي،(٢٧٦) بسنده عن علي السائي، عن أبي الحسن الأول موسى عليه السلام، قال: (مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماضٍ، وغابر، وحادث. فأمَّا الماضي فمُفسَّر، وأمَّا الغابر فمزبور، وأمَّا الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الأسماع، وهو أفضل علمنا، ولا نبيَّ بعد نبيِّنا).
وأخرج أيضاً(٢٧٧) بسنده عن المفضَّل بن عمر، قال:
قال قلت لأبي الحسن عليه السلام، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (إنَّ علمنا غابر، ومزبور، ونكت في القلوب، ونقر في الأسماع)؟
فقال: (أمَّا الغابر فما تقدَّم من علمنا، وأمَّا المزبور فما يأتينا، وأمَّا النكت في القلوب فإلهام، وأمّا النقر في الأسماع فأمر المَلك).
ولهاتين الروايتين فهمهما الخاص، الذي يخرج بنا عن الصدد، والذي يُهمُّنا الآن هو الرواية الثانية، تُفسِّر النكت بالقلوب بالإلهام،(٢٧٨) وتُسمِّيه الأُولى: القذف في القلوب، وتُصرِّح بأنَّه أفضل العلم الواصل إليهم عليهم السلام.
وهذا المعنى عام لكل الأئمة عليهم السلام، بما فيهم المهدي (ع) طبقاً للفهم الإمامي له، الذي ننطلق منه الآن.
إذن؛ فيكون الإمام المهدي (ع) مُلهَماً في تحديد وقت ظهوره، بدون حاجة إلى تحديد سابق يرويه عن آبائه عليهم السلام.
وقد سمعنا في التاريخ السابق(٢٧٩) من الأخبار، ما دلَّ على أنَّ الإمام إذا شاء أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك، وهو يَسند مضمون هذه الأخبار أيضاً، ولا شكَّ أنَّ المهدي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٧٦) انظر المصدر المخطوط، باب: جهات علوم الأئمة (ع).
(٢٧٧) المصدر والباب نفسيهما.
(٢٧٨) الإلهام: وصول المعنى إلى الذهن بدون لفظ. والوحي وصوله مع اللفظ، وهو خاص بالأنبياء.
(٢٧٩) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص: ٥١٥.

↑صفحة ٢٠١↑

(ع) يُريد طوال أيَّام غيبته أن يعلم وقت ظهوره، فيُعلمه الله تعالى بالموعد عند حلوله، عن طريق الإلهام ونحوه من أساليب العلم التي أشارت إليها تلك الروايات.
وإذا غضضنا النظر عن هذا المعنى (الإعجازي) للنَّكْت في القلب... أمكننا أن نحمله على عدَّة معاني طبيعيَّة اعتيادية نذكر منها اثنين:
المعنى الأول: معنى عاطفي، وهو الغضب لله عزَّ وجلَّ، وللعدل... عند بلوغ انحراف من المسلمين غايته، ويكون هذا الغضب هو المعنى الحادث في قلبه عليه السلام، يحمله على الخروج.
إلاَّ أنَّ هذا المعنى بمُجرَّده غير كافٍ في تبرير الظهور؛ فإنَّ غضبه لله عزَّ وجلَّ وللعدل موجود على الدوام، ما دام عصر الانحراف موجوداً، إلاَّ أنَّه يحتاج إلى العلم بانتصار حركته وثورته عند ظهوره، وهذا ما يُحرَز بالأُطروحة الأُولى والثالثة.
المعنى الثاني: معنى عقلي، وهو علم المهدي (ع) باجتماع شرائط الظهور وتكامل علاماته، وهذا المعنى راجع إلى الأُطروحة الثالثة التي سنذكرها، وإذا كان المراد من الخبر السابق على هذا المعنى، كان دليلاً على ما سنقوله في الأُطروحة الثالثة، ولا يكون دالاًّ على معنى إعجازي.
وعلى أيِّ حال، فهذا الخبر الذي دعمنا به الأُطروحة الثانية، لم تثبت وثاقة رواته، ولم نجد غيره بمضمونه؛ فلا يكون قابلاً للإثبات التاريخي، ومعه لا تتمُّ هذه الأُطروحة.
الأُطروحة الثالثة: إنَّ المهدي (ع) يُشخِّص وقت الظهور بخبرته الخاصة... بعد أن كان تلقَّى أُسسه العامة عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن نتحدَّث عن إثبات هذه الأُطروحة، ضمن عدَّة أُمور:
الأمر الأول: أن نُعدِّد بشكل موجز شرائط الظهور، وأهمّ ما يتمخض عنه التخطيط الإلهي العام السابق على الظهور من نتائج، ممَّا سبق أن عرضناه في التاريخ السابق وهذا التاريخ... ويمكن تلخيص أهمِّها فيما يلي:
الأول: وجود القيادة المُتكاملة التي تقوم بمهامِّ يوم الظهور ونشر العدل في العالم كلِّه.
الثاني: وجود القانون العادل، والأُطروحة العادلة الكاملة، التي تتكفَّل حلَّ كل

↑صفحة ٢٠٢↑

مشاكل البشرية، وتستأصل جميع مظالمها.
الثالث: وجود العدد الكافي من الأفراد لفتح العالم على أساس العدل، واستمرار حُكمه على هذا الأساس.
الرابع: بلوغ الأُمّة الإسلامية ككل، إلى درجة النُّضج الفكري والثقافي، بحيث تستطيع أن تستوعب وتتفهَّم القوانين والأساليب الحديثة التي يتَّخذها المهدي (ع) في دولة الحق والعدل
الخامس: تطرُّف انحراف المُنحرفين، إلى حدٍّ يكون على مستوى نَبْذِ الشريعة الإسلامية وعصيان واضحات أحكامها.
السادس: يأس العالم والرأي العام العالمي، ككل، من الحلول المُدَّعاة للمشاكل العالمية عن طريق الإسلام... كما سبق أن برهنَّا.
إلى غير ذلك من النتائج، وهذه أهمُّها ممَّا يمتُّ إلى محلِّ الحاجة بصِلَةٍ، وهذه الشرائط ولواحقها كلُّها تكون مُجتمعة ومُتعاصرة، نتيجة للتخطيط الإلهي العام، قُبَيل الظهور مُباشرة، ويكون الظهور كاشفاً لنا عن اجتماعها... كما تكشف بعض الحوادث السابقة عليه عن بعضها.
الأمر الثاني: أنَّ هناك أساليب عامَّة لتفسير وجود العلم لدى الإمام المعصوم (ع)، شاملة للإمام المهدي (ع)، طبقاً للفهم الإمامي الذي نتحدَّث عنه على طبقه الآن، وقد وردت أخبار المصادر الخاصة، وهي تصلح لتفسير علمه بأيٍّ من هذه الأُمور، كالإلهام، والنقر في الأسماع، وقاعدة: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك. وقاعدة: إنَّ أعمال العباد تُعرَض على الإمام كل جمعة، ويرى فيها رأيه النهائي في كل عام في ليلة القدر.
ولا نُريد الدخول الآن في إثباتات ذلك، ولعلَّ بعض ما سبق في هذا الكتاب والذي قبله ما يصلح لذلك، إلاَّ أنَّنا نريد التجاوز عن كل هذه الأساليب، طمعاً في أن يتَّخذ البحث الشكل الطبيعي المألوف، وقد لا تكون هناك مُنافيات بين الأُسلوبين الإعجازي والطبيعي، لكي يكون أحدهما نافياً للآخر.
الأمر الثالث: أنَّنا إذا تجاوزنا عن تلك الأساليب العامة، وحافظنا على الفهم الإمامي لفكرة المهدي، مع فَهْمِ الغيبة طبقاً لأُطروحة خفاء العنوان، الذي سبق أن فهمناها وبرهنَّا عليها.

↑صفحة ٢٠٣↑

إذا لاحظنا كل ذلك يُنتِجُ لدينا كون الإمام المهدي (ع) شخصاً طويل العمر، مُعاصراً لمئات الأجيال البشرية، مذخوراً لإقامة العدل الكامل في العالم كلِّه، مُتَّصلاً بالناس خلال عصر غيبته، بدون أن يعرفوه مواكباً لأخبارهم وورائهم عارفاً بآلامهم وآمالهم.
وإذا فهمنا المهدي (ع) بهذا الشكل، استطعنا أن نستوعب - بكل سهولة ووضوح - علمه بكل هذه الأمور، بشكل طبيعي لا أثر للإعجاز فيه؛ فإنَّنا لا ينبغي أن ننزل في التصوُّر عن الشخص العبقري والمُفكِّر الألمعي، فإنَّ الفرد العبقري قد يطَّلع على عدد من جوانب تلك الخصائص، وإن تعذَّرت إحاطته الكاملة بها، بطبيعة الحال... فكيف بالإمام المهدي (ع) صاحب الصفات الكبيرة والمُميِّزات الجليلة؟! وبخاصة إذا كان للإمام (ع) اهتمام خاص بتتبُّع هذه الخصائص ومواكبة وجودها التدريجي، حتى تصل إلى درجة الكمال، وهذا الاهتمام موجود بكل تأكيد؛ باعتبار حرص الإمام المهدي (ع) بمعرفة موعد ظهوره أكثر من أيِّ شخص آخر.
ليس هذا فقط، أعني أنَّ المهدي (ع) لا يكتفي فقط بمُجرَّد العلم بالحوادث والاطِّلاع على التفاصيل، بل هو مُكلَّف - في بعض الحدود التي عرفناها في التاريخ السابق(٢٨٠) - بالمشاركة بالبناء الاجتماعي الخيِّر ودفع البوائق والكوارث عن الأمَّة الإسلامية؛ ومعه فلا يكون فقط عالماً بتحقيق تلك الخصائص كفرد عبقري، بل هو مُشارك في وجودها مواكب لأخبارها مواكبةً داخليةً - لو صحَّ التعبير - وهو أفضل أشكال العلم (الطبيعي)، وأكثرها تفصيلاً ودقَّة.
وهذا هو الذي يُفسِّر لنا علمه (ع) بكل الأمور الستَّة، كما هو غير خفيٍّ على القارئ الذكيِّ... مع وجود بعض المُميِّزات في عدد من النقاط، نُشير إليها فيما يلي:
أولاً: بالنسبة إلى الأمر الأول، يُعتبر وجود القائد أمراً وجدانياً للمهدي (ع)؛ باعتباره يرى نفسه هو ذلك القائد بطبيعة الحال، ويُعرف ذلك بالضرورة.
ثانياً: بالنسبة إلى الأمر الثاني، يتمُّ تلقِّي أساس الشريعة وقواعدها العامة، بنحو الرواية عن آبائه عن النبي (ص)... وإن كان (ع) يطَّلع على عدد من التطبيقات عن طريق العلم (الطبيعي) الذي أشرنا إليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨٠) انظر ص٥٣.

↑صفحة ٢٠٤↑

ثالثاً: بالنسبة إلى الأمر الثالث، وهو وجود العدد الكافي من المؤيِّدين والأنصار، يكفي في اطِّلاعه (ع) على تكاملهم عدداً وإخلاصاً، نفس الطريق السابق، مع ملاحظة اهتمامه الدائم والدائب عن الفحص عن ذلك، ويفوق هذا الأمر الثالث غيره نقطة قوَّة مُهمَّة، هو ما أشرنا إليه في التاريخ السابق،(٢٨١) من أنَّه (ع) يجتمع بالناجحين الكاملين بالتمحيص ويُعرِّفهم على حقيقته، انطلاقاً من عدَّة أدلَّة، أهمُّها الفكرة القائلة: إنَّ المانع عن التعرُّف على الإمام إنَّما هو الذنوب وأنحاء القصور والتقصير. فإذا ارتفع كل ذلك، كان التشرُّف بخدمة الإمام ممكناً وسهلاً، إلاَّ أنَّ ذلك خاص بالمُخلصين من الدرجة الأُولى من درجات الإخلاص الأربع التي ذكرناها هناك.(٢٨٢)
ومعه؛ يكون تعرُّفه (ع) على هؤلاء المُمحَّصين وعددهم ودرجة إخلاصهم، تعرُّفاً مُباشراً، بالمشاهدة والوجدان.
نعم، قد يبقى تعرُّفه على الناجحين في التمحيص من الدرجات الأدنى من ذلك مُتوقفاً على الطريق (الطبيعي) الذي ذكرناه.
رابعاً: بالنسبة إلى الأمر الخامس، وهو تطرُّف انحراف المُنحرفين، يحتوي على شواهد كثيرة، أعلاها مُطاردة الإمام المهدي (ع) بالجيش الذي يُخسف به ومقتل النفس الزكية... وقد تكون هناك شواهد أُخرى لدى الإمام المهدي (ع) لم ترد في النقل.
هذا، وأمَّا بالنسبة إلى الأمرين الخامس والسادس، فيبدو أنَّهما يقتصران على ذلك الطريق الطبيعي، وليس فيهما مزيَّة زائدة... وهو كافٍ تماماً في تفسير كيفيَّة علم الإمام المهدي (ع) بهما.
هذا، وينبغي أن نلتفت بهذا الصدد، أنَّ للأمور الأربعة من هذه الستَّة التي أسلفناها مُستويين من الإثبات:
المستوى الأول: تشخيص ما ينبغي أن تكون عليه الأُمَّة الإسلامية من مستوى هذه الصفات، لتكون مؤهَّلة لتنفيذ اليوم الموعود.
فكم ينبغي أن يكون عدد المُخلصين ليكون كافياً لغزو العالم بالعدل...؟ وكم ينبغي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨١) تاريخ الغيبة الكبرى ص١٥٢.
(٢٨٢) المصدر ص٢٤٨.

↑صفحة ٢٠٥↑

أن يكون العمق الفكري في الأمَّة لتكون قابلة لفهم القوانين المهدوية الجديدة...؟ وكم ينبغي أن يتطرَّف انحراف المُنحرفين وكفر الكافرين...؟ وكم نسبة من البشر ينبغي أن يكون يائساً من الحلول المعروضة في عصر التمحيص والانحراف؟ كل ذلك من زاوية التشخيص النظري.
المستوى الثاني: التشخيص العملي بأنَّ هذه الأمور التي ينبغي أن تقع، والتي استهدف التخطيط العام إيجادها جميعاً... هل وجِدت ليكون الوعد ناجزاً، ولم توجَد بعد؟ وما ذكرناه من طريق تعرُّف الإمام المهدي (ع) بالنتائج كان هذا المستوى هو المنظور فيه.
وأمَّا طريقة علمه (ع) بالمستوى الأول، فمن الواضح تكفُّل الأسلوب العام الإعجازي لعلم الإمام بتغطيته بوضوح، وأمَّا لو تجاوزنا عنه، فينبغي أن يكون علمه به ناتجاً عن خُبرتين مُزدوجتين:
الخُبرة الأُولى: ما يُحصِّله (ع) من اطِّلاع على حوادث الأجيال وقوانين التاريخ، في خلال مُعاصرته الطويلة لبشرية، كما سبق أن ذكرنا في التاريخ السابق.(٢٨٣)
الخُبرة الثانية: معرفته بالمستوى المطلوب الذي سيكون عليه اليوم الموعود، وـ بتعبير آخر - ما سيُعلنه هو في دولته العالمية من مفاهيم وقوانين، وما سيقوم به من أعمال.
وهو علم مفروض الوجود عنده (ع)، ولا أقلّ من زاوية قواعده العامة وأساليبه الكلِّيَّة.
ومع اجتماع هاتين الخُبرتين، يستطيع أن يتعرَّف على المستوى الأول بكل وضوح، خُذْ مثلاً: إنَّ كل مُثقَّف إلى الدرجة الكافية، يستطيع أن يُشخِّص المستوى الذي ينبغي أن يكون عليه الفرد ثقافياً، ليفهم كتاب (روح القوانين) لمونتوسكيو، وأن ينظُم قصيدة جميلة بمُناسبة زواج ما - مثلاً - كما أنَّه يستطيع أن يُشخِّص مقدار قوَّة الإرادة والعزم الذي يكفي لارتداع الفرد عن الرشوة.
وعلى أيِّ حال، فقد صحَّت الأُطروحة الثالثة القائلة: بأنَّ في إمكان المهدي (ع) أن يطَّلع على اجتماع شرائط الظهور بنفسه، ولا حاجة له - بعد ذلك - إلى المُعجزة المُنبِّهة له إلى ذلك، كالأُسلوب الأول من الأُطروحة الثانية، بل تكون عندئذ مُخالفة لقانون المعجزات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨٣) ص٥١٢ وما بعدها.

↑صفحة ٢٠٦↑

الفصل الثاني: في تاريخ الظهور وموعده
ويمكن أن يتمَّ ذلك على عدَّة مستويات، لا بدَّ من عرضها ونقدها، واختيار الصحيح منها:
المُستوى الأول: في تعيين تاريخ الظهور بشكل تفصيلي، يذكر فيه العام والشهر واليوم، وهذا ما لا سبيل إليه، ولم يرد تحديده في أيِّ نصٍّ، وهو المستوى الذي تُكذِّبه أخبار نفي التوقيت ولَعْن الوقّاتين، التي رويناها في الباب الأول من القسم الأول من هذا التاريخ.
وقد سبق أن عرفنا أنَّ إخفاء التاريخ التفصيلي هو أحد حلقات التخطيط، التي تُتيح للمهدي (ع) وأصحابه فُرص النصر في مُهمَّتهم العالمية؛ وذلك باعتبار توفُّر عنصر المُفاجأة التي هي أهمُّ أسباب عناصر النصر.
المستوى الثاني: في تعيين موعد الظهور إجمالاً، كما لو قلنا: إنَّه يحصل متى أراد الله تعالى ونحو ذلك، وكل ذلك صادق إلاَّ أنَّه لا يُسعفنا بشيء مُهمَّاً فيما نحن بصدده.
المستوى الثالث: استنتاج التاريخ إجمالاً وتفصيلاً، من بعض كلمات النصوص القرآنية وغيرها، عن طريق قواعد (علم الحروف) المُسمَّى بالجُفر، وهو علم موجود عند بعض الفلاسفة والصوفية، يدَّعون أنَّه يُنتِج الاطِّلاع على الحقائق المجهولة؛ ومن هنا يحسُن أن نحمل عنه فكرة كافية.
وقد استعمل هذه القواعد لاستكشاف موعد ظهور المهدي (ع) جماعة من علماء المسلمين، منهم الشيخ مُحيي الدين بن عربي القائل:

إذا دار الـزمـان عــلى حـروف بـبـسـم الله فالمـهـديُّ قامـا

↑صفحة ٢٠٧↑

ويخـرج بـالحطيم عقـيـب صـوم ألا فـاقرِئه مـن عـندي السلامـا(٢٨٤)

وظاهره مُحاولة استكشاف الموعد من الحروف التي يتكوَّن منها لفظ: باسم الله
وقال الشيخ الكبير عبد الرحمان البسطامي:

ويـظهر ميم المـجد مـن آل أحمد ويـظهـر عـدل الله في الـنـاس أوَّلاً
كمـا قد روينـا عن علي الرضـا وفي كـنز علـم الحـرف أضحى مُحصَّـلاً

وقال أيضاً:

ويـخرج حرف الميـم مـن بعـد شينه بمكَّـة نحو البيـت بالنصـر قد علا
فهـذا هـو المـهدي بالحـق ظـاهـر سـيأتي مـن الرحمان للخلق مُرسلا

إلخ... الأبيات.(٢٨٥)
وستكون معرفة ذلك، بطبيعة الحال، مُتعذِّرة لغير مَن يُتقن تلك القواعد ويُجيد طريقة الاستخراج منها، ولو كانت صحيحة.
وإنَّ أوسع مُحاولة اطَّلعتُ عليها في ذلك، هو ما قام به الشيخ المجلسي في (البحار)،(٢٨٦) على أثر خبر يرويه عن أبي لبيد، عن الإمام الباقر (ع) قال:
قال أبو جعفر (ع): (يا أبا لبيد، إنَّه يملك من وُلْد العباس اثنا عشر... - إلى أن قال: - يا أبا لبيد، إنَّ في حروف القرآن المُقطَّعة لعلماً جمَّاً، إنَّ الله تعالى أنزل: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ...)، فقام محمد (ص) حتى ظهر نوره وثبتت كلمته، وولِد يوم ولِد، وقد مضى من الألف السابع(٢٨٧) مئة سنة وثلاث سنين).
ثمَّ قال: (وتبيانه في كتاب الله في الحروف المُقطَّعة، إذا عددتها من غير تَكرار، وليس من حروف مُقطَّعة حرف ينقضي إلاَّ وقيام قائم من بني هاشم عند انقضائه).
ثمّ قال: (الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون، والصاد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨٤) انظر ينابيع المودّة ص٤٩٩ ط النجف.
(٢٨٥) المصدر ص٥٥٩.
(٢٨٦) انظر ج١٣ ص١٣٢.
(٢٨٧) يعني من نزول آدم (ع) إلى الأرض.

↑صفحة ٢٠٨↑

تسعون، فذلك مئة وإحدى وستُّون، ثمَّ كان بدء خروج الحسين بن علي (ع) الم الله، فلما بلغت مدَّته قام قائم وُلد العباس عند (المص)، فقام قائمنا عند انقضائها بـ (الر) ذلك وعِه واكتمه).
وقد تكلَّم المجلسي حول هذا الخبر كلاماً طويلاً، وذكر أنَّ بعض ما أشار إليه الخبر من تحديدات، يُطابق الواقع، كبعثة النبي (ص).
ونحن ننقل منه فيما يلي ما يمتُّ إلى المهدي (ع) بصِلَةٍ:
قال المجلسي:
قوله: (... ويقوم قائمنا عند انقضائها بـ الر).
هذا يحتمل وجوهاً:
الأول: أن يكون من الأخبار المشروطة البدائية،(٢٨٨) ولم يتحقَّق لعدم تحقُّق شرطه، كما تدلًُّ عليه أخبار هذا الباب.
الثاني: أن يكون (يعني: الر) تصحيف (المر)،(٢٨٩) ويكون مبدأ التاريخ ظهور أمر النبي (ص) قريباً من البعثة كـ (ألم)، ويكون المراد بقيام القائم قيامه بالإمامة تورية.
فإنَّ إمامته كانت في سنة ستِّين ومئتين، فإذا أُضيفت إليه إحدى عشرة سنة قبل البعثة يوافق ذلك.
الثالث: أن يكون المُراد جميع أعداد كل (الر) يكون في القرآن وهي خمس مجموعها ألف ومئة وخمسة وخمسون،(٢٩٠) ويؤيِّده أنَّه (ع) عند ذكر (ألم) لتَكرُّره، ذكر ما بعده لتعيين السورة المقصودة، ويتبين أنَّ المراد واحد منها، بخلاف (الر)؛ لكون المراد جميعها، فتفطَّن.(٢٩١)
الرابع: أن يكون المراد انقضاء جميع الحروف مبتدأ بـ (الر)، بأن يكون الغرض سقوط (المص) من العدد و(الم) أيضاً، وعلى الأول يكون: ألفاً وستّمئة وستّة وتسعين.(٢٩٢) وعلى الثاني يكون ألفاً وخمسمئة وخمسة وعشرين، وعلى

حساب المغاربة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨٨) أي التي حصل فيها البداء فلن تتحقَّق.
(٢٨٩) والقيمة المُطلقة لهذه الحروف بحساب الجُمل إحدى وسبعين ومئتان، للألف واحد، وللام ثلاثون، وللميم أربعون، وللراء مئتان.
(٢٩٠) لأنَّ قيمة الواحدة منها مئتان وواحد وثلاثون، فإذا ضوعفت خمس مرَّات كان الناتج هو ذلك.
(٢٩١) هذه إشارة المجلسي على صعوبة هذه الاستفادة من الخبر.
(٢٩٢) هذا الوجه الرابع غير مفهوم المقصود بوضوح، بحيث يُنتج الأرقام التي ذكرناها، فإنَّ الكلمات المُقطَّعة في القرآن تسع وعشرون، وحروفها خمس وسبعون، ومجموع قيمتها بحساب الجُمل ثلاثة آلاف ومئة وخمس وخمسون، فإن طرحنا (على الأول) قيمة (المص) - وهي مئة وإحدى وستِّين - كان الباقي ألفين وتسعمئة وأربعاً وتسعين، وإن طرحنا على (الثاني) قيمة (ألم)، فإن أراد المجلسي واحداً منها، وقيمته واحد وسبعون، كان الباقي ثلاثة آلاف وأربعاً وثمانين، وإن أراد طرح اثنين منها - وهي السابقة على (المص) في القرآن الكريم - كان الباقي ثلاثة آلاف وثلاثة عشر، وإن أراد طرح قيمة مجموع ما ورد من هذه الكلمة في القرآن الكريم... وقد تكرّرت ستّ مرّات وقيمتها أربعمئة وستّ وعشرون، كان الباقي ألفين وسبعمئة وتسعاً وعشرين فإن طرحنا معها أيضاً قيمة (المص) المُشار إليها كان الباقي ألفين وخمسمئة وثمان وتسعين، وكل هذه النواتج أكبر من الرقم الذي ذكره المجلسي... طبقاً لحساب (أبجد) المعروف، فضلاً على حساب المغاربة.

↑صفحة ٢٠٩↑

يكون على الأول ألفين وثلاثمئة وخمسة وعشرين، وعلى الثاني ألفين ومئة وأربعة وتسعين، وهذه أنسب بتلك القاعدة الكلِّية، وهي قوله: (وليس من حرف ينقضي...)؛ إذ دولتهم (ع) آخر الدول، لكنّه بعيد لفظاً، ولا نرضى به، رزقنا الله تعجيل فرجه (ع).
وأضاف: هذا ما سمحت به قريحتي بفضل ربِّي في حَلِّ هذا الخبر المُعضَل وشرحه، فخُذْ ما أتيتك وكن من الشاكرين، وأستغفر الله من الخطأ والخطل في القول والعمل، إنَّه أرحم الراحمين.
أقول: ويُحتمل وجوهاً أُخرى عديدة، نذكر فيما يلي عدداً منها طبقاً لنفس الترقيم:
الخامس: وهو المُستظهر من الخبر حين يقول: (ويقوم قائمنا عند انقضائها) (يعني ألمص) ب: الر... يعني: حين ينقضي رقم المص نحسب حساب الر، فإذا انقضى رقمه كان موعد قيام القائم ناجزاً.
فإذا علمنا أنَّ قيمة (المص) مئة وواحد وستُّون، وقيمة مجموع ما ورد في القرآن من كلمة (الر) - وقد تكرَّرت خمس مرَّات - ألف ومئة وخمس وخمسون... كان المجموع ألفاً وثلاثمئة وستَّة عشر، وهو تاريخ هجري قد مضى قبل ثمانين عاماً، ولم يظهر المهدي (ع) فيه.
ومعه؛ لا بدَّ أن نحمل ذلك على أنَّه تاريخ لما بعد ولادته، وقد عرفنا في (تاريخ الغيبة الصغرى) أنَّه ولِد عام ٢٥٥؛ فيكون المجموع ألفاً وخمسمئة وواحداً وسبعين، أي أنَّ المهدي سوف يظهر بعد مئة وخمس وسبعين عاماً.
السادس: أن يكون المراد بـ (الر) قيمة حروفه باعتبار أسمائها، أعني: (ألف لام را) - والهمزة ساقطة عند علماء الحروف - فيكون مجموعها ثلاثمئة وثلاثة وثمانين. فإذا

↑صفحة ٢١٠↑

ضاعفنا ذلك خمس مرَّات، بعدد تكرُّر هذه الكلمة في القرآن الكريم، كان المجموع ألفاً وتسعمئة وخمسة عشر، فيكون هذا تاريخاً ميلادياً لا يظهر فيه المهدي، وأمَّا إذا كان هجريَّاً ومحسوباً من ولادته (عليه السلام)، وأضفنا إليه قيمة (المص)، كان التاريخ بعيداً نسبيَّاً.
السابع: أن يكون المراد المرتبة الثانية من أسماء حروف كلمة (الر)، فإنَّ المرتبة الأُولى منها هي أسماء حروف هذه الكلمات... وقيمة مجموعها سبعمئة وستّ وثلاثون، فإذا أضفنا إليها قيمة (المص) كان المجموع ثمانمئة وسبعاً وتسعين، وهو تاريخ هجري لا يظهر فيه المهدي (ع)، فإذا أضفنا إليه ٢٥٥ لميلاده (عليه السلام) كان الناتج ألفاً ومئة واثنتين وخمسين، وهو تاريخ لم يظهر فيه المهدي (ع) أيضاً، فإذا ضاعفنا القيمة المُشار إليها لكلمة (الر) خمس مرّات كان الناتج ثلاثة آلاف وستَّمئة وثمانين، فإذا أضفنا إليه قيمة (المص) كان المجموع ثلاثة آلاف وثمانمئة وواحداً وأربعين، وكلاهما تاريخ بعيد عن العصر الحاضر... يُحتمل فيه بدؤه من الهجرة ومن ولادته أيضاً.
فإذا التفتنا إلى جنب هذه الاحتمالات أن يكون الحساب على طريقة المغاربة، كما احتمل الشيخ المجلسي... كان الاحتمال أكثر... ويبقى موعد الظهور الحقيقي غيباً إلهيَّاً، كما أراده الله تعالى أن يكون في تخطيطه العام.
وعلى أيِّ حال، فإنَّه ممَّا يُهوِّن الخطب، أنَّ هذا الخبر لا يخلو من نقاط ضعف:
النقطة الأُولى: أنَّه مروي عن أبي لبيد المخزومي، وقد ذكره علماء (الرجال) ولم يوثِّقوه... فيكون الخبر ضعيفاً وغير صالح للإثبات التاريخي.
النقطة الثانية: إنَّ الرواة بيننا وبينه مجهولون، أعني غير مذكورين بالمرَّة، فيكون الخبر مُرسَلاً.
النقطة الثالثة: إنَّ تفسير الحروف المُقطَّعة في القرآن، على أساس كونها تتكفَّل التنبَّؤ بحوادث المُستقبل، بحساب الجُمل، هو أحد احتمالات التفسير لها، ويدلُّ عليه عدَّة أخبار منها خبر أبي لبيد هذا، إلاّ أنَّ في مقابل ذلك أخباراً أُخرى تدلُّ على تفسيرات أُخرى، لا حاجة إلى ذكرها، والمُهمُّ أنَّ تلك الأخبار تنفي مضمون هذا الخبر، وتكون معارضة له، فيسقط عن قابليَّة الإثبات بالمعارضة.
إلى بعض المُناقشات الأخرى، مُضافاً إلى المُناقشة في (علم الحروف) ككل؛ فإنَّه

↑صفحة ٢١١↑

من العلوم الخفيَّة، التي لم يثبت دليل صحَّتها، ولا بدَّ من إيكال علمها إلى أهله.
المستوى الرابع: لمعرفة موعد الظهور، هو الاعتماد على الروايات الواردة بهذا الخصوص، والتي تُعطينا إلماماً عن اليوم والشهر الذي يحصل فيه الظهور، مع إهمال رقم السنة بطبيعة الحال.
وينبغي أن يقع الكلام هنا في نواحي:
الناحية الأُولى: في التعرُّف على هذه الروايات، ومُحاولة استفادة التاريخ منها.
وهي روايات عديدة، تأخذ التاريخ من زوايا مُتعدِّدة، تذكر لكل زاوية مثالاً من الأخبار:
الزاوية الأُولى: في تعيين السنة على وجه الإجمال.
أخرج الطبرسي في الإعلام،(٢٩٣) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق (ع)، قال: (لا يخرج القائم إلاَّ في وتر من السنين، سنة إحدى، وثلاث، وخمس، وسبع، وتسع).
الزاوية الثانية: في تعيين الشهر وعدد أيّامه:
أخرج الطبرسي أيضاً،(٢٩٤) عن أبي بصير، قال:
قال أبو عبد الله (ع): (يُنادى باسم القائم في يوم ستٍّ وعشرين من شهر رمضان، ويقوم في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي قُتِل فيه الحسين بن علي (ع)...) الحديث.
وروى الشيخ في الغيبة،(٢٩٥) عن أبي بصير، قال:
قال أبو عبد الله (ع): (إنَّ القائم صلوات الله عليه، يُنادى اسمه ليلة ثلاثة وعشرين، ويقوم يوم عاشوراء، يوم قُتِل فيه الحسين بن علي (ع)).
الزاوية الثالثة: في تعيين اسم اليوم الأسبوعي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩٣) انظر إعلام الورى ص٤٣٠.
(٢٩٤) إعلام الورى ص٤٣٠.
(٢٩٥) ص٢٧٤.

↑صفحة ٢١٢↑

روى الشيخ أيضاً(٢٩٦) عن علي بن مهزيار، قال:
قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (كأنِّي بالقائم يوم عاشوراء، يوم السبت...) الحديث.
وروى الصدوق في الإكمال،(٢٩٧) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: (يخرج القائم يوم السبت يوم عاشوراء، يوم الذي قُتِل فيه الحسين (ع)).
الناحية الثانية: في مقدار صلاحيّة هذه الأخبار للإثبات:
بعد مراجعة مجموع ما ورد في المصادر من هذه الأخبار، نجد أنَّ الروايات الدالَّة على أنَّ المهدي (ع) يظهر في وتر من السنين، قليلة العدد، وكذلك الروايات الدالَّة على أنَّه يظهر يوم السبت... بخلاف ما دلَّ على أنَّه يظهر في اليوم العاشر من مُحرَّم الحرام، فإنَّ فيه روايات عديدة قابِلة للإثبات التاريخي.
وقد وجدنا أنَّ تلك الأخبار القليلة مرويَّة بأسانيد ضعيفة، وقع فيها مجاهيل وضعاف، فلا تكون قابلةً للإثبات؛ ومعه يثبت أنَّه (ع) يظهر يوم العشر من مُحرَّم الحرام فقط، وهي أكثر هذه الخصائص أهمِّيَّة وأشدُّها دخلاً في التكوين الفكري العام الذي عرفناه... كما سنسمع.
الناحية الثالثة: في مُحاولة التعرُّف على حِكمة التوقيت في اليوم العاشر من المُحرّم، بحسب فهمنا الحاضر، وطبقاً للتكوين الفكري العام الذي عرفناه، ونتحدّث عن ذلك ضمن نقطتين:
النقطة الأُولى: إنَّ المقصود الأساسي - بحسب ما نفهم - من هذا التوقيت، أمران:
الأمر الأول: كون هذا اليوم هو مقتل جدِّه الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (ع)، وهو ما نطقت به الروايات على ما سمعناه.
باعتبار أنَّ ثورة الحسين (ع) وثورة المهدي (ع) معاً مُنسجمتان في الهدف، وهو حفظ الإسلام من الاندراس والضمور، وقد كانت ثورة الحسين (ع) في حقيقتها من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩٦) نفس الصفحة.
(٢٩٧) انظر إكمال الدين (المخطوط).

↑صفحة ٢١٣↑

بعض مُقدِّمات ثورة المهدي (ع) وإنجاز يومه الموعود، بصفتها جزءاً من التخطيط الإلهي لإعداد العاطفة والإخلاص والوعي في الأمَّة، توخِّياً لإيجاد العدد الكافي لغزو العالم بالعدل، بين يدي المهدي (ع) ولو بعد حين.
كما أنَّ ثورة الإمام المهدي (ع) دفاع عن الإمام الحسين (ع) وأخذ بثأره، باعتبار كونها مُحقِّقة للهدف الأساسي المُشترك، وهو تطبيق العدل وإزالة كلِّ ظلم وكفر وانحراف، وقد وردت بهذا المعنى بعض الأخبار التي سنسمعها.
وقد كان ولا زال وسيبقى وجود الحسين (ع) وثورته في ضمير الأمَّة خاصة، والبشرية عامة حيَّاً نابضاً، على مُختلف المستويات، يُلهِم الأجيال روح الثورة والتضحية والإخلاص؛ ومن هنا كان الانطلاق من زاويته انطلاقاً من نقطة قوَّة مُتسالَم على صحَّتها ورجحانها، وإنَّ أهمَّ مُناسبة يمكن الحديث فيها عن الإمام الحسين (ع) وأهدافه، هو يوم ذكرى مقتله في العاشر من شهر مُحرَّم الحرام؛ ومن هنا كان هذا التوقيت للظهور حكيماً وصحيحاً.
الأمر الثاني: كون هذا اليوم قريباً من موعد الحج الذي هو المنطلق الأساسي لاجتماع المسلمين، والفرصة الرئيسية الوحيدة التي يُمكن وصول أنصار الإمام المهدي (ع) إليه في الموعد المُخصَّص، بالأسلوب الطبيعي غير الإعجازي، على ما سنسمع في النقطة الآتية.
النقطة الثانية: أنَّنا سمعنا في أخبار النداء وفي أخبار التوقيت الأخيرة، أنَّ النداء باسم المهدي (ع) سيكون في شهر رمضان، حيث تكون النفوس عادة أقرب إلى طاعة الله وأبعد عن معصيته، وأكثر اهتماماً بالأمور الدينية من أيِّ شيء آخر، بل لعلَّ النداء سيكون في ليلة القدر، الثالث والعشرين من رمضان... التي هي مركز الطاعة والعبادة من ذلك الشهر.
وسيكون ظهوره (ع) في اليوم العاشر من المُحرَّم، أي أنّ الفاصل بين النداء والظهور حوالي مئة وسبعة أيّام والروايات، لم تنصّ على هذا التتابع، إلاّ أنّه من غير المُحتمل أن يكون النداء في رمضان من بعض السنين، ويكون الظهور في مُحرّم بعد عدّة سنين أُخرى، ولا حتى بعد مدار سنة كاملة، أي - بالضبط - بعد عام وثلاثة أشهُر وسبعة أيام.
ولعلّ أهمَّ دليل على التتابع ونفي الانفصال، هو ما استفدناه من أخبار النداء من

↑صفحة ٢١٤↑

كون حدوث النداء إنَّما هو للتنبيه والإعلان عن حصول الظهور، وهذا إنَّما يصدق في الزمان القريب، ولعلَّه إذا وجد بعد أيَّام قليلة كان أفضل، لولا أنَّ مصلحةً كبيرةً هي التي اقتضت تأجيله إلى العاشر من مُحرّم، وهو تاريخ كبير نسبيّاً بالنسبة إلى تطبيق فكرة التنبيه والإعلان؛ ومن هنا لا يمكن الزيادة عليه إلاَّ برفع اليد عن هذه الفكرة، ولكنَّها فكرة ثابتة باعتبار دلالة الأخبار عليها، كما سبق.
إذن؛ فلابدَّ من الالتزام بقر ب الظهور إلى وقت النداء... وذلك بالشكل الذي عرفناه.
وتستطيع أن تتصوَّر معي حال الأمَّة الإسلامية خلال هذه المدّة، وما هو مقدار تأثير النداء فيها، ومدى ردِّ الفعل المُتوقَّع له، وكيف سيكون عليه موسم الحج في ذلك العام، وماذا سيكون ردُّ الفعل من قِبَل أولئك المُمحّصين المُخلصين، المُؤهّلين لغزو العالم بالعدل بين يدي القائد المهدي (ع).
إنّ كل مؤمن مُمحّص سيرى في النداء باسم المهدي (ع) الشرارة الأُولى للظهور، ولإثارة الشعور بالمسؤولية الإسلامية والوجوب الإسلامي في نفس الفرد في نصرة المهدي (ع)، والمشاركة في شرف تأسيس العدل في العالم وتوطيد الدولة العالمية الإسلامية.
وسيكون ذهاب الفرد إلى مكَّة اعتيادياً، لا يُثير شكّاً ولا يُلفت نظراً، إنَّه يذهب إلى الحج، كما يذهب أيُّ فرد في كل عام، وبذلك يتخطَّى الحدود القانونية التي وضعتها الحضارة الحديثة،(٢٩٨) وسيكون الفرد في مكّة عند ظهور المهدي (ع)، طبقاً للتخطيط الإلهي الحكيم.
وبذلك يتوافد كل أنصار المهدي (ع) من كل العالم، وقد أصبحوا بعدد كافٍ لغزو العالم بالعدل، نتيجةً للتخطيط العام... ويحجُّون مع الناس، وهم يتوقَّعون ظهوره في أيِّ لحظة... إن لم يكونوا مسبوقين بروايات التوقيت، ولكنَّ الظهور سيتأخر عن أيّام الحج... فيُسافر الحجَّاج راجعين إلى بلدانهم، وتخلو مكّة المُكرّمة منهم... إلاّ أولئك الذين ينتظرون الظهور، إنّهم سوف يضطرُّون إلى البقاء بعد الحج إلى موعد قد لا يعرفونه بالتحديد... هو موعد الظهور... بدون أن يُصرِّحوا بمقاصدهم الحقيقية لأيِّ إنسان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩٨) أود في هذا المقام أن نتذكَّر قوله تعالى: (... كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) يوسف: ١٢/٧٦.

↑صفحة ٢١٥↑

وسيُثير بقاؤهم مشكلة قانونيّة، يقع فيها الجدل بين الحاكمين هناك - على ما نقلته بعض رواياتنا - على ما سيأتي في فصل قادم، حتى إذا ما شاء الله عزّ وجلّ للمهدي (ع) أن يظهر في يوم عاشوراء، كان هؤلاء، هم البذرة الرئيسية لجيشه، أمضاهم إرادة وأعمقهم عقيدة.
وبذلك نفهم أنَّ لأصحاب الإمام المهدي (ع) الفرصة الكافية في الذهاب إلى مكَّة المُكَّرمة، بشكل طبيعي لا أثر للإعجاز فيه، ومعه فتكون الروايات الدالّة بظاهرها على أنَّ وصولهم إليه بنحو إعجازي، تكون مُخالفةً لـ (قانون المعجزات)، ومُحتاجة إلى فَهْمٍ جديد.
وسيأتي التعرُّض لذلك في فصل آتٍ من هذا القسم.
الناحية الرابعة: في إثارة بعض الاعتراضات والأسئلة على التوقيت الذي تحدَّثنا عنه، مع مُحاولة الجواب عنه، وهي عدَّة أمور:
الأمر الأول: ما هو موقف أعداء الإمام المهدي (ع) من النداء؟ فإنّ من المفهوم أنّ هذه المُدّة التي تتخلّل بين النداء والظهور كافية تماماً للاستعداد لسحق أيِّ حركة مُتوقّعة في العالم، والقضاء عليها في مهدها، وبمُجرَّد حدوثها، فكيف ينجو الإمام المهدي (ع) من ذلك؟
فإنّ الأعداء قد يسمعون النداء، وخاصة أنّه نداء رهيب واسع، يُخرِج الفتاة من خِدرها، ويوقظ النائم، ويُفزِع اليقظان، كما سمعنا من الأخبار، وإذا سمعوه توقَّعوا الظهور واستعدُّوا ضدَّه لا محالة.
ويمكن الجواب على ذلك ضمن عدّة مُستويات:
المُستوى الأول: أنَّه دليل على أنّ صوت النداء شامل للبشر أجمعين بل هو بصفته إعجازياً، سيُحدِّد - بالمعجزة - بالمقدار الذي يحتوي على المصلحة، ويكون خالياً عن المضاعفات؛ ومن هنا يمكن أن يكون النداء مُقتصراً على منطقة دون منطقة، ومجموعة من الناس دون مجموعة.
وهذا مُخالف لظاهر الأخبار التي سمعناها تقول: يُنادي مُنادٍ من السماء باسم القائم، فيسمع مَن بالمشرق ومَن بالمغرب. وتقول: فلا يبقى شيء من خلق الله فيه الروح إلاَّ سمع الصيحة.
إلاَّ أن نخصَّها بمنطقة وجماعة، باعتبار أنَّ عموم النداء وشموله لكلِّ الناس يُشكِّل خطراً على المهدي (ع) في أول ظهوره، وأمَّا ردُّ الفعل الموصوف في الأخبار للصيحة، وهي أنَّها تُوقِظ النائم، وتُفزِع اليقظان،

↑صفحة ٢١٦↑

وتُخرِج الفتاة من خِدرها... فيمكن أن نخصَّه بالسامعين، ولا يشمل غيرهم بطبيعة الحال، إلاَّ أنَّ قوله عن الصيحة: إنَّها تخضع لها أعناق أعداء الله تعالى. صريح في سماعهم لها... غير أنَّه صريح في نفس الوقت بعدم قدرتهم في وقوفهم ضدَّها.
المستوى الثاني: إنَّه لا دليل على أنَّ مضمون هذا النداء سيكون هو الدعوة إلى نصرة المهدي (ع) من أجل غزو العالم بالعدل بكل صراحة... ليُشكِّل خطراً على أعداء الله ليستعدُّوا ضدَّه، بل إنَّه ليس كذلك يقيناً، فإنَّ ما صرَّحت به الروايات هو أنَّه يُنادي باسمه واسم أبيه، ليس إلاَّ.
فنعرف من ذلك: أنَّ مضمون النداء هو - على الأغلب - إمامكم محمد بن الحسن حجَّة الله، ونحو ذلك، من دون أيِّ إشارة إلى أهدافه ولا إلى ظهوره، ولا حتى إلى كونه المهدي الموعود، وإنَّما سيعرف المؤمنون كل ذلك باعتبار مُسبقاتهم الذهنية وأدلَّتهم العقائدية... وهذا غير مُتوفِّر لدى أعداء الله بطبيعة الحال.
المستوى الثالث: إنَّ القوى العالمية المادِّية الحاكمة في الدول الكبرى وغيرها، لو فرضنا، أنَّها سمعت بالنداء ووصلها خبره، بل لو عرفت مضمونه بشكل وآخر... فسوف لن تفهمه كما ينبغي أن يفهم... وإنَّما تعتبره دعاية كاذبة، وعملاً تخريبياً صادراً من قِبَل بعض الدول والجهات، قد يكون مُذاعاً عن طريق بعض الإذاعات ومحطَّات التلفزة، وأحد الأقمار الصناعية المُخصَّصة للبثِّ الإذاعي، إذن؛ فهو - في رأيها - ليس عملاً يستحقُّ المُجابهة والتحدِّي.
المستوى الرابع: إنَّه لا دليل على بقاء الحالة العالمية ما هي عليه الآن، واستمرارها إلى وقت النداء والظهور، بل هناك ما يدلُّ على زوال الحضارات والقوى الكبرى عن المسرح العالمي قبل ذلك... وسنبحثه في فصل قادم.
ومعه؛ لن يكون للمهدي (ع) أعداء رئيسيُّون في أيِّ مكان من العالم، بحيث يُمكنهم القضاء على حركته في مهدها، حتى لو سمعوا النداء وفهموه.
المستوى الخامس: إنَّه مع التجاوز عن جميع المستويات السابقة، يصلح ما قلناه في خلال الحديث عن أخبار النداء جواباً في صددنا هذا، وهو أنَّ ظهور المهدي (ع) الذي يتأخَّر أكثر من مئة يوم، سوف لن يتعيَّن انطباقه على النداء إلاَّ بعد أن يقوى المهدي (ع) ويشتدَّ ساعده، وتكون حركته قابلة للصمود ضدَّ أيِّ اعتداء.
الأمر الثاني - من الناحية الرابعة -: إنَّه قد يخطر في الذهن أنَّ تحديد زمان

↑صفحة ٢١٧↑

الظهور بالنحو الذي سمعناه يُنافي مع الانتظار المُستمرِّ للمهدي (ع)، وأنَّه من المُتوقَّع ظهوره في أيِّ يوم، وفي أيِّ لحظة، إذ مع التحديد بيوم عاشوراء، سوف لن يكون ظهوره في سائر أيَّام السنة مُترقَّباً، كما أنَّه مع التحديد بالسنوات الوتر: إحدى وثلاث وخمس... لن يكون ترقُّب ظهوره في السنوات المزدوجة: اثنان وأربع وستّ موجوداً، وهذا بخلاف ما لو كان التحديد واقعياً غير معروف لأحد، فإنَّ توقُّع الظهور يبقى لدى الناس موجوداً، وبذلك نُحرز فوائد الانتظار التي عرفناها في التاريخ السابق.(٢٩٩)
ويمكن الجواب على ذلك ضمن عدَّة مُستويات:
المستوى الأوَّل: إنَّ كل هذه التحديدات لا تكاد تكون معروفة لدى عامة الناس... ومن هنا نجد منهم مَن يُحدِّد بتحديدات أُخرى لم نجدها في الأخبار - في حدود اطِّلاعنا - كتحديد الظهور في ليلة القدر، وتحديده بين شهري جمادى الثانية ورجب، وإذا لم يكن هذا التحديد معروفاً كان الجاهل به مُنتظراً للظهور على الدوام.
غير أنَّ هذا المستوى لا يكاد يكون تامَّاً؛ إذ بمقتضاه يكون الانتظار مُنتفياً بالنسبة إلى مَن يعلم بهذه المواعيد، ممَّن يقرأ هذا الكتاب وغيره.
المستوى الثاني: إنَّ هذه المواعيد، وإن ثبتت بأدلَّة قابلة للإثبات التاريخي، وكان بعضها كذلك... إلاَّ أنَّ الإثبات التاريخي شيء، واليقين شيء آخر، فمثلاً إنَّ قول ابن الأثير في كتابه (الكامل) كافٍ للإثبات التاريخي، ولكنَّه ليس بيقيني الصدق على أيِّ حال، ونحن لم نسمع هذه الأخبار من المعصومين (ع) أنفسهم، بل من الرواة الناقلين عنهم، فلا تعدو الرواية أن تكون ظنِّية ولكنَّها قابلة للإثبات، فإذا كانت هذه التحديدات والمواعيد ظنِّية، كان هناك احتمال آخر يُقابله.
فمثلاً: إنَّنا نظنُّ - طبقاً للأخبار - أنَّ المهدي (ع) سيظهر في يوم عاشوراء، ونحتمل احتمالاً أقلَّ بأنَّه سيظهر في يوم آخر من السنة، ومعه يكون الانتظار خلال كل أيَّام السنة ثابتاً.
المستوى الثالث: إنَّ ظهوره في أيِّ يوم آخر وأيِّ عام، إفرادياً كان رقمه أم زوجياً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩٩) ص٤٣٨ وما بعدها.

↑صفحة ٢١٨↑

وبالتالي في أيِّ لحظة مهما كانت... ليس فقط بمُجرَّد احتمال، بل هناك ما يدلُّ عليه من الأخبار، كما سمعنا في التاريخ السابق كقوله: (مَثَله مثل الساعة لا يُجلِّيها لوقتها إلاَّ الله عزَّ وجلَّ، لا تأتيكم إلاَّ بغتة).
وقول المهدي الذي سمعناه هناك، في رسالته للشيخ المفيد(٣٠٠): (فإنَّ أمرنا بغتة فجأة).
إذن؛ فهناك ما يكفي للإثبات على بعض التحديدات، كما أنَّ هناك ما يكفي لإثبات الإطلاق - لو صحَّ التعبير ـ، ولا تعارض بينهما؛ لأنَّ ظهور المهدي (ع) في بعض هذه المواعيد المُحدَّدة مصداق من ذلك الإطلاق على أيِّ حال.
نعم، تكون أدلة الإطلاق موجبة نفسياً وعقلياً للانتظار الدائم.
المستوى الرابع: أنَّنا لو فرضنا أنَّ الأخبار الدالَّة على التحديد قطعية الصدور عن المعصومين (ع)، فإنَّ مضمونها يبقى مُحتملاً غير قطعي، لاحتمال نسخه وحصول البدء فيه... بالمعنى الذي قام الدليل على إمكانه على الله عزَّ وجلَّ، وخاصة بعد أن نسمع من الأخبار ما هو محتوم، يمكن أن يقع فيه البدء بالرغم من كونه محتوماً.
فالسفياني - مثلاً - الذي ورد في عدد من الروايات أنَّه من المحتوم، وفي بعضها القَسَم على ذلك... كالذي رواه النعماني في الغيبة(٣٠١) بسنده عن عبد الملك بن أعين، قال: كنت عند أبي جعفر (ع)، فجرى ذكر القائم (ع)، فقلت له: أرجو أن يكون عاجلاً، ولا يكون سفياني.
فقال: (لا والله، إنَّه لمِنَ المحتوم الذي لا بدَّ منه).
ويُشبهه الخبر الذي يليه.
بالرغم من ذلك، فقد ورد فيه احتمال البدء، ومن ثمَّ احتمال أن لا يوجد، كالخبر الذي ورد عن داود بن القاسم الجعفري، قال: كنَّا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (ع)، فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر (ع): هل يبدو لله في المحتوم؟
قال: (نعم!).
قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم!
فقال: (إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يُخْلِف الميعاد!).(٣٠٢)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٠٠) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٧ وما بعدها.
(٣٠١) ص١٦١.
(٣٠٢) المصدر ص١٦٢. واعلم أنَّ احتمال البداء في السفياني وغيره لا يعني إسقاطه عن نظر الاعتبار والالتزام بعدمه، فإن معنى احتمال البداء هو كون السفياني - مثلاً - داخلاً في التخطيط، فمن زاوية كونه دخيلاً لا معنى لإسقاطه عن نظر الاعتبار.
أقول: وهذا التبدُّل إنَّما يحصل في بعض التطبيقات، لا في الأُسس العامة للتخطيط بطبيعة الحال.

↑صفحة ٢١٩↑

فإذا كان البدء يمكن أن يحصل في المحتوم الذي لا بدَّ منه، فكيف حال التحديدات غير المحتومة؟!
وإذا كان احتمال البدء موجوداً، لم يبقَ هناك موعد مُعيَّن معروف لدى الناس لا يقبل الخلاف والتبديل، ومعه يبقى الانتظار الدائم ساري المفعول... طبقاً لروايات (الإطلاق) التي سمعناها.
الأمر الثالث: هل تكون هذه الأخبار الدالَّة على تعيين اليوم والشهر مشمولة لأخبار نفي التوقيت ولعن الوقَّاتين، فإن كانت كذلك كانت واجبة التكذيب لا محالة.
إلاَّ أنَّ هذا الشمول غير صحيح، ولكلٍّ من شَكلي الأخبار ميدانه الخاص به، من دون أن يُكذِّب احدهما الآخر.
وأهمُّ دليل على ذلك، وجود قرائن داخلية في نفس الأخبار النافية للتوقيت، تجعلها نصَّاً في مركز التكذيب هو رقم السنة فقط، دون اسم الشهر ورقم اليوم واسمه من الأسبوع، كالخبر الذي أخرجه النعماني،(٣٠٣) عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر الباقر (ع) يقول: (يا ثابت، إنَّ الله قد وقَّت هذا الأمر في سنة السبعين، فلمَّا قُتل الحسين (ع) اشتدَّ غضب الله فأخَّره إلى أربعين ومئة، فلمَّا حدَّثناكم بذلك أذعنتم وكشفتم قناع الستر. فلم يجعل الله لهذا الأمر بعد ذلك عندنا وقتاً، (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)).
قال أبو حمزة: فحدَّثت بذلك أبا عبد الله الصادق (ع)، فقال: (قد كان ذلك).
وهناك بعض الأخبار بهذا المضمون... هي واضحة في أنَّ ما ألغاه الله تعالى وأمر بتكذيبه، إنَّما هو رقم السنة، وهو لا يشمل الخصائص الأُخرى، غير أنَّ هذه الأخبار تحتوي - من بعض الجهات الأُخرى - على بعض الاستفهامات التي لا مجال الآن إلى عرضها والجواب عليها.
ولعلَّنا نتوفَّر على ذلك في محلٍّ آخر من هذه الموسوعة.

↑صفحة ٢٢٠↑

الفصل الثالث: خُطبته الأُولى بين الركن والمقام وبيعته

وينبغي أن نتكلَّم في هذا الفصل عن عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: في الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي (ع) يظهر أول ما يظهر بين الركن والمقام، وقد وردت بذلك الأخبار من الفريقين:
أخرج أبو داود(٣٠٤) عن أُمِّ سلمة زوج النبي (ص) عن النبي (ص) قال: (يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكَّة، فيأتيه ناس من أهل مكَّة فيخرجونه وهو كاره، فيُبايعونه بين الركن والمقام، ويبعث إليه بعث من أهل الشام، فيُخسَف بهم بالبيداء بين مكَّة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق، فيُبايعونه بين الركن والمقام...) الحديث.
وأخرج السيوطي في الحاوي،(٣٠٥) عن الطبراني في الأوسط والحاكم عن أمِّ سلمة، قالت: قال رسول الله (ص): (يُبايع لرجل بين الركن والمقام عدَّة أهل بدر، فيأتيه عصائب أهل العراق وأبدال أهل الشام، فيغزوه جيش من أهل الشام، حتى إذا كانوا بالبيداء خُسِفَ بهم).
وأخرج أيضاً،(٣٠٦) عن نعيم بن حماد عن قتادة، قال رسول الله (ص): (يخرج المهدي من المدينة إلى مكَّة، فيستخرجه الناس من بينهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٠٣) انظر الغيبة الكبرى للنعماني ص١٥٧.
(٣٠٤) انظر سُنن أبي داود، ص٤٢٣ ج٢.
(٣٠٥) الحاوي ج٢ص١٢٩.
(٣٠٦) المصدر ص١٥٢.

↑صفحة ٢٢١↑

فيُبايعونه بين الركن والمقام، وهو كاره)، وكذلك الخبر الذي قبله.
وأخرج المفيد في الإرشاد،(٣٠٧) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق (ع)، في حديث يقول فيه: (لكأنِّي يوم السبت العاشر من المُحرَّم قائماً بين الركن والمقام...) الحديث.
وروى الشيخ في الغيبة،(٣٠٨) عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر الباقر (ع) قال:
قال أبو جعفر (ع): (كأنِّي بالقائم يوم عاشوراء، يوم السبت، قائماً بين الركن والمقام...) الحديث.
وأخرج النعماني في الغيبة،(٣٠٩) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع)، في حديث يقول فيه: (فإذا تحرَّك مُتحرِّك (مُتحرِّكنا) فاسعوا إليه ولو حَبواً! والله، لكأنِّي أنظر إليه بين الركن والمقام...) الحديث.
إلى أخبار أُخرى كثيرة تدلُّ على ذلك.
الجهة الثانية: في سرد الأخبار الدالَّة على خُطبته التي يُلقيها (ع) في موقفه ذاك بين الركن والمقام.
أخرج النعماني في الغيبة،(٣١٠) بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي، قال:
قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر (ع) - في حديث طويل -: (والقائم يومئذ بمكَّة، وقد أسند ظهره إلى البيت الحرام مُستجيراً، فيُنادي: يا أيها الناس، إنَّا نستنصركم الله، ومَن (فمَن) أجابنا من الناس، وإنَّا (فإنَّا) أهل بيت نبيِّكم محمد، ونحن أوْلى الناس بالله وبمحمد (ص).
فمَن حاجَّني في آدم، فأنا أوْلى الناس بآدم، ومَن حاجَّني في نوح، فأنا أوْلى الناس بنوح، ومَن حاجَّني في إبراهيم، فأنا أوْلى الناس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٠٧) ص٣٤١.
(٣٠٨) ص٢٧٤.
(٣٠٩) الحاوي ج٢ ص١٠٢.
(٣١٠) ص١٥٠.

↑صفحة ٢٢٢↑

بإبراهيم، ومَن حاجَّني في محمد، فأنا أوْلى الناس بمحمد، ومَن حاجَّني بالنبيِّين، فأنا أوْلى الناس بالنبيِّين، أليس الله يقول في مُحكم كتابه: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٣١١)، فأنا بقيَّةٌ من آدم، وذخيرةٌ من نوح، ومصطفى من إبراهيم، وصفوة من محمد صلى الله عليهم أجمعين.
ألا ومَن حاجَّني في كتاب الله، فأنا أوْلى الناس بكتاب الله، ألا ومَن حاجَّني في سنَّة رسول الله، فأنا أوْلى الناس بسنَّة رسول الله.
فأنشد الله مَن سمع كلامي اليوم لما بلغ منكم الشاهد الغائب.
وأسألكم بحقِّ الله وبحقِّ رسوله وبحقِّي؛ فإنَّ لي عليكم حقَّ القُربى من رسول الله، إلاَّ أعنتمونا ومنعتمونا ممَّن يظلمنا، فقد أُخفنا وظُلِمنا وطُرِدنا من ديارنا وأبنائنا، وبُغي علينا ودُفعنا عن حقِّنا، فافترى أهل الباطل علينا، فالله الله فينا! لا تخذلونا! وانصرونا ينصركم الله!...) الحديث.
وأخرج المجلسي في البحار،(٣١٢) بالإسناد عن الفضل بن محبوب، رفعه إلى أبي جعفر (ع) قال - في حديث -: (والقائم يومئذ بمكَّة عند الكعبة مُستجيراً، يقول: أنا وليُّ الله، أنا أوْلى بالله وبمحمد (ص)، فمَن حاجَّني في آدم فأنا أوْلى بآدم، ومَن حاجّني في نوح، فأنا أوْلى الناس بنوح، ومَن حاجّني في إبراهيم، فأنا أوْلى الناس بإبراهيم، ومَن حاجّني في النبيِّين، فأنا أوْلى الناس بالنبيِّين، إن الله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
فأنا بقيَّة آدم، وذخيرة نوح، ومصطفى إبراهيم وصفوة محمد، ألا ومَن حاجَّني بكتاب الله، فأنا أوْلى بكتاب الله، ومَن حاجَّني في سنَّة رسول الله (ص) فأنا أوْلى الناس بسنَّة رسول الله وسيرته.
وأنشد الله مَن سمع كلامي، لما يبلغ الشاهد الغائب).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١١) آل عمران ٣٤.
(٣١٢) ج١٣ص١٧٩.

↑صفحة ٢٢٣↑

وأخرج الطبرسي في أعلام الورى(٣١٣) عن المفضل بن عمر - في حديث - قال:
وسمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (إذا أذِن الله تعالى للقائم بالخروج صعد المنبر، فدعا الناس إلى الله عزَّ وجلَّ وخوَّفهم بالله، ودعاهم إلى حقِّه، على أن يسير فيهم بسيرة رسول الله (ص)، ويعمل فيهم بعمله...) الحديث.
وأخرج في البحار،(٣١٤) عن علي بن الحسين (عليهما السلام)، في حديث قال: (فيقوم هو بنفسه (يعني بعد مقتل النفس الزكية) فيقول: أيُّها الناس، أنا فلان بن فلان، أنا ابن نبي الله، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه نبي الله. فيقومون إليه ليقتلوه، فيقوم ثلثمئة ونيِّف على الثلثمئة فيمنعونه).
وأخرج أيضاً،(٣١٥) عن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر (ع): (إنَّه يأتي المسجد الحرام، فيُصلِّي فيه عند مقام إبراهيم أربع ركعات، ويُسند ظهره إلى الحجر الأسود، ثمَّ يحمد الله ويُثني عليه، ويذكر النبي (ص) ويُصلِّي عليه، ويتكلَّم بكلام لم يتكلَّم به أحد من الناس...).
الجهة الثالثة: في الالتفات إلى نقاط من الأخبار السابقة.
النقطة الأُولى: أنَّ الأخبار الدالَّة على وقوف المهدي (ع) في أول ظهوره بين الركن والمقام قابلة لإثبات التاريخي، لكثرتها وتظافرها.
وأمَّا الأخبار الدالَّة على خُطبته، فلا شكَّ أنَّها بمجموعها مُتضافرة، غير أنَّ هذا المجموع لا يُثبت أكثر من كونه (ع) يَقِفُ خطيباً في أول ظهوره، وأمَّا مضمون الخُطبة فلن نستطيع أن نتعرَّف عليه إلاَّ بعد التوثُّق من صحَّة الإسناد للأخبار الناقلة لها واحداً واحداً... وأن يوجد مضمون واحد، ممَّا يقوله (ع) في الخُطبة مُكرَّراً في عدَّة روايات، ليكون قابلاً للإثبات التاريخي.
أمَّا الخبر الأول الذي نقلناه للخُطبة عن النعماني، فهو يرويه عن أحمد بن محمد بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١٣) إعلام الورى بأعلام الهُدى ص٤٣١.
(٣١٤) ص١٨٠ ج ١٣.
(٣١٥) المصدر والصفحة.

↑صفحة ٢٢٤↑

سعيد قال: حدَّثنا محمد بن الفضل، وسعدان بن إسحاق بن سعيد، وأحمد بن الحسين بن عبد الملك، ومحمد بن أحمد بن الحسن جميعاً، عن الحسن بن محبوب، أخبرنا محمد بن يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه: قال: وحدَّثني محمد بن يحيى بن عمران، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن عيسى، قال: وحدَّثنا علي بن محمد وغيره عن سهل بن زياد جميعاً عن الحسن بن محبوب قال: حدَّثنا عبد الواحد بن عبد الله الموصلي، عن أبي أحمد بن محمد بن أبي ياسر (ناشر)، عن الحسن بن محبوب، عن عمر بن أبي مقدام، عن جابر بن يزيد الجعفي.
فأنت ترى أنَّ للشيخ النعماني ثلاثة طُرق من الرواة إلى الحسن بن محبوب:
الطريق الأول: أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدَّثنا محمد بن الفضل وسعدان بن إسحاق بن سعيد، وأحمد بن الحسين بن عبد الملك ومحمد بن أحمد بن الحسن جميعاً عن الحسن بن محبوب.
الطريق الثاني: ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه (إبراهيم بن هاشم). قال: وحدَّثني محمد بن يحيى بن عمران، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن عيسى. قال: وحدَّثنا علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد جميعاً، عن الحسن بن محبوب.
الطريق الثالث: الكليني (أو أحمد بن محمد بن سعيد)، قال: حدَّثنا عبد الواحد بن عبد الله الموصلي، عن أبي علي أحمد بن محمد بن (أبي) ياسر (ناشر) عن الحسن بن محبوب.
والحسن بن محبوب بدوره يروي عن عمر بن أبي المقدام، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن الإمام الباقر.
والطُرق الثلاثة - باعتبار تعدُّدها - للإثبات التاريخي.
وأمَّا الحسن بن محبوب، فهو من العلماء الثقات الأجلاَّء.
وأمَّا عمر بن المقدام، فقد مُدِح ولم يطعن فيه طاعن.
وأمَّا جابر بن يزيد، فهو من خاصَّة أصحاب الإمامين، الباقر والصادق (عليهما السلام)، وثَّقه بعض، ونسبه إلى التخليط عند شيخوخته بعض آخرون.
والمُلاحَظ أنَّ شيخوخته مُعاصرة للإمام الصادق (ع)، في حين أنَّ الخبر مروي عن الإمام الباقر (ع)، فيكون من رواه جابر قبل شيخوخته، ومن ثمَّ قبل أن يكون مُخلِّطاً، ومعه ففي الإمكان أن يكون قابلاً للإثبات التاريخي.

↑صفحة ٢٢٥↑

وأمَّا الخبر الثاني الذي نقلناه من أخبار الخُطبة عن البحار، فقد رواه السيد علي بن عبد الحميد، بإسناده إلى كتاب الفضل بن شاذان، عن ابن محبوب رفعه إلى أبي جعفر (ع)، فهو خبر مرفوع يعني أنَّ فيه واسطة ساقطة مجهولة كالمُرسل... فلا يكون قابلاً للإثبات التاريخي.
نعم، يتَّحدُ هذا الخبر في كثير من مضامينه مع الخبر السابق، فيكون قابلاً لإثبات من هذه الناحية... وكذلك الأخبار الأُخرى التي تنقل - في الواقع - عدداً من مضامين الخطبة، فتكون قابلة للإثبات بهذا المقدار... فلا حاجة إلى استعراض أسانيدها ورواتها.
النقطة الثانية: يقف الإمام المهدي (ع) في أول ظهوره قريباً من الكعبة المُشرّفة، مُستدبِراً لها، ومواجهاً للجماهير؛ لكي يقول فيهم كلمته الأُولى.
ويكون وقوفه بين (الركن والمقام) والركن واحد الأركان، وأركان الكعبة المُشرّفة زواياها الأربعة التي هي مُلتقى جوانبها الأربعة، وقد سُمِّي كل ركن باسم البلد الذي يتَّجه إليه عند الصلاة، فالشمالي هو الركن العراقي، والجنوبي هو الركن اليماني، والغربي هو الركن الشامي، وأما الشرقي فيُسمَّى بالركن الأسود؛ لأنَّه يحتوي على (الحجر الأسود) الذي منه مبدأ الطواف حول الكعبة.
وأمَّا المقام، فهو مقام إبراهيم الخليل (ع)، وهو أرض مُربعة صغيرة نسبياً، ذات بُنْيَة جميلة، تبعد عن الكعبة من جهة الشرق عدَّة أمتار.
وإذا قيل: (الركن). بدون وصف، فُهِمَ منه الركن الأسود بطبيعة الحال، باعتبار أهمِّيَّته؛ لاحتوائه على الحجر الأسود وابتداءِ الطواف منه، ويكون هو على يسار الواقف مُستقبلاً للكعبة ومُستدبراً مقام إبراهيم، ويكون إلى يمين الواقف الركن العراقي، وتقع باب الكعبة إلى نفس هذه الجهة الشرقية، قريباً من الركن الأسود.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إنَّ باب الكعبة يقع (بين الركن والمقام)؛ لأنَّ الركن الأسود على يمينها بحوالي نصف متر من جدار الكعبة، والمقام عن يسارها، وإن كان بعيداً عن الكعبة بعدَّة أمتار، والأرض التي أمام باب الكعبة حتى تصل إلى مقام إبراهيم واقعة (بين الركن والمقام) بطبيعة الحال.
ومن هنا؛ يكون وقوف الإمام المهدي (ع) بين الركن والمقام مُستدبراً الكعبة... يعني مُستدبراً الجدار الذي فيه باب الكعبة، جاعلاً الحجر الأسود عن يمينه، ومقام إبراهيم عن يساره، ومواجهاً للجماهير ليقول كلمته الأُولى.

↑صفحة ٢٢٦↑

وقد سمعنا في بعض الروايات: أنَّه يُسنِد ظهره إلى البيت الحرام، يعني الكعبة المُشرَّفة، وأنَّه يُسند ظهره إلى الحجر الأسود.
فإذا فهمنا ذلك مع الحفاظ على كون وقوفه (بين الركن والمقام)، فيكون من اللازم أن نتصوَّره مُستدبراً جدار الكعبة الذي بين الباب والركن الأسود، وهي مسافة نصف متر وتزيد قليلاً، فيصدق أنَّه واقف بين الركن والمقام، كما يصدق أنَّه مُسنِد ظهره إلى الكعبة، وإلى الحجر الأسود أيضاً؛ لأنَّ الحجر سيكون قريباً جدَّاً منه عن يمينه إلى جهة ظهره.
النقطة الثالثة: في ارتباط خُطبة المهدي (ع) بالتخطيط العام، وتعبيرها عن نتائجه.
إنَّ هذه الخُطبة المباركة بصفتها واقعة في آخر التخطيط العام السابق على الظهور، ومُعبِّرة عن نتائجه، ومن هنا كانت لوحة كاملة عمَّا ينبغي أن يُعلَن ساعتئذٍ من نتائج ذلك التخطيط، ويظهر من عدَّة زوايا.
الزاوية الأُولى: ما عرفناه من التخطيط، من أنَّ (اليوم الموعود) إنَّما هو نتيجة لجهود البشرية منذ أول وجودها إلى زمن وجوده، وإنَّ خطَّ الأنبياء والأولياء، والصالحين والشهداء، والمُصلِحين، إنَّما هو واقع في طريقه والتمهيد إليه بشكل قريب وبعيد... وسيأتي في الكتاب الآتي من الموسوعة ما يزيد ذلك برهاناً.
وإذا كان الأمر كذلك، وكان المهدي (ع) هو قائد اليوم الموعود ومؤسِّس العدل الكامل في العالم، إذن؛ فمن حقِّه أن يقول: (... فأنا بقية آدم، وخيرة نوح، ومصطفى إبراهيم، وصفوة محمد).
الزاوية الثانية: ما عرفناه في التخطيط من تركيزه بشكل خاص على تربية الجانب القيادي في شخصية القائد المذخور للثورة العالمية، وقد برهنَّا على ذلك بكل تفصيل في الكتاب السابق،(٣١٦) وها قد أنتج هذا التخطيط نتيجته، وها هو القائد الكامل يواجه الناس ليبدأ بمُمارسة قيادته التي ذُخِر من أجلها.
فمن المنطقي، وهو خير البشر في زمانه، بل خير البشر بعد صدر الإسلام إلى عصر ظهوره، من المنطقي أن يكون أوْلى من جميع الناس، بالأنبياء والمُرسلين، بما فيهم نبي الإسلام (ص)، فهو أقرب إليهم علماً وعملاً وعدلاً من أيِّ إنسان آخر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١٦) انظر ص(٤٩٧) وما بعدها إلى عدّة صفحات.

↑صفحة ٢٢٧↑

ومن هنا نسمعه قول: (فمَن حاجّني في آدم، فأنا أوْلى الناس بآدم، ومَن حاجَّني بنوح، فأنا أوْلى الناس بنوح، ومَن حاجَّني في إبراهيم، فأنا أولى الناس بإبراهيم، ومَن حاجَّني في محمد، فأنا أوْلى الناس بمحمد، ومَن حاجَّني في النبيِّين فأنا أوْلى الناس بالنبيِّين).
الزاوية الثالثة: ما عرفناه في التخطيط العام، من إنتاج التمحيص الساري المفعول خلاله، لانحراف وضلال الأعمِّ الأغلب من الناس، وبذلك تمتلئ الأرض جوراً وظلماً.
كما ورد في الخبر التواتر عن النبي (ص)، ويكون تطرُّف المُتطرِّفين منهم شديداً، كما يكون تطرُّف المؤمنين إلى جانب الإيمان شديداً، وسمعنا في التاريخ السابق(٣١٧) ما تفعله الأكثرية المُنحرفة بالأقلِّية المؤمنة من مظالم وشرور.
النقطة الرابعة: تحتوي الخُطبة المباركة أيضاً، بعض النقاط من تخطيطات المُستقبل، الذي تندرج خصائصه في التخطيط العام لما بعد الظهور.
ويُمكن الالتفات إلى ذلك ضمن عدَّة زوايا أيضاً:
الزاوية الأُولى: وجوب طاعة المهدي (ع) وبذل النصر له، من أجل تطبيق العدل الكامل في العالم كلِّه، حيث نسمع المهدي (ع) يقول: (فالله الله فينا! لا تخذلونا! وانصرونا ينصركم الله).
وسيكون أول المُبادرين إلى تطبيق هذا الأمر، أولئك الصفوة المُخلصين المُمحَّصين، ذوو العدد الكافي لغزو العالم بالعدل، وسيأتي تفصيل ذلك غير بعيد.
الزاوية الثانية: إنَّ المهدي يَعِدُ الناس في خُطبته بتطبيق الأُطروحة العادلة الكاملة في دولته العالمية، (أن يسير فيهم بسيرة رسول الله (ص) ويعمل فيهم بعلمه)، كما سمعنا من إحدى الروايات، وكما سبق أن برهنَّا على ذلك في فصل سابق.
ونعني بسيرة رسول الله (ص): القواعد والمفاهيم العامة التي كان ينطلق منها النبي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١٧) انظر مثلاً ص٢٦٦ وما بعدها أيضاً.

↑صفحة ٢٢٨↑

(ص) إلى أعماله، لا السيرة بكل خصائصها وتفاصيلها بطبيعة الحال؛ لوضوح اختلاف المصالح الزمنية بين العصرين بكثير... بل سيأتي في بعض الروايات وجود بعض الاختلاف في تطبيقات الإمام المهدي (ع) عن تطبيقات رسول الله (ص)، فالمهدي (ع) يُدرِك الهارب، ويُجهِز على الجريح ويقتل المُنحرف، وإن كان مسلماً، وإن كان على نفس مذهبه الإسلامي، ويقضي بعلمه ولا بالبيِّنة - كما في بعض الأخبار - وكل ذلك ممَّا لم يعمله رسول الله (ص)، وهذه الأمور ونحوها لو ثبتت تُعتبر تخصيصاً واستثناءً من المفهوم الذي بيَّنته الخُطبة... وهو أن يسير بسيرة النبي (ص) على تفاصيلها.
الزاوية الثالثة: تكفُّله (ع) بتطبيق وتفسير كتاب الله وسنَّة رسول الله (ص)... من حيث إنَّه أوْلى الناس بهما وأشدُّهم اطِّلاعاً على تفاصيلهما وقدرةً على فَهْم مغازيهما ومراميهما.
النقطة الخامسة: دلَّت رواية ممَّا سبق أنَّ المهدي (ع) يصعد المنبر ويخطب، فإن كان المراد منبراً يوضع له وقتيَّاً في المكان المُشار إليه سابقاً، فهو إن كان المراد به المنبر المبني فعلاً في المسجد الحرام، فهو أبعد عن الكعبة المُشرّفة من مقام إبراهيم، ومن ثَمَّ لا يصدق عليه أنَّه وقوف بين الركن والمقام.
ومعه؛ تكون هذه الروايات معارضة للروايات الدالَّة على وقوفه بين الركن والمقام.
ومعه؛ تكون هذه الروايات مُقدَّمة على تلك الرواية، فيُنتج الالتزام بأنَّه (ع) لا يصعد المنبر الموجود حالياً، بل يقف بين الركن والمقام، ولو فوق منبر آخر.
النقطة السادسة: دلَّت رواية ممَّا سبق أنَّ المهدي (ع) يبدأ كلامه بتقديم نفسه إلى الناس، بذكر اسمه الحقيقي واسم أبيه، بينما سكتت الروايات الأُخرى عن ذلك، بحيث يبدو أنَّه يُهمِل ذلك تماماً.
وفي كلٍّ من هذين الموقفين نقطة قوَّة ونقطة ضعف مُحتمَلة.
فإنَّه (ع) إن أهمل ذكر اسمه للناس - كما عليه أكثر الروايات - كانت هناك نقطة قوَّة ونقطة ضعف:
نقطة القوَّة: إنَّ فيه حماية من أعدائه في وقت حاجته إلى الحماية في أول حركته، فإنَّ الأعداء إن فهموا أنَّه المهدي الموعود، فإنَّهم سوف يقضون على حركته بأسرع وقت، بخلاف ما لو لم يظهر للعالم بصفته المهدي الموعود.
نقطة الضعف: إنَّ الناس سوف لن يفهموا أنَّه هو المهدي بالمرَّة، ومن ثَمَّ سوف لن

↑صفحة ٢٢٩↑

ينصره المؤمنون، ولن يسمع لكلامه الناس.
فلو انطلقنا من (أُطروحة خفاء العيون) التي عرفناها، كان معنى إخفاء اسمه أنَّه لا زال في غيبته، وأنَّه يُخاطب الناس بـ (شخصيَّته الثانوية) لا بشخصيَّته الحقيقية، فإنَّها هي الشخصية الوحيدة التي يعرفها الناس منه، وهذا لا معنى له بالنسبة إلى المهدي (ع) منذ ذلك الحين.
وأمَّا إذا اختار (ع) أن يذكر اسمه للناس، فهذا الموقف يحتوي - في النظر - على نقطة قوَّة ونقطة ضعف مُقابلتين لذينك النقطتين.
نقطة القوَّة: أنَّه (ع) حين يكشف شخصَّيته الحقيقية للناس، يرفع بذلك غيبته التي آن له رفعها وحُرِّم عليه استمرارها، ويُصرِّح بانتساب الخُطبة وطلب النُّصرة إليه بتلك الصفة.
نقطة الضعف: أنَّ كشفه لحقيقته سوف يؤلِّب عليه الأعداء، في وقت هو شديد الحاجة فيه إلى الحماية والمنعة.
ويمكن أن نفهم من هذه الروايات (أُطروحة) نحصل بها على كلتا نقطتي القوَّة، وندفع بها كلتا نقطتي الضعف، وهي أنَّه يذكر اسمه الحقيقي واسم أبيه، من دون الإلماع إلى أنَّه المهدي الموعود.
فإنَّه بذلك يرفع غيبته ويكشف شخصيَّته الحقيقية، ويُصرِّح بانتساب الخُطبة وطلب النُّصرة إليه بتلك الصفة، وبذلك يُحرز نقطة القوَّة الأخيرة، وفي نفس الوقت يُحرز حمايته من الأعداء المُتربِّصين له بصفته مهدياً، يملاً الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
فيُحرز نقطة القوَّة الأُولى ويدفع نقطة الضعف الثانية.
وأمَّا نقطة القوَّة الأُولى: فلن تحصل بصراحة وشمول، وإنَّما تحصل بالمقدار الذي ينبغي لها أن تحصل، إنَّ المؤمنين المُمحَّصين الذين يُمثِّلون العدد الكافي لغزو العالم، وكذلك مَن كان في الدرجة الثانية من الإخلاص من الدرجات الأربعة التي عرفناها في التاريخ السابق،(٣١٨) كلهم سيعرفون أنَّ هذا الشخص هو المهدي الموعود، ومن ثَمَّ سيؤيِّدونه تأييداً كاملاً.
وأمَّا الناس الآخرون، من أعداء مُتربِّصين، وأشخاص مُحايدين من مسلمين وغيرهم، وحتى عدد كبير ممَّن على المذهب الإسلامي الذي يتبنَّاه المهدي (ع)، فسوف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١٨) انظر ص٢٤٨ وما بعدها.

↑صفحة ٢٣٠↑

لن يعرفوا هذه الحقيقة الكبرى، إلاَّ في الحدود التي تقتضيها المصلحة، ويُخطِّط لها المهدي (ع) نفسه.
والروايات لم تدلَّ على أكثر من ذلك، وإنَّ المهدي يُسمِّي نفسه وأباه، تماماً كما فعل (النداء) من قبل، وليس في أيٍّ منهما تصريح بأنَّه المهدي الموعود.
النقطة السابعة: في مدى ارتباط الخُطبة بالتصوُّر الإمامي للمهدي.
من الواضح أنَّ الوقوف بين الركن والمقام، وإلقاء الخُطبة على الجماهير غير خاص بالمهدي (ع) بالتصوُّر الإمامي، بل يشمل المهدي بالتصوُّر الآخر، بل يشمل أيَّ إنسان ذو قدرة وجدارة، وإنَّما المُهمُّ من ذلك مضمون الخُطبة أولاً، ونتائجها ثانياً.
أمَّا النتائج، وأهمُّها السيطرة على العالم كله بالعدل، وتأسيس الدولة العالمية العادلة... فهذا ما سيكون صفة للمهدي الواقعي في التخطيط الإلهي العام أيَّاً كان.
ويُهمُّنا الآن تطبيق مضامين الخُطبة على التصوُّر الآخر للمهدي، بعد العلم على أنَّها منطبقة مع التصوُّر الإمامي تماماً.
إنَّ المهدي - بهذا التصوُّر - يستطيع أن يُصرِّح بعدَّة أمور من الخُطبة:
١ - أن يدعو الناس إلى الله ويُخوِّفهم به.
٢ - أن يُقسِم عليهم بحقِّ القُربى من رسول الله (ص)... فإنَّه على أيِّ حال من وُلْد فاطمة، ومن أولاد الحسين (ع).
٣ - أن يُشير إلى الظلم والمُطاردة والتنكيل الذي وقع على المؤمنين المُخلصين خلال عصر التمحيص والامتحان السابق على الظهور.
٤ - أن يطلب من الناس نُصرته وتأييده، توخِّياً لنُصرة الحقِّ، باعتباره المُمثِّل الرئيسي له.
٥ - أن يعدهم أنَّه إذا تمَّ له الاستيلاء على منطقة وأكثر واستتبَّت له الأمور، أن يُطبِّق القانون الإسلامي العادل المُتمثِّل بكتاب الله الكريم، وسنَّة رسوله العظيم.
ولكن سوف لن يكون المراد من كتاب الله وسنَّة رسوله، إلاَّ المستوى الذي وصل إليه الفكر الإسلامي إلى ذلك الحين، نتيجةً للتخطيط السابق، ولن يستطيع هذا المهدي أن يسير خطوات مُهمَّة في تربية هذا الفكر، وإعطاء الفَهم المُتكامل للكتاب والسنَّة.

↑صفحة ٢٣١↑

إنَّ المهدي - طبقاً لهذا التصوُّر - لن يكون - كما قلنا في التاريخ السابق(٣١٩) - أكثر من فرد اعتيادي، له في الإخلاص والعلم أقصى ما اقتضاه التخطيط السابق، وله من القابليَّات النفسية ما يتوقَّع بها لنفسه أن يقوم بالتطبيق الإسلامي، ومثل هذا الشخص لا يُمكنه بأيِّ حال أن يقوم بعبادة الدولة العالمية، كما سبق أن برهنَّا.
كما لا يستطيع أن يُقدِّم للكتاب والسنَّة فَهْمَاً أعمق من المستوى الذي وصل إليه الفكر الإسلامي في عصره، ولن يقدِّم لهما الفهم الذي له أهليَّة مُمارسة الحُكم العادل الكامل في العالم كلِّه.
ومن هنا؛ يتعذَّر عليه أن يقول عدَّة مضامين واردة في الخُطبة وضرورية الثبوت للمهدي الموعود، ليكون هو القائد العالمي المنشود فهو:
١ - لن يستطيع أن يدَّعي أنَّه أوْلى بكتاب الله وسنَّة رسوله من أيِّ شخص آخر... حتى من قادة الفكر الإسلامي الذين تقدَّموا به وأوصلوه إلى المستوى المُعاصر له.
وإنَّما يدَّعي ذلك، مَن له الفهم الكامل لهذين المصدرين الإسلاميين المُقدَّسين بالرواية عن النبي (ص) وقادة الإسلام الأوائل، بالشكل الذي يكفل سعادة البشرية العاجلة وتربيتها العُلْيَا في الآجل.
وباختصار: أن يتقدَّم بالفكر الإسلامي بخطوات جبَّارة لا تُقاس بأيِّ مُفكِّر آخر، سنُشير إلى ما يُقدِّمه المهدي (ع) في هذا المجال.
٢ - وهو ليس بقيَّةً من آدم، وذخيرة من نوح، ومصطفى إبراهيم، وصفوة من محمد صلى الله عليهم أجمعين.
وكونه من المُخلصين الكاملين لا يُبرِّر هذه النسبة، إلاَّ كما يُبرِّرها في أيِّ شخص آخر مُتَّصف بهذا المقدار من الإخلاص والإيمان... وهم يومئذ عدد غير قليل... كما عرفنا في نتائج التخطيط.
٣ - وهو ليس أوْلى الناس بالنبيِّين... فإنَّ مَن يكون كذلك إنَّما هو القائد المذخور الذي يُكلِّل جهود كل الأنبياء بالنجاح في تطبيق العدل الكامل في العالم... وأمَّا الذي يتصدَّى لذلك من دون أن يُحرز نجاح حركته، ولا تكون له قابلية القيادة العالمية، كما قلنا في التاريخ السابق،(٣٢٠) فلن يُمكن أن يكون مُتَّصفاً بالأولوية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١٩) انظر ص٢٤٨وما بعدها.
(٣٢٠) انظر ص٥٠١ وما بعدها.

↑صفحة ٢٣٢↑

٤ - ومن هنا نعرف أنَّه لن يتكلَّم بكلام لم يتكلَّم به أحد من الناس (فإنَّ مَن يكون من حقِّه ذلك، بحيث يكون كل ما يقوله صادقاً عليه كل الصدق ومُنطبقاً تمام الانطباق، هو ذلك الشخص المؤهَّل للقيادة العالمية، والوارث لخطِّ الأنبياء، والذي هو أوْلى بهم وبكتاب الله وسنَّة رسوله، من أيِّ شخص آخر، إنَّ هذا هو الذي يتكلَّم الكلام الجديد ويُعطي المفاهيم بالأُسلوب التربوي الجديد العادل، الذي لم يكن يخطر قبل الظهور على بالٍ... دون أيِّ شخص آخر.
... هذا آخر ما نودُّ التعرُّض إليه من خصائص الخُطبة المباركة... موكلين الخصائص الأُخرى إلى فطنة القارئ.
الجهة الرابعة - من هذا الفصل -: إنَّ مُقتضى التسلسل المنطقي للدعوة الإلهية، التي يُمثِّل المهدي (ع) حلقة من أكبر حلقاتها، هو أن يُقيم المعجزة في أول ظهوره؛ إثباتاً لصدق مُدَّعاه: بأنَّه المهدي الموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً. ولا أقلَّ أمام المؤمنين المُخلصين ممَّن سيُصبحون خاصَّته؛ لوضوح أنَّه لولا ذلك لأمكن لأيِّ شخص جريء أن يقِفَ في المسجد الحرام بين الركن والمقام ويُلقي مثل هذا الخطاب، وخاصة بعد أن يقرأ الخُطبة في مصادرها، فكيف يمكن أن نُصدِّق من شخص أنَّه هو المهدي لمُجرَّد أن يقِفَ هذا الموقف.
تماماً، كما هو الحال في النبوَّة، فإنَّه لا يمكن تصديق أيِّ شخص مُدَّعٍ للنبوَّة، ما لم تقترن دعواه بدليل يوجب القطع بكونه نبيَّاً مُرسَلاً؛ ومن هنا أقام نبي الإسلام (ص) معجزات كدلائل على صدقه، تقطع حجَّة المُنكرين، كان أهمُّها القرآن الكريم نفسه.
وقد أسلفنا في التاريخ السابق أنَّ المهدي (ع) عند مُقابلاته مع الناس خلال غيبته، كان يُقيم الدلالة على حقيقته، وهي دلالة تحتوي دائماً على عنصر إعجازي، وإلاَّ لاستحال التعرُّف على حقيقته، وتصديقه في دعواه إذا قال لنا: إنَّه هو المهدي (ع).
وقد سبق أن عرفنا في التاريخ المُشار إليه(٣٢١) وغيره من بحوثنا، أنَّ المعجزة لا توجد عشوائياً، وإنَّما لها قانونها العام، وهو أنَّه تقع في طريق إقامة الحجَّة (إذا كانت مُنتفية) وإتمامها (إذا كانت ناقصة)، ومن الواضح جدَّاً، أنَّ إقامة المهدي (ع) للمعجزة بعد ظهوره يكون في طريق إثبات الحجَّة على صدقه، توصُّلاً إلى تطبيق العدل الإلهي الكامل على وجه الأرض، وهو الهدف الإلهي المُهمُّ الذي عاشت البشرية التخطيط له

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٢١) ص٣٢.

↑صفحة ٢٣٣↑

وباتجاهه، منذ ولادتها إلى ذلك الحين؛ لوضوح أنَّه ما لم تثبت شخصيته الحقيقية لا يستطيع هو أن يحصل على المؤيِّدين والمؤمنين، ومن ثَمَّ لا يستطيع القيام بهذا التطبيق والوصول إلى ذلك الهدف.
إذن؛ فقد يستنتج من هذه المُقدَّمات لزوم أن يُقيم المهدي (ع) معجزة واضحة منذ موقفه الأول، ليُثبت حقيقته بكلِّ صراحة ووضوح تجاه العالم، مع العلم أنَّنا لا نجد في الروايات الناقلة لهذا الموقف أيَّ إشارة إلى كونه مُقيماً للمعجزة في ذلك الحين.
ويمكن الجواب على ذلك من عدَّة وجوه:
الوجه الأول: إنَّ الإمام المهدي ليس بحاجة في موقفه هذا إلى إقامة المعجزة على الإطلاق.
ذلك؛ لوجود الإرهاصات الكافية لظهوره في زمن قريب، وهي قائمة على إعجاز عظيم، وأوضحها معجزتا الكسوف والخسوف في غير أوانهما... والخسف بالجيش الذي يُحاول قتله... والنداء باسمه صراحة في إسماع الخلق؛ فيكون القطع بصدق مَن اجتمعت فيه هذه الخصائص ضرورياً لازماً.
وأمَّا احتمال: أنّ شخصاً مُحتالاً يستغلُّ الموقف، بعد حدوث الخسف وقتل النفس الزكية بالمضمون السابق للخطبة، فهو في غاية البُعد... ولو حدَّثته نفسه بذلك فإنَّه يُقتل لا محالة في موقفه ذاك، ويُلقى عليه القبض ويفشل مُخطَّطه ألبتَّة... ولن يستطيع الحصول على العدد الكافي لغزو العالم بالعدل، ولا بعض منه.
إذن؛ فكلُّ مَن يحصل له ذلك، هو المهدي الحقيقي بكل تأكيد.
الوجه الثاني: هناك في العالم - طبقاً للتصوُّر الإمامي لفكرة المهدي (ع) - عدد غير قليل من الناس يعرف المهدي بشخصه، ولا يحتاج إلى إقامة المُعجزة للتعرُّف عليه؛ لأنَّه رآه خلال غيبته مرَّة وعدَّة مرَّات، وهم كل الأفراد المُخلصين من الدرجة الأُولى، وبعض الأفراد المُخلصين من الدرجة الثانية، من الدرجات التي أشرنا إليها سابقاً.
وقد كان هؤلاء هم وسائطه إلى الناس - بشكل وآخر - خلال غيبته، وسيكونون لنا بأنفسهم رادةَ الحق والعدل، واللسان الناطق، والسيف الضارب بين يدي قائدهم المهدي (ع).
فمن الممكن - بغضِّ النظر عن أيِّ شيء آخر - أن يكون هؤلاء هم الشاهد الصادق في تعريف قائدهم إلى الناس، ريثما يثبت من مجموع أعماله وأقواله صدقه وعظمة

↑صفحة ٢٣٤↑

أهدافه، ومعه لا حاجة إلى إقامة المعجزة.
الوجه الثالث: إنَّ المهدي (ع) ليس بحاجة إلى المعجزة، بل يستطيع أن يعتمد على المستوى الفكري والعقائدي والمفاهيمي الذي يُعلنه لإثبات صدقه وعظمة أهدافه.
فإنَّ المعجزة مطلوبة لأجل إقناع الفكر البشري غير المُعقَّد، وهذا ما سيحصل بشكل عميق وأكيد عند إعلان المستوى الفكري الجديد... فيكون الاتجاه نحو المعجزة أمراً مُستأنفاً.
ويمكن تقسيم المستوى الفكري الذي يُقيمه الإمام المهدي في أول ظهوره إلى مُستويين:
المستوى الأول: ما يقوله (ع) في خطبته ممَّا، وردنا وسمعناه، وممَّا لم يردنا ولم نسمعه، فإنَّه لا دليل على اقتصاره (ع) في حديثه على هذا المقدار، بل لعلَّه يذكر أموراً أُخرى لم يكن المستوى الفكري السابق في عصر صدور النصوص مُناسباً للتصريح بها في الأخبار طبقاً لقانون: (كلِّم الناس على قدر عقولهم).
ولعمري، أنَّ في هذا المضمون الذي سمعناه ما يكفي لإقامة الحجَّة، لولا احتمال أن يكون منقولاً عن المصادر المُتوفِّرة.
المستوى الثاني: استعداده (ع) للجواب على أيِّ سؤال مهما كان صعباً، فيما إذا عرفت أنَّ السائل موضوعي الفكرة مُطالباً للحق... وأنَّه إنَّما يسأله لأجل التأكُّد من صدقه، طبقاً للشكِّ (الديكارتي) الذي لا يستقيم بدونه أيُّ برهان.
وقد وردت حول ذلك رواية: هي ما أخرجه ثقة الإسلام الكليني،(٣٢٢) بسنده عن مفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (لصاحب هذا الأمر غيبتان: إحداهما يرجع منه إلى أهله، والأُخرى يُقال: هلك في أيِّ واد سَلَكَ؟).
قلت: فكيف نصنع(٣٢٣) إذا كان كذلك؟
قال: (إذا ادَّعاها مُدَّعٍ فاسألوه عن أشياء يُجيب فيها مثله).
وهذا الأمر أوضح من أن يُستند فيه إلى رواية؛ لأنَّه هو المفهوم من الاتجاه العام للإمام المهدي (ع)، بل من كل مَن يدَّعي منزلة عالية في القيادة، وفي العلم، وفي التقوى، وفي جميعها... فإنَّه يمكن للفرد أن يختار السؤال الذي يعتقد بأنَّ الجواب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٢٢) انظر الكافي (الأصول) نسخة مخطوطة (باب في الغيبة).
(٣٢٣) في المصدر المخطوط: بضنع وهو تحريف.

↑صفحة ٢٣٥↑

الصحيح يدلُّ على صدق المُجيب وجدارته على مستوى مُدَّعاه، فإن جاء الجواب صحيحاً لم يكن للسائل أن يشكَّ من جديد، إلاَّ إذا كان مُعقَّداً غير طبيعي التفكير.
فليفكِّر القارئ في السؤال الذي يرغب بتوجيهه إلى المهدي (ع) عند ظهوره.
فهذين المُستويين الفكريين، يمكن له (ع) الانطلاق منهما لإثبات صدقه في أول ظهوره.
وأمَّا بعد ذلك، فستكون المستويات والحقول الفكرية الجديدة أكثر من أن تُعَدَّ، وأوضح من أن تُذكَر.
الوجه الرابع: أنَّنا لو غضضنا النظر عن كل ما سبق، وفرضنا حاجة المهدي (ع) إلى إقامة المعجزة بعد ظهوره مباشرة لإثبات صدقه وحقيقته، وهو - لا محالة - قادر على ذلك؛ طبقاً لكلا التصوُّرين الإمامي والآخر عن المهدي (ع)، وستقع المعجزة - لو قام بها - مُطابقة لقانون المعجزات، أنَّها واقعة في طريق إقامة الحق والعدل والهدى، وهي الطريق المُنحصر إليه - بعد غضِّ النظر عن الوجوه السابقة -... لأنَّها الطريق الوحيد لمعرفته، ولا يمكن إقامة الحق والهُدى بدون معرفته، وكلَّما انحصرت إقامة الحق على المعجزة أوجدها الله تعالى في البشرية - طبقاً لقانون المعجزات - لا يُفرِّق في ذلك بين نبيٍّ ووليٍّ.
فإذا تمَّ ذلك، كان لنا أن نقول: إنَّنا لا نستطيع أن نقطع بعدم إقامة المهدي (ع) للمعجزة... فإذا اقتضتها القواعد العامة في الإسلام كان ذلك إثباتاً كافياً لها، وعدم النقل لا يدلُّ على عدم الوجود، ويمكن أن يكون عدم النقل مُستنداً إلى السبب الآتي، وهو أنَّنا نستطيع أن نُقسِّم المعجزة - في حدود ما نحتاجه الآن - إلى خاصة وعامة: والعامة منها إلى معجزة (كلاسيكية) وتقليدية، ومعجزة (علمية)!.. وما يمكن نقله إلينا قسم واحد فقط - كما سنوضح - في حين أنَّ المهدي (ع) قد يقتصر على القسمين الآخرين، فيكون ورود نقله في الأخبار مُتعذِّراً.
ونقصد بالمعجزات الخاصة ما يقع بين إمام وشخص واحد، وجماعة محدودة من خوارق... كما لو أخبر الإمام شخصاً بما في ذهنه وأجابه قبل سؤاله، وعبَّر عن أيِّ شيء لا يمكن بحسب القوانين المعروفة للكون أن يكون عالماً به، كما يعلم به الفرد المواجه للإمام وجداناً.
ونقصد بالمعجزات العامة، تلك الخوارق التي تكون مُعلنة أمام الناس، وهي تختلف عن المعجزات الخاصة بأمر رئيسي:
وهو أنَّ المعجزات العامة لا بدَّ أن تكون

↑صفحة ٢٣٦↑

واضحة الإعجاز أمام الناس، ومُقنعة للذهن البشري الاعتيادي بحسب المستوى العام للجيل المُعاصر للمعجزة، وأمَّا المعجزة الخاصة، فحسبها أن تكون مُناسبة لمستوى الفرد المواجه للإمام ومُقنعة له، وقد لا تكون مُقنعة للآخرين، ولا يعرف الغير أنَّها معجزة على الإطلاق.
ويمكن تقسيم المعجزة العامة إلى قسمين:
القسم الأول: ما سمَّيناه بالمعجزات الكلاسيكية، وهي التي تقوم على تغيير خارق واضح وسريع في نظام الكون، بحيث يراه ويفهمه عامة الناس.
وهذا القسم هو الذي يغلب على معاجز الأنبياء السابقين، ومن هنا سمَّيناه بـ (الكلاسيكي)، والغرض منه إعطاء أكبر مقدار من الزخم العاطفي والعقلي في مجتمع لم يكن يفهم التعمُّق والتحليل، كانقلاب العصا ثعباناً، وانفلاق البحر، وإحياء الموتى، وانقسام القمر إلى قسمين وغيرها.
القسم الثاني: ما سمَّيناه بالمعجزات (العلمية)، وهي التي تقوم فكرتها الإعجازية على التدقيق والتحليل... قد لا يلتفت الفرد الاعتيادي إلى وجود شيء خارق لنظام الطبيعة فوراً، وإنَّما ينبغي أن يلتفت الناس على ذلك بالتدريج.
وأوضح وأقدم شكل لهذا القسم هو (القرآن الكريم)، أهمُّ معجزات نبي الإسلام، ومن هذا القسم يمكن أن تنطلق معجزات القائد المهدي (ع) - كما سنُمثِّل - ويتلخَّص الفرق بين القسمين بعدَّة أُمور:
أولاً: ما ذكرناه من فوريَّة الالتفات إلى الإعجاز في القسم الأول دون الثاني، فإنَّه يحتاج إلى مضيِّ زمان لكي يُفهَم.
ثانياً: إنَّ القسم الأول يُناسب المستويات الاجتماعية غير المُتقدِّمة والمُعمَّقة من البشرية.
ثالثاً: إنَّ القسم الأول يقصد به النتيجة الواضحة، وإن أوجبت خرق عدَّة نقاط من النظام الكوني، بخلاف القسم الثاني؛ فإنَّ المقصود منه نقطة واحدة فقط من النظام الكوني، وعدَّة مُحدَّدة تماماً ومُعلنة بوضوح، فالقرآن الكريم تجاوز المستوى الفكري والبياني البشري عموماً، وفي الإمكان تقليل الجاذبية في منطقة وزمان مُعيَّنَين، كما لو أعلن أنَّ جاذبية الأرض في مدينة (بغداد) ستُصبح بمقدار نصف ما كانت عليه أسبوعاً مُحدَّداً من الزمن.

↑صفحة ٢٣٧↑

كما يمكن أن يُعلن تحديد زمان لتقليل سرعة النور في منطقة ما، وفي حدود مُعيَّنة، وزيادة في سرعة دوران الأرض قليلاً، وهكذا.
إنَّ أمثال هذه المعاجز لن يحسَّ الفرد العادي بحدوث التغيُّر إلاَّ بعد أن يُشاهد تطبيقاته في الخارج... ولقد رأينا أنَّ الفرد الاعتيادي لا يُدرك لأوَّل وهلة وجود الإعجاز في آية يسمهعا من آيات القرآن الكريم.
رابعاً: إنَّ القسم الثاني من المعجزات قابل للدوام والاستمرار جيلاً وعدَّة أجيال من البشر، وإلى نهاية البشرية كما في القرآن الكريم نفسه، وقد يمكن الاستمرار في بعض تلك الأمثلة إلى أزمنة طويلة أيضاً.
أمَّا القسم الأول، فهو وقتي الحدوث، لا يمكن استمرار الأعجاز فيه، وهذا يُمثِّل إحدى الفوارق بين معجزات الأنبياء السابقين على الإسلام التي كانت كلها وقتيَّة الحدوث... وبين معجزات نبي الإسلام التي استطاعت على الدوام والاستمرار، مُتمثِّلة بالقرآن الكريم.
وإلى هنا عرفنا ثلاثة أقسام من المعجزات: المعجزات الخاصة، والمعجزات العامة (الكلاسيكية)، والمعجزات العامة (العلمية).
وما يمكن أن نسمع نقله في الأخبار قسم واحد - كما قلنا - وهي المعجزات العامة الكلاسيكية، دون المعجزات الخاصة والمعجزات العلمية.
وأمَّا إمكان نقل هذا القسم، فباعتبار كونه مفهوماً فَهْماً اجتماعياً عاماً، وموافقاً مع مستوى الجيل الذي سمعت عنها، وأمَّا عدم إمكان نقل المعجزات العلمية في الأخبار، فواضح أيضاً، باعتبار عدم انسجامها مع المستوى العقلي والفكري والثقافي للمجتمع الذي صدرت فيه هذه الأخبار لأول مرَّة، فكما يكون نشازاً في ذلك المجتمع التنبُّؤ صراحة بحدوث الطائرة والصواريخ الموجَّهة، كذلك يكون التنبُّؤ بحدوث معجزة على هذا المستوى العلمي الرفيع.
وقد يخطر في الذهن: أنَّ بعض المعجزات العلمية كانت موجودة يومئذ، مُتمثِّلة بالقرآن الكريم، إذن؛ فلم يكن هذا القسم أعلى من مستوى الفكر الاجتماعي.
وجوابه من عدَّة وجوه نذكر منها اثنين:
الوجه الأول: إنَّ الأُسس التي قام إعجاز القرآن الكريم على أساسها، وبتعبير أصحِّ: إنَّ (القانون) الذي خرقه القرآن بإعجازه... كان مفهوماً للمجتمع يومئذ.

↑صفحة ٢٣٨↑

وهو المستوى الأدبي البلاغي للُّغة العربية، على حين لم تكن الأُسس التي تقوم عليها المعجزات (العلمية) التي مثَّلنا لها، مفهومة بالمرَّة.
الوجه الثاني: بالرغم من كون الأُسس لإعجاز القرآن كانت مفهومة، إلاَّ أنَّ فكرة إعجازه وفكرة كونه معجزة خالدة وإيضاح مُميِّزاته عموماً، لم يقم القادة الإسلاميون بإعطائها دُفعةً واحدة، بل كانت تُعطى بالتدرُّج طبقاً للخطِّ التربوي العام... ابتداءً بالتحدِّي القرآني نفسه وانتهاء بالسنَّة الشريفة وما بعدها من عناصر الفكر الإسلامي التي شرحت مُميِّزات القرآن الكريم.
فإذا كان الحال بالقرآن الكريم مع وضوح أُسُسه، هو ذلك، فكيف بالمعجزات التي لا تكون واضحة الأُسس.
ومعه؛ فمن غير المُحتمل أن نسمع في الأخبار أيَّ نقل، عن المعجزات (العلمية) التي ستكون الأسلوب الرئيسي للإعجاز في عصر الإمام المهدي على المظنون.
وأمَّا عدم نقل المعجزات (الخاصة) معجزةً معحزةً، فهو أوضح؛ لما عرفناه من أنَّ الآخرين قد لا يُدركون فكرة إعجازها بالمرَّة... حتى وإن وقعت أمامهم، فضلاً عمَّا إذا نُقلِت إليهم بالأخبار.
وقد يخطر في الذهن: أنَّ في إمكان الأخبار أن تُشير إلى قيام المهدي (ع) ببعض المعجزات الخاصة إجمالاً... فلماذا لم تفعل؟!
وجوابه: أنَّ هذا النوع من المعجزات، حيث كان نطاقه شخصياً، فيكون ذكره في الأخبار مُستأنفاً، ولا يبعد أنَّنا نجد في الأخبار شيئاً من ذلك... ولكنَّه قليل وغير مُلفِت للنظر، باعتبار أنَّ الاهتمام مركَّز في الأخبار إلى ما هو أشمل من أعمال الإمام المهدي وصفات أصحابه ودولته.
إذن؛ فكل ما في الأمر أنَّنا نتوقَّع أن نسمع من الأخبار إقامة المهدي (ع) معجزات (كلاسيكية) على غرار الأنبياء والأولياء السابقين، على حين أنَّه (ع) سوف يعرض عن هذا النوع؛ لكونه قاصراً عن المستوى الذي يكون عليه المجتمع يوم ظهوره... وإنَّما كان مُناسباً فقط مع الأزمة السابقة، المعاصرة مع الأنبياء والأولياء الأقدمين
وأمَّا النوع والأنواع التي يُقيمها المهدي (ع) من المعجزات، فلا يُناسب ذكرها في الأخبار؛ لكونها أعلى من مستوى عصر صدور الأخبار، وعدم فَهْم المجتمع

↑صفحة ٢٣٩↑

لأُسسها، واعتياده على الأسلوب الكلاسيكي للمعجزات يومئذ.
الجهة الخامسة - من هذا الفصل -: وردت بعض الأخبار تقول: بأنَّ المهدي(ع) يظهر من قرية يُقال لها: كرعة. - بالكاف الفارسية على الظاهر ـ، وهي تُنافي الروايات التي سمعناها في هذا الفصل من كونه (ع) يظهر في مكَّة بين الركن والمقام.
أخرج الكنجي في كتابه البيان،(٣٢٤) بإسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله (ص): (يخرج المهدي من قرية يُقال لها: كرعة).
قلت: هذا حديث حسن رزقناه عالياً، أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في عواليه كما سقناه، ورواه أبو نعيم في مناقب المهدي (ع). انتهى كلام الكنجي.
وقال السيوطي في الحاوي:(٣٢٥) وأخرج أبو نعيم وأبو بكر بن المقري في مُعجمه عن ابن عمرو، قال: قال النبي (ص): (يخرج المهدي من قرية يُقال لها: كرعة).
وروى الأربلي(٣٢٦) عن الأربعين حديثاً للحافظ أبي نعيم، بإسناده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي (ص): (يخرج النبي من قرية يُقال لها: كرعة).
وروى ابن طاووس،(٣٢٧) عن كتاب الفتن للسليلي، بإسناده عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (ص): (يخرج المهدي من قرية يُقال لها: كرعة).
فكيف يمكن أن نوفِّق بين هذه الروايات وتلك...؟
ويمكن الانطلاق في الجواب عن ذلك من عدَّة زوايا:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٢٤) انظر ص٩١ منه.
(٣٢٥) انظر ج٢ ص١٣٧.
(٣٢٦) انظر كشف الغمَّة للأربلي ج٣ ص٢٥٩.
(٣٢٧) انظر الملاحم والفتن لابن طاووس ص١١٤.

↑صفحة ٢٤٠↑

الزاوية الأُولى: إنَّ هذا الخبر غير قابل للإثبات التاريخي؛ فإنَّه مروي عن عبد الله بن عمر... وهو الذي يتحمَّل مسؤولية روايته.
وأمَّا وروده - كما سمعنا - في رواية السيوطي والكنجي بلفظ: عبد الله بن عمرو، فهو إن كان خطأ مطبعياً وكتابياً، وواقعه هو: عبد الله بن عمر... إذن؛ فالكلام فيه ما سبق أن قلناه. وإن كان شخصاً غيره، فهو مجهول ومُردَّد بين عدَّة أشخاص؛ فلا تكون روايته قابلة للإثبات.
فجوابه: أنَّها مروية في عدَّة مصادر وعن عدد من الرواة، إلاَّ أنَّهم جميعاً يُسندونها إلى عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، وقد عرفنا حال الرواية عنهما.
وتكون الروايات الدالة على ظهور المهدي (ع) في مكَّة، بين الركن والمقام قائمة وحدها بلا معارض.
الزاوية الثانية: إنَّنا لو قَبِلنا كون هذه الرواية قابلة للإثبات التاريخي، ففي الإمكان أن ننفي التعارض بينهما، طبقاً لعدد من الأُطروحات المُحتملة، نذكر بعضها:
الأُطروحة الأُولى: أن يكون ظهوره (ع) في كرعة أولاً، طبقاً لأُطروحة خفاء الشخص، ويكون ظهوره ثانياً في مكّة، طبقاً لأُطروحة خفاء العيون.
فإنَّه - طبقاً للفهم الكلاسيكي لغيبة المهدي (ع) - في بعض الأذهان أنَّه غائب بحيث يختفي جسمه عن الأنظار، مُطابقاً لأُطروحة خفاء الشخص، فإذا آن أوان ظهوره في (كرعة) ارتفع الخفاء الشخصي عنه، ولكنَّه يبقى مجهولاً للناس مُطابقاً لأُطروحة خفاء العنوان، حتى ما إذا وصل إلى مكَّة، وقام بين الركن والمقام، وأعلن عن اسمه واسم أبيه، ارتفع خفاء العنوان وعرفه الناس.
الأُطروحة الثانية: إنَّنا لو التزمنا على أنَّ الصبغة العامة للغيبة مُطابقة لأُطروحة خفاء العنوان، دون الأُخرى كما ذهبنا إليه، في التاريخ السابق(٣٢٨) كان مُحصَّل المعنى للجمع بين الروايات: إنَّ المهدي (ع) حين يريد الظهور في (كرعة) فإنَّه يكشف نفسه للناس، أعني يُطْلِعهم على اسمه واسم أبيه، ولكنَّه لا يُمارس أيَّ عمل إلاَّ بعد الوصول إلى مكَّة والوقوف بين الركن والمقام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٢٨) ص٣٤ وما بعدها.

↑صفحة ٢٤١↑

الأُطروحة الثالثة: أن نفترض أنَّ (كرعة) عبارة أُخرى عن (مكَّة المُكرَّمة)، بنحو المجاز والرمز.
وأمَّا التعبير عن مكّة المُكرَّمة بالقرية، فباعتبار التعبير عنها بذلك في عدَّة آيات من القرآن الكريم... كما لا يخفى على القارئ.
غير أنَّ أيّاً من هذه الأُطروحات لا تخلو من الخدشة والإشكال، ممَّا نُحيله على ذكاء القارئ، ولا حاجة إلى الدخول في تفاصيله... بعد أن عرفنا سقوطها عن الإثبات التاريخي.
الزاوية الثالثة: إنَّنا لو سلَّمنا بقابلية تلك الرواية للإثبات، ونفينا تلك الأُطروحات في الجمع ما بينهما... فإنَّنا سنواجه المُعارضة بين هذه الرواية وروايات ظهوره في مكَّة وفي المسجد الحرام بين الركن والمقام... وهي روايات عديدة مرويَّة عن جماعة من الرواة من الفريقين؛ فتكون مُتقدِّمة في الإثبات على تلك الرواية بطبيعة الحال.
الجهة السادسة: إنَّ المهدي (ع) بعد أن ينتهي من خطابه، يبدأ بأخذ البيعة من أنصاره ومؤيِّديه.
وقد دلَّت على ذلك عدَّة روايات، نذكر أهمَّها؛
أخرج الصدوق في إكمال الدين،(٣٢٩) بسنده عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (ع): (إنَّ أول مَن يُبايع القائم (عليه السلام) جبرئيل (عليه السلام)...) الحديث.

وأخرج النعماني،(٣٣٠) عن أبي بصير، عن أبي جعفر (ع) في حديث أنَّه قال: (... لكأنَّي أنظر إليه بين الركن والمقام يُبايع الناس...) الحديث.
وأخرج روايات أُخرى بنفس هذا المضمون.(٣٣١)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٢٩) انظر المصدر المخطوط.
(٣٣٠) ص١٣٩.
(٣٣١) انظر ص١٠٢ وص١٤١.

↑صفحة ٢٤٢↑

وأخرج الشيخ الطوسي(٣٣٢) بسنده، عن علي بن مهزيار، قال: قال أبو جعفر: (كأنِّي بالقائم يوم عاشوراء يوم السبت، قائماً بين الركن والمقام، بين يديه جبريل يُنادي: البيعة لله! فيملؤها عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً).
وأخرج الطبرسي،(٣٣٣) عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (ع)، في حديث: أنَّه ذكر أولاً مضمون خطبة الإمام المهدي (ع) ثمَّ قال: (فيبعث الله عزَّ وجلَّ جبرئيل، حتى يأتيه ويسأله ويقول له: إلى أيِّ شيء تدعو؟ فيُخبره القائم، فيقول جبرئيل: فأنا أول مَن يُبايع. ثمَّ يقول له: مُدَّ كفَّك. فيمسح على يده. وقد وافاه ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً، فيُبايعونه...) الحديث.
وقد وردت في مضمون هذه البيعة عدَّة روايات:
منها ما أخرجه النعماني،(٣٣٤) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع)، في حديث، قال: (... يبايع الناس على كتاب جديد على العرب شديد).
وفي رواية أُخرى،(٣٣٥) عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) - في حديث - قال: (... لكأنِّي أنظر إليه بين الركن والمقام يُبايع الناس بأمر جديد (شديد) وكتاب جديد وسلطان جديد من السماء).
وأخرج الصافي في مُنتخب الأثر،(٣٣٦) عن كشف الأستار للحاج النوري، عن عقد الدُّرر لجمال الدين المقدسي والفتن لأبي صالح السليلي، عن أمير المؤمنين (ع): (إنَّه - أي المهدي (ع) - يأخذ البيعة عن أصحابه، على أن لا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يسبُّوا مسلماً، ولا يقتلوا مُحرَّماً، ولا يهتكوا حريماً مُحرَّماً، ولا يهجموا (يهدموا) منزلاً، ولا يضربوا أحداً إلاَّ بالحق، ولا يكنزوا ذهباً ولا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٣٢) ص٢٤.
(٣٣٣) ص٤٣١.
(٣٣٤) ص١٤١.
(٣٣٥) غيبة النعماني أيضاً ص١٣٩.
(٣٣٦) ص٤٦٨. وانظر نفس المضمون في الملاحم والفتن لأبن طاووس ص١٢٢.

↑صفحة ٢٤٣↑

فضَّة، ولا برَّاً ولا شعيراً، ولا يأكلون مال اليتيم، ولا يشهدوا بما لا يعلمون، ولا يُخرِّبوا مسجداً ولا يشربوا مُسْكِراً، ولا يلبسوا الخزَّ ولا الحرير، ولا يتمنطقوا بالذهب، ولا يقطعوا طريقاً ولا يُخيفوا سبيلاً، ولا يفسقوا بغلام، ولا يحبسوا طعاماً من برٍّ وشعير، ويرضون بالقليل، ويشمُّون الطيب ويكرهون النجاسة، ويأمرون المعروف وينهون عن المُنكَر، ويلبسون الخشن من الثياب، ويتوسَّدون التراب على الخدود، ويجاهدون في الله حق جهاده).
ويشترط على نفسه لهم: أن يمشي حيث يمشون، ويلبس كما يلبسون، ويركب كما يركبون، ويكون من حيث يريدون ويرضى بالقليل، ويملاً الأرض - بعون الله - عدلاً كما مُلئت جوراً، يعبد الله حق عبادته، ولا يتَّخذ حاجباً ولا بوَّاباً.
وهناك من الروايات ما يدلُّ على أنَّ المهدي يُبايع كارهاً، وقد ورد هذا المضمون في طرق العامة بشكل أوسع ممَّا عليه في طرق الخاصة.
أخرج أبو داود،(٣٣٧) بسنده عن أمِّ سلمة زوج النبي (ص) عن النبي (ص)، قال: (يكون اختلاف عند موت الخليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكَّة، فيأتيه ناس من أهل مكّة فيُخرجونه وهو كاره، فيُبايعونه بين الركن والمقام...) الحديث.
ورواه ابن حجر في الصواعق،(٣٣٨) والقندوزي في ينابيع المودَّة،(٣٣٩) والصبَّان في إسعاف الراغبين.(٣٤٠)
ومن طريف ما روى السيوطي(٣٤١) بهذا الصدد، ما أخرجه عن نعيم بن حمَّاد، عن ابن مسعود، قال - في حديث عن المهدي (ع) -: فيطلبونه فيُصيبونه بمكَّة، فيقولون له: أنت فلان بن فلان؟
فيقول: لا، بل أنا رجل من الأنصار.
حتى يُفلت منهم، فيصفونه لأهل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٣٧) انظر السُّنن ج٢ص٢٤٣.
(٣٣٨) ص٩٨.
(٣٣٩) ص٥١٧ط النجف.
(٣٤٠) ص١٣٥.
(٣٤١) الحاوي ج٢ ص١٤٥.

↑صفحة ٢٤٤↑

الخير والمعرفة به، فيُقال: هو صاحبكم الذي تطلبونه، وقد لحق بالمدينة، فيُخالفهم إلى أهل (مكّة)، فيطلبونه بمكّة فيُصيبونه.
فيقولون: أنت فلان بن فلان. وأُمُّك فلانة ابنة فلان، وفيك آية كذا وكذا. وقد أفلتَّ منَّا مرَّة، فمُدَّ يدك نُبايعك.
فيقول: لستُ بصاحبكم.
حتى يُفلت منهم، فيطلبونه بالمدينة، فيُخالفهم إلى مكَّة.
فيُصيبونه بمكَّة عند الركن، ويقولون له: إثمنا عليك! ودماؤنا في عنقك إن لم تمدَّ يدك نُبايعك. هذا عسكر السفياني قد توجَّه في طلبنا، عليهم رجل من حرام.
فيجلس بين الركن والمقام، فيمد يده فيُبايع له، فيُلقي الله مُحبَّته في صدور الناس، فيصير مع قوم أسد بالنهار رهبان في الليل.
وأخرج(٣٤٢) أيضاً عن شهر بن حوشب، قال: قال رسول الله (ص): (سيكون في رمضان صوت - إلى أن قال: - حتى يهرب صاحبهم، فيؤتى بين الركن والمقام فيُبايع وهو كاره).
ويُقال له: إن أبيت ضربنا عنقك!!... يرضى به ساكن السماء وساكن الأرض.
وورد في طُرق الخاصة تفسير هذه الكراهة.
أخرج النعماني،(٣٤٣) بسنده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (ع)، أنَّه قال: (يُنادى باسم القائم فيؤتى وهو خلف المقام، فيُقال له: قد نودي باسمك، فما تنتظر؟ ثمَّ يؤخذ بيده فيُبايَع).
قال: قال لي زرارة: الحمد لله! قد كنّا نسمع أنَّ القائم (ع) يُبايع مُستكرَهاً (مُكرَهاً) فلم نكن نعلم وجه استكراهه، فعلمنا أنَّه استكراه لا إثم فيه.
فهذه هي أخبار البيعة، ولا بدَّ أن نتكلَّم حولها ضمن عدَّة نقاط.
النقطة الأُولى: البيعة: هي المعاهدة على الطاعة والنُّصرة، وذلك بإيكال القيادة والرأي في كل الأُمور العامة - بل والخاصة - إلى القائد الذي أُعطيت البيعة له، بحيث لا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٤٢) الحاوي ج٢ ص١٦١.
(٣٤٣) غيبة النعماني ص١٤٠.

↑صفحة ٢٤٥↑

يَحْوُلُ دون بذل مال ولا نفس.
وهي أمر مُشرَّع في الإسلام، قام به النبي (ص) تجاه أصحابه في بيعة الرضوان، ونزل في مدحهم القرآن الكريم: قال الله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا).(٣٤٤)
وقد كانت البيعة أمراً مُعترَفاً به ومُطبَّقاً قبل الإسلام بين الملوك والرعية...
وأمضاها الإسلام بعد أن أعطاها الصبغة الدينية؛ لما لها من الأثر البليغ في ربط الفرد بالحاكم وشَدِّه إليه نفسياً وعاطفياً، في أغلب المجتمعات التي هي في طريق التربية، ومن الواضح أنَّ شَدَّ الفرد نفسياً إلى الحاكم والقائد الإسلامي مطلوب وذو نتائج عامة وخاصة، تعود إلى تربية الفرد نفسه وإلى المجتمع، ومن ثَمَّ اقتضت المصلحة في الإسلام إقرار هذه الفكرة وهذا الأسلوب في تأييد الحاكم والاعتراف بحكومته وولايته.
وهذا لا يعني أنَّ لها أثراً فقهيَّاً و(قانونياً) كاملاً في الإسلام... لوضوح وجوب إطاعة الحاكم الإسلامي على كل حال، سواء وقعت البيعة أم لا، كما أنَّ عدم وقوع البيعة لا يعني التمرُّد على الحاكم إذا كان الفرد مؤمناً وعازماً على تطبيق أوامره وإرشاداته، وإنَّما تعني التمرُّد إذا كانت دليلاً على العصيان والانحراف.
نعم، إذا أمر الحاكم الإسلامي بالبيعة وجلس لاستقبال المُبايعين - كما فعل النبي (ص) وسيفعل المهدي (ع) - فيجب على الأفراد القيام بها تجاهه، ويكون تركها عصيان من جهتين:
أولاً: لكون تركها إهمالاً لأمر الحاكم الإسلامي الذي يجب إطاعته في كل أوامره.
ثانياً: لأنَّ أمره بالبيعة وجلوسه من أجلها يُعطي هذه الفكرة، وهي أنَّ الحاكم الإسلامي يرى الآن - ومن خلال هذا الأمر - أنَّ الاعتراف بولايته وحاكميَّته منوط بالبيعة ومُتوقِّف عليها، فلو تركها الفرد كان غير مُعترِف بولايته، فيكون مُتمرِّداً عليه.
ومن ثَمَّ لا تقتضي تلك القاعدة الفقهية ترك البيعة التي يأمر الحاكم الإسلامي بها ويجلس من أجلها، بل مُقتضى القواعد الفقهية الإسلامية وجوبها على كل مُلتفت إلى ذلك الأمر وتلك الرغبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٤٤) الفتح ٤٨/ ١٨.

↑صفحة ٢٤٦↑

نعم، لو انتهى أمد الأمر، وأراد فرد من غير المُبايعين أن يُعلن ولائه من جديد... كفى له (فقهياً) مُجرَّد الإعراب عن عقيدته، ولم تكن هناك ضرورة لاتخاذ أُسلوب البيعة، وهذا كلُّه صادق بالنسبة إلى الإمام المهدي (ع) عند ظهوره.
النقطة الثانية: إنَّ الذين يُبايعون المهدي (ع) في موقفه بين الركن والمقام، يتكوَّنون من عدَّة أقسام:
القسم الأول: جبرائيل الأمين (ع)، وهو من أهمِّ الملائكة، وأحد أربعة أعاظمهم، طبقاً للفهم الإسلامي.
وبيعته للإمام المهدي (ع)، يمكن أن تُحمل على أحد معنيين:
المعنى الأول: المعنى الرمزي، الراجع في الواقع، إلى مرتبة عُلْيَا من التأييد الإلهي للمهدي (ع) ومباركة حركته العالمية ودعوته، وإنِّما دون ذكر جبرائيل بالخصوص، باعتباره المُمثِّل للحق من زاوية عُلْيَا كاملة، وقد كان هو رسول الحكمة وحامل الوحي بين الله عزَّ وجلّ ورسوله الكريم (ص).
إلاَّ أنَّ هذا المعنى لا يكون صحيحاً، بصفته رمزياً، إلاَّ بعد اليأس من المعنى (الصريح) المباشر، وهذا ما سنبحثه في المعنى الثاني.
المعنى الثاني: البيعة بالمعنى المباشر الذي يقوم به سائر الناس، يقوم بها جبرائيل بعد أن يتَّخذ شكل رجل، توصُّلاً إلى فائدتين كبيرتين:
الفائدة الأُولى: إلفات نظر الناس إلى لزوم مُبايعة المهدي (ع) في موقفه ذلك بين الركن والمقام، فإنَّ الناس غافلون - على الأقلِّ - عن ذلك، ويحتاجون إلى المُنبِّه بطبيعة الحال، وستكون مُبايعة جبرئيل (ع) مُنبِّهاً لبعض الناس من الخاصة، فإذا بايعوا كانت مُبايعتهم مُنبِّهاً لسائر الناس الموجودين في المسجد الحرام ساعتئذٍ.
الفائدة الثانية: دعم وتأييد حركة المهدي (ع) من أول حدوثها؛ إذ من الضروري أنَّ مُبايعة جبرئيل (ع) لا تكون إلاَّ لأجل تلقِّيه الأمر الإلهي بذلك، وإذا كان الله تعالى موجباً على جبرئيل (ع) مُبايعة المهدي (ع)، فذلك من أعظم الدعم والتأييد.
غير أنَّ هذا التأييد لا يمكن انعكاسه اجتماعياً ما لم يكن جبرائيل - وهو على شكل رجل - معروف الهوية لدى الموجودين حال مُبايعته، وهذا - بحسب فَهْمنا المُعاصر - ممَّا يصعب توفُّره في ذلك الموقف، وإنَّما يمكن إعلانه تدريجياً طبقاً لاتِّساع حركة المهدي (ع) وسلطته، وهذا كافٍ لدعم الحركة بمقدار احتياجها التدريجي.

↑صفحة ٢٤٧↑

وقد يخطر في الذهن: أنّ هناك فائدة أُخرى لمبايعة جبرائيل (ع) للمهدي (ع).
وهي المشاركة في الدليل على صدق المهدي وأحقيّة دعوته.
وهذا يصحّ بالنسبة إلى مَن يعرف جبرئيل (ع) حال قيامه بالمبايعة وبعدها بدقائق، فإنّه يكون من الأدلة العظيمة على صدق المهدي (ع) إلى جنب: الخسف، والخسوف، والكسوف، وقتل النفس الزكية، ومضمون خطبته وغيرها من الأدلة. غير أنّ هذا ممّا يصعب تحقيقه هناك كما قلنا.
وأمّا التعرّف على حقيقته بعد ذلك، فإنّما يكون بإخبار المهدي (ع) وخاصّته، بعد قيام البرهان وإتمام الحجّة على صدقه، فيصلح دعماً لحركة المهدي (ع) ولا يصلح أن يكون دليلاً عليها.
وهناك بعض الاستفهامات عن مبايعة جبرائيل، سنذكرها في النقاط الآتية:
القسم الثاني: ممّن يبايع الإمام المهدي (ع) في موقفه الأوّل:
أصحابه الخاصّون الذين كانوا يعرفونه على حقيقته في غيبته الكبرى، فإنّنا سبق في تاريخ الغيبة الكبرى أن قلنا: إنّ هناك نفر قليل من البشرية في كل جيل، يمكن أن يكون مطلعاً على حقيقة المهدي (ع) ومكانه. وهناك من الروايات ما يدل على وجود مثل هؤلاء الأفراد، وقد سبق أن رويناها هناك.(٣٤٥)
وبالطبع سيكون هؤلاء، مع سائر المخلصين الممحّصين الناتجين عن التخطيط الإلهي العام، حاضرون خطاب المهدي (ع) في المسجد الحرام، وقد يكونون على موعد خاص سابق بهذا الاجتماع. ولا يحتاجون في التعرّف على شخص الإمام المهدي إلى أي إثبات.
ومعه فسوف يكونون هم الأوائل من المبادرين إلى البيعة بعد جبرائيل، والمدافعين عنه عندما يحاول المنحرفون قتله، عند سماعهم الخطبة، كما دلّت عليه رواية ممّا نقلناه عن المجلسي في البحار، خلال أخبار الخطبة، بل سيكونون اللسان الناطق في إيضاح ما ينبغي إيضاحه في هذه الساعة الأُولى.
القسم الثالث: ممّن يبايع الإمام المهدي (ع):
سائر المخلصين الذين كانوا في مكّة، وقد انتظروا الظهور بفارغ الصبر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٤٥) انظر ص٧٤ منه وغيرها.

↑صفحة ٢٤٨↑

وسنتعرّض لكيفيّة اجتماعهم وسائر أوصافهم في الفصل الآتي.
وسيشارك هؤلاء بنفس مهام القسم الثاني، مع فرق أنّهم لم يكونوا قد شاهدوا المهدي خلال العصر السابق... الأمر الذي يجعل الفكرة في أذهان القسم الثاني أوضح منها في أذهان هؤلاء في هذه الساعة الأُولى، وسيكون ما يشاهدونه وما يسمعونه في موقفهم ذلك كافياً في الإيضاح.
القسم الرابع: أفراد آخرون يشهدون الموقف: فتحصل لهم القناعة التامة، فيأتون لمبايعة المهدي خاضعين. وهم عادةً يمثّلون الدرجة الثانية والثالثة من درجات الإخلاص الأربعة التي سبق أن سمعنا عنها.
النقطة الثالثة: في عرض بعض الاستفهامات عن مبايعة جبرائيل (ع) للمهدي (ع) ينبغي عرضها، قبل العبور إلى خصائص أُخرى من البيعة.
الاستفهام الأوّل: إنّ جبرائيل (ع) أفضل من المهدي في درجات الكمال الإلهي، فكيف يخضع للمهدي (ع) بالمبايعة...؟
وهذا الاستفهام يحتوي على عدّة أجوبة، نذكر منها اثنان:
الوجه الأوّل: إنّه لا دليل على أن جبرائيل أفضل من الإمام المهدي (ع)، بل لعلّ الدليل قائم على العكس، باعتبار أنّ الإنسان الصالح المتكامل في صلاحه، أفضل من الملائكة؛ لأنّ الملائكة ليس لهم نفس القيمة الخلقية في إطاعة الله تعالى كالفرد الصالح، بل إنّ ميزان هذه القيمة في الفرد الصالح أرجح بكل تأكيد؛ لأنّ الملائكة إمّا أنّهم لا يملكون الاختيار أصلاً، بل هم مجبورون على أفعالهم من قِبل باريهم جلّ وعلا، وهم على الأرجح مختارون ولكنّهم يجدون الطاعة موافقة لهواهم ومنسجمة مع ميولهم، بخلاف الفرد الصالح، فإنّه مختار في طاعته، ويجد في الطاعة مصاعب نفسيّة واجتماعية عديدة، وهو مع ذلك جاد فيها مثابر عليها. ومن الواضح اتخاذ هذه الطاعة قيمة أخلاقية أعلى من تلك الطاعة؛ فيتصف هذا المطيع بكمال أكبر من ذاك الآخر.
هذا بالنسبة إلى أي فرد صالح متكامل من البشر تجاه أي ملك من الملائكة، ومن الواضح ثبوت نفس التفاضل، وبدرجة أكبر، لو تحدّثنا عن النسبة بين رؤساء الملائكة وقادة البشر الدينيين. كالأنبياء والأولياء، فإنّهم يتّصفون بالأفضلية على الملائكة بطبيعة الحال.
فإذا كان المهدي (ع) أفضل من جبرئيل، كان المانع من هذه الجهة، عن البيعة

↑صفحة ٢٤٩↑

الوجه الثاني: إنّ هذه المبايعة من قبل جبرائيل ليس خضوعاً للمهدي (ع)... وإنّما هي احترام له وتقديس لمهمّته العالمية التي خطّط من أجلها خلال عمر البشرية كلّه، وقد وُجدت المبايعة لأجل مصالح معيّنة عرفنا بعضها.
الاستفهام الثاني: إنّه ما الذي يستفيده جبرائيل من هذه المبايعة؟
والجواب على ذلك من عدة وجوه نذكر أهمّها:
الوجه الأوّل: أنّه يبايع إطاعةً لأمر الله تعالى، لا من أجل مصلحته الخاصّة.
الوجه الثاني: إنّ احترام الحق وتقديس قادته، يعتبر كمالاً له وفائدة تعود عليه.
وهذا ما يتحقق بالبيعة كما عرفنا.
الوجه الثالث: إنّ البيعة ذات مصالح عامّة عرفناها، تعود إلى البشر أنفسهم، ومن ثمّ تتدرج في التخطيط العام الساري المفعول بعد الظهور، وهذا كافٍ في إيجادها.
الاستفهام الثالث: إنّ فكرة مبايعة جبرائيل (ع) للمهدي (ع) لا تنسجم مع فكرة أنّ المهدي (ع) يبايع مكرهاً. فإنّ مَن يكرهه على المبايعة هم البشر المتضررون من الظلم الواقع عليهم، وليس لجبرائيل (ع) في ذلك أية مشاركة، فكيف نجمع بين الأخبار الدالة على هاتين الفكرتين..؟!
وجواب ذلك: أنّنا سنفهم من الإكراه المشار إليه معنى معيّناً، يتضمّن لهفة المظلومين إلى رفع الظلم عنهم، وتواضع الإمام المهدي (ع) عن أن يتصدّى للمبايعة بنفسه، بل من الأفضل أن تكون بطلب من غيره بطبيعة الحال. وكما دلّ على الإكراه أكثر من ذلك، ينبغي الاستغناء عنه، وهذا المعنى لا ينافي مع بيعة جبرائيل (ع) معه، بل هو منسجم معها، وسيكون جبرائيل (ع) هو المبادر إلى طلب البيعة منه.
والاستفهام الرابع: أنّه دلّت بعض الروايات على أنّ جبرائيل قال عند وفاة النبي (ص): إنّه لن ينزل إلى الأرض مرّةً أُخرى.
قال علي بن عيسى الأربلي في كشف الغمة(٣٤٦): وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام)، قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٤٦) ص١٨ - ١٩ من ج١.

↑صفحة ٢٥٠↑

(أتى جبرائيل (ع) إلى رسول الله (ص) يعوده. فقال: السلام عليك يا محمد، هذا آخر يوم أهبط فيه إلى الدنيا).
وعن عطاء بن يسار: أنّ رسول الله (ص)، لمّا حُضر أتاه جبرائيل، فقال: يا محمد، الآن أصعد إلى السماء، ولا أنزل الأرض أبداً.
وعن أبي جعفر (ع) قال: (لمّا حضرت النبي (ص) الوفاة - إلى أن قال -: فعند ذلك قال جبريل: يا محمد، هذا آخر هبوطي إلى الدنيا، إنّما كنتَ أنتَ حاجتي فيها).
والجواب على ذلك، يكون من عدّة وجوه، نذكر منها:
الوجه الأوّل: أنّ هذه الروايات النافية لنزول جبرائيل (ع) مقيّدة - في حقيقتها - بقيدٍ خفيٍّ غير مصرّح به، وهو عدم تعلّق الأمر الإلهي والمصلحة العامّة ورغبة رسول الله (ص) بذلك، فإن حصل شيء من ذلك، فإنّي سأنزل إلى الدنيا.
ومن المعلوم أنّ الروايات الدالة على نزوله مع المهدي (ع) تدل على حصول شيء من ذلك، وكلّه، فإنّ شأن المهدي (ع) بصفته المطبِّق الأكبر للهدف الأعلى من التخطيط العام، يناسب ذلك.
ووجود مثل هذا القيد الخفي الضمني في مضمون الكلام واضح لا يحتاج إلى استدلال، غير أنّ قوله في إحدى هذه الروايات: ولا أنزل إلى الأرض أبداً، ينافي فكرة هذا التقييد، فإنّها تدل - على الأقل - بأنّ شيئاً من ذلك سوف لن يحدث، ومن ثمّ لن ينزل جبرائيل (ع) إلى الأرض أبداً، غير أنّ هذه رواية واحدة يمكن التجاوز عنها بدلالة الروايات السابقة الدالة على نزوله في مناسبات أُخرى بعد وفاة النبي (ص) إلى نهاية البشرية، تكون نافية لمدلول هذه الرواية.
الوجه الثاني: هناك في هذه الروايات ما يدل على ما يشبه التقييد المشار إليه، وهو قوله: إنّما كنتَ أنتَ حاجتي فيها. فإنّه دال على أنّ نزوله كان من أجل رسول الله (ص) وتنفيذ مصالحه العامّة ورغباته الحكيمة. فإذا علمنا أنّ رسول الله (ص)، نفسه يرغب بتأييد المهدي (ع) ويدرك مصلحة وجوده وهدفه العام كما بشّر به مراراً وتكراراً خلال حياته، كما دلّتنا على ذلك الأخبار المتواترة، إذن فسيكون نزول جبرائيل (ع) مع

↑صفحة ٢٥١↑

المهدي (ع) مطابقاً لرغبة النبي (ص)، فإذا كان ينزل في زمن النبي (ص) من أجل رغبته، فأحرى به أن ينزل مع المهدي (ع) من أجل ذلك أيضاً.
الوجه الثالث: أنّنا يمكن أن نقيّد الأخبار النافية لنزول جبرائيل (ع) بالهدف الذي كان ينزل لأجله يومئذ، وهو تبليغ الوحي إلى النبي (ص)، فكأنّه قال: لن أنزل إلى الأرض من أجل تبليغ الوحي. وهذا أمر صحيح ولن يحدث أبداً؛ لأنّ نزوله مع المهدي (ع) لن يكون من أجل تبليغ الوحي، بطبيعة الحال.
وهذا التقييد، وإن كان مخالفاً لظاهر هذه الأخبار، إلاّ أنّه موافق مع طبيعة مهمّة جبرائيل مع النبي (ص)... كما أنّ أخبار نزوله مع المهدي (ع) توجب الالتزام بهذا التقييد، بغضّ النظر عن الوجهين السابقين.
الوجه الرابع: أنّنا لو تجاوزنا عن الوجوه السابقة، فوقع التنافي التام بين الأخبار النافية لنزول جبرائيل (ع) والأخبار المثبتة له؛ أمكننا بسهولة إسقاط الأخبار النافية لنزوله، بأحد أُسلوبين:
الأُسلوب الأوّل: تقديم الأخبار القائلة بنزول جبرائيل مع المهدي (ع) باعتبارها أكثر عدداً وأصحّ سنداً. أمّا عدداً، فهو واضح لمَن راجع المصادر، وأمّا سنداً فلأنّ الأخبار الثلاثة النافية كلها مرسلة، لم يذكر الأربلي لها سنداً.
نعم، واحدة منها رُويت مرسلةً عن عطاء بن يسار، فأصبح هو الراوي الوحيد المعروف من سلسلة الرواة، والباقي كلهم مجاهيل... وهو غير كافٍ في تصحيح الرواية، فكيف بالروايتين الأخيرتين اللتين لم يذكرها ولا راوٍ واحد؟
هذا، بخلاف روايات نزول جبرائيل (ع) مع المهدي (ع) فإنّها جميعاً مسندة في مصادرها معروفة الرواة.
الأُسلوب الثاني: معارضة الأخبار النافية، بكل ما يدل على نزول جبرائيل (ع) بعد النبي (ص) إلى نهاية البشرية.
وقد سمعنا هذا الأُسلوب في الوجه لخصوص رواية: لا أنزل إلى الأرض أبداً. ولكن بعد التنزّل عن الوجوه السابقة، يكون هذا أُسلوباً في معارضة كل الأخبار الثلاثة النافية، وهي أكثر عدداً منها، بحيث يكون مجموعها مستفيضاً، فلا يبقى لهذه الأخبار الثلاثة بإزائها أي إثبات.
فإن هناك من الأخبار ما يدل على نزول جبرائيل (ع) في زمن الأئمة المعصومين

↑صفحة ٢٥٢↑

(ع) عدّة مرّات، كنزوله عند ثورة الحسين بن علي (ع) وعند ميلاد الإمام المهدي (ع) ومناسبات أُخرى. وكنت أودّ أن أُورد عدّة أخبار منها، لولا أنّه يخرج بنا عن الصدد.
وعلى أي حال، فقد سقطت الأخبار النافية لنزول جبرائيل (ع) بعد وفاة النبي (ص) عن قابليّة الإثبات التاريخي.
النقطة الرابعة: - من الحديث عن البيعة -: ورد في مضمون البيعة، كما سمعنا في الأخبار، شكلان من الغرض، كلاهما موافق للقواعد الإسلامية العامّة.
الشكل الأوّل: إنّ المهدي (ع) يبايع أصحابه على: كتاب جديد، وأمر جديد، وسلطان جديد.
وهذا في حقيقته - يمثّل مستوى الوعي الإسلامي الجديد الذي لم يكن معروفاً قبل الظهور. على ما سوف نبرهن عليه في مستقبل البحث.
ويمكن أن نفهم من المبايعة على ذلك، أحد ثلاث معان:
المعنى الأوّل: وهو الظاهر المباشر من اللفظ، وهو أن يقول المهدي (ع) حال المبايعة: أُبايعكم وتبايعونني على كتاب جديد وسلطان جديد.
غير أنّ المعنى لا يخلو من بعد، بإزاء المعاني الآتية، من حيث: إنّ الكتاب الجديد والسلطان الجديد من الألفاظ غير المفهومة للجمهور الحاضر يومئذ، وإنّما يتضح معناه وتطبيقاته بعد ذلك من خلال عمل المهدي (ع) في دولته، ومن المعلوم: أنّ المبايعة على أُمور غير مفهومة مخالفةٌ للمصلحة، مع وجود مفاهيم كثيرة واضحة ودافعة إلى الفداء أكثر من هذه الأُمور.
المعنى الثاني: لمبايعته على ذلك: إنّ نتيجة المبايعة هو العمل الجاد لإنجاز العدل وتطبيقه في العالم كلِّه، الأمر الذي سيصبح أمراً جديداً وسلطاناً جديداً، ويتضمّن كتاباً جديداً - كما سيأتي - فالمبايعة على ذلك يعني: إنتاجها لذلك في المدى البعيد.
وهذا المعنى محتمل في التصوّر، إلاّ أنّه مخالف لظاهر هذا الأخبار، وأبعد مفهوماً من المعنى الثالث الآتي، كما هو غير خفي عند المقارنة.
المعنى الثالث: إنّ المهدي (ع) يبايع أصحابه على شروط معيّنة بتفاصيلها، وهذه التفاصيل تمثّل - في واقعها - الكتاب، والسلطان، والأمر الجديد.
فالكتاب الجديد والأمر الجديد، لا يذكره المهدي (ع) بصراحة ليكون مجهول المعنى

↑صفحة ٢٥٣↑

للجمهور، طبقاً للمعنى الأوّل. كما أنّه لا يهمل الاشتراط تماماً اتكالاً على النتائج، طبقاً للمعنى الثاني، بل بذكره عدّة أُمور في البيعة، تكون هي: الكتاب الجديد والأمر الجديد، في الواقع.
وأمّا هذه التفاصيل التي يذكرها المهدي (ع) في البيعة، فهو ما أعربت عنه الروايات الأُخرى التي سمعناها، والتي سنذكرها في الشكل الثاني، وبذلك يتحد محتوى الشكلين لمضمون البيعة؛ لأنّ الكتاب الجديد والأمر الجديد يعود إلى نفس التفاصيل المندرجة في الشكل الثاني، وليست شيئاً آخر.
الشكل الثاني: إنّ المهدي (ع) يبايع أصحابه على شروط معيّنة بتفاصيلها، تمثّل في حقيقتها أهم أحكام الإسلام. وقد سردت إحدى الروايات السابقة قائمة طويلة منها، لا حاجة إلى تكرارها الآن.
غير أنّ هذا الشكل من الشروط المطوّلة، يحتوي على بعض الاستفهامات، لابد من عرضها ونقدها:
الاستفهام الأوّل: كيف يتصوّر أنّ المهدي (ع) يتلو هذه الشروط على كل واحد من الحاضرين، فإنّه يستغرق زمناً طويلاً...؟
وجوابه: واضح، وهو أنّه لا يحتاج إلى ذكرها أكثر من مرّة، أمام مجموع الحاضرين ومجموعة منهم، ثم يقوم بالتنبيه على تلك الشروط في كل مبايعة.
الاستفهام الثاني: إنّ ما ذكر في هذه القائمة الطويلة من الأحكام، ليست أحكاماً جديدة، بل هي أحكام معروفة في الإسلام، ونافذة قبل الظهور، فكيف نقول إنّها من الكتاب الجديد والأمر الجديد.
ويمكن الجواب على ذلك من عدة زوايا، نذكر اثنتين منها:
الزاوية الأُولى: أنّنا نحتمل - على الأقل - أنّ الرواية التي تكفّلت بيان الشكل الثاني لمضمون البيعة قد حذفت من القائمة التي يذكرها المهدي (ع) لأصحابه، كل حكم جديد.. لأنّ ذكرها في الرواية يساوق إعلانها قبل الظهور، مثل قوله: ويرضون بالقليل، ويشمّون الطيب، ويلبسون الخشن من الثياب، ويتوسّدون التراب على الخدود.

↑صفحة ٢٥٤↑

فإنّ هذه أحكام نافذة المفعول قبل الظهور، ولكنّها مستحبّة وغير (إلزامية) بمعنى أنّه يجوز تركها للفرد... ولكن بعد أن تعيش الأُمّة التجارب القاسية السابقة على الظهور، التي تنتج فيها الإيمان العالي والإخلاص العميق في جماعة واسعة من الناس.... يصبح فيها القابلية لأن تكون (ملزمة) بهذه الأحكام وأمثالها، فتتحول هذه الأحكام من الاستحباب إلى وجوب.
ويكون هذا الوجوب، ممثّلاً لجهة مهمّة من جهات (الكتاب الجدي والأمر الجديد) الذي سوف يُعلن بعد الظهور.
ومن هنا نفهم الجواب على:
الاستفهام الثالث: إنّ هذه الأحكام (المستحبة) صعبة التنفيذ، فكيف تكون واجبة بعد الظهور؟
وجوابه من وجهين:
الوجه الأوّل: أنّه لا دليل على شمول هذه الأحكام للأُمّة كلها، وإنّما كل ما في الأمر، أنّ الرواية دلّتنا على أنّ المهدي (ع) يشترط على أصحابه... ومن المعلوم أنّ هؤلاء الأصحاب المخلصين من الدرجة الأُولى، سيكونون على مستوى قابلية التنفيذ لا محالة.
الوجه الثاني: أنّه لا بأس بشمول هذه الأحكام وأمثالها للأُمّة ككل، بعد تكاملها نتيجة للتمحيص الطويل، فإن التوقّعات من الفرد تزداد كلّما ازداد إخلاصاً وتكاملاً، وكذلك الأُمّة، بصفتها متكوّنة من الأفراد.
كل ما في الأمر، أنّ إعلان أمثال هذه الأحكام سيكون تدريجياً، بمقدار ما يستطيع الإخلاص العميق أن يرسّخ أقدامه في الأُمّة. فهو يبدأ بأضيق صورة وهو الاشتراط خلال البيعة أمام جماعة محدودة من الناس، وينتهي بالإعلان العام عندما تقتضي المصلحة ذلك.
الاستفهام الرابع: قد يخطر في الذهن: بأننا عرفنا أن جبرائيل (ع) هو أول من يبايع، فهل تكون هذه الأحكام سارية المفعول عليه أيضا؟
إنّ مجرّد إثارة هذا السؤال، غريب.... فإنّه واضح النفي، بعد أن عرفنا أنّ مبايعة جبرائيل (ع) ليس من أجل أن يصبح من شعب دولة المهدي (ع) بشكل مباشر... بل

↑صفحة ٢٥٥↑

لأجل مصالح أُخرى عرفنا طرفاً منها. وهذه الأحكام إنّما تسري على شعب تلك الدولة من البشر بطبيعة الحال.
ومن هنا نسمع الروايات تقول: (لكأنّي أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمرٍ جديد...) فهو يبايع الناس والملائكة، غير أنّ الأمر الجديد، سيكون ساري المفعول على البشر فقط.
وفي الخبر الآخر: أنّه يأخذ البيعة عن أصحابه... وجبرائيل (ع) وإن كان من أصحاب المهدي (ع)، غير أنّ لفظ الأصحاب واضح في أولئك الذين انتخبهم التمحيص، كعددٍ كافٍ لغزو العالم بالعدل، وكلهم من البشر بطبيعة الحال.
النقطة الرابعة: - من الحديث عن البيعة -: أنّه ورد في بعض الروايات التي سمعناها عن البيعة: أنّ الإمام المهدي (ع) يشترط على نفسه أُموراً إلى جانب ما يشترطه على أصحابه من الأُمور.
والمفهوم الأساسي الذي تؤكّد عليه هذه الأُمور: أنّ الأمام المهدي (ع) سيكون قائداً شعبيّاً يعيش حياة اعتيادية بعيدةً عن الفخفخة والجبروت التي عاشها حكّام العهد السابق على الظهور، فهو (يمشي حين يمشون، ويلبس كما يلبسون، ويركب كما يركبون، ويرضى بالقليل).
وكذلك كان رسول الله خلال حكمه، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الذي يقول:
(فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً.. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز. ولكن هيهات، أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي على تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز واليمامة مَن لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع... أأقنع من نفسي بأن يُقال: أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، وأكون لهم أُسوة في جشوبة العيش...).(٣٤٧)
وكذلك ينبغي أن يكون المهدي (ع)، بصفته الحاكم الأعلى للدولة العالمية العادلة، فإنّ من القواعد العامّة في الإسلام، أنّ الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية يجب عليه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٤٧) نهج البلاغة، شرح: محمد عبده ج٢ ص٧٩ - ٨١.

↑صفحة ٢٥٦↑

أن يعيش في حياته الشخصية على مستوى أفقر فرد في شعبه. وستأتي تطبيقات ذلك عند الحديث عن دولة المهدي ونظامها.
غير أنّه تبقى بعض الاستفهامات عن هذه الأُمور التي يفرضها المهدي (ع) على نفسه، ينبغي عرضها ونقدها:
الاستفهام الأوّل: أنّ ما يشترطه المهدي (ع) على أصحابه، يعبّر عن تكاليف عامّة على المسلمين، يكون مشمولاً لها أيضاً، فلماذا لم يشترطها على نفسه؟ في حين نجد أنّ ما اشترطه على أصحابه أكثر بكثير ممّا اشترطه على نفسه، فلو كانت زيادة الأحكام تدور مدار عمق الإيمان والإخلاص، لكان الأنسب هو العكس؛ لأنّ المهدي (ع) أعمق إيماناً وإخلاصاً من أصحابه بطبيعة الحال.
وجواب ذلك ينبغي أن يكون واضحاً للقارئ اللبيب... إذ لا معنى لشمول كل الأحكام لشخص الإمام المهدي (ع). إذ من الأحكام ما يقول بوجوب إطاعة الحاكم المتمثّل يومئذٍ بالمهدي (ع) نفسه وكما من الأحكام ما يكون تربويّاً للمراتب الواطئة نسبيّاً من الناس، والمفروض بالمهدي (ع) أنّه أعلى من هذه المراتب بكثير. فلا معنى لشمول أمثال هذه الأحكام له.
هذا، ولكن غالب الأحكام شاملة له، غير أنّ تطبيقها من قِبله واضح ومفروض، لا يحتاج إلى اشتراط - فيكون اشتراطها عليه أمراً مستأنفاً لا معنى له. كيف وهو الذي سيأخذ بزمام المبادرة لاشتراطها على أصحابه، فكيف لا يلتزم هو شخصيّاً بها، وإنّما يتمّ هذا الاشتراط بالنسبة إلى المراتب الإيمانية التي يكون هذا الاشتراط في مصلحة تربيتها.
على حين أنّ كمال الإمام المهدي (ع) أعلى من هذا المستوى بكثير.
ففي لُبّ الحقيقة أنّ ما يشترطه المهدي على نفسه، وما يشترطه على أصحابه معاً، مكلّف هو بها، غير أنّ تلك الأُمور لا تحاج إلى اشتراط.
وإنّما يخص المهدي (ع) نفسه باشتراط الأُمور التي تخص القائد العادل في الإسلام ومضافاً إلى مهمته الخاصّة التي كان مذخوراً من أجلها، وهي: أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
وهو وإن كان عالماً بهذه الأُمور، عازماً على تطبيقها، إلاّ أنّ الإعراب عنها أمام أصحابه، وخلال البيعة، تنوير لهم عن وظيفته، وتحديد لتوقّعاتهم منه، وبالتالي فهو إعلان مختصر عن المنهج الذي سوف يتبعه في المستقبل... شأن البيان الوزاري الذي تعلنه

↑صفحة ٢٥٧↑

الدول الحالية عند مجيء الوزارة الجديدة إلى الحكم.
الاستفهام الثاني: إنّ المهدي (ع) يأخذ فيما يأخذ على نفسه وأن يكون من حيث يريدون. ومن المعلوم بضرورة الدين، أنّ التطبيقات الإسلامية لا تكون بمشيئة الناس، وإنّما تكون بإرادة الله وتشريعه، ومقتضيات العدل الكامل والمصالح العامّة، والمهدي (ع) هو المطبِّق لذلك لا لما يريده الآخرون، فكيف يشترط ذلك على نفسه؟
والحق، أنّنا لو فهمنا من هذا الشرط كون الإمام المهدي (ع) يكون طوع إرادة أصحابه في التشريع والتطبيق، لكان هذا الشرط باطلاً لا محالة. غير أنّ هذا نفسه سيكون قرينة لنا على أن نفهم هذا الشرط بأُسلوب آخر.
ويتم ذلك من خلال وجوه غير متنافية، فقد تصدق جميعاً وأكثر من واحد منها.
الوجه الأوّل: إنّ أصحابه إنّما يريدون العدل العالمي المطلق، وأن تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً... فإذا كان المهدي (ع) (من حيث يريدون) عنى ذلك تطبيقه للعدل المذخور من أجله...
الوجه الثاني: إنّ في هذا الشرط إشارة إلى الأُمور التي تكون موكولة (فقهيّاً) إلى رغبة المجتمع في الدولة الإسلامية... كتأسيس المؤسسات، والحصول على مقادير من الأرض، والاشتغال في الوظائف العامّة... ونحوها، فيكون معنى كون الإمام المهدي (ع) حيث يريدون، أنّه (ع) يرضى لهم بذلك ويمضي لهم هذه الحاجات، في حدود ما لا يكون مخلاًّ بالعدل والمصلحة العامّة.
الوجه الثالث: إنّ المهدي (ع) لا يقضي فقط هذه الحاجات، بل يقضي لأصحابه ولكل المؤمنين جميع ما يريدون من حوائجهم الشخصية، وهذا ما سوف يحدث فعلاً في نظامه العادل، كما سوف نعرف طرفاً مهمّاً منه، خلال الحديث عن نظام الدولة العالمية المهدوية.
الجهة السابعة: من هذا الفصل، في التعرّض إلى نقطة معيّنة وردت في الأخبار، يحسن بنا الإلمام بها، أعني أُسلوب السلام عليه خلال بيعته وبعد ذلك أيضاً.
أخرج ابن الصباغ في الفصول المهمّة(٣٤٨) عن أبي جعفر (ع) - في حديث - يقول فيه: (فعند ذلك خروج قائمنا، فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٤٨) ص٣٢٢.

↑صفحة ٢٥٨↑

فأوّل ما ينطق هذه الآية: (بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ...)، ثمَّ يقول: أنا بقيَّة الله وخليفته وحجَّته عليكم.
فلا يُسلِّم عليه مُسلِّم إلاَّ قال: السلام عليك يا بقيَّة الله في الأرض...) الحديث.
وفي مُنتخب الأثر(٣٤٩) نقلاً عن إكمال الدين للصدوق: أنَّه روى أنَّ التسليم على القائم أن يُقال: السلام عليك يا بقيَّة الله في أرضه.
وفي إكمال الدين نفسه،(٣٥٠) بسنده عن محمد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر يقول: (القائم منَّا منصور بالرعب مؤيَّد بالنصر... - إلى أن قال: - فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة...) الخ الحديث كما سمعناه عن الفصول المُهمَّة.
وقال الشبلنجي في نور الإبصار:(٣٥١) وهذه علامات قيام القائم مرويَّة عن أبي جعفر رضي الله عنه، قال: (إذا تشبَّه الرجال بالنساء... - وساق الخبر إلى قوله: - فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة...) الخ الحديث كما سمعناه عن الفصول المهمَّة.
وفي مُنتخب الأثر،(٣٥٢) عن غيبة الشيخ، بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر (ع) قال: (مَن أدرك منكم قائمنا، فليقل حين يراه: السلام عليكم يا أهل بيت النبوَّة، ومعدن العلم، وموضع الرسالة).
وأخرج الشيخ الحُرِّ في الوسائل،(٣٥٣) بإسناده عن عمر بن زاهر، عن أبي عبد الله (ع) قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٤٩) ص٥١٧.
(٣٥٠) انظر المصدر المخطوط.
(٣٥١) ص١٧١-١٧٢، ونقله عنه في مُنتخب الأثر ص٤٣٥ وما بعدها.
(٣٥٢) ص٥١٧.
(٣٥٣) وسائل الشيعة، كتاب المزار من كتاب الحج ج٢ ص٤٦٨.

↑صفحة ٢٥٩↑

سأله رجل عن القائم يُسلم عليه بإمرة المؤمنين؟ قال: (لا، ذاك اسم سمَّى الله به أمير المؤمنين، لم يُسمَّ به أحد قبله ولا يُسمَّى به أحد بعده إلاَّ كافر!).
قلت: جُعلت فِداك، كيف يُسلَّم عليه؟
قال: (تقول: السلام عليك يا بقيَّة الله في أرضه).
ثمَّ قرأ: (بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ...).
قال الشيخ الحُرُّ: والأحاديث في ذلك كثيرة، لكن ورد لها معارضات غير صريحة في الزيارة، فالأحوط التَّرْك.
وفي بعض الروايات التي لم يحضرني مصدرها ما مضمونه: (أنَّ المهدي (ع) إذا ظهر لم يُلقَّب بأمير المؤمنين؛ فإنَّه لَقَبٌ خاص بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، بل يُقال له: السلام عليك يا بقيَّة الله في أرضه).
والمراد من هذا اللقب: كون المهدي (ع) هو الباقي من خطِّ الأنبياء والأولياء والصالحين، الذين مهَّدوا لوجوده وضحُّوا من أجل تطبيق عدله، فأصبح هو النتيجة الطبيعية الكبرى لجهودهم، والقيمة العالية لأقوالهم وأعمالهم، فالمراد من (بقيِّة الله) كونه (ع) بقيَّة أنبياء الله ورُسُله عليهم السلام.
وإنَّما نُسِبَت البقيَّة إلى الله مُباشرة؛ باعتبار كون هذا الخطِّ المُقدَّس على طوله خطَّاً مُمثِّلاً لعدل الله ودعوته الحقَّة، وهو - عزَّ وجلَّ - مؤسِّسه ومُخطِّطه من أجل تربية البشرية والسير بها نحو الكمال.
وأمَّا نسبتها إلى (أرض الله) حين يُقال: بقيَّة الله في أرضه. فباعتبار تأسيسه (ع) للدولة العالمية العادلة على مجموع الكرة الأرضية.
ومن المعلوم أنَّ (أرض الله) هي كل الكرة الأرضية، لا يستثني منها أيَّ منطقة ومجتمع، كما أنَّه (ع) في عصره هو القائد الإلهي الوحيد الموجود في مجموع هذه الأرض.

↑صفحة ٢٦٠↑

الفصل الرابع: أصحاب الإمام المهدي (عج) جنسيَّاتهم، عددهم، كيفيَّة اجتماعهم
وينبغي أن نتكلَّم عنهم (رضي الله عنهم) في عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في الروايات التي تخصُّ أصحاب القائم المهدي (ع)، وتتكفَّل بيان خصائصهم وصفاتهم، حتى ما إذا حملنا عن ذلك فكرة كافية، انطلقنا في الجهات الآتية إلى إعطاء فهم مُتكامل لما سمعناه.
والروايات بهذا الصدد كثيرة جدَّاً، ومُتوفِّرة المصادر العامة والخاصة معاً، بعضها مُختصر العبارة، وبعضها مُسهِب، ونحن نقتصر على جملة كافية منها:
أخرج مسلم في صحيحه،(٣٥٤) عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (ص) - في حديث -: (... إنِّي لأعرف أسماءهم، وأسماء أبائهم، وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ، ومن خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ).
وأخرج أبو داود،(٣٥٥) بسنده عن أمِّ سلمة زوج النبي (ص)، عن النبي (ص)، قال: (يكون اختلاف عند موت الخليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكَّة، فيأتيه ناس من أهل مكَّة فيُخرجونه - إلى أن قال: - فإذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٥٤) ج٨ ص١٧٨.
(٣٥٥) ج٢ ص٤٢٣.

↑صفحة ٢٦١↑

رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق، يُبايعونه بين الركن والمقام).
ونُقل هذا الحديث عن أبي داود وابن عساكر في المصادر المُتأخِّرة عنهما، كالصواعق المُحرِقة لابن حجر، والبيان للكنجي، وينابيع المودَّة للقندوزي، ونور الإبصار للشبلنجي، وإسعاف الراغبين للصبَّان وغيرها...
وأخرج ابن ماجة،(٣٥٦) عن عبد الله، قال: بينما نحن عند رسول الله (ص)... إلى أن قال: (... حتى يأتي قوم من قِبل المشرق معهم رايات سود، فيسألونه الخير، فلا يُعطونه، فيُقاتلون فيُنصرَون، فيُعطَون ما سألوا، فلا يقبلونه... حتى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قسطاً كما ملؤوها جوراً.
فمَن أدرك ذلك منكم فليأتهم، ولو حبواً على الثلج).
وفي حديث آخر(٣٥٧) قال: قال رسول الله (ص): (يخرج ناس من المشرق فيوطِّئون للمهدي - يعني سلطانه ـ).
وأخرج الحاكم في المستدرك،(٣٥٨) بسنده عن محمد بن الحنفية قال: كنَّا عند علي رضي الله عنه، فسأله رجل عن المهدي.
فقال رضي الله عنه: (هيهات! ثمَّ عقد بيده سبعاً، فقال: ذاك يخرج في آخر الزمان، إذا قال الرجل: الله الله. قُتِل، فيجمع الله تعالى له قوماً، قَزَع كقَزَع السحاب، يؤلِّف الله بين قلوبهم، لا يستوحشون إلى أحد، ولا يفرحون بأحد، يدخل فيهم على عدَّة أصحاب بدر، لم يسبقهم الأوَّلون ولا يُدركهم الآخرون، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر...) الحديث.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٥٦) ج٢ ص١٣٦٦.
(٣٥٧) ابن ماجة ج٢ ص١٣٦٨.
(٣٥٨) ج٤ ص٥٤٤.

↑صفحة ٢٦٢↑

وأخرج القندوزي في الينابيع(٣٥٩)، عن الباقر والصادق (رضي الله عنهما)، في قوله تعالى:
(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ...).(٣٦٠)
قالا: (إنَّ الأُمَّة المعدودة هم أصحاب المهدي في آخر الزمان ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، كعدَّة أهل بدر، يجتمعون في ساعة واحدة، كما يجتمع قَزَعُ الخريف).
وأخرج الكنجي في البيان،(٣٦١) عن ابن أعثم الكوفي عن كتاب الفتوح، عن أمير المؤمنين علي (ع) أنَّه قال: (ويحاً للطالقان! فإنَّ لله عزَّ وجلَّ بها كنوزاً ليست من ذهب ولا فضَّة، ولكن بها رجال مؤمنون عرفوا الله حق معرفته، وهم أنصار المهدي (ع)، في آخر الزمان).
أقول: وأخرجه عنه في ينابيع المودَّة في موضعين.(٣٦٢)
وأخرج السيوطي في الحاوي،(٣٦٣) عن نعيم بن حمَّاد، عن ابن مسعود، قال: (يُبايع للمهدي سبعة رجال علماء توجَّهوا إلى مكَّة من أُفق شتَّى على غير ميعاد، وقد بايع لكل رجل منهم ثلاثمئة وبضعة رجلاً، فيجتمعون بمكَّة فيبايعونه، ويقذف الله محبَّته في صدور الناس) الحديث.
وأخرج ابن الصبَّاغ في الفصول المُهمَّة،(٣٦٤) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) في حديث القائم يقول فيه: (... فيصير إليه أنصاره من أطراف الأرض تُطوى لهم طياً، حتى يُبايعوه).
أقول: هذا بعض ما أخرجته المصادر العامة بهذا الصدد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٥٩) ينابيع المودَّة ص٥٠٩ ط النجف.
(٣٦٠) هود:١١/٨.
(٣٦١) ٦٩.
(٣٦٢) ص٥٣٨ وص٥٨٩.
(٣٦٣) ج٣ ص١٤٨.
(٣٦٤) ص٢٢١.

↑صفحة ٢٦٣↑

وأخرج النعماني،(٣٦٥) في حديث عن أمير المؤمنين (ع) يذكر فيه جيش الغضب قال: (... أولئك قوم يأتون في آخر الزمان قَزَعٌ كقَزَع الخريف، والرجل والرجلان والثلاثة من كل قبيلة، حتى يبلغ تسعة.
أما والله، إنِّي لأعرف أميرهم ومناخ ركابهم...) الحديث.
وفي حديث آخر عن علي (ع)، قال فيه: (... ثمَّ يجتمعون قَزَعاً كقَزَع الخريف من القبائل، ما بين الواحد والاثنين، والثلاث والأربعة، والخمسة والستّة، والسبعة والثمانية، والتسعة والعشرة).
وفي حديث آخر، عن المُفضَّل بن عمر، قال: قال: أبو عبد الله (ع): (إذا أُذِنَ الإمام، دعا الله باسمه العبراني، فأُتيحت (فانتُخب) له صحابته الثلاثمئة والثلاثة عشر، قَزَعٌ كقَزَع الخريف، فهم أصحاب الألوية، منهم مَن يُفقَد عن فراشه ليلاً فيُصبح بمكَّة، ومنهم مَن يُرى يسير في السحاب نهاراً يُعرف باسمه واسم أبيه وحِلْيته ونسبه).
قلت: جُعلت فداك، أيُّهم (أيُّهما) أعظم إيماناً؟
قال: (الذي يسير في السحاب نهاراً، وهم المفقودون، وفيهم نزلت هذه الآية: (... أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً...)).(٣٦٦)
وفي خبر آخر،(٣٦٧) عن أبي خالد الكابلي، عن علي بن الحسين وعن محمد بن علي (ع) أنَّه قال: (الفُقداء قوم يُفقَدون من فُرُشهم فيُصبحون بمكَّة، وهو قول الله (عزَّ وجلَّ): (... أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً...)، وهم أصحاب القائم (ع)).
وفي حديث آخر، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(ع) أنَّه قال: (... فيكون أول خلق الله مُبايعة له أعني جبرائيل، ويُبايعه الناس الثلاثمئة والثلاثة عشر، فمَن كان ابتُلي بالمسير وافى في تلك الساعة، ومَن افتُقد من فُرشه،(٣٦٨) وهو قول أمير المؤمنين علي (ع): المفقودون من فُرُشهم، وهو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٦٥) ص ١٦٨ من الغيبة وكذلك الحديثين اللذين بعده.
(٣٦٦) الغيبة للنعماني ص١٦٩، وانظر نفس المضمون في إكمال الدين للصدوق مرويَّاً عن الإمام الجواد (ع).
(٣٦٧) المصدر والصفحة وكذلك الحديث الذي بعده.
(٣٦٨) معطوف على المبتدأ (من كان) يعني أنَّه يوافي أيضاً.

↑صفحة ٢٦٤↑

قول الله عزَّ وجلَّ: (... فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا...)) الحديث.
وفي حديث آخر،(٣٦٩) عن أبي الجارود، عن أبي جعفر الباقر (ع)، قال: (أصحاب القائم ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً أولاد العَجم، بعضهم يُحمل في السحاب نهاراً يُعرف باسمه واسم أبيه وحِليته، وبعضهم نائم على فراشه، فيوافيه في مكَّة على غير ميعاد).
وفي خبر آخر،(٣٧٠) عن حكيم بن سعيد قال: سمعت علياً (ع) يقول: (إنَّ أصحاب القائم شباب لا كهل فيهم، إلاَّ كالكحل في العين، وكالملح في الزاد، وأقلَّ الزاد الملح).
وأخرج الشيخ في الغيبة(٣٧١) نحوه.
وأخرج الطبرسي(٣٧٢) في حديث، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال فيه: (... لكأنِّي به في يوم السبت العاشر من المُحرَّم قائماً بين الركن والمقام، جبرائيل بين يديه يُنادي بالبيعة له، فتصير شيعته من أطراف الأرض تُطوى لهم طيَّاً حتى يُبايعوه، فيملأ الله به الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً).
وأخرج المفيد في الإرشاد(٣٧٣) نحوه.
وفي خبر آخر(٣٧٤) عن محمد بن مسلم الثقفي، قال سمعت أبا جعفر (ع)، يقول: (القائم منَّا منصور بالرعب، مؤيَّد بالنصر... - إلى أن قال: - فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة، واجتمع إليه ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً... - إلى أن قال: - فإذا اجتمع له العقد: عشرة آلاف رجل، فلا يبقى في الأرض معبود دون الله...) الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٦٩) الغيبة للنعماني ص١٧٠.
(٣٧٠) المصدر والصفحة.
(٣٧١) ص٢٨.
(٣٧٢) إعلام الورى ص٤٣٠.
(٣٧٣) ص٣٤١.
(٣٧٤) إعلام الورى ص٤٣٣.

↑صفحة ٢٦٥↑

وأخرج المفيد في الإرشاد،(٣٧٥) عن المُفضَّل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله (ع) في حديث، بعد أن ذكر مُبايعة القائم، قال: (... وقد وافاه ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً، فيُبايعونه، ويُقيم بمكَّة حتى يتمَّ أصحابه عشرة آلاف نفس، ثمَّ يسير منه إلى المدينة).
وأخرج الصدوق في إكمال الدين،(٣٧٦) بسنده عن أبي بصير قال: سأل رجل من أهل الكوفة أبا عبد الله (ع): كم يخرج مع القائم (ع)؟ فإنَّهم يقولون: إنَّه يخرج مثل عدَّة أهل بدر، ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً.
قال: (ما يخرج إلاَّ في أولي قوَّة، وما يكون أولوا قوَّة أقل من عشرة آلاف).
إلى غير ذلك من الروايات، وهناك بعض الروايات تقوم بتعداد أماكن، و(جنسيّات) أصحاب الإمام المهدي (ع)، وتُعرب أيضاً عن (المشكلة القانونية) التي سيُحدثها وجودهم في مكّة قبل الظهور، وسنسمع طرفاً منها في هذا الفصل.
كما أنَّ هناك من الروايات ما يوضَّح شجاعتهم وإيمانهم وإخلاصهم لقائدهم والأعمال الموكولة إليهم.
وهذا ما سنذكره فيما بعد كلاَّ ًفي مكانه المناسب.
الجهة الثانية: في أهمِّيَّة أصحاب الإمام المهدي (ع):
يكتسب أصحاب الإمام المهدي (ع) أهمِّيَّتهم من جهة كونهم ناجحين ومُمحَّصين، في التمحيص الإلهي الذي كان ساري المفعول في عصر الغيبة الكبرى، كما عرفنا، فقد اثبتوا - من خلال التمحيص الذي عاشوه - جدارتهم وإخلاصهم وقدرتهم على التضحية الكبرى في سبيل الأهداف الإسلامية العُلْيَا.
وهذه هي الجهات الرئيسية التي تُميِّز المؤمن الحقيقي، والمُشارك الرئيسي في تنفيذ الأهداف الإسلامية، عن غيره، وكلَّما كان الهدف أوسع وأكبر احتاج إلى تركيز في الإيمان والإخلاص، بشكل أعمق، فكيف لو كان هدفاً عالمياً لم ينله فيما سبق أيُّ قائد كبير ولا نبيٌّ عظيم؟ وإنَّما كان خطُّ الأنبياء والمرسلين، وما نالته البشرية من مظالم، وما أدَّته من تضحيات كلُّها من مُقدِّمات هذا الهدف الكبير وإرهاصاته، وقد كان التخطيط العام السابق على الظهور مُركَّزاً من أجل إنتاج هؤلاء على المستوى المطلوب لهذا الهدف الكبير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٧٥) ص٣٤٣.
(٣٧٦) انظر المصدر المخطوط.

↑صفحة ٢٦٦↑

ومن هنا نطقت الروايات التي سمعناها وغيرها، بمدحهم والثناء عليهم، فهم: (رجال مؤمنون عرفوا الله حق معرفته)، وهم (رهبان بالليل ليوث بالنهار)، وهم (خير فوارس على ظهر الأرض، ومن خير فوارس على ظهر الأرض)، وهم أيضاً (أبدال الشام وعصائب أهل العراق) , و(النُّجباء من مصر).
كل ذلك باعتبار أهمِّيَّتهم التي اكتسبوها من التخطيط العام السابق على الظهور.
وأمَّا أهمِّيَّتهم باعتبار ما سيُشاركون به تحت إمرة القائد المهدي (ع)، من غزو العالم بالعدل، وإقامة الدولة العالمية العادلة، ومُمارسة الحُكم في مناطق الأرض المختلفة، كما سيأتي... فحدّث عن هذه الأهمِّيَّة ولا حرج، فإنَّه الهدف الذي وجِدوا من أجله وكُرِّس التخطيط العام السابق من أجل تنمية قابليَّاتهم عليه.
الجهة الثالثة: في عددهم.
نصَّت الروايات - بشكل مُستفيض يكاد أن يكون متواتراً - أنَّ عددهم بمقدار جيش النبي (ص) في غزوة بدر، ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً،(٣٧٧) كما وردت روايات سمعناها تنصُّ على أنَّ أصحابه لا يقلُّون عن عشرة آلاف رجل، فإنه (ع): (ما يخرج إلاَّ في أُولي قوَّة، وما يكون أُولو قوَّة أقلَّ من عشرة آلاف)، كما نصَّت على ذلك الروايات.
والسرُّ في ذلك يعود إلى اختلاف درجات الإخلاص، التي قسَّمناها إلى أربعة في التاريخ السابق،(٣٧٨) يُنتجها التخطيط العام السابق على الظهور، ولا حاجة إلى تكراراها الآن، وإنَّما المُهمِّ أنَّها تُنتج بصددنا هذا عدَّة نتائج:
النتيجة الأُولى: اختلاف عدد الناجحين في كل درجة؛ لضوح أنَّ درجات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٧٧) قال ابن الأثير في الكامل (ج٢ص٨٢) - خلال حديثه عن غزوة بدر الكبرى -: وكان مسير رسول الله (ص) لثلاث خلون من شهر رمضان، في ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، وقيل: أربعة عشر. وقيل: بضعة عشر رجلاً. وقيل: ثمانية عشر. الخ كلامه.
فقد اختار هو العدد الذي نصَّت عليه الروايات واعتبرته أمراً مُسلَّماً، وربَّما كان مشهوراً بين المسلمين لفترة طويلة من صدر الإسلام.
وفي سيرة ابن هشام (ج٢ص٢٧٤) جاء في تقدير أحد أفراد الجيش المُعادي لجيش رسول الله (ص): إنَّهم ثلاثمئة رجل يزيدون قليلاً وينقصون.
أقول: هذا الرقم التقريبي يُناسب مع الرقم المطلوب، لأنَّهم عنئذ يزيدون على الثلاثمئة بقليل.
(٣٧٨) ص٢٤٨ وما بعدها.

↑صفحة ٢٦٧↑

الإخلاص كلَّما ارتفعت، تطلَّبت قابليَّات أوسع وثقافة أعمق لإحراز النجاح، ومن المعلوم أنَّ الأفراد الأكثر قابلية والأوسع ثقافة أقلُّ في العالم ممَّن هم دونهم... وهكذا.
ومن هنا كان الناجحون من الدرجة الأُولى أقلَّ منهم في الدرجة الثانية، وهم أقلُّ منهم في الدرجة الثالثة، وكلَّما قلَّت درجة الإخلاص زاد عدد القواعد الشعبية المُتَّصفة به.
وقد دلَّتنا هذه الروايات على أنَّ المُخلصين المُمحَّصين من الدرجة الأُولى، مُنحصرون في ذلك الجيل الذي يظهر فيه الإمام المهدي (ع) بثلاثمئة وثلاثة عشرة رجلاً.
على أنَّ الناجحين المُمَّحصين من الدرجة الثانية، لا يقلُّون عن عشرة آلاف شخص في العالم، إن لم يكونوا أكثر.
فهذا هو السبب في اختلاف العدد الذي نطقت به هذه الأخبار، وستأتي في النتائج الآتية إيضاحات أكثر.
النتيجة الثانية: سُرعة التحاقهم بالمهدي (ع) ووصوله إليه... فالثلاثمئة والثلاثة عشر رجلاً يكونون حاضرين في المسجد الحرام في مكَّة، حين خطاب المهدي (ع) وبيعته الأُولى.
على حين أنَّ الباقين يتواردون إلى مكَّة بعد ذلك خلال الأيَّام القليلة القادمة؛ ومن هنا دلَّت الروايات التي سمعناها: أنَّ الإمام المهدي (ع) ينتظر في مكَّة حتى يتكامل لديه عشرة آلاف رجل.
النتيجة الثالثة: سرعة إيمانهم بالمهدي (ع) وسرعة مُبايعتهم له؛ إذ من المعلوم أنَّ الفرد كلَّما كان أعمق إيماناً وأوسع ثقافة يستطيع أن يُفهم قول الحق ويُشخَّص القائد الحق، بشكل أعمق وأسرع؛ ومن هنا سيكون هؤلاء هم الروَّاد الأوائل إلى مُبايعة الإمام المهدي (ع) بعد جبرائيل (ع)، ولربَّما كان جملة منهم يعرفونه في عصر غيبته، كما أسلفنا، فلا يحتاجون معه إلى أيَّة حجَّة ومعجزة.
النتيجة الرابعة: إنَّ هؤلاء سيكونون أول مَن يُدافع عنه، وذلك باعتبار ما دلَّت عليه بعض الروايات.
أخرج المجلسي في البحار،(٣٧٩) بالإسناد عن علي بن الحسين (ع) في ذكر القائم (ع) - يقول فيما قال -: فيقوم هو بنفسه فيقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٧٩) ج١٣ص١٧٩ وما بعدها.

↑صفحة ٢٦٨↑

(أنا فلان بن فلان، أنا بن نبيِّ الله، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه نبيِّ الله. فيقومون إليه ليقتلوه، فيقوم ثلاثمئة ونيِّف على الثلاثمئة، فيمنعونه منه...) الحديث.
فبينما كان (النفس الزكية) حين يُلقي خطابه بين الركن والمقام، رجلاً أعزل ليس له مُدافع، فيثورون عليه فيقتلوه، نجد أنَّ المهدي (ع) يقف في نفس الموضع بعد عدَّة أيَّام، فيخطب، فيثورون عليه ليقتلوه - طبقاً لهذه الرواية - لأنَّ المُنحرفين يكرهون هذا الاتجاه الذي يُمثِّله الحق على كلِّ حال.
غير أنَّ الله تعالى يكون قد رصد للإمام المهدي (ع) مَن يحميه ويُدافع عنه ويُضحِّي من أجله، وهم هؤلاء الرادة الأوائل للثورة العالمية الجديدة.
غير أنَّه من المُلاحَظ أنَّ هذه الرواية وحدها لا تكفي للإثبات التاريخي، غير أنَّ طبائع الأشياء تقتضي صحَّة حدوث مُحاولة القتل هذه، والله العالم.
النتيجة الخامسة: اختلاف أصحاب الإمام المهدي (ع) في الوظائف والأعمال التي توكل إليهم؛ نتيجةً لاختلاف درجاتهم في الإخلاص.
فإنَّ هؤلاء المُمحَّصين الكاملين، سوف يكونون في جيش المهدي (ع) (هم أصحاب الرايات) يعني القوَّاد ورؤساء الفرق، بالاصطلاح الحديث، على حين يكون المُمحَّصون من الدرجة الثانية عامة جيشه الفاتح للعالم بالعدل.
وبعد أن يستتَّب الحُكم العادل للمهدي (ع) على البسيطة، سيكون هؤلاء الخاصة حُكَّاماً في العالم موزَّعين على مجموع الكرة الأرضية، كما سيأتي مُفصَّلاً، على حين لن يكون للمُمحَّصين من الدرجة الثانية هذه المنزلة، بل يتكفَّلون أموراً إدارية أدنى من ذلك.
النتيجة السادسة: أنَّنا نفهم من مجموع الروايات: أنَّ العدد الكافي لغزو العالم بالعدل، الذي أنتجه التخطيط العام السابق على الظهور، والذي كان هو الشرط الأخير من شرائط الظهور وإيجاد اليوم الموعود... ليس العدد الكافي هو وجود ثلاثمئة وثلاثة عشر جندياً، كما قد يتخيَّل الناس من هذه الروايات وتذهب إليه بعض الأفهام الكلاسيكية؛ إذ يفهمون حصر أصحاب المهدي (ع) بهذا العدد.
وإنَّما العدد الكافي لغزو العالم، يتمثَّل في مثل هذا العدد من القوَّاد، والحصر في حقيقته - لو كان مُستفاداً من الروايات - منصبٌّ على ذلك، بقرينة ما عرفناه ونعرفه من

↑صفحة ٢٦٩↑

الروايات الأُخرى الدالة على كونهم قوَّاداً وحكاماً.
يُضاف إلى هؤلاء عدد ضخم من الجيش، لا يقلُّ عن عشرة آلاف شخص في نواته الأُولى عند مبدأ الحركة؛ ومن هنا قالت إحدى الروايات: (ما يخرج إلاَّ في أُولي قوَّة، وما يكون أُولو قوَّة أقلَّ من عشرة آلاف)، فهي تنفي بصراحة أن يكون جيش المهدي مُنحصراً بالثلاثمئة وثلاثة عشر؛ فإنَّهم وحدهم لا يُشكِّلون قوَّة، ولا يكونون كافين في تحقيق الهدف الكبير، وإنَّما هم يقومون بالقيادة والإشراف بالنسبة إلى غيرهم من الناس.
وسنعرف - في مُستقبل البحث - أنَّ عشرة آلاف جندي عدد كافٍ للمهدي (ع) في أول حركته، وكلَّما تتَّسع حركته، فإنَّ جيشه يتَّسع وتتَّضح أهدافه وأسلحته وتتكاثر على ما سوف نرى.
الجهة الربعة: في كيفيَّة وروده إلى مكَّة:
ونواجه حول ذلك أُطروحتين مُحتملتين:
الأُطروحة الأُولى: أنَّ هؤلاء الجماعة يصلون إلى مكَّة بشكل إعجازي، يجعل وصولهم سريعاً جدَّاً، وهذا هو ظاهر قسم من الروايات، ويكاد أن يكون صريح روايات أُخرى.
فهم (يجتمعون في ساعة واحدة، كما تجتمع قَزَع الخريف)، وهم (الفُقداء)، قوم يفقدون من فُرُشهم فيُصبحون بمكَّة (وهو قول الله (عزَّ وجلَّ): (... أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا...)، والاستشهاد بالآية الكريمة في الأخبار بدفع الاستغراب الناتج من تجمُّعهم الإعجازي.
والصريح في ذلك ما صرَّح من الأخبار، بأنَّهم يصلون عن طريق طيِّ الأرض، يعني اختصارها بطريق إعجازي: ففي خبر ابن الصبَّاغ:
(فيصير إليه أنصاره من أطراف الأرض تُطوى لهم طيَّاً، حتى يُبايعوه).
وفي خبر الطبرسي: (فتصير شيعته من أطراف الأرض تُطوى لهم طيَّاً، حتى يُبايعوه).
بل إنَّ ظاهر عدد من الروايات، أنَّ المعجزة تتحكَّم في سرعة وصول الفرد تبعاً لمقدار إخلاصه، فكلَّما كان إخلاصه أعمق أوصله الله تعالى بشكل أسرع، فمن هنا سيكون هؤلاء على عدَّة أقسام:

↑صفحة ٢٧٠↑

القسم الأول: (مَن كان ابتُلي بالمسير)، وهو السفر الأرضي، وظاهر سياق الرواية أنَّه أردأ الأقسام، بالرغم من أهمِّيَّته، فلم يوفَّق إلى الوصول الإعجازي.
القسم الثاني: (المفقودون من فُرُشهم)، يكون الفرد مُستلقياً وهو نائم على فراشه، فيوافيه في مكَّة على غير ميعاد، وظاهر السياق العام: أنَّهم هم الذين تُطوى لهم الأرض، وبذلك فهُم أفضل من القسم الأول.
القسم الثالث: (الذي يسير في السحاب نهاراً)، وهو (يعرف باسمه واسم أبيه ونسبه وحِلْيته)، وهم (الأسرع وصولاً والأعظم إعجازاً...)، فيكون الأفضل من الثلاثة.
وظاهر هذه الروايات أنَّ القسمين الأخيرين لا يكونان إلاَّ من الثلاثمئة والثلاثة عشر من الخاصة، ولكن لا ظهور على أنَّهم جميعاً يصلون بالمعجزة، بل قد يكون منهم مَن يكون من القسم الأول، فيُبتلى بالمسير.
هذا، فضلاً عن غيرهم الذين هُم أقلُّ إخلاصاً، فإنَّ وصولهم عن طريق المعجزة غير مُحتمَل.
الأطروحة الثانية: أنَّهم يصلون إلى مكَّة بطريق السفر الاعتيادي، وقد سبق أن سمعنا كيف يحدث ذلك في وقت واسع، وبأسلوب طبيعي غير مُلفت للنظر.
حيث سمعنا أنَّه يُنادى باسم المهدي (ع) في شهر رمضان، ويكون موعد ظهوره في العاشر من مُحرَّم الحرام، وسيمرُّ خلال هذه الفترة موسم الحجِّ في ذي الحجَّة الحرام.
وحيث يعلم المُخلصون المُمحَّصون حصول الظهور بمكَّة، كما يعلمون بانفصال وقت الظهور عن وقت النداء زماناً ليس بالكثير.
إذن؛ فسوف يُسافر إلى الحج في ذلك العام كل راغب بلقاء الإمام المهدي (ع) مع سائر الحجَّاج، وبعد انتهاء موسم الحج سيختلف هؤلاء في الحجاز، وفي مكَّة على التعيين، بدافع من رغبتهم المُلحَّة في حدوثه، وسيبقون هناك حتى يحصل الظهور في مُحرَّم الحرام.
وبهذا نفهم كيف يحضر الفرد من بلاده البعيدة، بالرغم من أنَّه لا يعلم بنفسه أنَّه من المُخلصين المُمحَّصين الكاملين، كما سبق من أنَّ الفرد لا يعلم انطباق نتيجة التخطيط عليه، غير أنَّه يبقى في مكَّة انطلاقاً من إيمانه وأشواقه، لا نتيجة لمعرفته بحقيقة نفسه.
وبذلك تتمُّ معرفة كيف أنَّ الله يجمعهم من البلاد المُتباعدة (قَزَعاً كقَزَع الخريف)، أي قطعاً كقطع السحاب حين تجتمع في السماء (على غير ميعاد)، لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يعرف أيُّ واحد منهم بمقصود الآخر، وربَّما لا يستطيع أن يسأله عن مقصوده وأن يُخبره بذات نفسه، إلاَّ أنَّ جميعهم في الواقع، مُنتظرون للظهور مؤيِّدون

↑صفحة ٢٧١↑

له بكل ما لديهم من نفس ونفيس.
فإذا ظهر قائدهم، كانوا هم أول سامع لخطابه وأول مُدافع عنه، وأول مُبايع له.
وهم من قبائل مُختلفة، ومن بلدان شتَّى، لا تجمعهم جنسيَّة ولا نسب ولا قبيلة.
إنَّما يكون من كل قبيلة (الرجل والرجلان والثلاثة، حتى يبلغ تسعة)، وهكذا الحق ينطبع على أفراد قلائل على غير تعيين، بحسب ما للفرد من قابليَّات وثقافة لا بحسب جنسيته ولغته ونسبه.
وهم يجتمعون في ساعة واحدة، لا باعتبار أنَّ الطريق إلى مكَّة يستوعب ساعة واحدة فقط - بطيِّ الأرض الإعجازي - فإنَّ المعجزة لا تستغرق أكثر من دقائق، ولا تحتاج إلى ساعة، وإنَّما بمعنى: أنَّ وقت اجتماعهم متوافق في ساعة واحدة يكونون كلُّهم في المسجد الحرام سويَّة، ساعة إلقاء المهدي (ع) خطبته... بغضِّ النظر عن كيفيَّة وصولهم تماماً.
وأمَّا أنَّهم (يفقدون من فُرُشهم)، فباعتبار خروجهم خلسة عن أهلهم وذويهم المُنحرفين، الكارهين للسفر إلى الحق، سواء كان إلى الحج أم إلى المهدي (ع).
وأمَّا السير في السحاب نهاراً، فهو السفر بطريق الجوِّ إلى مكَّة، وهو أيضاً بدوره أُسلوب مُعتاد وطبيعي في الوصول إلى مكَّة.
ولَعَمْرِي، إنَّ هذه الأمور كانت حال صدور هذه الأخبار، وحال تسجيلها في مصادرها الأُولى، أموراً على مستوى المعجزات، إلاَّ أنَّ العصر الحديث عصر السرعة حقَّق ذلك ورفع الاستغراب عنه.
نعم، بقي الإعجاز في حصول الأخبار عن هذه الأُمور، وتسجيلها في المصادر قبل حدوثها بمئات السنين. ولم يكن قانون: (كلِّم الناس على قدر عقولهم)، ليسمح بالتصريح بهذه الحقائق في ذلك العصر من قوَّاد الإسلام الأوائل، بغير هذا الأسلوب.
ونفس الشيء نستطيع أن نفهمه من (طيِّ الأرض)، فإنَّ الانطباع العام عنه وإن كان هو الإعجاز حتى يكون نصَّاً فيه بحسب الذوق العام... إلاَّ أنَّنا يمكن أن نفهم منه - في كل مورد نسمعه في السنة الشريفة - معنى رمزيَّاً لسرعة الانتقال بالوسائط الحديثة،

↑صفحة ٢٧٢↑

وما كان على غرارها في أيِّ عصر ماضٍ ومستقبل، باعتبار أنَّ التصريح بحقيقة الأمر لم يكن مناسباً مع فَهْمِ السامعين الموجودين في عصر صدور هذه الأخبار.
ومن تسلسل هذه الفكرة يمكن أن نفهم الوجه فيما دلَّت عليه بعض الروايات، من أنَّ مَن يسير في السحاب نهاراً أفضل من المفقود في فراشه ليلاً، وذلك؛ لأنَّنا فهمنا أنَّ المفقود من فراشه ليلاً سيتَّخذ طريق البرِّ طريقاً له، على حين يتًَّخذ الآخر طريق الجوِّ، وطريق الجوِّ أسرع وصول، فطبقاً لاحتمال ظهور المهدي (ع) في أيِّ لحظة، يكون الوصول السريع بعد (النداء) أدلَّ على الإخلاص والإيمان؛ لأنَّ فيه توفيراً للوقت الزائد على السفر البرِّي، واستعداداً للظهور بشكل أسرع.
كما يمكن أن نفهم معنى كون الفرد الذي يسير في السحاب نهاراً، معروفاً بحِلْيته واسمه واسم أبيه، فإنَّ ذلك ممَّا يُضبط عادة في سجلاَّت السفر في الدوائر المُختصَّة، وفي الدفتر الذي تُزوِّده به، وإلاَّ فليس المفروض أن يعرفه كل الناس وأغلبهم حتى لو سافر بالطريق الإعجازي، إلاَّ أن تكون المعرفة بالطريق الإعجازي أيضاً.
وليس في الروايات صراحة في أنَّ المفقودين من فُرُشهم، أعني مَن يُسافرون أرضاً، ليسوا معروفين، فإنَّهم لا محالة معروفون لجماعة من الناس، كالآخرين ومُزوَّدون أيضاً بدفتر السفر الذي يحتوي على الصورة والاسم وأسم الأب وغير ذلك.
بقيت حول هذه الأُطروحة الثانية (الطبيعية) بعض الاستفهامات، ينبغي عرضها ونقدها، لتستطيع هذه الأُطروحة أن تقف تجاه الأُطروحة الأُولى (إعجازية).
الاستفهام الأول: إنَّ ظاهر عدد من الروايات، أنَّ الجميع يصلون سويَّة في صباح يوم واحد مُشترَك، يكون - في الأكثر - هو اليوم الذي يحصل الظهور خلاله، وفي مسائه، على ما في بعض الروايات، وهذا لا يمكن تفسيره إلاَّ بالمفهوم الإعجازي، فكيف نوافق بينها وبين الأُطروحة الثانية؟!
وجوابه: (إنَّ كلا الانطباعين وإن كانا يردَّان إلى الخيال عند استعراض الروايات، إلاَّ أنَّ استظهارهما منها محل المناقشة، فإنَّ الروايات قالت: (منهم مَن يُفقَد عن فراشه ليلاً فيُصبح بمكَّة).
وهذا صحيح بالنسبة إلى الفرد الواحد، باعتبار سرعة الواسطة التي تحمله، وأمَّا إن كان كل الأفراد يصلون في صباح يوم واحد، فهذا ممَّا لا دليل عليه.
وأمَّا بالنسبة إلى الانطباع الآخر، وهو أنَّهم يجتمعون في يوم الظهور، دون الأيام

↑صفحة ٢٧٣↑

السابقة عليه، فكل ما سمعناه من الروايات أنَّها تقول: (فتصير شيعته من أطراف الأرض، حتى يُبايعوه)، وتقول: (وقد وافاه ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، فيُبايعونه)، وهي غير دالَّة على ذلك كما هو واضح... إذ يُناسب أن يصلوا في يوم، ويُبايعونه في يوم آخر مهما كان هذا اليوم بعيداً.
الاستفهام الثاني: إنَّ الأُطروحة الأُولى الإعجازية، موافقة لقانون المعجزات؛ لأنَّ مجيئهم الإعجازي السريع في وقت ضيِّق نسبيَّاً، هو الأوفق بنجاحهم في مُهمَّتهم، ومن ثمَّ نجاح المهدي (ع) نفسه، فيكون المجيء الإعجازي دخيلاً في نجاح الدولة العالمية العادلة نفسها، فيكون قيام المعجزة ضرورياً لذلك؛ لأنَّها بحسب قانونها تقوم حينما يتوقَّف عليها الهدف العادل وتطبيق الهُدى والحق، الأمر الآن على ذلك.
وبذلك تترجَّح الأُطروحة الأُولى، فكيف ولماذا نُرجِّح الأُطروحة الثانية؟
وجواب ذلك: إنَّ قانون المعجزات دلَّنا على أنَّ المعجزة إنَّما تقوم إذا انحصر طريق إقامة الحق والعدل بالمعجزة، وأمَّا إذا كان هناك أُسلوبان، كلاهما موصِل إلى نفس النتيجة، احدهما طبيعي، والآخر إعجازي، لم تحدث المعجزة، بل أوكِلت النتيجة إلى الأسلوب الطبيعي لإنتاجها، وإن كان يستغرق وقتاً أكبر وجهداً أكثر، وقد استنتجنا من ذلك عدَّة نتائج في التاريخ السابق.
وقلنا هناك: إنَّ كل ظهور في الروايات وغيرها، يُخالف هذا القانون، ينبغي الاستغناء عنه وعدم الاعتماد عليه.
والحال بالنسبة إلى هؤلاء الخاصة كذلك، فإنَّ الأطروحة (الطبيعية) لا قصور فيها عن إنتاج النتيجة، وهو مؤازرة المهدي (ع) ودعم حركته، فإنَّ المُهمَّ وجودها جميعاً حال إلقائه الخطبة، التي هي أول لحظات الظهور، وأمَّا الذي لم يحدث لهم قبل ذلك، فهذا لا يزيد ولا يُنقص في الأمر شيئاً إذا أُحرزت حياتهم إلى ذلك الحين، وسنعرف عدم تعرُّض أحد منهم للقتل.
فإذا كانت الأطروحة الطبيعية مُنتِجة للمطلوب، كانت هي المُتعيِّنة ضدَّ الأطروحة الإعجازية؛ لأنَّ المعجزة لا تقوم مع إمكان الإنتاج بالطريق الطبيعي، وكل ظهور في الروايات يقف ضدَّ ذلك لا بدَّ من الاستغناء عنه.
الجهة الخامسة: في جنسيَّات هؤلاء الثلاثمئة والثلاثة عشر، بمعنى تعيين بلدانهم التي كانوا فيها قبل حضورهم إلى مكَّة، واللغات التي ينتسبون إليها.

↑صفحة ٢٧٤↑

ويحسن بنا - أولاً - أن نتذَّكر بعض العبارات التي تمَّت إلى ذلك من الروايات السابقة، ونُضيف إليها روايات أخرى، لنعرف الموضوع بوضوح.
قالت الروايات: (فيأتيه ناس من أهل مكَّة فيُخرجونه... أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق)، و(يخرج ناس من المشرق فيوطِّئون للمهدي سلطانه)، و(الرجل والرجلان والثلاثة من كل قبيلة، حتى يبلغ تسعة)، و(أصحاب القائم ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً أولاد العَجم).
وأخرج النعماني،(٣٨٠) بسنده إلى أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله الصادق (ع)، أنَّه قال: (سيبعث الله ثلاثمئة وثلاثة عشر إلى مسجد مكَّة، يعلم أهل مكَّة أنَّهم لم يولدوا من آبائهم ولا أجدادهم) الحديث.
وأخرج الشيخ(٣٨١) عن الفضل بن شادان، بسنده عن جابر الجعفي، قال أبو جعفر(ع): (يُبايع القائم بين الركن والمقام ثلاثمئة ونيِّف، عدَّة أهل بدر، فيهم النُّجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام، والأخيار من أهل العراق...) الحديث.
وأخرج السيوطي في الحاوي(٣٨٢) عن الطبراني في الأوسط والحاكم، عن أمِّ سلمة قالت: قال رسول الله (ص): (يُبايع لرجل بين الركن والمقام عدَّة أهل بدر، فيأتيه عصائب أهل العراق وأبدال أهل الشام...) الحديث.
وفي حديث آخر:(٣٨٣) (الأبدال من الشام وعصب أهل المشرق) الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٨٠) غيبة النعماني ص١٦٩.
(٣٨١) غيبة الشيخ الطوسي ص٢٨٤.
(٣٨٢) انظر ص١٢٩.
(٣٨٣) ص١٣٧ منه.

↑صفحة ٢٧٥↑

وأخرج أيضاً(٣٨٤) عن أبي غنم الكوفي في كتاب الفتن، عن علي بن أبي طالب، قال: (وَيْحَاً للطالقان! فإنَّ لله فيه كنوزاً ليست من ذهب ولا فضَّة، ولكن بها رجال عرفوا الله حقَّ معرفته، وهم أنصار المهدي في آخر الزمان).
ورواه الكنجي في البيان،(٣٨٥) عن ابن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح، ونقله القندوزي في الينابيع(٣٨٦) عن الكنجي.
ونقله عنه أيضاً في موضع آخر من الينابيع(٣٨٧) بلفظ مُقارب.
وهناك بعض الروايات التي تحمل أسماء أصحاب المهدي (ع) وأسماء مُدنهم تفصيلاً، ينبغي أن نذكر بعض نماذجها؛ لأجل أن نفهمها بعد ذلك فَهْماً مُتكاملاً.
أخرج ابن طاووس في الملاحم والفتن،(٣٨٨) عن أبي صالح السليلي في كتاب الفتن، من عدد رجال المهدي (ع) بذكر بلادهم، ثمَّ ذكر السند إلى الأصبغ بن نباتة، قال: خطب أمير المؤمنين علي (ع) خطبة، فذكر المهدي وخروج مَن يخرج معه وأسماءهم.
فقال له أبو خالد الحلبي: صفه لنا يا أمير المؤمنين!
فقال علي (ع): (ألا إنَّه يُشبه الناس خلقاً وخُلقاً وحُسناً برسول الله (ص)، ألا أدلُّكم على رجاله وعددهم؟!).
قلنا: بلى يا أمير المؤمنين.
قال: (سمعت رسول الله (ص) قال: أوَّلهم من البصرة وآخرهم من اليمامة)، وجعل علي (ع) يعدد رجال (المهدي) (ع) والناس يكتبون، فقال: (رجلان من البصرة، ورجلان من الأهواز، ورجل من عسكر مكرم، ورجل من مدينة تُستر، ورجل من دورق، ورجل من الباستان (لعلَّها: الباكستان)، واسمه علي، وثلاثة... من اسمه (لعلَّها: أسمرة)، أحمد وعبد الله وجعفر، ورجلان من عمان، محمد والحسن، ورجلان من سيراف، شدَّاد وشديد، وثلاثة من شيراز، حفص ويعقوب وعلي،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٨٤) ص١٦١ منه.
(٣٨٥) انظر ص٦٩.
(٣٨٦) ينابيع المودَّة ص٥٨٩ غير أنَّه قال: (رجال معروفون، وهم عرفوا الله). الحديث.
(٣٨٧) المصدر ص٥٣٨.
(٣٨٨) ص١١٩ وما بعدها.

↑صفحة ٢٧٦↑

وأربعة من أصفهان، موسى وعلي وعبد الله وغلفان، ورجل من أبدح واسمه يحيى، ورجل من المرج (العرج) واسمه داود، ورجل من الكرخ واسمه عبد الله، ورجل من بروجرد واسمه قديم، ورجل من نهاوند واسمه عبد الرزاق، ورجلان من الدينور، عبد الله وعبد الصمد، وثلاثة من همدان، جعفر وإسحاق وموسى، وعشرة من قم، أسماؤهم على أسماء أهل بيت رسول الله (ص)، ورجل من خراسان اسمه دريد، وخمسة من الذين أسماؤهم على أهل الكهف، ورجل من آمل، ورجل من جرجان، ورجل من هراة، ورجل من بلخ، ورجل من قراح، ورجل من عانة، ورجل من دامغان، ورجل من سرخس، وثلاثة من اليسار، ورجل من ساوة، ورجل من سمرقند، وأربعة وعشرون من الطالقان، وهم الذين ذكرهم رسول الله (ص)، وفي خراسان(٣٨٩) كنوز لا ذهب ولا فضَّة، ولكن رجال يجمعهم الله ورسوله، ورجلان من قزوين، ورجل من فارس، ورجل من أبهر، ورجل من برجان (لعلها جرجان)، ورجل من جموح، ورجل من شاخ، ورجل من صريح، ورجل من أردبيل، ورجل من مراد، ورجل من تدمر، ورجل من أرمينية، وثلاثة من المراغة، ورجل من خوي، ورجل من سلماس، ورجل من أردبيل (مكرر في الرواية)، ورجل من بدليس، ورجل من نسور، ورجل من بركري، ورجل من سرخيس، ورجل من من أرجرد (لعلَّها: بروجرد)، ورجل من قلقيلا، وثلاثة من واسط، وعشرة من الزوراء، ورجل من السراة، ورجل من النيل، ورجل من صيداء، ورجل من جرجان، ورجل من القصور، ورجل من الأنبار، ورجل من عكبرا، ورجل من الحنَّانة، ورجل من تبوك، ورجل من الجامدة، وثلاثة من عبادان، وستَّة من حديثة الموصل، ورجل من الموصل، ورجل من معلثاي، ورجل من نصيبين، ورجل من كازرون، ورجل من فارقين (أقول أصله: ميا فارقين)، ورجل من آمد، ورجل من رأس العين، ورجل من الرقَّة، ورجل من حرَّان، ورجل من بالس، ورجل من قبج.. ثلاثة من طرطوس، ورجل من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٨٩) قوله: (كنوز لا ذهب ولا فضَّة)، ورد بالنسبة إلى الطالقان في الرواية السابقة، لا بالنسبة إلى خراسان، فلعلَّ قوله: وفي خراسان هنا زائد، والعبارة تنسجم بدونه.

↑صفحة ٢٧٧↑

القصر، ورجل من أدنة (لعلَّها أدرنة)، ورجل من خمرى (أقول أصلها: باخمرى)، ورجل من عرار (لعلَّها: عرعر)، ورجل من قورص (لعلَّها: قبرص)، ورجل من أنطاكية، وثلاثة من حلب، ورجلان من حمص، وأربعة من دمشق،... ورجل من سورية، ورجلان من قسوان (لعلَّها: أسوان)، ورجل من قيموت (لعلَّها: بيروت)، ورجل من كراز ورجل من أذرح، ورجل من عامر، ورجل من دكار، ورجلان من بيت المقدس، ورجل من الرملة، ورجل من بالس (مكرَّر)، ورجلان من عكَّا، ورجل من صور، ورجل من عرفات، ورجل من عسقلان، ورجل من غزَّة، وأربعة من الفسطاط، ورجل من قرميس، ورجل من دمياط، ورجل من المحلة، ورجل من الإسكندرية، ورجل من برقة، ورجل من طنجة، ورجل من الإفرنجة (يعني أوروبا بلاد الإفرنج، وفرنسا خاصة)، ورجل من القيروان، وخمسة من السوس (لعلَّها: الشرق الأقصى)، ورجلان من قبرص، وثلاثة من حميم قوص، ورجل من عدن، ورجل من علالي، وعشرة من مدينة الرسول (ص) وأربعة من مكَّة، ورجل من الطائف، ورجل الدير، ورجل من الشيروان ورجل من زبيد، وعشرة من مرو، ورجل من الإحساء، ورجل من القطيف، ورجل من هجر، ورجل من اليمامة - قال علي عليه الصلاة والسلام: - أحصاهم لي رسول الله (ص) ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، بعدد أصحاب بدر، يجمعهم الله من مشرقها إلى مغربها).
فهؤلاء حوالي المئتين والأربعين فرداً، وهو ينقص عن العدد المطلوب بتسعين.
وهناك رواية تذكرهم بكاملهم وتذكر أسماءهم ومدنهم، يحسن بنا أن نذكرها بالرغم من طولها، لنتوفَّر على المقارنة بين الروايتين.
روي في إلزام الناصب،(٣٩٠) بسند ضعيف عن عبد الله بن مسعود، رفعه إلى علي بن أبي طالب: لمَّا تولى الخلافة... أتى البصرة فرَقِيَ جامعها وخطب الناس... وهي آخر خُطبة خطبها (وتُسمَّى خطبة البيان، وهي لها نسختان، وهذا النصُّ مطابق لأحد النسختين، كما ذكر في المصدر).
أقول: بين النسختين اختلاف كبير جدَّاً، ونحن ننقل منها بمقدار الحاجة من النسخة الأُولى:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٩٠) ص١٩٣ وما بعدها إلى عدَّة صفحات، ط إيران.

↑صفحة ٢٧٨↑

(اسمعوا أُبيِّن لكم أسماء أنصار القائم! إنَّ أوَّلهم من أهل البصرة وآخرهم من الأبدال، فالذين من أهل البصرة رجلان، اسم أحدهما علي والآخر محارب، ورجلان من قاشان، عبد الله وعبيد الله، وثلاثة رجال من المهجمة، محمد وعمر ومالك، ورجل من السند، عبد الرحمان، ورجلان من حجر (لعلَّها: هَجَر)، موسى وعباس، ورجل من الكورة، إبراهيم، ورجل من شيراز عبد الوهاب، وثلاثة رجال من سعداوة، أحمد ويحيى وفلاح، وثلاثة رجال من زين، محمد وحسن وفهد، ورجلان من حمير، مالك وناصر، وأربعة رجال من سيروان، وهم عبد الله وصالح وجعفر وإبراهيم، ورجل من عقر، أحمد، ورجلان من المنصورية، عبد الرحمان وملاعب، وأربعة رجال من سيراف، خالد ومالك وحوقل وإبراهيم، ورجلان من خوفج (لعلَّها خوي)، محروز ونوح، ورجل من المثقة، هارون، ورجلان من السنن (لعلَّها السند)، مقداد وهود، وثلاثة من رجال الهويقين، عبد السلام وفارس وكليب، ورجل من الزناط، جعفر، وستَّة رجال من عمان، محمد وصالح وداود وهواشب وكوش ويونس، ورجل من العارة (لعلَّها: عانة)، مالك، ورجلان من ضفار يحيى وأحمد، ورجل من كرمان، عبد الله، وأربعة رجال من صنعاء، جبرائيل وحمزة ويحيى وسميع، ورجلان من عدن، عون وموسى، ورجل من لونجة كوثر، ورجلان من صمد (لعلَّها: صفد)، علي وصالح، وثلاثة رجال من الطائف، علي وسبا وزكريا، ورجل من هجر، عبد القدوس، ورجلان من الخطِّ، عزيز ومبارك، وخمسة رجال من جزيرة آوال، وهي البحرين، عامر وجعفر ونصير وبكير وليث، ورجل من الكبش، فهد (محمد)، ورجل من الجدَّا، إبراهيم، وأربعة رجال من مكَّة، عمر وإبراهيم ومحمد وعبد الله، وعشرة من المدينة، على أسماء أهل البيت، علي وحمزة وجعفر وعباس وطاهر وحسن وحسين وقاسم وإبراهيم ومحمد، وأربعة رجال من الكوفة، محمد وغياث وهود وعتاب (عباب)، ورجل من مرو، حذيفة، ورجلان من نيشابور، علي ومهاجر، ورجلان من سمرقند، علي وجاهد، وثلاثة رجال من كازرون، عمر ومقمر ويونس،

↑صفحة ٢٧٩↑

ورجلان من الأسوس، شيبان وعبد الوهاب، ورجلان من دستر، أحمد وهلال، ورجلان من الضيف، عالم وسهيل، ورجل من طائف اليمن، هلال، ورجلان من مرقون، بشر وشعيب، وثلاثة رجال من بروعة، يوسف وداود وعبد الله، ورجلان من عسكر مكرم، الطيِّب وميمون، ورجل من واسط، عقيل، وثلاثة رجال من الزوراء، عبد المطَّلب وأحمد وعبد الله، ورجلان من سرَّ مَن رأى، مرائي وعامر، ورجل من المسهم (المتهم)، جعفر، وثلاثة رجال من سيلان، نوح وحسن وجعفر، ورجل من كرخ بغداد، قاسم، ورجلان من نوبة، واصل وفاضل، وثمانية رجال من قزوين، هارون وعبد الله وجعفر وصالح وعمر وليث وعلي ومحمد، ورجل من البلخ، حسن، ورجل من المداغة (لعلًَّها: المراغة) صدقة، ورجل من قم، يعقوب، وأربعة وعشرون من الطالقان، وهم الذين ذكرهم رسول الله (ص) فقال: أجد بالطلقان كنز ليس من الذهب ولا فضَّة (الفضة). فهم هؤلاء كنزهم الله فيها، وهم صالح وجعفر ويحيى وهود وفالح وداود وجميل وفضيل وعيسى وجابر وخالد وعلون وعبد الله وأيوب وملاعب وعمر وعبد العزيز ولقمان وسعد وقبضة ومهاجر وعبدون وعبد الرحمان وعلي، ورجلان من سحار، أبان وعلي، ورجلان من شرخيس، ناحية وحفص، ورجل من الأنبار، علوان. ورجل من القادسية، حصين، ورجل من الدورق، عبد الغفور، وستَّة رجال من الحبشة، إبراهيم وعيسى ومحمد وحمدان وأحمد وسالم، ورجلان من الموصل، هارون وفهد، ورجل من بلقا، صادق، ورجلان من نصيبين، أحمد وعلي، ورجل من سنجار، محمد، ورجلان من خرسان (لعلَّها: خراسان)، نكبة ومنسون، ورجلان من أرمينية، أحمد وحسين، ورجل من أصفهان، يونس، ورجل من وهان (لعلَّها: وهران) حسين، ورجل من الريِّ، مجمع، ورجل من دنيا، شعيب، ورجل من هراش، نهروش، ورجل من سلماس، هارون ورجل من بلقيس، محمد، ورجل من الكرد، عزن، ورجل من الحبش، كثير، ورجلان من الحلاط، محمد وجعفر، ورجل من الشوبا، عمير، ورجلان من البيضا، سعد وسعيد، وثلاثة رجال من الضيعة، زيد وعلي وموسى، ورجل من أوس، محمد، ورجل من الأنطاكية، عبد الرحمان،

↑صفحة ٢٨٠↑

ورجلان من حلب، صبيح ومحمد، ورجل من حمص، جعفر، ورجلان من دمشق، داود وعبد الرحمان. ورجلان من الرملية (لعلَّها: الرميلة)، طليق وموسى، وثلاثة رجال من بيت المقدس، بشر وداود وعمران، وخمسة رجال من غسقان (لعلَّها: عسفان)، محمد ويوسف وعمر وفهد وهارون، ورجل من غزَّة، عمير، ورجلان من عكَّة (عكَّا) مروان وسعد، ورجل من عرفة، فرخ، ورجل من الطبرية، فليح، ورجل من البلسان، عبد الوارث، وأربعة من القسطاط (لعلَّها الفسطاط) من مدينة فرعون لعنه الله، أحمد وعبد الله ويونس وظاهر، ورجل من بالس، قيصر، وأربعة رجال من الإسكندرية، حسن ومحسن وشبيل وشيبان، وخمسة رجال من جبل اللكام، عبد الله وعبيد الله وقادم وبحر وطالوت، وثلاثة رجال من السادة، صلب وسعدان وصبيب، ورجلان من الإفرنج، علي وأحمد، ورجلان من اليمامة، ظافر وجميل، وأربعة عشر رجلاً من المعادة، سويد وأحمد ومحمد وحسن ويعقوب وحسين وعبد الله وعبد القديم ونعيم وعلي وحيَّان وظاهر وتغلب وكثير، ورجل من المرطة، معشر، وعشرة رجال من عبادان، حمزة وشيبان وقاسم وجعفر وعمر وعامر وعبد المُهيمن وعبد الوارث ومحمد وأحمد، وأربعة عشر من اليمن، جبير وحويش ومالك وكعب وأحمد وشيبان وعامر وعمار وفهد وعاصم وحجرش وكلثوم وجابر ومحمد، ورجلان من بدو مصر، عجلان ودواج، وثلاثة رجال من بدو عقيل، منبه وضابط وعريان، ورجل من بدو أغير، عمر، ورجل من بدو شيبان، نهرش، ورجل من تميم، ريَّان، ورجل من بدو قين، جابر، ورجل من بدو كلاب، مطر، وثلاثة رجال من موالي أهل البيت، عبد الله ومخنف وبراك، وأربعة رجال من موالي الأنبياء، صباح وصياح وميمون وهود، ورجلان مملوكان، عبد الله وناصح، ورجلان من الحِلَّة، محمد وعلي، وثلاثة رجال من كربلاء، حسين وحسين وحسن، ورجلان من النجف، جعفر ومحمد، وستَّة رجال من الأبدال، كلهم أسماؤهم عبد الله...) الحديث.
وينبغي أن نتحدَّث عن هذه الروايات ضمن عدَّة نواحي:
الناحية الأُولى: تحتوي هاتان الروايتان الأخيرتان على عدَّة من نقاط الضعف:
النقطة الأُولى: إنَّهما معا ضعيفتان سنداً، والثانية تزيد على ذلك بأنَّها مرفوعة،

↑صفحة ٢٨١↑

والمرفوع ما يكون محذوف بعض رواته مرسولاً، فلا يكون قابلاً للإثبات.
النقطة الثانية: إنَّ لخُطبة البيان نسختين غير مُتشابهتين، يكفينا أنَّه ليس في النسخة الثانية تعرُّض لأنصار الإمام المهدي (ع)، وإنَّما تُعدِّد أسماء الحُكَّام الذين يوزعهم على العالم، ونحن لا نعلم أنَّ أيَّ النصَّين والنسختين هي الصادرة عن أمير المؤمنين (ع)، فيكون كلاهما ساقطاً عن قابلية الإثبات.
النقطة الثالثة: إنَّ عدداً من المُدن والأماكن المذكور فيها غير معروف، وينبغي أن نلتفت أنَّ للخطأ المطبعي والكتابي دَخْلاً كبيراً في تغيير أسماء البلدان، مضافاً إلى صعوبة الضبط خلال كتابة الخُطبة، في مثل القوائم المُفصَّلة، مع تشابه الأسماء وتفرُّق البلدان.
هذا، ولعلَّ بعضها قُرى منعزلة غير معروفة، وبعضها معروف ولكنَّه بائد الآن تماماً.
ولعلَّ بعضها مُدن ستوجد في المُستقبل، لا نعلم الآن منها شيئاً!!
النقطة الرابعة: إنَّ هاتين الروايتين بالرغم من التقائهما في عدد من المضامين، إلاَّ أنَّها تحتوي على عدد من نقاط التعارض، كما لا يخفى على القارئ عند المقارنة.
النقطة الخامسة: توجد بعض الروايات الأُخرى الناقلة لأسماء أنصار الإمام المهدي (ع)، وهي تختلف أيضاً مع كلتا الروايتين، في أسماء المدن وأسماء الأشخاص معاً، وإن اتَّفقت معهما على بعض الأمور الرئيسية، كعدد الطالقانيين في هؤلاء الخاصة.
ومهما يكن شأن تلك الروايات التي لا نُحبُّ الإطالة بذكرها، فإنَّها تُعارض كلتا هاتين الروايتين في عدد من مضامينهما... فتكون قابلية هاتين الروايتين وتلك المُشار إليها، للإثبات التاريخي أقرب للوهن والسقوط.
ولكنَّنا إذا أردنا أن نُكوِّن عن جنسيَّات أصحاب الإمام المهدي فَهْمَاً مُعيَّناً لا بدَّ أن نغضَّ النظر عن هذه النقاط... وإلاَّ كان الطريق إلى فَهْم ذلك مُنسداً تقريباً، وإن كان الجهل بذلك لا يحتوي على إسفاف تاريخي وعقائدي.
الناحية الثانية: لا يخفى وجود نقطتين للقوَّة في هذه الروايات، ونظرنا إلى هذا الاستدلال بها، لو ضممنا إلى الروايتين الأخيرتين مع مُعطيات الروايات، ونظرنا إلى هذا المجموع كلِّه.
النقطة الأُولى: اشتراك مضمون كل من الروايتين الأخيرتين مع مُعطيات الروايات الأُخرى... إذا لوحظت الروايتان كل على حدة.
النقطة الثانية: إنَّ هناك عدد من المُعطيات مشترك بين هاتين الروايتين، ومشترك في

↑صفحة ٢٨٢↑

نفس الوقت مع مضمون بعض الروايات السابقة، وإذا أصبح المضمون مُتسالماً عليه بهذا الشكل، فمن الممكن القول: بأنَّه ثابت تاريخياً ومُتجاوز نقاط الضعف السابقة، باعتبار تسالم عدد من الروايات على صحَّته، وسنرى لكل من هاتين النقطتين فيما يلي:
الناحية الثالثة: أنَّنا بملاحظة مجموع الروايات الناقلة لجنسيَّات أصحاب الإمام المهدي (ع) يمكن أن نصل إلى النتائج التالية:
النتيجة الأُولى: إنَّ مضمون (حديث الطالقان) مروي عن النبي (ص) من كلا الفريقين، وإن اختلف بعض ألفاظه.
النتيجة الثانية: إنَّ مقدار الكنز الذي بشَّر به النبي (ص) وامتدحه، في الطالقان، مُكوَّن من أربعة وعشرين رجلاً، فإنَّ ذلك ممَّا تسالمت عليه جميع الروايات الناقلة لأسماء هؤلاء الأصحاب، بالرغم من اختلافاتها الأُخرى.
النتيجة الثالثة: إنَّ مصر والشام والعراق من جملة البلاد التي تحتوي على عدد من هؤلاء الخاصة، فقد ذكرت ذلك على وجه الإجمال الروايات من الفريقين، كما ذكرت الروايات المُكرِّسة لأسمائهم عدداً من مدن هذه البلاد وأنَّ في كل منها جماعة منهم.
النتيجة الرابعة: نصَّت الروايات التي سمعناها على أنَّ هؤلاء يجتمعون من مُختلف بقاع العالم... وهذا هو نفس المُعطى الذي توحيه الروايات المُكرِّسة لأسمائهم.
النتيجة الخامسة: إنَّ الأعمَّ الأغلب من هؤلاء الخاصة، هم من المشرق الأوسط الذي كان هو الموقع الرئيسي لخطِّ الأنبياء والمُرسلين، والمنطلق الأهمَّ للتخطيط الإلهي، فمصر سوف تُرسِل من عدد من مُدُنها (نجباء)... والعراق سوف تُعطي عدداً آخر (أخياراً) وخاصة من البصرة والكوفة والنجف... والشام تبعث أبدالاً وخاصة من دمشق نفسها، وإن كان عنوان الشام في الأخبار شاملاً لكلٍّ من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، والحجاز سوف تُشارك في هذا المَجْد العظيم بأفراد من مدينتيها المُقدَّستين: مكَّة المُكرَّمة، والمدينة المُنوَّرة، وغيرهما.
و(المشرق) سوف يُشارك أيضاً في هذه المُهمَّة الجليلة، كما نصَّت على ذلك الروايات الموجَّزة والروايات المُطوَّلة معاً، فإنَّه عنوان ينطبق على ما كان في شرق المنطقة المُشار إليها، أعني في شرق العراق على وجه التحديد، وهو يشمل إيران على الخصوص، والمنطقة الشاملة لأفغانستان وباكستان والجمهوريات المسلمة في الاتِّحاد السوفيتي على العموم، وقد عدَّدت الروايات المُطولَّة عدداً من مدن هذه المنطقة، وإن كان أغلبها من

↑صفحة ٢٨٣↑

إيران خاصة.
النتيجة السادسة: إنَّ سائر مناطق العالم سوف تُشارك في هذه المُهمَّة، ولكن على نطاق أضيق.
وإنَّ أوسع المناطق مُشارَكة بعد المناطق السابقة هو الشمال الأفريقي المُسلم، وتليه إفريقيا السوداء، وهنالك أفراد من اليمن وشرق الجزيرة العربية، ومن أوروبا وقبرص، ومن الشرق الأقصى، وهذا ما تدلُّ عليه الروايات المطوَّلة من الخصوص، وما دلَّ من الروايات على أنَّ أصحاب المهدي (ع) يجتمعون في كل مناطق العالم.
الناحية الرابعة: إذا اعتبرنا اتِّفاق الروايتين الأخيرتين، قابلاً للإثبات التاريخي.
أمكننا أن نُلاحِظ ما يلي:
أولاً: اتَّفقت الروايتان على نسبة قليلة من المُدن، فبينما ذكرت الرواية الأُولى مئة وستَّاً وعشرين مدينة، والثانية: مئة وستَّ مدن مع أنساب وعناوين أُخرى... نراهما يتَّفقان في تسمية خمس وثلاثين مدينة فقط. وهي نسبة تقلُّ عن الثُّلث في كلتا الرواتين.
ثانياً: لأجل الحقيقة، وتسهيلاً على القارئ نذكر المُدن المُتَّفق عليها البصرة، عسكر مكرم، عمان، سيراف، شيراز، أصفهان، الكرخ، قم، الطالقان، قزوين، أرمينية، الزوراء، عبادان، الموصل، نصبين، نابلس، حلب، حمص، دمشق، بيت المقدس، غزة، الفسطاط الإسكندرية، الإفرنج، عدن، المدينة، مكَّة، الطائف، مرو، هجر عرفات (عرفة)، رملة (رملية) عكَّا، أنطاكية، اليمامة.
ثالثاً: اختلفت الروايتان في العدد الذي يخرج من هذه المُدن.... فيما عدا إحدى عشر مدينة، هي كما يلي: البصرة اثنان، الطالقان أربع وعشرون، بالس واحد، عرفات واحد، الفسطاط أربعة، المدينة المنوَّرة عشرة، مكَّة المُكرَّمة أربعة، هَجر واحد، عكر اثنين. أنطاكية واحد.
رابعاً: أهملت الرواية الثانية عدداً من المُدن المُهمَّة التي ذكرتها الرواية الأُولى، والتي يبعد أن لا يوجد أحد من الخاصة، نذكر على سبيل المثال: بروجرد، ونهاوند، وهمدان، وخرسان، وأردبيل، وصيدا، وصور، والإحساء والقطيف، ودمياط، والقيروان.
وأهملت الرواية الأُولى عدداً من المُدن المُهمَّة أيضاً، ممَّا ذكرته الرواية الثانية: كعمان، وقاشان، وسمرقند، وبغداد، وكربلاء، والنجف، والكوفة، وعكَّا، والبحرين، واليمن.

↑صفحة ٢٨٤↑

ويُعتبر هذا من نقاط الضعف في هاتين الروايتين.
الناحية الخامسة: هناك بعض الاستفهامات حول هذه الروايات، نذكر أهمَّها، خشية التطويل:
الاستفهام الأول: دلَّت بعض الروايات السابقة على أنَّ هؤلاء الخاصة هم (أولاد العَجم)... فهل يمكن الأخذ بذلك؟
وجوابه: أنَّنا بعد أن نُلفت الانتباه إلى أنَّ المراد من العَجم غير العرب عموماً لا خصوص الفرس، نجد نسبة عالية من المُدن المذكورة في كل من الروايتين المُطوَّلتين هي مُدن غير عربية، وأنَّ الأهمَّ منهم - وهم الطالقانيُّون - من العَجم، غير أنَّ هذه النسبة لن تزيد على النصف كثيراً، بل لعلَّها أقلُّ، كما يتَّضح عند الإحصاء والمُقارنة.
ومعه؛ لا يمكن الالتزام بظاهر تلك الرواية بأنَّ كلَّهم وأغلبهم من العَجم، فإنَّ فيهم من العرب نسبة عالية بكل تأكيد على أنَّ اللغة غير مُهمَّة بإزاء الدفاع عن الحق وتوطيد الهدف العادل.
الاستفهام الثاني: دلَّ الخبر الذي أخرجه أبو داود وغيره، على أنَّ أهل مكَّة الذين يُخرِجون المهدي (ع) ويُبايعونه، وظاهره أنَّ جميعهم من أهل مكَّة، فهل يمكن الالتزام بذلك؟
وجوابه: إنَّه كان المراد من أهل مكَّة: مَن يكون فيها يومئذ، فهذا صحيح؛ لأنَّ جميع الخاصة سوف يكونون فيها، فيكونون من أهلها بهذا المعنى، مهما كانت بلدانهم السابقة.
وإن كان المُراد سكَّانها الاعتياديُّون، كما هو مفهوم عادة من اللفظ، أعني (أهل مكَّة)... فهو غير صحيح، فإنَّ آحاداً منهم من أهلها، غير الكثرة الكاثرة منهم ليسوا منهم على أيِّ حال، يدلُّ على ذلك ما في الخبر نفسه من أنَّ منهم (أبدال الشام وعصائب أهل العراق)، وأنَّ منهم (ناس من المشرق)، وأنَّ منهم (الرجل والرجلان والثلاثة من كل قبيلة...)، وليست القبائل كلُّها في مكَّة.
مضافاً إلى الرواتين المُطوَّلين، اللتين دلَّتا على أنَّ جميعهم ما عدا أربعة فقط من غير أهل مكَّة إذا أضفت إلى ذلك الخبر الذي سمعناه عن أبي عبد الله الصادق (ع):

↑صفحة ٢٨٥↑

(سيبعث الله ثلاثمئة وثلاثة عشر إلى مسجد مكَّة، يعلم أهل مكَّة أنَّهم لم يولَدوا من آبائهم ولا أجدادهم).
وظاهره أنَّهم جميعاً ليسوا من أهل مكَّة، غير أنَّ التنزُّل عن هذا الظاهر في أربعة فقط، غير عسير.
مضافاً إلى ما سنسمعه - غير بعيد - من أنَّ وجود هؤلاء في مكَّة سيُشكِّل (مشكلة قانونية) بصفتهم غُرباء لم يدخلوا بترخيص من الجهات الحاكمة، كما دلَّت عليه الأخبار، فلو كانوا من أهل مكَّة، لم يكن لهذه المشكلة أيُّ موضوع.
الاستفهام الثالث: هل أنَّ وجود بعض هؤلاء الخاصة في مدينة ما، يُعتبر شرفاً وفضيلة لتلك المدينة، أم لا؟
وجوابه: أنَّه لا شكَّ أنَّ هذه جهة مُعيَّنة مُهمَّة جدَّاً بالنسبة إلى أيِّ مدينة، غير أنَّه لا ينبغي المُبالغة في ذلك... لأنَّ السبب الرئيسي لتكامل الفرد في المدن الاعتيادية، ما لم تحتوِ المدينة على زخم علمي وعقائدي خاص موجب للتكامل، كالذي يوجد في القاهرة، والنجف، وقم، وجامعة القرويِّين، وأمثالها في العالم الإسلامي، وإلاَّ فسيكون المُسبِّب الرئيسي للتكامل هو زيادة الظلم والانحراف الساري المفعول ضدَّ المؤمنين في كل الأجيال، وكلَّما تطرَّف أهل المدينة إلى جانب الباطل تطرَّف هؤلاء إلى جانب الحق، كما برهنَّا عليه في التاريخ السابق(٣٩١) ومن هنا يكون سبب التكامل العالي، حتى يكون الفرد بدلاً من الأبدال، وهو تطرُّف الأفراد الآخرين إلى جهة الباطل واضطهادهم الأفراد المؤمنين إلى أقصى حدٍّ.
وهذا هو الذي يجعل إنتاج المدينة الاعتيادية لبعض الأفراد المُتكاملين الخاصِّين، لا يُمثِّل شرفاً ولا فضيلةً بالنسبة إلى الأفراد الآخرين في الأعمِّ الأغلب.
الجهة السادسة - من هذا الفصل -: في المشكلة القانونية التي يُحدثها بقاء هؤلاء الثلاثمئة والثلاثة عشر في مكَّة المُكرَّمة، ما بين ورودهم إلى حين تحقُّق الظهور.
ونتحدَّث عن ذلك، ضمن عدَّة نقاط:
النقطة الأُولى: في مُحاولة فَهْم هذه المُشكلة أساساً:
إنَّ المنطلق الأساسي الذي يُثير المشكلة هو وجود هؤلاء الغرباء فترةً من الزمن،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٩١) ص٢٤٤ وما بعدها.

↑صفحة ٢٨٦↑

تقلُّ وتكثر بدون سبب ظاهر.
إنَّها مُشكلة مفهومة في جوِّ المجتمع القديم، حين كان الغريب منظوراً إليه بعين الاستغراب، ومُراقباً من قِبَل أيِّ فرد في كل تحرُّكاته، تصعب مُجاملته ومُكالمته، وتُعتبر الصداقة معه خطوة خطرة، بل إنَّ مُجرَّد بيع الطعام إليه لا يكون إلاَّ بالحذر، فكيف إذا كان الغرباء كثيرين في وقت لم تَعْتَدْ المدينة على استقبال الزوَّار، وكان من الواضح عدم وجود هدف مُعيَّن لاجتماعهم. ولم يتذكَّر فرد من أهل البلدة أنَّه رأى أيَّ واحد منهم طيلة حياته؟!
إنَّ أهل مكَّة سيعيشون مثل هذه المشكلة إذا كانوا يُمثِّلون المجتمع القديم، وهي مشكلة مفهومة أيضاً، بحسب قوانين الدول الحديثة، على كلا الفهمين (الطبيعي) والإعجازي في ورودهم إلى مكَّة.
أمَّا طبقاً للفهم الطبيعي الذي أعطيناه، وهو أنَّه سوف يقع النداء في شهر رمضان، وسيظهر الإمام المهدي(ع) - كما دلَّت الروايات - في اليوم العاشر من مُحرَّم الحرام، فتكون المدَّة المُتخلِّلة - وهي حوالي أربعة أشهُر - فترة كافية للسفر الاعتياي إلى مكَّة لمُقابلة الإمام (ع)، من قِبَل أيِّ شخص مُشتاق إلى ذلك، وسيمرُّ موسم الحجِّ خلال هذه الفترة، وسيكون الذهاب من هذه الجهة مشروعاً تماماً للناس، كما سيفوز الفرد المُخلص بأداء فريضة الحجِّ أولاً، وبمقابلة الإمام المهدي (ع) ثانياً.
إنَّ هذه الأُطروحة هي مركز المُشكلة بالنسبة إلى أهالي مكَّة، فإنَّ ما بين انتهاء فترة الحجِّ واليوم العاشر من مُحرَّم أكثر من خمسة وعشرين يوماً، والمفروض أنَّ الحُجَّاج سيعودون أدراجهم بعد انتهاء موسم الحجِّ مُباشرة، كما هو الحال في كل عام، فما الذي حصل في أن تتخلَّف جماعة كبيرة بعد الحجِّ زمناً طويلاً نسبيَّاً؟! وما هي مقاصدهم من هذا التخلُّف؟!
إنَّ هؤلاء (الخاصة) لا يمكنهم أن يُصرِّحوا بهدفهم الحقيقي لأحد، بل لعلَّ أيَّ واحد لا يستطيع أن يُصرِّح للآخر منهم بذلك، لعدم سابق معرفة بينهم أصلاً فضلاً عن التصريح به للشعب المكِّي وللحُكَّام.
إنَّ غاية ما يستطيع الفرد منهم أن يعمله، هو أن يأخذ إذناً بالإقامة لمدَّة شهر، عسى أن يحصل الظهور خلاله، فإن لم يحصل أخذوا إذناً بالبقاء شهراً آخر، ولكنَّ الظهور سوف لن يتأخَّر عنهم أكثر من شهر.
فهذه هي الصورة للفهم الطبيعي الذي أعطيناه، وسنعرف فيما بعد مدى

↑صفحة ٢٨٧↑

صحَّة هذه الصورة وعدمها.
وأمَّا طبقاً للفهم الإعجازي لاجتماعهم، وذلك في الليلة السابقة على الظهور، كما سنسمع... فالمشكلة أوضح؛ إذ يُصبح أهل مكَّة، فيجدون هؤلاء بالمئات من الناس يتجوَّلون في الأسواق بدون هدف معروف، لا يعرفون واحداً منهم، ولم يسبق لأيٍّ منهم أن حمل في جيبه جواز سفر وإذناً بالإقامة.
ولعلَّ الروايات أقدرُ منِّي في بيان شَكل المُشكلة، غير أنَّها منطلقة من زاوية إعجازية - أولاًـ وفي مجتمع لا تحكمه دولة نظاميَّة حديثة ثانياً.
النقطة الثانية: في سرد الروايات الواردة بهذا الصدد:
وهي عدَّة روايات، أكثرها يورِد المُشكلة باختصار، ولعلَّ أهمَّ الروايات وأوضحها ما أخرجه ابن طاووس في الملاحم والفتن،(٣٩٢) نقلاً عن كتاب يعقوب بن نعيم قرقارة الكاتب لأبي يوسف.
قال ابن طاووس: قال النجاشي - الذي زكَّاه محمد بن النجار -: إنَّ يعقوب بن نعيم المذكور روى عن الرضا (ع)، وكان جليلاً في أصحابنا ثقة.
ورأينا أنَّ ما ننقله في نسخة عتيقة لعلَّها كُتبت في حياته، وعليه خطُّ السعيد فضل الله الرواندي (قدَّس الله روحه)، فقال - ما هذا لفظه -: حدَّثني أحمد بن محمد الأسدي، عن سعيد بن جناح، عن مسعدة: أنَّ أبا بصير قال لجعفر بن محمد (ع): هل كان أمير المؤمنين (ع) يعلم مواضع أصحاب القائم (ع) كما كان يعلم عدَّتهم.
فقال جعفر بن محمد (ع): (إي والله، يعرفهم بأسمائهم رجلاً فرجلاً، ومواضع منازلهم).
أقول: وتحتوي هذه الرواية على تعداد الأماكن، وإن من كل مكان رجل ورجلان وأكثر، من دون تسمية ثمَّ يقول: (فهؤلاء ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، يجمعهم الله عزَّ وجلَّ بمكَّة في ليلة واحدة، وهي ليلة الجمعة، فيُصبحون بمكَّة في بيت الله الحرام، لا يتخلَّف منهم رجل واحد، فينتشرون بمكَّة في أزقَّتها، ويطلبون منازل يسكنونها، فيُنكرهم أهل مكَّة، وذلك (لأنهم) لم يعلموا بقافلة قد دخلت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٩٢) ص١٦٩ وما بعدها.

↑صفحة ٢٨٨↑

من بلدة من البلدان لحجٍّ ولا لعُمرة، ولا تجارة، فيقول مَن يقول من أهل مكَّة - بعضهم لبعض -: ما ترون، قوماً من الغرباء في يومنا هذا، لم يكونوا قبل هذا، ليس هم من أهل بلدة واحدة، ولا هم قبيلة واحدة، ولا معهم أهل ولا دوابّ.
فبينما هم كذلك، إذ أقبل رجل من بني مخزوم، فيتخطَّى رقاب الناس ويقول: رأيت في ليلتي هذه رؤيا عجيبة، وأنا لها خائف، وقلبي منها وَجِلٌ!
فيقولون: سِرْ بنا إلى فلان الثقفي، فاقْصُص عليه رؤياك.
فيأتون الثقفي، فيقول المخزومي: رأيت سحابة انقضَّت من عنان السماء، فلم تزل حتى انقضَّت على الكعبة ما شاء الله، وإذا فيها جُراد ذو أجنحة خضر، ثمَّ تطايرت يميناً وشمالاً، لا تمرُّ ببلد إلاَّ أحرقته، ولا بحصن إلاَّ حطَّمته.
فيقول الثقفي: لقد طرقكم هذه الليلة، جند من جنود الله عزَّ وجلَّ، لا قوَّة لكم به!
فيقولون: أما والله، لقد رأينا عَجباً! ويُحدِّثونه بأمر القوم!
ثمَّ ينهضون من عنده فيهتمُّون بالوثوب بالقوم، وقد ملأ الله قلوبهم رُعباً وخوفاً، فيقول بعضهم لبعض - وهم يأتمرون بذلك -: يا قوم، لا تعجلوا على القوم ولم يأتوكم بمُنكر ولا شهروا السلاح، ولا أظهروا الخلاف، ولعله أن يكون في القوم رجل من قبيلتكم، فإن بدا لكم من القوم أمر تُنكرونه، فأخرجوهم.
أمَّا القوم فمتنسِّكون، سيماهم حسنة، وهم في حرم الله عزَّ وجلَّ، الذي لا يفزع مَن دخله حتى يُحدثوا فيه حادثة، ولم يُحدِث القوم ما يجب (به) مُحاربتهم.
فيقول المخزومي - وهو عميد القوم -: أنا لا آمن أن يكون من ورائهم مادة! وإن أتت إليهم انكشف أمرهم وعظم شأنهم، فأحصوهم وهم في قلَّة العدد وعِزَّة بالبلد، قبل أن تأتيهم المادَّة، فإنَّ هؤلاء لم يأتوكم إلاَّ وسيكون لهم شأن، وما أحسب تأويل صاحبكم إلاَّ حقَّاً.
فيقول بعض لبعض: إن كان مَن يأتيكم مثلهم فإنَّه لا خوف عليكم منهم؛ لأنَّه لا سلاح معهم، ولا حُصن يلجأون إليه، وإن أتاكم جيش نهضتم بهؤلاء فيكونون كشربة ضمآن.

↑صفحة ٢٨٦↑

فلا يزالون في هذا الكلام ونحوه، حتى يحجز الليل بين الناس، فيُضرب على آذانهم بالنوم، فلا يجتمعون بعد انصرافهم (إلى) أن يقوم القائم، فيلقى أصحاب القائم (ع) بعضهم بعضاً كبني أب وأُمٍّ، افترقوا غدوة واجتمعوا عشيَّة...) الحديث.
النقطة الثالثة: في تلخيص المُهمِّ من مضامين هذه الرواية، مع نقده:
أولاً: تدلُّ - بوضوح - على اجتماع هؤلاء الخاصة هؤلاء بطريق المعجزة، لا يبقون إلاَّ نهاراً واحداً، يظهر الإمام المهدي في مسائه.
وهذه المعجزة مُنافية لقانون المعجزات، بعد أن عرفنا إمكان انتقالهم بطريق السفر الاعتيادي، وكلَّما أمكن إنتاج الهدف بالأسلوب الطبيعي لم تقم المُعجزة لإنجازه.
ثانياً: تعكس هذه الرواية مدى القلق الذي يُسيطر على أهل مكَّة وحُكَّامها من هؤلاء الغُرباء... حتى إنَّهم يُفكِّرون في مُقاتلتهم، لولا أنَّ الله تعالى يصرفهم عن ذلك؛ باعتبار الحرمة الإسلامية في القتل في مكَّة المُكرَّمة ما لم يبدأ الآخرون بالقتال، فيحفظ الله تعالى نفوسهم بذلك إلى حين الظهور.
وهذا القلق لدى أهل مكَّة، واضح وضروري، مع صحَّة الانتقال الإعجازي لهؤلاء الخاصة، وأمَّا مع وصولهم بالسفر الاعتيادي لأجل الحجِّ - كما قلنا - فالظاهر أنَّه ليس هناك أيَّة مُشكلة ولن يكونوا مُلفِتين للنظر على كلِّ حال.
فإنَّ مكَّة المُكرَّمة في الأزمنة السابقة كانت لا تستقبل الزوَّار الحجَّاج، إلاَّ في موسم الحج، فمن الطبيعي أن يكون بقاء الزوَّار في غير هذا الموسم وبعد انقضائه، غريباً مُلفِتاً للنظر، إلاَّ أنَّ الحال قد اختلف جدَّاً في السنوات المُتأخِّرة، فقد أصبحت مكَّة تستقبل أعداداً كبيرة من الزوَّار على طول مدار العام، وتشتغل فنادقها بالقاطنين طوال السنة، لا تخرج جماعة إلاَّ لتدخل أُخرى، ويكون التخلُّف عن الحجِّ لأجل عدَّة أهداف، كالتجارة، والنزهة، وتطويل الزيارة، ومراجعة الكُتَّاب والمُفكرِّين والعلماء، وغير ذلك.... أمراً طبيعياً لا غبار عليه.
ومعه؛ يكون أهل مكَّة قد اعتادوا مواجهة الغرباء باستمرار، واعتادت السلطات على إعطاء الإذن بالإقامة فترات مختلفة من الزمن طول العام.
إذن؛ فبقاء هؤلاء الخاصة لن يكون مُلفِتاً للنظر، ولن يوجب أيَّ مُشكلة ولا دليل كامل على أنَّ الباقين بعد

↑صفحة ٢٩٠↑

الحجِّ هم هؤلاء فقط، بل لعلًَّ أُناساً آخرين يستمرُّون بنفس القصد ولأغراض أُخرى.
ثالثاً: تدلُّ الرواية على أنَّ السلطات المكِّية بدائية الشكل، والمجتمع المكِّي مُتديِّن إلى حدٍّ ما، بحيث يتورَّع عن قتل هؤلاء في الحرم المكِّي، وكلا الفكرتين قابلة للمُناقشة.
أمَّا بدائيَّة الدولة، فقد ارتفعت في العصر الحديث، وتبدَّلت إلى الدولة النظامية الحديثة، ومن الواضح أنَّ معجزةً مثل هذه لو حدثت في دولة حديثة لما تلكَّأت الدولة في إلقاء القبض على هؤلاء واستنطاقهم فرداً، ولا أقلّ من تشديد قوى الأمن الداخلي وجعلهم تحت الرقابة المُستمرَّة؛ استعداداً لكل طارئ، فالغضُّ عنهم، ووقوع الجدل بشأنهم لا يكاد يكون مُحتملاً في أنظمة الدولة الحديثة.
نعم، سوف يكون لهذا أثر مع صحَّة الأُطروحة الطبيعية التي عرضناها لاجتماعهم - كما هو واضح - وإنَّما يترتَّب ذلك طبقاً للفهم الإعجازي لاجتماعهم، وقد يُعتبر ذلك أحد نقاط الضعف في هذا الفهم.
وأمَّا تديُّن المجتمع المكِّي... فهناك قرينة رئيسة على نفيه، وهو قتل النفس الزكية بين الركن والمقام قبل الظهور بخمسة عشر يوماً، وسيُصادف ذلك زمن وجود هؤلاء في مكَّة طبقاً للأُطروحة الطبيعية، ومَن يكون على مستوى القتل في داخل المسجد الحرام، سوف لن يتورَّع عمَّا هو دونه، وهو القتل في خارج المسجد.
غير أنَّ ذلك ممَّا سوف يكون مُستغنى عنه طبقاً للأُطروحة الطبيعية، للاختلاف الجذري بين مُهمَّة النفس الزكية الذي يواجه الشعب المكِّي بما لا يرتضيه، وبين مُهمَّة هؤلاء الذين لن يُحرِّكوا ساكناً، ولن يُلفتوا نظراً قبل الظهور.
الجهة السابعة: في خصائص أُخرى نصَّت عليها الروايات، لأصحاب الإمام المهدي (ع):
الخصيصة الأُولى: تسميتهم بجيش الغضب.
وهو ما دلَّت عليه روايات أخرجها النعماني في الغيبة،(٣٩٣) والصدوق في إكمال الدين،(٣٩٤) وقد نقلنا بعضها فيما سبق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٩٣) ص١٦٧ وما بعدها.
(٣٩٤) انظر النسخة المخطوطة.

↑صفحة ٢٩١↑

والسرُّ في هذه التسمية هي أنَّها بقيادة إمامهم المهدي (ع)، يُمثِّلون غضب الله تعالى على المُجتمع الفاسد المُتفسِّخ عقيدة ونظاماً وأخلاقاً، والحُكم عليه بالفناء والزوال، مع بديله إلى مجتمع عادل تسوده السعادة والرفاه.
الخصيصة الثانية: أنَّهم شباب لا كهول فيهم إلاَّ أقل القليل، كالكحل في العين، وكالملح في الطعام، كما دلَّت عليه إحدى الروايات، وهذا التشبيه دالٌّ على أنَّ هؤلاء الكهول القلائل هم من أفضل الجماعة إيماناً وإخلاصاً وثقافة، وإنَّ وجودهم فيهم ضروري... شأن الملح في الطعام، فإنَّه على الرغم من قلته إلى سائر الأجزاء، إلاَّ أنَّه أهمَّها وأكثرها ضرورة.
وهذا أمر موافق مع خصائص النفس الإنسانية، فالشابُّ بطبيعته أقوى من الكهل اندفاعاً وقوَّة وإرادة، والكهل أفضل من الشابِّ رُشداً وتجربة وثقافة، والجيش المُتكامل يحتاج إلى كلا النوعين بطبيعة الحال، ولكنَّه إلى الاندفاع وقوَّة الإرادة أحوج، وأمَّا الرأي - إن احتيج إليه - فيكفي فيه العدد القليل، ومن الواضح كون الرأي الأهمِّ موكول إلى الإمام المهدي (ع) نفسه، إلاَّ في ما يستشير أصحابه من الأمور، كما كان النبي (ص) يفعل أحياناً، وخاصة بعد أن وعدهم أن يكون حيث يريدون.
وقد يخطر في الذهن: إنَّ المفروض في أصحاب الإمام المهدي (ع) - كما قلنا - أن يكونوا من المُخلصين المُمحَّصين المُتكاملين في الإيمان والإرادة إلى درجة عالية جدَّاً، وهذا ما يحتاج الفرد في الوصول إليه إلى سنين وسنين، وإلى ظروف كثيرة وتجارب مُثيرة، وهذا لا يتمُّ في الشباب على أيِّ حال، فكيف ينسجم ذلك مع ما دلَّ على كونهم - في الأغلب - من الشباب.
والجواب على ذلك يكون على مستويين:
المستوى الأول: أنَّنا قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى:(٣٩٥) إنَّ تمحيص الفرد وتربيته لا يعود فقط إلى الظروف التي يعيشها الفرد خلال حياته... بل يعود جزء كبير منها إلى تربية الأُمَّة كلها مُتمثِّلة بالأجيال المُتصاعدة، فكل جيل من الصالحين يوصل نتيجة التمحيص إلى درجة مُعيَّنة، ويورثها إلى الجيل الذي يليه ليمشي بها خطوة أخرى، وبقانون (تلازم الأجيال) يبقى التمحيص ساري المفعول على مجموع الأمَّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٩٥) انظر ص٣٦٤ وغيرها.

↑صفحة ٢٩٢↑

ومعه؛ فمن الممكن القول: إنَّ التمحيص في الجيل الأسبق على الظهور قد بلغ من العمق والشمول بحيث لم يبقَ منه إلى إنتاجه الكامل، إلاَّ خطوات قليلة تتحقَّق خلال السنوات الأُولى من الجيل الذي يليه، وهو الجيل السابق على الظهور مباشرة، أعني الجيل الذي يحصل فيه الظهور، ومعه فسيتحقَّق الظهور حال شباب الأعمِّ الأغلب من هؤلاء الصالحين.
المستوى الثاني: إنَّ الأسباب التي يخرج بها الفرد مُمحَّصاً كاملاً تُمثِّل في حقيقتها - كما برهنَّا عليه في االتاريخ السابق(٣٩٦) - المواقف وردود الفعل التي يتَّخذها الفرد تجاه الظروف الخارجية الظالمة والعادلة على حدٍّ سواء، فكلَّما كانت المواقف أصحَّ وكانت ردود الفعل أفضل، كان الفرد أكثر نجاحاً وتمحيصاً، وهذه الظروف قد تكون بطيئة الإنتاج، بمعنى أنَّ كل حادثة تمرُّ بالفرد لا تقتضي منه إلاَّ درجة بسيطة من الإخلاص وقوَّة الإرادة، فيكون تكامله مُحتاجاً إلى تجارب كثيرة وطويلة، فيُصبح بطيئاً مُحتاجاً إلى عشرات السنين، وقد لا يُنتج المستوى المطلوب طول عمر الفرد أصلاً، وإنَّما يصل الفرد إلى مرتبة ناقصة من الكمال فحسب.
وقد تكون الظروف التي تمرُّ بالفرد تقتضي منه قوَّة ضخمة في الإرادة، ودرجة عظيمة في الإخلاص، وتكون موافقة، وردود فعله صالحة وصحيحة... فتكون تربيته سريعة، ووصوله إلى الدرجة المطلوبة - لو وفِّق إلى النجاح في كل الخطوات - غير مُحتاج إلى زمان طويل.
ومعه يمكن أن نحصل على أشخاص مُمحَّصين كاملين، وهم في سنِّ الشباب.
على أنَّنا لو جمعنا بين هذين المستويين... والحياة تتضمَّن - في الأعمِّ الأغلب - الجمع بينهما بشكل وآخر، فالفرد - حتماً - يكتسب من الجيل السابق ما يمكنه اكتسابه من الثقافة والإخلاص، ويُضيف عليه من عنده فيما يتَّخذه من مواقف وردود فعل صالحة تجاه الحوادث، فإن كانت هذه الحوادث ضخمة ومُهمَّة، ووفِّق إلى النجاح فيها، كان من المُخلصين المُمحَّصين لا محالة.
الخصيصة الثالثة: إنَّ هؤلاء الخاصة الثلاثمئة والثلاثة عشر رجلاً يتميَّزون عن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٩٦) المصدر ص٣٠٧ وما بعدها والتي تليها.

↑صفحة ٢٩٣↑

غيرهم لعدَّة أسباب:
أولاً: اتِّصافهم بالإخلاص من الدرجة الأُولى، في نتيجة التمحيص السابق على الظهور... دون غيرهم.
ثانياً: مُبايعتهم للمهدي (ع) لأول مرَّة بعد جبرائيل (ع) واستماعهم لخُطبته.
ثالثاً: أنَّهم قادة جيشه خلال القتال... لا أنَّهم يُمثِّلون كل الجيش كما سبق أن قلنا... فهم العدد الكافي من القوَّاد لغزو العالم، لا من الجنود العاديين.
ومن هنا؛ لن يكتفي الإمام المهدي (ع) بهؤلاء الخاصة، بل إنَّه (ما يخرج إلاَّ في أُوْلي قوَّة، وما يكون من أُوْلي قوَّة أقلَّ من عشرة)، كما سمعنا في الروايات، (ويُقيم بمكة حتى يتمَّ أصحابه عشرة آلاف نفس، ثمَّ يسير منها إلى المدينة)، كما سمعنا في رواية أُخرى، (فإذا اجتمع له العقد، عشرة آلاف رجل، فلا يبقى في الأرض معبود دون الله)، كما في رواية ثالثة.
والروايات تَسْكُت عن تحديد فترة بقائه في مكَّة ريثما يجتمع له هذا العدد، وإن كان المَظْنُون من مجموع القرائن أنَّه لن يزيد عن أسبوع.
الجهة الثامنة: هناك سؤال قد يخطر على البال، من خلال التأكيد في الروايات على أعداد هؤلاء الخاصة، والتعرُّف على شخصيَّاتهم وأماكنهم، وهو أنَّه إذا صحَّ ذلك فسوف لن ستطيع أيُّ إنسان آخر أن يُصبح مُتَّصفاً بالإخلاص من الدرجة الأُولى، وسوف تذهب جهوده في ذلك سُدى، بعد أن كان المُتَّصفون به مُعيَّنين ومعروفين سلفاً.
فكيف نوفِّق بين ذلك وبين قانون التمحيص العام الساري المفعول قبل الظهور، الذي لا يقتضي نجاح أفراد لأعيانهم، بل يوكِل ذلك إلى هِمَّة الفرد وإيمانه ومقدار تضحياته في سبيل الحق، وهذا معنى عام قد تزيد نتيجته وقد تنقص.. فكيف نوفِّق بين هذين المعنيين؟!
ويمكن أن نعرض هذا السؤال على مُستويات ثلاثة:
المستوى الأول: أن ننظر إلى التنافي المُحتمل بين المفهوم العام لقانون التمحيص وما ورد من التحدِّي بثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً؛ باعتبار أنَّ هذا التحديد واضح وثابت في الروايات، وأمَّا التحديدات الأُخرى، فلا يخلو ثبوتها من ضعف، كما سمعنا.

↑صفحة ٢٩٤↑

ويمكن الجواب على هذا التنافي بوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أنَّ النجاح في التمحيص من الدرجة الأُولى غير خاص بهذا العدد لو نظرنا إلى مجموع أجيال الأمَّة الإسلامية، فإنَّ عدداً من الناس قد يصلون إلى هذا المستوى الرفيع، ولكنَّ حياتهم تنتهي ولا يحصل الظهور؛ لأنَّ مجموع مَن حصل على هذه الدرجة العُلْيا من الجيل ليس كافياً لغزو العالم بالعدل.
ومعه؛ فلو نظرنا إلى أجيال الأُمَّة لوجدنا عدداً ضخماً من الناس المُتَّصفين بهذه الصفة، كل ما في الأمر أنَّ كل جيل بعينه لا يحتوي على العدد الكافي منهم... وأول جيل يحتوي على ذلك هو الجيل الذي يحصل فيه الظهور.
إذن؛ فالفرصة مفتوحة، طبقاً للقانون العام، للوصول إلى تلك المرتبة، وإنَّما يقصر الناس عن ذلك انطلاقاً من اختيارهم وإرادتهم، وأول جيل سوف يتوفَّر العدد الكافي فيه لغزو العالم بالعدل، سوف يتمُّ فيه الظهور.
الجواب الثاني: إنَّ المسألة مسألة وقت ليس إلاَّ، غير أنَّه وقت مُتعيِّن غير قابل للزيادة والنقصان، فإنَّ الظهور كما لا يمكن أن يحدث قبل توفُّر العدد الكافي لا يمكن أن يتأخَّر عن زمان توفُّره.
أمَّا قبل توفُّر العدد كله، فالفرصة موجودة بوضوح؛ لأجل توفير العدد بالتدريج من مجموع الناس، حسب ما لديهم من الهمَّة والتضحية... طبقاً للقانون، وأمَّا بعد توفُّر العدد، فالقانون ولو كان باقياً، غير أنَّ الظهور سوف لن يتأخَّر عندئذ بطبيعة الحال، وبه سوف يستوفي القانون السابق غرضه، وتتحوَّل تربية البشرية إلى التخطيط العام الجديد.
فعدم إمكان الزيادة على العدد، لا لأجل التصوُّر في الفرص القانونية للتمحيص، بل لأجل تحقُّق الظهور عند توفُّر العدد الكافي؛ الأمر الذي يُغيِّر قانون التمحيص إلى شكل جديد.
الجواب الثالث: أنَّنا لو تنزَّهنا - جدلاً - عن ذلك كله، وفرضنا كون هذا الرقم مرصوداً لأشخاص مُعيَّنين، أمكننا الجواب على ذلك من نواحي أُخرى اجتماعية وفلسفية، بالشكل الذي نُحاول عرضه في الجواب على المستوى الثالث.
المستوى الثاني: أنَّه بعد البرهنة على التنافي بين رقم الثلاثمئة والثلاثة عشر، وبين قانون التمحيص العام، وأنَّ هذا الرقم يبقى فارغاً قابلاً للملء بأيِّ إنسان، ننظر في المستوى الثاني إلى التنافي المحتمل بين قانون التمحيص وبين تسمية البلدان، والأعداد

↑صفحة ٢٩٥↑

المذكورة لكلٍّ منها؛ إذ قد يخطر في البال، عدم وجود الفرصة للزيادة على ذلك.
ويمكن تقديم ثلاثة أجوبة موازية للروح العامة للأجوبة الثلاثة الواردة في المستوى الأول.
الجواب الأول: أنَّنا لو نظرنا إلى الأجيال المُتطاولة للبصرة - مثلاً - لم نجد أربعة من الناجحين الكاملين فقط، بل أكثر من ذلك بكثير، وكل ما في الأمر أنَّ هذا الرقم هو الذي سيخرج من البصرة في الجيل المُعاصر للظهور.
بل إنَّ الحال أوسع من ذلك، فقد يوجد في البصرة أكثر من هذا العدد في جيل ما، وإنَّما لم يحصل الظهور باعتبار عدم توفُّر العدد المطلوب في العالم، على وجه العموم، لتقلُّص عدد من المُدن عن المشاركة في تصدير حصَّتها من هؤلاء، بينما يُعاصر جيل الظهور تقلُّصاً في رقم (البصرة) وتوسُّعاً في بعض المُدن الأُخرى، طبقاً للحالة النفسية والعقلية والاجتماعية التي تعيشها كل مدينة.
الجواب الثاني: إنَّ المسألة مسألة وقت لا غير، تماماً كالمستوى الأول، لكن بعد ملاحظة (البصرة) وكل مدينة عينها، كجزء من كلِّ مُشارِك في التخطيط العام لإيجاد العدد الكافي، فبمجرَّد أن يتمَّ العدد الكافي يحدث الظهور، ولكن من حُسن حظِّ بعض المناطق أنَّها تُشارك بعدد أكثر، لحسن تصرُّف الأخيار من أهلها، وأدائهم التضحية في سبيل الحق والهُدى، على حين تُشارك المدن الأُخرى بعدد أقل، لسوء تصرُّف أهلها، وتفضيلهم اللذاذة العاجلة على التضحية العادلة.
ولا ينبغي أن ننسى ما عرفناه في التاريخ السابق، من صعوبة الوصول إلى هذه الدرجة العُلْيا والإخلاص، واحتياجها إلى قوَّة في الإرادة، وسعة في الثقافة لا تتوفَّر إلاَّ في القليل من الناس.
الجواب الثالث: أنَّنا لو تنزَّلنا - جدلاً - عن الوجهين السابقين، وفرضنا أنَّ رقم الأربعة من البصرة، مرصود لأشخاص مُعيَّنين، وكذلك غيرها من المدن، أمكننا الجواب على ذلك من زوايا أُخرى، على ما سنذكره في الجواب الثاني والثالث على المستوى الثالث.
المستوى الثالث: أنَّه بعد البرهنة على عدم التنافي بين مجرَّد الترقيم، سواء منه العام أم الخاص بكل مدينة، وبين التمحيص العام... يبقى التنافي بين هذا القانون العام، وبين التسمية الواردة في الروايات، فإنَّها - على أيِّ حال - إشارة إلى أشخاص مُعيَّنين، لا يمكن إبدالهم بغيرهم، وليس كالترقيم يمكن ملؤه بأيِّ إنسان.

↑صفحة ٢٩٦↑

ويمكن أن يُجاب على ذلك بثلاثة أجوبة:
الجواب الأول: أنَّنا بينما نرى أنَّ الترقيم ثابت في الروايات؛ فإنَّ العدد ثلاثمائة وثلاثة عشر مُستفيض النقل، وعليه عدد مُهمٌّ من الروايات، كما أنَّ التحديد لكلِّ مدينة أكثر نقلاً من التسمية، من حيث إنَّ بعض الروايات تتضمَّن الرقم والتسمية، وبعضها تتضمَّن الرقم فقط، كالرواية الأُولى التي نقلناها عن ابن طاووس.
فبينما نرى الترقيم ثابتاً في الجملة، نجد أنَّ التسمية غير ثابتة، لما سمعناه من أنَّ الروايات الناقلة للأسماء ضعيفة السند وقليلة العدد مُتعارضة في ذكر الأسماء، فتسقط عن قابلية الإثبات التاريخي، ومع انتفاء الدليل على التسمية يكون الإشكال في مستواه الثالث مُنتفياً موضوعاً.
هذا، وسيكون الجوابان الآتيان شاملين للمستويات الثلاثة كلها، وإنَّما أجَّلناها إلى المستوى الثالث؛ لمناسبتها معه دون ما سبق من الأجوبة على المستويين الأوَّلين، وستكون زاوية النظر في إحدهما اجتماعية وفي الآخر فلسفية.
الجواب الثاني: أن نُعيد النظر في الخصائص المُعطاة لهؤلاء الثلاثمئة والثلاثة عشر، فبينما عرفناها خصائص (داخلية) تمتُّ إلى تكوينهم الشخصي الإيماني بصِلَةٍ وثيقة، يمكن أن نعتبرها الآن خصائص عرضية وخارجية، تمتُّ إلى وضعهم الاجتماعي بصِلَةٍ، بالشكل الذي سنذكره بعد لحظة.
فليس هؤلاء فقط هم المُتَّصفين بالدرجة الأُولى من الإخلاص، بل هناك أُناس غير مُسمَّين مُتَّصفين بها أيضاً، وإنَّما يختصُّ هؤلاء بصفات أُخرى (اجتماعية)، يمكن فهمها على شكلين طبقاً للأُطروحة المُختارة لكيفيَّة اجتماعهم.
فإن اخترنا لهم الاجتماع الإعجازي في مكَّة، كانت خصِّيصتهم الرئيسية أنَّهم - دون غيرهم - يُنقلون بالمعجزة من أجل نُصرة المهدي (ع)، وليس اختصاصهم بذلك من أجل مستواهم الإيماني، بل قد تكون لمصالح أُخرى في علم الله عزَّ وجلَّ، كاتِّصافهم بقوَّة جسمية مُعيَّنة، وبثقافات وتدريبات قيادية مُعيَّنة يفقدها الآخرون... ممَّا لا يمتُّ إلى قانون التمحيص بربط مباشر؛ ومعه لا تكون هذه الخصائص ولا خصِّيصة الانتقال الإعجازي مُضرَّة بشمول هذا القانون.
وإن اخترنا لهم الاجتماع الطبيعي - كما رجَّحناه - أمكننا أن نضع التسلسل

↑صفحة ٢٩٧↑

الفكري للحوادث كما يلي:
أنَّ الوصول إلى الدرجة الأُولى من الإخلاص أوسع من هذا الرقم، وأوسع من هذه الأسماء المذكورة في الروايات، وسوف يؤثِّر (النداء) باسم المهدي (ع) في إثارة الشوق في نفوس الجميع، وسيُسافرون جميعاً إلى مكَّة المُكرَّمة، غير أنَّ لحظة الظهور حيث إنَّها غير مُحدَّدة في أذهانهم وإنَّما ينتظرونها بعد الحجِّ إجمالاً؛ فمن الصعب بطبيعة الحال أن يبقى الجميع في المسجد الحرام باستمرار طوال الأيام انتظاراً للظهور، وإنَّما هم يبقون في منازل مكَّة وفنادقها، ثمَّ يحصل الظهور في لحظة مُعيَّنة، وهي مساء اليوم العاشر، كما ورد في بعض الروايات، وسيُصادف أنَّ المسجد الحرام يحتوي على ثلاثمئة وثلاثة عشر من المُنتظرين في مكَّة المُكرَّمة... لمُجرَّد رغبتهم في الطواف في تلك الساعة.
وهذه المُصادفة سوف تقتضي أن يكون هؤلاء - دون غيرهم - هم أول مَن يواجه الإمام المهدي (ع)، ويسمع خُطبه ويتشرَّف بمُبايعته... ريثما يتسامع الناس بالظهور، ويهرع الآخرون للوصول بخدمة الإمام المهدي (ع).
ومن الواضح أنَّ هذه المُصادفة غير مُضرَّة بشمول قانون التمحيص، ولا مُنافية معه.
الجواب الثالث: أنَّنا لو تنزَّلنا عن كل ذلك، وفرضنا أنَّ التسمية لأشخاص مُعيَّنين لا يمكن تبديلهم، وأنَّه أمر ثابت لا محيص عنه الآن، فكرة مُبسَّطة ومُختصرة، مُحيلين التفصيل إلى المصادر الفلسفية.
إنَّ هذه الروايات الناقلة للأسماء - على تقدير ثبوتها - تنقل لنا رأي قائليها وهم الأئمة المعصومون (ع) وآرائهم دائماً، مُستقاة من النبي الأعظم (ص)، وهو (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى).(٣٩٧)
إذن؛ فالأمر يعود إلى تعلُّق العلم الإلهي بنجاح أشخاص مُعيَّنين، ووصولهم إلى الدرجة الأُولى من الإخلاص.
وعلم الله عزَّ وجلَّ عين إرادته - كما ثبت الفلسفة - فلو كانت إرادته تعالى قد تعلَّقت باتِّصاف هؤلاء بهذه الصفة على كل حال، أعني: ولو بسبب قهري غير إرادي، لكان الإشكال وارداً؛ إذ من الظلم أن تتعلَّق الإرادة الإلهية بإنجاح هؤلاء دون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٩٧) النجم: ٥٣ /٣-٤.

↑صفحة ٢٩٨↑

غيرهم، والظلم مُستحيل الثبوت لله عزَّ وجلَّ كما ثبت في الفلسفة أيضاً.
ولكنَّ إرادة الله تعالى على نجاح هؤلاء بملء إرادتهم واختيارهم، وهو - في واقعه - معنى النجاح في التمحيص؛ لما عرفناه من أنَّ عنصر الاختيار ضروري في قانون التمحيص، وأحد الأركان الرئيسية للنجاح فيه؛ إذ لو كان النجاح جبرياً قهرياً، لما كان نجاحه أصلاً، فإنَّ إعطاء معدن الذهب شكل الحُلي الجميل ليس فخراً للذهب، كما هو واضح.
ومعه؛ نعرف إنَّ علم الله الأزلي بنجاح هؤلاء باختيارهم، وبرسوب الراسبين باختيارهم أيضاً، وإرادته تعلَّقت بذلك أيضاً... فهما مُتساوقان مع القانون العام للتمحيص الذي سنَّه الله تعالى بعلمه وإرادته أيضاً، ووهب الاختيار للبشر بعلمه وإرادته أيضاً.
ومعه؛ يكون مدلول الروايات: إنَّ هؤلاء المسلمين والمعدودين هم الذين سيُحسنون التصرُّف، وتكون مواقفهم الاختيارية صحيحة وعادلة، وإنَّ غيرهم سوف لن يبلغ مبلغهم باختياره أيضاً، ولو لم يُقصِّر المُقصِّرون، وكان الناس على المسؤولية في عهد التمحيص، لكان الناجحون أكثر، ولوردت تسميتهم في الروايات أيضاً.
ولكن من المؤسِف أنَّ الناس قد أبدوا باختيارهم سلوك المُقصِّرين وتصرُّف المذنبين، فتضاءل عدد الناجحين، فتضاءلت تسميتهم في الروايات أيضاً، وقد قال الله تعالى: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).(٣٩٨)
ومن الطبيعي أن يكون الناجحون باختيارهم، والواصلون إلى الدرجة الأُولى بتضحياتهم وجهادهم، يكونون أهلاً لكل المُميِّزات التي يتفرَّدون بها عن البشر أجمعين؛ لأنَّهم أدّوا من التضحيات ما لم يؤدِّ غيرهم من الناس، فارتفعوا إلى مستوى لم يرتفع إليه غيرهم من البشر... ابتداءً باهتمام رسول الله (ص) والأئمة المعصومين (ع) بتعدادهم وتسميتهم، وانتهاءً بنُصرتهم للمهدي (ع) ومُمارسة القيادة والحُكم بين يديه.
هذا، ولا ينبغي أن ننسى أنَّ الدرجات الأُخرى من الإخلاص، ينالها الفرد بالاختيار أيضاً، ولكنَّها حيث تكون أسهل منالاً، فإنَّ القواعد الشعبية المُتَّصفة بها أيضاً ستكون أوسع، وكلُّهم بالتدريج سينصرون المهدي (ع) ويعملون بين يديه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٩٨) يس: ٣٦ / ٣٠.

↑صفحة ٢٩٩↑

الفصل الخامس: المُنجزات الأُولى للإمام المهدي (ع) إلى حين الوصول إلى العراق
وينبغي أن نتكلَّم في هذا الفصل ضمن عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في حديث: (... يُصلحه الله في ليلة).
وهو ما نودُّ استهلال هذا الفصل به؛ لأنَّ انتصاره سيكون في ليلة ظهوره نفسها.
وهذا الحديث وارد في مصادر كلا الفريقين، وإن كان في المصادر العامة أغلب.
فمن مصادر الإمامية: ما أخرجه الصدوق في إكمال الدين، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث - قال: (ويُصلح الله عزَّ وجل أمره في ليلة).
وروي نحوه عن أبي جعفر الباقر (ع).(٣٩٩)
ما رواه الطبرسي،(٤٠٠) عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: (قال الحسين (ع) - في حديث -: قائمنا أهل البيت يُصلِح الله تعالى أمره في ليلة واحدة).
ومن المصادر العامة، ما أخرجه ابن ماجة،(٤٠١) عن علي (ع)، قال: (قال رسول الله (ص): المهدي منَّا أهل البيت يُصلِحه الله في ليلة).
ونقل نحوه ابن حجر في الصواعق،(٤٠٢) عن أحمد.
وفي مفتاح كنوز السنَّة،(٤٠٣) نقله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٩٩) انظر الخبرين في المصدر المخطوط.
(٤٠٠) ص٤٠١.
(٤٠١) ج٢ ص١٣٦٧.
(٤٠٢) انظر ص٩٧.
(٤٠٣) ص٤٨٤.

↑صفحة ٣٠١↑

عن أبي داود، والترمذي، وأحمد.
ونقله السيوطي،(٤٠٤) عن أحمد، وابن أبي شيبة، وابن ماجة، ونعيم ابن حمَّاد في الفتن، وأخرجه القندوزي في الينابيع أيضاً.(٤٠٥)
وفي بعض الروايات تشبيهه بموسى بن عمران (ع) من هذه الناحية.
روى القطب الراوندي(٤٠٦) مُرسلاً، قال: قال محمد بن علي التقيِّ الجواد لعبد العظيم الحسني: (المهدي... من ولدي، وإن الله يصلح أمره في ليلة، كما أصلح أمر كليمه موسى (ع) حيث ذهب ليقتبس لأهله ناراً).
والمراد من إصلاحه وإصلاح أمره توفير النصر لديه، وإيجاد المقدِّمات الواضحة للنصر.
قالوا في اللغة: صلح ضدَّ فسُد، وزال عنه الفساد، يُقال: صلحت حال فلان، وأصلحه بعد فساد أقامه.(٤٠٧)
فالمهدي (ع) بعد أن كان في حال غيبته وتنكُّر، وكان أعزلاً عن السلاح بعيداً عن الحُكم، يُصبح بين عشيَّة وضحاها، في ليلة واحدة، مُنتصراً فائزاً قائداً، له من العدّة والعدد ما يستطيع به السيطرة على العالم بأسرع وقت وأسهل سبيل.
وأول وأهمُّ خطوة لهذا النصر هو اجتماع أصحابه الخاصِّين حوله ومُبايعتهم له، وهو يحدث في ليلة واحدة، هو نفس المساء الذي يخطب فيه بين الركن والمقام، وهذا صحيح على كلا الأُطروحتين: الإعجازية والطبيعية لاجتماعهم... فإنَّهم يجتمعون في تلك اللحظة حوله على أيِّ حال.
إذن؛ فاجتماع أصحابه هو الشيء الرئيسي المُشار إليه في هذا الحديث الشريف، بصفته أول مراحل تصاعد الانتصار التدريجي السريع، بما فيه اجتماع عشرة آلاف نفس في الأيام القليلة القادمة، قبل الخروج من مكَّة.
الجهة الثانية: عرفنا تقدُّم حكم السفياني وتهديده للإمام المهدي (ع) بالقتل، والخسف بالجيش الذي يُرسله، تقدُّم كل ذلك على الظهور، حتى جُعِل الخسف من علامات الظهور للمهدي (ع)، كما سمعناه في هذا الكتاب وسابقه.(٤٠٨)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٠٤) ج٢ ص١٢٤.
(٤٠٥) ص٥١٩ ط النجف.
(٤٠٦) الخرايج والجرايح ص١٩٩.
(٤٠٧) أقرب الموارد، مادَّة: صلح: ج٢ص٦٥٦.
(٤٠٨) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٥٩٩.

↑صفحة ٣٠٢↑

غير أنَّ هناك من الأخبار ما يدلُّ على تأخير التهديد والخسف على الظهور، وهو إنَّما يحصل في الأيَّام الأُولى للظهور، وهي الفترة التي نعرضها الآن من حياة الإمام المهدي، فينبغي أن لا نمرَّ بهذه الأخبار مُسرِعين.

أخرج أبو داود،(٤٠٩) عن أمِّ سلمة زوج النبي (ص)، عن النبي (ص) قال:
يكون اختلاف عند موت خليفة... فيُخرجونه (يعني المهدي (ع)) وهو كاره، فيُبايعونه بين الركن والمقام، ويُبعَث إليه بعث من أهل الشام، فيُخسف بهم البيداء بين مكَّة والمدينة، فإن رأى الناس ذلك، أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق، فيُبايعونه) الحديث.
وأخرجه السيوطي،(٤١٠) عن أبن أبي شيبة، وأحمد، وأبو يعلى، والطبراني.
وأخرج السيوطي(٤١١) عن الطبراني في الأوسط، والحاكم عن أمِّ سلمة، قالت: قال رسول الله (ص): (يُبايع لرجل بن الركن والمقام عدَّة أهل بدر، فتأتيه عصائب أهل العراق وأبدال أهل الشام، فيغزوه جيش من أهل الشام، حتى إذا كانوا بالبيداء خُسف بهم).
وأخرج المجلسي في البحار،(٤١٢) عن عبد الأعلى الحلبي، قال: قال أبو جعفر (ع): (يكون لصاحب هذا الأمر غيبة... (ثمَّ يذكر حوادث الظهور واجتماع أصحاب المهدي (ع) ومُبايعتهم له، ويقول بعد ذلك: (حتى ينتهي (يعني المهدي (ع) وجيشه) إلى البيداء، فيخرج إليه جيش السفياني، فيأمر الله الأرض فيأخذهم من تحت أقدامهم، وهو قول الله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٠٩) انظر سُنن أبي داود ج٢ ص٤٢٣.
(٤١٠) الحاوي ج٢ ص١٢٦.
(٤١١) المصدر ص١٢٩.
(٤١٢) ج١٣ ص١٨٨ وما بعدها.

↑صفحة ٣٠٣↑

وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ(٤١٣) يعني بقائم آل محمد، (وقد كفروا به)، يعني بقائم آل محمد، إلى آخر السورة، فلا يبقى منهم إلاَّ رجلان...) الحديث.
وتحتوي هذه الأخبار على نقاط قوَّة ونقاط ضعف.
أمَّا نقاط القوَّة فثلاث:
النقطة الأُولى: إنَّ الوضع العام يكون واضحاً، وإرسال الجيش للقضاء على حركة المهدي (ع) في مهدها، من قِبل قوى الانحراف والطغيان... يكون معلوم الدوافع، بخلاف مُحاولة القضاء على المهدي (ع) قبل ظهوره واتِّضاح دعوته؛ فإنَّه لا يكون واضحاً بهذا المقدار.
النقطة الثانية: إنَّه في صورة تقدُّم الخسف على الظهور، يثور التسائل عن كيفية معرفة السفياني بالمهدي (ع) ليُحاول الإجهاز عليه؟ كما سبق أن عرضناه وناقشناه، غير أنَّ هذا السؤال يكون بلا موضوع مع تأخُّر الخسف عن الظهور، فإنَّ السفياني سيتعرَّف على المهدي بظهوره وسيُرسل عليه الجيش وهو عالم بحقيقته.
النقطة الثالثة: إنَّ الخسف سيُصبح بعد الظهور بأيَّام قلائل، هو المعجزة الرئيسية الكبرى التي تدعم حركة الإمام المهدي (ع)، وتفهم الناس بكل صراحة عدالة دعوته وأحقِّيَّة حركته.
وقد صرَّحت الروايات بتأثير هذه المعجزة في النفس (فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام وعصائب أهل العراق، فيُبايعونه) (وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ) (يعني بقائم آل محمد) (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) (يعني بقائم آل محمد).
بل إنَّ معجزة الخسف ستؤثِّر في (السفياني) نفسه، فتجعله قريب العاطفة من المهدي (ع)؛ الأمر الذي يُسبِّب عدَّة نتائج، أهمُّها: دخول العراق بدون قتال.
ففي خبر أخرجه السيوطي،(٤١٤) عن نعيم بن حمَّاد، عن الوليد بن مسلم، عن محمد بن علي يقول فيه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤١٣) سبأ: ٢٤/٥٢ - ٥٤.
(٤١٤) الحاوي ج٢ ص١٤٦.

↑صفحة ٣٠٤↑

(... فيقول الذي بعث الجيش حين يبلغه الخبر من إيلياء: لعمر الله، لقد جعل الله في هذا الرجل عبرة؛ بعثت إليه ما بعثت فساخوا في الأرض، إنَّ في هذا لعبرة ونُصرة، فيؤدِّي إليه السفياني الطاعة...) الخ الخبر الذي يروي نقض السفياني للبيعة ومقتله.
وهذا الخبر واضح بأنَّ بيعة السفياني للمهدي (ع)، واتِّخاذه معه موقف المُلاينة، إنَّما هو نتيجة للخسف بجيشه.
وأمَّا نقاط الضعف في تلك الأخبار، أعني الدالَّة على تأخُّر الخسف عن الظهور:
النقطة الأُولى: معارضة هذه الأخبار مع الأخبار الدالَّة بصراحة على وقوع الخسف قبل الظهور.
منها: ما رويناه في التاريخ السابق،(٤١٥) عن غيبة النعماني، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (من المحتوم الذي لا بدَّ منه أن يكون قبل قيام القائم، خروج السفياني وخسف بالبيداء).
وفي خبر آخر عنه (ع)... قال الراوي: قلت له: ما من علامة بين يدي هذا الأمر؟
فقال: (بلى).
قلت: وما هي؟
قال: (هلاك العباسي - إلى أن قال: - والخسف في البيداء).
وهذا الأمر تعبير عن الظهور. وبين يديه يعني قبله.
وفي خبر آخر عنه (ع): (للقائم خمس علامات... - وعد منها: الخسف في البيداء).
أقول: والعلامة لا تكون إلاَّ سابقة على الظهور، كما هو واضح.
النقطة الثانية: معارضة هذه الأخبار بما دلَّ من الأخبار بأنَّ الخسف يحصل من أجل رجل وجماعة لا عدد لهم ولا عدَّة؛ إذ من الواضح أنَّ الإمام المهدي (ع) بمُجرَّد ظهوره سيكون له عدد وعدَّة، لا تقلُّ عن عشرة آلاف جندي.
أخرج مسلم(٤١٦): أنَّ رسول الله (ص) قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤١٥) انظر الأخبار الثلاثة في تاريخ الغيبة الكبرى ص٦٠٠.
(٤١٦) انظر الصحيح ج٨ ص١٦٧.

↑صفحة ٣٠٥↑

(سيعوذ بهذا البيت قوم ليس لهم مُنعة ولا عدد ولا عدَّة، يُبعث إليهم جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسف بهم).
أقول: وهذه صفة المهدي (ع) بل الظهور.
النقطة الثالثة: معارضة هذه الأخبار بما دلَّ من الأخبار المُطوَّلة الدالَّة على تفاصيل الحوادث، والتي تنصُّ على حدوث الخسف قبل الظهور.
أخرج النعماني في الغيبة،(٤١٧) بسنده عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع)، في حديث طويل قال فيه: (ويبعث السفياني بعثاً إلى المدينة، فينفر المهدي منها إلى مكَّة، فيبلغ أمير جيش السفياني أنَّ المهدي قد خرج إلى مكَّة، فيبعث جيشاً في أثره فلا يُدركه حتى دخل مكَّة خائفاً يترقَّب على سنَّة موسى بن عمران - قال: - وينزل أمير جيش السفياني بالبيداء، فيُنادي مُنادٍ من السماء: يا بيداء، أبيدي القوم. فيخسف بهم... - قال: - والقائم يومئذ بمكَّة، قد أسند ظهره إلى البيت الحرام مُستجيراً...) الخ الحديث الذي يستمرُّ في نقل خُطبته (ع).
وأخرجه المجلسي في البحار،(٤١٨) وهو واضح - على الأقلِّ - عدم تأخُّر الخسف عن الظهور.
ومع وجود هذه الروايات، تكون الأخبار الدالة على تأخُّر الخسف عن الظهور، ساقطة عن قابلية الإثبات في هذه الجهة، ولكنَّنا مع ذلك لن نخسر نقاط القوَّة السابقة التي ذكرناها لها.
أمَّا النقطة الأُولى: فلأنَّ عزم السفياني على قتل المهدي (ع) لن يكون بصفته مهدياً، بل بصفة أُخرى يشعر معها السفياني بأنَّ المهدي بتلك الصفة شخص مُتمرِّد عليه، ثائر على نظامه، فينبغي الإجهاز عليه.
وهذا الوضع طبيعي وواضح، من موقف الانحراف تجاه الحقِّ وأهله دائماً، ولا يلزم من ذلك أنَّ المهدي (ع) حال غيبته يكون قد قام بحركة واسعة ضدَّ السفياني... فإنّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤١٧) ص١٤٩ وما بعدها.
(٤١٨) ص١٤٦ ج١٣.

↑صفحة ٣٠٦↑

ذلك مُخالف لفكرة غيبته، إلاَّ أنَّ نفس وجود المهدي (ع) بالصفة الأُخرى هادياً للناس يُثير حقد السفياني ضدَّه وتخيُّله بالتمرُّد عليه.
وأمَّا النقطة الثانية: قد سبق أن بحثناها مُفصَّلاً، وعرفنا أنَّ السفياني لن يعرف المهدي (ع) بصفته الحقيقية، بـ (شخصيَّته الثانية) التي يتَّصف بها في ذلك العصر من عصور غيبته.
وأمَّا النقطة الثالثة: فباعتبار أنَّه من الواضح أنَّ كون الخسف معجزة صريحة وعلنيَّة، تقع إلى جانب المهدي (ع)، فتُثبت عدالة دعوته، لا يفرق الحال فيه بين أن يكون الخسف مُتأخِّراً عن الظهور بأيَّام ومُتقدِّماً عليه بأيام، فإنَّ تقدُّمه على الظهور يكشف للناس أنَّ هذا الذي وقع الخسف من أجله هو المهدي (ع)، وهذه المعجزة تُشارك في إثبات حصانته عن الكذب والتزوير، عند إلقاء الخطبة وأخذ البيعة، وإلى نهاية الخطِّ.
(الجهة الثالثة والرابعة الخامسة حُذِفت من المُسودَّة)

↑صفحة ٣٠٧↑

الباب الثاني: (من القسم الثاني للكتاب)
فتح العالم بالعدل
وهو على عِدَّة فصول

↑صفحة ٣٠٨↑

الفصل الأول: نقطة الانطلاق إلى العالم
ونتكلَّم في هذا الفصل ضمن عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الدالَّة على ذلك:
ستكون نقطة الانطلاق إلى فتح العالم هي الكوفة من العراق على وجه التعيين، وستكون في المدى القريب عاصمة الدولة العالمية المهدوية العادلة.
والمراد بالكوفة - وكما عرفنا - المنطقة التي تشمل النجف أيضاً، باعتبار أنَّ تجاورهما أرضاً وبناءً، يجعلهما كالمدينة الواحدة؛ ومن هنا جاءت الأخبار لتُسمِّي الكوفة تارةً والنجف أُخرى، وكلا القسمين يرجع إلى معنى واحد:
روى القندوزي في الينابيع،(٤١٩) عن كتاب فضل الكوفة لمحمد بن علي العلوي، بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص): (يملك المهدي أمر الناس سبعاً وعشراً، أسعد الناس به أهل الكوفة).
وروى ابن الصبَّاغ في الفصول المُهمَّة،(٤٢٠) عن أبي جعفر (ع) - في حديث طويل - قال: (إذا قام (ع) سار إلى الكوفة فوسَّع مساجدها...) الخ الرواية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤١٩) ينابيع المودَّة ص٥٣١.
(٤٢٠) الفصول المُهمَّة ص٣٢١.

↑صفحة ٣١١↑

وروى المفيد في الإرشاد،(٤٢١) عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر (ع)، قال: (كأنِّي بالقائم (ع) على نجف الكوفة، قد سار إليها من مكَّة في خمسة آلاف من الملائكة، جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله، والمؤمنون بين يديه، وهو يُفرِّق الجنود في البلاد).
وفي رواية عن عمر بن شمر، عن أي جعفر (ع)، قال: ذكر المهدي فقال: (يدخل الكوفة وبها ثلاث رايات قد اضطربت، فتصفو له، ويدخل حتى يأتي المنبر فيخطب، فلا يدري الناس ما يقول، من البكاء.
فإذا كانت الجمعة الثانية سأله الناس أن يُصلِّي بهم الجمعة، فيأمر أن يُخطَّ له مسجد على الغريِّ، ويُصلِّي بهم هناك...) الحديث.
ورواه الطبرسي(٤٢٢) أيضاً بنفس النصِّ.
ورواه الشيخ في الغيبة،(٤٢٣) عن عمر بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفر (ع) - وساق الحديث إلى قوله -: (ولا يدري الناس ما يقول من البكاء - وقال فيه: - فإذا كانت الجمعة الثانية، قال الناس: يا بن رسول الله، الصلاة خلفك تُضاهي الصلاة خلف رسول الله (ص)، والمسجد لا يسعنا. فيقول: أنا مُرتاد لكم. فيخرج إلى الغريِّ فيخطُّ مسجداً له ألف باب يسع الناس).
وأخرج الشيخ أيضاً،(٤٢٤) بسنده عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (ع) قال: (إذا دخل القائم الكوفة، لم يبقَ مؤمن إلاَّ وهو بها ويجيء إليها).
وهو قول أمير المؤمنين (ع)، وقول لأصحابه: (سيروا بنا إلى هذا الطاغية، فيسيروا إليه).
وأخرج أيضاً،(٤٢٥) بسنده عن صالح بن أبي الأسود، عن أبي عبد الله (ع) قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٢١) ص٣٤١ وكذلك الحديث الذي بعده.
(٤٢٢) إعلام الورى للطبرسي ص٤٣٠.
(٤٢٣) ص٢٨١.
(٤٢٤) ص٢٧٥.
(٤٢٥) ص٢٨٢.

↑صفحة ٣١٢↑

ذكر مسجد السهلة، فقال له: (أما أنَّه منزل صاحبنا إذا قدم بأهله).
وروى المجلسي في البحار،(٤٢٦) عن السيد علي بن الحميد في كتاب الأنوار المضيئة، بإسناده إلى أحمد بن محمد الأيادي يرفعه إلى إسحاق بن عمار قال: سألته عن إنظار الله تعالى إبليس وقتاً معلوماً ذكره في كتابه، فقال: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).
قال: (الوقت المعلوم يوم قيام القائم، فإذا بعثه الله كان في مسجد الكوفة...) الخ الخبر.
وروى أيضاً،(٤٢٧) عن بعض مؤلَّفات أصحابنا، بإسناده عن المفضَّل بن عمر، قال: سألت سيدي الصادق (ع): هل للمأمور(٤٢٨) المُنتظر من وقت مُوقَّت يعلمه الناس - والحديث طويل إلى عدَّة صفحات، يقول فيه: - قال المفضل: قلت: يا سيدي، فأين يكون دار المهدي ويجتمع (مجمع) المؤمنين؟
قال: (دار مُلكه الكوفة، ومجلس حكمه جامعها، وبيت ماله مقسم غنائم المسلمين مسجد السهلة، وموضع خلواته الذكورات البيض بين الغريين).
قال المُفضَّل: يا مولاي، كل المؤمنين يكونون بالكوفة؟
قال: (أي والله، لا يبقى مؤمن إلاَّ كان بها وحواليها، وليبلغنَّ مجالة فرس منها ألفي درهم...) الخ الخبر.
وهناك عدد من الأخبار عن مُنجزات الإمام المهدي (ع) في الكوفة، سيأتي الحديث عنها عند عرض نظام دولته (ع).
وذكر الشبلنجي في نور الإبصار(٤٢٩) عدَّة فوائد، بعد إيراده لأخبار المهدي (ع) وقال: الخامسة أنَّه بعد أن تُعقد له البيعة بمكَّة، يسير منها إلى الكوفة، وثمَّ يُفرَّق الجند إلى الأمصار.
أقول: التعبير في الأخبار بالنجف ونجف الكوفة، والغري، والذكوات البيض بين الغريَّين، كلُّها تعبيرات عن منطقة واحدة هي مدينة النجف الأشرف الحالية، التي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٢٦) البحار، ص١٩٧ ج١٣.
(٤٢٧) المصدر: يبدأ هذا الخبر المُطوَّل، ص٢٠٠ ج١٣ وما نقلناه موجود، ص٢٠٣.
(٤٢٨) لعلَّها: المأمول.
(٤٢٩) ص ١٧١.

↑صفحة ٣١٣↑

فيها مرقد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
ومسجد (السهلة) أحد مساجد الكوفة، يبعد عنها إلى جهة الشمال نحو كيلو متر واحد، بناه أحد أصحاب الإمام أمير المؤمنين (ع)، ويحتوي على عدَّة نقاط، روي أنَّها موضع صلاة عدد من الأنبياء والأولياء، والظاهر أنَّ أول مَن قام بتحديدها هو السيد مهدي بحر العلوم، من أبرز علماء الإمامية في القرن الثاني عشر الهجري، وهو أعلم بما قال وفعل.
منها: الموضع الذي يُعرف بمقام المهدي (ع)، الذي يروى أنَّ الإمام المهدي (ع) صلَّى فيه ركعتين في بعض عصور غيبته.
وأمَّا (جامع الكوفة) الكبير، الذي كان مركز قضاء الإمام أمير المؤمنين (ع) وصلاته وخطبه، وفيه الموضع الذي ضُرِب فيه ضربته التي توفِّي عنها... وكان له في التاريخ الإسلامي أثر كبير، فهذا الجامع غني عن التعريف.
(الجهة الثانية والجهة الثالثة حُذِفت من المُسودَّة)
الجهة الرابعة: هل هذه الروايات قابلة للإثبات بالنسبة إلى الأغراض التي سقناها من أجلها.
دلَّتنا هذه الروايات على عدَّة أشياء داخلة في حاجتنا وغرضنا:
أولاً: إنَّ المنطقة الرئيسية لوجود الإمام المهدي (ع) بعد مكَّة المُكرَّمة هي الكوفة (بالمعنى الشامل للنجف الأشرف).
وقد أصبح هذا المضمون مُستفيضاً بل مُتواتراً، بعد أن كان مرويَّاً من كلا الفريقين، ويدلُّ عليه هذا المجموع من الروايات، كما تدلُّ عليه الأخبار التي سمعناها لسفر المهدي (ع) وجيشه إلى الكوفة، وتدلُّ عليه أيضاً مجموعة أخرى من الأخبار التي تتحدَّث عن انجازات المهدي (ع) في الكوفة، ممَّا أجَّلنا الحديث عنه.
ثانياً: اجتماع المؤمنين في الكوفة نُصرة وتأييداً للإمام (ع).
وقد دلّ على ذلك عدد من الأخبار، ذكرنا أهمَّها، وهو عدد كافٍ للإثبات.
ثالثاً: إلقاء المهدي خطاباً أساسياً في مسجد الكوفة.
وهذا ما دلَّت عليه روايتان ممَّا سبق، روتهما ثلاثة من المصادر الإمامية القديمة، فإذا

↑صفحة ٣١٤↑

لاحظنا طبيعة الموقف تقتضي إلقاء هذا الخطاب، بحيث لو لم يرد له ذكر، لكان الأنسب عرضه كأُطروحة مُحتمَلة على أقلِّ تقدير، فكيف وقد ورد ذكره في الأخبار؟
إذن؛ يكون هذا الخطاب ثابتاً تاريخياً.
رابعاً: إنَّ الكوفة - والعراق على العموم - محكومة للسفياني، وإنَّه يقوم من المهدي (ع) - لأول مرَّة - موقف المُجاملة والمُلاينة، وهذا ثابت تاريخياً، كما سمعنا من أخبار السفياني السابقة، وما سيأتي من الأخبار التي تتحدَّث عن قتاله مع المهدي (ع)، وإن كانت أخبارنا في هذا الفصل لم تذكر ذلك بوضوح.
خامساً: إنَّ الشعب الكوفي والنجفي سيخضع للمهدي (ع) بسهولة ويؤيِّده بحرارة، وهذا واضح من مجموع الروايات، وقد تحدَّثت كلٌّ منها عن زاوية من نتائجه... إلى جانب مُناسبته مع طبع هذا الشعب وطبع الحوادث.
نعم، دلَّت إحدى الروايات أنَّ المهدي (ع) يُصلِّي بالناس صلاة الجمعة.
وهو أمر دلَّت عليه الروايات، وتقتضيه القواعد الفقهية الإسلامية أيضاً، كما لا يخفى على المُطَّلع، إلاَّ أنَّنا عرفنا أنَّه لا دليل على شرعة إقامته لهذه الصلاة... وإن كان الطلب منه لإقامتها سريعاً، نتيجةً لاندفاع الناس عاطفياً نحو الإمام المهدي (ع) وحُبِّهم له، واحترامهم إيَّاه، واعتبارهم له الحُجَّة بينهم وبين الله تعالى.
فقد تتأخَّر إقامتها إلى حين انتهاء بناء المسجد الكبير في النجف بين الغريَّين.
سابعاً: إنَّ المهدي (ع) يبدأ بغزو العالم انطلاقاً من الكوفة، وذلك بإرسال السرايا وبثِّ الجيوش المُتكاملة للقيام بهذه المُهمَّة.
وقد عرفنا ذلك تاريخياً، بعد وروده في مصادر كلا الفريقين، حتى اعتبره الشبلنجي أصلاً مُسلَّماً، كما عرفنا.
مضافاً إلى اقتضاء طبع الحوادث له، من حيث الحصول على القوَّة الكافية لهذا

↑صفحة ٣١٥↑

الهدف يومئذ، وعدم حصولها قبل ذلك، وخاصة بعد سيطرته على حُكم البلاد على وجه العموم، وأمَّا تأجيلها أكثر من ذلك فهو بلا موجب بعد حصول القوَّة الكافية، ووجود الضمانات الكافية للانتصار التي سنسمعها عمَّا قريب.
هذه هي أهمُّ الأمور التي أردنا التعرُّف عليها في هذا الفصل.

↑صفحة ٣١٦↑

الفصل الثاني: في مقدار سعة مُلكه وشموله لكل العالم

ونتكلَّم عن ذلك ضمن عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: في سرد الروايات الدالَّة على ذلك، والروايات المُندرجة تحت هذا العنوان على أقسام:
القسم الأول: ما يتكفَّل بيان ذلك بصراحة:
أخرج أبو داوود،(٤٣٠) بسنده عن أُمِّ سلمة، عن النبي (ص) قال: (يكون اختلاف عند موت خليفة... - إلى أن قال: - فيُقسِّم المال ويعمل في الناس بسنَّة نبيِّهم (ص) ويُلقي الإسلام بجرانه في الأرض).
وأخرج أيضاً،(٤٣١) عن أبي هريرة، عن النبي (ص) في حديث أنَّه قال: (ويُهلِك الله في زمانه المِلل كلَّها إلاَّ الإسلام).
وأخرج القندوزي،(٤٣٢) عن زرارة قال: سُئِل الباقر رضي الله عنه، عن قوله تعالى:
(... وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً...)(٤٣٣)، (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله).(٤٣٤)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٣٠) انظر السُّنن ج٢ ص٤٢٣.
(٤٣١) المصدر ص٤٣٢.
(٤٣٢) ينابيع المودَّة ص٧٠٥.
(٤٣٣) ٩/٢٦.
(٤٣٤) ٨/٣٩.

↑صفحة ٣١٧↑

قال: (لم يجيء تأويل هذه الآية، وإذا قام قائمنا بعد، يرى مَن يُدركه، ما يكون من تأويل هذه الآية. وليُبلِغنَّ دين محمد (ص) ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض، كما قال الله عزَّ وجلَّ). وعن عباب بن ربعي(٤٣٥) قال:
قال أمير المؤمنين على كرَّم الله وجهه، في هذه الآية: (والذي نفسي بيده، لا تبقى قرية إلاَّ نودي فيها بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله، بُكرة وعشيَّاً).
وأخرج الصدوق في إكمال الدين،(٤٣٦) في الحديث المُسند عن النبي (ص) في كلام منقول عن الله تعالى يقول فيه: (لأُظهِرنَّ بهم ديني، ولأُعلينَّ بهم كلمتي، ولأُطهِّرنَّ الأرض بآخرهم - يعني آخر الأئمة المعصومين عليهم السلام - من أعدائي ولأُملِّكنَّهم مشارق الأرض ومغاربها... حتى يُعلِن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي...) الخ الحديث.
وأخرج أيضاً،(٤٣٧) عن محمد بن مسلم الثقفي قال: سمعت: أبا جعفر محمد بن علي الباقر (ع) يقول: (القائم منَّا... يبلغ سلطانه المشرق والمغرب، ويُظهِر الله عزَّ وجل به دينه، على الدين كلِّه ولو كره الكافرون، ولا يبقى في الأرض خراب إلاَّ عُمِّر...) الخ الحديث.
وما أخرجه المفيد في الإرشاد،(٤٣٨) في حديث عن القائم (ع)، قال: (ولم يبقَ أهل دين حتى يُظهِروا الإسلام ويعترفوا بالإيمان، أما سمعت قول الله سبحانه: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(٤٣٩)...؟) الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٣٥) ينابيع المودَّة ص ٥٠٨ ط النجف.
(٤٣٦) انظر الإكمال المخطوط.
(٤٣٧) المصدر المخطوط.
(٤٣٨) ص٢٤٣.
(٤٣٩) آل عمران: ٣/٨٣.

↑صفحة ٣١٨↑

وأخرج المجلسي في البحار،(٤٤٠) عن المُفضَّل بن عمر: قال الصادق (ع): (كأنِّي أنظر إلى القائم على منبر الكوفة، وحوله أصحابه ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، عدَّة أهل بدر، وهم أصحاب الأولوية، وهم حُكَّام الله في أرضه على خلقه).
وفي حديث آخر،(٤٤١) عن جابر، عن أبي جعفر (ع) قال: (كأنِّي بأصحاب القائم وقد أحاطوا بما بين الخافقين، ليس من شيء إلاَّ وهو مُطيع لهم).
إلى أخبار أُخرى مُشابهة.
القسم الثاني: ما دلّ من الأخبار على أنَّ المهدي (ع) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
وهو خبر متواتر - كما سبق أن عرفنا - أخرجته الصحاح العامة والحفَّاظ، وأجمع رجال الحديث من الفريقين على صحَّته، وقد خرجناه في التاريخ السابق.(٤٤٢)
وقد ورد بألفاظ مُتقاربة وبمناسبات مُختلفة، بمعنى أنَّ النبي (ص) وقادة الإسلام (ع) كرَّروه مراراً، ولم يقتصروا على المرَّة والمرَّتين، ومن هنا كان مجموع النقول واضحة ومُتواترة.
والمراد من (الأرض) كل الأرض المعمورة بطبيعة الحال؛ إذ لا قرينة على ما دون ذلك.
القسم الثالث: تشبيه المهدي (ع) بذي القرنين، في سعة المُلك.
أخرج الصدوق في إكمال الدين،(٤٤٣) عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: (إنَّ ذي القرنين كان عبداً صالحاً، جعله الله حجَّة على عباده - إلى أن قال: - وإنَّ الله عزَّ وجلَّ سيُجري سنَّته في القائم من ولدي، ويُبلغه شرق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٤٠) بحار الأنوار ج ١٣ ص ١٨٤.
(٤٤١) المصدر ص١٨٥.
(٤٤٢) انظر ص٢٨١.
(٤٤٣) إكمال الدين المخطوط.

↑صفحة ٣١٩↑

الأرض وغربها، حتى لا يبقى منها موضعاً من سهل ولا جبل وطأه ذو القرنين إلاَّ وطأه... يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت جوراً وظلماً).
وأخرجه الطبرسي في إعلام الورى.(٤٤٤)
القسم الرابع: سيطرته على أقاليم الأرض جميعاً.
أخرج النعماني في الغيبة، بسنده(٤٤٥) عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي (ع) يقول: (لو قد خرج قائم آل محمد (ع)... - إلى أن قال: - يفتح الله له الروم، والصين، والتُّرك، والديلم، والسِّنْد، والهند، وكابل شاه، والخزر).
وأخرج الطبرسي،(٤٤٦) عن أبي بصير، عن أبي جعفر (ع) في حديث عن القائم (ع)، قال: (ويفتح قسطنطينية والصين وجبال الديلم...) الحديث.
ويندرج في هذا القسم ما ورد من توزيع المهدي (ع) أصحابه حكَّاماً على أقاليم الأرض، كما سوف يأتي في الحديث عن الشكل الإداري للدولة العالمية.
وهذه الأخبار بأقسامها الأربعة مُتواترة قطعية الصدق بالنسبة إلى المطلوب، وهو: عالمية الدولة المهدوية، وخاصة إذا التفتنا إلى أنَّ نتيجة التخطيط الإلهي العام تقتضي ذلك بعينه، كما سنذكر في الجهة الآتية.
وسنُحاول فَهْم تفاصيل هذه الأخبار بعد الحديث عن التخطيط الإلهي.
الجهة الثانية: اقتضاء التخطيط الإلهي العام عالمية الدعوة المهدوية.
سبق أن ذكرنا في هذا التاريخ، والذي قبله(٤٤٧) أنَّه يمكن أن ننطلق من قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ).(٤٤٨)
وآيات كريمة أُخرى في القرآن، إلى الاستدلال على أنَّ هدف وجود الخليقة عموماً إنَّما هو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٤٤) ص٤١٣.
(٤٤٥) ص١٢٢-١٢٣.
(٤٤٦) ص٤٣٢.
(٤٤٧) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٣٤.
(٤٤٨) ٥١/ ٥٦.

↑صفحة ٣٢٠↑

العبادة بمعناها الكامل الشامل الدقيق، وهو تطبيق العدل الكامل على الفرد والمجموع، المُتمثِّل بتفاصيل أوامر الله ونواهيه وإرشاداته بدقائقها على كل الخليقة: الإنس والجن.
وقد عرفنا - فيما يخصُّ الإنس والبشرية - أنَّها عاشت حقباً طويلاً من الدهر في التخطيط التربوي العام لها؛ لأجل تحقيق شرائط هذا الهدف وإيجاد المستوى اللائق به في المجتمع البشري.
وكان القائد الكبير المذخور لتحقيق هذا الهدف الكبير، هو الإمام المهدي الموعود عليه السلام، وهو الذي بشَّرت به الأديان ونادى به الإسلام، باعتبار أنَّ كلَّ الأديان السماوية - بما فيها الإسلام - إنَّما كانت واقعة في طريق ذلك الهدف الكبير، ومن ثمَّ لتحقيق شرائط قيادة المهدي (ع) ووجود دولته العالمية.
ومن ثَمَّ يتَّضح - بجلاء - أنَّ عمل المهدي (ع) وقيادته وأهدافه في البشرية هي الأهداف التي أرادها الله تعالى لخليقته من حين وجودها، وهي نتيجة جهود الأنبياء والأولياء والصالحين جميعاً، وهي تطبيق العدل الكامل والعبادة المحضة في ربوع المجتمع الإنساني (الإنس) كلهم، على ما نطقت به الآية الكريمة.
ولا يمكن أن يكون هذا الهدف ضيِّقاً ومُقتصراً على قوم دون قوم، ومجتمع ودولة دون دولة... فإنَّ نسبة البشرية إلى الخالق الحكيم وإلى الأهداف التي توخَّاها في خليقته، نسبة واحدة متساوية.
إذن؛ فالهدف يجب أن يكون عامَّاً شاملاً، وبشرياً بكل ما في هذه الكلمة من سعة وشمول.
إذن؛ فمن الطبيعي أن نفهم من الآية الكريمة نفسها: أنَّ دولة الإمام المهدي (ع) ستكون شاملة للإنس كلِّهم وللمُجتمع والبشرية كلِّها.
ولسنا الآن في حاجة إلى إعطاء التفاصيل لهذا التخطيط العام، بعد الذي عرفه قارئ الموسوعة، وما سوف يأتي في الكتاب الآتي تفصيل عميق لهذا التخطيط.
الجهة الثالثة: في إعطاء بعض الملحوظات التي تُساعد على فَهْم الروايات السابقة.
الملحوظة الأُولى: روايات القسم الأول التي سمعنا، صريحة في عالمية الدولة المهدوية، كقوله: (وليُبلِغنَّ دين محمد (ص) ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض،

↑صفحة ٣٢١↑

ولا تبقى قرية إلاَّ نودي فيها بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله بُكرة وعشيَّاً).
والقرية هي كل منطقة مسكونة، وقد ورد في الرواية طبقاً للفهم القرآني حين يقول: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ).(٤٤٩)
والمقصود من الرواية: أنَّ كل المُدن على الإطلاق، سوف يُنادى فيها بالأذان الإسلامي المعهود.
وكذلك قوله: (يبلغ سلطانه المشرق والمغرب).
وقوله: (لأُملِّكنهم مشارق الأرض ومغاربها... حتى يُعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي). إلى غير ذلك.
الملحوظة الثانية: إنَّ عقد المُقارنة بين سعة مُلك ذي القرنين، وبين سعة حكم المهدي (ع)، إنَّما هو باعتبار أنَّ ذي القرنين أكبر قائد عرفه التاريخ القديم، وسيكون المهدي أكبر قائد يعرفه التاريخ الحديث، وسيبقى الفرق بين هذين القائدين هو الفرق بين العهدين، وما يحتويانه من إمكانيات معنوية ومادِّية.
وليس المراد بهذه المقارنة تشابه المقدار الذي يفتحه المهدي (ع) مع المقدار الذي فتحه ذو القرنين، ليخطر على البال: أنَّ مُلك المهدي لا يزيد على ذلك، ولا يستوعب العالم كله؛ لأنَّ ذا القرنين لم يستوعب بمُلكه العالم كلِّه على أيِّ حال.
إنَّ النصوص التي سمعناها في الملحوظة الأُولى، صريحة في عالمية الدولة العالمية، مضافاً إلى اقتضاء التخطيط الإلهي العام لذلك، فتكون قرينة على أنَّ المراد من التشبيه هو مُجرَّد السعة والشمول دون التحديد.
وليس في الرواية دلالة على الانحصار؛ فإنَّها قالت: (حتى لا يبقى منهلاً ولا موضعاً وطأه ذو القرنين إلاَّ وطأه)، وهذا صادق مع استيعاب الحُكم المهدوي للعالم، فإنَّ مناطق (ذي القرنين) تقع (ضمن الحُكم المهدوي) بطبيعة الحال.
فالتحديد المروي يعني أنَّ المهدي (ع) لا يطأ، أي لا يفتح مقداراً أقلَّ من ذلك، بل يفتح هذا المقدار الذي فتحه ذو القرنين، وقد يزيد المهدي (ع) على ذلك بكثير، وليس في الرواية ما يدلُّ على نفي ذلك، فإذا دلَّ على هذه الزيادة دليل كافٍ، كالروايات من القسم الأول والتخطيط العام، كانت عالمية الدولة المهدوية أمراً ثابتاً، بل قطعيَّاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٤٩) هود: ١١ / ١٠٠.

↑صفحة ٣٢٢↑

الملحوظة الثالثة: نصَّت روايات القسم الرابع على أسماء بقاع مُعيَّنة في العالم، يستولي عليها الإمام المهدي (ع) ضمن دولته العالمية، وهي - بلسان كلا الروايتين -: الروم، والصين، والديلم، والتُّرك، والسند، والهند، والقسطنطينية، وكابل شاه، والخزر.
وهذا أكبر استيعاب ممكن لمناطق العالم، بحسب مستوى الفهم العام للمجتمع حال صدور هذه النصوص، الفهم الذي لم يكن ليُساعد على تعداد ما هو أكثر من ذلك.
وفي الحقيقة، أنَّ هذه المناطق إنَّما ذُكرت لإعطاء الانطباع عن سعة فتح الإمام المهدي (ع) ودولته... وسيقت كأمثلة لذلك، لا على وجه التعيين، ومعه فيُمكن استفادة فَهْم الانحصار بهذه المذكورة، وكيف يمكن فَهْم الانحصار مع قيام الدليل القطعي الذي عرفناه على خلافه.
ومن هذه الأمثلة نعرف سعة حكم المهدي (ع) على ذي القرنين، فإنَّ المعروف أنَّ ذا القرنين لم يحكم الصين ولا الروم،(٤٥٠) وإنَّما حاربهم، على حين أنَّ المهدي سوف يُسيطر على ذلك سيطرة تامَّة.
والمراد بالروم في الرواية، طبقاً للفهم المُعاصر لصدورها، معناه الشامل للإفرنج كلِّهم، أعني أوروبا عموماً، وقد يشمل قادة أمريكا أيضاً، لا أنَّهم من عنصر بشري مُشابه، أي أنَّهم من الإفرنج بالمعنى العام.
والمراد بالصين المنطقة المعروفة في شرق آسيا... الشاملة للقسم المحكوم للشيوعيين اليوم، والقسم المحكوم لأمريكا وللصين الوطنية، والشامل لليابان أيضاً.
والمراد بالديلم وجبال الديلم، المناطق التي تقع الآن في (جنوب الاتِّحاد السوفيتي)، والتي تحتوي على أكثرية مسلمة، فإنَّ نسبة الديالمة في التاريخ إلى تلك المنطقة، وقد تُسمَّى بمنطقة ما وراء النهر في بعض التواريخ.
وأمَّا الهند فمعروفة، إلاَّ أنَّ المقصود منها ما يشمل باكستان أيضاً؛ لكونهم ممَّا يصدق عليهم اسم الهند لغةً بطبيعة الحال.
وأمَّا السند، فالمراد به ما يُسمَّى اليوم بجنوب شرقي آسيا، بما فيها أندونيسيا وفيتنام ولاوس وغيرها.
والمراد بالقسطنطينية، مدينة استانبول، التي هي الجزء الأوروبي من تركيا، وهي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٥٠) أعني الجزء الغربي من أوروبا، فإنَّ الجزء الشرقي منها دخل تحت حُكم ذي القرنين.

↑صفحة ٣٣٣↑

ترد - عادة - في لسان الروايات كأقوى مدينة في العالم القديم، بحيث يكون فتحها نقطة استراتيجية مُهمَّة في حركة القيادة العالمية، وإنَّما تكتسب أهمِّيتها باعتبارها إحدى المداخل الرئيسية لأوروبا الشرقية.
ومن هذا المنطلق، ورد التبشير في الروايات بشمول الفتح الإسلامي للقسطنطينية، وبات مُنتظَراً عدَّة قرون، حتى تحقَّق على يد (العثمانيين)، وبذلك اكتسبوا أهمِّية كبيرة بصفتهم المُطبِّقين لذلك التبشير الإسلامي، وقد عرضنا ذلك في التاريخ السابق،(٤٥١) وسيفتحها المهدي (ع) مرَّة أُخرى.
وكابل شاه، هي عاصمة مملكة الأفغان الحالية، وفتحها يعني فتح المنطقة كلِّها بطبيعة الحال، وشُهرتها على (كابل)، وأُضيفت إلى الشاه إمَّا باعتبار أنَّها الاسم القديم لها، وباعتبار عاصمة دولة ملكية... والشاه هو الملك عندهم.
والخزر، هو المنطقة المجاورة لبحر الخزر، المعروف ببحر قزوين من الشمال... الذي يحكم أغلب شواطئه الآن دولة الاتِّحاد السوفيتي، وقد اختصَّت إيران بقسم من شواطئه الجنوبية.
ومن هنا؛ نعرف أنَّ هذه المناطق شاملة لكل العالم المعروف، والمسكون في عصر صدور هذه الروايات، ولم يكن من المعقول التصريح بما يزيد عليه، فإنَّه يكون مُخالفاً للمستوى الثقافي والعقلي للسامعين في ذلك العصر.
وهو يكاد يستوعب كل قارَّة أروربا وآسيا، وقد يشمل - بشكل وآخر - أمريكا الشمالية أيضاً.
وقد سكتت هاتان الروايتان عن أفريقيا وإستراليا وأمريكا الجنوبية والقطبين؛ لما قلناه: من أنَّ تسميتها كانت غير مناسبة مع مستوى السامعين.
وهذا صادق في غير الشمال الإفريقي (بالمعنى الشامل لمصر)، والحبشة (بالمعنى الشامل للسودان والصومال أيضاً)؛ فإنَّه كان معروفاً للمجتمع يومئذ؛ فيكون دليل شمول الحُكم المهدوي لها ثابتاً بالقسم الأول من الروايات ودلالة التخطيط العام.
وإذا نظرنا إلى هذه البلاد المذكورة من زاوية حالها الحاضر، أمكننا أن نعرف كيف أنَّها تحتوي على مناطق إفرنجية رأسمالية صرفة، وعلى مناطق شيوعية صرفة، وعلى مناطق مُستعمرة للشرق الشيوعي... ممَّا يؤكِّد ما قلنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٥١) ص٥٦٢ وما بعدها.

↑صفحة ٣٢٤↑

عن استقلال أيديولوجية المهدي (ع) عن هذه الأيديولوجيات السائدة في عصر الغيبة.
ويؤكِّد - بكل وضوح - أنَّ المهدي (ع) سوف يأتي مُحارباً للمادِّية بكل أشكالها وأحوالها، وللفساد القانوني والأخلاقي بكل عناوينه وشعاراته.
وهو أيضاً يؤكِّد - في نفس الوقت - مقدار القوى التي ستُقابل المهدي (ع) في هذا العالم وأهمِّية العمل القيادي الذي سوف يتكفَّله، وهذا ما سنعرفه في الفصل الآتي وفي ضمانات النصر.
فإنَّ المُهمَّ بعد الآن، هو أن نعرف بوضوح كيفيَّة حصول المهدي (ع) على هذا الهدف الضخم، الذي لم يسبق له الوجود في تاريخ البشرية كلها، وما هي ضمانات الانتصار في هذا الهدف.

↑صفحة ٣٢٥↑

الفصل الثالث: ضمانات انتصار المهدي (ع)

ونريد بهذه الأسباب التي تتوفَّر للإمام المهدي (ع) حين ظهوره، فتوجب له تحقُّق النصر الأكيد السريع، الذي يسيطر به على كل المجموعة البشرية.
وهي لا شكَّ ضمانات أكيدة وشديدة وواسعة، يوفِّرها الله تعالى للمهدي (ع)؛ لكي تكون بمجموعها سبباً لإنجاز هذا القائد العظيم الهدفَ الأسمى من وجود البشرية.
تمهيد:
قد يخطر في الذهن: أنَّه لا حاجة إلى البحث عن الضمانات وتفاصيلها، بعد أن كنَّا نعلم أنَّ إرادة الله هي الضمان الوحيد لنصر الإمام المهدي (ع)، الذي جعله القائد الكبير لتطبيق الهدف الكبير والقيام بدولة الحق في آخر الزمان.
وجواب ذلك: أنَّ إرادة الله عزَّ وجلَّ هي الضمان الوحيد للنصر، وهذا صحيح بكل تأكيد، ولا يوازيها أيُّ عامل آخر.
ولكنَّ هذا لا ينافي البحث عن الطريقة التي يريد بها الله تعالى نصر مهديِّه الموعود، في حدود الإثباتات والأدلة المُتوفِّرة، فإنَّ الأسلوب الذي يريده الله تعالى أسلوباً لانتصار المهدي (ع)، يُحتمل فيه عدَّة أُطروحات.
الأُطروحة الأُولى: الانتصار بالطريقة الإعجازية الكاملة.
وهي الأُطروحة التي يذهب إليها الفكر التقليدي لدى المسلمين؛ ولذا استنتجوا:

↑صفحة ٣٢٧↑

أنَّ الإمام (عليه السلام) يحصل على الأسلحة بطريق المعجزة، وأنَّ الأسلحة لا تعمل ضدَّ جيشه، وأنَّ الأعداء لا يمكنهم الكيد ضدَّه، بمعنى أنَّهم سوف يُصرَفون ذهنياً عن استنتاج الطرق العسكرية والاجتماعية المؤثِّرة ضدَّ الكيان المهدوي.
غير أنَّنا نأسف لعدم إمكان الالتزام بهذه الأُطروحة؛ لأنَّ الدليل الصحيح القطعي قائم على دحضها وتفنيدها، فإنَّها تواجه عدَّة اعتراضات مُهمَّة نذكر منها ما يلي:
الاعتراض الأول: لو كان الإعجاز طريقاً صحيحاً للدعوة الإلهية، لأمكن للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى السيطرة الكاملة على العالم، بالرغم من جبروت العباسيين والفرس والروم يومئذ، فيملؤها قسطاً وعدلاً بعد أن مُلِئت ظلماً وجوراً، بل لأمكن لنبي الإسلام (ص) - وهو خير البشر - تحقيق هذا الهدف، ولما احتاج إلى بذل الجهود المُضاعفة في نشر الهدى والعدل، ومقاتلة المشركين، ولما انتهى الأمر إلى مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأهله وأصحابه في سبيل الهدى والعدل، في واقعة كربلاء الدامية المعروفة.
وإذا أمكن إنجاز الهدف البشري الكبير في وقت أسرع، كان تأخيره ظلماً للبشر، والظلم غير ممكن من الحكمة الإلهية الأزلية؛ فيجب تقديم الموعد بمقدار الإمكان.
والسرُّ الأساسي في هذا التأجيل ما عرضناه مُفصَّلاً في التاريخ السابق،(٤٥٢) من أنَّ طريق الدعوة الإلهية لا يقوم على المعجزات؛ لأنَّ الهدى والعدل الناتج عن المعجزات أقلُّ وأضحل من الهدى والعدل الناتج عن طرقه الطبيعية؛ ومن هنا كانت كل نتيجة يمكن تحقيقها بالطرق الطبيعية، فإنَّها لا توجد عن طريق المعجزة، بل يوكَل أمرها إلى تلك الطرق مهما طال بها الزمن، لا يُستثنى من ذلك إلاَّ قيام المُعجزة عند انحصار السبب بها انحصاراً مطلقاً.
وحيث كان الهدف البشري العام الموعود، يمكن إيجاده بالطرق الطبيعية، وكانت هذه الطرق تحتاج في فعالياتها إلى طول الزمان - كما سبق أن عرضناه هناك - إذن؛ فقد تعيَّن تأجيل الموعد إلى حين وجوده بالسبب الطبيعي.
ولمَّا عرفنا من ذلك، بنحو القاعدة العامة، أنَّ طريق الدعوة الإلهية، ليس بطريق إعجازي، فهذا لا يختلف فيه الحال ما بين عصور ما قبل الظهور، وعصور ما بعده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٥٢) ٢٤٤ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

↑صفحة ٣٢٨↑

وبتعبير آخر: لا يختلف فيه الحال بين المُقدِّمات البعيدة لإنجاز الهدف البشري، والمُقدِّمات القريبة منه، وعصر ما بعد انجازه، فإنَّ سنَّة الله تعالى في خلقه لا تختلف على كلِّ حال.
ومن هنا لا يمكن الالتزام بأنَّ سيطرة المهدي (ع) على العالم تكون بطريق إعجازي مطلق.
الاعتراض الثاني: أنَّ افتراض الإعجاز في انتصار الإمام المهدي (ع) على العالم، ممَّا تنفيه أعداد كبيرة من الأخبار:
أولاً: الأخبار الدالَّة على أنَّ أصحابه الخاصة ثلاثمئة وثلاثة عشر؛ إذ مع المعجزة لا حاجة إلى أيِّ واحد منهم.
ثانياً: الأخبار الدالَّة على أنَّه يخرج من مكَّة بعشرة آلاف... إذ مع المعجزة أمكن أن يخرج بعشرة ملايين.
ثالثاً: الأخبار الدالَّة على سفره من مكَّة إلى الكوفة، إذ بالمعجزة يمكن الوصول إلى الكوفة فوراً.
رابعاً: الأخبار الدالَّة على إلقاء خُطبته في مكَّة، وإلقاء خطاب آخر بالكوفة؛ إذ يمكن بالإعجاز إيصال هذه المعاني إلى أذهان الناس بدون كلام!
خامساً: الأخبار الدالَّة على مقاتلته للسفياني، وقتله إيَّاه؛ إذ مع المعجزة تكون الحاجة إلى هذا الجهد مُنتفية.
سادساً: الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي (ع) يقتل المُنحرفين بكثرة، يضع السيف فيهم ثمانية أشهُر بدون انقطاع - كما سيأتي - وهذا لا حاجة له مع إمكان إنجاز ذلك بالمعجزة بين عشيَّة وضحاها، وطَرفة عين.
بل أنَّ نفس ظهور المهدي (ع) ممَّا لا حاجة إليه، لو آمنا بتأثير المعجزة إيماناً مطلقاً؛ إذ يمكن له إصلاح العالم، في حال غيبته، بل في نفس وجود المهدي (ع) يبقى أمراً مُستأنفاً، إذ يمكن لله أن يُصلح العالم بدون قائد ولا قيادة ولا حروب، قال الله تعالى: (... وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً...).(٤٥٣)
(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ).(٤٥٤)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٥٣) يونس ١٠/٩٩.
(٤٥٤) الأنعام ٦/ ١٤٩.

↑صفحة ٣٢٩↑

فكل ما دلَّ على وجود الإمام المهدي (ع) وعلى ظهوره، يُنافي مع فكرة الإعجاز المطلق.
إذن؛ فالأُطروحة الأُولى قطعيَّة البطلان.
الأُطروحة الثانية: إنَّ الله تعالى يريد نصر الإمام المهدي (ع) على حدِّ إرادته لسائر الأشياء في الكون، بمعنى أن يوكِل الله انتصاره إلى القوانين الطبيعية إيكالاً كاملاً، بدون أيِّ زيادة ورتوش من تأييد وتخطيط.
وهذه الأُطروحة أيضاً لا يمكن الالتزام بصدقها صدقاً كاملاً، بالرغم من صحَّة القول: بأنَّ السير على طبق القوانين الكونية هو الأسلوب (العام) في عمل المهدي (ع)، غير أنَّ التمحُّض في ذلك، ونفي التأييد والتخطيط الإلهيين يواجه عدَّة اعتراضات.
الاعتراض الأول: أنَّ التاريخ السابق على الظهور الذي دلَّنا عليه التخطيط الإلهي العام، دالٌّ بوضوح على وجود العناية والتأييد الخاصَّين بالمهدي (ع) ويومه الموعود.
فهناك التخطيط لإيجاد الشرط الأول من شرائط اليوم الموعود، التي عرفناها في التاريخ السابق،(٤٥٥) وهو جود الأُطروحة العادلة الكاملة معروفة بين الناس، وقد تمَّ هذا التخطيط ووجِدت الأُطروحة مُتمثِّلة بالإسلام كما عرفنا هناك.
وهناك التخطيط لإيجاد الشرط الثالث، وهو العدد الكافي لغزو العالم بالعدل... الذي عرفنا أنَّ التمحيص، ومرور البشرية في ظروف الظلم والتعسُّف ردهاً طويلاً من الزمن من أهمِّ أسبابه.
وهناك التخطيط لإيجاد الشرط الثاني، وهو صفة القيادة العالمية المُثلى، مُتمثِّلة بشخص الإمام المهدي (ع)... الأمر الذي عرفنا للغيبة الطويلة - أعني لطول العمر - دخلاً كبيراً في التسبُّب إليه.
وهناك التخطيط بإيجاد الغيبة نفسها، التي كان لا بد أن يقترن طول العمر بها حفاظاً على القائد المذخور ليوم العدل الموعود.
وهناك علامات الظهور القريبة، التي سمعناها في هذا التاريخ، وأهمُّها الخسف والخسوف والكسوف في غير أوانه، وهي علامات إعجازية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٥٥) تاريخ الغيبة الكبرى: ص٢٦١ وما بعدها.

↑صفحة ٣٣٠↑

وقد يخطر في الذهن: أنَّ أكثر هذه الأمور التي عرضناها هي - في واقعها - أمور (طبيعية) تحدث طبقاً للقوانين العامة في الكون، وليست إعجازية، حتى (الغيبة) طبقاً للفهم الذي رجَّحناه في التاريخ السابق،(٤٥٦) وهو (أُطروحة خفاء العنوان)، فلا تكون هذه الأمور دالَّة على وجود العناية والتأييد الإلهيين.
وجواب ذلك: أنَّها أمور (طبيعية) بكل تأكيد، ولكنَّها تدلُّ على العناية والتأييد، بكل تأكيد أيضاً، فإنَّ القوانين الكونية بوجودها الخالص، لا تقتضي هذه الأمور اقتضاء ضرورياً، لتكون هذه الأمور (طبيعية) خالصة، بل هي محتاجة إلى التخطيط المُتعمد المرتَّب.
وكان السبب في هذا التخطيط المتعمد - كما عرفنا هناك وكما سيأتي مزيد البرهان عليه في الكتاب القادم... - هو التسبيب لأجل إيجاد الغاية التي خلق الكون والبشرية خصوصاً من أجلها، وهو الكمال الفائق والعبادة الخالصة.
وإرادة الخالق وقدرته، يمكنها أن تعطف اتجاه القوانين الكونية إلى حيث تريد، من دون أن تتغيَّر قوانينها ودقَّتها، فقد عطفتها باتجاه إيجاد الغاية من الخلق؛ ومن هنا وجِدت فكرة التخطيط المُتعمد المرتَّب.
إذن؛ فهذه الأمور (طبيعية)، وهي في نفس الوقت تدلُّ على العناية والتأييد الإلهيين.
الاعتراض الثاني: إنَّ التاريخ اللاحق للظهور، الذي دلَّت عليه الروايات التي سمعناها والتي سنسمعها، يتضمَّن - بوضوح - العناية والتأييد الإلهيين.
فمن ذلك: اجتماع أصحاب الإمام المهدي (ع) عند أول ظهوره، وتتابعهم في الوصول إليه بعد ذلك، وهم يصلون بطريق (طبيعي)، ولكنَّ تركيز عواطفهم باتجاه نصر المهدي (ع) وتأييده... لطف وعناية، ناتج عن التخطيط العام السابق على الظهور.
ومنه: كون المهدي (ع) مُنتصراً في كل حروبه، ضدَّ أيِّ عدوٍّ، عظيماً كان وحقيراً.
ومنه: ما سنسمعه من نُصرة الملائكة للمهدي (ع)، وقد وردت في ذلك روايات عديدة سنرويها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٥٦) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٣٤ وما بعدها.

↑صفحة ٣٣١↑

ومنه: سيطرته على العالم كله، وهو هدف لم يتحقَّق على يد أيِّ قائد سابق، ظالماً كان وعادلاً.
ومنه: تجاوب (الطبيعة) مع العدل الساري في دولته، بالمعنى الذي سنذكره.
وغير ذلك من النقاط التي تدلُّ - بوضوح - على العناية والتأييد، ممَّا ذكرنا وسنذكر إثباتاته الكافية... وبعضها ترقى إلى رتبة اليقين لكل مؤمن بفكرة المهدي أساساً.
ومعه؛ فالأُطروحة الثانية القائلة بإيكال أمر الإمام المهدي (ع) إلى القوانين الكونية إيكالاً كاملاً... لا يمكن أن تكون صحيحة.
الأُطروحة الثالثة: وهي المُتعيِّنة بعد نفي الأُطروحتين السالفتين:
إنَّ الإمام المهدي (ع) ينتصر طبقاً للطريق (الطبيعي)، ولا يمكن أن تكون المعجزة سبباً قهريَّاً لانتصاره، غير أنَّ هذا الطريق (الطبيعي) مُطعَّم بالتأييد الجزئي وغير القهري من قِبل الله عزَّ وجلَّ؛ باعتبار أنَّ دولة الإمام المهدي (ع) هي النتيجة الكبرى لوجود البشرية وجهودها وتضحياتها.
تماماً كما أيَّد الله نبيه (ص)... وأوضح أشكال هذا التأييد الذي لا يمكن أن يُنكره مُنكر، هو وصول الجيش الإسلامي القليل العدد والعدَّة، إلى مناطق شاسعة من الكُرة الأرضية في أقلِّ من نصف قرن، ولازال الإسلام - بالرغم من تكالب الجهود الدولية على طمسه والإجهاز عليه - باقياً في توسُّع وانتشار، وإن كان أبطأ من السابق بطبيعة الحال.
هذا، إن صرفنا النظر عن انتصار النبي (ص) في كل حروبه، وتأييده بالملائكة، وبالقرآن الكريم، ولماذا نصرف النظر عن ذلك؟!
وبعد هذا التمهيد، لابدَّ لنا من التعرُّض إلى صُلْب الموضوع في هذا الفصل، وهو عرض أسباب وضمانات النصر للإمام المهدي (ع)... تلك الضمانات التي تُهيِّئ له البيئة المناسبة لسرعة وسهولة سيطرته على العالم بالعدل، بالرغم من أهمِّية هذه المُهمَّة وجسامة مسؤولياتها، وأمَّا كيفيَّة وأساليب الخطط العسكرية والمفاهيم الفكرية التي يستعملها المهدي (ع) خلال عمله، فهذا ممَّا لا يمكن الاطِّلاع عليه إلاَّ للفرد المُعاصر لذلك الزمن... سوى بعض الأمور القليلة التي سنذكرها بعد ذلك.
وهذه الضمانات يرتبط بعضها بالتخطيط العام للعصر السابق على الظهور، بمعنى أنَّها

↑صفحة ٣٣٢↑

من نتائجه بشكل وآخر.
وبعضها راجع إلى تخطيط خاص مُتَّخذ يومئذ لكي يوصل إلى نتائج مُعيَّنة؛ ومن هنا لا بد من وقوع الحديث في قسمين من الضمانات:
القسم الأول: الضمانات الناتجة عن التخطيط العام السابق على الظهور:
وهي ضمانات عديدة، أكثرها منصوص في الروايات بوضوح:
الضمان الأول: فشل الأنظمة السابقة على الظهور، واتضاح زيفها وظلمها لدى الناس
فقد قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى:(٤٥٧) إنَّ من جملة النتائج التي يتمخَّض عنها التخطيط العام السابق على الظهور، هو مرور كل المبادئ التي تدَّعي لنفسها حلَّ مشاكل البشرية وتذليل مصاعبها... بتجارب طويلة الأمد، ينكشف في نهاية المطاف زيفها، وجهات القصور والنقص والظلم فيها... ذلك النقص الذي تتضمَّنه بالضرورة؛ باعتبارها بنت العقل البشري القاصر، المُقيَّد في حدود العاطفة والزمان والمكان، هذا النقص الذي لا يبرز للعيان بعد التجربة والامتحان.
وتمرُّ المبادئ في خضمِّ التجارب - واحدة بعد الأُخرى - أمام الرأي العام العلمي، وبمرأى ومسمع من الجميع، الصديق والعدوِّ، والموافق والمُخالف... حتى يظهر زيفها وظلمها، ومخالفتها للمصالح العامة والخاصة، أمَّا الجميع وهذا ما نعيشه فعلاً بتاريخنا الحاضر، الذي كشف لرأي العام العالمي عن عدد من المبادئ التي تدَّعي حلَّ مشاكل العالم.
وإذا تهاوت كل التجارب على صخرة الواقع، يحدث عند البشر عموماً يأس نفسي قاتل من المبادئ المعروضة كلها، وإحساس عميق بأنَّها غير قابلة لرفع المظالم عن كاهل البشرية، وإبدالها بالسعادة والرفاه، لكنَّ خيط الخير وومضة النور، تبقى تعتمل في صدور الناس بشكل غامض عميق الغموض، إنَّ خيط الأمل بالسعادة سوف لن ينقطع.
وينبعث أمل غامض بأنَّ هناك مبدأً مجهولاً عادلاً، يمكن أن يضمن للبشرية سعادتها ورفع المشاكل من ساحتها، ويزداد الأمل أصالة ووضوحاً كلَّما ازداد الإحساس بفشل المبادئ المعروضة في العالم.
لا يختلف في هذا الأمل، مؤمن عن كافر... فإن الكل يحسون بالظلم وإن كانوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٥٧) ص٢٨٨ وما بعدها.
 

↑صفحة ٣٣٣↑

مُشاركين في إيجاده، وكلُّهم يشعرون بمرارته وقساوته، كما أنَّ الجميع سيعرفون فشل المبادئ المعروضة لحلِّ مشاكلهم، وأنَّها إنَّما أضافت إلى الظلم ظلماً، وإلى المشاكل مشاكل.
فتنعكس هذه الأحاسيس على شكل تصوُّر لا شعوري مُجمل، يتضمَّن انبثاق المبدأ المؤهَّل لإيجاد السعادة في يوم من الأيام، ويُصبح البشر على العموم في حال انتظار غامض لهذا الغد السعيد المنشود... تماماً كما ينتظر المؤمن ظهور المهدي (ع) انتظاراً واضحاً.
وانطلاقاً من هذه الزاوية بالذات، سوف يتلهَّف الناس ويلتفتون بكل إخلاص يملكونه، ومَن منهم لا يُخلص لمصلحته وسعادته؟!.. إلى أول صوت صريح يدَّعي وجود حلٍّ جديد لمشاكل البشرية، وسبب جديد لنشر السعادة في ربوعها.
سيقول المؤمن: هذا هو أملي الذي كنت أعرفه، وانتظره بوعي ووضوح.
وسيقول الكافر: هذه تجربة خيِّرة البوادر، لعلَّها تُنقذ البشرية وتُحقِّق آمالها المنشود، وسيقول المهدي (ع): أنا المُصلح المُنتظَر.
فيُجيبه العالم: أنت المُصلح المُنتظر...!
وهذا ليس بدعاً من الأمر... بعد أن اعتادت البشرية أن تستقبل كل مبدأ جديد يريد حلَّ مشاكل العالم، بصدر رحب وحُسن نيَّة، لعلَّه هو الذي يكون المبدأ المنشود الذي يُحالفه التوفيق لإنجاز الغد السعيد...
وحين تبوء تجاربه بالفشل، تستقبل المبدأ الآخر بصدر رحب أيضاً، فما سيكون حالها حين تفشل كل التجارب المعروضة والأُطروحات المُحتملة، إنَّ يأسها من هذه الأُطروحات سوف يتركَّز، وأملها بالغد السعيد سوف يتَّضح، وصدرها تجاه المبدأ الجديد والأُطروحة الجديدة سيكون أرحب وحسب ظنِّها أكثر.
تلك هي الأُطروحة العادلة الكاملة، التي سيجدها الناس لأول وهلة فوقاً شاسعة بينها وبين أيِّ واحد من المبادئ السابقة الفاشلة، الأمر الذي يجعل الأمل في نجاحها في إنجاز الغد السعيد المأمول، واضحاً ومنطقياً أكثر من أيِّ مبدأ آخر.
ومن هنا، حين يقول القائد المهدي (ع) أنا المُصلح المُنتظر.
سيُجيبه العالم: أنت المُصلح المُنتظر.
ومن هنا يتولَّد الضمان الأول لانتصار المهدي (ع).
وهذا ما أشارت إليه الأخبار التي سبق أن روينا قسماً منها في التاريخ السابق.(٤٥٨)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٥٨) ص٢٨٨ وما بعدها.

↑صفحة ٣٣٤↑

أخرج المفيد في الإرشاد،(٤٥٩) والطبرسي في الإعلام،(٤٦٠) عن عقبة، عن أبيه قال: (إذا قام القائم حَكَم بالعدل... - إلى أن قال: - إنَّ دولتنا آخر الدول، ولم يبقَ أهل بيت لهم دولة إلاَّ ملكوا قبلها؛ لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء وهو قوله تعالى: (... وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)).
وأخرج الشيخ في الغيبة،(٤٦١) بسنده عن أبي صادق، عن أبي جعفر (ع)، قال: (دولتنا آخر الدول)، وساق الحديث.
أقول: وهذا الخبر قرينة على أنَّ القائل في ذلك الخبر هو الإمام الباقر نفسه.
وأخرج النعماني في الغيبة،(٤٦٢) بسنده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع)، أنَّه قال: (ما يكون هذا الأمر، حتى لا يبقى صنف من الناس إلاَّ وقد ولوا من الناس؛ حتى لا يقول قائل: إنَّا لو ولينا لعدلنا، ثمَّ يقوم القائم بالحق والعدل).
وهو صريح في مرور المبادئ التي تدَّعي حل مشاكل العالم، بالتجارب واحدة بعد الأُخرى عن طريق تسلُّمها زمام الحكم في منطقة من العالم، صغيرة وكبيرة، وستفشل لا محالة فيما تدَّعيه، وسيسود بدل العدل المطلوب الظلم والفساد في مناطقها المحكومة لها؛ ومن هنا لا تستطيع أن تدَّعي عند قيام حكم المهدي (ع) ونظامه العادل: أنَّنا (إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء)، وتقول: (إنَّا لو ولينا لعدلنا)؛ لأنَّ مثل هذا الادِّعاء سوف يكون مُعرَّىً عن الصحَّة أمام الجميع، بعد أن أثبتت التجارب بمرأى ومسمع من الرأي العالمي فشلها وزيفها، فيُقال لهم بوضوح: إنَّكم باشرتم الحُكم، ولم تسيروا بمثل هذه السيرة العادلة، ولو كان عندكم رأي واتجاه أعمق ممَّا مارستموه خلال حُكمكم، لظهر يومئذ لا محالة.
ويُقال للرأي العام: إنَّكم جرَّبتم هذه المبادئ، وعشتم قساوتها وظلمها، وأملتم زوالها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٥٩) ص٣٤٤.
(٤٦٠) إعلام الورى ص٤٣٢.
(٤٦١) ص٢٨٢.
(٤٦٢) ص١٤٦.

↑صفحة ٣٣٥↑

وتبدُّلها إلى العدل، فها هو العدل قد جاء ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، ويهديكم إلى الصراط المستقيم.
وهذا هو قول الله تعالى: (... وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).(٤٦٣)
أي أنَّ نهاية المطاف في التخطيط العام للبشرية، هو حكم المُتَّقين الأخيار حملة العدل الكامل والعبادة الخالصة إلى الناس.
الضمان الثاني: ضعف الدول السابقة على الظهور، والتي ستُصبح مُعاصرة له في أول تحقُّقه.
فإنَّه قد يخطر في الذهن: استبعاد انتصار الإمام المهدي (ع) أمام قوى الشرِّ الكبرى في العالم، المُتمثِّلة في الدول الكبرى والمجموعات الدولية والأحلاف الدولية... وأمام الأسلحة الرهيبة التي يكفي بعضها القليل لهلاك كل البشر، فضلاً عن الكثير، والتي يمكن بها التعرُّف على أيِّ شكل من أشكال التحرُّك لأيِّ جيش وجهة، أينما كان في الكرة الأرضية... لأجل التوصُّل إلى ضربه وتحطيمه.
وهذا الاستبعاد يمكن نقده بأيِّ ضمان من هذه الضمانات التي نحن بصددها الآن لانتصار المهدي (ع)، ولكن بغضِّ النظر عن أيِّ ضمان، يمكن أن يكون هذا الضمان الثاني جواباً مُستقلاَّ ًمُتكاملاً عن هذا الإيراد.
وهو أنَّنا يمكن أن نعرض (أُطروحة) مُعيَّنة مُحتملة - على أقلِّ تقدير - نجمع حولها المثبتات والقرائن، بما فيها بعض الروايات الواردة، نعرضها لكي نقول فيها: إنَّ قوى الشرِّ الكبرى والأسلحة الحديثة الفتاكة، سوف لن تبقى إلى عصر الظهور، لكي يتسنَّى لذويها استعمالها ضدَّ الإمام المهدي (ع)، بل سيُكتب لهذه الأسلحة الزوال بشكل من الأشكال.
وذلك انطلاقاً من مُنطلقات نذكر منها اثنين رئيسين:
المنطلق الأول: أن نتصوَّر أنَّ اتِّفاقية عامة تقع بين الدول المُهمَّة في العالم، بمنع استعمال الأسلحة الإستراتيجية الفتاكة، كالقنابل الذرِّية، والصواريخ الموجَّهة، وبعض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٦٣) الأعراف: ١٢٨ وانظر: القصص: ٢٨ / ٨٣.

↑صفحة ٣٣٦↑

أنواع الطائرات والدبَّابات والبوارج المُتطوِّرة الصُّنع... ونحو ذلك ممَّا يوجب الدمار العام... ومنع صنعها وبيعها.. والاتِّفاق على إتلاف هذه الأسلحة ممَّن كانت لديه، وفرض رقابة دولية مُشدَّدة على ذلك.
فإذا تمَّ تطبيق هذه الاتِّفاقية، لم يبقَ لدى الدول عموماً، إلاَّ السلاح الذي ينفع للاستهلاك المَحلِّي الداخلي، وهو ممَّا لا يمكن أن يواجه حركة مُهمَّة واسعة، كحركة الإمام المهدي (ع).
وقيام الدول في المستقبل غير البعيد، يُمثِّل هذه الاتفاقية، أمر مُحتمل جدَّاً، والاتجاه الدولي العام يسير نحوه بخُطى حثيثة، وخاصة بعد أن منع تفجير الأسلحة النووية جوَّاً، ومنع بيعها للدول غير المالكة لها، واتَّجه التفكير إلى الحدِّ منها في الدول المالكة لها، بل الحدُّ من كل أنواع الأسلحة المُهمَّة، كما لا يخفى على القارئ المتابع لهذه الأخبار.
ومعه؛ يبقى وجود مثل هذه الاتِّفاقية أمراً قريباً جدَّاً، وكل ما في الأمر أنَّه يحتاج إلى مضيِّ بعض الزمن لأجل نضج الفكرة والاتِّفاق على النقاط الأساسية.
المنطلق الثاني: وهو ثابت على تقدير عدم حصول المنطلق الأول، أعني عدم اتفاق الدول على الحدِّ من الأسلحة، ففي الإمكان القول حينئذ: إنَّ الأسلحة ستتحطَّم في حرب عالمية ساحقة ماحقة مُدمِّرة.
وقد نُقل عن أحد المُفكِّرين الأوروبيين - أظنُّه برناردشو - أنَّه سُئِل عن نوع الأسلحة التي تُستعمل في الحرب العالمية الثالثة، فقال ما مؤدَّاه: إنَّ هذا ممَّا لا أعلمه، وإنَّما أعلم أنَّه إذا وقعت حرب رابعة، فسوف يكون السلاح فيها هو العصي والحجارة.
وهذا واضح جدَّاً في كون هذا المُفكِّر مُقتنعاً بأنَّ الحرب العالمية الثالثة، سوف تكون هائلة تذهب بالحضارة والمدنية كلها، لا بالأسلحة فقط، وستكون كل الأطراف المُشتركة فيها خاسرة وفانية... إلى حدٍّ سوف لن يوجد بعدها إلاَّ أُناس فارغين من الحضارة ومُجرَّدين من السلاح القوي... لا يملكون في الحرب إلاَّ العصي والحجارة.
وهذه الصورة لا تخلو من مُبالغة، إلاَّ أنَّ طبع الحضارة الأوروبية - بكل أشكالها - تتَّجه نحو الحرب لا محالة، ما لم تقم اتِّفاقية من النوع الذي ذكرناه في المنطلق الأول، ولا زال شبح الحرب العالمية ماثلاً، والخوف منها يأكل قلوب الساسة الكبراء في عالم اليوم، فضلاً عن الشعوب الضعيفة.
وإذا حدثت هذه الحرب، فستكون نتيجة للتخطيط العام الذي تمرُّ به البشرية،

↑صفحة ٣٣٧↑

وهذه الدول بالذات، طبقاً لقوله تعالى: (... حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).(٤٦٤)
فإنَّ التمحيص كما هو شامل للأفراد، شامل للجماعات والدول أيضاً، وكما يفشل الأفراد في التمحيص كذلك تفشل الدول، وفشلها عبارة عن انعدام الضمير والأخلاق فيها، وتولُّد الأنانية وسوء الظنِّ ببعضها البعض، وبالأفراد والجماعات، الأمر الذي يولِّد على الصعيد الداخلي أقسى أنواع الظلم والتعسُّف، وعلى الصعيد الخارجي الحرب العالمية المُدمِّرة.
وقد انطبقت الشرائط المذكورة في الآية الكريمة على الحضارة الأوروبية تماماً، فقد (... أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ...)، بأنواع التقدُّم الحضاري والمدني، في مُختلف الحقول الإنسانية واللا إنسانية... و(... ظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا...)، وأنَّهم مُسيطرون على الطبيعة، قادرون على تذليلها لمصالحهم وتوفير سعادتهم، وإذا وجِد هذان الشرطان وجِدت النتيجة الرهيبة: (... أَتَاهَا أَمْرُنَا...)، بالفناء (... فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ...)، كما قال الشاعر:
كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكَّة سامر
وليس الأمر الإلهي بالفَناء مُنحصراً بالطريقة الإعجازية، بل تشمل النتيجة التي قلناها، وهي أنَّ فشل الدول في التمحيص يولِّد بينها الحرب المُدمِّرة الماحقة، التي لا تُبقي للدول المُتحاربة ولا لأسلحتها ولا لكبريائها أيُّ وجود.
والتنبُّؤ بحدوث الحرب المُدمِّرة قبل الظهور، موجود في الروايات - بشكل وآخر - مرويَّة من قبل المُحدِّثين من الفريقين.
أخرج ابن ماجة،(٤٦٥) عن أنس بن مالك عن رسول الله (ص)، في حديث عن أشراط الساعة، وأنَّه قال: (ويذهب الرجال ويبقى النساء، حتى يكون لخمسين امرأة قيِّم واحد).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٦٤) يونس: ١٠ / ٢٤.
(٤٦٥) انظر السُّنن ج ٢ ص ١٣٤٣.

↑صفحة ٣٣٨↑

ومن الواضح أنَّ ذهاب الرجال وفنائهم، لا يكون لمرض وفقر ونحوه، وإلاَّ لشمل النساء أيضاً، وإنَّما يكون نتيجة للحرب خاصة... إذ إنَّ الأعمَّ الأغلب من المُحاربين هم من الرجال على مرِّ الأجيال.
وأخرج السيوطي في الحاوي،(٤٦٦) عن نعيم بن حمَّاد، عن ابن سيرين، قال: لا يخرج المهدي حتى يقتل من كل تسعة سبعة.
وأخرج النعماني،(٤٦٧) بسنده عن زرار قال: لا يكون هذا الأمر حتى يذهب تسعة أعشار الناس.
أقول: والمراد من هذا الأمر: ظهور المهدي (ع).
وأخرج الصدوق في إكمال الدين،(٤٦٨) والمجلسي في البحار،(٤٦٩) عن أبي بصير، ومحمد بن مسلم قال سمعنا أبا عبد الله (ع) يقول: (لا يكون هذا الأمر حتى يذهب ثُلثا الناس).
فقيل له: فإذا ذهب ثُلثا الناس فما يبقى؟
فقال (ع): (أما ترضون أن تكونوا في الثُّلث الباقي).
وأخرج الشيخ في الغيبة، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع): (كان أمير المؤمنين (ع) يقول: لا يزال الناس ينقصون حتى لا يُقال: (الله). فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدين بذنبه...)، الخ الحديث حيث يتحدَّث عن كيفيَّة اجتماع أصحاب القائم المهدي (ع).
وخبر ابن سيرين صريح في أنَّ هذه القِلَّة المُتزايدة التي تُصيب الناس، إنَّما تكون بالقتل، وهذا القتل الشامل للبشرية كلِّها، لا يكون عادة لظلم ظالم مُعيَّن ولحروب محلِّية، بل يتعيَّن حصوله بحرب عالمية شاملة قويَّة التأثير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٦٦) ج٢ ص١٤٧.
(٤٦٧) ص١٤٦.
(٤٦٨) المصدر المحطوط.
(٤٦٩) ج١٣ ص١٥٦.

↑صفحة ٣٣٩↑

واختلاف هذه النِّسب المذكورة في الأخبار لقلَّة الناس، دالٌّ على كونها على وجه التقريب لا التحديد.
على أنَّه يمكن الأخذ بأكبر النِّسب، وهو تسع أعشار؛ لأنَّ الأخبار بذهاب الأقلِّ لا ينافي الإخبار عن ذهاب الأكثر... إذا كان الإخبار مربوطاً بقانون (كلِّم الناس على قدر عقولهم).
وقد يمكن ضرب هذه الكسور ببعضها ويكون الناتج هو الباقي من الناس.
فلو ضربنا التُّسع الباقي بعد ذهاب تسعة أعشار، بالثلث الباقي بعد ذهاب الثلثين، كان الناتج أنَّ الباقي من البشر واحد من سبع وعشرين.
فلو ضربنا ذلك بالتسعين الباقي بعد ذهاب: من كل تسعة سبعة، كان الناتج واحداً من مئة وأحدى وعشرين تقريباً، يكون هو الباقي من البشر، وهذا الضرب ممكن، إلاَّ أنَّه لا يخلو من استبعاد في الذهن لأوَّل وهلة والله العالم.
ونوكل إلى القارئ القناعة بأيٍّ من هذه النتائج التي عرضناها.
وهذا الهلاك العظيم الواقع على الناس، مهما كانت نسبته، وإن أمكنت له عدَّة تفسيرات، إلاَّ أنَّه لا يكون -عادة - إلاَّ نتيجة للحرب المُدمِّرة الواسعة الانتشار، فإنَّ الوباء وأشباهه من المُبيدات، التي لا يستوعب البشرية كلها عادة، ولا يذهب بهذه النسبة العالية من الناس، وخاصة مع المستوى الطبِّي اللائق الموجود في الأزمنة الحديثة.
إذن؛ فالسبب الأهمُّ لذهابهم ليس إلاَّ الحرب العامة.
وعلى أيِّ حال؛ ثبت المنطلق الثاني من الضمان الثاني، وهو تلف الأسلحة بحرب ضروس شاملة، لا تُتلِف الأسلحة فقط، بل الناس أيضاً.
كل ذلك لكي يظهر الإمام المهدي (ع) على أرضية سهلة من البشر، غير قادرة على المقاومة الشديدة عسكرياً ولا فكرياً، ولا تُشكِّل خطراً حقيقياً على الثورة المهدوية؛ لكي تكون سيطرة المهدي (ع) على العالم - بأقصر مدَّة وأقلِّ جُهد أمراً - ممكناً وصحيحاً.
ولا ينبغي أن نتجاوز هذا الموضوع قبل أن نعرض بعض الأسئلة التي قد ترد على الذهن، ونُحاول الجواب عليها.
السؤال الأول: إنَّ الحرب العالمية الرهيبة إذا حدثت، سوف لن يقتصر القتل فيها على الكفرة، بل يعمُّ المسلمين لا محالة؛ ومعه قد يُقتل من أصحاب الإمام المهدي (ع) المُعدِّين لنُصرته بعد ظهوره جماعة، وقد يُقتلون كلهم، ومعه يكون الظهور مُتعذِّراً؛ لما عرفناه من أنَّ وجود العدد الكافي من الجُند والقادة لغزو العالم بالعدل أمر ضروري للانتصار

↑صفحة ٣٤٠↑

على العالم. فإذا تعذَّر الانتصار لم يكن للظهور فائدة، وكان مُتعذِّراً أيضاً، فتكون هذه الحرب موجبة لتأخُّر الظهور، وانخرام شرطه بدلاً عن أن تكون في صالحه.
ولعلَّنا لو قلنا: بأنَّ الباقي من البشرية هو نسبة الواحد إلى المئة والواحد والعشرين... كان هذا الإيراد صحيحاً... وكان من الصعب القول: بأنَّ أصحاب المهدي (ع) كلَّهم سيكونون من الباقيين، وخاصة إذا توسَّعنا أكثر إلى الثلاثمئة والثلاثة عشر إلى المُخلصين من الدرجتين الثانية والثالثة، فإنَّ المحافظة عليهم تحتاج إلى عناية خاصة تُشبه المعجزة؛ وبذلك تكون الحرب العالمية التي تُسبِّب هذه القلَّة العظيمة في البشر، ضدَّ مصلحة الظهور، وليست إلى صالحه.
إلاَّ أنَّ هذه الفكرة غير صحيحة، بمعنى أنَّ الحرب لا تكون مُضرَّة بالظهور حتى على هذا المستوى؛ وذلك لأمرين:
الأمر الأول: إنَّنا - على أسوأ تقدير - يمكن أن نفترض تساوي نسبة الفناء في البشر بين جميع أصنافهم سواء من أصحاب الإمام وغيرهم، فإذا كانت البشرية ذات العدد الكبير تحتاج إلى ثلاثمئة ونيِّف من القوَّاد، فمن المنطقي أنَّ البشرية القليلة العدد، تحتاج إلى قادة أقل، وكلَّما قلَّت نسبتها قلَّت حاجتها إلى القوَّاد، فإنَّ النسبة بين عدد البشر وعدد الجيش المهدوي تبقى ذاتها مهما صغر الرقم.
الأمر الثاني: لو تنزَّلنا - جدلاً - عن الأمر الأول، وفرضنا أنَّ الحرب العالمية التي تُسبب القلَّة العظيمة مُضرَّة بمصلحة الظهور، إذن ونستطيع أن نعرف بالأدلة الدالة على حصول الظهور وانتصار الإمام (ع)، وكون ذلك هو الهدف من خلق البشرية، تعرف أنَّ هذه القِلَّة لن تحصل في أنصار الإمام (ع)، إمَّا لأنَّ الحرب نفسها لن تحصل، وإمَّا لأنَّها لا تكون موجبة لقِلَّة البشر بهذا المقدار، وإمَّا أن توجب قِلَّة البشر الآخرين مع المحافظة على هؤلاء بعناية وتأييد خاص، ناشئ من تأييد هدفهم الأعلى نفسه.
إلاَّ أنَّ الإنصاف أنَّ استنتاج هذه القِلَّة العظيمة في البشر من هذه الأخبار بلا موجب؛ فإنَّ الحاصل الناتج من ضرب الكسور لم يدلَّ عليه خبر أصلاً، بل ولا الأخذ بأكبر الكسور، وهو التسعة أعشار، فإن دلّ عليه خبر واحد لم تسنده الأخبار الأُخرى، فلا يكون قابلاً للإثبات.

↑صفحة ٣٤١↑

بل إمَّا نحمل هذه الأخبار على التقريب - كما ذكرنا - ونأخذ بأقلِّ التقادير؛ باعتبار أنَّه المقدار المُسلَّم بين الأخبار، والزائد مشكوك لم يثبت تاريخياً، وأقلُّ النسب هو ذهاب الثُّلثين وبقاء الثُّلث، وإذا صحَّ جوابنا على النسب العالية للهلاك، صحَّ جوابنا على النسب الأقلِّ بطريق أوْلى.
يُضاف إلى ذلك أجوبة أُخرى:
أهمُّها: إنَّ المحافظة على أصحاب الإمام الخاصة - بل وغير الخاصة - ليس يحتاج إلى العناية والتأييد الخاص، بل يمكن أن يكون طبيعياً خالصاً، وذلك انطلاقاً من زاويتين:
الزاوية الأُولى: إنَّ الأسلحة التي تشمل بالفناء كل البشرية سوف لن تُستعمل؛ لأنَّها توجِب فناء الدولة الضاربة... وهذا واضح.
الزاوية الثانية: أنَّه لا دليل على شمول الحرب لكل دول العالم وأقاليمه، وإنَّما سوف تقتصر على المناطق التي تكون محكومة للدول المُتحاربة، ولكل أصدقائها ومحالفيها... وهي بكل سكَّانها نسبة عُظمى من العالم، قد تزيد على ثلاثة أرباع سكَّانه.
فلو هلك أكثر هؤلاء مع القليل من غيرهم، يكون الهالك بالنسبة التي فهمناها أخيراً.
ومن الواضح والسهل، افتراض أن يكون هؤلاء المُخلصون المُعدَّون لنُصرة الإمام القائد المهدي (ع) موجودين في الدول غير المشاركة في الحرب، فمهما نالهم من الضرر نتيجةً للحرب العالمية، فإنَّهم يبقون على قيد الحياة على أيِّ حال، وهو المطلوب.
وهذا هو المقصود من قوله (ع) في إحدى الروايات: (أما ترضون أن تكونوا في الثُّلث الباقي...).
إذن؛ فسوف يقلُّ أعداء المهدي (ع) دون أصحابه وناصريه، وهو المقصود من أنَّ وجود الحرب العالمية تُشكِّل إحدى الضمانات لانتصاره (ع).
السؤال الثاني: أنَّه إذا قامت الحرب العالمية الرهيبة التي تذهب بأكثر أفراد البشر... فمعنى ذلك زوال معالم الحضارة الحديثة بكل حقولها، وموت كل الاختصاصيين في فروع المعرفة، فماذا يبقى لعصر ما بعد الظهور من حضارة ومدنية؟ ومعه فكيف يعمُّ الرفاه كل البشر بدون ذلك؟!
وجواب ذلك: أنَّ المُهمَّ من معالم الحضارة الحديثة التي يمكن أن يُفيد منها عصر ما

↑صفحة ٣٤٢↑

بعد الظهور، ليس هو المباني والشوارع والجسور ونحوها، بل الأهمُّ هو المصانع الكبرى والمُختبرات العلمية وخبراؤها، والمصادر التي تتحدَّث عن العلوم التي تخصُّها، أعني الكُتب والوثائق التي تخصُّ هذه الحقول، فإنَّ هذا هو أفضل ما أنتجته أوروبا من خدمات إنسانية.
ومن الممكن القول: إنَّ كل ذلك يمكن أن (يعبر) الحرب إلى ما بعدها سالماً؛ وذلك لأنَّ الحرب تستهدف - أساساً - الجيوش والأسلحة ومصانعها، والعواصم والمُدن الكبيرة، والمعسكرات ونحوها، ولن تستهدف معامل صنع السيارات والزجاج بطبيعة الحال، فما يتلف تحت التفجيرات الذَّرَّية والهيدروجينية هو ذلك... وكذلك قسم كبير من الناس، والقسم الأوفر هو الذي يموت مُتأثِّراً بالإشعاع بعد ذلك، ويكون موته محسوباً على الحرب بطبيعة الحال.
إذن؛ فأغلب المصانع سوف لن تتلف تحت الضرب، ولا يضرُّها الإشعاع بطبيعة الحال، مضافاً إلى أنَّ عدداً من المصانع موجودة في الدول غير المشتركة في الحرب، ولن تتلف الوثائق والكُتب الخاصة بهذه الحقول أيضاً.
وأمَّا الخبراء، فأغلب الظنِّ أنَّ الموجود منهم في الدول المشتركة في الحرب، سوف ينتهي ويُقارب النهاية، فلو لم يكن هناك خُبراء آخرون في العالم لتوقَّفت المعامل عن العمل، إلاَّ أنَّنا نعيش الفكرة في هذا العصر بوضوح... إنَّ الخُبراء في الدول الصغيرة عدد كبير لا يُستهان به، وهم في ازدياد مُستمرٍّ، مضافاً إلى أنَّ انحفاظ المصادر والوثائق الخاصة بحقول المعرفة الصناعية تُتيح للإنسانية إنتاج خُبراء أكثر.
إذن؛ فالحرب وإن كانت قاتلة لأعداد بشرية هائلة فوق الحسبان بكثير، غير أنَّها لن تنال الجانب الصناعي بضرر كبير، الأمر الذي يوفِّر فرصة الاستفادة منه في عصر ما بعد الظهور.
السؤال الثالث: إنَّ معنى ما سمعناه في هذا الضمان الثاني لانتصار الإمام المهدي (ع)، أنَّ قيام الحرب العالمية هي الضمان الرئيسي لانتصاره، وأمَّا إذا لم تقم الحرب إلى حين الظهور، فسوف لن يستطيع النصر ولا تحقيق الدولة العالمية العادلة؛ إذ إنَّه سيواجه

↑صفحة ٣٤٣↑

القوى العالمية بكل جبروتها، الأمر الذي يجعل انتصاره أمراً مُتعذِّراً.
وجواب ذلك من عدَّة وجوه:
الوجه الأول: أنَّنا بعد أن نعرف أنَّ (الظهور) المُنتج للدولة العالمية العادلة هو الهدف البشري الأعلى، وقد عرفنا في التاريخ السابق وفي هذا التاريخ، أنَّ الله تعالى يُحقِّق كل ما هو لازم لإنجاز هذا الهدف، إن أمكن ذلك بالطريق الطبيعي (المُخطَّط) فهو، وإلاَّ فبالطريق الإعجازي، وقد استنتجنا من ذلك عدَّة نتائج تمتُّ إلى عصر الغيبة بصِلَةٍ.
ومن هنا؛ يتبرهن بالضرورة كونه مُنتصراً على كل حال، في كل غزواته وفتوحاته، وأنَّ الدولة العالمية العادلة ناتجة على يده لا محالة، سواء وقعت الحرب العالمية قبل الظهور أم لا.
الوجه الثاني: أنَّه لو لم تحدث الحرب العالمية، كان هذا الضمان مُنتفياً، ولكن تبقى الضمانات الأُخرى على حالها للمشاركة في إنجاز النصر بعد الظهور، وهي فعَّالة شديدة التأثير ضدَّ أعظم القوى العالمية، وقد سمعنا بعضها ويأتي البعض الآخر.
الوجه الثالث: إنَّ المهدي (ع) بقابلياته القيادية - التي حملنا عنها أكثر من فكرة في أكثر من مناسبة - يستطيع أن يُخطِّط للحرب الفكرية والعسكرية في هذا العالم المليء بالظلم والطغيان، ما يستطيع به أن يُذلِّل كل عسير.
ونحن بالطبع، حيث نكون سابقين على عصر الظهور، لا نستطيع أن نُدرك كُنْهَ تلك التخطيطات والأساليب، فيبقى إدراك ذلك موكولاً إلى عصر ما بعد الظهور.
السؤال الرابع: وهو يدور حول عبارة في الرواية التي سمعناها عن الشيخ في الغيبة، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع): (كان أمير المؤمنين (ع) قول: لا يزال الناس ينقصون حتى لا يُقال: الله).
فإنّ العبارة ذات دلالة على أنَّ النقصان لا يحدث في الناس أنفسهم، بل يحدث في إيمانهم، وحتى لا يُقال: الله. باعتبار إنكارهم للعقيدة الإلهية، وهذا انحراف واضح نتيجةً للتمحيص حين تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، فهل كانت هذه الرواية قرينة على أنَّ المراد من النقص المذكور في الروايات الأُخرى هو النقص في الإيمان لا في الأنفس...؟!

↑صفحة ٣٤٤↑

وجواب ذلك: إنَّ تلك الروايات واضحة جدَّاً في نقصان الأنفس، وهذه الرواية ليست بهذا الوضوح لتكون قرينة على فَهْم الروايات الأخرى؛ إذ من المُحتمل أنَّ هذه الرواية تريد بيان نقصان الإيمان فقط، كما هو المراد السؤال، ومن المُحتمل أنَّها تريد نقص الإيمان والأنفس فقط معاً، فكأنَّما تقول: لا يزال الناس ينقصون إيماناً حتى لا يُقال: الله. ومعه تكون القرينة المذكورة في السؤال، بدون موضوع.
الضمان الثالث: لانتصار الإمام المهدي (ع).
توفير جماعة من المُخلصين الكافين للقيام بمهامِّ الفتح العالمي، وتنفيذ الغرض الإلهي الأعلى من خَلْقِ الخليفة، وقد عرفنا كيف خطَّط الله تعالى لوجودهم، في ضمن الفترة الطويلة المُتخلِّلة بين صدر الإسلام والظهور، كما عرفنا أعدادهم وسمعنا الروايات الواردة في أسمائهم، إلى غير ذلك من التفاصيل.
والمُهمُّ الآن، هو كيف ننظر إلى أمور أُخرى من خصائصهم وصفاتهم، لم نكن قد سمعناها، من حيث إيمانهم وشجاعتهم وإخلاصهم للمهدي (ع) وطاعتهم له، وحُسن انقيادهم لقيادته، لنعرف في النتيجة كفايتهم لفتح العالم، وكون هذه الأوصاف تُشكِّل ضماناً أساسياً للنجاح في الثورة، بشكل غير مُتوفِّر في أيِّ جيش.
وينبغي أن نتكلَّم عن ذلك ضمن عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: ثبت من التجارب الكثيرة التي عاشتها الجيوش خلال الحروب: أنَّ النصر منوط عادة بصفات مُعيَّنة لا بدَّ أن يتَّصف بها أفراد الجيش؛ لكي يكونوا أكثر إقداماً وأسرع نصراً.
وتتلخَّص هذه الأوصاف بالأمور التالية.
الأمر الأول: الإيمان بالهدف، فكلَّما كان الجيش أوعى لهدفه كان أقرب إلى النجاح، وأمَّا إذا لم يكن يفهم لنفسه هدفاً، وإنَّما يُساق سوق الأغنام إلى ساحة القتال، فسوف تكون فرصة الفوز من هذه الناحية قد فاتت بشكل مؤسِف.
الأمر الثاني: الشعور بالمسؤولية تجاه الهدف، وأنَّه هدف مُهمٌّ يتوقَّف تحقيقه على مسعاه ومسعى غيره من الناس، وأنَّه هدف لا يتحقَّق إلاَّ ببذل النفس والنفيس في سبيله.
وإذ يكون الجندي على مستوى المسؤولية والإخلاص، فإنَّه يكون لا محالة مُقْدِماً

↑صفحة ٣٤٥↑

على التضحية، والصبر على المكاره في سبيل هدفه، وكلَّما تعمَّق هذا الشعور في نفس الفرد وأنفس كل أفراد الجيش، كان أقرب إلى النصر.
وأمَّا إذا كان أفراد الجيش غير شاعرين بالمسؤولية، ولا مُخلصين للهدف، بل يرون ضرورة تقديم مصالحهم الخاصة على مصلحة القتال وتحقيق الهدف... فمثل هؤلاء من الصعب أن نتصوُّر لهم النجاح والانتصار، وإنَّما يخرج هذا الجندي باعتبار الاضطرار... لأنَّه لو رفض ذلك عوقب بالقتل، فهو مُخيَّر بين قتل عاجل جازم لو رفض أوامر القتال، وبين قتل مؤجَّل ومُحتمَل لو باشر القتال، فهو يخرج تقديماً لأحسن الفرضيتين على أسوئهما في مصلحته.
ومثل هذا الجندي، متى ما رأى أنَّ من مصلحته ترك الحرب من دون أن يُعاقب بالقتل، كالهرب والاختفاء والانتقال إلى معسكر الأعداء، وغير ذلك من الفعاليات، فإنَّه لا يتوانى عن القيام بها، كما أنَّه لو رأى أنَّ من مصلحته قبض الأموال للتجسُّس وللقيام بالأعمال التخريبية، فإنَّه لا يكون لديه أيُّ مانع من القبول، وأيُّ مانع لديه للإجهاز على حرب تُهدِّده بالقتل، بدون أن يفهم لها هدفاً وأن يجد نحوها إخلاصاً.
إذن؛ فالمُهمُّ هو أن يجد الجندي - وبالتالي الجيش كله - الشعور بالمسؤولية تجاه الهدف من هذه الحرب، وكلَّما ازداد شعورهم وإخلاصهم، وكلَّما ازداد عدد الشاعرين المُخلصين في الجيش، كانت فرص الفوز واحتمالات النصر أقرب لا محالة.
الأمر الثالث: الإخلاص للقائد والإيمان بقيادته، وبالتالي بذل الطاعة التامة له، وهي ليست طاعة عمياء - لو كان الجندي شاعراً بالمسؤولية - بل ستكون طاعة واعية مُبصِرة وهادفة، فلو لم يكن الأمر كذلك، بل كان الجندي عاصياً أحياناً، ويُطلق لنفسه حُرِّية المناقشة والطعن في قرارات وتطبيقات القائد ونحو ذلك، فإنَّ فرصة النجاح تتضاءل لا محالة، لو كان في الجيش عدد مُهمٌّ بهذه الصفة.
الأمر الرابع: وهو شرط فيمَن توكَل إليه القيادة للجيش ولبعضه، وهو أن يكون خبيراً بما أوكِل إليه من المهامِّ، عالماً بالصحيح من المصالح والمفاسد، من النواحي العسكرية والاجتماعية والعقائدية، لكي لا يقع في الغلط المؤدِّي إلى التورُّط في المشاكل المُهلِكة.
ومن هنا؛ لا بدَّ أن ننطلق إلى جيش الإمام المهدي (ع) قادة وجنوداً.. لكي نرى

↑صفحة ٣٤٦↑

ما إذا كانت الخصائص الرئيسية للجيش العقائدي المخلص المنتصر متوفّرة فيها أولاً، وبأي أسلوب يمكن توفّرها فيهم.
وسيكون منهجنا فيما يلي أن نخصَّ الجهة في نقل الأخبار الواردة في أوصافهم، ممَّا عدا ما ذكرناه فيما سبق، ونخصُّ ما بعدها من الجهات في الاستنتاج من هذه الأخبار وتمحيصها من سائر الأخبار.
الجهة الثانية: في سرد الأخبار الدالَّة على أوصاف أصحاب الإمام المهدي (ع) من نواحي الإيمان والطاعة والشجاعة، ونحو ذلك.
وهي أخبار كثيرة، نقتصر على نماذج كافية منها:
أخرج القندوزي في الينابيع،(٤٧٠) عن أبي بصير، قال: قال جعفر الصادق رضي الله عنه: (وما كان قول لوط (ع) لقومه: (... لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ(٤٧١) إلاَّ تمنِّياً لقوَّة القائم المهدي وشِدَّة أصحابه، وهم الركن الشديد، فإنَّ الرجل منهم يُعطى قوَّة أربعين رجلاً، وأن قلب الرجل منهم أشدُّ من زبر الحديد، لو مرُّوا بالجبال لتدكدكت، لا يكفُّون سيوفهم حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ).
وما أخرجه أيضاً،(٤٧٢) عن أبي نعيم، عن الإمام الباقر رضي الله عنه، قال: (إنَّ الله يُلقي في قلوب مُحبِّينا وأتباعنا الرعب، فإن قام قائمنا المهدي (ع)، كان الرجل من مُحبِّينا أجرأ من سيف وأمضى من سنان).
وأخرج السيوطي في الحاوي،(٤٧٣) عن نعيم بن حماد، عن أبي جعفر قال: (يظهر المهدي بمكَّة عند العشاء - إلى أن قال: - فيظهر في ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً عدد أهل بدر، على غير ميعاد قَزَعاً كقَزَع الخريف، رُهبان بالليل أُسْد بالنهار - إلى أن يقول: - فليُقي الله محبَّته في صدور الناس، فيصير مع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٧٠) ينابيع المودَّة ص٥٠٩ ط النجف.
(٤٧١) هود: ١١ / ٨٠.
(٤٧٢) ينابيع المودّة ص ٥٣٨.
(٤٧٣) ص١٤٤ - ١٤٥ ج ٢.

↑صفحة ٣٤٧↑

قوم أُسْد بالنهار ورُهبان بالليل).
وأخرج أيضاً(٤٧٤) عن الحسن بن سفيان وأبي نعيم، عن ثوبان، قال: قال رسول الله (ص): (تجيء الرايات السود من قِبَل المشرق، كأنَّ قلوبهم زُبر الحديد...) الحديث.
وأخرج النعماني،(٤٧٥) بسنده عن إبان بن تغلب، عن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديث يتحدَّث فيه عن المهدي (ع)، ثمَّ ذكر رايته، فقال: (فإذا هزَّها لم يبقَ مؤمن إلاَّ صار قلبه أشدَّ من زُبر الحديد، وأُعطي قوَّة أربعين رجلاً).
وأخرج الطبرسي في إعلام الورى،(٤٧٦) والصدوق في الإكمال،(٤٧٧) والراوندي في الخرايج،(٤٧٨) عن أبي الجارود، عن أبي جعفر الباقر (ع)، عن أبيه عن جدِّه، قال: (قال أمير المؤمنين (ع) على المنبر: يخرج رجل من ولْدي في آخر الزمان... - إلى أن قال: - فإذا هزَّ رايته أضاء لها ما بين المشرق والمغرب، ووضع يده على رؤوس العباد، فلا يبقى مؤمن إلاَّ صار قلبه أشدَّ من زُبر الحديد، وأعطاه الله عزَّ وجلَّ قوَّة أربعين رجلاً...) الحديث.
وأخرج ابن طاووس في الملاحم والفتن(٤٧٩) عن ابن رزين الغافقي، سمع علياً (ع) يقول: (يخرج المهدي في اثني عشر ألفاً إن قلُّوا، وخمسة عشر ألفاً إن كثروا، ويسير الرعب بين يديه، لا يلقاه عدوٌّ إلاَّ هزمهم بإذن الله. شعارهم: أمِتْ أمِتْ. لا يُبالون في الله لومة لائم...) الحديث.
وأخرج المجلسي في البحار،(٤٨٠) بالإسناد إلى الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (ع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٧٤) ص ١٣٣.
(٤٧٥) الغيبة ص ١٦٧.
(٤٧٦) ص٤٣٥.
(٤٧٧) إكمال الدين المخطوط.
(٤٧٨) الخرايج والجرايح ص١٩٥.
(٤٧٩) ص٥٢ط النجف.
(٤٨٠) ص١٨٠ ج ١٣.

↑صفحة ٣٤٨↑

في حديث قال:
(ورجال كأنَّ قلوبهم زُبر الحديد، لا يشوبها شكٌّ في ذات الله، أشدُّ من الجمر، لو حملوا على الجبال لأزالوها، لا يقصدون براية بلدةً إلاَّ أخرجوها، كأنَّ على خيولهم العقبان، يتمسَّحون بسرج الإمام (ع) يطلبون بذلك البركة، ويحفُّون به، يقونه بأنفسهم في الحروب ويكفونه ما يريد، فيهم رجال لا ينامون الليل، لهم دويٌّ في صلاتهم كدويِّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم، ويُصبحون على خيولهم، رُهبان بالليل ليوث بالنهار، هم أطوع له من الأَمَة لسيدها، كالمصابيح، كأنَّ قلوبهم القناديل، وهم من خشية الله مُشفِقين، يدعون له بالشهادة، ويتمنَّون أن يُقتلوا في سبيل الله، شعارهم: يا لثارات الحسين (ع). إذا ساروا سار الرُّعب أمامهم مسيرة شهر، يمشون إلى الموت إرسالاً، بهم ينصر الله إمام الحق).
إلى غير ذلك من الأخبار.
ولا ينبغي أن تنسى ما سبق أن رويناه، ممَّا أخرجه مسلم في صحيحه من أوصافهم وأنَّهم (خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ)، و(من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ)، وما أخرجه وما غيره من أنَّهم (رجال عرفوا الله حق معرفته)، وأنَّهم (أصحاب الألوية)، وأنَّهم (الفقهاء والقضاة والحُكَّام)، إلى غير ذلك.
الجهة الثالثة: في تحديد مقدار إيمانهم:
سمعنا من هذه الروايات أنَّهم مؤمنون، لا يُبالون في الله لومة لائم، ولا يشوب قلوبهم شكٌّ في ذات الله، رُهبان في الليل لا ينامون، لهم دويٌّ في صلاتهم كدويِّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم، وهم رجال عرفوا الله حقَّ معرفته، وسنعرف أنَّ شجاعتهم أيضاً من الأوصاف الإيمانية لديهم.
والإيمان الذي يتَّصف بهذه الصفات، لَهْوَ من أعظم الإيمان وأقواه، فإنَّ حَسْبَ الإنسان المؤمن أن لا يُبالي في الله لومة لائم... كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

↑صفحة ٣٤٩↑

وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ...) الآية.(٤٨١)
وإذا حاولنا فَهْمَ هذه الآية من زاوية التخطيط العام، كان (الَّذِينَ آَمَنُوا) المُخاطبون في الآية هم مؤمنون ما قبل التمحيص، وهم يُصبحون بالتمحيص مُنقسمين إلى قسمين:
قسم مُرْتدٌّ عن دينه نتيجةً للفشل في التمحيص ولردود الفعل السيِّئة التي اتَّخذها اتجاه الواقع، تلك الردود المنافية مع إيمانه والمُنافرة مع الحق والهدى، فأصبح التزامه لها ارتداداً كما قالت الآية.
والقسم الآخر الذي يُنتجه التمحيص تدريجياً وليس فوراً، هم المؤمنون الناجحون، في التمحيص (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، وهؤلاء طِبقاً للتخطيط العام لا يمكن أن يكونوا إلاَّ هؤلاء الذين ذخرهم الله لنُصرة المهدي (ع)، فانظر لاهتمام الله تعالى في قرآنه الكريم بهذه المجموعة العادلة الكاملة، وهم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لشعورهم بالأخوة الإيمانية (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، والمُنحرفين والمرتدِّين أجمعين، لفشلهم جميعاً في التمحيص، (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، خلال الفتح العالمي بالعدل، ومن أجل تأسيس الدولة العالمية العادلة، (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)، ممَّا يقع منهم من الأعمال المُضرَّة بمصالح المُنحرفين، والموجبة لغيظ الكافرين، كيف، وإنَّ نجاحهم في التمحيص لم يكن إلاَّ نتيجةً لأمثال هذه التضحيات التي أدُّوها خلال الحياة، حتى أصبح العدل والهَدْي هو مقصودهم فوق كل مقصود، لا يُزحزحهم عنه عتب ولا تأنيب مؤنِّب؟! وإذا كان ديدنهم السابق على ذلك في عصر الفتن والانحراف، فكيف لا يكون ذلك مسلكهم بين يدي وقائدهم والإنجاز هدفهم الأعلى العادل الصالح؟!
و(ذلك) النجاح في التمحيص بأيِّ درجة من درجاته (فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)، انطلاقا من إرادة نفس الفرد المؤمن لا قسراً عليه... حتى حين يجد الله تعالى في قلبه السلامة وحُسن النيَّة والإخلاص.
كما أنَّ حَسْبَ الفرد أن لا يشوب قلبه شكٌّ في ذات الله عزَّ وجلَّ، فهو يرى في كل أهدافه وأحكامه - والموجودات حوله - عدلاً لا يشوبه ظلم، وصدقاً لا يشوبه كذب، ومصلحةً لا يشوها مفسدة، وعلى هذا كان سلوكه في عصر التمحيص السابق على ذلك، فكيف لا يكون كذلك بعده؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٨١) ٥ / ٥٤.

↑صفحة ٣٥٠↑

كما أنَّ حَسْبَ الفرد أن يعرف الله حقَّ معرفته... أي كما ينبغي أن يُعرف، وكما هو أهل له، وأهمُّ فقرة في ذلك بعد الاعتقاد توحيده وعدله، هو الشعور بأهمِّية طاعته وعظمة شأنه، والانصياع النفسي والسلوكي الكامل لتنفيذ أوامره وتطبيق أهدافه... وأن يرى الفرد نفسه وكلَّ ما يملك شيئاً هيِّناً يسيراً تجاه عظمة الله العُلْيَا، ينبغي تقديمها بكل سرور في سبيله، كذلك تكون صفة هؤلاء المؤمنين.
ويترتَّب على هذا الإيمان أمران مُقترنان:
الأمر الأول: شجاعتهم الموصوفة في الأخبار، وسنتعرَّض لها في الجهة الآتية، فإنَّها الحقيقة شجاعة في تنفيذ أوامر الله وتطبيق أحكامه.
الأمر الثاني: عبادتهم الموصوفة في الأخبار، وتهجُّدهم في الأسحار... الأمران اللذان يُعبَّر عنهما في الروايات (رُهبان في الليل ليوث في النهار).
الجهة الرابعة: عبادتهم.
هم رهبان الليل، من خشية الله مُشفقون، فيهم رجال لا ينامون الليل، لهم دويٌّ في صلاتهم كدويِّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم، ويُصبحون على خيولهم.
إنَّ العبادة - بمعناها الخاص - صفة واضحة الدلالة على الإيمان، وكلَّما ازداد الإيمان ازدادت العبادة، فالفرد من هؤلاء، لا يُبالي بتعب النهار والجُهد والجهاد الذي بذله فيه، ولن يمنعه ذلك من العبادة في الليل والتوجُّه إلى الربِّ العظيم بمزيد الصلاة والدعاء والتسبيح، واستمداد العون منه والنصر، إنَّه الربُّ العظيم الذي يستقطب جهود الفرد في الليل والنهار.
إلاَّ أنَّ العبادة على هذا الشكل، مُختصَّة ببعض أصحاب الإمام المهدي (ع)، وليست عامة لهم أجمعين: (فيهم رجال لا ينامون...)، فإنَّ الفرد منهم لو خُلِّي وطبعه، لتهجَّد بالليل وتعبَّد، وقد كان على ذلك سلوكه قبل الظهور، قبل أن يُمارس الجهاد، ولكنَّه الآن يبذل الطاقة الكبيرة خلال الجهاد نهاراً، ويحتاج إلى تجديد طاقة أُخرى للغد، إذن؛ فينبغي أن يستريح في الليل بعض الشيء؛ ومن هنا لم يكن الكلُّ ليُقبلوا على عبادة الليل، بل كان ذلك صفة البعض منهم.
وإذاً؛ سوف نعرف في مستقبل هذا الفصل أنَّ الشجاعة ظاهرة عامة لكل الجيش المهدوي، ففي الإمكان أن نعرض هذه الأُطروحة بوضوح: أنَّ الخاصة المُخلصين بالدرجة العُلْيَا، هم الذين يقومون بالجهاد والعبادة معاً... فهم رُهبان الليل وليوث

↑صفحة ٣٥١↑

النهار، وأمَّا سائر الجيش فهم يقومون بالجهاد الواجب عليهم في الشريعة العادلة الكاملة، ومن أجل أتعابهم يتركون المُستحبَّ وهو التهجُّد في الليل، ولا يُناسب تعبهم البدني ودرجة وعيهم الديني أن يجدوا النشاط الكافي للجمع بين العبادة والجهاد.
ومن هنا؛ ينقسم أصحاب الإمام المهدي (ع) إلى قسمين: مُتهجدين، وغير مُتهجدين.
كما انقسم أصحاب رسول الله (ص) كذلك، كما قال الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ...).(٤٨٢)
والذين مع النبي (ص) يومذاك، هم جماعة المسلمين قبل الهجرة، فلم يكونوا كلهم مُتهجِّدين، وإنَّما كان النبي (ص) مع طائفة منهم مُتهجِّداً... بالرغم من أنَّهم جميعاً كانوا على مستوى الشجاعة في تحمُّل أذى قريش واضطهادهم للمسلمين، كذلك سيكون الإمام المهدي (ع) مع طائفة من أصحابه مُتهجِّداً، بالرغم من أنَّهم جميعاً على مستوى الشجاعة في تحمُّل الجهاد وفتح العالم بالعدل، لا تأخذهم في الله لومة لائم.
الجهة الخامسة: شجاعتهم:
هم الركن الشديد الذين تمنَّاه لوط النبي (ع) ضدَّ الكفَّار والمُنحرفين من قومه، قلوبهم كزُبر الحديد، وكالحجر، وإنَّ الواحد منهم أجرأ من ليثٍ وأمضى من سنان، ويُعطى قوَّة أربعين رجلاً، لو مرُّوا بالجبال لتكدكت يتمنّون أن يُقتلوا في سبيل الله.
إلى غير ذلك من الأوصاف، وقد تكرَّر الكثير منها في عدد من الروايات.
وزُبر الحديد، بضم الأول وفتح الثاني، جمع زبرة، وهي القطعة منه، قال الله تعالى: (... آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ...)،(٤٨٣) أي قطع الحديد.
والتشبيه للقلب بقطع الحديد وبالحجز لمزيد التأكيد على عظمة الشجاعة والجرأة، وعدم تطرُّق الخوف والتلكُّؤ على القلب، أعني وجدان الإنسان وفكره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٨٢) ٧٣/٢٠.
(٤٨٣) ١٨/٩٦.

↑صفحة ٣٥٢↑

وأوضح منه تشبيهه بالسيف وبالسنان، فإنَّه ليس فقط مثل هذه الجمادات في الأثر، بل هو أجرأ من ذلك، وأمضى في العمل والنشاط.
وأوضح منه قولهم (ع): أنَّه (يُعطى الفرد منهم قوَّة أربعين رجلاً من غيرهم)، فأنَّه لا يراد بذلك التحديد بل التقريب... ويكون المؤدَّى أنَّ الأثر العملي الفعلي لنشاط الفرد من أصحاب الإمام المهدي (ع) يكون مُعادٍ للأثر الفعلي الناتج عن نشاط جماعة ضخمة من الرجال، مُتكوِّنة من أربعين فرداً على وجه التقريب.
وأعتقد أنَّنا ينبغي أن نفهم من الأربعين، مَن يتَّصف بالجرأة والشجاعة بالمقدار الاعتيادي، وإلاَّ فلا شكَّ أنَّ الفرد من أصحاب الإمام تزيد قيمته المعنوية على كل التافهين والمُخنَّثين في العالم، وإن وصل عددهم إلى عشرات الملايين.
وبهذه الشجاعة النادرة وارتفاع المعنويات الضخم، يمكنهم القيام بالمسؤولية العالمية، من فتحه والمحافظة على عدله، وتغيير مجرى التاريخ تماماً، ويكتبون بأيديهم على كل ظلم وفساد سطور الخيبة والزوال.
وحصول التطوُّر في معنويات الفرد وأعماله - في ظروف مُعيَّنة - أمر واكبه علم النفس وأقرَّه، وذلك عند وجود المُناسبات العامة الهامة، والمشاركات الجماعية المُتحمِّسة لعمل من الأعمال، فإنَّه يمكن للفرد في مثل ذلك أن يقوم بأضعاف ما يستطيع عمله في أحوله الاعتيادية، ولا يحسُّ بالتعب، وأنَّه ليُعجَب ممَّا أنجزه حين يلتفت إلى ذلك بعد انتهائه، ومثاله: المظاهرة الصاخبة ضدَّ شخص ومؤسَّسة وشعار، فإنَّها تقوم بتحطيم كل ما يقع تحت يديها من أشياء وأشخاص بكل جرأة واندفاع.
وكذلك يمكن التمثُّل له إسلامياً بالحج، حيث نجد المؤمن مُنهمكاً في أداء شعائره بهمَّة وإخلاص، لا يشعر بالتعب خلاله، نعم، قد يشعر به بعد الانتهاء حين يوجد الرضى والراحة بأداء الواجب، وهي ظاهرة موصوفة من قِبل الكثير من الحجَّاج.
فإذا اقترن العمل بقابلية طبيعية للتحمُّس والاندفاع - كما في فترة الشباب -... كانت النتائج أكثر وضوحاً وأبعد أثراً، ولهذا وغيره، كان أغلب أنصار الإمام المهدي (ع) من الشباب.
فكيف، وهم يواجهون الحق بصراحة ويُدركونه بعُمق، ويؤمنون بقيادة القائد بإخلاص؟! فمن الطبيعي جدَّاً أن يكون للفرد منهم قوَّة جماعة ضخمة، ويكون لنشاطه الأثر

↑صفحة ٣٥٣↑

الكبير الذي لا تكاد تُنتجه الجماعات.
ومن هنا نعرف أنَّ قوله: ويُعطى قوَّة أربعين رجلاً... يُراد به أنَّ الله تعالى يُعطيهم هذه القوَّة، لا بنحو الإعجاز، بل بالأسباب الطبيعية... لما عرفناه من أنَّ النفس الإنسانية قابلة لهذا التكامل والرُّقيِّ، تحت ظروف مُعيَّنة تحت التربية.
وهذه الشجاعة العُلْيَا، عامة لكل الجيش، بل تعمُّ كل المؤمنين، وكلُّهم من أفراد جيشه بشكل وآخر؛ ومن هنا نسمع الرواية تقول: (فلا يبقى مؤمن إلاَّ صار قلبه أشدَّ من زُبر الحديد، وأعطاه الله عزَّ وجلَّ قوَّة أربعين رجلاً)، وهذه الفقرة واضحة في شمول الشجاعة لكل الأفراد، مضافاً إلى عدم وجود الاستثناء في هذه الصفة في أيَّةِ رواية أُخرى.
إلاَّ أنَّنا - على أيِّ حال - نعلم أنَّ مثل هذه الشجاعة الإيمانية، تتناسب تناسباً طردياً مع زيادة الإيمان، فتزداد بزيادته وتنقص بنقيصته؛ لوضوح أنَّ الفرد كلَّما كان أشدَّ إيماناً بالهدف وأكثر إخلاصاً له، كلَّما ازداد جرأةً في عمله وتضحيةً على طريقه.
وبذلك نستطيع أن نحكم: أنَّ الخاصة من الإمام المهدي (ع) - وهم القادة والحكَّام - أشجع وأقوى إرادةً وأمضى عزيمةً من الآخرين، وإن كانوا هم والآخرون يُمثِّلون كل الأوصاف المذكورة في الروايات، وتنبسط عليهم خصائصها جميعاً.
ومعه؛ فالمفهوم أنَّ الخاصة يتَّصفون بصفات أعلى ممَّا هو مذكور في الروايات.
الجهة السادسة: في مقدار إطاعتهم لقائدهم المهدي (ع) وتطبيقهم لتعاليمه والاعتقاد ببركة وجوده.
وقد نصَّت على ذلك الرواية الأخيرة التي نقلناها عن البحار، وأشبعته إيضاحاً بالرغم من أنَّه أمر واضح في نفسه، فإنَّ كل إيمانهم الذي وصفناه في مركز الإمام المهدي (ع)، وكل شجاعتهم التي عرفناها مبذولة في سبيل طاعته؛ حتى إنَّهم وصِفوا بما وصِف به المهدي (ع) نفسه فقيل عنهم: إنَّهم (... إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر)، وهو ما وصِف به المهدي (ع) كما سيأتي.
كما قيل عنهم: إنَّهم (... لا يكفُّون سيوفهم حتى يرضى الله تعالى)، وهو ما وصِف به (ع) أيضاً، كما سيأتي.
وما ذلك إلاَّ لأنَّ فعلهم وفعله واحد، على نمط واحد وهدف واحد، كما تقول: فتح الأمير المدينة. وتقول: فتح الجيش المدينة، وأنت صادق في كلتا الجملتين. من حيث إنَّ التعاليم بيد القائد والتطبيق بيد الجيش.

↑صفحة ٣٥٤↑

وقد نصَّت رواية البحار على أنهَّم: (يتمسَّحون بسَرْج الإمام (ع) يطلبون بذلك البركة، ويحفُّون به، يقونه بأنفسهم في الحروب، ويكفونه ما يريد... هم أطوع له من الأَمَة لسيدها...) الحديث.
وتمسُّحهم بسرج الإمام (ع)، معنى كنائي عن مدى حُبِّ أصحابه له (ع) وعلاقتهم به... إلى حدٍّ يرون أنَّ مُلامستهم للشيء الذي لامسته يد الإمام (ع) يتضمَّن معنى البركة، وهذا هو الشأن بين الأحبَّاء دائماً، إنَّ ملامستك لثوب مَن تُحبُّه وللزهرة التي يُمسكها يُعطيك زخماً عاطفياً عالياً... ليس فقط ذلك، بل يشمل النظر أيضاً، وقديماً قال الشاعر:
نَعَمْ وأرى الهلال كما تراه...
فالنظر المُشترك إلى الهلال يُعطيه الزخم العاطفي المطلوب.
وليس التمسُّح بالسرج، محمولاً على المعنى الحقيقي؛ إذ قد لا يركب المهدي (ع) بعد ظهوره فرساً على الإطلاق، وإنَّما يستعمل وسائط النقل وأسلحة الحرب المُناسبة مع عصر ظهوره بطبيعة الحال، وهم (يحفُّون به)، أي يُحيطون به (يقونه بأنفسهم في الحروب)، أي يحمونه ويصونونه ويتحمَّلون الموت دونه، وقد كانت الإحاطة المُباشرة بالقائد كافية في الحماية من الأسلحة في الحرب القديمة، التي كانت معروفة في عصر صدور النصِّ، وأمَّا الآن، فلا زالت الإحاطة موجبة للحماية من كثير من الأسلحة والاعتداءات، ويراد بها الإحاطة حال استعمال الأسلحة، كركوب الدبَّابات والطائرات، فإذا أحاطوا به برَّاً وبحراً وجوَّاً، كان في ذلك الحماية المطلوبة.
ويُحتمل أن يكون المراد من الرواية: أنَّ الوقاية نشاط مُستقلٌّ يقوم به أصحاب الإمام (ع) عن الإحاطة به، فهم يُحيطون به لأجل الاستفادة من علومه وتعاليمه.
وهم أيضاً يقونه بأنفسهم في الحروب، بمعنى أنَّهم يُقدِّمون أنفسهم فداءً بين يديه.
وأمَّا أنَّهم يكفونه ما يريد، فهو من كفاه الأمر، إذا قام به عنه. يُقال: كفى فلاناً مؤنته. إذا جعلها كافية له، أي قام بها دونه فأغناه عن القيام بها.(٤٨٤)
فالمراد بيان إطاعتهم الكاملة وانقيادهم لتعاليم قائدهم، وتنفيذهم الأمور تحت ظلِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٨٤) انظر: أقرب الموارد، مادة كفى ج٢ ص١٠٩٥.

↑صفحة ٣٥٥↑

قيادته. فهم (أطوع له من الأَمَة لسيدها)، كيف لا، مع أنَّهم يرون به الإمام القائد نحو العدل الكامل والنفع البشري العام؟!
الجهة السابعة: شعارهم.
تعرَّضت هذه الروايات وغيرها إلى شعارهم، فيحسن بنا الآن أن نحمل عنه فكرة كافية... وإن كان استطراداً بالنسبة إلى موضوع هذا الفصل.
ذكرت رواية ابن طاووس في الفتن: أنَّ شعارهم: (أمِتْ أمِتْ). وذكرت رواية المجلسي في البحار: أنَّ (شعارهم: يا لثارات الحسين (ع)).
وأخرج ابن قولويه في كامل الزيارات،(٤٨٥) بإسناده عن مالك الجهني، عن أبي جعفر الباقر (ع)، قال: (مَن زار الحسين (ع) يوم عاشوراء من المُحرَّم...) - إلى أن يقول: - قال: قلت: فكيف يُعزِّي بعضهم بعضاً؟
قال: (يقولون: عظَّم الله أجورنا بمصابنا بالحسين (ع)، وجعلنا وإيَّاكم من الطالبين بثأره مع وليِّه الإمام المهدي من آل محمد (ص)...) الحديث.
وتتضمَّن هذه الرواية نفسها الزيارة المعروفة بـ (زيارة عاشوراء) التي يُزار بها الحسين بن علي (ع)، والتي سمعنا الإمام المهدي (ع) في بعض الروايات التي نقلناها في التاريخ السابق(٤٨٦) يحثُّ على قراءتها حثَّاً شديداً. وتتضمَّن هذه الزيارة هذا الدعاء: (فاسأل الله الذي أكرم مقامك أن يُكرمني بك، ويرزقني طلب ثأرك، مع إمام منصور من آل محمد (ص)).
ويقول في موضع آخر منها: (وأن يرزقني طلب ثأركم، مع إمام مهدي ناطق لكم).(٤٨٧)
والشعار يمكن أن يراد به أحد معنيين:
المعنى الأول: اللفظ الذي يُنادى به في الحرب لأجل بثِّ روح الحماس والإقدام في الجنود، وهو المعنى الذي كان مفهوماً من اللفظ عند صدور الروايات، وقد كان رسول الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٨٥) انظر ص ١٧٥. ونقلها في (مفاتيح الجنان ص٤٥٤ وما بعدها) عن الشيخ الطوسي.
(٤٨٦) تاريخ الغيبة الكبرى ص١٤٨.
(٤٨٧) انظر كامل الزيارات ص١٧٦-١٧٧ ومفاتيح الجنان ص٤٥٧-٤٥٧.

↑صفحة ٣٥٦↑

(ص) يتَّخذ الشعار في حروبه، والمعروف المروي أنَّ شعار المسلمين يوم بدر: يا منصور أمِتْ.(٤٨٨) ويوم بني الملوح: أمِتْ أمِتْ.(٤٨٩)
المعنى الثاني: اللفظ الذي يُصاغ للتثقيف الجماهيري، يُعبَّر عن مفهوم وهدف مُعيَّن، وهو المعنى المفهوم في عصرنا الحاضر.
والشعار الوارد في هذه الروايات التي نقلناها، إنَّما يُراد بها المعنى الأول؛ لأنَّه المعنى الذي كان معروفاً في ذلك العصر، فأصحاب الإمام المهدي (ع) سيتَّخذون الشعار في الحرب مُشابهاً لشعار رسول الله (ص): أمِتْ أمِتْ.
أمَّا المُطالبة بثأر الحسين (ع)، فرواية البحار تدلُّ على أنَّه شعار بالمعنى الأول، وتدلُّ الروايات التي بعدها أنَّه شعار بالمعنى الثاني، بمعنى أنَّه يكون هدفاً مُعلَناً ومفهوماً تثقيفياً... ولا تنافي بين المعنيين؛ إذ من المُحتمَل استعمال هذا المفهوم على كلا الشكلين.
وعلى كلا الحالين؛ فاستعماله واضح؛ باعتبار أنَّ الإمام الحسين (ع) أشدَّ القادة الإسلاميين مظلومية في الضمير المسلم، بإجماع الأُمَّة المسلمة بكل مذاهبها، فاتِّخاذ الثأر شعاراً انطلاقٌ من زاوية شديدة الأهمِّية من ناحية، ومُتسالم على صحَّتها بين المسلمين من ناحية أُخرى، وتحمل معنى وحدة الأهداف حركة الإمام الحسين وحركة الإمام المهدي (ع)، وهي مُحاولة إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
هذا، وبعض هذه الروايات، صحيحة من حيث السند، فتكون قابلة للإثبات التاريخي، في حدود منهجنا في هذا التاريخ.
الضمان الرابع: المُميِّزات الخاصة بالإمام المهدي (ع).
من حُسن قيادته وشجاعته، واطِّلاعه على قوانين التاريخ، وغير ذلك ممَّا أنتجه التخطيط الإلهي ودلَّت عليه الأخبار، فتكون هذه المؤهَّلات بمجموعها من أكبر الضمانات لانتصار حركته ونجاح ثورته، وبالتالي في تحقيق الهدف الإلهي الأعلى لوجوده.
وينبغي أن ينفتح الحديث عن ذلك في عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: في مُميِّزات الإمام المهدي (ع)، كما يُنتجه التخطيط العام السابق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٨٨) انظر: وسائل الشيعة للشيخ الحُرِّ العاملي كتاب الجهاد، باب استحباب اتِّخاذ المسلمين شعاراً ج٢ ص٤٨٧.
(٤٨٩) المصدر والصفحة.

↑صفحة ٣٥٧↑

على الظهور.
وهذا ما لا ينبغي أن نُطيل الحديث عنه، بعد كل الذي قلناه في التاريخ السابق وهذا التاريخ، من أثر الغيبة الكبرى وطول مُعاصرة الإمام المهدي (ع) للمجتمع البشري وحوادثه، واحتكاكه بالأُمَّة الإسلامية والبشرية عموماً، واستشعار لآلامها وآمالها، وعمله في سبيل مصالحها... أثره على تطوُّر هذا الإمام القائد، وتكامله من درجة العصمة إلى ما هو أعلى منها وأعمق بمراتب؛ فإنَّ الكمال غير مُتناهي الدرجات، ويمكن للفرد أن يصعد في درجاته ما شاء له ربُّه وعمله. وقد برهنَّا على ذلك في تاريخ الغيبة الكبرى.(٤٩٠)
ويَنْتجُ من هذا التكامل التعمُّقُ في قابليَّته للقيادة العالمية ودقتَّها، بحيث يمكنه التوصُّل إلى النتائج المطلوبة بشكل أسهل وأسرع وأوسع، ويتمثَّل هذا التكامل في خطوات نذكر أهمَّها:
الخطوة الأُولى:
قدرته الضخمة على تحمَّل الألم في سبيل الهدف، مهما تعاظم الألم وتعدَّدت التضحيات، بل إنَّه ليجده برداً وسلاماً وسعادةً، إذا كان فيه نصر دينه وتحقيق هدفه وإرضاء ربِّه.
الخطوة الثانية: قوَّة إرادته وارتفاع معنويَّاته، بشكل لا نظير له في التاريخ... مهما بعُد الهدف وتعقَّدت الوسيلة.
الخطوة الثالثة: اطِّلاعه على قوانين مُعيَّنة للتاريخ والمجتمع وللنفس البشرية، بشكل يفسح له فرصة التصرُّف في المجتمعات وسير التاريخ، بطرق لم يسبق لأحد أن اطَّلع عليها.
فهذا وغيره، يصنع منه القائد العظيم الذي يُمكنه فتح الكرة الأرضية برمَّتها، وتنفيذ الغرض الإلهي الأقصى فيها.
الجهة الثانية: في مُميِّزاته الشخصية - كما دلَّت عليه الأخبار - لنرى مقدار موافقتها لنتائج التخطيط العام التي عرفناها.
والأخبار التي نريد التعرُّض إليها عن هذه الجهة على ثلاثة أنواع: من حيث إنَّه تدلُّ (أولاً) على مقدار عمره الظاهري عند ظهوره.
وتدلُّ (ثانياً) على صفاته الجسمية.
وتدلُّ (ثالثاً) على شجاعته وارتفاع معنويَّاته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٩٠) ص٥٠٤ وما بعدها.

↑صفحة ٣٥٨↑

النوع الأول: الأخبار الدالَّة على مقدار عمره الظاهري عند ظهوره، مع العلم أنَّ عمره الواقعي، بالفهم الإمامي للفكرة المهدوية، وأكثر من ذلك بكثير.
أخرج ابن الصبَّاغ في الفصول المُهمَّة،(٤٩١) عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله (ص) - في حديث -: (المهدي من ولْدي ابن أربعين سنة...) الحديث.
وأخرج السفاريني في لوائح الأنوار البهية،(٤٩٢) عن أبي أمامة مرفوعاً: (المهدي من ولْدي ابن أربعين سنة...) الحديث.
وأخرج السيوطي في الحاوي،(٤٩٣) عن نعيم بن حمَّاد، عن عبد الله بن الحارث، قال: (يخرج المهدي وهو ابن أربعين سنة...) الحديث.
وأخرج عنه عن محمد بن حمير - في حديث عن المهدي (ع) - قال: (يجيء من الحجاز حتى يستوي على منبر دمشق، وهو ابن ثمان عشرة سنة).
وأخرج عنه أيضاً، عن علي بن أبي طالب - في حديث عن المهدي (ع) - قال: (يُبعث وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين).
وأخرج الصدوق في إكمال الدين،(٤٩٤) بسنده إلى أبي الصلت الهروي قال: قلت للرضا (ع): ما علامة القائم (ع) منكم إذا خرج؟
قال: (علامته أن يكون شيخ المُسنُّ شابَّ المَنْظر، حتى إنَّ الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة ودونها، وإنَّ من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيَّام والليالي حتى يأتيه أجله).
وأخرج النعماني في الغيبة،(٤٩٥) بإسناده عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (ع)، أنَّه قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٩١) الفصول المُهمَّة ص٢١٧.
(٤٩٢) ص ٧٠ ج٢.
(٤٩٣) الحاوي ج٢ ص١٤٧ وكذلك الخبرين اللذين بعده.
(٤٩٤) المصدر المخطوط.
(٤٩٥) ص٩٩ وكذلك الخبر الذي بعده.

↑صفحة ٣٥٩↑

(لو قام القائم لأنكره الناس؛ لأنَّه يرجع إليهم شابَّاً موفَّقاً).
وفي غير هذا الرواية، أنَّه قال (ع):
(وإنَّ من أعظم البليَّة أن يخرج إليهم صاحبهم شابَّاً، وهم يحسبونه شيخاً كبيراً).
وأخرج أيضاً بإسناده عن علي بن عمر بن الحسين، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (ع) أنَّه قال: - في حديث عن المهدي (ع) - (ويظهر في صورة شابٍّ موفَّق ابن اثني وثلاثين سنة، حتى ترجع طائفة من الناس...) الحديث.
وأخرجه الشيخ في الغيبة،(٤٩٦) إلاَّ أنَّه قال: (ابن ثلاثين سنة).
وقال الشيخ أيضاً:(٤٩٧) روي عن أبي جعفر (ع) أنَّه قال: (ليس صاحب هذا الأمر من جاز الأربعين، صاحب هذا الأمر القويُّ المُشمِّر).
وأخرج(٤٩٨) بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (لو خرج القائم لقد أنكره الناس، يرجع إليهم شابَّاً موفَّقاً، فلا يثبت عليه إلاَّ كل مؤمن أخذ الله ميثاقه...) الحديث.
وأخرج الطبرسي في إعلام الورى:(٤٩٩) ومما جاء عن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) - في حديث يذكر فيه المهدي (ع) إلى أن يقول -: (التاسع من ولْد أخي الحسين، ابن سيِّدة الإماء، يُطيل الله عمره في غيبته، ثمَّ يُظهره بقدرته في صورة شابٍّ دون أربعين سنة، ذلك ليعلم أنَّ الله على كل شيء قدير).
ونقل ابن طاووس، عن زكريا في كتاب الفتن، بإسناده عن كعب، عن النبي (ص) قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٩٦) ص٢٥٩.
(٤٩٧) ص٢٥٨.
(٤٩٨) ص٢٥٩.
(٤٩٩) ص٤٠١.

↑صفحة ٣٦٠↑

المهدي اسمه اسمي. ويخرج وهو ابن إحدى وخمسين... الحديث إلى غير ذلك من الروايات.
النوع الثاني: الأخبار الدالة على صفاته الجسمية عند ظهوره، وهي كثيرة ومتنوّعة، نذكر منها نماذج كافية:
أخرج أبو داود(٥٠٠) بإسناده عن أبي سعيد الخدري، قال:
قال رسول الله (ص): (المهدي منّي: أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً...) الحديث.
وأخرج ابن الصباغ في الفصول المهمّة(٥٠١) عن أبي أُمامة الباهلي، قال:
قال رسول الله (ص) - في حديث عن المهدي (ع) -: (كأنّ وجهه كوكب دُرّي، في خدّه الأيمن خالٌ أسود عليه عبايتان قطوانيتان، كأنّه من رجال بني إسرائيل...) الحديث.
وأخرجه الكنجي في البيان.(٥٠٢)
وأخرج الكنجي أيضاً(٥٠٣) بإسناده عن عبد الرحمان بن عوف، قال: قال رسول الله (ص): (المهدي رجل من ولدي وجهه كالكوكب الدرّي، اللون لون عربي والجسم جسم إسرائيلي..) الحديث.
وأخرج أيضاً(٥٠٤) بإسناده عن عبد الرحمان بن عوف، قال: قال رسول الله (ص):
(ليبعثنّ الله تعالى من عترتي رجلاً: أفرق الثنايا، أجلى الجبهة، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً...) الحديث.
وفي حديث آخر عن علي بن أبي طاالب (ع) قال:
ـ في حديث عن المهدي (ع) -: (كثّ اللحية، أكحل العينين، برّاق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٠٠) السنن ج٢ ص٤٢٢.
(٥٠١) ص٣١٧.
(٥٠٢) ص٩٥.
(٥٠٣) ص٩٤.
(٥٠٤) ص٩٦، وكذلك الحديث الذي بعده.

↑صفحة ٣٦١↑

الثنايا، في وجهه خال، أقنى، أجلى، في كتفه علامة النبي (ص)...) الحديث.
وأخرجه السيوطي في الحاوي.(٥٠٥)
وأخرج السيوطي أيضاً عن نعيم بن حماد بن محمد بن حمير، قال:
المهدي أزجّ، أبلج، أعين... الحديث.
وروى النعماني(٥٠٦) بإسناده عن سليمان بن هلال قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسين بن علي (ع)، قال:
(جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال له: يا أمير المؤمنين نبّئنا بمهديّكم هذا... إلى أن قال: وهو رجل جلي الجبين، أقنى الأنف، ضخم البطن، أذيل الفخذين، بفخذه اليمنى شامة، أفلج الثنايا. ويملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً).
وروى بإسناده عن حمران بن أعين، قال: قلت لأبي جعفر الباقر (ع):
جُعلت فداك، إنّي قد دخلت المدينة وفي حقوي هميان فيه ألف دينار، وقد أعطيت الله عهداً أنني أنفقها بابك ديناراً ديناراً، وتجيبني فيما أسألك عنه. فقال: يا حمران سَلْ تُجَب، ولا تبعض دنانيرك. فقلت سألتك بقرابتك من رسول الله (ص): أنت صاحب هذا الأمر والقائم به؟ قال: لا. قلت: فمَن هو؟ بأبي أنت وأُمّي. فقال: ذاك المشرب حمرة، الغائر العينين، المشرف الحاجبين، عريض ما بين المنكبين، برأسه حزاز (خراز) وبوجهه أثر، رحم الله موسى).
وأخرج أيضاً(٥٠٧) بإسناده عن حمران بن أعين، قال: سألت أبا جعفر (ع):
فقلت له: أنت القائم؟ فقال: (قد عرفت حيث تذهب (بك المذاهب) صاحبك المدمج (البذخ) البطن، ثم الخراز برأسه، ابن الأصلح، رحم الله فلاناً).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٠٥) ج٢ ص١٤٧ وكذلك الذي بعده.
(٥٠٦) ص١١٤ وكذلك الذي بعده.
(٥٠٧) ص١١٥ وكذلك الخبر الذي بعده.

↑صفحة ٣٦٢↑

وأخرج أيضاً بإسناده عن أبي بصير، قال، قال أبو جعفر(ع) وأبو عبد الله (ع) - الشك من ابن عصام -: يا أبا محمد، بالقائم علامتان:
شامة في رأسه ودار الخراز برأسه، وشامة بين كتفيه من جانبه الأيسر تحت كتفه، ورقة مثل ورقة الآس. ابن سبيّة، وابن خيرة الإماء.
وأخرج(٥٠٨) بإسناده عبد الرحيم القصير، قال: قلت لأبي جعفر (ع)، قول أمير المؤمنين (ع): بأبي ابن خيرة الإماء، أهي فاطمة (ع). فقال:
(إنّ فاطمة (ع) خيرة الحراير، ذاك المبذخ بطنه، المشرب حمرة، رحم الله فلاناً).
وأخرج الشيخ في الغيبة(٥٠٩) والمفيد في الإرشاد(٥١٠) بإسنادهما عن جابر الجعفي:
سمعت أبا جعفر (ع) يقول:
سأل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين (ع) فقال: أخبرني عن المهدي ما اسمه؟ فقال: ما اسمه. فإنّ حبيبي شهد (لعلّها: عهد) إليّ أن لا أُحدّث باسمه، حتى يبعثه الله. (قال): فأخبرني عن صفته؟ قال: هو شاب مربوع، حسن الوجه، حسن الشعر، يسيل شعره على منكبيه، ونور وجهه يعلو سواد لحيته ورأسه، بأبي ابن خيرة الإماء.
وأخرج الصدوق في إكمال الدين(٥١١) بإسناده عن زياد بن المنذر، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر، عن أبيه عن جدّه (ع)، قال: قال أمير المؤمنين (ع) وهو على المنبر:
(يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان، أبيض اللون مشرب بحمرة مبذخ البطن، عريض الفخذين، عظيم مشاش المنكين، بظهره شامتان: شامة على لون جلده، وشامة على شبه شامة النبي (ص)...) الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٠٨) ص١٢٠.
(٥٠٩) ص٢٨١.
(٥١٠) ص٣٤٢.
(٥١١) المصدر المخطوط.

↑صفحة ٣٦٣↑

وأخرجه الرواندي(٥١٢) بلفظ متقارب.
إلى غير ذلك من الأخبار.
النوع الثالث: الأخبار الدالة على شجاعته وارتفاع معنوياته، وبعض صفاته (الاجتماعية) الأُخرى.
أخرج النعماني(٥١٣) بسنده إلى سليمان بن هلال، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسين بن علي (ع)، قال: (جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال له: يا أمير المؤمنين، نبّئنا بمهديّكم هذا. فقال:
إذا درج الدارجون، وقلّ المؤمنون... إلى أن قال: لا يجبن إذا المنايا هلعت، ولا يجوز إذا المنون اكتنفت، ولا ينكل إذا الكمأة اصطرعت، مشمّر مغلولب، ظفر ضرغامه، حصد مخدش، ذكر، سيف من سيوف الله، رأس قيّم، يشق رأسه في باذخ السؤدد، وعازر مجده في أكرم مَحْتِد.
إلى أن قال: أوسعكم كهفاً، وأكثركم علماً، وأوصلكم رحماً.
اللّهمّ فاجعل بيعته خروجاً من الغمّة، واجمع به شمل الأُمّة. فإن خار الله لك فاعزم، ولا تنثن عنه إذا وُفّقت له، وتجزنّ عنه إن هُديت إليه. هاه، وأوما بيده إلى صدره شوقاً إلى رؤيته).
وأخرج الطبرسي في أعلام الورى(٥١٤) عن الريّان بن الصلت، قال: قلت للرضا (ع): أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال:
(أنا صاحب هذا الأمر، ولكنّي لست بالذي أملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً.
وكيف أكون كذلك على ما ترى من ضعف بدني، وأنّ القائم هو الذي إذا خرج كان في سنّ الشيوخ ومنظر الشبّان، قويّاً في بدنه حتى لو مدّ يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتكدكت صخورها).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥١٢) الخرايج والجرايح ص١٩٥.
(٥١٣) الغيبة ص ١١٣ وما بعدها.
(٥١٤) ص ٤٠٧.

↑صفحة ٣٦٤↑

إلى غير ذلك من الأخبار.
وهذه الأخبار ناطقة بمضامينها واضحة بمداليلها، فلا حاجة إلى تكرار ما فيها. كل ما في الأمر أنّنا نحتاج إلى أمرين:
أحدهما: تفسير بعض ألفاظها على المستوى اللغوي.
والثاني: محاولة تذليل صعوبة التعارض الواقع في بعضها. وهو ما سنذكره فيما يلي:
الجهة الثالثة: في شرح هذه الأخبار بأنواعها الثلاثة من الناحية اللغوية، سواء في التفسير اللغوي الصرف والإشارة إلى المراد من المجاز والكناية ونحوها؛ آخذين من الروايات التي ذكرناها، وعلى القارئ تطبيقه عليها.
قوله: يرجع إليهم شابّاً موفّقاً... يفهم من تلك الإشارة إلى حقيقة معيّنة هي:
أنّ العمر الذي يستطيع الشاب أن يقضيه في الحياة يكون طويلاً عادةً، ومن هنا يكون مستقبله منفتحاً والأمل فيه عريضاً... وهو معنى التوفيق المشار إليه. وهو معنى يفقده المتقدّم في السن؛ لأنّ مستقبله يكون بارداً والأمل فيه قصيراً، كما هو معلوم.
قوله: صاحب هذا الأمر القوي المشمّر... من شمّر عن ساعديه فهو مشمّر.
وإنّما يشمّر الإنسان عادةً للعمل، وهو مَن يكون قويّاً على إنجازه رحب الصدر بالنسبة إليه، وهذه الصفة تكون في فترة الشباب عادة.
(أجلى الجبهة) مَن يكون عالي الجبهة واسعها.
(أقنى الأنف).... قنى الأنف يقني إذا ارتفع وسط قصبته وضاق منخزاه.
(كأن وجهه كوكب درّي).... تعبير مجازي عن الهيبة والبهاء.
(وكأنّه من رجال بني إسرائيل....والجسم جسم اسرائيلي).... إشارة إلى ضخامة الجسم وتناسق أعضائه. ومن الواضح أنّ سحنته ليست إسرائيلية؛ لأنّه ليس من نسلهم بالضرورة.
(اللون لون عربي) يعني في السمرة.
(أفرق الثنايا)... مفلّج الأسنان...متباعد ما بينها.
(أكحل العينين).... يفهم منه سواد الأهداب.. الذي هو العمل الأساسي للكحل.
(برّاق الثنايا).... أبيض الأسنان.

↑صفحة ٣٦٥↑

(أزجّ الحاجبين)... يقال: زجّج حاجبيه إذا دققهما وطولهما.
(جلي الجبين، وأجلى الجبين) الجلي هو الظاهر والواضح، والأجلى تفضيل في هذه الصفة. والجبين: ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ.
(أذيل الفخذين): يقال: ذالت المرأة والناقة، إذا هزلت. فيكون المراد دقّة فخذيه وهزالهما. فيعارض ما في رواية أُخرى من أنّه (عظيم الفخذين) ويقال: ذيّل ثوبه إذا طوله. فيكون المراد أنّه طويل الفخذين، وإن كان عريضهما أيضاً، وبهذا التفسير يرتفع التعارض. وفسّره في (الإشاعة)(٥١٥) بكونه منفرج الفخذين متباعدهما. ولم نجد له سنداً في اللغة.
(الغائر العينين، المشرف الحاجبين) بمعنى أنّ عينه داخلة وحاجباه خارجتان. والعادة في مثل ذلك أن يكون الحاجبان عريضان. فيكون معارضاً - إلى حدٍّ ما - مع ما دلّ على كونه أزجّ الحاجبين دقيقهما. إلاّ أنّ الأمر ليس ضروري الثبوت؛ لإمكان أن يكون خارج الحاجبين ودقيقهما.
(برأسه حزاز وخراز وداء الخراز) على اختلاف النقول. والحزاز بمهملة مفتوحة ومنقوطتان: الهبرية في الرأس كأنّه نخالة،(٥١٦) وهو قشرة الرأس التي تسقط عند الحك.
عند مَن ابتلي بهذا الداء. ولعلّ الحراز، بالراء والزاي تحريف عنه فإنّه ليس له في اللغة معنى مناسب.
(مبدح البطن) أي واسعها، فإنّ البدحة بضمٍّ فسكون: المتّسع من الأرض، وقد ورد هذا اللفظ في المصادر على أشكال: مدح ومبلح ومبدح، وكله غير مطابق مع اللغة، ولعلّه تحريف في الخط. والصحيح أن يقال: أبدح سكون ففتح وبدح بفتح فكسر.
وورد أيضاً (المبذخ بطنه) وهو دال على نفس المعنى؛ لأنّه من البذخ وهو العيش في الرفاه الزائد الذي يسبّب إضخامة البطن. وليس معنى ذلك أن يعيش في رفاه فعلاً، وإنّما صفته كمَن يعيش هذه العيشة.
(مربوع) متوسّط الطول.
(عظيم مشاش المنكبين) المشاش جمع مشاشة، وهي رؤوس العظام، مثل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥١٥) الإشاعة لأشراط الساعة: ص٨٩.
(٥١٦) أنظر أقرب الموارد، مادة حزز.

↑صفحة ٣٦٦↑

الركبتين والمرفقين والمنكبين. ويقال: فلان جليل المشاش، عظيم نفس العظام(٥١٧) وهذه الصفة تدل على عرض المنكبين بطبيعة الحال.
(مغلولب) اغلولب العشب تكاثف واغلولب القوم كثروا.(٥١٨) فيكون المراد كونه (ع) مجمع المؤمنين ومهوى قلوب الصالحين.
(ظفر) من إطلاق المصدر على الشخص مجازاً، يراد به اسم الفاعل، كقولنا: فلان عدل أي عادل. فيكون المراد كونه ظافراً أي منتصراً غالباً.
(ضرغامة) الأسد.
(حصد) بكسر الصاد يقال: حصد الحبل والدرع إذا اشتدّ فتله واستحكمت صنعته. فيكون المراد منه عندئذٍ كونه غليظ الرقبة.
(مخدش) إن قرأناه بكسر الدال، كان من الخدش وهو الجرح، فيكون المراد كونه كثير القتل. وإن قرأناه بفتح الدال، فالمخدّش: مقطع العنق من الإنسان(٥١٩) ولعلّ المراد منه عندئذٍ كونه غليظ الرقبة، دلالة على ضخامة جسمه، كما دلّت عليه سائر الروايات، وهو موافق لوصف السفير الثاني للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى له، إذ قال: ورقبته مثل ذا. أومأ بيديه....أي أغلظ الرقاب حسناً.(٥٢٠)
(يشق رأسه في باذخ السؤدد) تعبير مجازي عن عظمته وشرفه.
(وعازر مجده في أكرم محتد). عزر الفتح اشتد وغلظ، وبالكسر اشتد وصلب، وبالكسر اشتد وصلب.
واسم الفاعل منها عازر. والمحتد هو الأصل في النسب. فالمراد: أنّ مجده الأصيل الشديد يتصل بأكرم أصل نسبي باعتبار كونه متصلاً برسول الله (ص).
وهناك عدد آخر من الصفات، واضحة المعنى في الروايات.
الجهة الرابعة: في حل أهم التعارضات الموجودة في هذه الروايات: إنّ أهم تعارض في هذه الروايات ما سمعناه في النوع الأول، من تعيين عمر الإمام المهدي (ع) حين ظهوره. وهناك بعض التعارضات الأخرى البسيطة التي لا حاجة إلى عرضها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥١٧) انظر المصدر، مادة مشش.
(٥١٨) أنظر المصدر مادة غلب.
(٥١٩) المصدر مادة خدش.
(٥٢٠) انظر غيبة الشيخ ص٢١٩.

↑صفحة ٣٦٧↑

تنقسم الروايات الدالة على عمر الإمام المهدي (ع) إلى قسمين رئيسين: القسم الأول: ما دل على التحديد برقم معين. وهي: الأربعين والثلاثين والاثنين والثلاثين والثمانية عشر، والإحدى والخمسين. وظاهر كل رواية أنه لا يزيد ولا ينقص عن الرقم الوارد فيها.
القسم الثاني: ما دل على فترة معينة تقريبية كقوله: شاب المنظر، ابن أربعين ودونها، ما بين الثلاثين والأربعين. وفي صورة شاب، ونحوها.
ونحن تارةً ننطلق من الفهم غير الإمامي للمهدي (ع) وهو أنّه رجل يولد في زمانه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
وأُخرى ننطلق من الفهم الإمامي القائل بأنّ المهدي (ع) طويل العمر وغائب عن الأنظار ردحاً طويلاً من الزمن.
ويفترق هذان الفهمان في تحديد العمر فرقاً أساسياً، هو أنّ المهدي بالفهم غير الإمامي نستطيع أن نحدّد عمره وقت ظهوره بالأعوام، بل بالأيام والساعات والدقائق، بمجرّد الإطلاع على تاريخ ميلاده. على حين لا يكون ذلك ممكناً في الفهم الإمامي؛ لأنّ تحديد العمر الطويل ممكن إلاّ أنّه غير مقصود الآن التركيز عليه؛ لأنّه يماثل شكله الظاهري عند ظهوره. وإنّما المهم الآن تحديد عمره من شكله الظاهري فقط، كما تقول الروايات (يحسبه الناظر إليه ابن أربعين عاماً ودونها).
والشكل الظاهري غير محدد بطبعه. لا نستطيع أن نعدّه بالأعوام فضلاً عن الأيام والساعات. وليس هناك إلاّ التحديد التقريبي الذي يحمل الناظر عنه فكرة إجمالية.
ونحن إذا انطلقنا من الفهم غير الإمامي، كان القسم الأوّل من الروايات متعارضاً تماماً؛ لأنّ المهدي إمّا أن يكون ابن ثلاثين وابن اثنين وثلاثين وابن أربعين.... وهكذا. ولا يمكن أن يكون متّصفاً برقمين من هذه الأرقام كما هو واضح.
وبهذا نخسر عدداً من الروايات، غير أنّ عدداً منها دال على الأربعين عاماً. ومن هنا قد يؤخذ بهذا الرقم بالتحديد.
وروايات القسم الثاني أيضاً لا تخلو من المعارضة، فكونه ابن إحدى وخمسين ينافي كونه شابّاً أساساً، وينافي كونه بين الثلاثين والأربعين، بل إنّ كونه ابن ثلاثين وأربعين ينافي أن يكون ما بين الثلاثين والأربعين أيضاً..... وهكذا.
إذن، فطبقاً للفهم غير الإمامي، يكون التعارض بين الروايات كبيراً ومتعدداً.
ومعه لا يكون يصفو عندنا شيء معيّن.

↑صفحة ٣٦٨↑

وأمّا لو انطلقنا من زاوية الفهم الإمامي، يكون التعارض بين الروايات كبيراً ومتعدداً، ومعه لا يكون يصفو عندنا شيء معيّن.
وأمّا لو انطلقنا من زاوية الفهم الإمامي، المستلزم - كما عرفنا - لنفي التحديد عن الشكل الظاهري للإمام المهدي، بل يكون تقريبياً على كل حال. ولعلّ التقريب يختلف بعض الشيء باختلاف الناظرين؛ ومن هنا ستتفق أغلب الروايات على (مفهوم) معيّن وتحديد تقريبي معيّن، وهو تحديد لا يمكن أن نزيد عليه حتى لو كنّا مواجهين للمهدي تماماً.
فهو شاب المنظر، وفي صورة شاب... والإنسان يبقى شابّاً حتى بعد الأربعين عادةً، وخاصّةً مع نظارة الجسم التي عرفناها في أوصاف المهدي. وهو أيضاً ما بين الثلاثين والأربعين، على وجه التقريب. وهو أيضاً ابن اثنين وثلاثين، كما يقدِّره بعض الناظرين، وهي فترة تقع بين الثلاثين والأربعين، وهو أيضاً ابن ثلاثين، كما يقدِّره بعض الناظرين، وهو قريب من الاثنين والثلاثين، بتقدير الناظرين. وهو أيضاً دون الأربعين بهذا التقدير. بل قد يصل تقدير الناس له إلى الأربعين أيضاً، كما عليه عدد من الروايات.
نعم، لابد من الاستغناء عن روايتين:
الأُولى: الرواية الدالة على أنّ عمره ثمانية عشر عاماً؛ فإنّها مرويّة عن محمد بن حمير لا عن أحد المعصومين، مضافاً إلى منافاتها إلى أكثر الروايات السابقة، كما هو واضح لدى التدقيق.
الثانية: الرواية الدالة على أنّ عمره إحدى وخمسين.... وهي مرويّة عن النبي (ص) إلاّ أنّها لم تصح سنداً، مضافاً إلى منافاتها لكثير من الروايات السابقة، فإنّ مَن يكون شابّاً يقدَّر بفترة الثلاثين والأربعين، لا يقدَّر عادةً بفترة الخمسين، كما هو واضح.
الجهة الخامسة: دلّت الروايات التي سمعناها: أنّ المهدي حين يظهر يكون في سنّ الشيوخ، وهذا صحيح بالضرورة طبقاً للفهم الإمامي لفكرة المهدي. فإنّ الشيخ مَن تجاوز الشباب والكهولة وسواء توفّي عند الثمانين والتسعين وتجاوزها، والمهدي قد تجاوزها بكثير فهو شيخ في السن، وقد ورد في التسليم على (نوح) النبي (ع): السلام عليك يا شيخ المرسلين(٥٢١) مع أنّ عمره بنص القرآن لا يقل عن تسعمئة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٢١) انظر مفاتيح الجنان المعرَّب ص٣٤٧.

↑صفحة ٣٦٩↑

وخمسين عاماً.
وقد أشرنا في التاريخ السابق،(٥٢٢) أنَّ العمر إذا بلغ مثل هذه الأرقام، فلا ينبغي أن نتوقَّع للفرد شكلاً مُعيَّناً، في أيِّ فترة من فترات عمره، بل يبقى شكله - أعني شبابه وكهولته وشيخوخته - منوطة بمشيئة الخالق الذي شاء طول عمره.
وبتعبير آخر: أنَّ هذه الفترات ستكون عنده طويلة تبعاً لطول عمره، وحيث إنَّنا لا نعلم أنَّ رصيده من العمر أيَّ مقدار، فلا نعلم - تبعاً لذلك - أنَّه في أيِّ فترة من فترات عمره.
وهذه الفكرة الواضحة تدعم ما دلَّت عليه الروايات، من أنَّ المهدي (ع) يظهر في سنِّ الشيوخ ومنظر الشبَّان، مضافاً إلى الوضوح المرتكز في ذهن كل مَن يؤمن بالمهدي (ع)، في أنَّه سوف لن يظهر وهو في سنِّ الشيخوخة (جسمياً) بأيِّ حال، وإنَّما يظهر بما دون ذلك من عهود العمر.
بالرغم من ذلك، سمعنا الروايات تُشير إلى أنَّ هذا الفارق بين سنِّه الواقعي وشكله الظاهري، سيكون تمحيصاً ومحنة يمرُّ بها الناس عند ظهوره (ع)، وسيكثر الفاشلون في هذا التمحيص على أثر شكِّهم في مهدوية المهدي، من حيث إنَّه يظهر عليهم شابَّاً وهم يتوقَّعونه شيخاً كبيراً، وسوف لن يثبت على الإيمان به إلاَّ كل مؤمن أخذ الله ميثاقه.
ومن الصعب أن نتصوَّر أن يكون هذا التمحيص عاماً، بعد كل الذي قلناه من مرتكز الأذهان ونصِّ الروايات، واقتضاء الفكرة النظرية عدم شيخوخة المهدي جسمياً.
ومعه؛ يتعيَّن انحصار هذا التمحيص على بعض المستويات.
المستوى الأول: إنَّ هذا التمحيص ثابت بحسب الطبع الأوَّلي للقضية، بمعنى أنَّ هذا الفارق الكبير بين العمر والشكل يقتضي هذا التمحيص، ولكنَّ الروايات التي شرحت ذلك أوضحت إمكان وجود الفارق، فالتفت الناس إلى ذلك، وصار في الإمكان النجاح العام في هذا التمحيص.
المستوى الثاني: إنَّ هذا التمحيص ثابت بالنسبة إلى عدد من الناس، يؤمنون أساساً بطول عمر المهدي، ولكنَّ مستواهم الثقافي واطِّلاعاتهم الدينية، قاصرة عن إدراك إمكان الفارق بين عمره الحقيقي وشكله الظاهري؛ ومن ثَمَّ فسيتوقَّعون ظهوره

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٢٢) تأريخ الغيبة الكبرى ص٢١.

↑صفحة ٣٧٠↑

بصورة شيخ كبير بقدر ما يؤمنون له من العمر، فإذا رأوه شابَّاً، كان ذلك غير ممكن في نظرهم... فيكون التمحيص في حقِّهم ثابتاً.
أقول: فهذه أربعة من الضمانات لانتصار المهدي، وهي التي يترتَّب على التخطيط الإلهي العام الثابت قبل الظهور، وهي القسم الأول من هذه الضمانات.
القسم الثاني: من ضمانات انتصار المهدي في فتحه العالمي.
وهو ما لا يمتُّ إلى التخطيط العام لعصر الغيبة بصِلَةٍ... وإنَّما هي أمور ذات تخطيطات خاصة بها... توجد فتؤثِّر في نصر الإمام (ع) من الناحية العسكرية والاجتماعية والفكرية وغيرها.
وكما كانت الضمانات في القسم الأول أربعة كذلك هي في القسم الثاني أربعة.

الضمان الأول: عنصر المُباغتة والمفاجأة في الهجوم وبدء الثورة، بشكل لم يحسب له الآخرون أيَّ حساب، وهي عنصر مُهمٌّ في فوز الجيش وانتصاره، كما أنَّها عنصر يأخذه العسكريون بنظر الاعتبار في وضع الخطط العسكرية، وأنَّ أيَّ خطوة عسكرية يتَّخذها أحد المُعسكرين ممَّا لم يكن متوقَّعاً بالنسبة إلى المُعسكر الآخر، تكون هذه الخطوة دائماً ناجحة في مصلحة مَن يتَّخذها، وأنَّ أهمَّ عنصر يكون نافعاً في الحرب هو غفلة المُعسكر الآخر عن احتمال حدوث الهجوم، وبدء الثورة والقتال، وهو معنى المُفاجأة، إذ يكون المعسكر الآخر مأخوذاً على حين غرَّة بدون استعداد واجتماع على سلاح، فيكون احتمال انتصار المعسكر المهاجم والجيش الفاتح كبيراً جدَّاً، قد يصل أحياناً إلى حدِّ اليقين.
ويمكن القول: إنَّه كلَّما أمكن المهاجم ضبط عنصر المُفاجأة أكثر، صار احتمال انتصاره أكبر، حتى ما إذا أصبحت المُفاجأة (مطلقة) أصبح انتصار المهاجم يقينياً.
ولا زال عالقاً في أذهاننا: كيف استطاعت مصر عبور خطِّ بارليف الإسرائيلي عام ١٩٧٦ باستخدام عنصر المفاجأة، ولازال تحت سيطرة مصر إلى الآن؟ مع أنَّها لن تكن مفاجأة (مطلقة) بالمعنى الكامل؛ لأنَّ الحذر والعداء التقليدي مُتبادل بين المعسكرين بطبيعة الحال.
ولكنَّ هذا العنصر سيكون مطلقاً تماماً في ثورة القائد المهدي العالمية؛ وذلك

↑صفحة ٣٧١↑

لأنَّ أعداءه - من المُنحرفين والكافرين والمادِّيين - فارغوا الذهن تماماً عن قضية ثورته، وعن احتمال حصولها تماماً؛ فيكون حدوثها مُباغتةً (مطلقة)، وسيؤخذون على حين غرَّة وعلى غير استعداد، وقد أكَّدت الأخبار على هذا ا لعنصر من ضمانات الانتصار:
أخرج الصدوق،(٥٢٣) بإسناده المُتَّصل بالإمام الرضا (ع)، عن آبائه، أنَّ النبي (ص) قيل له: يا رسول الله، متى يخرج القائم من ذُرِّيتك؟
فقال: (مَثَلُه مَثَلُ الساعة، لا يُجلِّيها لوقتها إلاَّ الله عزَّ وجلَّ، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلاَّ بغتة).(٥٢٤)
وأخرج الطبرسي في الاحتجاج(٥٢٥) رسالة المهدي (ع) إلى الشيخ المفيد (عليه الرحمة)، وقد سبق أن ذكرناها في تاريخ الغيبة الكبرى،(٥٢٦) وقد جاء في آخرها: (فليعمل كل امرئٍ منكم بما يُقرِّب به من محبَّتنا، ويتجنَّب ما يُدنيه من كراهتنا وسخطنا؛ فإنَّ أمرنا بغتة فجأة، حين لا ينفعه توبة، ولا يُنجيه من عقابنا ندم على حوبة...) الحديث.
إلى غير ذلك من الأخبار...
وينبغي أن نتحدَّث عن عنصر المفاجأة ضمن جهتين:
الجهة الأُولى: أنَّ للمفاجأة بظهور المهدي (ع) تخطيطاً خاصاً بها، مربوطاً بالتخطيط العام السابق على الظهور.
ويمكن إرجاع هذا التخطيط إلى عدَّة فقرات:
الفقرة الأُولى: تعاهد قادة الإسلام الأوائل على عدم التصريح بموعد الظهور، وإبقائه غيباً مكتوباً عن كل أحد، لا يعلم به حتى المُخلصون من أصحابه - فضلاً عن الآخرين - ويختصُّ علمه بالله عزَّ وجلَّ والقادة الإسلاميين المعصومين أنفسهم.
ولذا سمعنا النبي (ص) في الرواية الأُولى رفض أن يُصرِّح بالوقت، ويُشبِّه خفاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٢٣) انظر كمال الدين، نسخة مخطوطة.
(٥٢٤) الأعراف: ٧/١٧٨.
(٥٢٥) ج٢ ص ٣٢٤.
(٥٢٦) ص١٦٨.

↑صفحة ٣٧٢↑

موعد الظهور بخفاء موعد يوم الساعة (لا تأتيكم إلاَّ بغتة، ثقلت في السماوات والأرض).(٥٢٧)
كيف لا، وهو يرى بأنَّ انتصار ذلك القائد الكبير في اليوم العظيم منوط بالكتمان؟!
الفقرة الثانية: نفي التوقيت، ولعن الوقَّاتين وتكذيبهم، من قِبل القادة الإسلاميين السابقين، والتي سمعناها في فصل سابق من هذا التاريخ.
الفقرة الثالثة: إعطاء العلامات العامة والخاصة، وبالأحرى البعيدة والقريبة للظهور، مع التجنُّب - بحذر متعمد - التصريح بالوقت الحقيقي لها وله.
الفقرة الرابعة: ما عرفناه من تعذُّر الاطِّلاع على نتيجة التخطيط العام من قِبَل أيِّ إنسان، سوى المهدي نفسه، طبقاً للفهم الإمامي؛ فإنَّ الشرط المُتبقِّي وهو وجود العدد الكافي لغزو العالم، لا يمكن التعرُّف على نموِّه وتحقُّقه إلاّ بعد الاطِّلاع على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: مقدار هذا العدد المُحتاج إليه في غزو العالم... كلِّياً.
الأمر الثاني: صفات الإخلاص وغيره التي ينبغي أن يتَّصف بها أفراد هذا الجيش... كلِّياً.
الأمر الثالث: تحقُّق الأمرين الأوَّلين في أشخاص بأعيُنهم في عالم الحياة، وبتعبير آخر: اتِّصاف نفس المقدار من الأفراد بهذه الأوصاف. وهذا ممَّا لا يمكن التعرُّف عليه بحال، كما سبق أن برهنَّا عليه.
الجهة الثانية: أنَّه كيف ينسجم عنصر المفاجأة مع ما عرفناه من جعل العلامات القريبة للظهور، كالنداء، والخسف، وغيرها، فإنَّه يجعل الظهور مُترقَّباً ليس فيه مفاجأة على الإطلاق؟
والجواب على ذلك: أنَّنا قلنا: إنَّ هذه العلائم إنَّما جُعِلت، لتكون تنبيهاً للمُخلصين المُمحَّصين خاصة، وللمؤمنين بالمهدي (ع) عامة... إلى قرب الظهور؛ ومن هنا لا يكون عنصر المفاجأة بالمعنى الكامل ثابتاً بالنسبة إليهم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٢٧) انظر الأعراف: ٧/ ١٧٨.

↑صفحة ٣٧٣↑

بل لا معنى لسريانه عليهم عندئذ، لضرورة اجتماعهم إلى المهدي (ع) عند ظهوره، وهذا يستدعي انتباههم إليه قبل الظهور، ولا معنى لغفلتهم ومُباغتتهم.
والمُباغتة لا تكون تجاه الأصدقاء، وإنَّما هي خطَّة ضدَّ الأعداء، وقد قلنا أكثر من مرَّة: إنَّ الأعداء لا يلتفتون إلى هذه العلامات، ولا يعتبرونها دالَّةً على شيء أصلاً.
إذن؛ فهم على الدوام غير مُتوقِّعين للظهور على الإطلاق، ومعه فيكون الظهور بالنسبة إليهم مفاجأة كاملة، كما هو المطلوب.
الضمان الثاني: لانتصار المهدي (ع): كونه منصوراً بالرُّعب... وينبغي أن يقع الحديث عن ذلك في عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: في الروايات الدالة على ذلك، وهي عديدة، نذكر عدداً من نماذجها:
أخرج النعماني،(٥٢٨) عن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي (ع) يقول: (لو قد خرج قائم آل محمد (ع)... - إلى أن قال: - والرُّعب مسيرة أمامه).
وفي نسخة: (يسير سيرة إمامه).
وعن(٥٢٩) هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (بينا الرجل على رأس القائم يأمر وينهى، إذ يأمر بضرب عنقه، فلا يبقى بين الخافقين إلاَّ خافه).
وعن(٥٣٠) عبد الرحمان بن كثير، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث - قال: يؤيده بثلاثة أجناد: بالملائكة وبالمؤمنين وبالرعب... الحديث.
وعن(٥٣١) أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (ع) - في حديث - يذكر راية القائم المهدي (ع)-... إلى أن قال: (فإذا هو قام نشرها... - وقال: - يسير الرُّعب قدَّامها شهراً،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٢٨) الغيبة للنعماني: ص١٢٢.
(٥٢٩) المصدر ص١٢٦.
(٥٣٠) المصدر ص١٢٨.
(٥٣١) المصدر ص١٦٥.

↑صفحة ٣٧٤↑

ووراءها شهراً، وعن يمينها شهراً وعن يسارها شهراً).
ثمَّ قال: (يا أبا محمد، إنَّه يخرج موتوراً غضبان أسفاً، لغضب الله على هذا الخلق...) الحديث.
وأخرج الصدوق في إكمال الدين،(٥٣٢) والطبرسي في إعلام الورى،(٥٣٣) عن محمد بن مسلم الثقفي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (ع) يقول: (القائم منَّا، منصور بالرعب، مؤيَّد بالنصر...) الحديث.
وقد سبق أن سمعنا لأصحاب القائم (ع) نفس هذه الصفة، كالذي أخرجه المجلسي في البحار،(٥٣٤) عن أبي عبد الله (ع) - في حديث -: (إذا ساروا سار الرُّعب أمامهم مسيرة شهر).
الجهة الثانية: الرُّعب لغةً هو الخوف.
ويُفهم منه عادةً الخوف الشديد إذا كان بدرجة لا يمكن كتمه؛ ومعه يكون المقصود من كون المهدي (ع) منصوراً بالرُّعب: انهدام معنويَّات أعدائه واندثار هممهم للوقوف تجاهه، وخوفهم من جيشه الصلب الصامد.
والمقصود من مسيرة الرعب شهراً: أنَّ البلاد الواقعة على بُعْد شهر من موقع جيشه، تخافه وتُصبح مذعورة منه.
والمراد ببُعْد الشهر: المسافة التي يحتاج المسافر في قطعها إلى شهر من الزمن.
فإذا فهمنا هذه المسافة بالفهم القديم، المناسب مع زمن صدور هذه الأخبار، وما كان يفهمه المجتمع يومئذ، وهو السفر على ظهور الحيوانات كالإبل والجياد، فيكون معنى مسير الرعب شهراً: أنَّ البلاد التي تبتعد شهراً من موقع الجيش المهدوي في السفر بوسائط النقل القديمة، تُصبح مرعوبة منه.
وهذا أمر طبيعي؛ لأنَّ مثل هذه البلاد ستكون مُجاورة له بالمفهوم الثابت، ويمكن الوصول إليها بالوسائل الحديثة في عدَّة ساعات، بل في أقلِّ من ساعة، بل يمكن ضربها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٣٢) إكمال الدين (المخطوط).
(٥٣٣) ص٤٣٣.
(٥٣٤) ج٣ / ١٨٠.

↑صفحة ٣٧٥↑

بالسلاح البعيد المدى في لحظات، فإذا كان الجيش المهدوي قويَّاً مرهوب الجانب، كان من الطبيعي أن تكون هذه المناطق مرعوبة منه.
وإذا فهمنا هذه المسافة بالفهم الحديث، كانت - في حقيقتها - مستوعبة للكرة الأرضية كلها... لوضوح إمكان الدوران حولها بطائرات السفر الاعتيادية في أقلِّ من شهر بكثير، فضلاً عن وسائط النقل الحربية الحديثة، والأسلحة والصواريخ المُتطوَّرة.
ومعه؛ يكون المراد: أنَّ كل أعداء الإمام المهدي (ع) على وجه الأرض يكونون في حالة رعب شامل، وخوف دائم من مهاجمة المهدي لهم.
وسيكون هذا الرعب - مهما كانت أبعاده - ضماناً أكيداً لنجاح الجيش المهدوي وانتصاره، وهو أمر واضح عسكرياً، غير أنَّ الخطط العسكرية الحديثة لا تستطيع إيجاده في الأعداء، إلاَّ أنَّ المهدي (ع) سوف تتوفَّر له الأسباب المُتعدِّدة لتنمية هذا الرُّعب في نفوس أعدائه - على ما سنسمع - بصفته القائد الأعظم المُنقذ للهدف الإلهي الكبير.
ومعنى (مسير) الرعب بين يدي الجيش المهدوي وأمامه، تقدُّمه بتقدُّم هذا الجيش، وهذا يؤكِّد فَهْم المسافة بالفَهْم القديم الذي عرضناه، فإذا كان الرُّعب مُتقدِّماً على الجيش بخمسمئة كيلو متر مثلاً، وتقدَّم الجيش مئة سار الرعب أمامه مئة، فشمل مناطق كانت مُطمئنَّةً فيما سبق... وهكذا... حتى تدخل كل مناطق العالم تحت الحكم المهدوي.
الجهة الثالثة: في أسباب الرعب ومبرِّرات وجوده في نفوس أعداء الإمام المهدي (ع).
وينبغي لنا منذ البدء أن نُحدِّد موقفنا من احتمال وجود الرُّعب بسبب إعجازي... فإنَّه غير صحيح تماماً... لمنافاته لقانون المعجزات، وعدم دلالة الرواية عليه.
أمَّا منافاته لقانون المعجزات؛ فلأنَّنا عرفنا أنَّ المعجزة لا تقع إلاَّ إذا كانت طريقاً مُنحصراً للهداية وإتمام الحجة، وهذا الرُّعب واقع في طريق الهداية؛ لكونه أحد أسباب انتصار المهدي (ع)، الذي يكون سبباً لهداية العالم، وتنفيذ الغرض الإلهي الكبير، ولكنَّ المعجزة ليست سبباً مُنحصراً في إيجاده، بعدما سنعرفه من أسبابه الاعتيادية.
أمَّا عدم دلالة الروايات؛ فلوضوح أنَّه لم يرد في أيِّ خبر منه، أي إشعار بذلك.
ومسير الرعب شهراً - كما أشارت الروايات - لا يدل على الإعجاز، بعد الذي فهمناه من المنحى المجازي لهذا التعبير البليغ،

↑صفحة ٣٧٦↑

وإنَّما يكمن السرُّ الأساسي في وجود هذا الرُّعب، هو أنَّه سُرعان ما تنتشر في العالم عن المهدي وجيشه وأصحابه خصائص مُعيَّنة، يخشى الناس من استعمالها ضدَّهم... وهو أمر مؤكَّد لو جابهوه؛ ومن هنا يحملهم الرُّعب والفزع على أن يتركوا مُجابهته جُهد الإمكان، وكثير منهم سوف يُسلِّم له زمام الحُكم بدون قتال.
وهذه الخصائص منها ما يعود إلى نفس المهدي، ومنها ما يعود إلى جيشه.
فمن الخصائص التي تعود على المهدي، أنَّه قادر على عدد من الإنجازات، باعتبار علمه بخصائص الأمور والتاريخ البشري ككل، ذلك العلم الناتج عن قابليَّاته الخاصة التي اكتسبها حال غيبته، وعن علم الإمامة من حيث أثبتنا أنَّ الإمام إذا أراد أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك، وقد بحثناه مُفصَّلاً في تاريخ الغيبة الكبرى(٥٣٥) فراجع.
ومن هنا؛ يكون قادراً على فضح أيِّ حاكم دول العالم، بما يأبى ذلك الحاكم كشفه عنه، ويعتبره سرَّاً مكتوماً لنفسه وللدولة، وليس في العالم حاكم لا يفضحه كشف سرِّه، على مدى التاريخ السابق على الظهور.
كما أنَّه يكون قادراً على إيقاع الخلاف والمُنافرة بين أعضاء الحكومة، بأن يُخبر بعضها بما لم يطَّلع عليه من أعمال البعض الآخر.
بل قد يكون مُجرَّد وجود المهدي (ع) وبدئه بحركته، موجباً لانقسام كثير من الحكومات انقساماً داخلياً بين مؤيِّد للمهدي (ع) ومُحارب له، ومُتحيِّر في شأنه ومُجامِل له، ونفس وقوع هذا الاختلاف يكون في مصلحة انتصار المهدي (ع).
كما أنَّ المهدي (ع) يكون قادراً على معرفة مواقع الأسلحة والذخائر والمعامل الحربية، ونقاط الضعف من تحرُّكات العدوِّ، بشكل لا يمكن أن يطَّلع عليها غيره إلاَّ بأصعب الطُّرق وأطول الأزمان، وقد يأخذ الخبر من الاستخبارات الحديثة والأخبار الصحفية، فيفهم منها ما لا يمكن لغيره أن يفهمه.
ويكفي في مثل ذلك، أن تفهم الدول أنَّ المهدي واجه بعض الحكومات بمثل هذه الطرق... أن تمتلئ رعباً وفزعاً، وتنهار معنويَّاتها انهياراً تامَّاً، بمجرَّد أن تعرف منه التفكير في غزوها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٣٥) ص٥١٥ وما بعدها.

↑صفحة ٣٧٧↑

كما أنَّنا بعد أن نعرف - فقهيَّاً - أنَّ الدين الإسلامي لا يُجيز البدء بالقتال، قبل الدعوة إلى الإسلام، وإرشاد المعسكر الآخر إلى العقائد الإسلامية والعدل الإسلامي، وإيضاح ذلك في أذهانهم، وهذا ما يعمله الإمام (ع) في كل غزو يقصده، مضافاً إلى أساليبه العامة في عرض الأُطروحة العادلة الكاملة على العالم ككل، وهي أساليب واضحة وصريحة وواسعة الانتشار.
ومعه؛ ستكون فكرته مُقنعةً للآخرين من الشعوب المعادية، فيكتسب فيها قواعد شعبية وعسكرية واسعة، ولا يكون الفرد منهم على استعداد لمواجهة المهدي وجيشه بالقتال على أقلِّ تقدير.
ومعه؛ ستضطرُّ حكومة تلك البلاد - مهما كانت عازمة على الحرب والصمود - إلى التنازل والمسالمة؛ لأنَّ الحاكم يكون في مثل ذلك كالأعزل، لا حول له ولا قوَّة.
وتدريجياً - وبالتدريج السريع نسبيَّاً - سيتَّضح للدول الكافرة، بأنَّ المستقبل العالمي بيد المهدي (ع) على أيِّ حال، كحقيقة لا يمكن الفرار منها، وـ على الأقلِّ - وجود النظام المهدوي كدولة كبرى يصعب جدَّاً مُجابهتها ومُنافرتها، بل من الأفضل مُجاملتها والتزلُّف لديها.
وهذا وذاك، ممَّا يدفع الأفراد والدول - على حدِّ سواء - إلى التسليم بالمهدي (ع) وعدم مُجابهته بالقتال.
فهذا عدد من الخصائص التي يتَّصف بها المهدي (ع)، ممَّا توجب الرعب لمَن يُحاربه، ومُقتضى ذلك أنَّ الرُّعب يتولَّد تدريجياً عند البدء بغزو العالم، لا من أول الظهور، وهذا هو ظاهر الروايات أيضاً.
وأمَّا خصائص أصحابه، فأمران رئيسيان:
الأمر الأول: قوَّة اندفاعهم وحماسهم في إطاعة أوامر قائدهم وتطبيق خططه، تلك القوَّة الناتجة من علوِّ إيمانهم، وصلابة إرادتهم، وارتفاع معنوياتهم، ووعيهم للهدف الذي يسعون إليه.
وليس هناك أيُّ واحد من القادة والحكَّام في الدول، يجهل هذه الحقيقة التي قلناها فيما سبق، وهي أنَّ الجيش المؤمن الواعي ذو المعنويات العالية هو المُنتصر دائماً، وكل القادة والحُكَّام سيعلمون - وبسرعة - بصفة جيش المهدي من هذه الناحية، وهم يعلمون صفة جيوشهم من ناحية ثانية، فإنَّها وإن كانت مُسلَّحة تسليحاً كاملاً، ومدرَّبة تدريباً عالياً، إلاَّ أنَّها لا تقوم في أساسها على الإخلاص ووعي الهدف، بل تقوم على

↑صفحة ٣٧٨↑

أسباب أخرى، كالتجنيد الإجباري، والطمع بالرواتب الضخمة وغير ذلك... وهو ممَّا لا يُساعد بحالٍ على وجود الاندفاع والحماس في الجيش في ميدان القتال.
وهذه الحقائق التي يعرفها حكَّام العالم، تجعلهم يُفكِّرون طويلاً، قبل التورُّط بمنازلة المهدي بقتال.
الأمر الثاني: كثرة قيامهم بقتل أعدائهم بشكل غليظ لا هوادة فيه - كما سنسمع مُفصَّلاً في الفصل الآتي - الأمر الذي يولِّد انطباعاً واضحاً لدى الآخرين، بأنَّهم أشدَّاء غلاظ بالنسبة إلى أعدائهم، الأمر الذي يولِّد الرُّعب ويُسبِّب إعادة التفكير فيما إذا كانت مُجابهتهم بالقتال يحتوي على مصلحة أم لا.
الضمان الثالث: انطلاقة من زاوية مُتَّفق عليها بين المذاهب السلامية، بل مُتَّفق عليها بشكل أوسع من ذلك، وانطلاقة من مثل هذه الزاوية، أمر أساسي في تهيئة الجوِّ العام إلى جانبه واكتساب القواعد الشعبية الموالية، وخاصة في أول دور حركته وثورته، حتى يستطيع أن ينطلق من هذا المنطلق العام إلى ما يريد تأسيسه من العدل والحق، وما يجيء به من كتاب جديد وقضاء جديد، على ما سنسمع، وسيكون انطلاقه من زاوية مُتَّفق عليها، مُتمثِّلاً من عدَّة مستويات:
المُستوى الأول: الخطاب الذي يُلقيه المهدي في المسجد الحرام في أول ظهوره، فإنَّنا رأينا أنَّه يؤكِّد - في الأغلب - على الأمور المشتركة المعلومة الصحَّة عند سائر المسلمين، وهي الاعتراف بالإسلام، وبما سبقه من الشرائع، مُنطلقاً منه إلى ربط حركته ودعوته بخطِّ الأنبياء الطويل، مُشيراً إلى نتائج الظلم التي تطرَّف إليها المُتطرِّفون نتيجةً للفشل في التمحيص.
وهناك روايات ناقلة لخُطبة الإمام، ولا تعرُّض فيها إلى ذكر الظلم السائد، الأمر الذي يجعلها أكثر تركيزاً على المفاهيم المُتسالم عليها في الإسلام، بحيث تشمل تلك القاصرة التي لا تُدرك بشاعة الظلم ومُنافاته لتعاليم الإسلام.
أخرج السيوطي،(٥٣٦) عن نعيم بن حمَّاد، عن أبي جعفر، قال: (يظهر المهدي بمكَّة عند العشاء، ومعه راية رسول الله (ص) وقميصه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٣٦) ج٢ ص ١٤٤.

↑صفحة ٣٧٩↑

وسيفه، وعلامات نور وبيان، فإذا صلى العشاء نادى بأعلى صوته يقول: أُذِّكركم - أيُّها الناس - ومقامكم بين يدي ربِّكم، فقد اتَّخذ الحجر وبعث الأنبياء وأنزل الكتاب، وأمركم أن لا تُشركوا به شيئاً، وأن تُحافظوا على طاعته وطاعة رسوله (ص)، وأن تُحيوا ما أحيا القرآن وتُميتوا ما أمات، وتكونوا أعواناً على الهدى، ووزراء على التقوى، فإنَّ الدنيا قَدْ دنا فناؤها وزوالها، وآذنت بانصرام، فإنِّي أدعوكم إلى الله ورسوله، والعمل بكتابه، وإماتة الباطل، وإحياء سنَّته، فيظهر في ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً عدد أهل بدر...) الحديث.
ورواها الصافي في مُنتخب الأثر(٥٣٧) بشيء من الاختلاف، أهمُّه - في أولها -: (وقد أكَّد المحجَّة وبعث الأنبياء... - وفي آخرها: - وإماتة الباطل وإحياء السنَّة).
وهو أفضل من نسخة الحاوي، لعلَّ فيه خطأً مُطبعيَّاً.
المستوى الثاني: اتِّخاذ الجيش المهدوي شعار رسول الله (ص) الذي أخذه لجيشه، كما سبق أن عرفنا.
ولئن لم يكن الشعار النبوي معروفاً لدى عامة المسلمين، فهو معروف على أيِّ حال بين علمائهم ومُفكِّريهم المُخلصين منهم، فيُمكنهم أن يعرفوا وأن يُعرِّفوا الآخرين: أنَّ هؤلاء القوم قد ساروا على شعار النبي (ص)، إذن؛ فهم مع النبي حتى في شعار حربه، ومُمثِّلون له في خصائصه وهدفه.
المستوى الثالث: مُطالبته بثأر الحسين (ع)، فإنَّه أمر مُتسالم على صحَّته بين المسلمين، بل بين كل المظلومين، وهم أكثر البشرية في عصر الظلم والانحراف.
وقد سمعنا الروايات الدالَّة على ذلك، وكانت كلُّها مروية عن طُرق الخاصة، وأودُّ الآن أن أروي عن بعض المصادر العامة رواية تمتُّ إلى ذلك بصِلَةٍ.
أخرج القندوزي في الينابيع،(٥٣٨) عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: قلت لعلي الرضا بن موسى الكاظم رضي الله عنهما: يا بن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن جدِّك جعفر الصادق رضي الله عنه، أنَّه قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٣٧) ص٤٩٠.
(٥٣٨) ينابيع المودَّة ص٥٠٩ ط النجف.

↑صفحة ٣٨٠↑

(إذا قام قائمنا المهدي، قتل ذراري قتلة الحسين رضي الله عنه بفعال آبائهم)؟
فقال: (هو ذلك).
قلت: فقول الله عزَّ وجل: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى...)، ما معناه؟
فقال: (صدق الله في جميع أقواله، لكنَّ ذراري قَتَلَةِ الحسين (رضي الله) عنه يرضون ويفتخرون بفعال آبائهم، ومَن رضي شيئاً كمَن فعله، ولو أنَّ رجلاً قُتِل في المشرق فرضي أن يقتله رجل في المغرب لكان شريك القاتل).
وليس المُراد بالثأر مُجرَّد الانتقام، كما كان عليه ديدن العرب في الجاهلية، وبقي عليه المُنحرفون الوارثون لتلك العادات إلى الآن، بل المراد أمران مزدوجان.
الأمر الأول: تطبيق الهدف الذي أراده الحسين (ع)، فيضمن ما أراده من أهداف، وهو إزالة الظلم عن الأرض، وتطهيرها من الفساد، والسير نحو المثل الأعلى العادل.
الأمر الثاني: قتل كل راضٍ بمقتل الحسين (ع) وطاعن في ثورته، فإنَّ الراضي بذلك يُمثِّل - في حقيقته - ذلك الانحراف والظلم الذي ثار عليه الحسين (ع)، وأراد فضحه أمام الرأي العام، وسيثور عليه المهدي (ع) ويستأصله عن وجه الأرض، فمن الطبيعي أن يستأصل المهدي أمثال هؤلاء المُنحرفين، وتمكيناً وتهيئة للمجتمع العادل الكامل، كما سنوضِّح.
لا يختلف في ذلك بين أن يكونوا من ذُرِّيَّة قَتَلَةِ الحسين فعلاً أم من غيرهم، فإنَّ القاعدة الأساسية في ذلك هو أنَّ الراضي بالشيء كفاعله: (... ولو أنَّ رجلاً قُتِل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان شريك القاتل...)، لا يؤثِّر في ذلك افتراق المكان واختلاف الزمان...
وإنَّما نصَّت هذه الرواية على الذُّرِّية، باعتبار أنَّ الغالب في الذُّرِّية المُنحرفة هو الافتخار بما اجترح الآباء من مظالم، وارتكبوا من مآثم، وهدروا من دماء، ونصَّت أيضاً على القاعدة العامة التي يُمكن باعتبارها التعميم من الذُّرِّية إلى غيرهم، بل القول اليقين: بأنَّه لو كان في الذُّرِّية مَن هو مؤمن يستنكر فعل آبائه، لم يكن مشمولاً للقتل من هذه الجهة.
هذا، وينبغي أنَّ ثورة الإمام الحسين (ع)، وإن كانت واقعةً في ضمن التخطيط العام لعصر ما قبل الظهور، ألاَّ أنَّ النداء بثأره من قِبل المهدي (ع) مخطَّط خاص ثابت بعد الظهور، وليس مُستنداً إلى التخطيط السابق، إلاَّ باعتبار حدوث سببه فيه؛ ومن هنا

↑صفحة ٣٨١↑

جعلناه في الضمانات التي لا تترتَّب على ذلك التخطيط.
الضمان الرابع: من ضمانات انتصار الإمام المهدي (ع) ممَّا لا يترتَّب على التخطيط العام السابق على الظهور، معونة الملائكة له وقتالهم معه.
وينبغي أن نتحدَّث عن ذلك في جهتين، من حيث إيراد الأخبار الدالَّّة على ذلك أولاً، وإيضاح فلسفته ثانياً.
الجهة الأُولى: في إيراد الأخبار الدالة على ذلك، وهي عديدة نذكر أهمَّها:
أخرج الكنجي في البيان،(٥٣٩) بإسناده عن الهيثم بن عبد الرحمان، عن علي بن أبي طالب (ع) - في حديث عن المهدي (ع) يقول فيه -: (يُمدَّه الله بثلاثة آلاف من الملائكة، يضربون وجوههم وأدبارهم).
قال الكنجي: رواه الطبراني في معجمه، وأخرجه أبو نعيم في مناقب المهدي (ع).
وقال القندوزي في الينابيع،(٥٤٠) نقلاً عن إسعاف الراغبين للصبَّان قوله: وجاء في روايات عدَّة أنَّه عند ظهوره يُنادي فوق رأسه مَلَك: (هذا خليفة الله فاتَّبعوه... وإنَّ الله تعالى يُمدُّه بثلاثة آلاف من الملائكة... وإنَّ جبريل على مُقدَّمة جيشه وميكائيل على ساقته...) الحديث.
وأخرج ابن قولويه في كامل الزيارات،(٥٤١) بإسناده عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (ع) قال: (كأنِّي بالقائم على نجف الكوفة... - إلى أن يقول: - فينحط عليه ثلاث عشر ألف ملك وثلاثمئة وثلاثة عشر مَلكاً).
قلت: كل هؤلاء الملائكة؟
قال: (نعم، الذين كانوا مع نوح في السفينة، والذين كانوا مع إبراهيم حين أُلقي في النار، والذين كانوا مع موسى حين فلق البحر لبني إسرائيل، والذين كانوا مع عيسى حين رفعه الله إليه. وأربعة الآف ملك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٣٩) ص٩٦.
(٥٤٠) ص ٥٦٣.
(٥٤١) ص١٢٠.

↑صفحة ٣٨٢↑

مع النبي (ص) مُسوَّمين، وألف مُردَفين، وثلاثمئة وثلاثة عشر ملائكة بدريِّين، وأربعة آلاف هبطوا يريدون القتال مع الحسين (ع)، فلم يؤذَن لهم في القتال... وكل هؤلاء في الأرض ينتظرون قيام القائم (ع) إلى وقت خروجه عليه صلوات الله والسلام).
وأخرجه النعماني في الغيبة،(٥٤٢) مع شيء من الاختلاف.
وأخرج النعماني أيضاً(٥٤٣) عن أبان بن تغلب، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (كأنِّي أنظر إلى القائم على نجف الكوفة... - ويستمرُّ في الحديث فيذكر أنَّ راية رسول الله (ص) يأتيه بها جبريل ثمَّ يقول: - يهبط بها تسعة آلاف مَلك، وثلاثمئة وثلاثة عشر مَلكاً).
فقلت: جُعلت فداك، كل هؤلاء معه؟
قال: (نعم، هم الذين كانوا مع نوح في السفينة، والذين كانوا مع إبراهيم حيث أُلقي في النار، وهم الذين كانوا مع موسى لمَّا فُلق له البحر، والذين كانوا مع عيسى لمَّا رفعه الله إليه، وأربعة آلاف مُسوَّمين كانوا مع رسول الله (ص)، وثلاثمئة وثلاثة عشر مَلكاً كانوا معه يوم بدر، ومعهم أربعة آلاف يصعدون (صعدواً) إلى السماء يستأمرون في القتال مع الحسين (ع)، فهبطوا إلى الأرض وقد قُتل، فهم عند قبره شُعث غُبر يبكونه إلى يوم القيامة، وهم ينتظرون خروج القائم (ع)).
وأخرج أيضاً،(٥٤٤) بسنده عن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول: (لو قد خرج قائم آل محمد لنُصرة الله بالملائكة المُسوَّمين والمُردفين والمُنزَلين والكروبيين، يكون جبرئيل أمامه وميكائيل عن يمينه وإسرافيل عن يساره، والرُّعب مسيرة أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله، والملائكة المُقرَّبون حذاه...) الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٤٢) ص١٦٦ وما بعدها.
(٥٤٣) ص١٦٦.
(٥٤٤) ص١٢٢.

↑صفحة ٣٨٣↑

وأخرج أيضاً،(٥٤٥) بإسناده عن عبد الرحمان بن كثير، عن أبي عبد الله (ع)، - في حديث يقول فيه -: (يؤيِّده بثلاثة أجناد: بالملائكة، وبالمؤمنين، وبالرُّعب...) الحديث.
وأخرج الطبرسي في الإعلام،(٥٤٦) عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر الباقر (ع): (كأنِّي بالقائم على نجف الكوفة، وقد سار إليها من مكَّة، في خمسة آلاف من الملائكة، جبرئيل عن يمينه، ميكائيل عن شماله، والمؤمنون بين يديه، وهو يُفرِّق الجنود في الأمصار)، إلى غير ذلك من الأخبار.
هذا، وقد سبق أن سمعنا أنَّ جبرئيل (ع) أول مَن يُبايعه بعد الانتهاء من خُطبته في المسجد الحرام.
أقول: الملائكة المُسوَّمون، هم المذكورون في قوله تعالى: (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).(٥٤٧)
والملائكة المُردفون هم المذكورون بقوله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).(٥٤٨)
والملائكة المُنزلون هم المذكورون في قوله تعالى: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ).(٥٤٩)
والملائكة المُقرَّبون في قوله تعالى:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٤٥) ص١٢٨.
(٥٤٦) ص٤٣٠.
(٥٤٧) آل عمران: ٣/ ١٢٥-١٢٦.
(٥٤٨) الأنفال: ٨/٩-١٠.
(٥٤٩) آل عمران: ١٢٤.

↑صفحة ٣٨٤↑

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ...).(٥٥٠)
والظاهر أنَّها صفة عامة للملائكة.
والملائكة الكروبيُّون، غير مذكورين في القرآن الكريم، لكنَّهم ذُكِروا في السنَّة الشريفة في كثير من الأخبار والأدعية.
قيل عنهم في المصادر اللغوية: سادة الملائكة والمُقرَّبون منهم.
عبرانيَّتها: كروبيم، جمع كروب.
ومعناها: حافظ وحارس ومُقرَّب.(٥٥١)
والملائكة البدريُّون، هم الذين أعانوا الجيش الإسلامي النبوي في وقعة بدر، ويبدو من هذه الروايات أنَّهم ثلاثمئة وثلاثة عشر عدد الجيش نفسه.
والملائكة الأربعة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، هم سادة الملائكة... وقيل: هم أدنى من (الروح) المذكورة في قوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا...).(٥٥٢)
فالفرد منهم أحد أربعة وخمسة، لا يُضارعهم غيرهم من الملائكة.
الجهة الثانية: في فلسفة هذه الأخبار.
إنَّنا إذا تكلَّمنا من ناحية عقائدية غير فلسفية، نجد أنَّ معونة الملائكة للجيش المجاهد، يعني إعطاء التأييد الإلهي غير القسري لهذا الجيش، بإدخال عوامل ميتافيزيقية في الحرب، لأجل الحصول على نتائج أفضل، وذلك حين تكون الحرب جهادية ومطابقة للحق ومرضيَّة لله عزَّ وجلَّ، فإنَّه عزَّ وعلا مشيئته الأزلية بانتصار الحق على الباطل، المفهوم من قوله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(٥٥٣) فإنَّه لا محالة يسبغ على الجيش المُمثِّل لطرف الحق لطفه وعطفه، ويُساعده بتوفير عناصر الانتصار له... يكون منها: أنَّه يُرسل قسماً من الملائكة لنصر المؤمنين، وهم (عناصر) ميتافيزيقية غير منظورة... عناصر لا تكون إلاَّ إلى جنب الحق والعدل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٥٠) ٤/ ١٧٢.
(٥٥١) انظر أقرب الموارد، مادَّة كرب.
(٥٥٢) القدر: ٩٧/٤.
(٥٥٣) ٥٨ / ٢١.

↑صفحة ٣٨٥↑

وبمُجرَّد أن تنحرف الأُمَّة، فإنَّها تُحرَم بالضرورة من هذه العناصر الطاهرة قال الله تعالى: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ).(٥٥٤)
وهذه العناصر ليست غريبة عن الإمام المهدي (ع)، بعد أن كانت قد وجِدت للنبي (ص) والأنبياء السابقين عليه، كما يُفهم من الآية الأخيرة وهذه الروايات، كيف، وإن ثورة المهدي (ع) هي نتيجة جهود كل هؤلاء الأنبياء وكل الأولياء والصالحين والمُطبِّقة للهدف الأسمى من خَلق البشرية على وجه الأرض؟! فقد تكون أولى بالنصر والإمداد من أيِّ دعوة أخرى سابقة عليها.
أمَّا الأُسلوب الذي تتَّخذه هذه العناصر الميتافيزيقية، في التأييد والنصر، فهو ممَّا لا يمكن التعرُّف عليه، لوضوح أنَّها عوامل غير منظورة، فمن الطبيعي أن يكون أُسلوب تأثيرها غير منظور أيضاً، وغير ثابت تاريخياً على الأقل، وقد وردت بعض الروايات التي تتحدَّث عن غزوات النبي (ص) تُصرِّح بأنَّ الملائكة كانوا يُقاتلون كما قاتل الناس، بعد اتِّخاذهم صورة البشر وهذا مُحتمل عقلاً، إلاَّ أنَّه لا يكاد يثبت تاريخياً، ولا يتعيَّن الالتزام به بحسب القواعد المعروفة للإسلام.
وإنَّما الذي يُستطاع الركون إليه بهذا الصدد، واستفادته من هذه الآيات نفسها... هو أنَّ هذه العناصر الميتافيزيقية ترفع من معنويات الجيش البشري المجاهد، وتخفض من معنويات الجيش المُعادي للحق... إلى حدٍّ تجعل الفرد أقوى من عشرة من أعدائه؛ ولذا كان الحكم الإسلامي المُصرَّح به في القرآن الكريم عدم جواز الفرار، حتى لو كان الأعداء عشرة أضعاف المسلمين، حتى ارتفع بقوله تعالى: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا...)،(٥٥٥) وبُدِّل إلى عدم جواز الفرار إذا كان الجيش المُعادي بقدر الجيش المُعادي مرَّتين.
وعلى كلا الحالين، فالمفروض بالفرد المؤمن أن يكون أعلى مستوى في معنوياته وإخلاصه من الفرد الكافر، وهو قوله تعالى:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٥٤) ٣٦/ ٢٨.
(٥٥٥) الأنفال: ٨/٦٦.

↑صفحة ٣٨٦↑

(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ...).(٥٥٦)
وتُسبِّب هذه العناصر الميتافيزيقية إلى رفع معنويات المسلمين، هو المُستفاد من نفس هذه الآيات السابقة حيث تقول: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ...).
وأمَّا الحصول على النصر الكامل من الله عزَّ وجلَّ وحده، (... وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
وهذا التسبُّب الإلهي ليس على وجه القسر، غير مُنافٍ مع إرادة المجاهدين وتضحياتهم، وإنما هو التسبُّب الإلهي الموجود في كل الكون، حتى نزول المطر، وخروج النبات التي يكون استناداً إلى الأسباب الطبيعية واضحاً، قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً).(٥٥٧)
وبهذا نستطيع أن نُدرك أنَّ الانتصار الذي يُحرزه الجيش المجاهد، ناتج من عمله وإرادته، وليس للعوامل غير المنظورة من إنتاج إلاَّ رفع هذه الإرادة وتركيز هذا العمل.
وليس من قبيل المعجزة، لأنَّ المعجزة تكون بسبب ميتافيزيقي قسري خارج عن إرادة البشر، وليس موردنا من هذا القبيل.
وأودُّ - في هذا الصدد - أن أُشير إلى أنَّ الآيات لم تُنِطْ إنزال الملائكة كون القائد نبيَّاً ورسولاً، بل ولا كون المؤمنين في حالة حرب فعلاً، وإنَّما أناطت ذلك بأحد أمرين:
الأمر الأول: الصبر والتقوى.
قال تعالى: (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا...) الآية.
الأمر الثاني: الاستغاثة إلى الله تعالى بطلب العون.
قال الله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
وهذا هو معنى ارتباط هذا التأييد الإلهي، بدرجة كافية من الإخلاص في طريق الله،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٥٦) النساء: ٤/ ١٠٤.
(٥٥٧) عم: ٧٨/١٤-١٦.

↑صفحة ٣٨٧↑

والجهاد المُقدَّس والأهداف العادلة.
ومتى حصل أحد الأمرين وجِد الإمداد الإلهي، بغضِّ النظر عن شخص القائد، نبيَّاً كان وإماماً... وبغضِّ النظر عن العمل العادل الذي يقوم به المسلمون، حربياً كان أم سلمياً.
ومن هنا؛ لم تنصَّ الروايات على معونة الملائكة للمهدي (ع) في خصوص الحرب.
وقد سبق أن سمعنا جبريل (ع) ينزل لمُبايعته، وليس المهدي (ع) في ذلك الحين في حالة حرب.
هذا، وإنَّ الإيمان بمعونة الملائكة مبنيٌّ على الإيمان بوجودهم بطبيعة الحال، وهو مُتوفِّر لدى كل مَن يعتقد بالمهدي (ع)، وأمَّا الجدل العقائدي ضدَّ المادِّيين وغيرهم في إثبات ذلك، فليس مجاله هذا الكتاب، ويكفينا نحن كمسلمين، تصريح القرآن الكريم بوجودهم.
وإلى هنا تمَّت لدينا فكرة كافية عن ضمانات النصر للإمام المهدي (ع)، التي ينطلق منها إلى تحقيق هدفه الأعلى في البشرية، ولعلَّ هناك ضمانات أخرى لا نُدركها، ولم يحصل لها الإثبات التاريخي الكافي.
ولعلَّ أيَّ واحد من هذه الضمانات الثمانية كافٍ في الانتصار على العالم، أمَّا أكثر من واحد منها، فضلاً عن مجموعها، ففيه أكثر من الكفاية، بل يكفي لفتح العالم في مدَّة قصيرة لا تتعدَّى الثمانية أشهُر، على ما يُستفاد من عدد من الأخبار التي سنسمعها في الفصل الآتي، بل تكفي لفتح العالم وأكثر أجزائه بدون قتال، كما يُستفاد من عدد آخر من الأخبار التي سنسمعها هناك أيضاً، ولا يكون ذلك مُستبعَداً أبداً.

↑صفحة ٣٨٨↑

الفصل الرابع: في كيفيَّة ومُدَّة استيلاء المهدي (ع) على العالم

تمهيد:
قلنا: إنَّ التعرُّف على كيفيَّة استيلاء المهدي (ع) على العالم - بمعنى الاطِّلاع على تفاصيل خُططه الحربية وغير ذلك - مُتعذِّر على الباحث السابق على الظهور، فيبقى ذلك موكولاً إلى حتى مجيء عصره، وإنَّما نتكلَّم الآن في حدود إمكاناتنا والإثباتات التي نملكها عن ذلك، وما يمكن أن يندرج تحت هذا العنوان من إثبات ينقسم إلى عدَّة أمور:
الأمر الأول: أنَّ أول حرب يخوضها الجيش المهدوي، هي حربه مع السفياني - بأيِّ معنى فهمناه ـ، ويتمُّ بانتصار الجيش المهدوي، ومقتل السفياني، وسيطرة المهدي (ع) على العراق، بل على كل المنطقة التي كان يحكمها السفياني، وهي سوريا والعراق على الأقلِّ، وهذا ما سبق أن عرفناه بشكل موجَز، ونعرض له الآن مُفصَّلاً.
الأمر الثاني: إنَّ الإمام المهدي (ع) سوف يضع السيف في كل المُنحرفين الفاشلين في التمحيص، ضمن التخطيط السابق على الظهور، فيستأصلهم جميعاً... وإن بلغوا الآلاف، ولا يقبل إعلانهم التوبة والإخلاص.
الأمر الثالث: إنَّ مدَّة وضع السيف ستكون ثمانية أشهُر، وقد يُفسَّر ذلك بأنَّ مدَّة فتحه للعالم كلِّه هو هذا المقدار... وسنتحدَّث عن ذلك.
الأمر الرابع: إنَّ فتحه للعالم سيتمُّ - في الأغلب - بدون قتال، كما سيأتي مع الإشارة إلى أسلوبه وفلسفته.
ومن هنا سنتحدَّث في هذا الفصل ضمن أقسام أربعة:

↑صفحة ٣٨٩↑

القسم الأول: حرب السفياني مع الإمام المهدي (ع)، ونتكلَّم عنه ضمن جهتين:
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الواردة بهذا الصدد.
أخرج أبو داوود،(٥٥٨) ونقله السيوطي،(٥٥٩) عن ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو يعلى، والطبراني، عن أُمِّ سلمة، عن النبي (ص)، قال: (يكون اختلاف عند موت خليفة... - إلى أن يقول: - ثمَّ ينشأ رجل من قريش أخواله كلب، فيبعث إليهم بعثاً، فظهرون عليهم، وذلك بعث كلب، والخيبة لمَن لم يشهد غنيمة كلب...) الحديث.
وأخرج السيوطي،(٥٦٠) عن أبي عمر الداني عن حذيفة، قال: قال النبي (ص) - في حديث يذكر فيه ظهور المهدي(ع) وبركات دولته -: (... فيقدم الشام، فيذبح السفياني تحت الشجرة التي أغصانها إلى بحيرة طبرية، ويقتل كلباً... - قال رسول الله (ص): - فالخائب مَن خاب يوم كلب، ولو بعقال).
قال حذيفة: يا رسول الله، كيف يحلُّ قتالهم وهم مُوحِّدون؟
فقال رسول الله (ص): (يا حذيفة، هم يومئذ على رِدَّة، يزعمون أنَّ الخمر حلال، ولا يُصلُّون).
وأخرج المجلسي في البحار،(٥٦١) مرفوعاً إلى جابر بن يزيد، عن أبي جعفر(ع) قال: (إذا بلغ السفياني أنَّ القائم قد توجَّه إليه من ناحية الكوفة، فيتجرَّد بخيله حتى يلقى القائم، فيخرج ويقول: أخرجوا إليّ ابن عمّي. فيخرج عليه السفياني، فيُكلِّمه القائم (ع) فيجيء السفياني فيُبايعه.
ثمَّ ينصرف إلى أصحابه، فيقولون له: ما صنعت؟
فيقول: أسلمت وبايعت.
فيقولون: قبَّح الله رأيك! بينما أنت خليفة متبوع، فصرت تابعاً.
فيستقبله فيُقاتله، ثمَّ يُمسون تلك الليلة، ثمَّ يُصبحون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٥٨) السُّنن ج٢ ص٤٢٢ إلى ما بعدها.
(٥٥٩) الحاوي ج٢ ص١٢٦.
(٥٦٠) المصدر ص١٦٠.
(٥٦١) ج١٣ ص١٩٩.

↑صفحة ٣٩٠↑

للقائم بالحرب، فيقتتلون يومهم ذلك.
ثمَّ إن الله تعالى يمنح القائم وأصحابه أكتافهم، فيقتلوهم حتى يفنوهم...) الحديث.
وأخرج أيضاً،(٥٦٢) عن عبد الأعلى الحلبي، عن أبي جعفر (ع) - في حديث طويل - ذكر فيه القائم المهدي (ع) إلى أن ذكر دخوله الكوفة، ثمَّ قال: (ثمَّ يقول لأصحابه: سيروا إلى هذا الطاغية. فيدعو إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه (ص)، فيُعطيه السفياني من البيعة سِلماً. فيقول له كلب - وهم أخواله -: ما هذا؟! ما صنعت؟! والله، ما نُبايعك على هذا أبداً!
فيقول ما أصنع؟
فيقولون: استقبلْه.
فيستقبله، ثمَّ يقول له القائم: خُذْ حذرك، فإنِّي أدَّيت إليك، وأنا مُقاتلك.
فيُصبح فيُقاتلهم، فيمنحه الله أكتافهم، ويأخذ السفياني أسيراً. فينطلق به فيذبحه بيده).
وأخرج السيوطي،(٥٦٣) عن نعيم بن حمَّاد، عن الوليد بن مسلم، عن محمد بن علي قال: (إذا سمع العائذ الذي بمكَّة الخسف خرج مع اثني عشر ألفاً، وفيهم الأبدال حتى ينزلوا إيلياء، فيقول الذي بعث الجيش حتى يبلغه الخبر من إيلياء: لعمر الله، لقد جعل الله في هذا الرجل عِبرة، بعثت إليه ما بعثت فساخوا في الأرض، إنَّ في هذا لعِبرة ونُصرة، فيؤدِّي إليه السفياني الطاعة. فيخرج حتى يلقى كلباً، وهم أخواله، فيُعيِّرونه بما صنع، ويقولون: كساك الله قميصاً فخلعته!
فيقول: ما ترون؟ أستقيله البيعة؟
فيقولون: نعم.
فيأتيه إلى إيلياء فيقول: أقلني (فيقول: بلى) فيقول له: أتُحبُّ أن أُقيلك؟
فيقول: نعم.
فيُقيله، ثمَّ يقول: هذا رجل قد خلع طاعتي. فيأمر به عند ذلك، فيُذبح على بلاطة باب إيلياء.
ثمَّ يسير إلى كلب فينهبهم. فالخائب مَن خاب يوم نهب كلب).
إلى بعض الأخبار الأُخرى.
وقوله: (رجل من قريش، أخواله كلب...)، هو السفياني؛ بقرينة الأخبار الأُخرى، وظاهر الأخبار أنَّ نَسَبَه في آل أبي سفيان وأنَّه من قبيلة (كلب)، ويوجد من أفرادها جماعة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٦٢) ج١٣ ص ١٨٩.
(٥٦٣) ص ١٤٦.

↑صفحة ٣٩١↑

من أهمِّ بطانته ومُناصريه.
وقوله: (أخرجوا إليَّ ابن عمِّي...)، اطلاقاً من ادِّعاء أنَّ آل أبي سفيان وآل أبي طالب (ومنهم المهدي) أولاد عمومة، وهو ادِّعاء لم يؤيِّده التاريخ، وظاهر الخبر أنَّه من كلام السفياني نفسه.
وقوله: (بينما أنت خليفة متبوع...)، ظاهره أنَّ السفياني يُمارس الحكم باسم الخلافة الإسلامية، وهو بعيد، غير أنَّ الخبر جاء طبقاً للمستوى المناسب لعصر صدوره، فإنَّ الحكم كان باعتبار الخلافة يومئذ.
و(إيلياء) اسم بلدة، والظاهر أنَّها الكوفة، باعتبار أمرين:
الأمر الأول: أنَّ المهدي ينزلها بعد الخسف.
قال في الخبر (خرج في اثني عشر ألفاً فيهم الأبدال حتى ينزلوا إيلياء)، وقد عرفنا أنَّ الكوفة هي المركز الرئيسي للمهدي (ع) بعد خروجه من مكَّة وقدومه العراق.
الأمر الثاني: أنَّ الكوفة كانت هي عاصمة حُكم علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع)؛ ومن هنا سُمِّيت بإيلياء؛ اشتقاقاً من لفظ (علي).
وقوله: (العائذ الذي بمكَّة...)، هو المهدي (ع)، كما نطقت بذلك الروايات الكثيرة التي سمعناها في هذا التاريخ والتاريخ السابق، وهو الذي يحدث الخسف من أجله كما عرفنا مُفصَّلاً.
الجهة الثانية: في الفَهْم العام لهذه الروايات، مُتَّصلاً بالفهم العام السابق الذي قدَّمناه إلى حين وصول المهدي إلى العراق.
بعد حدوث الخسف يحصل عند السفياني - بأيِّ معنى فهمناه - حجَّة واضحة في أنَّ الحق إلى جانب المهدي (ع) فيقول: لعَمْرُ الله، لقد جعل الله في هذا الرجل عِبرة، بعثت إليه ما بعثت فساخوا في الأرض، إنَّ في هذا لعِبرة ونُصرة، ويسير المهدي (ع) حتى ينزل الكوفة في هذا الجوِّ الملائم، الذي عرفنا أنَّه الأُطروحة الرئيسية لتغطية تحرُّكات المهدي (ع) سلماً، فيطلب السفياني مواجهته في الكوفة، فيتقابلان، فيتكلَّم معه الإمام (ع) فيزيده عقيدة به. فيُبايعه السفياني، ويعتقد بإمامته، ولم تُصرِّح الروايات بالصيغة المُتَّفق عليها بينهما، غير أنَّ المفهوم عموماً أنَّه ليس تنازلاً مطلقاً من قِبل السفياني، بمعنى أنَّه يبقى حاكماً سياسياً كما كان، بالرغم من مبايعته.

↑صفحة ٣٩٢↑

ويخرج السفياني عائداً إلى عاصمته، فيستقبله أهل الحِلِّ والعقد من جماعته، وفيهم عدد من المُتطرِّفين المُسيطرين، ذكرت الأخبار أنَّهم من عشيرة أُمِّه، من قبيلة كلب، فيسألونه عن نتائج المباحثات، فيُخبرهم بمُبايعته، فيشجبون موقفه ويُعيِّرونه عليه؛ باعتبار أنَّه قد أصبح تابعاً بعد أن كان متبوعاً.
ولا يمكن أن يكون للسفياني بشخصه موقف مُستقلٌّ ضدَّ خاصَّته ومُستشاريه، فيسألهم عن الرأي الصائب في نظرهم، فيقترحون عليه خلع البيعة، ومواجهة المهدي (ع) مواجهةً صارمةً، فيعود السفياني إلى المهدي (ع) طالباً خلع البيعة وإقالته منها، فيُقيله المهدي (ع) منها، وبذلك يُصبح خارجاً على طاعته، فيُهدِّده المهدي (ع) بالقتال، فلا يكون للسفيان بدٌّ من القبول.
وظاهر سياق الروايات في هذه النقطة، أنَّ المهدي (ع) يُقاتل السفياني، وهو - أعني السفياني - بعيد عن عاصمته، مع جماعته القليلة الذين جاؤوا معه إلى مقابلة المهدي (ع)، فيفنى عسكر السفياني ويُباشر المهدي قتل السفياني بنفسه، كما تقول بعض الروايات.
وتبقى عاصمة السفياني بمَن فيها من مُسيطرين ومُنحرفين بدون حاكم، فيسرع المهدي (ع) إليها بجيشه، فتسقط بيده بسهولة، وينهب جيش المهدوي أموالهم (والخائب يومئذ مَن خاب من غنيمة كلب).
وبذلك تسقط المنطقة التي يحكمها السفياني كلها في يد المهدي (ع)، ويُصبح المهدي حاكماً عامَّاً عليها.
القسم الثاني: في أنَّ المهدي (ع) يستأصل المُنحرفين جميعاً، ونتكلَّم عنه في عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي (ع) يقتل المُنحرفين قتلاً واسع النطاق، وقد وردت حول ذلك أخبار كثيرة، نذكر نماذج كافية منها.
أخرج النعماني في الغيبة،(٥٦٤) بسنده عن الحارث الهمداني، قال: قال أمير المؤمنين (ع):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٦٤) ص١٢٠.

↑صفحة ٣٩٣↑

(بأبي ابن خيرة الإماء - يعني القائم من ولده - يسومهم خسفاً، ويسقيهم بكأس مُصبَّرة، ولا يُعطيهم إلاَّ السيف هرجاً، فعند ذلك تتمنَّى فجرة قريش لو أنَّ لها مقاة مُني بالدنيا وما فيها - لا غفر لها - لا نكفُّ عنهم حتى يرضى الله).
وأخرج أيضاً،(٥٦٥) بسنده عن زرارة، عن أبي جعفر (ع):
قال: قلت له: صالح من الصالحين سمَّاه لي، أُريد القائم (ع).
فقال: (اسمه اسمي).
فقلت: أيسير بسيرة محمد (ص)؟
قال: (هيهات هيهات! يا زرارة، ما بسيرته).
قلت: جُعلت فداك، لم؟
قال: (أنَّ رسول الله (ص) سار في أُمَّته باللين (بالمنِّ)، كان يتألَّف الناس، والقائم يسير بالقتل، بذاك أُمِرَ في الكتاب الذي معه، أن يسير بالقتل ولا يستتيب أحداً، ويل لمَن ناوأه!..).
وأخرج أيضاً،(٥٦٦) عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (إنَّ علياً (ع) قال: كان لي أن أقتل المولِّي وأُجهز على الجريح، ولكن (ولكنِّي) تركت ذلك للعاقبة من أصحابي أن جرحوا ولم يقتلوا، والقائم له أن يقتل المولِّي ويُجهز على الجريح).
وأخرج أيضاً،(٥٦٧) عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: (لو يعلم الناس ما صنع القائم إذا خرج لأحبَّ أكثرهم ألاَّ يَرَوه ممَّا يُقتل من الناس، أما إنَّه لا يبدأ إلاَّ بقريش، فلا يأخذ منها إلاَّ السيف، ولا يُعطيها إلاَّ السيف، حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم).
وأخرج أيضاً،(٥٦٨) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع)، أنَّه قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٦٥) ص١٢١.
(٥٦٦) نفس الصفحة.
(٥٦٧) ص١٢٢.
(٥٦٨) نفس الصفحة، وانظر غيبة الشيخ الطوسي ص ٢٧٧.

↑صفحة ٣٩٤↑

(ما تستعجلون بخروج القائم، فوالله، ما لباسه إلاَّ الغليظ، ولا طعامه إلاَّ الجَشب، وما هو إلاَّ السيف والموت تحت ظلال سيف).
وأخرج أيضاً،(٥٦٩) بسنده عن بشر بن غالب الأسدي، قال: قال لي الحسين بن علي (ع): (يا بشر، ما بقاء قريش إذا قدم القائم المهدي منهم خمسمئة رجل، فضرب أعناقهم، ثمَّ قدَّم خمسمئة فضرب أعناقهم صبراً، ثمَّ خمسمئة فضرب أعناقهم).
قال: فقلت له: أصلحك الله، أيبلغون ذلك؟
فقال الحسين بن علي (ع): (إنَّ مولى القوم منهم).
وأخرج الشيخ في المفيد في الإرشاد،(٥٧٠) عن عبد الله بن المغيرة، عن أبي عبد الله (ع) قال: (إذا قام القائم من آل محمد صلوات الله عليهم، أقام خمسمئة من قريش، فضرب أعناقهم، ثمَّ قام خمسمئة فضرب أعناقهم، ثمَّ خمسمئة أخرى، حتى يفعل ذلك ستَّ مرات).
قلت: ويبلغ عدد هؤلاء هذا.
قال: (نعم، منهم ومن مواليهم...)، وأخرجه الطبرسي في إعلام الورى.(٥٧١)
وأخرج الصدوق في إكمال الدين،(٥٧٢) والطبرسي في الإعلام،(٥٧٣) عن عبد العظيم بن عبد الله الحسيني، قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى (ع): إنِّي لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد... إلى أن يقول الإمام (ع): (... فإذا اكتمل له القصد، وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله عزَّ وجلَّ، فلا يزال يقتل أعداء الله، حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ).
قال عبد العظيم: فقلت له: يا سيدي، وكيف يعلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد رضي؟
قال: (يُلقي في قلبه الرحمة...) الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٦٩) ص١٢٣.
(٥٧٠) ص٢٤٣.
(٥٧١) ص٤٣١.
(٥٧٢) انظر المصدر المخطوط.
(٥٧٣) ص٤٠٩.

↑صفحة ٣٩٥↑

وأخرج الشيخ في الغيبة،(٥٧٤) عن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر (ع): - وهو يتحدَّث عن القائم (ع) -: (ويقتل الناس حتى لا يبقى دين محمد (ص)...) الخبر.
وأخرج المفيد في الإرشاد،(٥٧٥) عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (ع) - في حديث طويل - أنَّه قال: (إذا قام القائم (ع)، سار إلى الكوفة، فيخرج منها بضعة عشر ألفاً نفس يُدعون البتريَّة (البريَّة) عليهم السلاح، فيقولون له: ارْجع من حيث جئت، فلا حاجة لنا ببني فاطمة. فيضع فيهم السيف، حتى يأتي على آخرهم، ثمَّ يدخل الكوفة، فيقتل بها كل منافق مُرتاب، ويهدم قصورها ويقتل مقاتليها، حتى يرضى الله عزَّ وعلا).
وأخرج المجلسي في البحار،(٥٧٦) عن رفيد مولى ابن هبيرة. قال: قلت لأبي عبد الله (ع): جُعلت فداك، يا بن رسول الله، أيسير القائم بسيرة علي بن أبي طالب في أهل السواد
قال: (لا يا رفيد، إنَّ علي بن أبي طالب سار في أهل السواد بما في الجُفر الأبيض، وإنَّ القائم يسير في العرب بما في الجُفر الأحمر).
قال: قلت: جُعلت فداك، وما الجُفر الأحمر؟
قال: فأمرَّ إصبعه على حلقه، فقال هكذا. يعني الذبح.
وأخرج أيضاً(٥٧٧) مرفوعاً إلى عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (ع)، قال: (إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب والفُرس إلاَّ السيف، لا يأخذها إلاَّ بالسيف، ولا يُعطيها إلاَّ به).
وأخرج النعماني،(٥٧٨) بسنده عن بشير بن أراكة النبال، عن أبي جعفر (ع):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٧٤) ص٢٨٣.
(٥٧٥) ص ٣٤٣.
(٥٧٦) ج١٣ ص١٨١.
(٥٧٧) ص٢٠٠ من نفس الجزء.
(٥٧٨) ص١٥٢، وكذلك الذي يليه.

↑صفحة ٣٩٦↑

ـ في حديث - أنَّه قال: (يذبحهم - والذي نفسي بيده - كما يذبح القصَّاب شاته، وأومأ بيده إلى حلقه).
قلت: إنَّهم يقولون: إنَّه إذا كان ذلك استقامت له الأمور فلا يُهريق مَحْجمة دم.
فقال: (كلاَّ، والذي نفسي بيده، حتى نمسح وأنتم العِرق والعَلق)، وأومأ بيده إلى جبهته.
وفي حديث آخر، عن بشير النبال أيضاً، قال: قلت لأبي جعفر (ع): إنَّهم يقولون: إنَّ المهدي (ع) لو قام لاستقامت له الأمور عفواً، لا يُهريق مَحْجمة دم.
فقال: (كلاَّ، والذي نفسي بيده، لو استقامت لأحد عفواً، لاستقامت لرسول الله (ص) حين أُدْميت رباعيَّته وشُجَّ في وجهه، كلاَّ، والذي نفسي بيده، حتى نمسح نحن وأنتم العِرق والعلق، ثمَّ مسح جبهته).
وأخرج الشيخ في الغيبة،(٥٧٩) بسنده عن أبي بصير، قال: إذا قام القائم... إلى أن قال: (ثمَّ يتوجَّه إلى الكوفة فينزلها، وتكون داره، ويُبهرج(٥٨٠) سبعين قبيلة من قبائل العرب).
وبإزاء هذه الأحاديث المتواترة القطعية، يوجد ما ينفي مباشرة الإمام المهدي (ع) للقتل، الأمر الذي سمعنا تكذيبه من الأخبار السابقة.
أخرج السيوطي في الحاوي،(٥٨١) عن نعيم بن حماد، وابن طاووس في الملاحم والفتن(٥٨٢) عنه أيضاً، عن أبي هريرة، قال: يُبايع المهدي (ع) بين الركن والمقام، لا يوقظ نائماً ولا يُهريق دماً.
وفي الملاحم أيضاً،(٥٨٣) عن نعيم بن حماد، بإسناده عن أبي رافع إسماعيل بن رافع عمَّن حدَّثه، عن أبي سعيد، عن النبي (ص) قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٧٩) ص٢٨٤.
(٥٨٠) يعني: يهدر دماءهم.
(٥٨١) ج٢ ص١٥٢.
(٥٨٢) ص٥١.
(٥٨٣) ص٥٦.

↑صفحة ٣٩٧↑

(تأوي إليه أُمَّته، كما يأوي النحل إلى يعسوبها، يملاً الأرض عدلاً كما مُلِئت جوراً، حتى يكون الناس على مثل أمرهم الأول، لا يوقظ نائماً ولا يُهرق دماً).
الجهة الثانية: ارتباط كثرة القتل بالتخطيطين الإلهيَّين العامَّين: تخطيط ما قبل الظهور، وتخطيط ما بعد الظهور، وهما تخطيطان سبق أن عرضناهما وبرهنَّا عليهما.
والمراد في المقام: بيان ارتباط ما يقوم به القائد المهدي (ع) من القتل الكثير، بهذين التخطيطين، بمعنى الجواب على التساؤل عن مقدار سببية تخطيط عصر الغيبة لهذا القتل، وعن نفع هذا المقدار من القتل وتأثيره في التخطيط لما بعد الظهور... الذي هو التخطيط لإقامة دولة العدل في العالم وترسيخ قوائمها.
فهنا موقفان:
الموقف الأول: مقدار ارتباط كثرة القتل بالتخطيط العام السابق على الظهور.
إن أخذنا هذه الكثرة بصفتها تكتيكاً حربياً ونظاماً عسكرياً، ولم يكن له ارتباط وثيق بهذا التخطيط... ولكنَّنا إن لاحظنا المقتولين في هذه الحملة وجدناها موجَّهة ضدَّ أولئك الفاشلين في التمحيص إلى طرف الباطل، يكون الآن مقتولاً لا محالة؛ ولذا نسمع من هذه الأخبار أنَّه (عليه السلام) يقتل أعداء الله، ويقتل كل منافق مُرتاب، وأنَّه لا يستتيب أحداً، وأنَّه يقتل قوماً يرفضون ثورته ويقولون له: ارْجِع، لا حاجة لنا ببني فاطمة، وكل هؤلاء هم الفاشلون في التمحيص السابق على الظهور.
ولا تنفع هذا الفاشل توبته بين يدي المهدي (ع)، بل سيقتله المهدي (ع) ولا يستتيبه، أي لا يطلب منه التوبة، ولا يسمعها منه، وقد سبق أن سمعنا عن الإمام المهدي (ع) نفسه أنَّه قال: (فليعمل كل امرئٍ منكم بما يُقرِّب به من محبَّتنا، ويتجنَّب ما يُدينه من كراهتنا وسخطنا؛ فإنَّ أمرنا بغتة فجأة، حين لا تنفعه توبة، ولا يُنجيه من عقابنا ندم على حوبه).(٥٨٤)
ولعلَّ هذا هو المقصود من قوله تعالى:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٨٤) انظر الاحتجاج للطبرسي ج٢ ص٢٣ وما بعدها، وتاريخ الغيبة الكبرى للمؤلِّف.

↑صفحة ٣٩٨↑

(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً...).(٥٨٥)
كما جاءت به بعض الروايات.(٥٨٦)
وهذا هو المعنى الظاهر من الآية عند مراجعة سياقها حين يقول عزَّ وجل: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُون).
وسيأتي الكلام عن ذلك في الجزء الخاص بالقرآن الكريم من هذه الموسوعة.
وأمَّا الناجحون المُمحَّصون في هذا التخطيط العام، فهم المؤمنون بالمهدي (ع) المُبايعون له، الآمنون في دولته، السعداء في ظلِّ عدله، وهم الذين يُباشرون القتل تحت قيادته، وقد سبق أن سمعنا عنهم: أنَّه (يُعطى الواحد منهم قوَّة أربعين رجلاً، لا يكفُّون سيوفهم حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ).
الموقف الثاني: ارتباط كَثرة القتل بالتخطيط العام لما بعد الظهور.
فإذا عرفنا أنَّ هدف هذا التخطيط هو إقامة المجتمع الإيماني الكامل، الذي تحكمه دولة الحق، ويسوده التشريع العادل الكامل، ومثل هذا المجتمع لا يمكن تطبيقه إلاَّ إذا تظافرت القوى من قِبل الدولة والشعب معاً على تنفيذه وإنجازه، فإنَّه يحتاج - وخاصة عند بدء التطبيق - إلى جهود وتضحيات كثيرة، فما لم يكن الأفراد على مستوى المسؤولية في تطبيق التشريع العادل على كل أقوالهم وأفعالهم، لا يمكنهم أن ينجوا فيه؛ ومن ثَمَّ قد يُصبحون سبباً في فشل التخطيط أساساً.
ومن المعلوم أنَّ المُعطى الفردي والاجتماعي لهذا التضحيات، والتجاوب مع هذه المُتغيِّرات، يتناسب عكسياً مع قلَّة الإيمان والشعور بالمصلحة الأنانية، فإنَّ الإنسان بمقدار ما تحتويه نفسه، ويتضمَّنه كيانه الفكري والعقائدي من نقاط ضعف، فإنَّه ينساق إلى تفضيل مصلحته الأنانية على السلوك العادل، ومهما كبرت في الفرد نقاط ضعفه، كلَّما كان لمصلحته أشوق وبها ألصق، وعن إطاعة الحُكم العادل أبعد.
إذن؛ فمثل هذا الفرد لا يستطيع أن يواكب السلوك العادل ورد الفعل الصالح،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٨٥) الأنعام: ٦/١٥٨.
(٥٨٦) انظر: الاحتجاج ج٢ ص ٣١٧ وغيره.

↑صفحة ٣٩٩↑

الذي يقتضيه المجتمع العادل، بمعنى أنَّه يختار عليه دائماً مصلحته وأنانيَّته؛ ومعه ينحصر تطبيق المجتمع العادل على أيدي الأفراد الصالحين العادلين، الذين مارسوا السلوك الصالح ردحاً من الزمن، وهم الناحجون في التمحيص الموجود في التخطيط السابق.
وأمَّا الفرد المنافق والمنحرف الفاشل في التمحيص، فلا يمكن أن يكون عضواً في هذا المجتمع، بل ينبغي اجتثاثه رأساً قبل البدء بالتطبيق العادل.
وحيث قد أنتج التخطيط العام السابق انكشاف حال الكثيرين، في السقوط في مهوى الرذيلة والنفاق، وكونهم على مستوى عصيان ضروريات الدين، كما سبق أن قلنا:... هذا حال أكثرية المسلمين من مُختلف المذاهب. وحينئذ نستطيع أن نتصوَّر عدد الأفراد الذين ينبغي اجتثاثهم والاستغناء عن وجودهم، لأجل البدء بالتطبيق العادل الكامل.
وسيكون هذا الاجتثاث والقتل أول خطوة رئيسية في التطبيق العادل، الذي يهدف إليه - فيما يهدف - التخطيط الإلهي العام لما بعد الظهور.
ومن هنا؛ نعرف ربطاً جديداً بين التخطيطين، حيث يكون الأول مُساعداً للثاني في إنتاجه لهدفه، فإنَّ الأول - وهو تخطيط عصر الغيبة - يكشف ما في نفوس الأفراد، من زيف ونقاط ضعف، عن طريق التمحيص الطويل، لكي يُستغنى عنهم ويُنزَّه المجتمع عن وجودهم، أخذاً بالتخطيط الثاني.
إذن؛ فالقتل ليس تكتيكاً عسكرياً محضاً، لمُجرَّد السيطرة والانتصار، بل هو مُقدَّمة أساسية للتطبيق العادل؛ ومن هنا نرى أنَّ المهدي (ع) يقتل الأفراد في غير الحرب أيضاً، كما وردت به الروايات، كالذي سمعنا عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (بينا الرجل على رأس القائم يأمر وينهى، إذ أمر بضرب عنقه)، وغيرها، كل ذلك تجنُّباً من العناصر السيِّئة في المجتمع الصالح.
ولو تكلَّمنا بلُغة العصر الحديث لقلنا: إنَّ تطبيق الحاكم العقائدي لمبدئه وعقيدته على دولته، يتوقَّف على استئصاله لكل مُعارضيه وكل مَن يُحتمل صدور الخلاف منه استئصالاً تاماً... ولا يكفي فيهم المُلاينة وتأجيل العقاب بعد الجريمة، كيف وهو يعلم أنَّ مبدأه هو الحق، وكل مُخالف له هو مُخالف للحق، وكل مُخالف للحق مُجرم، وكل مُجرم لا يمكن أن يعيش في مجتمع الصالحين؟!

↑صفحة ٤٠٠↑

ومن هذه النقطة بالذات، يبدأ سبب عدم قبول توبة التائب... فإنَّ الشخص المُتمرِّس بالانحراف، والمُعتاد على العصيان، وعلى عبادة شهواته وتقديم مصالحه، لا تكون توبته حقيقية أبداً، وإن شعر هو وقتياً بذلك، وإن كانت الشريعة تحكم بكونه إنساناً صالحاً في الظاهر... غير أنَّ المطلوب بعد الظهور، وجود الإنسان العادل في الواقع، لا العادل في الظاهر، والتوبة - وخاصة إذا كانت نتيجة للخوف - لا تُغيِّر واقع الإنسان من الناحية النفسية والفكرية، بل يبقى هو الإنسان المعتاد على تقديم مصالحه على كل شيء، فيُنزل قدمه في أول عثرة، إذن؛ فلا بدَّ من رفض توبته والاستغناء عن وجوده.
ولأجل هذا الهدف - بحسب ما ندركه الآن - جاز للمهدي (ع) قتل المسلمين وإن لم يُحاربوا... بالرغم من أنَّ ذلك لم يكن جائزاً شرعاً قبل الظهور لأيِّ قائد إسلامي آخر، بما فيهم النبي (ص) وعلي أمير المؤمنين (ع) وإنَّما قاتل علي (ع) مَن حاربه من المسلمين خاصة؛ ولذا سمعنا من الروايات أنَّ سيرة المهدي (ع) تختلف من هذه الجهة عن سيرتهما، فإنَّهما سارا بالعفو والمُلاينة مع الناس المُنحرفين والمُنافقين، وأمَّا المهدي (ع) فهو مُكلَّف من قِبل الله تعالى (في الكتاب الذي عنده) باستئصالهم أجمعين، فهو يقتلهم حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ، أي حتى يكون ما أمر به مُطبَّقاً ونافذاً ومنهيَّاً.
ومن هنا؛ نسمع في بعض الروايات التأكيد على ذلك، كالذي رواه في البحار، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) في حديث عن القائم يقول فيه: (لا يا أبا محمد، ما لمَن خالفنا في دولتنا من نصيب، إنَّ الله قد أحلَّ لنا دماءهم عند قيام قائمنا، فاليوم مُحرَّم علينا وعليكم، ومَن خالفهم هم الفاشلون في التمحيص، في أيِّ مذهب كانوا).
وسيكون الاستغراب من كثرة القتل، في بعض الأوساط الضعيفة الإيمان موجوداً (حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم).
وستكون هذه الكثرة سبباً في بثِّ الرُّعب في هذه الأوساط وغيرها، الرُّعب الذي عرفنا أنَّه يسير أمامه شهراً، ووراءه شهراً، وإلى جانبيه شهراً، وعرفنا أنَّ هذه الكثرة من أسبابه.
وقد يرد إلى الذهن هذا السؤال: إنَّ مُقتضى هذا التسلسل الفكري، هو أنَّ المهدي (ع) سوف يقتل أكثر المسلمين، ولا تبقى إلاَّ البقية الصالحة القليلة التي تُبايعه وتنصره، بل إذا كان المُنحرف من المسلمين مُستحقَّاً للقتل، فكيف بالكافر والمشرك؟
إذن؛ فهو لا بدَّ أن يستأصل البشرية كلها، سوى هذا النفر القليل، وهذا بالجزم واليقين مُخالف للهدف

↑صفحة ٤٠١↑

الإلهي والغرض المنشود، فإنَّ هدف مجعول لأجل مصلحة البشر والرحمة بهم وإسعادهم، لا لأجل استئصالهم وقطع دابرهم، فكيف نوفَّق بين الأمرين.
وجواب ذلك: أمَّا موقف الإمام المهدي (ع) تجاه الكفار والمشركين، فهو ما سيأتي عرضه، فالسؤال غير وارد بالنسبة إليهم، لأنَّ تخطيطهم الخاص بهم، وإنَّما يختصُّ السؤال بالبلاد الإسلامية خاصة.
ونحن بهذا الصدد، يجب أن نلتفت إلى ما ذكرناه من أقسام الإخلاص الثلاثة، التي يُنتجها التمحيص السابق على الظهور، فإنَّ مجموع الأفراد الناجحين بأيِّ درجة من تلك الدرجات، يمكنهم المشاركة في المجتمع العادل والتجاوب معه، ما لم يصدر من بعضهم سوء في النيَّة والعمل، كهؤلاء الذين سمعنا أنَّ المهدي (ع) يأمر بقتلهم، وإلاَّ فالناجحون بشكل عام لهم القابلية للتعايش بسلام في دولة الحق والعدل.
ولئن كان الناجحون من القسم الأعلى هم قوَّاد جيش المهدي (ع)، وحكَّام الأرض من قِبَله، وكان الناجحون من القسم الثاني جيشه المحارب... فالناجحون من القسم الثالث هم قواعده الشعبية المُطبِّقة للعدل... ويُلحق بهم كل مَن يعرف منه التوبة النصوح - التي لا رجعة بعدها إلى الذنوب - والاعتدال الحقيقي الكامل، فيكون مجموع هؤلاء عدداً ضخماً أيضاً، يكفي لانطباق الكثرة المُبيَّنة في الروايات بكل تأكيد.
وقد يخطر في الذهن سؤال آخر، وهو: أنَّ ظاهر هذه الروايات أنَّ كثرة القتل مُختصَّة بالمسلمين، لا تشمل غيرهم، فلماذا كان ذلك، مع العلم أنَّ الكافر والمُشرك أبعد عن الحق، وأحق بالقتل من المسلم المُنحرف؟!
والجواب على ذلك، يكون على مستويين:
المستوى الأول: إنَّنا نُنكر الدلالة الروايات على هذا الاختصاص؛ لأنَّ هذه الروايات على قسمين:
القسم الأول: ما كان مطلق الدلالة ليس فيه أيُّ إشعار بالاختصاص بالمجتمع المسلم، بل ظاهره العموم لكل الناس... كقوله: (القائم يسير بالقتل... ولا يستتيب أحداً) و(ما هو إلاَّ السيف)، (فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ)، ونحوها.
القسم الثاني: الأخبار التي وردت فيها تسمية بعض الجماعات، وهم كما يلي:

↑صفحة ٤٠٢↑

قريش. البترية، أهل السواد، العرب، الفُرس، سبعين قبيلة من قبائل العرب.
أمَّا البترية، فالمفروض فيهم الانحراف واستحقاق القتل، وأمَّا الجماعات الأخرى فهي انتسابات غير دينية، يوجد في كل منها مسلمون بمختلف مذاهبهم، وغير مسلمين بمختلف أديانهم، بنسب مختلفة بطبيعة الحال.
وإيراد أسماء هذه الجماعات في الأخبار لا ينفي شمول القتل لغيرها، كل ما في الأمر، أنَّ قانون (كلِّم الناس على قدر عقولهم) منع القادة الإسلاميين من بيان كل الجماعات المشمولة للقتل، لعدم تحمُّل المستوى العقلي والثقافي للناس عند صدور هذه النصوص لاستيعاب ذلك.
المستوى الثاني: أنَّنا لو تنزَّلنا عن المستوى الأول، وسلَّمنا بظهور الروايات باختصاص كثرة القتل بالمسلمين، فهذا ليس أمراً مروِّعاً، بل هم أمر يمكن أن يكون مُطابقاً مع القواعد الإسلامية العامة، والتخطيط الإلهي العام.
فإنَّنا سبق أن أشرنا لغير المسلمين، والبلاد غير الإسلامية تخطيطاً خاصاً بها، في أسلوب السيطرة عليها، نطقت به الروايات التي سنسمعها، وهي سيطرة يغلب عليها الجانب السلمي، كما أنَّ للمسلمين وللبلاد الإسلامية تخطيطها الخاص بها، وهو كثرة القتل التي نطقت به هذه الروايات، وهذه الكثرة ليست لأجل السيطرة، بل لأجل التنقية والتنظيف من العناصر السيِّئة.
والفرق بين المسلمين وغيرهم يتمثَّل في عدَّة خصائص:
الخصيصة الأُولى: إنَّ (الحجَّة) الكاملة بصدق الإسلام وأحقِّيته، واضحة في أذهان كل المسلمين، ومُعلنة على نطاق واسع جدَّاً بينهم، بخلاف غير المسلمين، فإنَّ هذا الوضوح لم يتوفَّر للجميع على حدٍّ واحد.
الخصيصة الثانية: إنَّ الأمَّة الإسلامية هي الحاملة للأطروحة العادلة الكاملة، والمُطبِّقة الأُولى لها في بلادها، ذلك التطبيق الذي سيكون الشكل الأمثل لهذا الأطروحة في العالم كلِّه.
الخصيصة الثالثة: إنَّ الأُمَّة الإسلامية ستكون الحاملة لهذه الأطروحة إلى العالم، والمُبشِّرة بها فكرياً وتطبيقياً تجاهه، وبالتالي سيكون لها مركز القيادة في العالم كله.
الخصيصة الرابعة: إنَّ المسلمين يكونون قد مرُّوا بتخطيط كامل للتمحيص، وهو التخطيط السابق على الظهور، وأنتج هذا التمحيص نتائجه فيهم، وكان تمحيصهم منصبَّاً

↑صفحة ٤٠٣↑

على (الأطروحة) التي تمَّت الحجَّة بها عليهم، بخلاف البلاد غير المسلمة، فإنَّها مرَّت بالتمحيص، ولكن من زوايا أخرى أوجبت نتائج مغايرة، كانكشاف زيف الأُطروحات الأخرى، ونحو ذلك.
وكل هذه الخصائص تستدعي من الأُمَّة الإسلامية أن تكون في أعلى درجات الإيمان، وأقوى درجات الإخلاص، والمثال الأفضل للأطروحة التي تتبنَّاها، فمَن لم يكن كذلك من المسلمين، فإنَّه سيوجب - عاجلاً أم آجلاً - الإخلال بالقيادة، والتطبيق للأطروحة العادلة الكاملة، في بلده وفي العالم، الأمر الذي يُخلُّ بالهدف الأعلى نفسه، ومن هنا؛ كان لا بدَّ من الاستغناء عن كل خدماته وأحاسيسه في طريق هذا التطبيق العظيم، وذلك بنفيه من عالم الحياة، مقدِّمة لذلك التطبيق.
ولن يعني هذا (التقديم)، أنَّ القيادة العالمية سوف لن تبدأ إلاَّ بعد الانتهاء من هؤلاء المُنحرفين جميعاً، فإنَّ القيادة سيتولاَّها في وقتها المناسب أولئك المُخلصون المؤهَّلون لها، وسيُستغنى عن خدمات المُنحرفين ريثما يتمُّ الإجهاز عليهم جميعاً، وسيأتي إيضاح ذلك بشكل أوسع عند الحديث عن الروايات التي تنصُّ على استمرار القتل مدَّة ثمانية أشهُر.
الجهة الثالثة: في إيضاح بعض النقاط الواردة في هذا الخبر:
النقطة الأُولى: الظاهر الأوَّلي للروايات هو أنَّ الإمام المهدي (ع) يستعمل السيف في قتال المنحرفين، وهو السلاح الذي كان مُستعملاً في عصر صدور هذه الأخبار.
ومن الواضح بالضرورة أنَّ المهدي (ع) يستعمل سلاح آخر لعدم إمكان الانتصار به، إلاَّ عن طريق المعجزة التي برهنَّا على عدم نفوذها في مثل ذلك، لإمكان التعويض عنها بالطريق (الطبيعي) باستعمالها السلاح المناسب للعصر.
ومعه؛ يتبرهن ضرورة حمل السيف على المعنى الرمزي، الذي يراد به أيُّ سلاح، وهذا ما طبَّقناه في التاريخ السابق، وهو ساري المفعول في كل الروايات، كما هو واضح، وإنَّما ذكر السيف بالخصوص انطلاقاً مع المستوى العقلي والثقافي لعصر صدور هذه الأخبار.
النقطة الثانية: ورد التأكيد في أكثر من خبر من الأخبار السابقة، أنَّ الأمور لا تستقيم للمهدي (ع) عفواً ومن تلقاء نفسها... بل تحتاج إلى جهد وجهاد و(لو استقامت لأحد عفواً لاستقامت لرسول الله (ص) حين أُدميت رباعيَّته وشُجّ في

↑صفحة ٤٠٤↑

وجهه... فإنَّ النبي(ص) - وهو خير البشر - أولى من المهدي باستقامة الأمور عفواً، لو كان ديدن الدعوة على إيجاد هذه الاستقامة، ولكنَّها لم تستقم لخير البشر (ص) إذن؛ فهي لا تستقيم لمَن دونه، لا لقصور في القيادة عندهم، بل لأنَّ ديدن الدعوة الإلهية ليس على ذلك.
والسرُّ في ذلك - حسبما نفهم - أنَّ فكرة (التمحيص) غير خاص بالناس الاعتياديين، وبالدرجات الدانية من الإيمان، بل تمتدُّ هذه الفكرة بمعنى أشرنا إليه في التاريخ السابق،(٥٨٧) لتشمل القوَّاد الرئيسيين بما فيهم الأنبياء والأولياء، وتكون فكرة التمحيص بالنسبة إليهم لزوم مرورهم بمصاعب وجهود تساوي مستواهم العالي، لينالوا بها مستويات أعلى من باب (تكامل ما بعد العصمة) كما ذكرنا هناك، ولو استقامت الأمور للقادة لكان ذلك على خلاف التمحيص بالنسبة إليهم؛ ومن ثُمَّ يحجب التكامل الذي سينالونه بالجهود والمصاعب، فيكون ظلماً لهم، وهو مُستحيل على الحكمة الإلهية.
مضافاً إلى أنَّ ظروف الجهود والمصاعب التي يمرُّ بها هؤلاء القادة، ستكون محكَّاً لتمحيص كل الجيل المُعاصر من مؤمنين وغيرهم، من حيث النظر إلى ردود أفعالهم تجاه تلك القيادة المُحقَّة، ومقدار ما يبذلون لها من جهود وتضحيات، كذلك كانت قيادة النبي (ص) في صدر الإسلام، وعلى ذلك ستكون قيادة الإمام المهدي (ع) في مستقبل الدهر.
هذا، وإنَّ استقامة الأمور عفواً تنشأ من أحد سببين:
السبب الأول: السبب الإعجازي، وقد برهنَّا على عدم إمكانه، لإمكان التعويض عنه بالطريق الطبيعي بكل وضوح.
السبب الثاني: السبب الطبيعي، بمعنى اقتضاء التخطيط السابق على الظهور لهذه النتيجة، بأن يدَّعي كل شخص: بأنَّ هذا التخطيط العام سارٍ على شكل مُنتج في نهايته، لاستقامة الأمور عفواً للمهدي (ع).
إلاَّ أنَّ هذا السبب أيضاً غير مُحتمل، فإنَّنا عرفنا كل تفاصيل التخطيط العام السابق، فلم نجد فيه ما يقتضي ذلك، بل وجدنا فيه ما يقتضي العكس، بمعنى أنَّه يقتضي وجود العدد الكافي لغزو العالم بالعدل والحق، بكل ما في الغزو من مصاعب وجهود وجهاد.
إذن؛ فاستقامة الأمور بقيت بدون منشأ صحيح، فلا تكون قابلة للإثبات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٨٧) ص٥٠٦.

↑صفحة ٤٠٥↑

مضافاً إلى قابلية نفس هذه الأخبار لنفيها كما هو واضح.
النقطة الثالثة: سمعنا من بعض الأخبار أنَّ المهدي (ع): (لا يُهريق دماً ولا يوقِظ نائماً)، كما سمعنا من بعض الأخبار الأخرى تكذيب ذلك. فبأيِّ من القسمين نأخذ؟
والذي يبدو: أنَّنا تارة ننظر إلى أسلوب الفتح العالمي وتأسيس الدولة العالمية، وأخرى ننظر إلى المجتمع الناتج بعد تأسيس هذه الدولة، ذلك المجتمع الذي تُطبَّق فيه الأطروحة العادلة الكاملة.
فإن نظرنا إلى أسلوب الفتح العالمي، وجدنا (السيف) مُستعملاً فيه لا محالة، طبقاً للروايات الكثيرة المتواترة، التي لا تقوم بإزائها خبر واحد، مضافاً إلى الحاجة إلى السلاح بإزاء القوى المعادية، بعد البرهنة على نفي الأسلوب الإعجازي، إذن؛ فلا بدَّ من تكذيب هذا الخبر، إن كان المراد منه ذلك، وهذا هو مراد الأخبار المكذِّبة له والنافية لمدلوله.
وإن نظرنا إلى المجتمع العادل الذي يؤسِّسه المهدي (ع) (لا يهريق دماً)، لعدم الحاجة إلى إهراقه، وهذا النظر الذي يؤكِّد أحد الأخبار المُكفَّلة لبيان هذه الحقيقة حين يقول فيه: (يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً، حتى يكون الناس على مثل أمرهم الأول، لا يوقظ نائماً ولا يُهرق دماً)، وهو يكون واضح في أنَّ عدم إراقة الدم إنَّما يكون بعد امتلاء الأرض قسطاً وعدلاً، وليس قبل ذلك.
أقول: الأمر الأول المُشار إليه هو الإسلام، كما جاء به النبي (ص)، وهو معنى تطبيق (الأُطروحة العادلة الكاملة)، في دولة المهدي العالمية.
وأمَّا الخبر الآخر الذي يقول: (يُبايَع المهدي (ع) بين الركن والمقام، لا يوقِظ نائماً ولا يُهريق دماً)، واضح في أنَّ المهدي (ع) لا يُهريق دماً حتى في عمليات الغزو العالمي، وقد علمنا أنَّ المعنى باطل بالضرورة، فلا بدَّ من تكذيب هذا الخبر.
النقطة الرابعة: نصَّ عدد من الأخبار على اختلاف سيرة الإمام المهدي (ع)، من الناحية العسكرية عن أسلوب النبي (ص) والإمام أمير المؤمنين.
وقد أشرنا إلى ذلك، ونريد الآن إعطاء المُبرِّرات التفصيلة له:
وما يمكن استفادته من مجموع الأدلة أمران:

↑صفحة ٤٠٦↑

الأمر الأول: إنَّ القاعدة العامة للقادة الإسلاميين عموماً جواز الإجهاز على الجريح، وملاحقة الفارِّ، وقتل الأسير، ونحوها من التصرُّفات... غير أنَّ القادة الأوائل كفُّوا عن تطبيق هذا الحكم في عصورهم، من أجل مصالح وقتية خاصة في تلك العصور، قال علي (ع) - كما في الخبر -: (ولكن تركت ذلك للعاقبة من أصحابي، إن جرحوا لم يقتلوا)، وهذه المصالح لن تتوفَّر في عصر الإمام المهدي (ع)؛ ومن هنا يكون له أن يأخذ بتطبيق الحكم المُشار إليه الشامل، بصفته أحد القوَّاد الإسلاميين.
الأمر الثاني: إنَّ القاعدة العامة للقوَّاد الإسلاميين، هو عدم جواز قتل الجريح، وملاحقة الفارِّ ونحو ذلك، فهم تركوا ذلك في عصرهم الأول لعدم جوازه بالنسبة إليهم.
ولكن سيُصبح ذلك جائزاً للمهدي (ع) خلال الفتح العالمي (بذلك أُمِرَ في الكتاب الذي معه)، وهو استثناء خاص بهذه الفترة، وسيرتفع الحكم بالجواز بالنسبة إليه بعد الانتهاء من الفتح العالمي، ويعود الأمر كما كان في عدم جواز هذا الأسلوب العسكري... فيُصبح الإمام المهدي (ع) (لا يُهريق دماً، ولا يوقظ نائماً).
والسرُّ في هذا الاختلاف - على كلا التقديرين - هو اختلاف مستوى المجتمع الإسلامي الأول عن المجتمع المهدوي اختلافاً كبيراً جدَّاً... ذلك الاختلاف الذي عرفنا الكثير من خصائصه ومميِّزاته.
وأهمُّ الخصائص التي تمتُّ إلى تطبيق هذا الحكم بصِلَةٍ، هو أنَّ الإيمان والكفر في العصر الأول، كان في الأغلب من: إيمان ما قبل التمحيص؛ لأنَّ المجتمع لم يكن قد مرَّ بفترة التمحيص الكبرى المُخطَّط له قبل (الظهور)، وسيكون الإيمان والكفر في المجتمع الآتي: إيمان ما بعد التمحيص، وكفر ما بعد التمحيص، بعد أن مرَّ المجتمع بفترة التمحيص الكبرى.
إنَّ مرور المجتمع بهذه الفترة ليس أمراً هيِّناً وضئيلاً، يكفينا أن نتصوَّر أنَّ القاتل (المؤمن) والمقتول (الكافر) في العصر الأول، لم يكن التمحيص قد شملهما، ومن ثَمَّ فإدراكهما لأهمِّية القتال ونتائجه سوف تكون أقلَّ - بدرجة كبيرة - ممَّا إذا كانا معاً قد مرَّا بفترة التمحيص، فأكتسب الإيمان أهمِّيته في نفس المؤمن، واكتسب الكفر أهمِّيته في نفس الكافر والمُنحرف واتَّسع أفقهما العقلي والثقافي إلى حدٍّ كبير.
إنَّ كافر ما قبل التمحيص - لمدى بساطته وضآلة مستواه - (لا يستحقُّ) إجراء هذا التكتيك العسكري الصارم عليه. وأما كافر ما بعد التمحيص، بإعتبار أهميته وعمق

↑صفحة ٤٠٧↑

القسم الثالث من هذا الفصل: في تحديد مدَّة كثرة القتل بثمانية أشهُر ونتكلَّم عن ذلك في ضمن جهتين:
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الواردة لتحديد مدَّة وضع (السيف) في رقاب المُحرفين، بثمانية أشهُر.
أخرج الصدوق في إكمال الدين،(٥٨٨) بسنده عن أبي بصير، قال: سمعت أبا جعفر يقول:
وساق الحديث إلى أن قال: (ثمَّ يضع سيفه على عاتقه ثمانية أشهُر بيمينه، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ...) الحديث.
وأخرج النعماني في الغيبة،(٥٨٩) والمجلسي في البحار،(٥٩٠) عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (ع): (لا يخرج القائم (ع) حتى تكون تكملة الحلقة). قال: (عشرة آلاف... - إلى أن قال: - يُجرِّد السيف عن عاتقه ثمانية أشهُر، يقتل هرجاً) الحديث.
وأخرج السيوطي في الحاوي،(٥٩١) عن نعيم بن حمَّاد، عن علي، قال: (إذا بعث السفياني جيشاً فخُسف بهم بالبيداء... - إلى أن قال: - ويخرج رجل من قِبله (أي المهدي) رجل من أهل بيت بالمشرق، ويحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر...) الحديث.
وأخرج عنه أيضاً، عن علي أيضاً، قال: (تفرج الفتن برجل منَّا يسومهم خسفاً. لا يُعطيهم إلاَّ السيف،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٨٨) المصدر المخطوط.
(٥٨٩) ص١٦٥.
(٥٩٠) ج٣ ص١٩٣.
(٥٩١) ص١٤٦ ج٢، وكذلك الخبر الذي بعده.

↑صفحة ٤٠٨↑

يضع السيف على عاتقه ثمانية أشهُر. حتى يقولوا: والله، ما هذا من ولْد فاطمة، ولو كان من ولْدنا لرحمنا...) الحديث.
وقال البرزنجي في (الإشاعة)(٥٩٢): في بعض الروايات: (يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهُر).
وفي بعضها ثمانية عشر شهراً، وفي رواية اثنين وسبعين شهراً، وهي مدَّة ستِّ سنين.
والمراد بتجريد السيف ووضعه على العاتق: مباشرة الحرب والقتل. والهرج هو القتل الكثير. يُقال: هرج الناس، إذا وقعوا في فتنة واختلاط وقتل.
ولا يخفى أنَّ رواية الثمانية عشر شهراً وما بعدها، ممَّا ذكره البرزنجي مُرسلة، وغير قابلة للإثبات التاريخي، مضافاً إلى أنَّها منفيَّة بالأخبار المُتعدِّدة الدالَّة على حصر المدَّة بثمانية أشهُر، وهذه الأخبار تصلح للإثبات بحسب منهجنا في هذا الكتاب؛ لتعاضدها، ودلالة بعضها على صدق بعض.
الجهة الثانية: الحديث عن هذه الأخبار.
ونتكلَّم حول ذلك في عدَّة نقاط.
النقطة الأُولى: إنَّ لتبرير القتل الكثير الذي يقع خلال الثمانية أشهُر أُطروحتين رئيسيتين:
الأطروحة الأُولى: إنَّ هذا القتل، هو الذي يحدث خلال الغزو العالمي، والثمانية أشهُر هي المدَّة التي يتمُّ فيها الاستيلاء على العالم.
غير أنَّ هذه الأطروحة تواجه عدَّة اعتراضات:
الاعتراض الأول: معارضتها بما دلَّ على اختصاص القتل الكثير بمنطقة الشرق الأوسط ونحوها، وعدم شموله لكل العالم، كما سبق أن عرفنا.
الاعتراض الثاني: معارضتها بما دلَّ على أنَّ الفتح العالمي في غير الشرق الأوسط سيكون بدون قتال، بل تفتح الدول للمهدي (ع) أبوابها سلماً، كما سيأتي غير بعيد.
الاعتراض الثالث: إنَّ الثمانية أشهُر مدَّة زائدة جدَّاً على الغزو العالمي، سواء كان الفتح حربياً أم سلمياً... لمدى الضمانات الأكيدة الشديدة التي عرفناها لانتصار المهدي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٩٢) ص٩٨.

↑صفحة ٤٠٩↑

(ع)... فالتحديد بهذه المدَّة سيكون بعيداً جدَّاً إذا كان المراد منه ذلك.
الاعتراض الرابع: ما يُفهم من كلام السيد البرزنجي، من استبعاد الفتح العالمي خلال هذه المدَّة، بل في المدَّة الأطول منها.
قال في الإشاعة(٥٩٣) - في فصل تحديد مدَّة مُلْك المهدي (ع) بتسع سنين - ولا شكَّ أنَّ مدَّة التسع سنين فما دونها، لا يمكن أن يُساح فيها ربع وخمس المعمورة سياحةً، فضلاً عن الجهاد وتجهيز العساكر، وترتيب الجيوش وبناء المساجد وغير ذلك.
أقول: فإذا كان هذا رأيه بالتسع سنوات، فكيف بالثمانية أشهُر.
وواضح أنَّ هذا الكلام منطلق من مفاهيم وأساليب الحرب بشكلها القديم، وأمَّا إذا أخذنا وسائط النقل الحديثة والأسلحة المُتطوِّرة بنظر الاعتبار، كان هذا الاعتراض بلا موضوع في الثمانية أشهُر، فضلاً عن التسع سنين، وهذا هو الذي يؤكِّد الاعتراض الثالث الذي ذكرناه.
إذاً؛ فهذا الاعتراض غير وارد؛ لكل الاعتراضات الثلاثة الأُولى مُحتملة الورود ضدَّ الأُطروحة الأُولى، وبانتفاء هذه الأُطروحة نخسر أمراً غير يسير وهو: العلم بمدَّة الفتح العالمي، إنَّ هذه المدَّة ستكون مجهولة لنا، وسنتحدَّث عن ذلك في خلال الأخبار التي تتحدَّث عنه بدون قتال.
الأُطروحة الثانية: إنَّ هذا القتل الكثير الذي يحدث خلال الثمانية أشهُر، ليس للفتح العالمي، بل لاجتثاث المُنحرفين نحو الباطل من المجتمع.
وهذا هو الذي سبق أن فهمناه، وتحدَّثنا عن خصائصه فيما سبق، وإنَّ الاعتراضات الثلاثة التي أوردناها على الأُطروحة تؤكِّد هذه الأُطروحة، كما هو غير خفي لمَن يُفكِّر.
ومعنى ذلك - بكل بساطة -: أنَّ الفتح العالمي سينتهي بمدَّة أقلِّ من ذلك بزمن غير يسير، وخاصة إذا كان الفتح سلمياً، كما سنسمع، إلاَّ أنَّ المُنحرفين سوف يبقى وجودهم ونشاطهم إلى جانب الباطل، ساري المفعول... ومن ثَمَّ (سيحتاجون) إلى قتل إضافي بعد استتباب الدولة العالمية، وهذا ما سوف يُمارسه المهدي (ع) وأصحابه، إلى تمام الثمانية أشهُر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٩٣) ص١٠٦.

↑صفحة ٤١٠↑

النقطة الثانية: إنَّ الخبر الذي رويناه عن السيوطي، والذي يُصرِّح بأنَّ رجلاً من قِبَل المهدي (ع) هو الذي يُمارس القتل الكثير لا المهدي نفسه.
وهذا المضمون إن فهمناه بمدلوله العام، كان صحيحاً، فإنَّ الذي يقوم بالقتل هو أصحاب الإمام وليس الإمام نفسه، وإنَّما نُسب إلى الإمام باعتباره منطلقاً عن أمره وتخطيطه، كما نقول: فتح الأمير المدينة. ولا دليل على أنَّ الإمام يقتل بيده شخصاً أصلاً.
وأمَّا إذا فهمنا أنَّ الخبر بمدلوله الخاص بمعنى أنَّ رجلاً مُعيَّناً، هو الذي يعينه المهدي (ع) نفسه... فهذا وإن كان مُحتملاً؛ باعتبار مهامِّ المهدي العالمية، فيحتاج إلى تعيين مسؤول عن كل مُهمَّة بعينها، فلعلَّه يُعيِّن رجلاً يكون مسؤولاً عن قتل المُنحرفين، غير أنَّ هذا المضمون لا يثبت، لعدم قابلية هذا الخبر وحده للإثبات التاريخي.
النقطة الثالثة: سيكون لكثرة القتل ردُّ فعلها السيِّئ في نفوس المُنحرفين بطبيعة الحال (حتى يقولوا: والله، ما هذا من ولْد فاطمة، ولو كان من ولْدها لرحمنا)، وقوله: لرحمنا، يدلُّ على أنَّ القائل لمثل هذه الاعتراضات هم المنحرفون أنفسهم، الذين تكون هذه الحملة مكرَّسة ضدَّهم، وهذا أمر مُتوقَّع منهم بطبيعة الحال.
وأمَّا الآخرون، وهم المُتَّصفون بدرجة من درجات الإخلاص... فقد يُقتَل من أحدهم أبوه وابنه وأخوه، وأكثر من واحد من عشيرته، باعتبارهم مُنحرفين مشمولين لهذه الحملة... ولكن لن يكون لردِّ الفعل السيِّئ أثر في نفوسهم.
وذلك باعتبار عِدَّة عوامل:
العامل الأول: مِرانهم - كمُخلصين ناتجين من التخطيط السابق - على تحمُّل المصاعب مهما زادت وتعسَّرت، ولطالما اعتادوا على تقديم النفس والنفيس، والابن والقريب، في سبيل الحق، والتضحية بمصالحهم من أجله، حتى لو وصل الأمر إلى بذل النفوس، فكيف والهدف قد أصبح أقرب وأوسع وأوضح؟!
إنَّ أمثال التضحيات سوف لن تكون لها قيمة بإزاء الهدف المُقدَّس.
العامل الثاني: المفاهيم الجديدة والمُعمَّقة التي يُعلنها الإمام المهدي (ع) في العالم عامة، ولدى أصحابه خاصة.
وإنَّ من أوضح هذه المفاهيم هو الاستغناء عن كل العلاقات الخاصة في سبيل

↑صفحة ٤١١↑

(العلاقة العامة)، وهي العلاقة مع عبادة الله تعالى، وتطبيق أحكامه والسير في سبيله، وازدراء كل مَن لم يَسِرْ في هذا الطريق.
قال الله تعالى في قرآنه المجيد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).(٥٩٤)
وإذا جاء أمر الله المُشار إليه في الآية، انتفت كل هذه العلائق القبلية والارتباطات الضيِّقة، وتبدَّلت إلى المفاهيم المُعمَّقة والأهداف الواسعة، والمراد من أمر الله المُشار إليه - والله أعلم بما ينزل - وجود الدولة العالمية العادلة، تحت قيادة الإمام المهدي (ع) في تنفيذ أوامره وتطهير الأرض من أعدائه... حتى سمعنا تسميتهم بجيش الغضب، وعرفنا صفاتهم في الشجاعة والاندفاع والتضحية.
وبهذا الحماس العاطفي والشجاعة النادرة، سيُمارسون القتل بأنفسهم، مع إلغاء الخصائص الضيِّقة، وسيحملون السلاح على عواتقهم ثمانية أشهُر كاملة، حتى يتمَّ استئصال المُنحرفين من العالم، وسيكون هذا العامل من العوامل الأخرى أفضل ضمان لشعورهم بالسعادة والاطمئنان من عملهم المُقدَّس، بحيث لا يحتمل وجود أيِّ أثر سيِّئ في نفوسهم.
القسم الرابع: الفتح العالمي السلمي بدون قتال: ونتكلَّم عنه ضمن جهتين:
الجهة الأُولى: في الأخبار الدالَّة على أنَّ الفتح العالمي سيتمُّ بدون قتال:
أخرج السيوطي(٥٩٥) في الحاوي، عن نعيم بن حمَّاد، عن علي قال: (إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشاً فخُسف بهم البيداء... وتُنقل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٩٤) التوبة: ٩/٢٣-٢٤.
(٥٩٥) ج٢ ص١٤٦.

↑صفحة ٤١٢↑

إليه الخزائن، ويدخل العرب والعَجم، وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته من غير قتال، حتى يبني المساجد بالقسطنطينية وما دونها...) الحديث.
وأخرجه ابن طاووس في الملاحم والفتن،(٥٩٦) عن نعيم بن حمَّاد أيضاً، وأخرج النعماني في الغيبة،(٥٩٧) بإسناده عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه (ع) قال: (إذا قام القائم... - قال: - ويبعث جُنداً إلى القسطنطينية، فإذا بلغوا الخليج كتبوا على أقدامهم شيئاً ومشوا على الماء، قالوا: هؤلاء أصحابه يمشون على الماء، فكيف هو؟ فعند ذلك يفتحون لهم أبواب المدينة، فيدخلونها، فيحكمون فيها ما يريدون).
أقول: ونقله عنه في البحار.(٥٩٨)
وعن عقد الدرر،(٥٩٩) عن علي بن أبي طالب - في قصَّة المهدي وفتوحاته... - قال: (ثمَّ يأمر بإنشاء مراكب، فيبني أربعمئة سفينة في ساحل عكَّا، ويخرج الروم في مئة صليب، تحت كل صليب عشرة آلاف، فيُقيمون على طرطوس، فيفتحونها بأسنَّة الرماح، ويوافيهم المهدي (ع)، فيُقتل من الروم حتى يتغيَّر ماء الفرات بالدم، وينهزم من الروم فيلحقوا بأنطاكية، وينزل المهدي (ع) على قبَّة العباس، فيبعث ملك الروم بطلب الهدنة من المهدي (ع)، ويطلب المهدي منه الجزية، فيُجيبه إلى ذلك، غير أنَّه لا يخرج من بلد الروم، فلا يبقى في بلد الروم أسير إلاَّ خرج، ويُقيم المهدي (ع) بأنطاكية سنة (لعلَّها سنته) تلك، ثمَّ يسير ذلك ومَن تبعه من المسلمين، لا يمرُّون على حصن من بلد الروم إلاَّ قالوا عليه: لا إله إلاَّ الله. فيتساقط حيطانه ويَقتل مقاتليه، حتى ينزل على القسطنطينية، فيُكبِّرون عليها تكبيرات، فينشف خليجها ويسقط

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٩٦) ص٥٣.
(٥٩٧) ص١٧٢.
(٥٩٨) ص١٩٤ ج١٣.
(٥٩٩) رواها في إلزام الناصب ص٢٢٤ ط إيران.

↑صفحة ٤١٣↑

سورها فيقتلون فيها ثلاثمئة ألف مُقاتل، ويستخرج منها ثلاث كنوز... ويسير المهدي إلى رومية، ويكون قد أمر أربعمئة مركب من عكَّا، فيُفيض (لعلَّها: فيقيض) الله تعالى لهم الريح، فما يكون إلاَّ يومين وليلتين ويُحيطوا على بابها، ويعلقون رجالهم على شجرة على بابها ممَّا يلي غربيها، فإذا رآهم أهل الرومية احذروا (لعلَّها: أخرجوا) إليهم راهباً كبيراً عندهم علم من كتبهم، فيقولون: انظر ما يريد. فإذا أشرف على المهدي (ع) فيقول: إنَّ صفتك التي هي عندي. وأنت صاحب رومية، فيسأله الراهب عن أشياء فيُجيبه عنها، فيقول: له المهدي: ارْجِع. فيقول: لا أرجع، أنا أشهد أن لا إله إلاَّ ألله وأنَّ محمداً رسول الله. فيُكبِّر المسلمون ثلاث تكبيرات، فتكون كالرمَّانة على نشر،(٦٠٠) فيدخلونها فيقتلون بها خمسمئة ألف مقاتل ويقتسمون الأموال).
إلى بعض الأخبار الأخرى.
الجهة الثانية: في نقد هذه الأخبار:
تحتوي هذه الأخبار على شيء من نقاط الضعف، وشيء من نقاط القوَّة:
أمَّا نقاط الضعف:
النقطة الأُولى: أنَّها وحدها غير قابلة للإثبات التاريخي؛ لعدم ثبوت صحَّة إسنادها وقلَّة أعدادها، فما لم تقم قرائن إضافية لإسناد مضمونها، ينبغي إسقاط هذه الأخبار عن الاعتبار، وسيأتي عرض ذلك في نقاط القوَّة.
النقطة الثانية: أنَّها معارضة بما دلَّ بظاهره على شمول السيف المهدوي لكل العالم، وعدم اختصاصه بالشرق بحسب إطلاق مدلوله.
النقطة الثالثة: إنَّ هذه الأخبار دالَّة على فتح العالم سلمياً عن طريق المعجزات، بالمشي على الماء تارةً، وبالتكبير والتهليل أخرى... فتكون هذه الأخبار مُخالفة لقانون المعجزات، باعتبار أنَّ فتح العالم ما يمكن توفُّره للمهدي (ع) بدون معجزة، ولو عن طريق الحرب، فقيام المعجزة من أجل توفيره يكون بلا موجب.
النقطة الرابعة: إنَّ هذه الأخبار تدلَّ على أنَّ أوضاع المدن في الحصانة الحربية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٠٠) لعلَّها: نشز، وهو المرتفع، فيكون المراد الوضوح والسهولة في دخول المدينة.

↑صفحة ٤١٤↑

وأساليب القتال، على الطريقة القديمة... وهذا باطل بالحسِّ والوجدان، بعد أن رأينا المدن المُشار إليها في الأخبار وغيرها قد تطوَّرت من هذه الجهات تطوُّراً لا يُقاس بالقديم أصلاً.
النقطة الخامسة: إنَّ بعض هذه الأخبار يدلُّ على أنَّ فتح القسطنطينية يتمُّ من قِبَل المهدي (ع) بأخذها من الكفَّار والمسيحيين، وهذا غير صحيح؛ لأنَّ هذه الخطوة قد اتُّخذت من قِبَل السلاطين العثمانيين، وقد أصبحت القسطنطينية منذ ذلك الحين بلدة مسلمة، وسمِّيت بإسلامبول، وأصبحت عاصمة الدولة العثمانية عدَّة قرون، وسيفتحها المهدي (ع) فتحاً ثانياً، لكنَّه سيأخذها من يد المسلمين المُنحرفين، لا من الكفَّار والمسيحيين.
هذا، وسنعرف مدى صحَّة هذه النقاط بعد قليل.
وأمَّا نقاط القوَّة، فكما يلي:
النقطة الأُولى: إنَّ المضمون العام لهذه الروايات - وهو فتح العالم سلمياً - مدعم بعدَّة قرائن عامة، يسند قابلية هذه الأخبار للإثبات التاريخي، وذلك من عدَّة زوايا، يدعم بعضها بعضاً.
الزاوية الأُولى: ما أشرنا إليه وبرهنَّا عليه، من شعور الرأي العام العالمي بوضوح يومئذ بفشل كل التجارب والأُطروحات التي ادَّعت حلَّ مشاكل العالم، إلى حدٍّ أصبح الفرد الاعتيادي (غير المرتبط مصلحياً بهذه التجارب) مُستعدَّاً للتنازل عن أيِّ حكم يتبنَّى شيئاً منها إلى الحكم الجديد، الذي يأمل فيه الخير والرفاه.
الزاوية الثانية: ما عرفناه من قابليَّات الإمام المهدي (ع) نفسه في الاطِّلاع على نقاط الضعف في الدول والحكَّام، الأمر الذي يُيسِّر له أحسن النتائج وأسهلها خلال الفتح العالمي، كما سبق أن أوضحنا.
الزاوية الثالثة: إنَّ الدولة التي سيؤسِّسها المهدي (ع) في منطقة من العالم، قبل استيعاب الفتح العالمي، ستكون نموذجاً حيَّاً للأُطروحة العادلة الكاملة، وسيرى العالم كله ما يشملها من الرفاه والأخوَّة والعدل؛ الأمر الذي يجعل أنظار العالم مركَّزة على هذا النظام الجديد، وراغبة فيه بشغف شديد.
الزاوية الرابعة: ما يقوم به المهدي (ع) من مناقشات فكرية وعقائدية ودينية، لإثبات الفكر الحق، ودحض كل ما يُخالف من الأساليب والإيديولوجيات، وسيكون ذلك

↑صفحة ٤١٥↑

على نطاق واضح وواسع ومُقنع، مضافاً إلى ما سنسمعه من أنَّ المسيح عيسى بن مريم عند نزوله سيقوم بمثل هذه الحملة أيضاً.
وهذا ما أُشير إليه في بعض الحدود في الروايات السابقة، وأنَّ الراهب الذي تُرسله رومية (روما - أوروبا) سوف يؤمن بالمهدي، ويشهد بوجود صفاته في الكتب الدينية القديمة الموجودة عنده، وأنَّ المهدي هو (صاحب رومية)، يعني أنَّ مُستقبلها سيكون إليه لا محالة.
الزاوية الخامسة: الفتح الإعجازي عند انحصار الأمر فيه، بحيث يكون مُطابقاً لقانون المعجزات، وهذا ما قد تعنُّ الحاجة إليه أحياناً.
ونستطيع أن نتصوَّر ردَّ الفعل العالمي، لو حدث ذلك مرَّة واحدة، أنَّ كل الدول الأخرى سوف تنهار معنوياً وتعلم بنهايتها، طبقاً لقول الشاعر:

مَـن حُلِقَـتْ لحـيـة جـــارٍ لــه فـليسكُـبْ المــاء على لحـيـتـه

لأنَّها تعلم أنَّ الجيش المهدوي سيغزوها لا محالة، فإن أمكن بالطريق الطبيعي، فهو... وإلاَّ فسيدخلها بالمعجزة... وهذا من أقوى أسباب الرُّعب الذي سمعنا انتشاره بين أعداء المهدي (ع) من الروايات.
فهذه الزوايا الخمسة المُتوفِّرة للإمام المهدي (ع) تُيسِّر الفتح العالمي السلمي بكل وضوح، مضافاً إلى الضمانات الأخرى التي عرفناها لانتصاره، والتي تتناسب مع السلم كما تتناسب مع الحرب.
وإذا تمَّت هذه الزوايا، كانت مؤيِّدة للأخبار الدالَّة على الفتح السلمي، فيُصبح من الممكن القول: بأنَّ هذه الأخبار صحيحة من هذه الناحية لا غبار عليها.
النقطة الثانية: إنَّ أكثر نقاط الضعف السابقة غير صحيحة:
فالنقطة الأُولى - وهي عدم قابليَّتها للإثبات التاريخي - ارتفعت بعد دعم الروايات بالزوايا الخمس السابقة.
وأمَّا النقطة الثانية؛ فلأنَّ الفتح السلمي لا يُنافي شمول (السيف) المهدوي لغير الشرق الأوسط؛ لأنَّ المُتعصِّبين ضدَّ الحق في أوروبا وغير أوروبا كثرين أيضاً، بحيث لا يمكن أن يُعايشوا المجتمع العادل الكامل، فيجب الإجهاز عليهم مُقدِّمة للتطبيق العادل، وهذا القتل غير الفتح العالمي، بل يستمرُّ بعد الفتح، غير أنَّ شمول هذا القتل

↑صفحة ٤١٦↑

لكل العالم قد يُنافي ما دلَّ على اختصاصه بالشرق وبالبلاد الإسلامية، وكان التبرير النظري مؤيِّداً لذلك كما عرفنا؛ ومن هنا لا يكون ما دلَّ على الشمول قابلاً للإثبات التاريخي.
غير أنَّ نقطة الضعف الثانية لن تكون صحيحة؛ لأنَّ شمول السيف - على تقدير صحَّته - ليس للفتح، بل للتنظيف.
وإن كان الالتزام بشمول القتل لأوروبا وغيرها، على نطاق أضيق من البلاد الإسلامية، وبشكل لا يُنافي المُبرِّر النظري السابق، لا محذور فيه... فيشمل مَن يُقابل المهدي (ع) بالسلاح - كما دلَّت هذه الروايات - وكل شخص ميؤوس من حُسن مُشاركته في مجتمع العدل العالمي سلفاً.
وأمَّا نقطة الضعف الثالثة - وهي الفتح عن طريق المعجزات - فقد عرفنا إمكان ذلك عند توقُّف الفتح عليه أحياناً... لا أقلّ من مرَّة واحدة، لكي تُلقي الرُّعب في قلوب الدول الأخرى.
وأمَّا النقطة الرابعة، فقد وردت هذه الأخبار على لسان عصرها، وطبقاً لمستواه الفكري والثقافي، طبقاً لقانون (كلِّم الناس على قدر عقولهم)، ولا يعني ذلك بقاء المدن على الشكل القديم إلى عصر الظهور.
وأمَّا نقطة الضعف الخامسة، فهي صحيحة، غير أنَّها شاملة لكل الأخبار؛ لعدم ورود اسم القسطنطينية إلاَّ في بعضها، فلعلَّه خطأ من الراوي؛ باعتبار نقل الحديث بمعناه لا بلفظه، ولأيِّ سبب آخر.
ووجود هذه النقطة في بعض الأخبار، لا يعني الاعتراض على أصل الفكرة، وهي الفتح العالمي السلمي، كما هو واضح.
وعلى أيِّ حال، فهذه الفكرة تكشف لنا عن أنَّ التخطيط الذي يتَّخذه المهدي (ع) في مناطق العالم المختلفة، غير التخطيط الذي يتَّخذه في الشرق الإسلامي، ويبقى التعرُّف على التفاصيل مصوناً في ضمير الغيب إلى حين مجيء ذلك الزمان.

↑صفحة ٤١٧↑

الفصل الخامس: موقف الآخرين من الإمام المهدي عليه السلام ماذا سوف يكون موقف الآخرين تجاه المهدي وثورته ودولته؟!

تنقسم العواطف تجاه الإمام المهدي إلى ثلاثة أقسام رئيسية: منها إيجابية، ومنها سلبية كما سنسمع.
فأهمَّ عاطفة إيجابية تجاه المهدي (ع) عواطف أصحابه المُخلصين، وجيشه الموالي إلى أعلى درجات الولاء، كما سبق أن عرضنا ذلك مُفصَّلاً.
وهناك عاطفة إيجابية أخرى تجاهه (ع)، تشمل كل العالم، وذلك حين يذوق الناس أجمعون لذَّة العدل والسعادة، والرفاه في المجتمع المهدوي العالمي العادل.
وأمَّا العواطف السلبية، فتنشأ من الانحراف والمُنحرفين، الذين يواجهون السيف المهدوي بحرارته وقوَّته.
ونحن بعد أن تحدَّثنا عن القسم الإيجابي الأول، بقي علينا أن نتحدَّث عن القسمين الأخيرين، نبدؤهما بالعواطف السلبية؛ باعتبار تقدُّمها زمناً على العواطف الإيجابية الثانية.
العواطف السلبية:
تنقسم العواطف السلبية ضدَّ الإمام المهدي إلى ثلاثة أقسام، في حدود ما وردنا من المُثبتات التاريخية.
القسم الأول: ردُّ الفعل السيِّئ الذي عرفناه غير بعيد، من قِبَل المُنحرفين حين يستمرُّ

↑صفحة ٤١٩↑

فيهم القتل، ويبدأ عددهم الضخم بالتناقص السريع.
إنَّهم سوف يقولون: إنَّ هذا ليس من ذُرِّية فاطمة، لو كان من ذُرِّيَّتها لرحمنا.
أو يقولون: إنَّ هذا ليس من آل محمد (ص)، لو كان من آل محمد لرحمنا. كما نطقت بذلك الأخبار.
وهذا الكلام منهم يتضمَّن إرجافاً وتشكيكاً بمهدويَّته؛ إذ من المعروف المفهوم بوضوح في أذهان المسلمين - الذي تواترت به الروايات - أنَّ المهدي المنتظر من آل محمد ومن ذُرِّية فاطمة، وإذا لم يكن شخص المهدي (ع) من آل محمد ومن ذُرِّية فاطمة، إذن؛ فليس هو المهدي المنتظر الموعود.
وسينطلقون إلى استنتاج كونه ليس من آل محمد ولا من ذُرِّية فاطمة، من حِدَّة سيفه وكثرة القتل الذي يُحدثه فيهم؛ باعتبار أنَّ كثرة القتل منافية للرحمة، وآل محمد أولى مَن يتَّصف بالرحمة من المسلمين، فلو كان شخص المهدي (ع) منهم لاتَّصف بالرحمة.
إلاَّ أنَّ هذا الكلام منهم سيكون هواء في شبك، في خضمِّ الأحداث العالمية السريعة التتابع التي تعيشها البشرية في تلك الفترة.
إنَّ هؤلاء المرجفين سوف ينتهون في خضمِّ كثرة القتل، لا يبقى منهم أحد، وسيكون البرهان الأكبر في دحض هذه الشبهة وإثبات أنَّ هذا القائد هو المهدي المنتظر الموعود نفسه، مضافاً إلى الدلائل الفكرية والعملية، التي يقوم بها خلال نشاطه العام... سيكون البرهان الأكبر على ذلك استتباب سيطرته على العالم كله، فإنَّنا لا نعني من المهدي الموعود إلاَّ مَن يحكم العالم كله بالعدل.
وهذه الفكرة عن المهدي الموعود، كما تصلح دحضاً لمَن يدَّعي المهدوية في التاريخ - كما ذكرنا ذلك في كل من التاريخين السابقين(٦٠١) - تكون هي البرهان الأهمَّ على صدق مَن يدَّعي المهدوية، وتتمُّ سيطرته على العالم.
وقد غفل هؤلاء المُرجفون عن أنَّ معنى الرحمة واللطف، ليس هو الرحمة الآنيَّة، والمحافظة على المصالح الوقتية الخاصة للناس، وإنَّما معناها الكبير، هو تطبيق الشريعة العادلة الكاملة في ربوع المجتمع البشري.
فإنَّ ذلك هو المصلحة العُلْيَا للبشر والهدف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٠١) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ص٣٥٥ وتاريخ الغيبة الكبرى ص٥٠٤.

↑صفحة ٤٢٠↑

الأعلى من وجودهم، وإذا نظرنا إلى هذا التطبيق في دائرته الصغيرة التي لا تستغرق كل العالم، فهو مقترن دائماً، بحسب المصلحة التي سار عليها النبي (ص) وغيره من القادة الأوائل، مع المُلاينة والتألُّف... وأمَّا إذا نظرناه بشكله الواسع، الذي يستغرق العالم كله، فقد عرفنا أنَّه يتوقَّف على اجتثاث كل عنصر للفساد وسوء النيِّة والانحراف، ويكون من مصلحة البشر والرحمة بهم قتل هؤلاء، وتنزيه المجتمع البشري عن مفاسدهم، وإن لم يلتفت البشر أنفسهم إلى ذلك لأول وهْلَة.
إذن؛ فالقتل الذي يُمارسه المهدي (ع) هو الرحمة الكاملة واللطف الحقيقي؛ لأنَّه مُقدِّمة لتطبيق العدل، ونشر السعادة، والمنطق العقلي والقانوني دائماً يجزم بتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
القسم الثاني: من العواطف السلبية التي يواجهها الإمام المهدي (ع).
دلَّت الروايات على ذلك كما يلي:
أخرج النعماني،(٦٠٢) بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث ذكر فيه راية القائم (ع) - وقال: (فإذا هو قام نشرها، فلم يبقَ في المشرق والمغرب أحد إلاَّ لعنها).
وأخرج أيضاً،(٦٠٣) بسنده عن أبان بن تغلب، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (إذا ظهرت راية الحق لعنها أهل الشرق وأهل الغرب. أتدري لم ذلك؟ قلت: لا قال: للذي يلقى الناس من أهل بيته قبل خروجه.
وأخرج أيضاً(٦٠٤) عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: إذا رفعت راية الحق لعنها أهل الشرق والغرب (المشرق والمغرب) قلت له: لم ذلك. قال: مما يلقون من بني هاشم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٠٢) الغيبة ص١٦٥.
(٦٠٣) المصدر ص١٥٩.
(٦٠٤) المصدر ص١٦٠.

↑صفحة ٤٢١↑

إلى بعض الأخبار الأُخرى.
والمقصود من (راية الحق): دعوة المهدي (ع) العامة، المُتمثِّلة بالأُطروحة العادلة الكاملة. ونشرها ورفعها: إعلانها في العالم.
كما أنَّ المقصود من لعنها: الغضب عليها والاشمئزاز منها من قِبل أهل الشرق والغرب، وهم أكثر سكَّان العالم، ومن المؤكَّد أن يكون المقصود من بني هاشم و(أهل بيته) شيئاً واحداً، سواء ذلك على المستوى الصريح أم الرمزي، على ما سنعرف.
ويمكن تبرير هذا الانطباع السيِّئ بعدَّة مُبرِّرات:
وتنقسم هذه المبرِّرات إلى قسمين، ينطلق القسم الأول منها، من الفَهْم الصريح لبني هاشم، وينطلق القسم الثاني منها من الفَهْم الرمزي له.
القسم الأول: أن نفهم من بني هاشم وأهل بيت المهدي (ع)، عشيرته الخاصة المُعيَّنة المعروفة في التاريخ، فيكون المعنى الذي تُعرب عنه الروايات: أنَّ الناس سوف يُسيئون الظنَّ بالمهدي (ع) ودعوته، بصفته فرداً من هذه العشيرة، وذلك للتجارب الفاشلة التي مرَّت بها هذه العشيرة خلال العصر السابق على الظهور، وذلك: تحت أحد المُبرِّرات التالية:
المُبرِّر الأول: إنَّ الناس يُلاقون من حُكم بني هاشم في زمن الغيبة ظلماً وتعسُّفاً، فيتخيَّلون أنَّ المهدي (ع) بصفته فرداً منهم، سوف يسير على هذا النهج.
وقد مارس بنو هاشم الحكم خلال التاريخ في فترات مختلفة... كالعباسيين، والفاطميين، والزيديين، والسنوسيين وغيرهم، وقد مارس الأعمُّ الأغلب منهم الحُكم الظالم المُتعسِّف المُنحرف عن الدين الحق.
الوجه الثاني: إنَّ الناس يُلاقون من بني هاشم - بصفتهم أفراداً في المجتمع المسلم - انحرافات شخصية حادَّة، إلى حدٍّ تكون مُضرَّة بالناس من مختلف المجتمعات، فيتألَّمون منها ويضجُّون من سوئها.
وحيث إنَّ المهدي (ع) من بني هاشم، فربَّما خُيِّلَ للناس - وخاصة هو يُمارس كثرة القتل - أنَّه عازم على السير على تلك السيرة... ريثما ينكشف عالمياً الفرق الكبير بين الأُسلوبين والإيديولوجيتين.
الوجه الثالث: إنَّ الناس يُلاقون من بني هاشم - خلال العصر السابق على الظهور - إعراضاً وإهمالاً مُتزايدين،

↑صفحة ٤٢٢↑

فإنَّ الناس يمرُّون خلال عصر الغيبة، بمختلف أشكال المظالم والمشاكل، فقد يخطر في أذهان عدد منهم أن يرجعوا إلى بني هاشم في حلِّ هذه المشاكل، بصفتهم ممَّن يتوسَّم فيهم الصلاح والإصلاح... فلا يجدون منهم إلاَّ إعراضاً وإهمالاً وتهاوناً؛ نتيجة لتسامح بني هاشم وتقوقعهم، وخوفهم من الظروف القاسية، والتدخُّل في الأمور العامة.
فينطبع ذلك في أذهان الناس انطباعاً سيِّئاً، ويُخلِّف هذا الموقف ظنَّهم بالهاشميين... مع أنَّهم قد يكونوا مضطرِّين إلى ترك العمل اضطراراً.
ومن الصحيح أنَّ المهدي (ع) من بني هاشم، غير أنَّ شيئاً من هذه الوجوه الثلاثة لا ينطبق عليه... بعد أن جاء ليُغيِّر الحُكم الظالم إلى الحُكم العادل، والسلوك المُنحرف إلى السلوك الصالح، ولا معنى للخوف والاضطرار إلى ترك المصلحة العامة في دولته.
غير أنَّ هذه المواقف سوف تُتَّخذ في أول ظهور (راية الحق)، وستتبدَّد الأوهام تدريجياً بمقدار اتِّضاح واتِّساع الإيديولوجية المهدوية عالمياً.
القسم الثاني: من المُبرِّرات، وهو المنطلق من الفَهم الرمزي لبني هاشم وآل البيت المهدي (ع)... حيث يكون تعبيراً عن جانب الدين والمُتديِّنين في العصر السابق على الظهور.
وانطلاقاً من ذلك، تكون المُبرِّرات إلى (لعن) راية الحق من قِبَل المنحرفين... عديدة.
المُبرِّر الأول: الاتجاه المادِّي العام، الذي يشجب الحلَّ الديني للمشاكل البشرية، ومن الواضح أنَّ الأطروحة المهدوية (راية الحق)، مهما اختلفت عن الاتجاهات الدينية السابقة عليها، فإنَّها ذات منطلق ديني بطبيعة الحال، من حيث إنَّها تعترف بوجود الخالق، وتلتزم بشريعته، ومعها ستكون مشمولة للشجب المادِّي.
وسترتفع مُبرِّرات هذا المُبرِّر المادِّي، بالمفاهيم والدلائل التي يُقيمها الإمام المهدي (ع) نفسه، مضافاً إلى التطبيق المهدوي للأُطروحة العادلة الكاملة، التي تُمثِّل أعلى شريعة إلهية وجِدت بين البشر... فيتَّضح ما تضمَّنه للبشر من سعادة ورفاه، والفروق الأساسية الشاسعة بين الاتجاه الديني المهدوي، والاتجاهات السابقة عليه.
المُبرِّر الثاني: سوء الظنِّ بالمُتديِّنين عموماً، بغضِّ النظر عن الوجود النظري للدين،

↑صفحة ٤٢٣↑

فإنَّ هناك اتجاهاً عاماً في العالم اليوم، موجوداً في مختلف الأديان والمذاهب يتضمَّن إساءة الظنِّ بالأساليب والاتجاهات العامة التي يتَّخذها المُتديِّنون، وذلك باعتبار التجارب الكثيرة والمريرة، التي عاناها الناس ممَّن ينتمون إلى الدين، من حيث إنَّ أكثرهم يستغلُّ موقفه الديني في سبيل الربح الشخصي، بل حتى لو لزم من ذلك الإضرار بالآخرين؛ لأنَّ أمثال هؤلاء ينتمون إلى الدين اسمياً، ولم يتشرَّبوا بتعاليمه واقعياً، فهُم من المُنحرفين الفاشلين في التمحيص، الذين يُمثِّلون جانب الظلم والجور في الأرض، مهما استطاعوا أن يُغطُّوا قضيَّتهم بمختلف الأقنعة.
وقد عانى المسيحيون من الوجود الكنسي المُمثِّل لهذا الاتجاه المُنحرف، كما عانى المسلمون بمختلف مذاهبهم من نماذج أخرى سائرة على هذا الطريق، ولا يخلو هذا الطريق من السائرين في مختلف الأديان.
ومن هنا؛ نشأت الفكرة عن كل ما يتبنَّى الاتجاه الديني، وحيث يكون المهدي ذا اتجاه ديني، فهو مُندرج في الشك العام... غير أنَّ هذا الشكَّ سوف يتبخَّر بالتدرُّج، بمقدار ما يفهمه العالم بالحسِّ والوجدان من نفع النظام المهدوي للعالم، وما يكفله له من السعادة والرفاه، وما يبذله المهدي (ع) في سبيل الصالح العام من تضحيات ونكران ذات، وما تؤكِّده الوقائع من الفوارق الشاسعة بين هذا الاتجاه الديني، والاتجاهات السابقة عليه.
المُبرِّر الثالث: تشويه الفكرة المهدوية في العصر السابق على الظهور، فإنَّها شوِّهت في الأفكار المُنحرفة عدَّة تشويهات حادَّة، قد يؤدِّي بعضها إلى الحقد على المهدي (ع) حتى بعد ظهوره، والاتجاهات العامة لهذه التشويهات مُتعدِّدة، مادِّية وغير مادِّية، ولعلَّ في الرجوع إلى هذه الموسوعة ما يُساعد على رفع هذه التشويهات، ولسنا الآن بصدد استعراضها جميعاً، كل ما في الأمر، أنَّ ما يمكن أن يكون سبباً للحقد على المهدي حتى بعد ظهوره، من هذه التشويهات، هو ما يلي:
التشويه الأول: إنَّ السيف المهدوي شديد الفعالية قوي النشاط... يقتل الناس بلا حساب.
التشويه الثاني: إنَّ الحُكم المهدوي - بصفته عادلاً - سوف يكون حدِّياً وجِدِّياً في تطبيق القانون وكبت الحرِّية الفردية، إلى أكبر الحدود.

↑صفحة ٤٢٤↑

التشويه الثالث: إنَّ النظام المهدوي بصفته ذات أيديولوجية مُعيَّنة، سوف يمنع عن حرِّية الاعتقاد والتعبير عن الرأي، لغير الملتزمين بالأيديولوجية المهدوية الرسمية.
التشويه الرابع: إنَّ الفكرة المهدوية بصفتها ذات اتجاه ديني، فهي تمنع عن الاستفادة من التطوُّر المدني والتكتيكي الحديث؛ لأنَّ الاتجاه الديني عموماً يمنع من ذلك.
ونحو ذلك من التشويهات...
والتشويه الأخير كاذب تماماً؛ لأنَّ الاتجاه الديني عموماً يُحبِّذ استعمال نتائج التطوُّر المدني، لا أنَّه يمنع عنه، وقد كان ولا زال المُتديِّنون عموماً يستعملون هذه النتائج، بدون أن يروا أيَّ تنافٍ بين اتجاههم الديني، وهذا الاستعمال، وأن يعتقدوا أيَّ تحريم ديني لذلك.
وسنسمع في فصل آتٍ، المُثبتات التاريخية الكافية لاستعمال المهدي (ع) نفسه لنتائج التطوُّر المدني على أوسع نطاق في دولته، ممَّا يدلُّ على مباركته لها وعدم ميله إلى المنع عنها.
وأمَّا التشويهات الثلاثة الأُولى، فلها أصولها الصحيحة، وإنَّما التشويه كامن في المُبالغة منها وإساءة الظن بنتائجها.
ويكفينا الالتفات إلى أمرين أساسين لدفع جانب التشويه في هذه الأمور الثلاثة:
الأمر الأول: أنَّه بعد البرهنة على أنَّ النظام المهدوي نظام عادل كامل، وأنَّه يُمثِّل الغرض الأساسي لخلق البشرية عموماً في الحكمة الإلهية، كما سبق أن برهنَّا، وسيأتي في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة مزيد من البرهان، والإيضاح لهذه الفكرة، وأنَّه لا يمكن أن يتضمَّن هذا النظام أيَّ ظلم وحيف فردي واجتماعي من أيِّ جهة من الجهات.
إذن؛ فكل ما يتضمَّنه هذا النظام من فقرات، من مفاهيم وقوانين ونُظُم هي - لا محالة - مُطابقة للعدل الكامل، الذي لا محيص للبشرية عنه، وبالتالي لا يمكن للبشرية أن تعيش السعادة والرفاه والكمال تحت أيِّ نظام أخر غيره، فالمبالغة في تلك الأفكار وإساءة الظن بنتائجها، ممَّا لا معنى له، بعد أن كانت مطابقة للعدل، وإذا كان في التطرُّف بتطبيقها شيء من السوء والظلم، فإنَّه سيقتصر منها في مجال التطبيق، على ما هو أوفق بالعدل، وأقرب إلى المصلحة لا محالة.

↑صفحة ٤٢٥↑

الأمر الثاني: أنَّه بينما تسنح الفرصة للمُرجفين والمُشوِّهين، للنشاط في الأيَّام الأُولى من الظهور، فإنَّ هذه الفرصة لن تسنح لهم مرَّة أُخرى، بل سيقوم السيف باستئصالهم تماماً، وسوف لن يبقى في العالم إلاَّ المؤمنين بصدق المهدي (ع) وعدالة دعوته.
ولا ينبغي أن يتوجَّه العتب إلى السيف المهدوي بكثرة القتل، من حيث كونه مسؤولاً عن تطبيق العدل الذي يتوقَّف على هذه الكثرة كما عرفنا، بل ينبغي أن يتوجَّه العتب إلى الأفراد المُنحرفين أنفسهم، في أنَّهم أصبحوا بسوء تصرُّفهم ومُمارستهم أشكالاً من الظلم، بشكل يتنافى وجودهم بكل أقوالهم وأفعالهم مع المجتمع الفاضل والنظام العادل، فاستحقُّوا القتل بالسيف المهدوي الصارم.
هذا، ولا ينبغي أن ندخل في البراهين التفصيلية على الأصول الصحيحة لتلك (التشويهات) الثلاثة الأُولى، بعد كل الذي عرفناه فيما سبق من مثبتاتها التاريخية، وما سوف يأتي في خضمِّ البحث من مزيد القرائن عليها واحدة واحدة.
القسم الثالث: من العواطف والمواقف السلبية التي توجد ضدَّ المهدي (ع)، ما يقوم به بعض الجماعات من مواجهته بالسلاح.
أخرج النعماني في الغيبة،(٦٠٥) عن يعقوب السرَّاج، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (ثلاث عشر مدينة وطائفة يُحارب القائم أهلَها ويُحاربونه: أهل مكَّة، وأهل المدينة، وأهل الشام، وبنو أُميَّة، وأهل البصرة، وأهل دميان (دشت ميشان)، والأكراد، والأعراب، وضبَّة، وغنى، وباهلة، وأزد البصرة، وأهل الريِّ).
وفي رواية مُطوَّلة أخرجها المجلسي في البحار،(٦٠٦) عن عبد الأعلى الحلبي، عن أبي جعفر (ع)، يقول فيها: (فيخرج إليه مَن كان بالكوفة من مُرجِّئها وغيرهم من جيش السفياني، فيقول لأصحابه: استطردوا لهم. ثمَّ يقول: كُرُّوا عليهم). قال أبو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٠٥) ص١٦٠.
(٦٠٦) ج١٣ ص١٧٩-١٨٠.

↑صفحة ٤٢٦↑

جعفر: (لا يجوز - والله - الخندق منهم مُخبِر...) الحديث.
ومنها ما سبق أن رويناه، ممَّا أخرجه المفيد في الإرشاد،(٦٠٧) عن أبي جعفر - في حديث طويل - أنَّه قال: (إذا قام القائم (ع) سار إلى الكوفة، فيخرج منها بضعة عشر ألف نفس يُدعون البتريَّة، عليهم السلاح. فيقولون له: ارجع من حيث جئت، فلا حاجة لنا في بني فاطمة. فيضع فيهم السيف، حتى يأتي على آخرهم
ثمَّ يدخل الكوفة، فيقتل بها كل منافق مُرتاب، ويهدم قصورها، ويقتل مقاتليها، حتى يرضى الله عزَّ وعلا).
وأخرجه الطبرسي في إعلام الورى.(٦٠٨)
وأخرج النعماني،(٦٠٩) بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: (إنَّ صاحب هذا الأمر لو قد ظهر، لقي من الناس ما لقي رسول الله (ص)، وأكثر).
ومن ذلك الروايات الواردة في قتال السفياني، بعد ارتداده وفسخه مُبايعة المهدي (ع)... وقد سمعناها فلا نُعيد.
وأقصى ما تُعطينا هذه الروايات من المضمون العام، هو أنَّ المهدي (ع) سوف يواجه في العراق - وغيره من المناطق الإسلامية - حروباً مُسلَّحة ومُناوشات وقلاقل، وهذا أمر راجح، حتى لو لم نسمع شيئاً من هذه الروايات، بعد أن نلتفت إلى أنَّ أكثرية الأُمَّة أصبحت فاشلة في التمحيص، وعلى مستوى عصيان الأحكام الواضحة في الإسلام والمفاهيم القطعية فيه، كل مَن يواجهه بالحرب، يكون غافلاً بطبيعة الحال عن ضمانات انتصاره التي ذكرناها، إلى حدٍّ يظنُّ بإمكان سيطرته على المهدي (ع) وجيشه، وعلى الأقل دفعه عن السيطرة على بلاده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٠٧) ص٣٤٣.
(٦٠٨) ص٤٣١.
(٦٠٩) الغيبة ص١٥٩.

↑صفحة ٤٢٧↑

وأمَّا التفاصيل التي تنطق بها هذه الروايات، فلا يكاد يثبت شيء منها؛ لأنَّ كل واحد من الروايات غير ثابتة الصحَّة، ولها مضامين غير ثابتة أيضاً، فلا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.
نعم، الرواية الدالَّة على أنَّ ثلاثة عشرة فئة تُحارب المهدي (ع) تدلَّ - بغضِّ النظر عن التفاصيل - على أمرين:
الأمر الأول: إنَّ ما يواجهه المهدي (ع) من الحروب خاصة في منطقة الشرق الإسلامي خاصة.
الأمر الثاني: إنَّ تلك الحروب محدودة بثلاث عشر وقعة ونحوها، إن لم يكن هذا الرقم للتحديد، وليست من الكثرة التي يتصوَّرها في الفتح العالمي العام.
وكلا هذين الأمرين ممَّا دلَّت الروايات الأخرى على صحَّته، فتكون هذه الرواية مؤكَّدة لمضمونه أيضاً.
العواطف الإيجابية:
أخرج ابن ماجة،(٦١٠) عن أبي سعيد الخدري، إنَّ النبي (ص) قال: (يكون في أُمَّتي المهدي... فتنعم فيه أُمَّتي نعمة لم ينعمه مثلها قطُّ).
وأخرج ابن حجر،(٦١١) عن الروياني والطبراني - في حديث - قال: (يرضى بخلافته أهل السماء وأهل الأرض، والطير في الجوِّ).
وأخرج الحاكم،(٦١٢) بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي (ص) - في حديث -: (يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض... تتمنَّى الأحياء والأموات ممَّا صنع الله عزَّ وجلَّ بأهل الأرض من خيره)، هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦١٠) السُّنن: ج٢ ص١٣٦٦.
(٦١١) ص٩٨.
(٦١٢) ج٤ ص٤٦٥.

↑صفحة ٤٢٨↑

وأخرج النعماني(٦١٣) عن أُمِّ هانئ، عن أبي جعفر محمد علي الباقر (ع) - في حديث - قال: (فإن أدركتَ ذلك الزمان قرَّت عيناك).
وأخرج بهذا المعنى حديثين آخرين،(٦١٤) وبمؤدَّاه حديث أخرجه الكليني في الكافي.(٦١٥)
وأخرج الشيخ في الغيبة،(٦١٦) قال: قال رسول الله (ص): (أُبشِّركم بالمهدي... - إلى أن قال: - يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض).
وفي حديث آخر،(٦١٧) عن أبي وائل، عن أمير المؤمنين (ع) أنَّه قال: - في حديث - (يفرح لخروجه أهل السماء وسكَّانها، يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً).
إلى غير ذلك من الروايات.
والمراد بساكن السماء أحد أمرين:
الأمر الأول: سَكَنَة الجوِّ، وهم الطيور.
ومعنى رضاهم بما ينالهم من لذيذ الطعام وهنيء الماء في عصره، باعتبار عموم عدله ورفاهه.
إلاَّ أنَّ هذا المعنى تُنافيه رواية واحدة ممَّا سبق، وهو قوله: (يرضى بخلافته أهل السماء وأهل الأرض، والطير في الجوِّ)، فإنَّ مقتضى التعاطف هو التغاير بين أهل السماء وبين الطير؛ فلا يمكن أن يكون أحدهما هو الآخر.
الأمر الثاني: الملائكة، وهم سكنة السماء بحسب ظاهر الأدلة الواردة في الإسلام، بل وفي غيره من الأديان الكبرى، فهم يفرحون ليوم تطبيق العدل الكامل على الأرض، ويرضون عن قائده العظيم... وقد عرفنا موقفهم تجاه المهدي (ع) من التأييد والنُّصرة، بشكل واسع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦١٣) ص٧٥.
(٦١٤) نفس الصفحة.
(٦١٥) نسخة مخطوطة.
(٦١٦) ص١١١.
(٦١٧) ص١١٦.

↑صفحة ٤٢٩↑

النطاق... فيكون رضاهم عنه أمراً طبيعياً واضحاً، ومنطلقاً عن رضاء الله عزَّ وجلَّ.
وقد يخطر في البال: إنَّ ظاهر هذه الروايات كون الرضى المذكور فيها ناتجاً من قِبَل الفرد، باعتبار استفادته وانتفاعه من حُكم المهدي العادل، وأمَّا إذا لم يكن الفرد مُنتفعاً به، فهو لا يكون مشمولاً لهذه لروايات، ومن الواضح أنَّ الملائكة لا يمكن أن يكونوا مُستفيدين بالمُباشرة من العدل الأرضي.
وجواب ذلك: إنَّه من ضيق النظر افتراض أنَّ الفرد لا يفرح بشيء، إلاَّ إذا استفاد منه فائدة مباشرة، بل قد يفرح الفرد للخير الذي نال أُسرته وأصدقائه ومجتمعه ومجتمعاً يُحبُّه، وإن لم ينل منه شيئاً أصلاً.
ومعه؛ فالملائكة يفرحون بنفوذ إرادة الله وتطبيق هدفه، على أنَّه لا دليل على عدم انتفاع الملائكة بشكل مباشر في دولة العدل الكامل، فإنَّ تأييدهم لها ولقائدها وأعمالهم في مصلحتها، كمال لهم لا محالة.
فهذه هي العواطف الإيجابية الخيِّرة، التي ينالها المهدي (ع) ونظامه، عند تطبيق العدل الكامل، بعد أن تكون العواطف السلبية قد انتفت تماماً خلال الفتح العالمي.

↑صفحة ٤٣٠↑

الفصل السادس: في مدَّة بقاء المهدي (ع) في الحُكم

تمهيد:
ينفتح السؤال عن مدَّة حُكم المهدي (ع) باعتبارين:
الاعتبار الأول: السؤال عن بقاء شخص الإمام المهدي (ع) في الحُكم، بمعنى الاستفهام عن المدَّة المُتخلِّلة بين ظهوره ووفاته، وبالأصحِّ المُدَّة بين استتباب الدولة العالمية، ووفاته... بعد اليقين بأنَّه (ع) سوف يقضي أيَّام حياته كلَّها في الحُكم.
الاعتبار الثاني: السؤال عن بقاء نظام المهدي (ع) ودولته، ذلك النظام الذي يبقى بعد وفاته.
ويكون المراد: الاستفهام عن أنَّ دولة العدل العالمية، هل هي باقية إلى نهاية البشرية، ولا؟ وهل أنَّ يوم القيامة ونهاية البشرية يحدث بعد موت المهدي بقليل، وبكثير؟ وإذا كانت الحياة البشرية باقية مدَّة طويلة، فهل تتحوَّل الحياة إلى دولة ظالمة مُنحرفة، تحدث بعد دولة الحق، وتبقى دولة الحق والعدل باقية على يد الحُكَّام العدول الأولياء الصالحين إلى يوم القيامة؟
ومرادنا من هذا الفصل التحدُّث عن الاعتبار الأول، مؤجِّلين الجواب عن مدَّة دولته ونظامه إلى الباب الأخير من هذا التاريخ.
ولا بدَّ في صدد الحديث عن هذا الأمر، أن يقع الحديث في عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: في مقتضى القواعد العامة والتخطيط الإلهي العام حول ذلك، عرفنا فيما سبق - أكثر من مرَّة مُبرهَناً - بأنَّ الله تعالى استهدف من خلق الخليقة إيجاد العبادة الخالصة في ربوعها، وتطبيق العدل الكامل فيها... وخطَّط لذلك تخطيطاً طويل الأمد

↑صفحة ٤٣١↑

لإيجاد شرائط هذا التطبيق، مُتمثِّلاً في التخطيط العام السابق على الظهور، وخطَّط لاستمرار هذا التطبيق وحفظه من الانحلال والزوال، مُتمثِّلاً بالتخطيط العام لما بعد الظهور، ذلك التخطيط المُنتج في خطِّه الطويل للمجتمع البشري المعصوم.
وقد عرفنا دور الإمام المهدي (ع) بشخصه في هذين التخطيطين... فإنَّه يُمثِّل نهاية التخطيط الأول ونتيجته، وبداية التخطيط الثاني ونقطة انطلاقه، ويكون هو الرائد الأساسي الأول للتطبيق العالمي العادل الكامل.
وهذه الزيادة - مع غضِّ النظر عن أيِّ شيء آخر - تستدعي زماناً كافياً لتحصيل الغرض المقصود منها؛ إذ بدون ذلك يكون المهدي (ع) عاجزاً عن التطبيق العادل؛ لقلَّة المدة، فيكون الهدف الإلهي الأعلى مُنخرماً في نهاية المطاف، وهذا ما يستحيل تحقُّقه، وقد برهنَّا على عدم قيام المعجزات في مثل هذا الطريق.
إذن؛ فالضرورة قاضية ببقاء المهدي (ع) زماناً كافياً للتطبيق بشكل يكون قابلاً للبقاء والاستمرار بعده، فإذا التفتنا إلى التركات الثقيلة التي يُخلِّفها عصر الغيبة الكبرى إلى زمن الظهور، إلى حدٍّ أصبح المسلمون فيه على مستوى عصيان واضحات الإسلام، والاستهزاء بأساس الدين، فضلاً عن غير المسلمين، ونظرنا إلى أحوالهم الأخلاقية والاقتصادية، والنفسية والقانونية والاجتماعية المتدهورة إلى الحضيض، على ما نراه الآن جهاراً في وضح النهار، استطعنا - عند ذلك - أن نُخمِّن الجُهد العظيم الذي ينبغي أن يبذله المهدي (ع) في هذا العالم؛ لكي يُحوِّله من الجحيم إلى النعيم.
وهذا ما لا يتوفَّر بمُجرَّد فتح العالم والاستيلاء عليه، فإنَّ الأراضي يومئذ وإن أصبحت إسلامية وتحت حُكم الإسلام من الناحية الفقهية القانونية، إلاَّ أنَّ تربية تلك المجتمعات أمراً أعقد بكثير من مُجرَّد فتحها، فإنَّ الفتح إنَّما يكون مُقدِّمة لتربيتها، ولم يكن لأجل الأطماع ومباشرة السلطة.
وإنَّما المهدي (ع) مسؤول عن ترسيخ العدل الكامل، بشكل له قابلية البقاء والاستمرار في المدى البعيد... وإن يوكِل ذلك بعده إلى أيدٍ أمينة مُخلصة.
ومعه؛ فمدَّة بقائه بالحياة، وبالتالي بالحُكم، مدَّة مناسبة لإنتاج ذلك.
وأمَّا إنَّ هذا المقدار من السنين كم عدده بالتحديد، فهذا لا يمكن أن تُسعفنا به القواعد العامة، بل ينبغي الفحص عنه في الأخبار الخاصة المُتكفِّلة لبيان ذلك.

↑صفحة ٤٣٢↑

وينبغي أن لا نستغرب من أن يكون زمن هذه المدَّة قليلاً نسبياً، فإنَّ مُهمَّته (ع) ممَّا لا يمكن أن تقوم بها الأفراد والجماعات في قرن كامل، وحَسْبُنا من هذا أنَّ البشرية لم تقم بهذه المُهمَّة في تاريخها الطويل، على الإطلاق، ولكنَّه شخصياً لمدى قابليّاته وعلومه والتوفيق الإلهي المُحالف له، بصفته المُنفِّذ الأساسي للغرض الأعلى من البشرية، ولمدى قابليّات أصحابه، الذين هم القوَّاد والفقهاء والحُكَّام، على ما سمعنا من الروايات...
فيمكن أن نتصوَّر أنَّه يقوم بتلك المُهمَّة في زمن قصير نسبياً، هو بالنسبة إلى غيره أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، ولكنَّه منه (ع) ليس ببعيد.
الجهة الثانية: في سرد الأخبار الدالَّة على مُدَّة مُلْكه، وهي أخبار كثيرة، ولكنَّها مُتضاربة في المضمون إلى حدٍّ كبير، حتى أوقع كثيراً من المؤلِّفين في الحيرة والذهول.
وهذه الروايات على نوعين، منها ما يدلُّ على بقاء المهدي (ع) في الحُكم عشر سنوات وأقلِّ، ومضمونها المشترك هو الأشهر في الروايات، ومنها ما يدلُّ على بقائه (ع) أكثر من عشر سنين وبكثير.
النوع الأول: ما دلَّ من الروايات على بقاء المهدي (ع) في الحُكم عشر سنوات فأقلّ، وهو موجود في الأغلب، في المصادر العامة، وبعض المصادر الخاصة.
أخرج أبو داود،(٦١٨) بسنده إلى أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص): (المهدي منِّي... - إلى أن قال: - ويملك سبع سنين).
وفي حديث آخر،(٦١٩) عن أُمِّ سلمة عنه (ص) - يقول فيه -: (... فيلبث سبع سنين، ثمَّ يُتوفَّى ويُصلِّي عليه المسلمون).
قال أبو داود: وقال بعضهم، عن هشام: تسع سنين. وقال بعضهم: سبع سنين.
وأخرج الترمذي،(٦٢٠) بسنده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (ص): (إنَّ في أُمَّتي المهدي، يخرج يعيش خمساً وسبعاً وتسعاً، زيد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦١٨) السُّنن ج٢ ص٤٢٢.
(٦١٩) المصدر ج٣ ص٤٢٣.
(٦٢٠) الجامع الصحيح ج٣ ص٣٤٣.

↑صفحة ٤٣٣↑

الشاكِّ).
قلنا: وما ذاك؟
قال: (سنين...) الحديث.
قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد روي من غير وجه، عن أبي سعيد، عن النبي (ص).
وأخرج ابن ماجة،(٦٢١) عن أبي سعيد الخدري، أنَّ النبي (ص) قال: (يكون في أُمَّتي المهدي، إن قصر فسبع، وإلاَّ فتسع...) الحديث.
وأخرج الحاكم في المستدرك،(٦٢٢) بسنده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (ص) - في حديث - ذكر فيه المهدي، فقال: (يعيش فيهم سبع سنين وثمان وتسع) الحديث.
وأخرج في الينابيع،(٦٢٣) عن كتاب (فضل الكوفة) لمحمد بن علي العلوي، بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): (يملك المهدي أمر الناس سبعاً وعشراً...) الحديث.
وقد وردت الأخبار وأمثالها، في سائر المصادر العامة التي تتحدَّث عن المهدي، كمسند أحمد، والحاوي للسيوطي، والبيان للكنجي، ومطالب السَّؤول لمحمد بن طلحة الشافعي، والفصول المُهمَّة لأبن الصبَّاغ، ونور الأبصار للصبَّان، وغيرها.
وأمَّا من مصادر الإمامية، فهذا النوع الأول من الأخبار قليل فيها:
أخرج الشيخ في الغيبة،(٦٢٤) بسنده عن عبد الكريم الخثعمي، قال: قلت لأبي عبد الله (ع): كم يملك القائم؟
قال: (سبع سنين، يكون سبعين سنة من سنيِّكم هذه).
النوع الثاني: الروايات التي تزيد على العشر سنوات، في بيان مدَّة حُكم القائم المهدي (ع).
أخرج القندوزي في الينابيع، عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله (ص):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٢١) السُّنن ج٢ ص١٣٦٧.
(٦٢٢) ج٤ص٤٦٥.
(٦٢٣) ينابيع المودَّة ط النجف.
(٦٢٤) ص٥٢٠.

↑صفحة ٤٣٤↑

(المهدي رجل من وُلْدي... - إلى أن قال: - يملك عشرين سنة).
قال: أخرجه الروياني، والطبراني، وأبو نعيم، والديلمي في مسنده.
وأخرج أيضاً،(٦٢٥) نقلاً عن كتاب فرائد السمطين، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله (ص) - في حديث -: (المهدي من وُلْدي... يملك عشرين سنة).
وأخرج السيوطي في الحاوي،(٦٢٦) عن نعيم بن حمَّاد، عن أرطاة، قال: يبقى المهدي أربعين عاماً.
وأخرج عنه بقية بن الوليد، قال: حياة المهدي ثلاثون سنة.
وأخرج عنه أيضاً، عن دينار بن دينار، قال: بقاء المهدي أربعون سنة.
وأخرج عن الزهري، قال: يعيش المهدي أربع عشر سنة، ثمَّ يموت موتاً.
وأخرج عنه، عن علي قال: (يلي المهدي أمر الناس ثلاثين وأربعين سنة).
ومن المصادر الإمامية: أخرج الشيخ في الغيبة،(٦٢٧) بسنده عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر (ع) - في حديث - قال: قلت: وكم يقوم القائم في عالمه؟
قال: (تسع عشرة سنة...) الحديث.
وأخرج النعماني،(٦٢٨) بسنده عن يونس بن رباط، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٢٥) ص٥٣٧.
(٦٢٦) ص١٥٥ وكذلك الأخبار التي تليه.
(٦٢٧) ص٢٨٦.
(٦٢٨) ص١٥٣.

↑صفحة ٤٣٥↑

 (إنَّ أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدَّة، أما إنَّ ذلك إلى مدَّة قريبة وعاقبة طويلة).
وأخرج حديثاً آخر بنفس المضمون.
وأخرج أيضاً،(٦٢٩) بسنده عن ابن أبي يعفور، قال: قال أبو عبد الله (ع): (مُلك القائم منَّا تسع عشرة سنة وأشهُر). ونحوه حديث آخر.
وأخرج الطبرسي في إعلام الورى،(٦٣٠) عن عبد الكريم الخثعمي، قال: قلت لأبي عبد الله (ع): كم يملك القائم؟
قال: (سبع سنين، يطول له الأيّام والليالي، حتى تكون السنة من سنيِّه مكان عشر سنين من سنيِّكم هذه، فيكون سنيِّ مُلكه سبعين سنة من سنيِّكم هذه...) الحديث.
وأخرج الصدوق في إكمال الدين،(٦٣١) بسنده عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن علي بن موسى الرضا، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب (ع) قال: (قال رسول الله (ص) - في حديث طويل يتضمَّن كلاماً عن الله عزَّ وجلَّ يقول في آخره عن المهدي (ع) -: (ولأنصرنَّه بجُندي ولأمدنَّه بملائكتي، حتى يُعلن دعوتي، ويجمع الخلق على توحيدي، ثمَّ لأُديمنَّ مُلكه، ولأُداولنَّ الأيَّام بين أوليائي إلى يوم القيامة).
وأخرج الشيخ في الغيبة،(٦٣٢) بسنده عن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر (ع): (إنَّ القائم يملك ثلاثمئة وتسع سنين، كما لبث أهل الكهف في كهفهم، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً...) الحديث.
الجهة الثالثة: في تمحيص هذه الأخبار:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٢٩) ص١٨١.
(٦٣٠) ص٤٣٢.
(٦٣١) انظر المصدر المخطوط.
(٦٣٢) ص٢٨٣.

↑صفحة ٤٣٦↑

توجد حول هذه الأخبار عدَّة مُلاحظات:
المُلاحظة الأُولى: أكثر الأخبار التي نقلناها عن السيوطي في النوع الثاني مرويّة عن غير المعصومين، كالزهري، ودينار بن دينار، فلا تكون قابلة للإثبات التاريخي.
المُلاحظة الثانية: إنَّ ما دلَّ من الأخبار على أنَّ المُدَّة طويلة بشكل غير مُحدَّد، إنَّما هو تحديد لمُدَّة دولة المهدي ونظامه، لا لعمر شخص المهدي (ع) وحياته، كقوله: (إلى مدَّة قريبة وعاقبة طويلة)، وكقوله: (ولأُداولنَّ الأيَّام بين أوليائي إلى يوم القيامة)، ومعه؛ تخرج هذه المضامين عن نطاق ما نحتاجه الآن في الاستدلال.
المُلاحظة الثالثة: ما دلَّ من هذا الأخبار على طول المدَّة بطريق إعجازي لا يمكن الأخذ به؛ لكونه مُخالفاً لقانون المعجزات، باعتبار أنَّ توطيد العدل لا يتوقَّف على مثل هذه المعجزة.
وقد نقلنا بهذا المضمون حديثين يدلاَّن على أنَّ المهدي (ع) يعيش سبع سنين تكون كسبعين سنة.
ومعه؛ فلا يمكن العمل بهذه الأخبار، ما لم يكن حمله على معنى رمزي سوف نُشير إليه بعد ذلك.
المُلاحظة الرابعة: ما كان من الأخبار مُنفرداً في مضمونه، ولا دليل على صحَّته، ولا قرينة أخرى مؤيِّدة لمضمونه... لابدَّ من اعتباره غير قابل للإثبات التاريخي، في حدود منهجنا من هذا الكتاب.
يندرج في ذلك الخبر القائل: بأنَّه (ع) يبقى في الحُكم ثلاثمئة وتسع سنين.
المُلاحظة الخامسة: يصفو لنا بعد هذا التمحيص أقسام ثلاثة من الروايات:
القسم الأول: أكثر روايات النوع الأول، وهي التي تُردِّد احتمال مدَّة حُكم المهدي (ع) بين خمسة أعوام وسبعة وتسعة وعشرة.
القسم الثاني: ما دلَّ من الأخبار على بقاء حُكم المهدي تسع عشرة سنة، فإنَّها روايات ثلاث مُتعاضدة، في بعضها: تسع عشرة سنة وأشهُر.
القسم الثالث: ما دلَّ من الأخبار على بقائه عشرين سنة، فإنَّ فيه خبرين روتهما عدد من المصادر العامة كما سمعنا.
وإذا أمكن إرجاع التسعة عشر والعشرين إلى مدَّة تقريبية واحدة - كما هو الأرجح -

↑صفحة ٤٣٧↑

كان القسمان الأخيران قسماً واحداً تدلُّ على صحَّته خمس روايات.
ومعه؛ يكون التحديد بين مدَّتين تقريبيتين: إحداهما بين الخمس والعشر، والأخرى بين التسع عشرة والعشرين.
هذا، ولا يبعُد أن تكون المدَّة التقريبية الأُولى أقرب إلى الصحَّة؛ باعتبارها الأشهر بين الروايات؛ على أنَّ الأمر ليس ذا أهمِّية بالغة، بعد الاطِّلاع على المفهوم العام الذي عرفناه في الجهة الأُولى، والتي لا تعدو هذه الأخبار أن تكون مصاديق له ومن تطبيقاته.
الجهة الرابعة: إنَّه بعد التمحيص الذي قلناه، لا حاجة لنا إلى الأخذ بأقوال الآخرين، في تمحيص هذه الأخبار، ولكن يحسن بنا في هذا الصدد أن نحمل فكرة عن الاتجاهات الرئيسية حول ذلك، وتتلخَّص في اتجاهين:
الاتجاه الأول: اتجاه الأخذ بالجانب المشهور من الروايات، وهو الذي رجَّحناه، وقد اختاره السيد (الصدر) في كتاب المهدي(٦٣٣)  - على ما في ظاهر عبارته - بعد الذهاب إلى أنَّ السبع سنين هو الأشهر.
وهو الذي ذهب إليه أيضاً أبو الحسن الآبري، حين قال: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى (ص) بخروجه، وأنَّه من أهل بيته، وأنَّه يملك سبع سنين... الخ.(٦٣٤)
أقول: ولا شكَّ أنَّ الروايات الواردة حول قضيَّة المهدي (ع) متواترة، بل تفوق التواتر بكثير... حتى إنَّ أكثر من (حقل) من حقولها يمكن أن يكون متواتراً بحياله، إلاَّ أنَّ أخبار بقائه في الحُكم سبع سنين بالتعيين لا تصل إلى حدِّ التواتر، على أنَّها معارضة بروايات عديدة تُعطي أرقاماً أُخرى غير السبع... كما سمعنا.
وهذا الاتجاه هو الذي اختاره ابن عربي في الفتوحات،(٦٣٥) حيث قال: اعلم - أيَّدنا الله - أنَّ لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً، فيملؤها قسطاً وعدلاً... - إلى أن قال: - يعيش خمساً وسبعاً وتسعاً، يقفو أثر رسول الله (ص) لا يخطى... الخ كلامه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٣٣) ص ٢٣٤.
(٦٣٤) انظر الصواعق المُحرِقة لابن حجر ص٩٩.
(٦٣٥) ص٣٢٧ ج٣.

↑صفحة ٤٣٨↑

الاتجاه الثاني: قول مَن يذهب إلى قبول كل الروايات، مع الالتزام بأنَّها تُعرب عن مراحل مُتعدِّدة من حياة المهدي وحكمه بعد ظهوره.
وهذا ما ذهب إليه جماعة منهم: السفاريني في لوائح الأنوار البهية، حيث يقول:(٦٣٦) ويمكن الجمع - على تقدير صحَّة الكل - بأنَّ مُلكه مُتفاوت الظهور والقوَّة، فيحمل الأكثر باعتبار جميع مدَّة المُلك، منذ البيعة، والأقل على غاية الظهور، والأوسط على الأوسط.
أقول: وهذا يعني أنَّ المهدي (ع) يبقى فاشلاً سنوات طويلة، فإنَّنا لو عطفنا رواية الخمس سنوات على رواية الأربعين عاماً... أنتج أنَّ المهدي يعيش خمساً وثلاثين عاماً من الفشل، وأمَّا لو أخذنا برواية الثلاثمئة والتسع سنين، كانت مدَّة الفشل أكبر أن تُقاس بمدَّة الحُكم والسيطرة، وهذا لا معنى له تماماً في المهدي الموعود المُطبِّق للغرض، إلاَّ على مَن خَلَق البشرية.
ونقله في الإشاعة،(٦٣٧) عن ابن حجر في القول المُختصر، وذكر تأييد ذلك بعدَّة أمور، نذكر منها ثلاثة:
الأمر الأول: أنَّ اللائق بكرم الله تعالى أن يكون مدَّة العدل، قدر ما ينسون فيه الظلم والفتن، والسبع والتسع أقلَّ من ذلك.
الأمر الثاني: أنَّه (ع) يفتح الدنيا كلَّها، كما فتحها ذو القرنين وسليمان، ويدخل جميع الآفاق، كما في بعض الروايات، ويبني المساجد في سائر البلدان، ويجلي بيت المقدس، ولا شكَّ أنَّ مدَّة التسع فما دونها، لا يمكن أن يُساح فيها ربع وخمس المعمورة، فضلاً عن الجهاد وتجهيز العساكر، وترتيب الجيوش، وبناء المساجد وغيرها.
الأمر الثالث: أنَّه ورد أنَّ الأعمار تطول في زمنه، كما في سيرته، وطولها فيه مُستلزم لطوله، وإلاَّ لا يكون طولها في زمنه.
ويحسن بنا أن نُناقش هذه الأمور الثلاثة مُختصراً.
أمَّا الأمر الأول، فهو صحيح والتفات لطيف، غير أنَّه لا يعود إلى شخص المهدي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٣٦) ج٢ ص ٧٢.
(٦٣٧) ص١٠٥ وما بعدها.

↑صفحة ٤٣٩↑

(ع)، بل إلى بقاء نظامه ودولته، وسيأتي في الباب التالي أنَّ مُجرَّد نسيان الأُمَّة للظلم والجور غير كافٍ في الإيمان بطول مدَّة الدولة المهدوية، وإن كان في نفسه أمراً صحيحاً، بل هناك فكرة نظرية سنعرضها بعد ذلك، تقتضي الالتزام بطولة مدَّة هذه الدولة أكثر من ذلك بكثير.
وأمَّا الأمر الثاني، فقد عرفنا فيما سبق أنَّه منطقي جدَّاً بالنسبة إلى تصوُّرات الحرب بالأسلوب القديم، وليس منطقياً أصلاً من خلال تصوُّرات الحرب الحديثة، وضمانات انتصار المهدي (ع).
وينبغي أن نلتفت إلى أنَّ المهدي سيفتح الدنيا أكثر ممَّا فتحها ذو القرنين وسليمان، فإنَّ مُلك ذي القرنين يُمثِّل(شريطاً) على الأرض، يبدأ باليونان وينتهي بجنوب شرق آسيا، وأمَّا مُلك سليمان فهو لا يعدو فلسطين نفسها، فإنَّه وحَّد بين دولتي اليهود: إسرائيل، ويهودا، وحكمهما بشريعة إلهية صحيحة، ولم يخرج مُلكه عن هذا النطاق.
وأمَّا المهدي (ع)، فقد تمَّ البرهان على أنَّه يحكم الدنيا كلَّها، وتدخل البشرية كلها تحت سيطرته.
وأمَّا الأمر الثالث، فهو أيضاً راجع إلى زمن نظامه ودولته، لا إلى زمن حياته الشخصية، فإنَّ طول الأعمار ناتج عن الراحة والاطمئنان النفسي، الناتج عن جوِّ العدل العالمي والأخوَّة البشرية الكاملة، وقد عرفنا - وسنعرف - أنَّ النظام العادل غير منحصر في زمن المهدي (ع)، بل سيبقى بعده إلى نهاية البشرية.
إذن؛ فهذه الأمور لا تصلح دليلاً على طول عمر المهدي (ع) بشخصه، بعد أن عرفنا أنَّ مُهمَّته الشخصية تأسيس المجتمع البشري، القابل للبقاء والتكامل إلى البشرية، وهذا ما يحدث، ضمن إمكانيَّاته، في زمن قصير، يمكن أن يكون خمس وسبع وتسع سنين.

↑صفحة ٤٤٠↑

الباب الثالث: التطبيق الإسلامي المهدوي والدولة المهدوية العالمية
ويتضمَّن هذا الباب عدَّة فصول:

↑صفحة ٤٤١↑

الفصل الأول: مجيء المهدي (ع) بأمر جديد وكتاب جديد
وهو ما نطقت به روايات عديدة، وممَّا يُمثِّل الجزء الأساسي من الأيديولوجية العامة لدولة المهدي عليه السلام؛ ومن هنا ينبغي أن يقع الحديث عن ذلك ضمن عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الدالة على ذلك:
وهي ممَّا اختصَّت به المصادر الإمامية فيما نعلم.
أخرج النعماني،(٦٣٨) بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، أنَّه قال: (لا بدَّ لنا... - إلى أن قال: - لكأنِّي أنظر إليه بين الركن والمقام، يُبايع الناس على كتاب جديد على العرب شديد...) الحديث.
وأخرج أيضاً،(٦٣٩) بسنده إلى أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام، يقول: (لو قد خرج قائم آل محمد (ع)... - إلى أن قال: - يقوم بأمر جديد وسنَّة جديدة، وقضاء جديد على العرب شديد).
وأخرج أيضاً،(٦٤٠) عن أبي بصير، عن أبي جعفر (ع)، قال: (يقوم القائم في وتر من السنين... - إلى أن قال: - فوالله، لكأنِّي أنظر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٣٨) الغيبة ص ١٠٢.
(٦٣٩) المصدر ص١٢٢ وما بعدها.
(٦٤٠) المصدر ص١٣٩.

↑صفحة ٤٤٣↑

إليه بين الركن والمقام، يُبايع الناس بأمر جديد (شديد)، وكتاب جديد، وسلطان جديد من السماء).
وأخرج المجلسي في البحار(٦٤١) عن النعماني، بسنده عن كامل، عن أبي جعفر (ع) أنَّه قال: (إنَّ قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد، كما دعا إليه رسول الله، وإنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء!).
وأخرج(٦٤٢) أيضاً عنه، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء!).
فقلت: اشرح لي هذا الأمر أصلحك الله.
فقال: (يستأنف الداعي منَّا دعاءً جديداً، كما دعا رسول الله (ص))، إلى غير ذلك من الأخبار.
وهذه الأخبار بحسب أعدادها كافية للإثبات التاريخي، وهي تُعطي عدَّة عناوين: الأمر الجديد، والسنَّة الجديدة، والقضاء والسلطان الجديد، والدعاء الجديد.
وليس فيها أنَّه يدعو إلى دين جديد، كما هو المشهور على بعض الألسنة.
الجهة الثانية: في مُحاولة إيجاد فَهْم عامٍّ لهذه الأخبار، بشكل يكون مرتبطاً بالتخطيط العام.
إنَّنا إذا لاحظنا الأحكام الإسلامية في عصر الغيبة، وهو عصر يبعد عن مصدر التشريع الإسلامي، وأخذنا بنظر الاعتبار من حيث وجودها النظري والتطبيقي، نجد فيها أربعة موارد من النقص والقصور.
المورد الأول: الأحكام الإسلامية التي لم تُعلَن للناس أصلاً، بل بقيت معرفتها خاصة بالله ورسوله والقادة الإسلاميين.
فإنَّ الأحكام التي أوصلها الله تعالى إلى البشر بواسطة الرسول (ص)، وعرفها قادة الإسلام...
منها: ما أُعلِن بين الناس لكي يكون مدار عملهم وفقههم لفترة مُعيَّنة.
ومنها: أحكام بقيت مستورة عن الناس، ومؤجَّل إعلانها إلى زمن ظهور المهدي وتطبيق العدل الكامل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٤١) ج١٣ ص١٩٤.
(٦٤٢) المصدر والصفحة.

↑صفحة ٤٤٤↑

وأوضح دليل على هذا الانقسام: أنَّنا نجد بالوجدان أنَّ عدداً مُهمَّاً من الأحكام، لم يكن في الإمكان أن يصدر في صدر الإسلام وزمن القادة الإسلاميين الأوائل؛ لعدم معرفة المجتمع بموضوعها بالمرَّة، وعدم مُناسبتها مع المستوى الفكري والثقافي له.... كحكم ركوب الطائرة، واستعمال القنابل، وحكم زرع القلب وغير ذلك.
ومعه؛ فالضرورة مُقتضية لتأجيل بيان هذه الأحكام، وإعلانها إلى ما بعد معرفة المجتمع بموضوعاتها، وهذا لا يكون مع البعُد عن مصدر التشريع بطبيعة الحال، وإنَّما تُعلَن عند اتصال البشرية مرَّة ثانية بهذا المصدر مُتمثِّلاً بالإمام المهدي (ع).
المورد الثاني: الأحكام التالفة على مرِّ الزمن، والسنَّة المُندرسة خلال الأجيال، ممَّا يتضمَّن أحكام الإسلام ومفاهيمه ويدلُّ عليها.
فإنَّ ما تلف من الكُتب التي تحمل الثقافات الإسلامية على اختلافها، بما فيها أعداد كبيرة من السنَّة الشريفة والفقه الإسلامي، نتيجةً للحروب الكبرى في تاريخ الواقعة ضدَّ المنطقة الإسلامية، كالحروب الصليبية، وغزوات التتار، والمغول وغير ذلك... عدد ضخم من الكُتب يعد بمئات آلالاف، ممَّا أوجب انقطاع الأمَّة الإسلامية عن عدد مُهمِّ من تاريخها وتراثها الإسلامي، واحتجاب عدد من الأحكام الإسلامية عنها.
المورد الثالث: إنَّ الفقهاء حين وجدوا أنفسهم محجوبين عن الأحكام الإسلامية الواقعية، في كثير من الأمور المستجدَّة، والوقائع الطارئة على مرِّ الزمن... اضطرُّوا إلى التمسُّك بقواعد إسلامية عامة مُعيَّنة، تشمل بعمومها مثل هذه الوقائع... وهي قواعد إسلامية صحيحة، تُنقذ الفرد عند جهله بالحكم وتُعيِّن له الوظيفة الشرعية، إلاَّ أنَّ نتيجتها في كل واقعة ليست هي الحُكم الإسلامي الواقعي والأصلي في تلك الواقعة، وإنًَّما هو ما يُسمَّى بالحُكم الظاهري، وهو يعني ما قلناه من تحديد الوظيفة الشرعية للمكلف عند جهله بالحكم الواقعي الأصلي.
وهذا النوع من الأحكام الظاهرية، أصبح بعد الانقطاع عن عصر التشريع وإلى الآن مُستوعباً لأكثر مسائل الفقه أم كلها تقريباً، ما عدا الأحكام الواضحة الثبوت في الإسلام.
والفتاوى التي يُعطيها الفقهاء في مؤلَّفاتهم، وإن لم تكشف عن هذا المعنى بصراحة، وإنَّما نراهم يُعطون الفتوى عادة بشكل قطعي، مُشابه لإعطائهم الفتوى بالحكم الواقعي الأصلي، إلاَّ أنَّ مرادهم بقطعية الحُكم: قطعية الحُكم الظاهري. أي: أنَّ هذه الفتوى هي غاية تكليف المُكلَّفين في عصر الاحتجاب عن عصر التشريع، وهي الفتوى التي

↑صفحة ٤٤٥↑

تتضمَّن إطاعة الله تعالى، وتفريغ ذمَّة المُكلَّف باليقين، وهذا أمر صحيح إلاَّ أنَّه لا يعني بحال أن تكون تلك الفتوى هي الحُكم الإسلامي الواقعي.
وهذا واضح لكل فقيه إسلامي، على مختلف المذاهب الإسلامية، ولا مجال في هذا التاريخ إلى الإفاضة في ذلك أكثر من هذا المقدار.
المورد الرابع: الأحكام غير المُطبَّقة في المجتمع المسلم، بالرغم من وضوحها وثبوتها إسلامياً، سواء في ذلك الأحكام الشخصية العائدة إلى الأفراد أم العامة العائدة إلى تكوين المجتمع والدولة الإسلامية؛ حيث قلنا: إنَّ الفشل في التمحيص الإلهي يوجب خروج أكثر الأفراد عن أحكام الإسلام الواضحة وضروريات الدين.
الجهة الثالثة: أنَّه بالرغم من وجود هذه الجهات من النقص والقصور في الأحكام الإسلامية، خلال عصر الانفصال عن عصر التشريع.
فإنَّنا قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى(٦٤٣) - وأشرنا في أول هذا التاريخ -: إنَّ مرور زمن الغيبة الطويل، يكون مُساعداً على رفع المستوى الفكري للأُمَّة الإسلامية من نواحي عديدة، ممَّا يجعلها على مستوى فَهْم الأحكام الجديدة والعمق الجديد لعصر ما بعد الظهور، وهذا مستوى ضروري للأُمَّة، بل للبشرية كلها، لكي تكون قابلة للتربية إلى المستوى اللائق بها المُستهدف للإمام المهدي عليه السلام.
وقد ذكرنا أنَّ المستوى الفكري للأُمَّة خلال عصر الغيبة يتعمَّق من عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: تعمَّق المفاهيم والتصوُّرات الإسلامية عن الكون والحياة، في ذهن المسلمين عامة، والمُفكِّرين الإسلاميين خاصة.
الجهة الثانية: تعمَّق الفهم القانوني والفقهي عند المسلمين، باعتبار ما تستجد من وقائع من ناحية، ومن طرق الاستدلال من ناحية أخرى.
والفقه، وإن كان قائماً في الأعمِّ الأغلب على مستوى الحُكم الظاهري كما قلنا، ولا يعني عمقه انكشاف الواقع للفقيه... إلاَّ أنَّ طريقة استنساخ الحُكم وفهمه، تكون أعمق وأشمل لا محالة.
الجهة الثالثة: الاطِّلاع على آراء وفلسفات الآخرين، من مختلف التيَّارات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٤٣) انظر ص٢٨٧ وص ٣٩١ منه.

↑صفحة ٤٤٦↑

الفكرية، مع التعمُّق التدريجي في نقدها ومناقشتها.
الجهة الرابعة: التعوُّد بعمق على حمل الهموم العامة، والاطِّلاع على أخبار الناس، والتجاوب مع أحداث العالم، هذا التعوُّد الذي لو أصبح موجَّهاً توجيهاً إسلامياً لكان اهتماماً بأمور المسلمين، وحملاً لهموم الأُمَّة الإسلامية، وبالتالي البشرية... كما هو اللازم على كل مسلم.
الجهة الخامسة: تعمُّق الفكر الكوني من الناحية العلمية، كالطبِّ، والفيزياء، والكيمياء، والفلك، وغير ذلك.
وكل هذه الجهات يكون طولُ المدَّة وكثرةُ البحث والتدقيق فيها موجباً لتطوُّرها وتكاملها، حتى ما إذا وصلت الأُمَّة إلى مستوى مُعيَّن فيها، كانت الأُمَّة يومئذ قابلة لفَهْم العمق الحقيقي للمستوى الفكري، الذي يقوم عليه نظام الإمام المهدي (ع) بعد الظهور.
الجهة الرابعة - من هذا الفصل -: إنَّ المجتمع المسلم بشكل عام، حين يصل إلى المستوى اللائق المطلوب في تخطيط العام، يكون في إمكان الإمام المهدي (ع) - بكل سهولة - إكمال تلك النواقص التي أشرنا إليها، وسيكون له تجاه كل نقص موقفٌ مُعيَّن، في حدود فَهْمنا في الوقت الحاضر:
الموقف الأول: موقفه من الأحكام غير المُبلَّغة، وهو واضح كل الوضوح؛ فإنَّ الأُمَّة بعد بلوغها المستوى لفَهْم الأحكام الدقيقة المُفصَّلة... بعد أن كان الإمام المهدي (ع) هو الوريث الوحيد من البشر أجمعين لتلك الأحكام غير المُعلنة، يرويها - بحسب الفَهْم الإمامي - عن آبائه، عن رسول الله (ص)، عن الله جلَّ جلاله... إذن يكون الوقت قد أزف لإعلان تلك الأحكام، لتُشارك في البناء العالمي العادل الكامل ضمن التخطيط العام الجديد لما بعد الظهور. هذا بحسب الفهم الإمامي للفكرة المهدوية.
وأمَّا بحسب الفَهْم الآخر لها لدى المسلمين الآخرين، وهو أنَّ المهدي شخص يولَد في زمانه، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً... فمثل هذا الشخص يكون حاله حال سائر الناس في اختفاء الأحكام غير المُبلَّغة عنه، وليست له أيَّة وسيلة للعلم بها بشكل طبيعي، لا بنحو الرواية ولا بغيرها.
كل ما نستطيع أن نتصوَّره له، هو أنَّه يُمثِّل القمَّة العُلْيَا في الفَهم الإسلامي المعاصر له، ذلك الفَهْم الذي علمنا أنَّه يحتوي - على عمقه وسعته - كل تلك النقائص التي سمعناها، فكيف يستطيع أن يملأ هذه الفجوات؟!..

↑صفحة ٤٤٧↑

وأمَّا القول: بأنَّ علم المهدي بهذه الأحكام يكون بطريق إعجازي، كالإلهام ونحوه، كما ذكر ابن عربي في الفتوحات،(٦٤٤) فهو غير صحيح لأمرين:
الأمر الأول: إنَّ هذا يتضمَّن معنى النبوَّة، فإنَّنا نعني بالنبوَّة نقل لأحكام من الله تعالى بلا واسطة بشر، وهذا المعنى يكون ثابتاً للمهدي، مع العلم أنَّه لم يدَّعِ أحد أنَّه نبيٌّ، ولا يجوز ذلك في شرع الإسلام.
الأمر الثاني: إنَّ هذه المعجزة مُنافية مع قانون المعجزات؛ لعدم انحصار إقامة العدل بها، لوضوح إمكان إبدالها بالفهم الإمامي للمهدي، ليكون نقل الأحكام عن طريق الرواية بشكل (طبيعي).
وأمَّا ما أثبتناه في التاريخ السابق،(٦٤٥) من وجود الإلهام، فهو - لا محالة - خاص بالأساليب القيادية التي تمتُّ إلى الوقائع الخاصة ونحوها بصِلَةٍ، لا إلى الأحكام الأصلية في الدين.
فإذا كان من المُقدَّر أن يكون الحُكم المُعيَّن الجديد، المُعلَن في دولة العدل العالمية المهدوية حُكماً أصلياً وثابتاً، شأنه شأن وجوب الصلاة وحرمة السرقة، فمثل هذا الحُكم لا يمكن أن يتلقَّاه المهدي (ع) مُباشرة من الله عزَّ وجلَّ بالإلهام، وإلاَّ ثبتت له مرتبة النبوَّة والرسالة، المنفيَّة عنه بالضرورة، وإنَّما يكون ذلك بالرواية فقط، ويكون الإلهام مُساعداً له فيما دون ذلك من الأشياء من خصائص القيادة العالمية.
الموقف الثاني: موقف المهدي (ع) من الأحكام التالفة.
وهو أيضاً واضح جدَّاً، فإنَّ المفروض أنَّ هذه الأحكام كانت مُعلَنة في صدر الإسلام، فهي لا تحتاج في فهمها إلى العمق الجديد في التفكير، وإنَّما كان فقط تحتاج المحافظة عليها وعدم إتلافها، إلى مستوى مُعيَّن من القدرة الدفاعية والشعور المسؤولية لدى المسلمين، الأمر الذي كان مفقوداً خلال أجيال المسلمين التي فقدت هذه الأحكام.
والمهدي (ع) - بالفهم الإسلامي - يكون عارفاً بهذه الأحكام عن طريقين:
الطريق الأول: الرواية عن آبائه، عن رسول الله (ص)، عن الله عزَّ وجلَّ.
الطريق الثاني: مُعاصرة هذه الأحكام قبل تلفها، حين كانت مُعلنة ومعروفة. وقد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٤٤) انظر الفتوحات المكِّيَّة ج٣ ص٣٢٧ وما بعدها.
(٦٤٥) تاريخ الغيبة الكبرى ص٥٠٥.

↑صفحة ٤٤٨↑

جاءت أجيال جديدة بعد تلف تلك الأحكام، غير مسبوقة بمضمونها ولا عارفة بحقيقتها... ولكنَّ المهدي (ع) وحده هو الذي كان مُعاصراً لتلك الأحكام، وبقي حيَّاً إلى حين ظهوره، فهو معهود بمضمون تلك الأحكام بالمباشرة، فيمكنه إعلانها من جديد بعد الظهور.
الموقف الثالث: موقفه من الأحكام الظاهرية.
وهو موقف واضح أيضاً، بعد الذي عرفناه من أنَّ الأحكام الظاهرية، تعني تعيين تكليف الإنسان من الناحية الإسلامية، ووظيفته في الحياة عند الجهل بالحكم الواقعي، ذلك الجهل الناشئ من البُعد عن عنصر التشريع.
وأمَّا إذا كان الفرد مُطَّلعاً على الحُكم الإسلامي الواقعي، فيحرم عليه العمل بالحُكم الظاهري، والمهدي يُعلن الأحكام الواقعية الإسلامية بأنفسها (يُظهِر من الدين ما هو الدين عليه في نفسه، ما لو كان رسول الله (ص) لحكم به)، على ما قال ابن عربي في الفتوحات.
وأمَّا عند الإمامية، فالمهدي (ع) هو إمامهم الثاني عشر، والأئمة المعصومون الاثنا عشر عليهم السلام ككل، بمَن فيهم المهدي نفسه، هم مصادر التشريع، يُمثِّل قولهم وفعلهم القسم الأكبر من السنَّة في الإسلام، فيكون الحكم الذي يُعلنه المهدي (ع) حكماً واقعياً بطبيعة الحال.
نعم، يبقى العمل بالأحكام الظاهرية موجوداً في الموارد الجزئية، التي قد يشكُّ فيها المُكلَّف ويجهلها من وقائع حياته، ومعه؛ فالحكم الظاهري سوف يرتفع في التشريع الأصلي، ويبقى في بعض التطبيقات الجزئية.
الموقف الرابع: موقفه من النقص الرابع، وهو عدم وصول بعض الأحكام الإسلامية إلى مستوى التطبيق في عصر ما قبل الظهور.
يقوم المهدي (ع) بنفسه بتطبيق الأحكام العامة، فيؤسِّس الدولة العالمية العادلة الكاملة، ويقوم برئاستها وإدارة شؤونا وتطبيق الأُطروحة العادلة الكاملة، بمستواها العميق الجديد، فيها.
وأمَّا الأحكام الخاصة التي تمتُّ إلى الأفراد بصِلَةٍ، فيُقتَل كلُّ عُصاتها، ولا يبقى إلاَّ ذاك الإنسان الذي يكون على استعداد لإطاعة الحُكم العادل، وتقديمه على كل مصالحه الشخصية الضيِّقة.

↑صفحة ٤٤٩↑

فهذه أربعة مواقف للإمام المهدي، يتمُّ فيها تغطية كل النواقص التي كان يُعانيها الإسلام والمسلمون خلال العصر السابق على الظهور.
الجهة الخامسة: أنَّه بعد أن اتَّضح كل ما قلناه، نعرف - بكل جلاء - ما هو المراد ممَّا ورد من أنَّ الإمام المهدي يأتي بأمر جديد وسلطان جديد.
ويحسن بنا أن نتكلَّم عن كل فقرة من هذه الفقرات، في نقطة:
النقطة الأُولى: يُراد بالسلطان الجديد، الأسلوب الجديد في إدارة الدولة وشؤون المجتمع... ذلك الأسلوب الذي كان مشروعاً في الإسلام، ولكنَّ البشرية لم تجد تطبيقه الصحيح، لا في الخلافة الأُمويَّة، ولا العباسية، ولا ما بعدهما من دول ومجتمعات؛ لأنَّها تختلف عن الأسلوب الإسلامي الصحيح اختلافاً جوهرياً في وسائلها وغاياتها.
فالمهدي (ع) يقوم بتطبيق هذا الأسلوب تطبيقاً كاملاً، مع التطويرات الجديدة التي يرى إجراءها عليه خلال سلطانه الجديد.
النقطة الثانية: يُراد بالأمر الجديد، أحد معاني مُحتملة:
الأول: الأمر بمعنى الطلب، الذي يُجمَع على (أوامر)، أي التشريع والحُكم؛ فيكون المراد الإشارة إلى ما سيُعلنه الإمام المهدي من أحكام جديدة في دولته، لم تكن معروفة قبل ظهوره.
الثاني: الأمر بمعنى العقيدة والاتجاه الفكري، وقد ورد بهذا المعنى في عدد من الروايات؛ ويكون المراد الإشارة إلى المستوى الفكري والعقائدي العميق الجديد، الذي يُعلنه المهدي (ع) في دولته.
الثالث: الأمر بمعنى الإمارة والإمامة والخلافة، ما شئت فعبِّر... وقد ورد بهذا المعنى في عدد من الروايات أيضاً؛ ويكون المراد منه ما يُشبه فكرة السلطان الجديد، غير أنَّ السلطان بحسب معناه العرفي شامل للقوانين العامة، على حين أنَّ الإمارة وصف لشخص الأمير، ومن المعلوم أنَّ إمارة المهدي شكل جديد من الإمارة غير ما سبق، حتى في حياة النبي (ص) لوجود عدَّة فروق بين دولة النبي (ص) ودولة المهدي (ع).
فإنَّ النبي (ص) سار مع المُنحرفين والمُنافقين بالمُلاينة، والمهدي (ع) يسير معهم

↑صفحة ٤٥٠↑

بالقتل، والنبي (ص) أجّل إعلان بعض الأحكام الواقعية، والإمام المهدي (ع) سيعرض الأحكام كلَّها، والنبي (ص) مارس الحُكم على رقعة محدودة من الأرض، في حين أنَّ الإمام المهدي يحكم كل المعمورة، إلى غير ذلك من الفروق التي حملنا عنها فكرة كافية.
ويكفينا في التجديد بالإمارة، أن تكون دولة المهدي (ع) عالمية، في حين لم تكن الدولة لأيِّ إنسان آخر في التاريخ عالمية.
النقطة الثالثة: يُراد بالدعاء الجديد أحد أمرين:
الأول: الدعاء إلى شيء جديد، وهو المفاهيم والأحكام التي يدعو إليها المهدي (ع) بعد ظهوره.

الثاني: أن يكون الدعاء بنفسه جديداً، كما هو ظاهر في التعبير فعلاً... وكما هو مقتضى التشبيه بدعاء رسول الله (ص)، كما سمعنا من بعض الروايات، فإنَّه دعاء جديد لم يُعهد مثله قبله، والمراد بالدعاء الإرشاد والدعوة إلى الحق والعدل، وهو مُشابه للنبي (ص) من حيث إخلاصه في أسلوبه، وحُرِّيته في بيانه، وعدالته في مضمونه، ورجوعهما معاً إلى مركز فكري واحد.
النقطة الرابعة: ما يُحتمل أن يُراد من (الكتاب الجديد) - بحسب التصوُّر الأوَّلي - عدَّة أمور:
الأمر الأول: أن يُراد به قرآن جديد يأتي على المهدي (ع)، في مقابل القرآن الكريم، معجزة الإسلام الخالدة.
وهذا باطل بالقطع واليقين؛ للضرورة القاضية بأنَّ الدين الذي يلتزمه الإمام المهدي (ع) هو دين الإسلام، وأنَّه يسير على كتاب الله وسنَّة رسوله، ولم يشكُّ أحد من المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وقد تواترت بذلك الروايات، واقتضاه التخطيط الإلهي العام، كما سبق أن ذكرنا وبرهنَّا.
وإذا أتى بقرآن جديد، فمعناه نسخه للقرآن الكريم، وخروجه على الإسلام، وهذا بخلاف هذه الأدلة القطعية الضرورية.
وعلى أيِّ حال، فمن القطعي أنَّه لا يأتي مُستقلاَّ ًولا بآية جديدة واحدة، فضلاً عن كتاب كامل.
الأمر الثاني: أن يُراد من ذلك، أنَّ المهدي يُعيد القرآن إلى شكله الذي كان

↑صفحة ٤٥١↑

عليه في زمن رسول الله (ص)، وهو شكل غير معهود للمجتمع المسلم قبل الظهور؛ ومن هنا كان موصوفاً بكونه كتاباً جديداً.
وتكون أشكال التغيير المُحتملة في القرآن الكريم عديدة، فإن صحَّت وصحَّ بعضها، كان هذا الأمر الثاني صحيحاً، وإن بطلت كلها كان هذا الأمر باطلاً.
الشكل الأول: أن يُبرِز القرآن الكريم مع زيادات في الآيات، لم تكن معروفة قبل الظهور، وهذا الشكل من الافتراض مبني على تصحيح ما ورد في بعض الروايات أنَّ القرآن، كان يحتوي على بعض الآيات في زمن رسول الله (ص)، وقد حُذِفت بعد وفاته، فإنَّه لو صحَّ ذلك، كان صدق هذا الافتراض ضرورياً؛ لأن أوْلى مَن يُعيد الآيات إلى وضعها الطبيعي، وإعلانها ثانية بين الناس، هو الإمام المهدي نفسه.
غير أنَّ الأخبار الدالَّة على وجود الحذف في القرآن الكريم، غير قابلة للإثبات، كما ثبت في محلِّه؛ ومعه يكون هذا الشكل من الافتراض غير ذي موضوع.
الشكل الثاني: أن يُبرِز القرآن الكريم مع تقديم وتأخير في آياته، مُماثل لأسلوب النزول، فإنَّه من المؤكَّد أنَّ القرآن الكريم بالشكل الذي نقرؤه ليس على ترتيب النزول.
غير أنَّنا سنقول في الشكل الثالث: إنَّ التغيير عن ترتيب النزول كان بأمر من رسول الله (ص) نفسه، فيكون تغييره عن ذلك الترتيب مشروعاً، لا حاجة إلى تغيير، بل إنَّ فيه خروجاً عن أمر النبي (ص) نفسه، فلا يقوم به المهدي (ع).
الشكل الثالث: أن يُبرِز القرآن الكريم مع تغيير آياته وسوره، بشكل يُصبح مُماثلاً لما كان عليه الترتيب في زمن رسول الله (ص)، بإشرافٍ وأمرٍ منه (ص)، فقد أصبح القرآن الكريم مُتغيِّراً عن ترتيب النزول، ولكنَّ ذلك بأمر الرسول (ص)، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى.
وهذا الشكل يتوقَّف على أن يثبت أنَّ ترتيب القرآن الكريم قد تغيَّر بعد رسول الله (ص)، لكي يُعيده المهدي(ع) إلى شكله الأول، وهذا لم يثبت بدليل كافٍ، بل من المؤكَّد أنَّ القرآن الكريم بشكله الموجود، هو الشكل الذي كان مُرتَّباً بأمر رسول الله (ص).
إذاً؛ فلم يثبت أيُّ شكل من هذه الأشكال الثلاثة؛ ومعه فالأمر الثاني ككل لا

↑صفحة ٤٥٢↑

يكون صحيحاً.
غير أنَّ هناك خبراً يدلُّ على صحَّة هذا الأمر الثاني، وهو ما رواه المفيد في الإرشاد(٦٤٦) مُرسَلاً، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، أنَّه قال: (إذا قام قائم آل محمد (ص) ضرب فساطيط، ويُعلِّم الناس القرآن على ما أنزل الله عزَّ وجلَّ، فأصعب ما يكون على مَن حفظه اليوم، لأنَّه يُخالف فيه التأليف).
والظاهر الأوَّلي لتعبيره هو الشكل الأول، يعني إعادة القرآن الكريم إلى ترتيب النزول (على ما أنزل الله عزَّ وجلَّ).
غير أنَّ الأدلة على بطلان ذلك الشكل والأشكال الأُخرى أقوى من أن نعود إليها بمثل هذا الخبر المُرسَل، على أنَّه يمكن فَهْمه على شكل آخر، سنُشير إليه غير بعيد.
الأمر الثالث: أن يُراد بالكتاب الجديد، أنَّ المهدي (ع) يُبرِز للملأ تفسيراً جديداً للقرآن الكريم عميقاً موسَّعاً، وأنَّه عليه السلام يُعطي قواعد عامة جديدة، تؤسِّس أسلوباً جديداً من التفسير والفَهْم للقرآن الكريم.
وهذا أمر صحيح لا محيص عنه، فإنَّه يُمثِّل حقلاً مُهمَّاً من العمق والشمول، الذي يتَّصف به الوعي البشري في عهد الدولة العالمية العادلة، ويكون جانب الجِدَّة فيه هو أنَّ الفَهم الجديد أعمق من كل الأفهام السابقة، والناسخ بحقائقه كل الاختلاف والتضارب الموجود في فَهم القرآن الكريم وتفسيره.
ولعلَّ هذا هو المراد من الخبر السابق، من حيث إنَّه يُراد من (... القرآن على ما أنزل الله عزَّ وجلَّ)، المقاصد والمعاني الواقعية للقرآن الكريم، تلك المقاصد التي لم تكن واضحة بالشكل الكافي في العصر السابق على الظهور، ويراد من مُخالفيه التأليف، مُخالفة الفَهْم التقليدي الاعتيادي الذي كان واضحاً في الأذهان في العصر السابق.
الأمر الرابع: أن يُراد بالكتاب الجديد التشريع الجديد، وإنَّما عبَّر عنه بالكتاب، باعتبار أنَّه مُشابه للكتاب - أعني القرآن الكريم - في احتوائه على التشريع، وباعتبار أنَّ الكتاب الكريم يحتوي على الأُسس الأصلية، ويكون التشريع الجديد مُستمدَّاً منه.
وهذا الأمر مُحتمل، في ما يقصد بالكتاب الجديد، غير أنَّه لا يُعادل وضوح الأمر الثالث الذي عرفناه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٤٦) ص ٣٤٤.

↑صفحة ٤٥٣↑

النقطة الخامسة: يُراد بالسنَّة الجديدة أمر واحد صحيح لا مناص عنه، وهو كلام الإمام المهدي (ع) وفعله وتقريره، بعد أن ثبت في محلِّه أنَّ السنَّة هي كلام المعصوم وفعله وتقريره، والإمام المهدي (ع) معصوم على ما يرى ابن عربي في الفتوحات(٦٤٧) وغيره.
وهو ممَّا أجمعت عليه الإمامية، وقام عليها مذهبها ومعه، فيكون كلام الإمام المهدي (ع) وفعله وتقريره سنَّة، تكون (حجَّة) بين المُكلَّفين وبين الله عزَّ وجلَّ، وواجبه الاتِّباع والإطاعة عليهم، لأجل تربيتهم وتطبيقهم للعدل الكامل في العلاقة مع الله والدولة والمجتمع، وإنَّما وُصِفت هذه السنَّة بالجديدة؛ باعتبار أنَّ مضمونها سيختلف عن السنَّة المنقولة في المصادر السابقة في الإسلام، باعتبارها ستحمل الأحكام الجديدة، والمفاهيم الجديدة، ومستوى الوعي العميق الجديد، الذي سيُعلنه الإمام المهدي (ع) ويُربِّي البشرية كلها عليه.
وسوف تكون سنَّته هي السنَّة الريئسية، التي تكون مدار استنتاج الأحكام وغيرها بعد المهدي (ع)... بل هي المنطلق الأساسي الذي تقوم عليه التربية المُستمرَّة بعده (ع)، مضافاً إلى الفَهْم الجديد للقرآن والسنَّة الأُولى الواردة عن قادة الإسلام الأوائل، في الحدود المُمضاة صحتها من قِبَل المهدي عليه السلام.
النقطة السادسة: يُراد بالقضاء الجديد أحد الأمور:
الأمر الأول: التخطيط الجديد للبشرية الذي يُسار عليه في عصر الظهور، والذي سمَّيناه بتخطيط ما بعد الظهور، وإنَّما عبَّر عنه بالقضاء، باعتبار أنَّ التخطيط الإلهي شكل من أشكال القضاء الإلهي، يكون الوجه في نسبته إلى المهدي (ع) باعتبار كونه موقوتاً بما بعد ظهوره، وباعتبار كونه مُشاركاً فيها مشاركة فعَّالة واسعة، كما سبق أن عرفنا.
الأمر الثاني: أن يُراد بالقضاء الجديد، التشريع الجديد الذي يُعلنه الإمام المهدي (ع) بعد ظهوره، فإنَّ التشريع من معاني القضاء لغةً، يُقال: قضى بكذا، إذا أمر به وشرَّعه.
الأمر الثالث: أن يُراد به كثرة القتل التي عرفنا أنَّ المهدي (ع) يقوم بها تجاه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٤٧) ج٣ص٣٢٨ وما بعدها.

↑صفحة ٤٥٤↑

المُنحرفين، فالقضاء هنا بمعنى حُكمه بوجوب قتلهم، وبمعنى القضاء عليهم واستئصالهم؛ ومن هنا سمعنا الروايات: أنَّه (... قضاء جديد على العرب شديد).
الأمر الرابع: أن يُراد بالقضاء الجديد ما أُشير إليه في بعض الروايات، من أنَّ المهدي (ع) سيتَّخذ أُسلوباً جديداً في القضاء وفصل الخصومات بين الناس، وأنَّه يحكم بحكم داود لا يسأل البيِّنة، وسيأتي التعرُّض إلى ذلك مع نقده في فصل آخر من هذا الباب.
وكل هذه الأمور الأربعة مُحتملة في معنى القضاء، غير أنَّ الأمر الثالث مُدعَم بقرينة تدلُّ عليه هي كونه (على العرب شديد)، بخلاف الأمور الأخرى.
الجهة السادسة: أنَّنا لم نجد في الأخبار أنَّ المهدي (ع) يأتي بدين جديد، كما هو المشهور على الألسن، وربَّما كان هذا تحويراً شعبياً لأحد هذه العناوين الستَّة التي سمعناها من الروايات، والتي يصعب استيعابها على الفرد الاعتيادي.
ولو كان ذلك وارداً في الروايات، لما كان المراد منه أنَّه يأتي بشريعة جديدة تُقابل الإسلام وغيره من الأديان؛ وذلك للقطع بكون المهدي (ع) ليس بنبي، وأنَّه لا نبي بعد نبي الإسلام، وأنَّ المهدي إنَّما يُطبِّق قانون الإسلام وشريعته، كما سبق أن عرفنا ودلَّت عليه الروايات المتواترة، فلو كان المراد منه ذلك لوجب طرح الرواية بإزاء الأدلة القطعية النافية لمضمونها.
لكنَّ الأنسب أن يُراد بالدين الجديد - لو كان مروياً - التشريع الجديد الذي يأتي به المهدي (ع)، باعتبار أنَّه يدان لله تعالى بإطاعته وتطبيقه.
الجهة السابعة: سمعنا من عدَّة من هذه الروايات، أنَّ المهدي (ع) يستأنف أمراً جديداً ودعاءً جديداً، كما أستأنفه رسول الله (ص)، أنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء.
أمَّا أنَّ النبي (ص) استأنف أمراً جديدا ودعاءً جديداً، فهو واضح، بعد الذي كان عليه المجتمع قبل الإسلام وفي السِّنِي الأُولى من النبوَّة، من الظلم والضياع، وقد أخرجته النبوَّة الجديدة من الظلمات إلى النور، ودلَّته على العدل الكامل.
وقد بدأ الإسلام غريباً، فقد كان المؤمنون في السِّنِي الأُولى للنبوَّة غرباء في مجتمع يعجُّ بالظلم والضياع، وبقيت هذه الغربة حتى اتَّسعت دعوة الإسلام وارتفعت غربته.
سيعود الإسلام غريباً حتى يعود المجتمع - نتيجةً للتمحيص العام - إلى الظلم والضياع

↑صفحة ٤٥٥↑

مرَّة ثانية، (فطوبى للغرباء) المؤمنين الذين يُمثِّلون الحق والعدل على مدى التاريخ.
وستبقى هذه الغربة إلى حين شروق شمس الهداية والعدل، عند الظهور، وسيُقيمه الغرباء بأنفسهم ويدعمونه بسواعدهم.
وسيستأنف المهدي (ع) عندئذ أمراً جديداً ودعاءً جديداً، كان قد تخلَّى عنه المجتمع منذ عهد بعيد، نتيجةً لانحرافه وفسقه، غير أنَّ هذه الجدَّة ليست مئة بالمئة، بل هي مُبتنية على ما قبلها، ومنطلقة منه كما لم تكن دعوة النبي (ص) جديدة ومئة بالمئة، بل كانت في أصولها وأُسسها العامة، مشتركة مع دعوات الأنبياء السابقين، غير أنَّ دعوة المهدي (ع) أكثر التصاقاً بتعاليم الإسلام من ارتباط دعوة النبي (ص) بتعاليم الأنبياء السابقين.

↑صفحة ٤٥٦↑

الفصل الثاني: موقف الإمام المهدي (ع) من القضايا السياسية والاجتماعية السابقة على الظهور

تمهيد:
يكاد يكون الحديث تحت هذا العنوان مُستأنفاً، بعد كل الذي عرفناه من الموقف المهدوي الحدِّي الصارم، تجاه الأنظمة والقوانين السابقة على الظهور، وأنَّه يُلغيها إلغاء تامَّاً، ويُبدِّلها إلى ما يراه هو مُطابقاً للعدل الكامل، ورأينا موقفه الحدِّي الصارم إزاء المُنحرفين، وأنَّه سيستأصلهم مُقدِّمة لتأسيس مجتمع العدل الجديد في العالم.
وليس مرادنا الآن تكرار ذلك، وإنَّما المراد المرور على شيء من التفاصيل، بمقدار الإمكان، عسى يمكننا استشفاف بعض الاتجاهات التي سيتَّخذها المهدي في دولته، بدلاً عمَّا يُلغيه من الاتجاهات، وما يشطبه من القوانين والمفاهيم.
وبالطبع، سنكون في حاجة إلى الاطِّلاع التفصيلي إلى حدٍّ معقول، على ما نعنيه من (القضايا السياسية والاجتماعية) السابقة على الظهور، لكي نُحدِّد موقف المهدي (ع) منها، والصعوبة الأساسية التي تحول دون هذا الاطِّلاع التفصيلي هي الجهل بموعد الظهور... الأمر الذي يقتضي الجهل بالأنظمة والقضايا التي تكون سابقة على الظهور مباشرة، كما هو معلوم.
ولا يمكن تذليل هذه المشكلة إلاَّ بإعطاء افتراض مُعيَّن، قد لا يكون صحيحاً في نفسه، ولكنَّ البحث على أساسه سيُلقي الكثير من الضوء على مواقف الإمام المهدي تجاه الأنظمة السابقة على الظهور، فيما لو تمَّ في عصر مُتأخِّر، وهذا الافتراض هو أن نزعم: أنَّ المهدي (ع) سيظهر في هذا القرن وما يُقاربه، بحيث لا يكون قد طرأ على القوانين والمفاهيم العامة المُعاصرة في عالم اليوم تغيير مُهمٌّ.

↑صفحة ٤٥٧↑

وهذا أمر محتمل، طبقاً لقاعدة الانتظار الفوري، التي تقتضي توقُّع ظهور المهدي (ع) في أيَّة لحظة، كما برهنَّا في التاريخ السابق،(٦٤٨) غير أنَّ هذا الافتراض يفتقر إلى الإثبات التاريخي، وهو ممَّا لا سبيل إليه، بعد نفي التوقيت الذي عرفناه.
وبهذا الافتراض، ستكون الأنظمة السابقة على الظهور هي الأنظمة المُعاصرة اليوم.
بهذا نُذلِّل قسماً مُهمَّاً من المشكلة، ولعلَّ الحديث حولها يُعطينا الأُسس العامة التي يمكننا من خلالها أن نتعرَّف - ولو إجمالاً - عن موقف الإمام (ع) من أيِّ نظام سابق على ظهوره.
ولا ينبغي أن نغفل في هذا الصدد، عن أنَّ غاية القصد هو الاطِّلاع على آراء المهدي (ع) واتجاهاته، بمقدار ما يهدينا إليه منهجنا في البحث المُتكوِّن بشكل رئيسي، من القواعد العامة الصحيحة والأخبار الخاصة بالمهدي (ع)، أمَّا الاطِّلاع على العمق الحقيقي للوعي والمستوى الفكري في مجتمع ما بعد الظهور، فقد برهنَّا في مُقدِّمة هذا التاريخ على استحالة اطِّلاع الباحث السابق على الظهور عليه، إلاَّ إذا كان مُعاصراً له، مهما أوتي من عبقرية ودقَّة تفكير.
وينبغي لنا هنا أن نفتح الحديث في عدَّة جهات؛ لكي نتعرَّف على بعض ملامح مواقف الإمام المهدي (ع) تجاه الأمور الدولية أولاً، والإدارية ثانياً، والاقتصادية ثالثاً، والاجتماعية رابعاً.
الجهة الأُولى: في إلقاء الضوء على موقف الإمام المهدي (ع) من القضايا الدولية الراهنة بشكل عام.
تتضمَّن القضايا الدولية أموراً كثيرة، تُعتبر قانونية ومُلزِمة بالنسبة إلى المجتمع الدولي؛ توخِّياً لمصالح مُعيَّنة تعود إلى الدول أنفسها.
فهناك الاتفاقيات والمعاهدات والأحلاف ونحوها، ممَّا تعقده الدول فيما بينها بشكل ثنائي وأكثر، لتنظيم العلاقات فيما بينها، اقتصادياً وثقافياً، وعسكرياً وغير ذلك.
وهناك التمثيل الدبلوماسي بين الدول، بشكله المعروف الذي يتضمَّن إلزام السفير بالتقريب بين الدولتين، وإيجاد العلاقات الحسنة فيما بينهما جهد الإمكان، وإذا لم يكن هناك سفير، كان مكانه قائم بالأعمال، وتتكفَّل دولة صديقة مصالح دولة ثانية بالنسبة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٤٨) انظر ص ٣٦٢ وص ٣٦٢ وص ٤٢٧.

↑صفحة ٤٥٨↑

إلى الرعايا الموجودين في دولة ثالثة، إذا فقد التمثيل الدبلوماسي بينهما.
ويتَّبع هذا النظام الدبلوماسي، نظام الاستقبال والتوزيع والزيارة، بين الدبلوماسيين والملوك والرؤساء من مختلَف الدول.
وإذا حصل هناك بين دولتين وأكثر ما لا يمكن حلُّه بشكل مُنفرد، فهناك مُنظَّمات دولية كفيلة بالحلِّ، فإن كانت المشكلة قضائية بطيعتها، كانت محكمة العدل الدولية كفيلة بتذليلها، وإن كانت المشكلة سياسية كانت هيئة الأُمم المُتَّحدة كفيلة بالسيطرة عليها.
كما أنَّ هيئة الأُمم المُتَّحدة كفيلة بحلِّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصحِّية، التي قد تحدث في الدول عن طرق لجانها الفرعية، كاليونسكو ومنظمة الصحَّة العالمية وغيرها.
ولا ينبغي أن نُغفِل - في هذا الصدد - القانون الدولي، الذي يُحدِّد العلاقات بين الدول، باعتبار سلامة الحدود والرعايا والاحترام المُتبادل، وتحديد الجريمة، ومكان العقاب ومقداره... فيما إذا ارتكب شخص من دولة جريمة في دولة أخرى، مضافاً إلى الصيانة الدبلوماسية للمُمثِّلين الدبلوماسيين، واحترام حقِّ اللجوء السياسي، وتحديد مقادير المياه الإقليمية التابعة للدولة، إلى غير ذلك من القضايا التي تفتَّق عنها الذهن البشري الحديث.
ولكن، هل أفادت كل هذه التنظيمات في حلِّ مشاكل البشرية؟ كلا، فإنَّ كل هذه التنظيمات لم تقم على أخلاقية مُعيَّنة، وإنَّما قامت على أساس المصلحة الخاصة محضاً.
فكان من الطبيعي، أن نجد أيَّ دولة حين لا يكون في مصلحتها اختيار أيِّ تنظيم من هذه التنظيمات والسير عليه، كان ذلك سهلاً بالنسبة إليها، بل واضحاً في موقفها، وليس هناك أيُّ ضمان حقيقي يلزم الدولة بتطبيق التشريعات الدولية.
ومن هنا؛ وجِدت الحروب باستمرار، ووجِد الاستعمار بشكليه القديم والحديث، وحصل الغزو الفكري والعقائدي للشعوب الضعيفة العزلاء؛ ولذلك أيضاً وجِدت الأحلاف الاعتدائية ووجِد التهاتر بين الدول والمقاطعة والعداوات.
ومن هنا؛ لم يكن لهيئة الأُمَم المُتَّحدة أيُّ ضمان في تطبيق قراراتها، ولم يكن لها لها أية فائدة حقيقية في منازعات الدول وإلغاء الحروب.

↑صفحة ٤٥٩↑

كما لم يكن لمحكمة العدل الدولية ضمان في تطبيق أحكامها أيضاً... إلاَّ في ما تراضت عليه الدولتان المترافعتان.
فهذا مرور خاطف بنقاط القوَّة ونقاط الضعف في الوضع الدولي الحديث، فما هو موقف الإمام المهدي (ع) ودولته من كل ذلك؟!
ولا ينبغي أن نتحدَّث في هذا الصدد عن انعكاس هذا الوضع الدولي على دولته... بمعنى أن نبحث عن رأي دولته في هذا الوضع فيما لو كانت عضواً مشاركاً فيه، فنتساءل عن مدى ما تقبله منه وما ترفضه، وهل ستكون - مثلاً - عضواً في هيئة الأُمم المُتَّحدة ولا؟ وهل ستتبادل السفراء مع الدول الأخرى؟
كل ذلك ينبغي أن لا نتساءل عنه بحال؛ وذلك أنَّه سوف لن يمضي وقت طويل بعد الظهور حتى تقوم الثورة المهدوية بتغيير النظام الدولي تغييراً أساسياً، تبحث معه كل نقاط ضعفه وتُلغي كل جذوره.
وذلك انطلاقاً من أساسين: نظري، وعملي.
أمَّا الأساس النظري، فباعتبار قيام هذا النظام الدولي على الانحراف والفساد أخلاقياً وعقائدياً، أما انحرافه الأخلاقي، فأهمُّ نقطة هو ما أشرنا إليه، من قيامه على أساس المصلحة الخاصة والأنانية المحضة، تلك التي لا يكون لها وجود في دولة المهدي، بل سيتبدَّل الحال إلى ملاحظة المصالح العامة الواقعية، وتطبيق العدل الكامل والعبادة المحضة لله عزَّ وجلَّ؛ الأمر الذي يُنتج تغييراً أساسياً في سير التاريخ البشري، وأمَّا انحرافه العقائدي، أعني النظام الدولي المعاصر، فأهمُّ نقطة فيه، هي قيامه على المادِّية في فَهْم الكون والعلمانية في فَهْم المجتمع... وإعطاء زمام قيادة الإنسان بيد الإنسان نفسه، وهذا ما سيشطب عليه المهدي (ع) بالقلم العريض، ويُقيم العدل الكامل في البشرية على ركائز مؤمنة بالعطاء الإلهي والقدرة والحكمة الإلهيين اللا نهائيّين، كيف وهو النتيجة الطبيعية للتخطيط الإلهي العام المُستهدف للعبادة الخالصة والعدل الكامل؟!
وأمَّا الأساس العملي، فهو أنَّه (ع) لا يعترف بتجزئة البشرية إلى حدود ودول... بل دولته عالمية واحدة، برئاسة واحدة، وقيادة واحدة، يتوصَّل المهدي إلى انجازها عن طريق الفتح العالمي، ومعه؛ تكون كل الأنظمة والقوانين الدولية غير ذات موضوع؛ لأنَّها إنَّما تُنظِّم العلاقات بين الدول المُتعدِّدة، ولا توجد يومئذ دول مُتعدِّدة.

↑صفحة ٤٦٠↑

وهذا الوضع العالمي الواحد، سيفتح باب الخيرات، ويزيل أكداس الأطماع والأنانيات، التي تقود الدول في عالم اليوم، ولن يكون للحروب أيُّ موضوع، وسيكون هذا الفتح مفتاح السعادة والرخاء، والسلام والعدل بين البشر أجمعين.
الجهة الثانية: في إلقاء الضوء على موقف الإمام المهدي (ع) من النظام الإداري الداخلي المُتَّبع في الدول المُعاصرة.
ولا بدَّ أنَّ القارئ يحمل فكرة كافية عن النظام الإداري... ولكنَّنا سنستعرَّض للنقاط المُهمَّة فيه، فالدول هيئة ذات كيان معنوي قانوني، تتكوَّن من منطقة مسكونة ذات حدود مُعيَّنة وهيئة حاكمة، ويتولَّى المسؤولية العُلْيا في الدولة مَلِك، ودكتاتور ورئيس جمهورية، مع رئيس للوزراء في غير النظام الرئاسي، وعدد من الوزراء، يتكفَّل كل منهم الإشراف على جانب من جوانب المجتمع المُهمَّة، كالخارجية والدفاع والمالية والاقتصاد والثقافة والتربية... وغير ذلك ممَّا تحتاجه الدولة في إدارة شؤونها، ممَّا قد يزيد وينقص باختلاف الدول.
ويوجد في جملة من الدول مجلس للبرلمان، يتكفَّل السلطة التشريعية في البلاد، والأساس النظري الذي يقوم عليه هو تمثيل أعضاء المجلس لفئات الشعب المختلفة؛ لكي تكون موافقتهم على القوانين موافقة للشعب نفسه، حتى يكون القانون النافذ على الشعب كأنَّه صادر من الشعب نفسه.
ويوجد في الدول أحزاب، بعضها سرِّي وبعضها عَلَني، وبعضها يُمارس الحُكم فعلاً، إمَّا بمفرده ومع غيره من الأحزاب.
وترى أكثر الدول لنفسها حق منع الأحزاب، والإذن لها بالنشاط، طبقاً لما ترى الدولة لنفسها من المصالح، ويُمثِّل كل حزب أيديولوجية مُعيَّنة ونظرة خاصة إلى الكون والحياة؛ ومن هنا يقع التناحر النظري والاجتماعي والمصلحي بين الأحزاب، بشكل خفيٍّ حيناً، وسافر أحياناً.
وإذا مارس الحزب الحكم في الدولة وحده، كان ذلك ما يُسمَّى بنظام الحزب الواحد، ويُطبِّق الحزب الحاكم على المجتمع نظرته الخاصة إلى الكون والحياة، ويرى الحزب الحاكم - عادة - حُرِّية الرأي والنشاط السياسي والاجتماعي لنفسه، ومنع أيِّ رأي ونشاط حزبي وفردي آخر.

↑صفحة ٤٦١↑

والوزارات في الدولة تُدار من قِبَل مديريات عامة ومؤسَّسات، يتكفَّل كلٌّ منها الإشراف على جانب من جوانب المجتمع، حسب الحاجة.
وتتكفَّل الدولة عادة الإشراف على المؤسَّسات والمرافق العامة، التي يصعب على الأفراد الإشراف عليها، كالجيش والشرطة، والسجون والكمارك، والبرق والبريد، والتعدين وتوزيع الماء والكهرباء، وبعض البنوك، وتزيد الدول الاشتراكية على ذلك الإشراف على كل التجارات والشركات والبنوك، وعمليات الاستيراد والتصدير والصناعات الكبيرة... وغير ذلك.
فما هو رأي الإمام المهدي (ع) في كل ذلك؟ وكيف سيكون شكل دولته العالمية؟
يمكن أن نُلخِّص ما يمكن إثباته تاريخياً وإسلامياً من ذلك، في عدَّة نقاط:
النقطة الأُولى: إنَّ الرئاسة العُلْيَا في الدولة لن تكون ملكية ولا رئاسية ولا دكتاتورية... بل ستكون إمامية، لأنَّ الحاكم الأعلى سيكون هو الإمام المنصوب من قِبَل الله عزَّ وجلَّ، سيُمارس هذا المنصب الإمام المهدي (ع) بنفسه ما دام موجوداً، ويُمارسها خلفاؤه من الأولياء الصالحين بعد وفاته، بالطريقة التي سنُشير إليها في القسم الثالث من هذا التاريخ.
هذا بالنسبة إلى الرئاسة المركزية في الدولة العالمية، ولكنَّ المهدي لن يُباشر بنفسه الإشراف على كل القضايا الجزئية في العالم، بل سيتكفَّل القبض على المقاليد العُلْيا للحُكم، بالمقدار الذي يرى هو المصلحة فيه، ويوكِل قيادة المناطق المختلفة في العالم إلى أصحابه المُخلصين المُمحَّصين (حكَّام الله في أرضه)، على ما سنعرف تفصيله في الفصل الآتي.
النقطة الثانية: إنَّ دولة الإمام المهدي ستخلو بطبيعة كيانها العقائدي من البرلمان بصفته السلطة التشريعية، فإنَّ هذه السلطة في إيديولوجية هذه الدولة، ليست للشعب ولا لمُمثِّليه، بل لله عزَّ وجلَّ وحده لا شريك له، طبقاً لتشريعه العادل الكامل.
نعم، يكون للإمام أن يحكم ويتصرَّف في حدود التشريع الأصلي، كما أنَّه سوف يبلغ فقرات جديدة من التشريع الأصلي، لم تكن معروفة قبل ذلك، كما يمكن إيكال البتِّ بعدد من الوقائع الفرعية إلى مجلس يُشبه البرلمان، ومجالس تُشبه المجالس البلدية... إلاَّ أنَّ وجودها الفعلي في الدولة المهدوية يفتقر إلى الإثبات التاريخي.

↑صفحة ٤٦٢↑

النقطة الثالثة: ليس هناك ما يُلقي الضوء على نوعية العلاقات بين المناطق المحكومة لأصحاب الإمام المهدي (ع).
إلاَّ أنَّ هذا ممَّا لا ينبغي التساؤل عنه، بعد العلم بأنَّ حكمها المركزي واحد، وإيديولوجيَّتها العامة واحدة، وقانونها العام الأصلي واحد، ومعه لا يبقى لحاكم المنطقة إلاَّ التطبيقات التي لا تجعل للدولة سيادة كاملة وشخصية قانونية مُستقلَّة عن الحُكم المركزي، شأنها في ذلك - إن صحَّ التمثيل - شأن الولاية الواحدة في الولايات المُتَّحدة الأمريكية، والجمهورية الواحدة من جمهوريات الاتِّحاد السوفيتي، مع فارق في الإيديولوجية والتشريع مع كلتا الدولتين.
النقطة الرابعة: لا شكَّ أنَّ الشكل الإداري للحُكم - سواء على مستوى المركز أم المناطق... - سيُمارس على الشكل المعهود للناس في زمانه، أعني الشكل المعهود لهم قبل الظهور مباشرة، من دون إدخال تغييرات غريبة على الأذهان فيه، وإن شملته إصلاحات كبيرة بطبيعة الحال.
ومعه؛ فنستطيع القول: إنَّه لو تمَّ الافتراض الذي سرنا عليه، وهو افتراض ظهور المهدي (ع) في هذا القرن... فسيكون الشكل الإداري لدولته، هو الشكل الإداري العام المعهود في الدولة المعاصرة، وهو إدارتها عن طريق الوزراء أولاً، والمُدراء العامِّين ثانياً، والمؤسَّسات الاجتماعية ثالثاً، بل قد يُستفاد من بعض الأخبار وجود رئيس للوزراء، وقائد أعلى للجيش في دولته.
لكن، لا ينبغي أن نُشير إلى الاختلافات بين الأشكال الإدارية المُعاصرة، لأنَّ الدولة المهدوية سوف لن تتَّبع شكلاً مُعيَّناً من هذه الأشكال، بعد الذي عرفناه من أنَّها تُدخل عناصر التطوير على الشكل العام، بالنحو المُطابق للمصلحة العادلة في عصر الدولة المهدوية.
النقطة الخامسة: في شأن الأحزاب في دولة المهدي (ع).
يمكن أن نُقسِّم الأحزاب من زاويتين:
الزاوية الأُولى: الانقسام الأوَّلي للأحزاب... بحيث يحقُّ لأيِّ إنسان أن يتَّخذ ما يشاء من الرأي والعقيدة، وأن يُدافع عمَّا يشاء من الآراء، وبهذا تنقسم الأحزاب - مثلاً - إلى يمينيَّة ويساريَّة وغير ذلك.
الزاوية الثانية: الانقسام في داخل مُعتقد مُعيَّن، كالانقسام في داخل المعسكر

↑صفحة ٤٦٣↑

الشيوعي وفي داخل المعسكر الرأسمالي، باعتبار الاختلاف على التفاصيل مع الاتِّفاق على عدد من الأصول الموضوعية.
والانقسام الأول: لا شكَّ أنَّه محظور في دولة المهدي (ع)، قد يستحقُّ الفرد عليه القتل فيما إذا تضمَّن اتجاهه مُخالفةً صريحة للأُطروحة العادلة الكاملة، وقد رأينا أنَّ مصير كل مُنحرف في دولة المهدي (ع) هو القتل.
وأمَّا الانقسام الثاني: ونريد به الانقسام في الاعتقاد بصحَّة الأُطروحة العادلة الكاملة، وعدم وجود مُخالفة صريحة لما تتبنَّاه الدولة المهدوية وتُركِّز عليه، فهل تكون الانقسامات الحزبية مُجازة في داخل هذا المضمون المشترك ولا؟
لا يوجد في هذا الصدد أيُّ دليل صالح للإثبات والنفي، نعم، لا دليل من القواعد العامة المعروفة على منع مثل هذه الانقسامات... كيف وإنَّ التربية للبشرية مبتنية عادة على التنافس، ووجدان الحقيقة منطلق في الأغلب من النقاش والجدل الحُرِّ؟!
ولئن كان التخطيط العام لعصر ما قبل الظهور، قد أبرز - بوضوح - فشل الزاوية الأُولى من الانقسام الحزبي، وكونه شرَّاً على البشرية... فإنَّ الزاوية الثانية لم تنزل إلى عالم التجربة بعد، ولم يظهر صلاحيتها من زيفها في مقام التطبيق، فإن رأت الدولة المهدوية المصلحة في إجازة هذا الانقسام الثاني، لا يكون في ذلك مخالفة للقواعد العامة المعروفة.
نعم، سيذوب هذا الانقسام تدريجياً؛ نتيجةً للتربية المُركَّزة التي تُمارسها الدولة المهدوية للبشرية، إذ سيصل البشر إلى مرحلة تكون مُدرِكة للمصالح والمفاسد في التفاصيل، كما هي مُدركة لها في الخطوط العريضة والقواعد العامة؛ ومعه يكون الانقسام غير ذي موضوع، إلاَّ أنَّ هذا لن يحدث في حياة الإمام المهدي نفسه على أيِّ حال.
النقطة السادسة: في سيطرة الدولة المهدوية على المرافق العامة للمجتمع.
لا شكَّ في سيطرة الدولة على المرافق التي يتعذَّر على الأفراد السيطرة عليها، كالجيش والقضاء، والسجون والبرق والبريد ونحوها، كما لا شكَّ في سيطرتها على ما ترى المصلحة في السيطرة عليه، لعلَّ منها بعض الشركات والبنوك، وكذلك ما تُنشؤه الدولة نفسها من معامل وما تقوم به من تجارات.
ولا دليل على أنَّ الدولة المهدوية ستمنع القطَّاع الخاص، من المعامل والبنوك والتجارات، غير أنَّه من الواضح - على ما سنُبرهن عليه في الكتاب الآتي - أنَّ المؤسَّسات

↑صفحة ٤٦٤↑

التي توجِدها الدولة وترعاها، وتنشر الرفاه والخير في المجتمع على أساسها، ستجعل القطَّاع الخاص يذوب ذوباناً تلقائياً، وتقلُّ أهمِّيَّته تدريجياً، إلى أن تنعدم، وسيستغني الأفراد بفيض الدولة المُباشر، ولعلَّ فيما يأتي في الفصل التالي ما يُلقي حزمة من الضوء على ذلك.
هذا، وينبغي الإلماح إلى الجيش والشرطة والسجون ستذوب أهمِّيَّتها تدريجياً أيضاً؛ نتيجةً للتربية المُركَّزة المُستمرَّة التي تقوم بها الدولة المهدوية للبشرية، بحيث تصل بها إلى مستوى عالٍ من الفهم والإخلاص.
ولعلَّ الجيش هو أسرعها ذوباناً؛ لأنَّ المفروض كونه سنداً للدفاع الخارجي، ضدَّ اعتداء الدول الأخرى، ومع وجود الدولة العالمية، لا توجد دول أخرى على الإطلاق... فتنتفي الحاجة إلى الجيش من هذه الناحية.
وأمَّا الشرطة والسجون، فستذوب تدريجاً بذوبان الجريمة الذي هو النتيجة الطبيعية لوصول البشرية في تربيتها إلى درجة عالية من الكمال، غير أنَّ هذا المستوى لن يحدث - عادة - في حياة الإمام المهدي، وإن كان لن يحدث أيضاً إلاَّ طبقاً للأُسس التربوية العامة التي هو يضعها، من أجل إيصال البشرية للكمال.
الجهة الثالثة: في إلقاء الضوء على موقف الإمام المهدي (ع) من القضايا والمشاكل الاجتماعية السائدة قبل الظهور.
وإذا أردنا أن نُشخِّص هذه المشاكل من وجهة النظر الإسلامية، التي تمَّ التمحيص على أساسها في التخطيط العام السابق على الظهور... نجدها تندرج في خطٍّ سلوكيٍّ مُشترك، شامل لكل العالم البشري - بشكل عام - وهو الانحدار الخُلقي الفضيع، الذي وصله الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، ولغاتهم وألوانهم وثقافاتهم.
وقد نشأت من هذا الانحدار الخُلقي آلاف المشاكل في كل مجتمع من مجتمعات البشرية على الإطلاق، على مختلف الأصعدة... ابتداءً من الغشِّ والتغابن في المعاملات والتسامح في حقوق الآخرين وأموالهم، وانتهاءً بابتناء القيمة الأساسية للعلاقات، على الأساس المالي إلى جانب التعامل بالربا، وصيرورته ضرورة من ضرورات الحياة... وتبذُّل النساء، وشرب الخمور، وإعلان الفجور، والسير في الزواج والطلاق والميراث على الخطِّ المدني، وتأسيس المدارس والمسابح والمسارح والسينمات المُختلطة والداعرة، وأنت تسمع الأغاني المُثيرة وترى الأفلام المُسفِّة في كل راديو وتلفزيون.ونشر الصور والأفكار الداعرة المثيرة جنسيَّاً، والتي تحثًّ على الجريمة في كثير من الأحيان، نشرها في الأعمِّ الأغلب

↑صفحة ٤٦٥↑

من صُحف ومجلاَّت ومُسلسلات العالم، بمختلف لغاتها ومذاهبها ومقاصدها.
وقد أصبح السير خلال هذا الخطِّ أمراً طبيعياً للفرد، بل لا تستقيم حياته - في رأيه - إلاَّ به، وأصبح صوت الفضيلة وشجب هذا الانحدار والنداء بالمحافظة على السلوك المتَّزن وأمراً غريباً موحشاً مُلفتاً للنظر، فقد (أصبح المُنكَر معروفاً والمعروف منكراً)، وعاد (الإسلام غريباً كما بدأ، فطوبى للغُرباء).
وموقف الإمام المهدي عليه السلام في كل ذلك واضح كل الوضوح، وهو الشطب على الانحدار جملة وتفصيلاً، وإبداله إلى جوِّ الفضيلة والعدل والكمال.
والمُهمُّ في المقام هو أن نُلقي بعض الضوء على البديل الرئيسي لهذا الوضع المُنحدِر، بحيث يستتبُّ معه النظام ويسود العدل الكامل، مع المحافظة - بطبيعة الحال - على العمق الحقيقي للفكر والوعي في مجتمع ما بعد الظهور، في طيِّ الكتمان رهيناً بحصول وقته.
إن ما نُدركه الآن من ذلك، وهو كما يلي:
إنَّ الإمام المهدي عليه السلام في دولته العادلة العالمية، سوف لن يُلغي الإذاعة والتلفزيون، ولا المسرح، ولا السينما، ولا المصايف، ولا المسابح، ولا المدارس، ولا المُستشفيات، ولا البنوك، ولا الصُّحف، ولا المجلاَّت، ولا المُسلسلات.
فإنَّ أساس الفكرة من وجود كل هذه الأمور أنَّه موجودة لخير البشرية، وتسهيل الحاجات الاجتماعية والفردية، فمن الطبيعي أن تأخذ دولة العدل بزمام المُبادرة، لاتِّخاذ هذه الأمور وسيلة نحو التكامل، وزرع الأخلاق والفضيلة والتكافل والتراحم بين البشر، وبالتالي وسيلة لتربية البشرية بشكل عام، والوصول بها إلى كمالها الأعلى المنشود.
فالإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما والصُّحف، ستكون وسائل لنشر الأفكار الهادية العادلة، وللترفيه البريء، والمصايف والمسابح ستكون موجودة بدون الانحدار اللا أخلاقي، بل مع الارتفاع بها إلى مستوى العدل والمصلحة الحقيقية، فإنَّ الترفيه غير مقتصر على الانحدار الحيواني ومُباشرة الرذيلة كما هو معلوم، فإنَّ في صور الطبيعة الكونية من العجائب والطرائف ما يُعجب النفس، ويُسرُّ الخاطر، ويُبهج الفؤاد، الشيء الكثير، ولا يكون الاقتصار على الترفيه المُنحدر، إلاَّ نتيجة لسوء السلوك وقصور التصوُّر؛ وبالتالي لنتيجة الفشل في التمحيص العام.
وأمَّا المدارس على اختلاف مستوياتها وأنواعها... فستكون طُرقاً لتربية الفرد وتثقيفه وتكامله، بالشكل الحق الذي يربط الكون بخالقه العظيم إيجاداً وتشريعاً، ربطاً

↑صفحة ٤٦٦↑

وثيقاً، والسير بالبشرية في هذا الطريق... وتُهمل كل الجهات التي تحمل الفرد على الانحراف واللا أخلاقية والعنصرية وعبادة المادَّة.
ومُجمل القول: إنَّ مناهج المدارس بشكل عام ستُحافظ على شكلها المنهجي الأكاديمي، ولكنَّها لن تُحافظ على شكلها العقائدي الجديد العادل المطلوب لتربية البشرية في خطِّها الطويل.
وسيكون سفور النساء، بمعنى انكشافهنَّ لأعيُن الرجال بشكل لا أخلاقي ولا إسلامي، ممنوعاً بطبيعة الحال ومُعاقباً عليه، فضلاً عن الانحدار نحو الرذيلة بأيِّ شكل من أشكالها.
ولكنَّ ذلك لن يمنع بأيِّ حال من دراسة المرأة لأعلى العلوم، وتلقِّيها لأدقِّ المعارف وحصولها على أحسن وأوسع النتائج، ولا يمنع حفاظها من قيامها بأيِّ شكل من أشكال التجارة والعمل، ولا يمنع اتِّصالها بالمجتمع وإزجائها لحاجتها المشروعة، مع الرجال والنساء معاً، وستُنظِّم الدولة العلاقة الاجتماعية بين الجنسين بقانون.
وسيكون التحاقد الطبقي مُنعدماً في المجتمع المهدوي، باعتبار ما سنعرف من توفير الدولة فرص العمل للجميع بسخاء وترتيب، وما سيناله كل فرد من أرباح وما يتقاضاه من الدولة من هبات، ما يُغنيه عن التفكير في الحقد الطبقي أساساً، فضلاً عن التثقيف الإيديولوجي ضدَّ هذا المفهوم الذي يتضمَّن الانشقاق الاجتماعي المروع.
وسيكون التحاقد العنصري بين ذوي اللغات المُختلفة غير موجود أيضاً، بل سيكون الجميع أخوة في العقيدة والهدف، أخوة في الإيمان والعمل، لا تفاضل بينهم إلاَّ بحسب ما يناله كل فرد من كمال حقيقي.
وسنرى لكل الذي قلنا هنا نتائجه المُهمَّة الموسَّعة، في بعض فصول هذا الباب، وسنسمع العديد من النصوص المُثبتة له، بعد أن تكلَّمنا الآن في حدود القواعد الإسلامية المعروفة فقط.

↑صفحة ٤٦٧↑

الفصل الثالث: ضمانات التطبيق السريع العميق للعدل الكامل في العالم

تمهيد:
تحدَّثنا في فصل سابق عن ضمانات انتصار المهدي (ع)، في سيطرته على العالم، ضدَّ قوى الشرِّ والظلم الموجودة قبل ظهوره.
والآن نتحدَّث عن الضمانات التي يملكها الإمام المهدي، في التطبيق السريع والأكيد والعميق للأطروحة العادلة الكاملة، في عالم كان يضجُّ بالظلم والآلام والمشاكل.
وهي ضمانات موجودة في شخصه وأصحابه والظروف العالمية، لا يمكن أن تتوفَّر لأيِّ شخص آخر.
وهي ضمانات تشترك في بعض تفاصيلها مع الضمانات السابقة، أعني أنَّ شيئاً واحداً كما يكون ضماناً للانتصار، فإنَّه ضمان للتطبيق أيضاً، وإن اختصَّ التطبيق بضمانات خاصة به على أيِّ حال.
وأغلب هذه الضمانات تُنتج مستويين للتطبيق:
المستوى الأول: الشروع في التطبيق لأول مرَّة، في العالم الذي كان يعجُّ بالآلام ويضجُّ من المظالم والمشاكل.
المستوى الثاني: الاستمرار بالتطبيق والسير به نحو التعمُّق والتكامل، في الخطِّ التربوي المُستمرِّ للبشرية جمعاء، وسيكون لهذا المستوى ضمانات خاصة به.
ونحن حين نتحدَّث عن هذه الضمانات، إنَّما نتحدَّث - كما فعلنا دائماً - ضمن الإمكانيات المُتوفِّرة، والمستوى الفكري في عصر ما قبل الظهور.

↑صفحة ٤٦٩↑

وسنفتح الحديث عن هذه الضمانات على كلا المستويين كلٍّ على حِدَةٍ.
المستوى الأول: ضمانات التطبيق العادل لأول مرَّة في التاريخ البشري، بعد انتهاء الفتح الإسلامي، وهي بنفسها الضمانات لو أُريد البدء بالتطبيق على نطاق محدود قبل انتهاء الفتح العالمي، فإنَّ كل منطقة يتمُّ فتحها يبدأ المهدي (ع) بتطبيق العدل فيها، حتى ما إذا استوعب الفتح العالم كلَّه، كان التطبيق عالمياً كاملاً.
وعلى أيِّ حال، فالضمانات هي الضمانات، وهذه الضمانات على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الضمانات الموضوعية للدولة المهدوية... أعني المُتوفِّرة له في الواقع على صعيد المجتمع والحياة.
الضمان الأول: وجود الأُطروحة العادلة الكاملة المُعدَّة للتطبيق في العالم، ضمن التخطيط العام السابق على الظهور، مُتمثِّلة بالإسلام، كما سبق أن برهنَّا.
ومن المعلوم أنَّ القانون إذا لم يكن مُعدَّاً سلفاً، وكان غير عادل كامل، كان ذلك أكبر عقبة في طريق التطبيق، وبالتالي في جني الثمار الاجتماعية الخيرة المطلوبة؛ ومن هنا كان وجود هذا القانون ضماناً أكيداً في النجاح، والدولة المهدوية تملك هذا القانون، حسب ما يعرفه المهدي نفسه.
إنَّه الأُطروحة العادلة الكاملة، مُتمثِّلة بالإسلام، بكل (فقراته) التي عرفناها:
الفقرة الأُولى: الأحكام الحقيقية التي كانت مُعلَنة قبل الظهور.
الفقرة الثانية: الأفكار والمفاهيم الناتجة عن تطوُّر الفكر الإسلامي.
الفقرة الثالثة: الأحكام والمفاهيم التي كانت تالفة يومئذ، والآن يتمُّ تجديدها وإعلانها.
الفقرة الرابعة: الأحكام والمفاهيم المؤجَّلة التي لم تُعلَن قبل ذلك، وكان إعلانها منوطاً بتحقُّق الدولة العالمية، فيكون الوقت عند تحقُّقها قد آن لإعلانها.
الفقرة الخامسة: الأنظمة التفصيلية التي يسنُّها القائد المهدي (ع) نفسه في حدود الأحكام الثابتة في الشريعة وعلى ضوئها، من أجل ضبط الوقائع المختلفة، وهي لا تقصر في وجوب إطاعتها عن تلك الأحكام.

↑صفحة ٤٧٠↑

الفقرة السادسة: القواعد العامة التي يضعها المهدي (ع) للحُكَّام الذين يوزِّعهم على الأرض، تلك القواعد التي تُمكِّنهم من مُمارسة الحُكم والقضاء العادلين في مناطق العالم.
الفقرة السابعة: القواعد العامة التي يضعها المهدي (ع) لخاصته، من أجل استمرار تربية البشرية وتكاملها في المدى البعيد.
وبهذه الفقرات تستطيع الأطروحة العادلة الكاملة أن تأخذ طريقها إلى التطبيق، وتربية البشرية بالتدريج.
الضمان الثاني: نقصان البشرية نقصاناً كبيراً، كما سبق أن سمعنا من الأخبار، وفهمنا أنَّه إنَّما يكون مع وجوب حرب عالمية مُدمِّرة قبل الظهور.
وقد كان هذا أحد الضمانات المُهمَّة لانتصار الإمام المهدي (ع) وسيطرته على العالم، وسيكون هو - على تقدير وجوده - ضماناً أكيداً لسهولة التطبيق وشموله؛ إذ من المعلوم أنَّ التطبيق العام على البشر حال كونهم قليلين أسهل بكثير منه حال كونهم كثيرين، وخاصة إذا كان النقصان بالنِّسَب الكبيرة التي سمعنا.
وهذا الضمان هنا - كما كان هناك - نافع على تقدير وجوده، وغير مُضرٍّ على تقدير عدمه، بمعنى أنَّ البشر لو بقوا على كثرتهم، ولم تحدث حرب عالمية وأيُّ سبب لنقصان... فكل ما يحصل هو ترتُّب نتائج هذا الضمان بشكلها المباشر، ولا يعني بأيِّ حال انخرام الهدف المهدوي وتعذُّر الانتصار والتطبيق... بعد أن كان للضمانات الأخرى دورها الكامل في إنجاز ذلك.
الضمان الثالث: زوال الناس المُنحرفين الفاشلين في التمحيص، وغير القابلين للتربية في التخطيط العام الجديد، ذلك النقصان الذي يُباشره المهدي وأصحابه بسيوفهم وأسلحتهم، طبقاً للأسلوب الذي عرفناه وتوخِّياً للنتيجة التي ذكرناها.
الضمان الرابع: الهيبة والرهبة التي يكتسبها الحُكم المهدوي في قلوب الناس؛ الأمر الذي يجعل عصيان قانونه والخروج على تعاليمه - ولو في الخفاء - أمراً مُتعذِّراً.
يحدث ذلك نتيجة لعدَّة عوامل مُهمَّة، نذكر عدداً منها:
العامل الأول: الأساس العقائدي والأخلاقي الذي تُرسِّخه الدولة المهدوية في

↑صفحة ٤٧١↑

نفوس الناس... من الإخلاص للقانون واحترام العدل والإيمان بصدق أهدافه، مع وضوح أنَّ الإخلال بقوانين تلك الدولة إخلال بالعدل وأهدافه
العامل الثاني: الإشراف المُترتِّب المضبوط على أفعال الناس، نتيجةً لمُمارسة كل المُخلصين - وهو في تزايد مُستمرُّ - هذا الواجب المقدس، وتصحيح ما قد يقع فيه الأفراد من أخطاء وهفوات.
العامل الثالث: ما يقوم به المهدي (ع) شخصيَّاً وبعض خاصَّته - بتعليمه - من أفعال وأقوال وطريقة في قيادة الدولة وتدبير أُمور المجتمع، ممَّا يعجز عن مثله الآخرون، وقد عجزت الدول السابقة كلُّها؛ نتيجةً للخصائص العُلْيَا التي اتَّصف بها المهدي (ع) وخاصته، ممَّا عرفناه، وسنُشير إليه غير بعيد.
العامل الرابع: كثرة القتل الذي يقوم به المهدي (ع)، وأصحابه للمُنحرفين لمدَّة ثمانية أشهُر، يقتل مَرَجاً ولا يستتيب أحداً، الأمر الذي يُحدث الأثر النفسي الكبير - ولمدَّة طويلة كافية للتربية - في التهيَّب والخشوع والتصاغر تجاه الحُكم المهدوي.
الأمر الذي يجعل عصيان قانون الدولة مُتعذِّراً، ويفسح مجالاً عريضاً للدولة، لإجراء قانونها وأنظمتها في كل المجالات.
العامل الخامس: إنَّ هناك بعض التصرُّفات صعبة التفسير ومجهولة السبب، يقوم بها المهدي (ع) لأجل مصالح واقعية يعرفها، ويمكن أن نجد منها بعض النماذج:
فمن ذلك: ما أخرجه النعماني،(٦٤٩) عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (بينما الرجل على رأس القائم يأمر وينهى، إذ أمر بضرب عنقه، فلا يبقى بين الخافقين إلاَّ خافه).
وما أخرجه المجلسي في البحار،(٦٥٠) عن السيد علي بن عبد الحميد في كتاب (الغيبة) بإسناده رفعه إلى جابر، عن أبي جعفر (ع) - في خبر عن القائم يقول فيه -: (إنَّما سُمِّي المهدي لأنَّه يهدي لأمر خفيٍّ، حتى إنًَّه يبعث إلى رجل لا يعلم الناس له ذنب فيقتله...) الحديث.
وأمثال هذه التصرُّفات، وهي واقعية الصحَّة، مجهولة لدى الناس، تجعل الفرد -

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٤٩) ص١٢٦.
(٦٥٠) ص٢٠٠ ج١٣.

↑صفحة ٤٧٢↑

كل فرد - يُعيد النظر لجديَّة بالغةٍ في قيامه بأيِّ انحراف وعصيان.
فبهذه العوامل ونحوها، تكتسب الدولة المهدوية هيبتها في صدور الناس على كل المستويات، الأمر الذي يجعل عصيان قانونها صعباً جدَّاً، ومن ثَمَّ يكون أخذها بزمام المبادرة للتربية والتطبيق العادل سهلاً مُيسَّراً.
الضمان الخامس: ما عرفناه مُفصَّلاً من إنتاج التخطيط الإلهي السابق على الظهور نتيجة مُهمَّة، وهي يأس الرأي العام العالمي من المبادئ والأُطروحات المُعلَنة، التي ادَّعت حلَّ مشاكل البشرية قبل الظهور، والشوق إلى حلٍّ عادل شامل يخرج البشرية من وهدتها العميقة.
وهذا الجوُّ الفكري والنفسي، يُهيِّئ للدعوة المهدوية والدولة المهدوية أفضل الفرص للتطبيق العادل الشامل، كما سبق أن علافنا مُفصَّلاً، فلا حاجة إلى التكرار.
القسم الثاني: الضمانات المُنبثقة من شخص الإمام المهدي (ع)، باعتبار ما يملك من خصائص وصفات.
الخصيصة الأُولى: العصمة التي تُمثِّل درجة عالية جدَّاً، وضرورية التأثير... من الإخلاص والإيمان وتقديم مصالح الهدف الأعلى الإلهي على كل مصلحة؛ وبالتالي فهي تقتضي فعل كل ما هو مشروع ومطلوب في الشرع الإلهي، وترك كل ما هو غير مشروع منه، ونعني بما هو مشروع وغير مشروع معناه الدقيق الشامل لمسؤوليات القيادة، وليس لمسؤوليات الفرد الاعتيادي فقط.
وقد عرفنا أنَّ هذه الصفة ممَّا قامت عليه الضرورة في المذهب الإمامي، ووافق عليه جملة من الباحثين العامة كابن عربي في الفتوحات، ومَن تابعه بعض مَن تأخَّر عنه.
الخصيصة الثانية: أنَّه متى ما أراد أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى إيَّاه، كما نطقت بذلك الروايات، وقد سبق أن بحثناه في تاريخ الغيبة الكبرى.(٦٥١)
وقلنا: إنَّ هذه الخصيصة تُعتبر من أعظم شرائط القيادة العالمية التي تكون بدونها مُتعذِّرة تماماً، فإنَّ الله تعالى حيث أوكل إلى المهدي (ع) هذه القيادة العامة، وعلمنا أنَّه يجب في اللطف الإلهي أن يُعطي الله عزَّ وجلَّ كل فرد منصوب لمُهمَّة القدرة على تنفيذ تلك المُهمَّة، وأن يختار الفرد القادر لو أمكن، وبالتالي لابدَّ من التساوق بين قابليَّات الفرد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٥١) ص٥١٥ وما بعدها.

↑صفحة ٤٧٣↑

ومهامِّه، لا يختلف في ذلك الأنبياء عن الأولياء.
وحيث تتوقَّف القيادة العالمية على خبرة واسعة جدَّاً، يتعذَّر الحصول عليها بأيِّ تنظيم بشري وأيِّ جهاز الكتروني، وخاصة إذا كان المطلوب هو تطبيق العدل المطلق وضمان استمراره.
إذن؛ فيتعيَّن صدق تلك الروايات وصحَّة مضمونها، ووجود هذه الصفة للمهدي (ع)، وهي أنَّه متى ما أراد أن يعلم أعلمه الله تعالى.
وممَّا يدعم ذلك بالنسبة إلى شخص المهدي (ع) ما أخرجه في البحار،(٦٥٢) عن السيد علي بن عبد الحميد في كتابه (الغيبة)، بإسناده رفعه إلى أبي الجارود، قال: قلت لأبي جعفر: جُعلت فداك، أخبرني عن صاحب هذا الأمر.
قال: (يُمسي أخوف الناس ويُصبح من آمن الناس، يوحى إليه هذا الأمر ليله ونهاره).
قال: قلت: يوحى إليه يا أبا جعفر؟
قال: (يا أبا الجارود، إنَّه ليس وحي نبوَّة، ولكنَّه يوحى إليه كوحيه إلى مريم بنت عمران، وإلى أُمِّ موسى وإلى النحل، يا أبا الجارود، إنَّ قائم آل محمد لأكرم عند الله من مريم بنت عمران وأُمِّ موسى والنحل).
ويتمُّ فَهْم هذه الرواية ضمن عدَّة نقاط:
النقطة الأُولى: إنَّ الوحي غير خاص بالأنبياء، بل قد يشمل غيرهم أيضاً، وقد نصَّ القرآن على عدَّة موارد من ذلك:
المورد الأول: إنَّ مريم بنت عمران (ع) تلقَّت الوحي عن طريق الملائكة، قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ... - إلى أن يقول: - إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).(٦٥٣)
بل ظاهر إحدى الآيات أنَّها تلقَّت الوحي من الله تعالى مُباشرة: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ...).(٦٥٤)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٥٢) ص٢٠٠ ج١٣.
(٦٥٣) آل عمران: ٣/ ٤٢ و٤٥.
(٦٥٤) آل عمران: ٣/ ٤٧.

↑صفحة ٤٧٤↑

فإنَّها خاطبت الله مباشرة، فورد الجواب مباشراً أيضاً، بحسب ظاهر العبارة.
المورد الثاني: إنَّ أُمَّ موسى تلقَّت الوحي أيضاً.
قال الله تعالى: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى).(٦٥٥)
وقال عزَّ وجلَّ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ...).(٦٥٦)
المورد الثالث: الحواريُّون: وهو خاصَّة أصحاب النبي عيسى (ع).
قال الله تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ).(٦٥٧)
ولم يكن الحواريون أنبياء ورُسلاً في حياة المسيح (ع)، باعتراف المسيحيِّين أنفسهم.
المورد الرابع: النحل: فإنَّها تلقَّت الوحي بالتعليم بما يخصُّ مصالحها، وما يُقيم لها حياتها، قال الله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً...).(٦٥٨)
وقد نصَّت الرواية على ثلاثة موارد من هذه الأربعة:
النقطة الثانية: إنَّ نوع الوحي يختلف في هذه الموارد الأربعة، فهو في النحل ليس أكثر من الأسلوب الفطري لحياة النحلة نفسها... كل ما في الأمر أنَّه بالنسبة إلى خالق الكون، ليس أُسلوباً (أعمى)، بل هو مُدبَّر بحكمة وإتقان.
وأمَّا أمُّ موسى، فلا نستطيع أن نقول أكثر من أنَّها قد (خطر) في بالها، وقد فكَّرت بأن تضع ابنها في صندوق وتُلقيه في النيل، فهي لم تشعر أنَّها فكرة ذاتية لها ليست

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٥٥) طه: ٢٠/ ٣٨.
(٦٥٦) القصص: ٢٨/٧.
(٦٥٧) ٥/ ١١١.
(٦٥٨) ١٦/٦٩.

↑صفحة ٤٧٥↑

(مستوردة) من أعلى، غير أنَّ القرآن الكريم يُخبرنا أنَّها إنَّما فكَّرت بذلك نتيجةً للتسديد الإلهي.
وأمَّا بالنسبة إلى مريم والحواريِّين، فظاهر القرآن الكريم، ثبوت الوحي (لفظاً ومعنى) بالنسبة إليهم، مع احتمال أن يُراد به (الإلهام) أيضاً، وهو إلقاء المعنى في الذهن من دون لفظ... فإنَّه من معاني الوحي لغةً أيضاً.
وعلى أيِّ حال، فتشبيه الإمام المهدي (ع) بهؤلاء، في الرواية لا يستدعي أكثر من ثبوت أقلِّ المراتب له (ع)، بمعنى أنَّه لا تثبت الزيادة إلاَّ بدليل آخر.
النقطة الثالثة: لا شكَّ أنَّ المهدي (ع) من أعاظم الأولياء، يكفينا أنَّه اختاره الله لتنفيذ غرضه الكبير من خلق البشر، وإنجاز العدل الكامل على وجه الأرض أفضل بكثير من مريم والحواريين وأُمِّ موسى، فضلاً عن النحل.
النقطة الرابعة: إنَّ كل صفة (كمالية) ثبت وجودها في الأقلِّ شأناً، فهي ثابتة لا محالة في نظائره (باعتبار المساواة)، وفي الأفضل (باعتبار الأولوية)، خُذْ مثلاً أنَّ (الكاسب) إذا استطاع أن يشتري داراً، فأحرى (بالتاجر) أن يشتري مثلها وأفضل منها، وإذا استطاع المُتخرِّج من إحدى الكلِّيات تأليف كتاب نافع، فالحامل لشهادة الدكتوراه أولى بالقدرة على ذلك.
النقطة الخامسة: أنَّه يثبت من ذلك، أنَّ أيَّ مرتبة ثبتت في إحدى هذه الموارد، ففي الإمكان ثبوتها للمهدي (ع) بالأولوية.
نعم، (وقوع) ذلك لا يدلُّ عليه التشبيه - كما قلنا - إلاَّ بأقلِّ مراتبه... ولكنَّه ليس هو المرتبة الضئيلة الثابتة للنحل على أيِّ حال.
النقطة السادسة: إنَّنا جعلنا هذه الرواية مؤيِّدة لقاعدة الإلهام بالنسبة إلى المهدي، ولكنَّها لا تصلح وحدها دليلاً.
أولاً: إنَّها لا تدلُّ إلاَّ على وقوع أقلِّ مراتب (الوحي) للمهدي (ع)، وهو - على كلِّ حال - أقلُّ من قاعدة الإلهام، إذا أراد الإمام أن يعلم أعلمه الله تعالى ذلك.
ثانياً: إنَّها مرفوعة، بمعنى أنَّها مجهولة الراوي، فلا تصلح للإثبات التاريخي.
ولكنَّها - على أيِّ حال - تحتوي على نقطة قوَّة هي اختصاصها بالمهدي، بخلاف الروايات الأخرى، فإنَّها عامة لكل إمام معصوم، فتثبت الخصيصة الثانية للمهدي بالعموم، لا بالتنصيص، وإن كان العموم كافياً على كل حال.

↑صفحة ٤٧٦↑

الخصيصة الثالثة: تكامل القيادة في شخصه (ع) بدرجات أعلى من (مُجرَّد) العصمة... واطِّلاعه على قوانين المجتمع والتاريخ البشري، بشكل لا يمكن لأحد غيره الاطِّلاع عليها.
كما سبق أن ثبَّتنا ذلك في التاريخ السابق،(٦٥٩) وفي هذا التاريخ.
والقائد المعصوم عموماً، قابل للقيادة العالمية، إلاَّ أنَّ المهدي ببقائه الطويل ومُعاصرته لمئات الأجيال البشرية، طبقاً للفهم الإمامي، تتكامل فيه صفة القيادة، ويكون في إمكانه الوصول إلى الأهداف المنوطة به والموكولة إليه، بشكل أسرع وأسهل وأعمق.
القسم الثالث: الضمانات المُنبثقة من صفات أصحابه عليه وعليهم السلام.
ونُشير هنا إلى ما سبق أن عرفناه مُفصَّلاً من شجاعتهم وإخلاصهم للعقيدة، والهدف ولإمامهم القائد (ع)، فإنَّ كل ذلك يُشكِّل نقطة قوَّة وضمانات لانتصار المهدي (ع)...
ونودُّ هنا أن نُشير إلى أمر آخر، سبق أن أشرنا إليه، وهو علمهم وفقاهتهم وحسن تدبيرهم لأمور المجتمع... وقد سمعنا وصفهم في الروايات بأنَّهم، النُّجباء والفقهاء، وهم الحُكَّام وهم القضاة.(٦٦٠)
وسيأتي في الفصل الآتي التعرُّض إلى طريقة حصولهم على مثل هذا العلم الواسع المُدِّبر للعالم، وأمَّا هنا، فأودُّ أن أُبيِّن وجه الحاجة إلى مثل هذا العدد الكبير من الفقهاء والحُكَّام، بحيث لو كانوا يُمثِّلون بعض هذا العدد وبعض هذه الثقافة، لما أمكن نجاح الدولة المهدوية العالمية؛ ومن هنا كان اتِّصافهم بهذه الصفات، وهذا العدد من أهمِّ ضمانات نجاح التطبيق العالمي.
ومن هنا - أيضاً - اقتضى التخطيط السابق على الظهور إيجادهم لإنجاح هذه التجربة، لمشاركتهم - أولاً - بصفتهم قادة عسكريين في الفتح العالمي، ومشاركتهم - ثانياً - بصفتهم رؤساء وحُكَّاماً لمناطق العالم وأقاليمه في الدولة العالمية.
ويحتاج بيان هذا المقصود إلى تقديم عدَّة مُقدِّمات:
المُقدِّمة الأُولى: إنَّه ثبت في الفقه الإسلامي، أنَّ رئيس الدولة لابدَّ أن يكون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٥٩) انظر ص٥١٤ وما بعدها، وانظر ص٥١٧ أيضاً.
(٦٦٠) انظر الملاحم والفتن ص١٧١.

↑صفحة ٤٧٧↑

جامعاً لشرائط خاصة، وحاصلاً على مؤهِّلات مُعيَّنة، لكي يكون أهلاً لتولي هذا المنصب الكبير، وكذلك لابدَّ أن يكون القاضي جامعاً لشرائط مُعيَّنة، لكي يكون نافذ الحُكم في نظر الإسلام، وقابلاً لحلِّ مشاكل المرافعات بين الناس.
وأهمُّ هذه الشرائط المشتركة بين الحاكم والقاضي معاً: العدالة، والفقاهة. ويُراد بالعدالة درجة كبيرة من الإخلاص والاستعداد للتضحية، تكفُّ صاحبها عن العصيان، وعن التمرُّد عن تعاليم الله، ويُراد بالفقاهة الاطِّلاع على أحكام الشرع الإسلامي اطِّلاعاً واسعاً، يُسمَّى بالاجتهاد في لغة الفقه لما قبل الظهور.
المُقدِّمة الثانية: إنَّ القدرة الفردية، مهما كانت كبيرة وعميقة، فهي قاصرة عن أن تباشر الحكم في العالم كله بمفردها، بحيث يكون لها مباشرة البتِّ في كل الوقائع الجزئية من شؤون الأفراد والمجتمع؛ لأنَّها تعدُّ بالملايين في الساعة الواحدة، فضلاً عن اليوم الواحد فالأكثر منه، وقد سبق أن قرَّبنا ذلك.
نعم، يمكن للمعجزة أن تُذلِّل ذلك، فتُعطي للفرد طاقة غير محدودة، إلاَّ أنَّ مثل هذه المعجزة لا يمكن افتراضها في حق الإمام المهدي؛ لكونها مخالفة لقانون المعجزات؛ وذلك لأجل وجود البديل الواضح لها، وهو مباشرة الحكم العالمي عن طرق الأفراد الكثيرين المُتمثِّلين بأصحابه المُمحَّصين، وإذا كان للمعجزة بديل طبيعي لم يكن لها مجال للتحقُّق والوقوع.
المُقدِّمة الثالثة: إنَّ المناطق التي يحتوي عليها العالم المسكون كثيرة، يكفينا من ذلك أنَّ الدول الأعضاء في الأُمَم المُتَّحدة الآن يزيد عددهم على المئة بأكثر من عشرة، وهناك مناطق ودول غير مشاركة في هذه الهيئة العالمية، ككل المُستعمرات وأغلب جُزر المُحيطات والمناطق القطبية.
هذا، مضافاً إلى أنَّ بعض الدول شاسعة المساحة جدَّاً، كالصين والاتِّحاد السوفيتي، والولايات المُتَّحدة، وكندا، واستراليا وغيرها، فلو حصلت المصلحة في تقسيم هذه الدول إلى عدَّة أقاليم في الدولة العالمية، حصلنا على عدد متزايد من الدول مع ضمِّها إلى ما سبق، بحيث يمكن أن تصل أقاليم الدولة العالمية إلى مئتين.
المُقدِّمة الرابعة: إنَّه ليست الحاجة مُقتصرة في كل منطقة على خصوص شخص الرئيس الذي يحكمها، بل تحتاج المنطقة والإقليم إلى جهاز إداري وقضائي كامل، يكون كل الأشخاص الرئيسيين فيه مُتَّصفين بالأهلية التي عرفناها... بما فيهم الرئيس والوزراء

↑صفحة ٤٧٨↑

والمُدراء العامين والقضاة، وكل مَن كان بمنزلتهم وأهمِّيَّتهم في الدولة.
يتَّضح من هذه المُقدِّمات وجه الحاجة إلى هذا العدد: الثلاثمئة والثلاثة عشر من القادة، والفقهاء، والحُكَّام والقضاة، إن لم نقل: إنَّه رقم يقلُّ عن الحاجة بقليل وبكثير، فإنَّنا لو سرنا على حسابنا السابق، فاعتبرنا لكل إقليم من الأقاليم المئتين عشرة أشخاص مؤهَّلين بالدرجة العالية، كانت الحاجة مُقتضية لوجود ألفي شخص من هذا القبيل.
غير أنَّنا ينبغي أن نلتفت إلى أنَّ الصفات العُلْيا لا ينبغي أن نتوخَّاها في كل إقليم إلاَّ لشخصين، هما الرئيس الأعلى والقاضي الأعلى، وأمَّا الباقون فيمكن اتِّصفاهم بنفس الصفات بدرجة أقلِّ، فإذا لم تبلغ إقليم الدولة العالمية إلى مئتين، بل اقتصرت على مئة وخمسين مثلاً، فتكون الحاجة مُقتضية لوجود ثلاثمئة من ذوي المؤهَّلات العالية، لا أكثر.
ويبقى من هؤلاء الخاصة ثلاثة عشر، ربَّما يتولُّون مهامَّ الحكم المركزي في العالم، إلى جنب الإمام المهدي نفسه، وقد نصَّت الروايات التي سنسمعها في الفصل لقادم، على وجود اثني عشر نقيباً من هؤلاء مع الإمام نفسه، والعدد الذي استنتجناه تقريبي على كل حال.
هذا، وستتمُّ تغطية الحاجة في أشخاص الوزراء والمُدراء، وباقي القضاة وغيرهم، من الأفراد المُتَّصفين الدرجة الثانية من درجات الإخلاص التي عرفناها، فإنَّها مساوقة مع وجود العدالة والفقاهة ببعض مراتبها أيضاً، بالمقدار الذي يؤهِّل المُتَّصفين بها إلى تولِّي هذه المناصب.
وعلى أيِّ حال، فإذا استطعنا أن نعتبر كل صفة من صفات الإمام المهدي ضماناً مُستقلاَّ ًللتطبيق العادل، الذي نتحدَّث عنه... لوضوح أنَّه لو تخلَّف أيُّ واحد منها كان موجباً لفشل التجربة العالمية وتضرُّرها على أقلِّ تقدير، فاعتبرنا عددهم ضماناً مُستقلاَّ ً، وعدالتهم المُتمثِّلة بإخلاصهم للعقيدة والقائد ضماناً ثانياً، وفقاهتهم ضماناً ثالثاً، وأضفناها إلى الضمانات السابقة، زادت الضمانات المُتوفِّرة للمهدي، للبدء بالتطبيق العادل على عشرة.
ولسنا بحاجة - بعد هذا - إلى القول: بأنَّ مجموع هذه الضمانات لا يمكن أن يتوفَّر لغير الإمام المهدي، مهما كانت حركته قويَّة ودولته واسعة، وقانونه عميقاً، وسواء كان أساسه مصلحياً أم عقائدياً على مرِّ التاريخ.
المستوى الثاني: في ضمانات دوام التطبيق واستمراره، بعد إنجازه واستتبابه لأول

↑صفحة ٤٧٩↑

مرَّة... سواء في حياة الإمام المهدي أم بعده.
وهي - أيضاً - عدَّة ضمانات، نُدركها الآن بوضوح:
الضمان الأول: اتِّضاح صحَّة التجربة المهدوية العالمية أمام الناس أجمعين، وأمام الرأي العام العالمي بالتعبير المُعاصر... ومدى السعادة والرفاه الذي يعيشه المجتمع، نتيجة لهذه التجربة وهذا التطبيق.
وهذا الوضوح يجعل الناس تلقائياً مؤيِّدين لبقاء واستمرار نظام المهدي أطول مدَّة ممكنة، ومُدافعين عن ذلك بما يملكون من رأي وسلاح.
وينبغي هنا أن نلتفت إلى أنَّه عند اتِّضاح صحَّة التجربة المهدوية، تخرج (الأُطروحة العادلة الكاملة) التي يُطبِّقها عن كونها مُجرَّد أُطروحة، فإنَّ الأُطروحة ما تكون مُحتملة الصحَّة... وسيكون ذاك التطبيق العالمي الكامل لها مُثبتاً لجدارتها وصحَّتها، وحُسن نتائجها بالحسِّ والعيان.
الضمان الثاني: اتِّضاح مدى الانسجام الذي حصل بين أفراد المجتمع، والأُخوَّة التي سادتهم، والطمأنينة والسلام المُسيطرة على ربوعهم... ربوع البشرية كلها.
وهذا الوضوح له نفس الأثر النفسي السابق بطبيعة الحال، وسنعرف تفاصيلها في فصل آتٍ من هذا الباب، يتعلَّق بإنجازات المهدي في دولته على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
الضمان الثالث: تربية أجيال الأُمَّة... والأُمَّة يومئذ تُمثِّل البشرية كلها... تربية صالحة، وتكميل إيمانها وإخلاصها، عن طريق التربية المُركَّزة المُستمرَّة، تكميلاً يجعلها لا ترضى عن إطاعة حكم الله وتنفيذ عدله الكامل بديلاً.
ومعناه - على وجه التعيين - أنَّه ستتمسَّك بحرارة بنظامها المهدوي الجديد، بصفته مُمثِّلاً لعدل الله وشريعته.
الضمان الرابع: تربية جماعة من خاصة الناس وعظمائهم إيماناً وإخلاصاً وثقافة، تربيتهم عن طريق التثقيف العميق والمُستمرّ، والنجاح في التمحيصات القويَّة المختلفة، التي سوف نُشير إلى بعضها... تربيتهم لكي يكونوا أولياء صالحين لتولِّي مهامِّ الرئاسة العالمية بعد المهدي... وتولِّي رئاسة المناطق المُختلفة بعد رؤسائها المُختلفين، فيما إذا ماتوا وانعزلوا ونُقلوا.

↑صفحة ٤٨٠↑

وواضح أنَّ إيجاد هذا الضمان ضروري لاستمرار نظام الحُكم المهدوي، وإلاَّ فسيكون نظامه منوطاً بشخصه، ولا يكون قابلاً للبقاء بعده... إذا لم يكن هناك مَن يُباشر السير فيه إلى نتائجه المطلوبة.
والفرق - بطبيعة الحال - موجود بين نتائج حكم المهدي ونتائج حكم خلفائه، للفرق الشاسع بينه وبينهم، من حيث درجة تكامل القيادة لديه ولديهم، وهذا ما سنتعرَّض له في الباب الأخير من هذا التاريخ، إلاَّ أنَّ أصل النظام يبقى موجوداً ومُستمرَّاً باعتبار الدفع الثوري الفكري والاجتماعي والتشريعي، الذي يوجده المهدي بين البشر، ذلك الدفع الذي تقوم الدولة بعد المهدي بانتهاجه، وتربية البشر تربية مركَّزة على أساسه.
فهذه هي الضمانات المُهمَّة التي نُدركها لاستمرار التطبيق العالمي... مع أخذ بعض الضمانات التي ذكرناها لابتداء التطبيق بنظر الاعتبار هنا أيضاً، فإنَّها تكون مؤثِّرة في كلا الحقلين، كما لا يخفى على القارئ اللبيب.

↑صفحة ٤٨١↑

الفصل الرابع: قيادات أصحابه ومقدار قابلياتها

تمهيد:
سبق أن عرفنا بكل تفصيل عدد أصحاب الإمام المهدي، من المُخلصين المُمحَّصين، ودرجة إيمانهم وإخلاصهم لعقيدتهم وقائدهم... ومقدار شجاعتهم وإقدامهم على التضحيات الجلّى في سبيل الله تعالى... ومقدار مشاركتهم وتأثيرهم في الفتح العالمي العادل.
وعرفنا - أيضاً - أنَّ عدد أصحابه غير مُنحصر بهؤلاء الثلاثمئة والثلاثة عشر، بعد أن دلَّت الروايات أنَّ نواة جيشه الأُولى التي تجتمع في مكَّة في أول الظهور، لا تقلُّ عن عشرة آلاف إنسان، فضلاً عمَّن يصل إليه بعد ذلك.
ودلَّت القواعد العامة على أنَّ التخطيط الإلهي لعصر ما قبل الظهور، يُنتج ثلاثة مستويات من الإخلاص، كلهم سيكونون من أصحابه - بشكل وآخر - ويكون المُخلصون من القسمين الأوَّلين قابلين لتولِّي أهمِّ الأعمال في دولة الإمام المهدي.
هذا، وينبغي أن ننظر إليهم الآن، بصفتهم أُناساً يُباشرون الأعمال الهامَّة، والحكم تحت إشراف الإمام، وتنظيمه لهم في العالم.
وينفتح الحديث حول ذلك في عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: في إيراد ما دار حول ذلك من الأخبار:
أخرج القندوزي في الينابيع،(٦٦١) عن أبي بصير، قال: جعفر الصادق رضي الله عنه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٦١) ص٥٠٩ ط النجف.

↑صفحة ٤٨٣↑

(ما كان قول لوط (ع) لقومه: (... لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، إلاَّ تمنِّياً لقوَّة القائم المهدي وشدَّة أصحابه، وهم الركن الشديد، فإنَّ الرجل منهم يُعطى قوَّة أربعين رجلاً، وإنَّ قلب الرجل منهم أشدُّ من زُبر الحديد، لو مرُّوا على الجبال لتدكدكت، لا يكفُّون سيوفهم حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ).
وأخرج في البحار(٦٦٢) الحديث الذي سبق أن رويناه، بالإسناد إلى الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (ع)، وفيه يقول: (يتمسَّحون بسرج الإمام (ع) يطلبون بذلك البركة، ويحفُّون به يقونه بأنفسهم في الحروب ويكفونه ما يريد، فيهم رجال لا ينامون الليل، لهم دويٌّ في صلاتهم كدويِّ النحل، يبيتون على أطرافهم ويُصبحون على خيولهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار، هم أطوع له من الأَمَة لسيدها، وهم من خشية الله مُشفقون).
وأخرج أيضاً،(٦٦٣) عن جابر، عن أبي جعفر (ع) قال: (كأنِّي بأصحاب القائم وقد أحاطوا ما بين الخافقين، ليس من شيء إلاَّ وهو مُطيع لهم).
وأخرج أيضاً،(٦٦٤) عن عبد الأعلى الحلبي، عن أبي جعفر (ع) في حديث طويل يقول فيه: (فيبعث (يعني المهدي) الثلاثمئة والبضعة رجلاً إلى الآفاق كلها، فيمسح بين أكتافهم وعلى صدورهم، فلا يتعايون في قضاء، ولا تبقى أرض إلاَّ نودي فيها شهادة أن لا إلاَّ الله، وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً رسول الله، وهو قوله تعالى: (... وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(٦٦٥)...) الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٦٢) ج١٣ ص١٨٠.
(٦٦٣) المصدر ص١٨٥.
(٦٦٤) المصدر ص١٨٨- ١٨٩.
(٦٦٥) آل عمران: ٣/٨٣.

↑صفحة ٤٨٤↑

وأخرج النعماني،(٦٦٦) بإسناده عن هارون العجلي، قال: قال أبو عبد الله (ع): (إنَّ صاحب هذا الأمر محفوظ له أصحابه، لو ذهب الناس جميعاً أتى الله بأصحابه، وهم الذين قال الله عزَّ وجلَّ: (... فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ(٦٦٧) وهم الذين قال الله فيهم: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ...)).(٦٦٨)
وأخرج أيضاً(٦٦٩) عن عبد الله بن حمَّاد الأنصاري، عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه (ع) قال: (إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض (في الأقاليم بأسرها) في كل إقليم رجلاً يقول: عهدك في كفِّك، فإذا ورد عليك ما لا تفهمه ولا تعرف القضاء، فانظر إلى كفِّك واعمل بما فيها...) الحديث.
وما أخرجه ابن طاوس في الملاحم والفتن،(٦٧٠) في حديث طويل، عن أبي بصير، عن جعفر بن محمد - يقول فيه: - فقال أبو بصير: جُعلت فداك، ليس على ظهرها مؤمن غير هؤلاء (يعني الثلاثمئة والثلاثة عشر)؟
قال: (بلى، ولكنَّ هذه العدَّة التي يخرج فيها القائم (ع)، وهم النُّجباء والفقهاء، وهم الحُكَّام والقضاة الذين يمسح بطونهم وظهورهم فلا يشكل عليهم (عليكم) حكم).
وما أخرجه في الإرشاد،(٦٧١) عن المفضَّل بن عمر، عن أبي عبد الله (ع) قال: (يخرج مع القائم (ع) من ظهر الكوفة سبعة وعشرون رجلاً، خمسة عشر من قوم موسى (ع) الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان وأبو دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالك الأشتر، فيكونون بين يديه أنصاراً وحكَّاماً).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٦٦) الغيبة للنعماني: ص ١٧٠.
(٦٦٧) الأنعام: ٦/٨٩.
(٦٦٨) المائدة: ٥/ ٥٧.
(٦٦٩) الغيبة ص١٧٢.
(٦٧٠) ص١٧١.
(٦٧١) ص٣٤٤. وانظر أيضاً إعلام الورى للطبرسي ص٤٢٣.

↑صفحة ٤٨٥↑

وأخرج المجلسي في البحار،(٦٧٢) عن المفضَّل بن عمر، عن الإمام الصادق (ع) في حديث عن أصحاب المهدي (ع) قول فيه: (وهم أصحاب الألوية، وهم حُكَّام الله في أرضه...) الحديث.
وقد ورد في (خُطبة البيان) التي عرفناها فيما سبق واطَّلعنا على نقاط ضعفها، ما ينفع بهذا الصدد، فلا ينبغي إهماله بأيِّ حال.
حيث ورد في النسخة الثانية من هذه الخُطبة(٦٧٣) ما يلي:
(ثمَّ يولِّي (يعني المهدي (ع) مكَّة جابر بن الأصلح ويُقبِّله العوام بالأبطح، فيرجع من العيلم ويقتل المشركين في الحرم، ثمَّ يولِّي رماع بن مصعب، ويقصد المسير نحو يثرب، فيعقد لزعماء جيوشه ورايته ويُقلِّد أصفياء أصحابه مقاليد ولايته.
ويولِّي شبابة بن وافر، والحسين بن ثميلة، وغيلان بن أحمد، وسلامة بن زيد أعمال الحجاز وأرض نجد، وهم من المدينة.
ويولِّي حبيب بن تغلب، وعمارة بن قاسم، وخليل بن أحمد، وعبد الله بن مضر، وجابر بن فلاح أقاليم اليمن والأكامل، وهم من أعراب العراق.
ويولِّي محمد بن عاصم، وجعفر بن مطلوب، وحمزة بن صفوان، وراشد بن عقيل، ومسعود بن منصور، وأحمد بن حسان أعمال البحرين وسواحلها، وعمان جزاريها، وهم من جزايرهن.
ويولِّي راشد بن رشيد، وحزيمة بن عوام، وهلال بن همام، وعبد الواحد بن يحيى، والفضل بن رضوان، وصلاح بن جعفر، والحسين بن مالك الحبشة، وجزاير الكراديس، وهم من مشارق العراق.
ويولِّي أحمد بن سعيد، وطاهر بن يحيى، وإسماعيل بن جعفر، ويعقوب بن مشرك، وغيلان بن الحسين، وموسى بن حارث الحبشة وأقاليم المراقش، وهم من الكوفة.
ويولِّي إبراهيم بن أعطى، والحسين بن علاب، وأحمد بن موسى،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٧٢) ص١٨٥.
(٦٧٣) إلزام الناصب ص٢٠٧ وما بعدها.

↑صفحة ٤٨٦↑

وموسى بن رميح، ويميز بن صالم، ويحيى بن غانم، وسليمان بن قيس مصادر الجذلان، وأعمال الدفولة، وهم من أرض قوشان.
ويولِّي طالب بن العالي، وعبد العزيز بن سلهب بن مرَّة، وهشام بن خولان، وعمر بن شهاب، وجيار بن أعيُن، وصبيح بن مسلم أقاليم الأدنى، وجزاير الكتايب، وهم من نواحي شيراز.
ويولِّي أحمد بن سعدان، ويوسف بن مغانم، وعلي بن مفضل، وزيد بن نضر، والجراد بن أبي العلا، وكريم بن ليث، وحامد بن منصور أقاليم الحمير، وجزاير الرسلات، وهم من بلاد فارس.
ويولِّي العمار بن الحارث، ومحمد بن عطاف، وجمعة بن سعد، وهلال بن داودية، وعمر بن الأسعد جزاير مليبار، وأعمال العماير، وهم من غريّ العراق الأعلى.
ويولِّي الحسن بن هشام، والحسين بن غامر، وعلي بن رضوان، وسماحة بن بهيج، الشام والأردنا، وهم من مشارق لبنان.
ويولِّي الجيش بن أحمد، ومحمد صالح، وعزيز بن يحيى، والفضل بن إسماعيل الشام الأقصى، والسواحل من قرى الشام الأوسط.
ويولِّي محمد بن أبي الفضل، وتميم بن حمزة، والمرتضى بن عماد بن طاهر، وأحمد بن شعبان بأقاليم مصر، وجزاير النوبة، وهم من أرض مصر.
ويولِّي الحسن بن فاخر، وفاضل بن حامد، ومنصور بن خليل، وحمزة بن هريم، وعطا الله بن حياة، وواهب بن حيار، ووهب بن نصر، وجعفر بن وثاب، ومحمد بن عيسى، وتفور وسايط النوبة، وأعمال الكرود، وهم من بلد حلوان.
ويولِّي أحمد بن سلام، وعيسى بن جميل، وإبراهيم بن سلمان، وعلي بن يوسف أعمال نواحي جابلقا وسواحلها، وأعمال مفاوز، وهم من الأزد.
ويولِّي ثابت بن حبيب، وموسى بن نعمان، وعباس بن محفوظ،

↑صفحة ٤٨٧↑

ومحمد بن حسان، والحسين بن شعبان جزاير الأندلس وأفريقيا، وهم من نواحي الموصل.
ويولِّي أبو يحيى بن حامد، وبنهان بن عبيد، وعلي بن محمود، وسلمان بن علي بن ترخان نواحي المراكش، وثغور المصاعد، ومروجة النخيل، وهم من أرض خراسان.
ويولِّي داود بن المُخبر، ويعيش بن أحمد، وأبا طالب بن إسماعيل، وإبراهيم بن سهل ديار بكر، ومشارق الروم، وهم من نصيبين وفارقين.
ويولِّي حمام بن جرير، وشعبان بن قيس، وسهل بن نافع، وحمزة بن معفر أقاليم الروم وسواحلها، وهم من فارس.
ويولِّي علقمة بن إبراهيم، وعمران بن شبيب، والفتح بن معلا، وسند بن المبارك، وقايد بن الوفا، ومصفون بن عبد الله بن مفارق قسطنطينية، وسواحل القفجاق، وهم من أصفهان.
ويولِّي الأخوين محمد وأحمد بني ميمون العراق الأيمن، وهما من المكين.
ويولِّي عروة بن مطلوب، وإبراهيم بن معروف العراق الأيسر، وهما من أهواز.
ويولِّي سعد بن نضار، ونزار بن سلمان، ومعد بن كامل، بلاد فارس وسواحل هرمز، وهم من همدان.
ويولِّي عيسى بن عطاف، والحسين بن فضال عراق الري والجبال، وهم من قم.
ويولِّي نصير بن أحمد، وعباس بن تنفيل، وطايع بن مسعود أعمال الموصل، ومصادر الأرمن، وهم من قرى فرهان.
ويولِّي الأمجد بن عبد الله، وأسامة بن أبي تراب، ومحمد بن حامد، وسفيان بن عمران، والضحَّاك بن عبد الجبار، والمنيع بن المكرم بلاد خراسان، وأعمال النهرين، وهم من مازندران.
ويولِّي المفيد بن أرقم، وعون بن الضحَّاك، ويحيى بن يرجم،

↑صفحة ٤٨٨↑

وإسماعيل بن ظلوم، وعبد الرحمان بن محمد وكثار بن موسى جبال الكرخ، وأقاليم العلان، والروس، وهم من بُخارى.
ويولِّي عبد الله بن حاتم، وبركة بن الأصيل، وأبو جعفر بن الزرارة، وهارون بن سلطان، وسامر بن معلا المالق ونواحي جين والصحارى، وهم من مرو.
ويولِّي رهبان بن صالح، وعمارة بن حازم، وعطاف بن صفوان، والبطال بن حمدون، وعبد الرزاق بن غيشام، وحامد بن عبادة، ويوسف بن داود، والعباس بن أبي الحسن أقاليم الديلم، والقماقم ثغور الشقاقش، والغيلان، وهم من سمرقند.
ويولِّي مطاع بن حابس، ومحمود بن قدامة، وعلي بن قينن، وضيف بن إسماعيل، والفصيح بن غيث بن النفيس، وماجد بن حبيب، والفضل بن ظهر، وغياث بن كامل، وعلي بن زيد مداين الخطا، وجبال الزوابق، وأعمال الشجارات، وهم من قم.
ويولِّي يعقوب بن حمزة، ومحمد بن مسلم، وثابت بن عبد العزيز، والحسين بن موهوب، وأحمد بن جعفر، وأبا إسحاق بن نضيع مغاليق الضوب، وقرى القواريق، وهم من نيشابور.
ويولِّي الحسن بن عباس، ومريد بن قحطان، ومُعلَّى بن إبراهيم، وسلامة بن داود، ومفرج بن مسلم، ومعد بن كامل بلاد الكلب، ونواحي الظلمات، وهم من القرى.
ويولِّي فضيل بن أحمد، وفارس بن أبي الخير، وأسد بن مراحات، وباقي بن رشيد، ورضى بن فهد، وعباس بن الحسين، والقاسم بن أبي المحسن، والحسين بن عتيق السدود وحيالها، وهم من نواحي خوارزم.
ويولِّي فضلان بن عقيل، وعبد الله بن غياث، وبشار بن حبيب، وسعد الله بن واثق، وفصيح بن أبي عفيف، والمرقد بن مرزوق، وسالم بن أبي الفتح، وعيسى بن المثنى أقاليم الضحضح، ومناخر القيعان، وهم من قلعة النهر.

↑صفحة ٤٨٩↑

ويولِّي الزاهد بن يونس، وعصام بن أبي الفتح، وعبد الكريم بن هلال، ومؤيَّد بن قاسم وموسى بن معصوم، والمبارك بن سعيد، وعزوان بن شفيع، وعلامة بن جواد أقاليم الغربين وأعمال القراعر، وهم من الجبل.
ويولِّي محمد بن قوام، وجعفر بن عبد الحميد، وعلي بن ثابت، وعطا الله بن أحمد، وعبد الله بن هاشم، وإبراهيم بن شريف، وناصر بن سليمان، ويحيى بن داود، وعلي بن الحسين أقاليم المعابد، وجبال الملابس، وهم من قرى العجم.
ويختار الأكابر من السادات الأعمال - العارفين لإقامة الدعائم منهم - اثني عشر رجلاً، وهم: محمد بن أبي الفضل، وعلي بن أبي غابر، والحسين بن علي، وداود بن المرتضى، وإسماعيل بن حنيفة، ويوسف بن حمزة، وعقيل بن حمزة، وعقيل بن علي، وزيد بن علي، وجابر بن المصاعد، ويولِّيهم جابرسا، وأقاليم المشرق، ويأمرهم بإقامة الحدود ومراعات العهود.
ثمَّ يختار رجالاً كراماً أحراراً أتقياء أبراراً، وهم معصوم بن علي، وطالب بن محمد، وإدريس بن عبيد، وإبراهيم بن مسلم، وحمزة بن تمام، وعلي بن الحسين، ونزار بن حسن، والأشرف بن قاسم، ومنصور بن تقي، وعبد الكريم بن فاضل، وإسحاق بن المؤيَّد، وثواب بن أحمد، ويوليهم جابرقا وبلاد المغرب، ويأمرهم بما أمر به أصحابهم.
ثمَّ يختار اثني عشر رجلاً، وهم: طاهر بن أبي الفرج، وسعد بن الكامل، ولوي بن حرث، ومحمد بن ماجد، ورضي بن إسماعيل، وظهير بن أبي الفجر، وأحمد بن الفضيل، والركن بن الحسين، ويولِّيهم الشمال وأعمال الروم، ويأمرهم بما أمر به مَن تقدَّمهم من الصدِّيقين.
ثمَّ يختار اثني عشر رجلاً نقيَّاً من العيوب، وهم: إسماعيل بن إبراهيم، ومحمد بن أبي القاسم، ويوسف بن يعقوب، وفيروز بن موسى، والحسين بن محمد، وعلي بن أبي طالب، وعقيل بن منصور، وعبد القادر بن حبيب، وسعد الله بن سعيد، وسليمان بن مرزوق، وعبد الرحمان بن عبد المنذر، ومحمد بن عبد الكريم، ويولِّيهم جهة الجنوب وأقاليمها، ويأمرهم بما أمر به مَن يقدمهم (تقدَّمهم).

↑صفحة ٤٩٠↑

ثمَّ بعد ذلك يُقيم الرايات، ويُظهر المعجزات، ويسير نحو الكوفة...) الحديث.
وينبغي أن نتحدَّث عن هذه الأخبار في الجهات التالية:
الجهة الثانية: بعض نقاط الضعف في خُطبة البيان، غير النقاط العامة التي عرفناها، والتي تُسقطها عن قابلية الإثبات التاريخي.
النقطة الأُولى: إنَّ مقتضى الفَهم العام للروايات الأخرى، هي أنَّ الخاصة الثلاثمئة والثلاثة عشر، هم سيقومون بالقيادة العسكرية الرئيسية منذ فتح العالم، وسيكونون هم أنفسهم الحُكَّام الذين يوزِّعهم الإمام المهدي على مناطق العالم، وأوضح ما دلَّ على ذلك من الروايات قوله: (وهم الحُكَّام والقضاة والفقهاء)، مضافاً إلى أنَّهم الصفوة، الذين هم في أعلى درجات الإخلاص من الجيل المُعاصر يومئذ من البشر أجمعين، فلن يجد المهدي - عادة - غيرهم لتولِّي الحُكم في العالم تحت إشرافه وقيادته.
وأمَّا خُطبة البيان، فيمكن فَهم خلاف ذلك منها؛ حيث دلَّتنا النسخة الأُولى منها على أسماء الخاصة بصفتهم، يجتمعون للإمام في أول ظهوره، ويُبايعونه وينصرونه.
ودلَّتنا النسخة الثانية من الخُطبة على أسماء الحُكَّام الذين يوزِّعهم لمهدي في أقاليم الأرض، وهو ما نقلناه قبل قليل، وقد نقلنا الأسماء الواردة في النسخة الأُولى عند الحديث عن بيعة المهدي.
وبعد ضمِّ النسختين إلى بعضهم، نستنتج - بوضوح - أنَّ الخاصة الذين يُبايعونه ليسوا هم الخاصة الذين يُمارسون الحُكم تحت قيادته، مع العلم أنَّه ليس هناك أيُّ اشتراك بين الأسماء في النسختين، كما هو واضح لمَن يراجعهما، وهذا على خلاف النتيجة التي ثبتت عندنا فيما سبق.
وقد يخطر في الذهن: إنَّنا لا نستطيع ضمَّ النسختين إلى بعضهما، بعد العلم أنَّ كليهما لم يصدرا من الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام، وإنَّما تعدَّدت النُّسخ في طريق الرواية فقط.
وجواب ذلك: إنَّ دلالة خُطبة البيان على أنَّ الحُكَّام هم غير الخاصة الذين يُبايعونه لأول مرَّة، كما يمكن أن نفهمه عند ضمِّ النسختين، بعد العلم أنَّ قيمة الإثبات التاريخي لأيٍّ منهما مساوية للأخرى... يمكن أن نفهمه أيضاً بضمِّ النسخة الثانية التي ذكرناها في هذا الفصل إلى الروايات الأُخرى التي سمعناها هناك، والتي لم نسمعها أيضاً، ممَّا ورد فيه تعداد أسماء الخاصة، الذين يُبايعون المهدي لأول مرَّة، فإنَّ أيَّاً من تلك الروايات غير

↑صفحة ٤٩١↑

مُطابقة مع هذه النسخة الثانية، فتدلُّ هذه النسخة - بعد ضمِّها إلى أيٍّ من تلك الروايات - على أنَّ هؤلاء الحُكَّام الذين ذكرتهم هم غير أولئك الخاصة، وهي خلاف النتيجة التي عرفناها.
النقطة الثانية: إنَّ هذه النسخة من خُطبة البيان دالَّة - بوضوح - على أنَّ الإمام المهدي يُعيِّن هؤلاء الحُكَّام قبل وصوله إلى الكوفة لأول مرَّة، وهذا معناه أنَّه يُعيِّنهم قبل سيطرته على العراق، فضلاً عن باقي العالم، وقد سمعنا فيما سبق أنَّه إنَّما يبثُّ الجيوش بعد وصوله إلى الكوفة.
وهذا المضمون لا يبدو صحيحاً، لورود اعتراضين عليه:
الاعتراض الأول: إنَّ تعيين الحُكَّام يومئذ لا يعني إرسالهم إلى المناطق التي جُعِلوا فيها؛ لوضوح أنَّ السيطرة لن تتمَّ على أيِّ شيء من هذه المناطق إلى حدِّ الآن؛ فلا بدَّ أن يفترض أنَّه تعيين (نظري)، لأجل إنجازه بعد الوصول إلى تلك المناطق، وهذا بعيد؛ باعتبار كونه تعييناً قبل وقت الحاجة، وإنَّما يحتاج إلى التعيين في كل منطقة بعد السيطرة على المنطقة بطبيعة الحال، ما لم تكن هناك مصالح إضافية في نظر الإمام لهذا التعيين (النظري)... والله العالم.
الاعتراض الثاني: معارضة رواية خُطبة البيان، بما دلَّ من الروايات على أنَّ تعيين الحُكَّام يتمُّ في الكوفة نفسها... كالرواية التي نقلنا قسماً منها عن المجلسي في البحار.
فإنَّه يذكر دخول المهدي إلى العرق أولاً، ومُنازلته للسفياني، واستتباب الأمر هناك... ثمَّ يذكر تحديه للروم - وهو صورة من صور الفتح العالمي - ويقول: ثمَّ يرجع إلى الكوفة، فيبعث الثلاثمئة عشر والبضعة رجلاً إلى الآفاق كلها... الحديث.
وهذه الرواية تُفيدنا أيضاً من زاوية أنَّ الحُكَّام الذين يُرسلهم المهدي، هم أولئك الخاصة الثلاثمئة والثلاثة عشر رجلاً، وليسوا أشخاصاً آخرين، كما دلَّت عليه خُطبة البيان.
النقطة الثالثة: إنَّ رواية خُطبة البيان تحتوي على خطأين في الترقيم.
الخطأ الأول: أنَّه يقول: (ويختار الأكابر من السادات الأعمال العارفين لإقامة الدعائم منهم، اثني عشر رجلاً...)، ويعدُّ عشرة فقط، وهم المسؤولون عن أقاليم المشرق من العالم.
الخطأ الثاني: أنَّه يقول: (ثمَّ يختار اثني عشر رجلاً)، ثمَّ يعد ثمانية فقط!! وهم

↑صفحة ٤٩٢↑

المسؤولون عن جانب الشمال من العالم.
وهذا خطأ واقع لا مناص منه، إلاَّ أنَّه خطأ في الرواية والنقل، حيث أسقط الرواة الأشخاص الآخرين سهواً.
وأمَّا الخُطبة في الواقع فهي - على تقدير صحَّتها - ليست ناقصة بطبيعة الحال.
النقطة الرابعة: إنَّ تقسيم المناطق على الحكَّام قابل للمُناقشة على عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: التكرار في المناطق خلال الرواية، إمَّا بنفس اللفظ، وبلفظ آخر.
فالحبشة تكرَّرت مرَّتين بهذا اللفظ، ومرَّتين بلفظ النوبة.
مع العلم أنَّ الحبشة والنوبة اسمان لبلاد واحدة في أفريقيا، وتكرَّرت (الروم) مرَّتين، وتكرَّر (المغرب) مرَّتين، تارة بلفظ (جابلقا) وأخرى بلفظ (جابرقا)، وهي أكبر مُدن المغرب،(٦٧٤) وجهة المغرب في بعض اللغات.
الجهة الثانية: أنَّه بينما نريد أن التعيين يتمُّ في مناطق العراق وإيران وشبه الجزيرة بكثرة... نرى إلى جانب ذلك أنَّ مناطق شاسعة ليس لها إلاَّ القليل من الأشخاص كإفريقيا، وجهات الجنوب، كأستراليا، وأمريكا الجنوبية.
الجهة الثالثة: إنَّ عدداً من المناطق المذكورة في الرواية غير معروفة على الإطلاق، وغير موجودة في المصادر والأطلس.
نعم، يمكن في بعضها فَهْم المناطق من زاوية اللغة القديمة، المُعاصرة لزمن صدور النصِّ، فقوله: (أقاليم الأدنى)، يُراد بها الأقاليم الشرقية القريبة من الشرق الأوسط، كأفغانستان، وباكستان، والجمهوريات الأسيوية الجنوبية من الاتِّحاد السوفيتي.
ويُراد بوسايط النوبة، ما يُصطلح عليه باللغة الحديثة بوسط أفريقيا، ويُراد ببلاد الروم، أوروبا على العموم، ويُراد بديار بكر ومشارق الروم، آسيا الصغرى وشرق أوروبا، وهي التي تحت الحُكم الشيوعي في العصر الحاضر، والجين بالجيم الفارسية هو الصين باللغة الحديثة، ويُراد بنواحي الظلمات أمريكا بأقسامها، الشمالية، والوسطى، والجنوبية باعتبارها واقعة وراء بحر الظلمات، وهو المحيط الأطلسي باللغة الحديثة.
هذا، ولكن يبقى بعد ذلك عدد من المناطق غير المعروفة، كما لا يخفى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٧٤) قال في مراصد الإطلاع: هي مدينة بأقصى المغرب:ج١ ص٣٠٤.

↑صفحة ٤٩٣↑

الجهة الثالث - من هذا الفصل -: في تقديم فَهْم عام لهذه الروايات، قبل الوصول إلى التفاصيل الآتية:
تقسيم خُطبة البيان العالم إلى تقسمين:
التقسيم الأول: وهو الأشمل والأوسع، وهو تقسيم العالم كله إلى أربع مناطق:
شمال، وجنوب، وشرق، وغرب... يُعيِّن لكل منطقة (لجنة) مُكوَّنة من اثني عشر رجلاً من الأتقياء الأبرار الصالحين.
وأمَّا تطبيق هذه المناطق على العالم، فلا تنطق به الرواية، ومن الصعب تطبيقه إلى حدٍّ ما... غير أنَّ أفضل ما نفهمه بهذا الصدد، هو أنَّ هذا التطبيق موكول إلى نظر القائد المهدي، طبقاً لما يرى من المصلحة.
التقسيم الثاني: تقسيم العالم إلى مناطق أصغر من ذلك، وقد يكون الحُكَّام المُعيَّنين فيها أقلَّ من درجات الإيمان من أولئك... بدليل على أنَّ الرواية دلَّت على مدح أولئك دون هؤلاء.
كما أنَّ مقتضى هذين التقسيمين، هو أن يكون الحاكم للمنطقة (الصغيرة) تابع في مسؤولياته إلى الحاكم للمنطقة (الكبيرة).
وهذا التقسيم الثاني هو المُشار إليه في الروايات الأخرى، مع شيء من الاختلاف، فإنَّ خطبة البيان تنصُّ على تعيين (لجنة) في كل إقليم، بخلاف الروايات الأخرى، فإنَّها تنصُّ على أنَّه (إذا قام القائم بعث في إقليم الأرض، في كل إقليم رجلاً).
على أنَّه من الممكن صدق كلا الروايتين، فإنَّ الحاكم الرئيسي أكثر من ذلك بطبيعة الحال.
وبذلك يُصبح أصحاب الإمام المهدي القائم وقد أحاطوا بما بين الخافقين، ليس من شيء إلاَّ هو مُطيع لهم، (ولا تبقى أرض إلاَّ نودي فيها بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً رسول الله)، وطبِّقت فيها الأُطروحة العادلة الكاملة.
وسيتمُّ تعيين حاكم مكَّة المُكرَّمة بمُجرَّد الخروج منه الأول، وإذا كان المهدي سيُسيطر على البلاد هناك قبل دخوله العراق، فسيتمُّ تعيين الجماعة التي تحكم نجد والحجاز، وأمَّا باقي الحُكَّام سيتمُّ تعيينهم بالكوفة، كما رجَّحنا تبعاً لوجود الحاجة إلى التعيين.
ومعه؛ فمن الممكن القول: بأنَّ التعيين سيكون تدريجياً، تبعاً لسيطرة المهدي

↑صفحة ٤٩٤↑

(ع) بالتدريج على العالم.
وقد رجَّحنا فيما سبق أنَّ تقسيم العالم سيكون إلى مئة وخمسين إقليماً على أقلِّ تقدير، وستكون الحاجة مُلحَّة عندئذ إلى استعمال الثلاثمئة والثلاثة عشر كلهم في الحُكم، مع إضافات أخرى من ذوي الإخلاص الأدنى من ذلك.، ومن المعلوم أنَّ المنطقة إذا كانت أصغر كان مباشرة الحكم وتطبيق العدل فيها أسهل.
وليس ما يُخالف ذلك في الروايات إلاَّ خُطبة البيان، فإنَّها قسَّمت العالم - بالتقسيم الثاني - إلى خمسة وثلاثين إقليماً، بعضها شاسع جدَّاً، حتى إنَّها اعتبرت إفريقيا كلها جزءاً من إقليم، مضافاً إلى جزاير الأندلس.
يتراوح عدد أفراد (اللجنة) الحاكمة لكل إقليم - في الخُطبة - بين خمسة إلى ثمانية، ويكون مجموعهم مئة وسبعة وتسعين... فإذا أضفنا إليهم الثمانية والأربعين الحاكمين - طبقاً للتقسيم الأول - كان المجموع مئتين وخمسة وأربعين، وهو ينقص عن عدد الخاصة بثمانية وستِّين فرداً، فلماذا حصل هذا الفرق؟!
وقد يخطر في الذهن: أنَّنا عرفنا أنَّ هؤلاء هم غير أولئك الخاصة، فمن الطبيعي أن يختلف رقم هؤلاء عن أولئك.
وجوابه: أنَّنا عرفنا أيضاً أنَّ هذا التفريق هو إحدى نقاط الضعف في خُطبة البيان؛ إذ ليس من المنطقي أن يعرض القائد المهدي (ع) عن تعيين أولئك الخاصة في أعلى مناصب الدولة العالمية، ويُعيِّن أشخاصاً آخرين أدنى منهم، إذ أدنى ما يلزم من ذلك الإخلال بالعدل الكامل المطلوب منه، مضافاً إلى دلالة الروايات على ذلك، كما سمعنا.
إذن؛ فلو بقينا نحن والنسخة الثانية لخُطبة البيان، لاستفدنا منها أنَّ هؤلاء الذين ذكرتهم، هم بعض أولئك الخاصة، ومعه يكون السؤال عن مصير البقيَّة الذين لم تذكرهم الخُطبة، متوجِّهاً...!
وعلى أيِّ حال، فإذا تمَّ توزيع الحُكَّام على كل أقاليم الأرض، كانت الدولة العالمية المهدوية قد استتبَّت لأول مرَّة.
أقول: والإقليم في العُرف قسم من الأرض، يختص باسم يتميَّز به عن غيره، فمصر إقليم، والشام إقليم، واليمن إقليم، مُعرَّب، وقيل: عربي، مأخوذ من قلامة الظفر؛ لأنَّه قطعة من الأرض.
وقال الجواليقي: ليس بعربي محض، جمعه: أقاليم.(٦٧٥)
هذا بحسب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٧٥) انظر أقرب الموارد ج٢ ص١٠٣٥.

↑صفحة ٤٩٥↑

اللغة، وأمَّا في الدولة العالمية، فالمراد بالإقليم كل منطقة مُحدَّدة، ذات حُكم داخلي مُستقلٍّ عن غيره، سواء كانت بمقدار الإقليم بالمعنى اللغوي وأكثر.
الجهة الرابعة: في إثارة بعض الأسئلة حول مجموع هذه الروايات، ممَّا قد يُلقي بعض الضوء على عدد من التفاصيل.
السؤال الأول: إنَّ المُخلصين عموماً، والخاصة منهم على الخصوص، سوف يُشاركون بطبيعة الحال في الفتح العالمي، وسوف ينقصون نتيجةً للحرب التي يخوضونها نقصاً كبيراً، فكيف يُفترض مشاركتهم بكامل عدَّتهم في الحكم؟
إلاَّ أنَّ في الخبرات التي عرفناها إلى حدِّ الآن ما يصلح جواباً واضحاً عن هذا السؤال، وخاصة إذا التفتنا إلى أمرين من خصائص الفتح العالمي:
الأمر الأول: الضمانات المُتوفِّرة للجيش المهدوي، ممَّا لا يمكن توفُّره لأيِّ جيش آخر، كالنصر بالرعب، ومعونة الملائكة، والحرب العالمية السابقة على الظهور، لو كانت قد وجدت، وأنَّ أفضل هذه الضمانات في صيانة الجيش المهدوي هو خبرة الإمام القائد نفسه، وحُسن تخطيطه لغزو العالم، كما سبق أن حملنا عنه فكرة مُفصَّلة.
الأمر الثاني: أنَّنا عرفنا بعدَّة أدلة أنَّ أكثر العالم سوف يدخل تحت الحُكم المهدوي، من دون قتال تقريباً، الأمر الذي يوفِّر للقائد (ع) كثيراً من الأسلحة والنفوس.
غير أنَّ هذا كله لا ينفي وجود القتال فيهم على نطاق ضيِّق، غير أنَّ المظنون أنَّ القتل لو حصل، فإنَّما يحصل على المُخلصين من الدرجة الثانية، لا المُخلصين من الدرجة الأُولى، أعني الخاصة الثلاثمئة والثلاثة عشر؛ لأنَّ هؤلاء الخاصة يكونون قوَّاداً، والقائد في الحرب القديمة يعيش خلف خطِّ النار؛ ليتوفَّر له المُراقبة وإصدار التعليمات باستمرار، وبالتالي المحافظة على نفسه، من أجل انتصار الجيش نفسه.
إذاً؛ فالحرب الحديثة تُعطي فرصاً واسعةً لصيانة القائد، فكيف بالتخطيط العسكري الذي يكون أكثر حكمة وعمقاً من هذه الحرب.
ومعه؛ يكون افتراض وجود الخاصة بكامل عدَّتهم بعد الحرب، كما هو ظاهر الروايات، أمراً ميسوراً، وأمَّا المُخلصين من الدرجة الثانية، فَهْم من الكثرة بحيث لا يؤثِّر فيهم القتل القليل نسبياً.
السؤال الثاني: قالت إحدى الروايات التي سمعناها: (يخرج مع القائم (ع) من

↑صفحة ٤٩٦↑

ظهر الكوفة سبعة وعشرون رجلاً، خمسة عشر من قوم موسى (ع) الذين كانوا (... يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون)، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبو دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالك الأشتر، فيكونون بين يديه أنصاراً وحكَّاماً).
وظاهر هذه الرواية رجوع جماعة من الأموات المؤمنين - ممَّا قبل الإسلام وبعده إلى الحياة - ليكونوا من أعوان المهدي (ع)، غير أنَّ هذا المضمون يواجه عدَّة اعتراضات:
الاعتراض الأول: أنَّ هذه الرواية غير كافية لإثبات هذه الفكرة؛ فإنَّها - باعتبار غرابتها - تحتاج إلى إثبات قوي، ولا يكفي فيها لخبر الواحد.
الاعتراض الثاني: أنَّ هذه الفكرة مُخالفة لقانون المعجزات؛ لأنَّ رجوع الميِّت إلى الحياة معجزة، والمعجزة لا تقع إلاَّ عند انحصار انتصار الحق بها، وعدم وجود البديل الطبيعي لها، ومن الواضح توفُّر البديل الطبيعي لدى المهدي (ع) في أصحابه، فإنَّ المُخلصين من الدرجة الأُولى، بل وكثير من أفراد الدرجة الثانية، يُماثلون - بكل تأكيد - الأعمَّ الأغلب ممَّن ذكرتهم هذه الرواية، كيف، وقد تمَّ تمحيصهم الكامل على الأُطروحة العادلة الكاملة، وكانوا نتيجة جهود البشرية في أكثر من ألف عام؟ على حين أنَّ المؤمنين السابقين على الإسلام لم يُعاصروا هذه الأطروحة، والمؤمنين المُعاصرين للإسلام لم يتمَّ تمحيصهم بالشكل الكامل، لوضوح أنَّهم وجِدوا قبل استكمال ظروف التمحيص والامتحان.
الاعتراض الثالث: أنَّنا لو غضضنا النظر عن الاعتراضين السابقين، كان اللازم رجوع أموات كثيرين إلى الحياة، ليسوا بأقلِّ ممَّن ذكرتهم الرواية، كالجيش الذي قاتل مع (طالوت) وقالوا: (... كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ...)،(٦٧٦) وكبعض الحواريين لعيسى بن مريم (ع)، وكعدد من أنبياء بني إسرائيل وغيرهم، كداوود، وسليمان، وشعيب، ويحيى، وغيرهم، ومثل أنصار النبي (ص)، الذين قُتلوا بين يديه في بدر وأحد وغيرهما، وبعض صحابته أيضاً غير مَن ذكرتهم الرواية، وعدد من علماء المسلمين على مرِّ الأجيال.
وإذا صرنا إلى مثل هذا التفكير، لم يكن من اللازم وجود أيِّ شخص من المُخلصين الأحياء، بل يمكن الاكتفاء بالأموات، ومعه يبقى تأخير ظهور الإمام المهدي (ع) وطول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٧٦) البقرة: ٢/ ٢٤٩.

↑صفحة ٤٩٧↑

غيبته بلا سبب، فتكون ظلماً للبشر؛ لأنَّه يعني بقاؤهم ضمن المشاكل والظلم مع إمكان دفعه عنهم بكل سهولة.
ومع تنزيه الله تعالى شأنه عن كل أشكال الظلم، يتعيَّن القول بعدم صحَّة المضمون الظاهر لهذه الرواية، في حدود فَهْمنا المعاصر.
ومعه؛ فلابدَّ من حملها على بعض أشكال الرمز، وأنَّ المراد التنبيه على أنَّ المخلصين المُتوفِّرين للمهدي (ع) ليسوا بأقلِّ رتبة في الإيمان والإخلاص، والعلم والعمل ممَّن عددتهم في الرواية، وهذا أمر صحيح كما عرفنا.
السؤال الثالث: إنَّ المُخلصين المُمحَّصين من الدرجة الأُولى، فضلاً عن الدرجات المُتأخِّرة، لم يُفرض فيهم أنَّهم مارسوا إدارة الدولة وقضاء في منطقة، خلال عصر ما قبل الظهور، كما لا يُفرض فيهم أنَّهم درسوا هذه الأمور من الناحية النظرية، بحيث يستطيعون تطبيقها في أيِّ وقت شاؤوا.
بل قد يكون الأمر بالعكس، كما يظهر من بعض الحقائق التي عرفناه، فإنَّ التمحيص يُنتِج اكتساب درجة عُلْيَا من الإيمان وقوَّة الإرادة، نتيجةً لردود الفعل الصحيحة تجاه ظروف الظلم والطغيان، ولا يُنتج التمحيص القدرة على القضاء، والمِران على أساليب الحكم.
إذاً؛ فمن زاوية كونهم مُمحَّصين، لا يعني كونهم قادرين على مثل ذلك، مضافاً إلى ما عرفناه في التاريخ السابق،(٦٧٧) من لزوم التزامهم بالتقيَّة خلال عصر التمحيص السابق على الظهور، بالمعنى الذي فسَّرناه هناك،(٦٧٨) قد يلزم منه البُعْد عن مُباشرة أساليب الحُكم والقضاء والانكماش عن الدولة الظالمة ككل، فإنَّه لو شارك فيها كان فاشلاً في التمحيص الإلهي، وبالتالي لم يكن من المُخلصين الذين لهم شرف الالتحاق بالإمام المهدي (ع) بعد ظهوره.
ينتج من ذلك أنَّ المُخلصين، بأيِّ درجات لم يُمارسوا حُكماً ولا قضاء في عهد ما قبل الظهور، فكيف يستطيعون مُمارسته في العالم تحت القيادة المهدوية، وخاصة أنَّ المطلوب ليس هو القيادة الاعتيادية، بل القيادة العادلة المُعمَّقة، ذات التربية المركَّزة والمُستمرَّة لكل البشرية، فكيف يتمَّ لهم ذلك؟
والجواب على ذلك: إنَّ هناك دليلاً عامَّاً، يوجب الالتزام بكون أصحاب الإمام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٧٧) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٤١٦.
(٦٧٨) المصدر ص ٤١٧ وما بعدها.

↑صفحة ٤٩٨↑

(ع) في أعلى درجات المعرفة والاطِّلاع؛
وذلك لليقين الذي نملكه بأنَّ دولة المهدي سوف تُطبِّق العدل الكامل، إلى جانب تلك الأخبار الضخمة التي تزيد على التواتر بكثير، والمرويَّة من قِبل الفريقين، بل الموجودة في التوراة والإنجيل أيضاً، كما سوف يأتي في الجزء الخاص بهما من هذه الموسوعة، الدالَّة كلها على وجود السعادة والرفاه في أجلى صورها في دولة المهدي، ووجود الإنجازات الضخمة فيها.
ومن المعلوم أنَّ مثل هذا العدل وهذه السعادة، لا يمكن أن تتمَّ بدون الخبرة الواسعة والثقافة العميقة لكل فرد ممَّن يُشارك في تكوين الدولة وإدارتها، فضلاً عن الرؤساء والقضاة.
إذاً؛ فالخبرة المُعمَّقة موجودة لديهم، كل ما في الأمر، أنَّنا ينبغي أن نحمل فكرة كافية عن أسلوب حصولهم على هذه الثقافة، وفي هذا الصدد تواجهنا عدَّة أُطروحات:
الأُطروحة الأُولى: أنَّهم يأخذون كلَّما يحتاجونه من علوم عن طريق المعجزة، لا عن طريق التعليم الطبيعي... إمَّا دُفْعة واحدة، وإمَّا بالتدريج حسب حاجاتهم في كل وقت.
ويمكن أن يستدلَّ على هذه الأُطروحة بوجهين:
الوجه الأول: إنَّ هذا هو ظاهر الأخبار السابقة نفسها، وهي بمجموعها قابلة للإثبات التاريخي.
حيث نسمعه يقول في أحد الأخبار: (وهم النُّجباء والفقهاء... الذين يمسح بطونهم وظهورهم، فلا يُشكِل عليهم حُكم...).
وفي الخبر الآخر: (فيمسح بين أكتافهم، وعلى صدورهم، فلا يتعايون في قضاء) , فإنَّ المسح بمُجرَّده ليس تعليماً، وإنَّما هو (سبب ظاهري) لإيجاد المعجزة التي تُعطي التعليم.
وكذلك قوله في الخبر الآخر: (عهدك في كفِّك، فإذا ورد عليك ما لا تفهمه، ولا تعرف القضاء فيه، فانظر إلى كفِّك واعمل بما فيها...)، دالٌّ على السبب الإعجازي إذا كان المراد أنَّ مُجرَّد النظر إلى الكفِّ كافٍ في ذلك.
وصحَّة هذا الوجه منوطة بقانون المعجزات، من حيث إنَّ دقَّة الحُكم وحُسن التصرُّف من قِبل هؤلاء، هل هو ممَّا يتوقَّف عليه نجاح دولة المهدي أولا؟ فمتى أصبح الأمر مُنحصراً بالمعجزة، كان وقوعها لازماً كيفما كان شكلها، ومتى لم يكن الأمر مُنحصراً

↑صفحة ٤٩٩↑

بها لم تقم المعجزة ألبتَّة، وسيأتي أنَّ المعجزة ليست سبباً مُنحصراً، باعتبار وجود الأُطروحات الطبيعية الأخرى البديلة لتلقِّي العلم من قِبل هؤلاء الحكَّام.
الوجه الثاني: أنَّنا قلنا في هذا التاريخ، والتاريخ الذي قبله،(٦٧٩) أنَّ الرئاسة العامة في المجتمع تتوقَّف على أن يكون الرئيس له من قِبَل الله هذه الصفة الإعجازية، وهي: أنَّه متى أراد أن يعلم أعلمه الله تعالى ذلك.
وقد طبَّقناها على الإمام المهدي نفسه بنجاح، وردت في ذلك عدَّة روايات.
فقد يُقال: إنَّنا نُطبِّقها على أصحاب الإمام أيضاً، فإنَّ كلاَّ ًمنهم قد أصبح في منطقته رئيساً، لا بدَّ له من حُسن التصرُّف وتطبيق العدل الكامل في إقليمه؛ ومعه يكون مُندرجاً تحت هذه القاعدة، وبها لا يعسر عليه حكم ولا قضاء؛ لأنَّ جميعه سوف يكون بإلهام إلهي مباشر.
ومن هنا قد يُقال: إنَّ المهدي (ع) إنَّما يمسح بطونهم وظهورهم مُقدِّمة لوجود هذا الإلهام فيهم، فإنَّهم بحسب وضعهم البشري الاعتيادي فاقدون لهذه الصفة، ما لم يقم المهدي بعمل مُعيَّن لإعطائها لهم وهو المسح.
إلاَّ أنَّ هذا الوجه غير صحيح أساساً لعدَّة وجوه، نذكر منها اثنين:
الوجه الأول: أنَّ هذه القاعدة خاصة بالرئيس الأعلى الذي ليس فوقه رئيس، وليس له موجِّه بشري، ولا حاكم أعلى منه، كالإمام المهدي نفسه، فإنَّه يحتاج إذا أشكلت عليه الأمور إلى الإلهام.
أمَّا لو كان للرئيس رئيس فوقه، يوجِّهه ويُدبِّر أمره، فإنَّه لا يحتاج إلى الإلهام، وإنَّما يمكنه أن يستفيد من توجيهات رئيسه وقائده، ويجب على القائد الأعلى أن يمدَّ ولاته باستمرار بالتوجيه والإرشاد؛ حتى لا ينقطعوا عن حُسن الرأي وعدالة التصرُّف، فتفشل قيادتهم، ومع إمكان هذا التوجيه، يكون افتراض وجود الإلهام أمراً مُستأنفاً.
الوجه الثاني: أنَّ أصل الدليل على ذلك خاص بالقائد العالمي المعصوم، وغير شامل لمثل هؤلاء الحُكَّام، وذلك لوجهين، نذكر أحدهما: وهو أنَّ وجه الحاجة إلى ذلك كان خاصاً بالقيادة العالمية، من حيث إنَّ القدرة على استيعاب الوقائع والأحكام العادلة التي تقتضيها في كل العالم، أمر خارج عن طوق القدرة البشرية لأيِّ فرد مهما كان عبقرياً؛ ومن هنا كان من الضروري إسعاف القائد العالمي بالإلهام من أجل تغطية هذه الحاجة الأساسية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٧٩) تاريخ الغيبة الكبرى ص٥٠٤ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

↑صفحة ٥٠٠↑

وهذه الحاجة خاصة بالشخص الذي تمَّ تعيينه من قِبَل التشريع الإلهي لقيادة العالم، باعتبار أنَّ ما قلناه من ضرورة تساوق قابليَّات الشخص مع مقدار سعة مسؤولياته الموكولة إليه في التشريع، فإذا كانت قابليَّاته قاصرة بدون الإلهام، كان وجود الإلهام ضرورياً.
وأمَّا الشخص الذي تكون مسؤوليَّاته محدودة، ذات منطقة صغيرة نسبيَّاً، بحيث يمكن تغطية تلك الحاجة بأساليب اعتيادية، فلا يكون مشمولاً لهذا الدليل.
وبمثل هذه المُناقشات تُصبح الأُطروحة الأُولى ممَّا لا دليل عليه.
نعم، لا مانع من وجود مضمون هذه الأطروحة، فيما إذا وقع أحد أصحاب الإمام المهدي في صعوبة فكرية بالِغة، واعتاصت عليه مشكلة اجتماعية يتوقَّف تطبيق العدل الكامل على تذليلها، وتعذَّر عليه الاتِّصال بإمامه، فسوف يكون الإلهام هو المُنقذ الوحيد في هذا الموقف، حفاظاً على العدل الكامل، فيكون الالتزام بصحَّة هذه الأُطروحة مُمكناً.
غير أنَّ هذا نادر الوجود؛ لوضوح إمكان الاتِّصال بالمهدي في أيِّ منطقة من مناطق العالم.
الأُطروحة الثانية: إنَّ أصحاب المهدي يتلقُّون علومهم في العصر السابق على الظهور، وقد يُمارسون بعض أشكال الحُكم والقضاء أيضاً.
وذلك انطلاقاً من عدَّة وجوه:
الوجه الأول: إنَّ ظاهر نفس الروايات هو ذلك، بمعنى أنَّهم ناجزين علماً وعملاً قبل الظهور، وإنَّما يتسنَّى لهم مُمارسة الحُكم والقضاء في الدولة العالمية، انطلاقاً من هذه الخبرات، مضافاً إلى التعليمات المهدوية الجديدة، فإنَّنا نسمع الرواية تقول: (... هذه العدَّة التي يخرج فيها القائم (ع)، وهم النُّجباء والفقهاء، وهم الحكَّام وهم القُضاة). فنفهم منها: أنَّهم مُتَّصفون بهذه الصفات من حين خروجهم مع القائم ومُبايعتهم له، وهذا لا يكون إلاَّ إذا كانوا قد عرفوا كذلك قبل الظهور.
وأمَّا قوله: (الذين يمسح على بطونهم وظهورهم فلا يُشكِل عليهم حُكم)، فهو إشارة إلى التعليمات المهدوية الجديدة، كما سوف نُشير.
وكذلك الرواية التي تُعدِّد من أصحاب القائم: يوشع بن نون، وسلمان، ومالك

↑صفحة ٥٠١↑

الأشتر وغيرهم. فإنَّهم إن أرادتهم بأشخاصهم، فمن المعلوم أنَّهم ناجزون علماً وعملاً، ولهم تاريخ إيماني ناصع قبل الظهور، وإن أرادت الرواية أنَّ أصحاب القائم المهدي يُشبَّهون بهؤلاء في صفاتهم الرئيسية، فمن الواضح أنَّ كونهم ناجزين في لعلم والعمل من أهمِّ هذه الصفات.
وكذلك خُطبة البيان حين تصف عدداً منهم بكونهم: العارفين لإقامة الدعائم، وكونهم رجالاً أتقياء أبراراً، وكون الفرد منهم نقيَّاً من العيوب. فإنَّه واضح أنَّ اتِّصافهم بذلك ثابت لهم في أنفسهم قبل حصول الظهور.
إذن؛ فالروايات لا قصور فيها عن الدلالة على هذه الأُطروحة.
الوجه الثاني: أنَّه ليس من الصحيح القول: بأنَّه يمكن أن يوجد التمحيص العالي والإخلاص الكبير، بدون ثقافة عالية تتناسب معه؛ إذ مع الجهل يكون الفرد معرَّضاً لكل فظيعة من دون أن يعلم، فيُخلُّ فعله بإخلاصه ويعتبر ذلك منه فشلاً في الامتحان.
وبكلمة أوضح: إنَّ ردَّ الفعل الصحيح العادل تجاه الوقائع المختلفة، الذي هو معنى النجاح في التمحيص، لا يكون إلاَّ مع معرفة ماهية ردِّ الفعل هذا، وهذه المعرفة تتوقَّف على العلم، بل هي نفس العلم، وكلَّما كان المتوقَّع من الفرد ردود فعل أصلح وأعلى، كان العلم المطلوب منه أوسع وأعمق.
ومعه؛ يكون الأفراد العالين في التمحيص، الذين هم (خير فوارس على وجه الأرض)، هم أعلم أهل الأرض بالشريعة، وأطلع الناس على دقائقها.
الوجه الثالث: أنَّه لا شكَّ في وجود الفقهاء المُحقِّقين في علوم الشريعة، والعلماء المُطَّلعين على دقائقها في عصر ما قبل الظهور بأعداد غير قليلة، ولا يمكن القول - بطبيعة الحال -: بأنَّ جميعهم من الفاشلين في التمحيص الإلهي. بل إنَّنا إن لم نقل: بأنَّ جميعهم من الناجحين المُمحَّصين، فلا أقلَّ من أنَّ عدداً منهم كذلك، فإنَّ دقَّة العلم والثقافة الدينية مساوقة عادة مع الإخلاص والمحافظة على السلوك العادل والصفاء في النيَّة، وبالتالي مع النجاح في التمحيص، ما لم يكن الفرد مُتمرِّساً في الإجرام، ومُتوحِّشاً في الضمير.
وأمَّا ما نجده الآن من ضعف الفقهاء الإسلاميين، بالنسبة إلى القوى العالمية، وانصرافهم الظاهري عن الخوض في الأمور العامة، فهو ناشئ من مقدار إمكانياتهم، وشعورهم بقلَّة تكليفهم الإسلامي من هذه الناحية، وسترتفع هذه الصفة عنهم بعد الظهور - بطبيعة الحال - وسيتبعون في سلوكهم الجِدِّي هدي الإمام المهدي وأوامره

↑صفحة ٥٠٢↑

وأهدافه، وبالتاي يصلحون لأن يكونوا عدداً من المُخلصين من أصحابه.
الوجه الرابع: أنَّنا برهنَّا في هذا التاريخ وما سبقه، على تطوُّر الفكر الإسلامي خلال العصر الطويل السابق على الظهور، تطوُّراً يؤهِّل الأُمَّة الإسلامية خاصة، والبشرية عامة لفَهْم القوانين والمفاهيم الجديدة التي يُعلنها المهدي في دولته العالمية بعد الظهور... التي يكون من الضروري إعلانها من أجل اكتساب (الأُطروحة العادلة الكاملة) صفة العدل المُطلق، الذي يمكنه أن يعمَّ العالم بالسعادة والرفاه، ويسير به نحو الكمال.
ومن الواضح أنَّ الفرد كلَّما كان أكثر إخلاصاً للإسلام، وأشدَّ تطبيقاً للعدل على حياته، سيكون أحرص على فهمه واستيعابه، ومواكبة آخر أشكال تطوُّره، وخاصة إذا كان احتمل أنَّه سيكون له مشاركة حسنة بشكل وآخر في الدولة المهدوية، ولو كفرد اعتيادي عليه أن يفهم القوانين، ويستوعب المفاهيم الجديدة المُعلنة يومئذ... فضلاً عمَّا إذا شُرِّف بإعطاء بعض درجات المسؤولية في تلك الدولة.
إذاً؛ فالخاصة الثلاثمئة والثلاثة عشر، هم بكل تأكيد من مواكبي وقارئي أعلى تطوُّرات الفكر الإسلامي.. إن لم يكن العديد منهم، من صانعي الفكر المُتطوِّر، والمشاركين في إيجاده، ونفس هذه الصفة تنطبق بدرجة أضعف على المُخلصين من الدرجة الثانية، غير أنَّ القارئين المواكبين أوسع بكثير من المشاركين في التطوير.
إذاً؛ فالأطروحة الثانية صحيحة، لصحَّة الوجوه الأربعة الدالَّة عليها جميعاً، غير أنَّ هذه الوجوه تُثبت الاستيعاب النظري لتفاصيل الفكر الإسلامي، ولا تُثبت وجود المُمارسة الفعلية للحُكم والقضاء من قِبلهم خلال العصر السابق على الظهور.
هذا، مع العلم أنَّ المُمارسة الفعلية ليس لها دخل مُهمٌّ في نجاح الفرد في مُهمَّته، إذا كان مستوعباً لها نظرياً، وعارفاً بطبيعة مجتمعه الذي أوكِلت له قيادته، وخاصة مع الالتفات إلى أنَّ ذلك لو كان لازماً لكان لا بدَّ لكل موظَّف وحاكم وقاضٍ أن يكون مُتمرِّناً قبل ذلك، وهذه قضية (مُتناقضة)؛ لأنَّ كل حاكم وقاضٍ لا بدَّ أن يكون غير مُتمرِّن عند أول استلامه لمُهمَّته، وإلاَّ لما أمكن الحصول على أيِّ حاكم وقاضٍ على الإطلاق.
وهذه الوجوه - أيضاً - تُثبت اطِّلاع هؤلاء على الفكر الإسلامي السابق، وأمَّا التوجيهات المهدوية والقوانين الجديدة، فهي تبقى محلَّ حاجتهم بطبيعة الحال، وهذا ما سنبحثه في

↑صفحة ٥٠٣↑

الأُطروحة الثالثة.
الأُطروحة الثالثة: إنَّ المخلصين يتلقُّون ثقافتهم من الإمام المهدي (ع)، على أحد مستويات مُحتملة، بعد غضِّ النظر عن تلقِّيهم الإعجازي منه (ع)، الذي ناقشناه في الأُطروحة الأُولى:
المستوى الأول: إنَّ المُخلصين يتلقُّون ثقافتهم المُعمَّقة التي تؤهِّلهم لتولِّي أعلى المناصب في دولة العدل العالمية، من المهدي نفسه، قبل ظهوره.
وذلك، انطلاقاً من الفكرة التي سبق أن ذكرناها، وهي أنَّ المهدي لا يحتجب عن خاصته، وأنَّهم يعرفونه بحقيقته في عصر غيبته، وليس بين الفرد وبلوغه هذه المرتبة إلاَّ أن يُصبح من المُخلصين المُمحَّصين المبرَّئين من الذنوب والعيوب، وقد دلَّت الأخبار على أنَّ سبب احتجاب المهدي (ع) وغيبته إنَّما هو ذنوب الناس وانحرافهم، فمع ارتفاع هذه الصفة الرديئة عن بعض الأفراد، يكون سبب الغيبة مرتفعاً فيه، ومعناه أنَّه سوف يرى المهدي (ع) بالرغم من احتجابه عن الآخرين.
ومعنى ذلك أن الجماعة المتصفين بالدرجة الأولى من الإخلاص كلهم يتشرفون بلقائه وسماع كلامه وتوجيهاته حال غيابه.
وهذا المستوى الأول للأُطروحة لطيف ومُحتمل الصحَّة، لو أخذنا بالفهم الإمامي لفكرة المهدي، إلاَّ أنَّه غير قابل للإثبات.
المستوى الثاني: إنَّ المُخلصين يتلقُّون كل ثقافتهم وجُلَّها بتعليم من قائدهم المهدي بعد ظهوره، سواءٌ في ذلك المستوى الفكري العام والتعاليم الجديدة.
وأحسن ما يُقال في هذا المستوى: إنَّه أمر مُستأنف بالنسبة إلى المستوى الفكري العام، الممكن اكتسابه طبقاً للأُطروحة الثانية.
المستوى الثالث: إنَّ المُخلصين يتلقُّون تعاليم وثقافات جديدة من الإمام المهدي، فوق مستواهم الفكري السابق، قبل ذهابهم إلى مناطق حكمهم؛ تمهيداً لتمكينهم الكامل من الحكم العادل والقضاء الفاصل.
وهذا المستوى ضروري الصحَّة، بعد وضوح عدم مساعدة الفكر السابق، بالرغم من عُمقه وشموله، على انجاز الأهداف المهدوية العالمية.
وهذا هو الذي أشارت إليه الأخبار التي سمعناها تنقل عن المهدي حين يريد

↑صفحة ٥٠٤↑

إرسال شخصٍ حاكماً على منطقة في العالم، قوله: (عهدك في كفِّك، فإذا ورد عليك ما لا تفهمه وتعرف القضاء فيه، فانظر في كفِّك واعمل بما فيها).
وهذا يعني أنَّه(ع) يكتب لكل شخص يُرسله (عهداً)،(٦٨٠) يحتوي على (التخطيط) الذي يجب عليه أن يسير عليه في فترة حكمه، تماماً كما فعل جدُّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، حين أرسل مالكاً الأشتر والياً على مصر، وكتب له العهد المطول المشهور الموجود في نهج البلاغة.
ولكن يبدو أنَّ هذا العهد ليس على شكل القواعد العامة، كما كان عليه عهد مالك الأشتر، بل يُفترض أنَّهم قادرون على تطبيق القواعد العامة، مأخوذة من الفقه العادل في ثوبه الجديد، وإنَّما يُعطي هذا العهد الوارد الضرورة، حين يقع الحاكم في صعوبة من حيث تطبيق القواعد العامة على بعض المشاكل العالمية؛ ولذا نجده يقول: (فإذا ورد عليك ما لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه - يعني طبقاً للقواعد العامة - فانظر إلى كفِّك - يعني إلى العهد الذي تحمله فيها - واعمل بما فيها).
ويقترن هذا المستوى الفكري المُعمَّق بمستوى نفسي مُعمَّق، يكون الفرد الحاكم محتاجاً إليه، حين يذهب إلى منطقته أول مرَّة، وتكون الدولة مؤسَّسة لأول مرَّة. إنَّه يتحمَّل مسؤوليَّات ضخمة، قد يعجز عن مُجرَّد تصوُّره، فكيف وهو سيوضع في وسط معمَّعتها، وهو مؤهَّل في تربيته السابقة التي عرفنا جذورها وفروعها مفصلاً، من الناحيتين الإيمانية والفكرية؟ إلاَّ أنَّه يحتاج إلى جانب ثالث، هو الجانب النفسي ليكون (أجرأ من ليث، وأمضى من سنان)، وليواجه العالم بمعنويَّات عالية، وقوَّة بالغة مناسبة مع المستوى المطلوب للدولة العالمية.
ومن هنا؛ نجد المهدي (ع) - كما في الروايات - يمسح على بطونهم وظهورهم، فلا يُشكل عليهم حكم، ولا يتعايون في قضاء، فإنَّ الفكرة وحلَّ المشكلة قد يعتاص على الإنسان مع وجود الارتباك والتردُّد في نفسه، فيُصبح في حالة شرود وانحطاط، وأمَّا مع ارتفاع المعنويَّات وقوَّة الإرادة، فلا معنى لحصول ذلك، وأدنى ما يعمله المهدي (ع) في هذا الصدد هو أن يُعانقهم هذه المُعانقة عند الوداع. ولعلَّه يتَّخذ خطوات أُخرى بهذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٨٠) قالت اللغة: العهد هو الذي يكتبه وليُّ الأمر للولاة إيذاناً بتوليهم، مع الأمر بلزوم الشريعة وإقامة النصفة. انظر: أقرب الموارد.

↑صفحة ٥٠٥↑

الصدد، سكتت عنها الأخبار باعتبارها تتحدَّث بلغة عصر صدورها، طبقاً لقانون (كلِّم الناس على قدر عقولهم).
وبهذا الأسلوب، وعن هذا الطريق، سوف يتوزَّع حكَّام المهدي (ع) أقاليم العالم، وتستتبُّ الدولة العالمية، حتى (لا تبقى أرض إلاَّ نودي فيها شهادة أن لا إله إلاَّ ألله، وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً رسول الله)، وهو قوله تعالى: (... وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).

↑صفحة ٥٠٦↑

الفصل الخامس: تمحيص الإمام المهدي لأصحابه خاصة وللأُمَّة عامة

تمهيد:
يتَّخذ الإمام المهدي هذا الأسلوب من التمحيص، للحصول على فوائد عديدة، نذكر بعضها ممَّا يخطر على البال، طبقاً للقواعد والروايات السابقة.
الفائدة الأُولى: تعويد الأمَّة الإسلامية خاصة - والبشرية عامة - على شكل جديد من السلوك، لم يكن معهوداً من قبل. وإنَّ التوقُّعات من الحاكم والفرد معاً أصبحت أعمق وأعقد.
الفائدة الثانية: إظهار نقاط الضعف التي لم يستطع التمحيص السابق على الظهور إظهارها؛ ومن هنا قد يفشل في هذا التمحيص مَن سبق له النجاح في التمحيص السابق؛ لأنَّ هذا التمحيص سوف يبتني على أُسس أصعب وأعمق.
الفائدة الثالثة: تهيئة أساليب عميقة، يمكن لأصحاب المؤهَّلات العالية النجاح من خلالها والتكامل عن طريقها.
الفائدة الرابعة: إنجاز أسلوب عام لتربية البشرية ككل، بصفتها مُطبِّقة للعدل الكامل من الآن فصاعداً، وقد سبق أن قلنا: إنَّ الدولة ستقوم بأعمال اختيارية، يُقصد بها تربية الأُمَّة والبشرية عن طريق التمحيص.
وهذا هو أحد الفروق المُهمَّة بين التمحيصين (السابق واللاحق)، فإنَّ التمحيص السابق على الظهور كان مُسبَّباً عن أمر غير اختياري بالنسبة إلى الفرد الناجح فيه، باعتباره ناشئاً من ظروف الظلم والفساد التي لا بدَّ للفرد فيها، وأمَّا التمحيص اللاحق للظهور، وفي المجتمع الخالي من الكافرين والمُنحرفين، فيتعيَّن أن يكون التمحيص اختيارياً، تقوم

↑صفحة ٥٠٧↑

به الدولة والإمام (ع) من أجل تربية الأُمَّة والبشرية.
الفائدة الخامسة: التخلُّص ممَّن قد يكون شارك في الدولة العالمية بحكم وقضاء، وليس في واقعه أهلاً لذلك بالمعنى العميق، وسنذكر فلسفته فيما بعد.
إلى غير ذلك من الفوائد...
ومن حيث الفرق في الهدف بين التمحيصين، نجد أنَّ التمحيص السبق كان مُستهدفاً لإيجاد جماعة محدودة من المُخلصين، ذوو عدد كافٍ لغزو العالم، وأمَّا الباقون، فقد أوجب ذلك التمحيص تطرُّفهم إلى جانب الظلم والباطل.
وأمَّا هذا التمحيص الجديد، فهو يستهدف التخطيط العام الشامل له، أعني تخطيط ما بعد الظهور، من تربية البشرية حكَّاماً ومحكومين، تربية مركَّزة ومُستمرَّة نحو التكامل لإيجاد المجتمع العادل المطلق في كل أفراده، وليس على مستوى الحكم فقط، وهو (المجتمع المعصوم)، الذي ألمحنا إليه في التاريخ السابق،(٦٨١) وسيأتي في الكتاب الآتي من الموسوعة تفاصيل مُهمَّة عن خصائصه.
وعلى أيِّ حال، فينبغي أن ينفتح الحديث عن هذا التمحيص في عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الواردة في هذا الصدد.
ونحن هنا لا نتوخَّى استيعاب كل ما دلَّ على ذلك، بل نقتصر على المُهمِّ منه، فنروي ما كان متَّصفاً بوصفين:
الوصف الأول: كون الخبر مُطابقاً مع القواعد المعروفة لنا، فلو كان يُمثِّل فَهْماً مُنحرفاً وشاذَّاً لم نروه؛ لأنَّ أمارات الوضع والانتحال عليه واضحة.
الوصف الثاني: ما لم تكن فيه إثارة طائفية من الأخبار، فإن كان في الخبر إثارة من هذا القبيل حذفناه، وإن أحدث نقصاً في التسلسل الفكري العام.
والأخبار في ذلك عديدة، شاملة لمختلف جهات التمحيص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٨١) تاريخ الغيبة الكبرى ص٤٨١.

↑صفحة ٥٠٨↑

أخرج النعماني،(٦٨٢) عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (لو قد قام القائم لأنكره الناس، لأنَّه يرجع إليهم شابَّاً موفَّقاً، لا يثبت عليه إلاَّ مَن أخذ الله ميثاقه... وإنَّ من أعظم البليَّة أن يخرج إليهم صاحبهم شابَّاً وهو يحسبونه شيخاً كبيراً).
وأخرج أيضاً،(٦٨٣) عن محمد بن مسلم، قال: سمعنا أبا جعفر (ع) يقول: (لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحبَّ أكثرهم إلاَّ يروه ممَّا يقتل الناس، أما إنَّه لا يبدأ إلاَّ بقريش، فلا يأخذ منها إلاَّ السيف، ولا يُعطيها إلاَّ السيف. حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم).
وأخرج أيضاً(٦٨٤) مُرسلاً، عن أبي عبد الله يقول: (إذا خرج القائم، خرج من هذا الأمر مَن كان يرى أنَّه من أهله، ودخل فيه شِبه عبدة الشمس والقمر).
وأخرج أيضاً،(٦٨٥) بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: (إنَّ أصحاب طالوت ابتُلوا بالنهر الذي قال الله تعالى: (سيبتليكم بِنَهَرٍ(٦٨٦) وإنَّ أصحاب القائم (ع) يُبتلون بمثل ذلك).
وأخرج المجلسي في البحار،(٦٨٧) بإسناده عن أبي بصير، عن أبي جعفر (ع)، قال: (يقضي القائم بقضايا يُنكرها بعض أصحابه ممَّن قد ضرب قدَّامه بالسيف، وهو قضاء آدم (ع)، فيُقدِّمهم فيضرب أعناقهم، ثمَّ يقضي الثانية، فيُنكرها قوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٨٢) الغيبة ص٩٩.
(٦٨٣) المصدر ص١٢٢.
(٦٨٤) المصدر ص١٧٧.
(٦٨٥) المصدر ص١٧٠.
(٦٨٦) البقرة: ٢/ ٢٤٩، وهو نقل بالمعنى عن الآية.
(٦٨٧) ج١٣ ص٢٠٠.

↑صفحة ٥٠٩↑

آخرون ممَّن قد ضرب قدَّامه بالسيف، وهو قضاء داود (ع)، فيُقدِّمهم فيضرب أعناقهم، ثمَّ يقضي الليلة الثالثة، فيُنكرها قوم آخرون ممَّن قد ضَرب قدَّامه بالسيف، وهو قضاء إبراهيم (ع)، فيُقدِّمهم فيضرب أعناقهم، ثمَّ يقضي الرابعة، وهو قضاء محمد (ص)، فلا يُنكرها عليه أحد).
وأخرج المجلسي في البحار،(٦٨٨) بإسناده عن المفضل بن عمر، قال الصادق (ع): (كأنِّي انظر إلى القائم على منبر الكوفة، وحوله أصحابه ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً عدَّة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكَّام الله على خلقه، حتى يستخرج من قبائه كتاباً مختوماً بخاتم من ذهب، عهدٌ معهود من رسول الله (ص)، فيجفلون عنه إجفال الغنم، فلا يبقى منهم إلاَّ الوزير وأحد عشر نقيباً، كما بقوا مع موسى بن عمران (ع)، فيجولون في الأرض فلا يجدون عنه مذهباً، فيرجعون إليه، وإنِّي أعرف الكلام الذي يقوله لهم، فيكفرون به).
الجهة الثانية: في فَهم مفردات هذه الأخبار، أعني ما ورد فيها من ألفاظ ومفاهيم بعيدة عن الذهن؛ لكي يكون هذا منطلقاً إلى الفَهم الكامل الذي سوف تُعرِب عنه في الجهات التالية:
(قضاء محمد) نبي الإسلام (ص)، هو ما أعرب عنه قوله (ص): (إنما أقضي بينكم بالبيِّنات والإيمان)، وهو حديث مشهور مروي بطريق الفريقين، وقد فَهِم منه فقهاء الإسلام قواعد القضاء الرئيسية للمرافعات، وهو أن تكون البيِّنة من المُدَّعي، واليمين على المنكر.
وأضاف (ص) في حديث:(٦٨٩) (فأيُّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنَّما قطعت له به قطعة من النار)، يعني أنَّ هذه القواعد القضائية إذا أثبتت حقَّاً غير واقعي، كان أخذه من قِبل غير مُستحقِّة حراماً غير مشروع، وإن كان القاضي معذوراً؛ باعتباره جاهلاً بالواقع، ومتَّبعاً للقواعد الشرعية العامة الغالبية الصدق.
(قضاء داود) (ع)، هو ما شرحه القرآن الكريم في قوله تعالى:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٨٨) ج١٣ ص١٨٤ - ١٨٥.
(٦٨٩) الوسائل ج٣ ص٤٣٥.

↑صفحة ٥١٠↑

(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ).(٦٩٠)
والنقطة الرئيسية في هذه الحادثة التي ترويها الآية، هو أنَّ داود (ع) أخذ جانب المُدَّعي من دون أن يُطالبه بالإثبات القضائي، أعني البيِّنة، فقال: (... لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ...)، وقد نطقت به الأخبار أيضاً.
منها عدد من الأخبار تدلُّ على أنَّ الخصوصية الرئيسية فيه، هو الحكم طبقاً لعلم القاضي بواقع الحادثة، لا طبقاً للبيِّنة.
منها ما رواه الحُرُّ العالمي،(٦٩١) بسنده عن أبي عبيدة الحذَّاء، عن أبي جعفر (ع) - في حديث ـ، قال: (إذا قام قائم آل محمد (ص) حكم بحكم داود (ع) لا يسأل البيِّنة).
وفي رواية أُخرى، عن أبان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل منِّي، يحكم بحكومته آل داود ولا يسأل بيِّنة، يُعطي كل نفس حقَّها).
وفي رواية أخرى مُرسلة، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث - قال: (إنَّ داود (ع) قال: يا ربِّ، أرني الحقَّ كما هو عندك حتى أقضي به.
فقال: إنَّك لا تُطيق ذلك.
فألحَّ على ربِّه حتى فعل، فجاء رجل يستعدي على رجل، فقال: إنَّ هذا أخذ مالي. فأوحى الله إلى داود بالمُستعدي فقُتل، وأخذ ماله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٩٠) سورة ص: ٢١ - ٢٥.
(٦٩١) الوسائل ج٣ ص٤٣٥، وكذا الخبران اللذان بعده.

↑صفحة ٥١١↑

فدفع إلى المُستعدى عليه.
قال: فعجب الناس وتحدَّثوا، حتى بلغ داود (ع)، ودخل عليه من ذلك ما كره، فدعا ربَّه أن يرفع ذلك ففعل، ثمَّ أوحى الله إليه أن احكُم بينهم بالبيِّنات، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به).
وإنَّما نقلنا هذا الحديث المُرسل، لوجود فارق بينه وبين الآية، فإنَّ الحادثة التي يُعرب عنها الخبر - لو صحَّ - حادثة واقعية، يمكن أن يعلم بها القاضي عن طريق الوحي وعن طريق مُعاشرة الخصمين ونحوه.
وأمَّا الحادثة التي تُعرب عنها الآية، فالمشهور عنها أنَّها آية امتحانية، أوجدها الله تعالى من أجل امتحان النبي داود (ع) واختباره، وقد فشل في هذا الامتحان، وهو قوله تعالى: (... وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ).
فالخصمان لم يكونا خصمين حقيقة، وإنَّما كانا مَلَكين أرسلهما الله تعالى لاختبار داود (ع)، واستدلُّوا على ذلك بقوله: (... إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ)؛ فإنَّ البشر لا يتسوَّرون الحائط على القاضي الذي يريدون التحاكم عنده، ولا يردون عليه في وقت عبادته، بل في وقت استعداده للحكم.
وكان من واجب النبي داود (ع) طبقاً للقواعد القضائية العامة أن يسأل من المُدَّعي - وهو صاحب النعجات التسع والتسعين - أن يأتي بالبيِّنة الدالَّة على أنَّ تلك النعجة الواحدة له، ولكنَّه أسرع بقبول قول المنكر بدون مُطالبة البيِّنة، وصار إلى جانبه، بدون دليل، ولكنَّه فكَّر بعد ذلك وعلم بخطئه، فاستغفر الله وخرَّ راكعاً وأناب، فعفا الله عنه وأكرم مقامه.
غير أنَّ الصحيح هو أنَّ الآية لا تدلُّ على أنَّ الحادثة مُصطنعة وغير واقعية، بل تدلُّ على واقعية الحادثة، بعدَّة قرائن في الآية نفسها:
القرينة الأُولى: قوله تعالى: (الخصمين)؛ فإنَّ ظاهره كونهما خصمين حقيقة، وحمله على الخصمين المُصطنعين خلاف الظاهر؛ لأنَّه مجاز لا يُصار إليه إلاَّ بقرينة.
القرينة الثانية: قوله: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ...)؛ وهو ظاهر بالأخوَّة الحقيقية، ومن المعلوم أنَّهما لو كانا مَلَكين لم يكن صِدْقُ ذلك ممكناً.
القرينة الثالثة: قوله: (... تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ...)؛ فإنَّ ظاهره المِلكيَّة الحقيقية لنعجات حقيقية، وما خالف ذلك مُحتاج إلى تأويل.
القرينة الرابعة: قوله: (... لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ...)؛ فإنَّه لا يكون ظالماً على الإطلاق لو كانت المرافعة صورية، ولكانت هذه الجملة كاذبة.

↑صفحة ٥١٢↑

وأمَّا ما ذكروه من أنَّ العبور على الحائط ليس من أفعال البشر، فهو غير صحيح، فإنَّه أقرب إلى فعل البشر الدنيء منه إلى فعل الملائكة.
وأمَّا كون الحادثة لامتحانه وفتنته - كما دلت عليه الآية فعلاً - فهذا لا يقتضي لإرسال الملائكة إليه، بل يكون حاصلاً مع وجود هذا الترافع بين بشرين، بدليل على أنَّهما لو كانا رجلين حقيقين لما كان في مستوى الامتحان الإلهي أيُّ تغيير.
بل ليس في الآية الكريمة أنَّ داود (ع) كان يعلم بحقيقة الموقف، بطريق الغيب، ولا أنَّه مال إلى جانب المُدَّعي لمُجرَّد سماع المرافعة، بل لعلَّه كان يعرفهما عن قريب ومُطَّلع على حالهما بشكل وآخر.
وإذا كان المفروض لداود في هذه الحادثة وغيرها أن يحكم بعلمه، كما سيحكم الإمام المهدي (ع) أحياناً، إذاً فحكمه صحيح لا غبار عليه، وجائز للقاضي أحياناً، إذاً كان نبيَّاً وولياً على الأقل.
ومن هذه الزاوية نعرف دليلاً آخر على واقعية هذه المرافعة، لأنَّها لو كانت صورية لم يكن لوجود العلم بالواقع أي معنى. بل كان الأنسب أن يعلم داود (ع) أنها مرافعة صورية،أو أن يعلم أن الأفضل السير على طبق القاعدة القضائية العامة.وحيث حكم في الواقعة بعلمه،إذاً، فهي حادثة واقعية.
وأما توبته واستغفاره، فهو ناشىء من أحد منشئين:
المنشأ الأول: ما هو الموجود في بعض الأخبار، من أن مؤدى هذه المرافعة، كان مماثلاً لأمر كان يعيشه في حياته،وهو أنه (ع) بالرغم من كثرة زوجاته، طلب من أحد أصحابه أن يطلق زوجته لكي يتزوجها هو،فأراد الله تعالى أن ينبهه على ذلك، فقيض له هذه المرافعة.
إذاً، فاستغفاره لم يكن لأجل التسرع في القضاء،وإنما كان من أجل موقفه الحياتي الخاص.
المنشأ الثاني: أن كلا الأسلوبين القضائيين:أعني طلب البينة،والحكم طبقاً للعلم...كانا جائزين له، فكان (ع) حين يرى اختلاف هذين الأسلوبين في النتيجة أحياناً فإنه يرجح الحكم بعلمه لأنه أوصل إلى الواقع من الطريق الآخر.كما في هذا المورد بالذات.

↑صفحة ٥١٣↑

غير أنَّ متابعة العلم كان هو الأسلوب المرجوح في الشريعة الإلهية؛ لأنَّه يتعذَّر استعماله دائماً ولكل أحد... وكان من الراجح استعمال الأسلوب القضائي العام، وهو طلب البيِّنة دائماً وبلا استثناء، حتى لو كان خاطئاً أحياناً؛ ليستقيم القضاء على وتيرة واحدة عنده وعند غيره من الناس.
إذاً؛ فقد استعمل النبي داود (ع) الأسلوب المرجوح في هذه الواقعة، وعرف بعد ذلك أنَّ هذا كان امتحاناً؛ لأنَّ الحادثة من موارد اختلاف الأسلوبين كما أشرنا، وكان الراجح استعمال الأسلوب الآخر، فخرَّ راكعاً وأناب.
وقد يخطر في البال: أنَّ هذا الأسلوب إذا كان مرجوحاً، فكيف سمعنا من الروايات عمل المهدي (ع) به؟
وجوابه يكون من عدَّة وجوه، تأتي عند التعرُّض لقضاء المهدي (ع)، وأوضحها أنَّ ظروف التمحيص المُخطَّطة تُجيز للمهدي (ع) ذلك، على أقلِّ تقدير.
فهذا هو قضاء داود (ع)، ولا مجال للتفصيل فيه أكثر من هذا المقدار.
وأمَّا (قضاء إبراهيم) و(قضاء آدم) (ع)، فهو ممَّا لم يرد في التاريخ، إذ لم يُنقَل - حسب اطِّلاعي - أنَّه عرضت عليهما قضايا مُعيَّنة حَكَمَا فيها بأحكام خاصة، وإن كان لا بدَّ أنَّ هذا قد حدث فعلاً؛ لأنَّ البشرية لا تخلو من مخاصمات، غير أنَّه لم يردنا بالتحديد أنواع تلك القضايا ومؤدَّيات الأحكام فيها، غير أنَّ الإمام المهدي (ع) عالم بها، فيُمكنه تطبيقها في مواردها.
قوله: (إنَّ أصحاب طالوت ابتُلوا بالنهر)، وقصَّتهم مشهورة مذكورة بالقرآن الكريم، لا حاجة إلى تفصيلها، ولكن يحسن بنا عرض فكرة الامتحان الذي مرُّوا به:
إنَّهم حين ساروا بقيادة طالوت مدَّة مُتوجِّهين إلى منطقة العدوِّ، مرُّوا على نهر في طريقهم، وكانوا في أشدِّ التلهُّف إلى الماء هم ودوابهم، فأصدر طالوت القائد قراراً بعدم جواز الشرب من النهر، إلاَّ في حدود غَرفة واحدة من الكفِّ يشربها كل فرد:
(... قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ...).(٦٩٢)
وكان ردُّ الفعل تجاه هذا التشريع من قِبل الجيش على ثلاثة أقسام:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٩٢) البقرة: ٢٤٩.

↑صفحة ٥١٤↑

القسم الأول: وهم الأكثرية الكاثرة، الذين أسقطوا هذا الأمر عن نظر الاعتبار، وشربوا من النهر بكثرة وسقوا دوابَّهم، فكان أن عزلهم القائد عن الجيش، ومنعهم من المسير معه، وخرجوا بذلك عن الإيمان، قال الله تعالى: (... فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ...)، وهم غير هذا القسم.
القسم الثاني: وهم الذين أخذوا بالاستثناء في كلام القائد، فشربوا بالمقدار الذي أجازه، واكتفوا بالكفِّ الواحدة عن الكثير.
وقد دلَّ سياق القرآن الكريم على أنَّ هؤلاء هم الذين قالوا عند مواجهة العدو: (... قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ...)؛ باعتبارهم القسم الأضعف إيماناً من الجماعة التي صاحبت القائد من حادثة النهر.
القسم الثالث: وهم الذين لم يشربوا على الإطلاق؛ أخذاً بالحيطة لدينهم، وتقويةً لعزائمهم وإرادتهم؛ ومن هنا لن تُرهبهم كثرة العدوِّ، بل قال: (... الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
فالقسم الأول هو الفاشل في هذا التمحيص، والقسم الثالث هو الناجح بشكل كامل، والقسم الثاني كان ناجحاً في حادثة النهر، ولكن برزت نقطة ضعفه في آخر لحظة عند مواجهة العدوِّ، ففشل في هذا الامتحان الجديد.
وقد يخطر على البال: أنَّ تطبيق هذا الامتحان على أصحاب الإمام المهدي (ع) إنَّما هو باعتبار التمحيص الموجود في التخطيط العام السابق على الظهور، حيث عرفنا انقسام المُخلصين باعتباره إلى عدَّة أقسام، يكون الخاصة منهم كالقسم الثالث من أصحاب طالوت، وهم الذين حاربوا عدوَّهم وانتصروا عليه، وفي بعض الروايات التي سمعنا إحداها فيما سبق أنَّ عددهم كان أيضاً ثلاثمئة وثلاثة عشر.
فليس هذا الخبر ناظراً إلى التمحيص الذي يمرُّ به أصحاب الإمام المهدي بعد ظهوره، فلا يكون من الأخبار النافعة لنا في هذا الباب.
وجواب ذلك: أنَّ هذا مُحتمَل فعلاً، إلاَّ أنَّ ظاهر الخبر بخلافه، حيث يقول: (وإنَّ أصحاب القائم (ع) يُبتلون بمثل ذلك)، فإنَّهم لا يكونون أصحابه حقيقة إلاَّ بعد ظهوره وانضمامهم إليه، كما هو واضح.
قوله: (شِبه عَبَدَة الشمس والقمر)، وهم المُلحدون والمادِّيون، يدخلون في (هذا الأمر)، يعني الحق والعدل الذي يُعلنه الإمام المهدي (ع) ويوضِّحه للعالم بكل صراحة.

↑صفحة ٥١٥↑

قوله: (فيجفلون عنه إجفال الغنم)، أي يهربون ويفرُّون. يُقال: جفل البعير إذا ندّ وشرد، وجفل القوم إذا أسرعوا الهرب.(٦٩٣)
قوله: (فلا يبقى منهم إلاَّ الوزير وأحد عشر نقيباً)، الوزير: حَبَأُ الملك الذي يحمل ثقله ويُعينه برأيه وتدبيره،(٦٩٤) وقد كان الوزير في الدول السابقة واحداً توكَل إليه مهمَّات الدولة، وهو بإزاء رئيس الدولة الحديثة.
والوزير أيضاً: المعاون، يُقال: هو وزيره، أي معاونه.(٦٩٥)
والنقيب: شاهد القوم وضمينهم وعريفهم.
ونقيب الأشراف: مَن يُنقِّب عن أحوالهم (إسلامية).(٦٩٦) ويبدو من سياق الحديث أنَّه بمنزلة الوزير في الدولة الحديثة.
قوله: (كما بقوا مع موسى بن عمران)... فيه إشارة إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا...)(٦٩٧) الخ الآية.
والآية واضحة في أنَّ هؤلاء النُّقباء أفضل أصحاب موسى (ع)، غير أنَّها لا تدلُّ على أنَّهم نتجوا عن تمحيص سابق فشل فيه غيرهم، كما هو ظاهر الخبر... إلاَّ أنَّ الآية لا تنفي ذلك على أيِّ حال، وقد علمنا من القواعد العامة أنَّ هذه الأهمِّية والعُمق في الإخلاص لا يكون إلاَّ نتيجةً لتمحيص عميق، يمرُّ به المجتمع، فينجح فيه القليل ويفشل فيه الكثير.
الجهة الثالثة: في مُحاولة فَهْم عام لهذه الأخبار:
يدلُّ مجموع هذه الأخبار، على أنَّ أسباب التمحيص ومناشئه عديدة:
المنشأ الأول: ظهور المهدي شابَّاً موفَّقاً، مع أنَّ الناس يحسبونه شيخاً كبيراً.
وقد سبق أن حلَّلنا ذلك، وقلنا: إنَّه إنَّما يحدث في الأوساط البعيدة عن الفكر الديني، وعن التعمُّق... لوضوح أنَّه لا معنى لهذا التوقُّع في المهدي (ع) طبقاً لكلا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٩٣) انظر أقرب الموارد.
(٦٩٤) ذات المصدر.
(٦٩٥) المصدر نفسه.
(٦٩٦) نفس المصدر.
(٦٩٧) المائدة: ١٢.

↑صفحة ٥١٦↑

الأُطروحتين في فَهْم الفكرة المهدوية (الإمامية والعامة)... كما سبق أن أوضحنا.
والذي يبدو أنَّ هذا التوقُّع لا تدلُّ على حدوثه إلاَّ هذه الرواية... بينما دلَّت على ظهور المهدي (ع) شابَّاً عدد لا يُستهان به من الروايات، خالية من هذا التوقُّع، وعليه؛ ففكرة هذا التمحيص منوطة بصحَّة هذه الرواية بالذات.
المنشأ الثاني - للتمحيص -: كثرة القتل الذي يقوم به الإمام (ع) في الفترة الأُولى من ظهوره.
وقد سبق أن حلَّلنا لك، وقلنا: إنَّ هذه الحملة تُنتج ردَّ فعل عنيف لدى الجماعات الموجهة ضدَّهم، فيواجهونها بمقدار ما يستطيعون من السوء والإرجاف، وأنَّ من أوضح وأصرح أشكال الإرجاف ضدَّ الإمام المهدي (ع) هو التشكيك بمهدويَّته، (... وليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم).
والمهدي المنتظر لابدَّ أن يكون من آل محمد بإجماع المسلمين، وهذا ليس من آل محمد بإجماع المسلمين، إذاً فليس هو المهدي المنتظر.
والإمام المهدي (ع) بعد أن يكون قد أقام الحجَّة الكاملة على صدقه وعدالة قضيته، فثبت للرأي العام العالمي، باليقين، وأنَّه هو المهدي المنتظر، لا يبقى عنده من جواب على هذه الشبهة، إلاَّ أن يستمرَّ في القتل حتى يستوعب جميع المرجفين.
فهذا التمحيص - إذاً - سيوجب زيادة فشل الفاشلين في التمحيص السابق، وأمَّا المؤمنين بالمهدي، فسوف لن يكون لهم في هذا التمحيص أيُّ اشتراك، بمعنى أنَّهم سيكونون من الناجحين فيه بكل تأكيد.
وكلا هذين المنشأين للتمحيص ممَّا سيحدث قبل استتباب الدولة العالمية؛ ومن هنا لا يكونان مُندرجين في المناهج التربوية العامة التي تُعمِّمها الدولة في سبيل تطوير المجتمع وتقدُّمه نحو الكمال.
وهذان المنشأن معاً من الأسباب العامة للتمحيص، وغير خاصة بأصحاب الإمام المهدي (ع)... وهما من السهولة بالنسبة إليهم، بحيث يُحرز نجاحهم فيهما، بخلاف الامتحانات الآتية، فإنَّها من التعقيد بحيث لا يُحرز فيها هذا النجاح.
المنشأ الثالث: للتمحيص، اتِّخاذ المهدي (ع) لأساليب الأنبياء السابقين في القضاء بين الناس.
إذ يكون ذلك، منشأ للبلبلة والشكِّ في بعض الأوساط من أصحابه، فيقوم الإمام

↑صفحة ٥١٧↑

المهدي (ع) بقتل كل المُشكِّكين من هذه الناحية، كما سمعنا من الأخبار.
ويحسن أن نتحدَّث عن هذا المنشأ ضمن عدَّة حقول:
الحقل الأول: أنَّ التشكيك بهذه القضية والاحتجاج عليها ناتج عن الغفلة والتغافل عن أمرين:
الأمر الأول: كون الإمام المهدي أولى بالمؤمنين أنفسهم وأموالهم، تماماً كما كان رسول الله (ص)، كما ثبت بالدليل؛ ومعه فهو يستطيع أن يعمل أيَّ عمل تقتضيه المصلحة، من دون أن تجوز مناقشته.
الأمر الثاني: أنَّ هذه القضية كلها ذات وجوه صحيحة، من وجهة نظر إسلامية وفقهية، كما سوف يأتي.
فإن لم يلتفت الفرد إلى هذين الأمرين، وتناسى - على وجه الخصوص - الحجَّة القطعيَّة التي أقامها الإمام المهدي (ع) على صدقه وعدالة قضيته... لم نستغرب منه أن يستغرب من هذه الأقضية، وإذا سنحت له الفرصة لأن يحتجَّ فإنَّه يبوح باستغرابه واستنكاره.
وقد يكون لهذا الاحتجاج صيغة فقهيَّة، هي أنَّ المهدي يجب عليه أن يُطبِّق القواعد القضائية الاعتيادية، ولكنَّه لم يفعل ذلك.
الحقل الثاني: أنَّنا لو نظرنا إلى الشخص المُتديِّن الملتزم، نرى موقفه من تمحيص عصر ما قبل الظهور واضحاً إلى حدٍّ كبير، من حيث فهمه التام بأنَّ كل الأوضاع العالمية سياسية واجتماعية واقتصادية، قائمة على الظلم والانحراف، واتِّخاذ موقف الاحتجاج والسلبية تجاه هذه الظروف، أمر واضح عقائدياً لا غبار عليه، إذاً؛ فمن اللازم على هذا المُتديِّن أن يصمد تجاه التيَّار، وأن ينجح في الامتحان الإلهي.
ولكنَّ هذا الفرد المُتديِّن المُلتزم، حين يواجه دولة الحق، وهو خالي الذهن عن احتمالات تصرُّفات المهدي وأقواله... وهو أيضاً قد يكون فجَّ التفكير من ناحية إمكان حمل التصرُّفات المُلفتة للنظر والتساؤل على وجه صحيح، وليس في تصرُّفات الإمام المهدي (ع) ما يُخالف ذلك.
وهو أيضاً يحمل عن دولة الحق وعن تصرُّفات رئيسه مسبقات ذهنية مُعيَّنة، نتيجةً لثقافته الإسلامية التي تلقَّاها قبل الظهور، إذاً؛ فمن الطبيعي أن يكون له توقُّعات

↑صفحة ٥١٨↑

مُعيَّنة عن سيرة الإمام وقضائه , وخاصة وهو لم يفهم وضوح معنى الحديث القائل: (إنَّ المهدي يأتي بكتاب جديد، وأمر جديد، وقضاء جديد).
فمثلاً: يجد هذا الفرد المُتديِّن أنَّه من الواضح جدَّاً في الإسلام، أن يحكم القاضي طبقاً لقانون البيِّنة واليمين، فسوف يُمْنى بالصدمة العقائدية الشديدة، حين يرى إمامه وقائده يُخالف قواعد القضاء، ويُخالف باعتقاده واضحات الشريعة الإسلامية.
وحيث لا يعرف هذا الفرد وجوه التصحيح، فسوف يحتجُّ انتصاراً لاعتقاده، بل قد يؤول موقفه إلى الشكِّ بصدق المهدي (ع)؛ إذ لو كان هو المهدي المنتظر لكان مُطبِّقاً للشريعة، في حدود ضرورياتها الواضحة على الأقلِّ.
إنَّه من المُحتمل أن يكون مثل هذا الفرد قد اعتقد بصدق المهدي (ع) مدَّة من الزمن، وقاتل بين يديه وتحت قيادته قتال الأبطال، وشارك بشرف فتح العالم بالعدل، غير أنَّه يجد الآن بعد سماعه قضاء المهدي أنَّه كان مُتوهِّم، وإنَّ أفعاله راحت هدراً، أنَّه لم يكن في حسبانه أنَّ هذا الإمام سيترك العمل بواضحات الشريعة.
وهكذا يبوء هذا الفرد بالفشل في هذا الامتحان الجديد، فيُصبح مُنحرفاً، كان يجب عليه التسليم لإمامه في كلَّما يفعل؛ لأنَّ واضحات الشريعة الشريعة إنَّما تؤخَذ منه لا أنَّها تُفرَض عليه، فاستنكار ذلك يُعدُّ انحرافاً، ولا بقاء للمُنحرف في دولة العدل؛ ومن هنا يأمر المهدي بقتل كل مَن يحتجُّ على قضائه، وبذلك يذهب جماعة ممَّن ضرب قدَّام المهدي (ع) بالسيف.
الحقل الثالث: يُمكننا أن نُلاحظ في هذه الأقضية عدَّة أمور:
الأمر الأول: أنَّ الاحتجاج عليها خاص بالفقهاء العارفين بالشريعة، ومَن يقرب من مستواهم، وأمَّا عوام الناس فلا معرفة له بصحَّة ذلك وفساده؛ ومن هنا يكون في المُحتجِّين مَن كان قد اعتقد بالمهدي، وشارك في الفتح العالمي ممَّن له ثقافة إسلامية واسعة.
الأمر الثاني: أنَّ الرواية لا تدلُّ على انحصار الاحتجاج بأصحاب المهدي، وإنَّما تدلُّ على وجود الاحتجاج في أصحابه بالجملة، بشكل يُناسب أن يكون معهم غيرهم.
الأمر الثالث: أنَّ الرواية لا تدلُّ على كثرة المُحتجِّين بشكل زائد في كل واقعة، بل لعلَّه عدد قليل.

↑صفحة ٥١٩↑

الأمر الرابع: من المُستطاع القول: إنَّ هؤلاء المُحتجِّين من أصحاب الإمام (ع)، ليسوا على الإطلاق من المُخلصين المُمحَّصين من الدرجة الأُولى، وإنَّما هم من الدرجة الثانية فما دون.
وهذا واضح من الرواية حين تقول: (يُنكرها بعض أصحابه، ممَّن قد ضرب قدَّامه بالسيف).
فإنَّ الذي يُباشر الحرب ويتعرَّض للقتل بشكل رئيسي هو الجندي المُحارب، دون القائد، وقد سبق أن عرفنا أنَّ الجنود يُمثِّلون الدرجة الثانية، على حين لا يتولَّى الأفراد من الدرجة الأُولى إلاَّ مراكز القيادة.
وأمَّا المُخلصون من الدرجة الأُولى، ففشل بعضهم في هذا الامتحان، وإن كان مُحتملاً على أيِّ حال، طبقاً لما قلناه من صعوبة هذا التمحيص، إلاَّ أنَّ الصفات الكثيرة التي سمعنا عنهم تنفي ذلك... مثل كونهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، وكونهم من خشية الله مُشفقون، وكونهم رُهبان بالليل وفُرسان بالنهار... وغير ذلك من صفاتهم.
فيكون من الراجح عدم فشلهم في هذا التمحيص، واختصاص هذا الفشل بمَن هو أقلُّ منهم إخلاصاً وتمحيصاً.
الأمر الخامس: أنَّ هذه الأقضية لا يعملها المهدي (ع)، إلاَّ بعد انتهاء الفتح العالمي واستتباب الأمن، والبدء بمُباشرة التطبيقات الإسلامية على كافَّة الأمور، بما فيها القضاء.
وهذا واضح من قوله: (ممَّن ضرب قدَّامه بالسيف...)، الدالِّ على أنَّ الضرب بالسيف، يعني الفتح العالمي يكون قد انتهى، وهذا واضح أيضاً من القرائن العامة؛ إذ لا يكون للمهدي (ع) فرصة الفراغ إلى مثل هذه الأقضية إلاَّ بعد الحرب عادة، وهناك بعض النقاط حول ذلك نوكِلها إلى ذكاء القارئ.
الأمر السادس: أنَّه لا دليل على تتابع هذه الأقضية في أيَّام قليلة، من قِبل المهدي (ع)، والخبر الدالُّ على ذلك وإن أوحى ظاهره بذلك إلاَّ أنَّ (العطف) بـ (ثُمَّ) دليل على التراخي والفصل بين قضاء وقضاء بمدَّة كافية، وإن كان المظنون أنَّ مجموع هذه الأقضية لا يستغرق وقتاً طويلاً جدَّاً، بل يكفي فيه العام الواحد تقريباً.
الأمر السابع: أنَّه لا دليل على استمرار سيرة المهدي على العمل بهذه الأقضية، وإنَّما هو يعملها في الفترة الأُولى من مُباشرته للقضاء... ثمَّ يحكم أخيراً بقضاء محمد صلى الله عليه وسلم، ويستمرُّ عليه.

↑صفحة ٥٢٠↑

والمُعتقَد أنَّ هذا صحيح بالنسبة قضاء آدم وإبراهيم، وأمَّا قضاء داود، فقد دلَّ عدد من الروايات التي سوف تأتي على استمرار المهدي على ذلك، ولا أقلَّ من كونه مُخيَّراً - باستمرار - بينه وبين قواعد القضاء الاعتيادية، وهذا ما سوف نبحثه في محلِّه من هذا الكتاب.
الأمر الثامن: أنَّ أهمَّ ما يبدو للناظر من فوائد هذا التمحيص ما يلي:
أولاً: ربط الدعوة المهدوية بخطِّ الأنبياء ككل، حيث يكون من حقِّ المهدي (ع) أن يقضي بأيِّ أُسلوب قضائي سار عليه نبي من الأنبياء السابقين، لوجود الارتباط العضوي بين حلقات هذا التسلسل العام، المُنتهي بالمهدي نفسه، وقد أشرنا أنَّه من هذه الجهة، يُلقَّب ببقيَّة الله في الأرض.
وهذا مُبرهَن الصحَّة، كما سبق أن عرفنا، غير أنَّ المهدي (ع) يُقيم الآن دليلاً حسِّياً على ذلك.
ثانياً: إثبات سعة علم المهدي (ع) واطِّلاعه على أساليب القضاء التي كان يتَّخذها الأنبياء السابقون... أعني إقامة رقم حسِّي على ذلك.
ثالثاً: تربية الأُمَّة والبشرية على أساس قبول آراء المهدي وقوانينه وعدله العام بدون مناقشة؛ لأنَّ منها ما يتوقَّف على عدم اطِّلاع الأفراد على أسبابه، بل يجب الأخذ بشكل تعبُّدي محض، وإلاَّ لم يكن سبباً كاملاً للتربية المطلوبة.
ولذا؛ نجد المهدي - كما تدلُّ عليه الرواية - يترك الإعلان عن هويَّة القضاء الذي يقضيه فترة من الزمن ريثما يتعيَّن مَن يقبله ممَّن يرفضه، وبعد أن يتمَّ القضاء على عناصر الاحتجاج والاستنكار، يكون التمحيص قد تمَّ، فتنفتح فرصة واسعة أمام المهدي، للإعلان عن هويَّة هذا الأسلوب القضائي الذي سار عليه وذاك، وبعد الإعلان تنتج الفائدتان الأوليتان.
الأمر التاسع: في قابلية هذه الرواية الدالَّة على تعدُّد أساليب قضاء المهدي للإثبات التاريخي، والظاهر أنَّها الرواية الوحيدة الدالَّة على ذلك، في حدود علمنا، فيكون البناء على صدقها وصحَّتها، مُتفرَّعاً على قابليتها للإثبات التاريخي وقابليتها للإثبات مُتفرِّعة على وثاقة رواتها.
هذا، وقد نقلها صاحب البحار عن كتاب الغيبة للسيد علي بن عبد الحميد، وأحال

↑صفحة ٥٢١↑

السند على ذلك الكتاب، فأصبح الرواة مجهولين بالنسبة إلينا، فلا تكون قابلة للإثبات، وإن كانت قريبة من الوجدان على أيِّ حال، بل ضرورية إذا كان هذا الأسلوب من التمحيص، ممَّا تتوقَّف عليه تربية المجتمع في التخطيط الآخر للظهور.
وبهذا يتمُّ الحديث عن المنشأ الثالث للتمحيص.
المنشأ الرابع للتمحيص: اتِّخاذ الإمام المهدي موقفاً جديَّاً تجاه تصرفُّات أصحابه، الذين وزَّعهم حكَّاماً على أقاليم العالم، فإنَّهم بعد توزيعهم هذا سيكونون محلَّ عناية وتركيز ومراقبة من قِبَل القائد المهدي (ع) لكي يكونوا جدِّيين في تطبيق العدل، صارمين في الحق، مُستمرِّين في الحفَّاظ على مستوى المسؤولية العُلْيا التي أُنيطت بهم، وهي مسؤولية ليست سهلة بل هي مُهدِّدة بالزلل والفساد لأقل طمع وجشع، كما هي مُهدَّدة بالانحراف في التطبيق لأقلِّ نسيان وخطأ.
ومن هنا ورد عن المهدي (ع) كونه (شديداً على العمَّال).
أخرج السيوطي في الحاوي،(٦٩٨) وابن طاووس في الملاحم والفتن(٦٩٩) وغيرهما، عن نعيم بن حمَّاد في كتابه الفتن، بسنده عن طاوس قال - بلفظ السيوطي -:
علامة المهدي أن يكون شديداً على العمَّال، جواداً بالمال، رحيماً بالمساكين.
وبلفظ ابن طاوس: المهدي سمح بالمال، شديد على العمَّال، رحيم بالمساكين.
والعامل في اصطلاح أرباب السياسة: الرئيس، والوالي، ومَن تولَّى إيالةً،(٧٠٠) فالعمَّال - في الحديث - هم ولاة المهدي في العالم، ولا يُراد بالعامل مَن يعمل بيده وفي معمل بدليل قوله: رحيماً بالمساكين، فإنَّ العامل بهذا المعنى من المساكين وضعاف الحال، فيكون المهدي رحيماً به لا شديداً عليه.
وإنَّما شدَّته على عمَّاله، أعني الحكَّام الموزَّعين في أقاليم الأرض، من أجل أهمِّيَّة تطبيق العدل، ومراقبتهم لئلا يحصل تسامح وانحراف فيهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٩٨) ج٢ ص١٥٠.
(٦٩٩) ص١٣٧.
(٧٠٠) انظر القرب الموارد، مادَّة: عمل.

↑صفحة ٥٢٢↑

وهذا ما يؤكِّده - أيضاً - الخبر الذي سمعناه في هذا الفصل عن البحار عن المفضل بن عمرو، حيث نستطيع أن نفهم منه هذا التسلسل الفكري:
أنَّ أصحاب الإمام (ع)، خلال حكمهم على العالم، سيُمارسون نشاطهم الاعتيادي، من خلال ما يعرفونه من أحكام، وما يتوصَّلون إليه من أساليب، وما يتلقُّونه من تعاليم، وما يحتوون عليه من قابليات، ويبقون على ذلك، بُرهةً من الزمن لا تُحدِّدها الرواية.
وهذه الممارسة هي في حقيقتها من أعظم التجارب والتمحيصات المتوجِّهة إليهم، إلى حدٍّ من الممكن القول: بأنَّهم لم يسبق لهم أن عاشوا مثل هذا التمحيص الكبير... بالرغم من مرورهم بالتمحيص السابق على الظهور، وبفترة الفتح العالمي، واجتيازهم كل ذلك بنجاح مُنقطع النظير.
وخلال هذه البُرهة، تبدأ - بالتدريج - نقاط ضعفهم بالظهور، ويتجلَّى اختلاف قابليَّاتهم في الإدارة وتطبيق العدل بشكل واضح، إلى حدٍّ يُصبح العدل العالمي ككل مُعرَّضاً للخطر، لو استمرَّ الوضع على ما هو عليه.
فيأتي ذلك اليوم القريب الذي يجمعهم الإمام المهدي (ع) من أطراف العالم، ويعمل لهم مؤتمراً عاماً، فيُخرج لهم من قبائه كتاباً مختوماً بخاتم من ذهب، عهدٌ معهود من رسول الله (ص) - كما تقول الرواية - فيُطلعهم عليه، والرواية لا تُشير إلى مضمون هذا العهد؛ لأنَّ التصريح به فوق مستوى الذهنية العامة لعصر صدور النص، إلاَّ أنَّه من المؤكَّد أنَّه سوف يكون مُضاعفاً للمسؤولية عليهم، مؤكِّداً لهم وجوب الالتزام بالعدل بشكل دقيق لا تسامح فيه، وبذلك تُصبح نقاط ضعفهم التي مارسوها خلال نشاطهم العالمي، واضحةً للعيان.
تقول الرواية: فيجفلون عنه إجفال النعم... يهربون عنه ولا يقبلون بمضمون هذا العهد، وبذلك يفشلون في هذا التمحيص فشلاً ذريعاً، بالرغم من أنَّهم نجحوا في كل التمحصيات السابقة.
وسيكون الفاشلون أكثر أصحابه خاصة؛ إذ لا يبقى منهم إلاَّ اثني عشر نفر منهم، يتَّخذون جانب طاعة الإمام المهدي والالتزام بعهوده وتعاليمه، فيكون العصاة عليه ثلاثمئة شخص وواحد، وهم الباقي بعد الطرح اثني عشر من ثلاثمئة وثلاثة عشر.
وليتهم إذ يهربون منه، يكتفون بترك المجتمع، والانصراف إلى العبادة، والأعمال الخيرية الصغيرة، لكنَّهم يجولون في الأرض طلباً للناصرين لهم والمدافعين عنهم.

↑صفحة ٥٢٣↑

ليكونوا جبهة معارضة ضدَّ الإمام (ع)، وبما ينوون مُناجزته القتال إذا استطاعوا.
ولكنَّهم سيفشلون في مُهمَّتهم فَشَلاً ذريعاً؛ لأنَّ عدل المهدي وهيبته وصحَّة عقيدته وقانونه، يكون قد سبقهم إلى كل القلوب والعقول، فلم يبقَ في العالم أحد إلاَّ تابع المهدي إيماناً وخوفاً وطمعاً، تماماً كما نطقت به بعض الأخبار، فيتفرَّق عنهم الناس، بعد أن يعرفوا مقاصدهم المُنحرفة، ولا يستطيع هؤلاء أن يجدوا في البشرية مؤيِّداً ولا ناصراً.
وتمضي خلال ذلك مدَّة، يُقرِّرون في نهايتها الرجوع إلى المهدي للاعتذار منه، وتخليص أنفسهم من عقوبته، ولكن هيهات ولات حين مناص بعد الفشل الذريع، إنَّهم الآن مُستحقُّون للقتل في منطق الدولة المهدوية، ومن هنا سيواجههم الإمام القائد بكلام مُعيَّن، يأبى الحديث الشريف عن التصريح بمضمونه، تكون نتيجته أنَّ هؤلاء الناس يكفرون بالمهدي يعني يُنكرون مهدويَّته وصدقه، ولا بدَّ أنَّه عندئذ يأمر بقتلهم جميعاً.
وإلى هنا تنتهي الحادثة التي يُعرب عنها هذا الحديث، وهو أمر مُحتمل تماماً، بحسب ما أعطيناها من الفهم العام للدولة المهدوية وللتمحيصات العامة، وخاصة تلك التي تكون في التخطيط اللاحق للظهور.
وعلى أيِّ حال، فلن ينجو من الفشل في هذا التمحيص إلاَّ اثني عشر فرداً، يبدو أنَّهم يُمثِّلون الحكومة المركزية في العالم، أعني أنَّهم كانوا يعملون إلى جانب الإمام المهدي نفسه، وليسوا مُتفرِّقين في العالم، وذلك بمُرجِّحين:
المرجِّح الأول: أنَّ فيهم الوزير حيث تقول الرواية: الوزير وأحد عشر نقيباً.
والوزير يعمل إلى جنب الملك والرئيس عادة، وهو في الدولة القديمة بمنزلة رئيس الوزراء في الدولة الحديثة، كما عرفنا.
المرجِّح الثاني: إنَّ هؤلاء النفر القليل - أفضل في الإخلاص وقوَّة الإرادة أساساً - من أولئك المرتدِّين العديدين، بدليل نجاحهم وفشل أولئك، والنجاح لا ينتج إلاَّ من عمق الإيمان.
ومن الطبيعي أن نفترض أنَّ المهدي - من أول الأمر - يختار حكومته المركزية من أفضل هؤلاء الثلاثمئة والثلاثة عشر، فيستبقي عنده اثني عشر منهم، ويُفرِّق الباقي في البلدان، فيكون هؤلاء الاثنا عشر أفضل من الجميع، فيتيسَّر لهم النجاح في هذا

↑صفحة ٥٢٤↑

التمحيص. وهم باعتبار قربهم من قائدهم، ومركزية وجودهم يكونون أكثر استيعاباً وفَهْماً لموقف المهدي وآرائه، وللمصالح العالمية ككل؛ ومن هنا يكونون أقرب للنجاح في التمحيص من هذه الجهة.
هذا، ولكنَّ هذه الرواية الدالة على هذا التمحيص لا تخلو من بعض المناقشات:
المُناقشة الأُولى: إنَّ هذا الحديث الشريف وحده غير كافٍ في الإثبات التاريخي، بحسب الموازين التي اتبعناها في هذا البحث التاريخي.
والقرائن العامة التي فهمناها وضممناها إليه... وإن كانت مؤيِّدة لمضمونه، إلاَّ أنَّها في الحقيقة، تؤيِّد إمكان وقوع ذلك، لا أنَّها تؤيِّد إثبات الوقوع، وفرق كبير ما بين هذين الأمرين.
المناقشة الثانية: إنَّنا لو غضضنا النظر عن الأسلوب الإعجازي، الذي عرفنا أن الدعوة الإلهية لا تقوم عليه على طول الخطِّ... فإنَّنا يمكن أن نقول: إنَّ ارتداد هؤلاء لا يُشكِّل نقصاً ذريعاً في المؤهَّلين لإدارة العالم، فإن كان هؤلاء الذين تمخَّض عنهم تاريخ البشرية في خطِّها الطويل، لأجل نصرة الإمام المهدي طبقاً لتخطيط ما قبل الظهور، إن كان هؤلاء لم يستطيعوا الاستقامة، ولم تثبت أهليَّتهم الكاملة لمُمارسة الحُكم، فمن أين يأتي الإمام بغيرهم في تلك العجالة، ولمَّا يمرُّ بعدُ على البشرية زمان كافٍ للتربية والتكامل، بحيث يكون الحكَّام الجُدد أفضل بدرجات كبيرة وواضحة من هؤلاء المُخلصين والمُمحَّصين، إنَّ ذلك - بعد إسقاط الأسلوب الإعجازي عن النظر - أمر في غاية البُعد، فإذا التفتنا إلى سياق الحديث، نشعر بأنَّهم سوف لن يُمارسوا الحُكم في الدولة المهدوية طويلاً، بل قد لا يعدو حكمهم عدَّة أشهُر، هذا ما تعضده القرائن، فإنَّ انكشاف نقاط ضعف تكفي فيه هذه المدَّة بشكل واضح، فالمدَّة كافية لفشل هؤلاء، ولكنَّها غير كافية لإيجاد بديل أفضل منهم، يسدُّ الفراغ الكبير الذي سوف يُحدثه ارتدادهم.
وحيث ينعدم البديل، يستبعد زوال هؤلاء عن كراسي الحُكم؛ لأنَّه سوف يؤدِّي إلى الإخلال بالدولة العالمية وأهدافها الكبيرة.
المناقشة الثالثة: إنَّ الإمام المهدي يُقيم الحجَّة على صدقه لأول مرَّة، عند

↑صفحة ٥٢٥↑

ظهوره لخاصة أصحابه الذين يُبايعونه في المسجد الحرام، ويرافقونه إلى العراق، وهؤلاء هم الذين يفترض بهم أن يكفروا به بعد هذا الزمن المُتطاول والجهاد المُتواصل... بعد أن أضحت الحجَّة على صدق المهدي (ع) مُعلنة على البشر أجمعين، وواضحة لكل فرد وضوح الشمس، وقد شارك هؤلاء أنفسهم في إعلانها وترسيخها في المجتمع، على أوسع نطاق.
وإنَّ أهمَّ حجَّة على الإطلاق يمكن للمهدي (ع) أن يُقيمها هو فتحه للعالم كله، وتطبيقه للعدل فيه، فإنَّنا لا نعني بالمهدي إلاَّ الشخص الذي يعمل هذا العمل ويؤسِّس هذه النتيجة الكبرى، بإجماع علماء المسلمين، بل بإجماع أهل الأديان.
وإنَّ أيَّ تشكيك يمكن أن يرجف به المرجفون في المعجزات الوقتية، التي يُقيمها المهدي (ع) كحجَّة على صدقه، كالذي قيل ضدَّ بني الإسلام (ص): بأنَّه كاهن، وساحر. غير أنَّ الفتح العالمي واستتباب الدولة العالمية، دليل لا يمكن أن يرقى إليه شكٌّ.
وإنَّ أهمَّ مَن يعرف ذلك ويفهمه بعمق من البشر المعاصرين لذلك العهد، هم هؤلاء الخاصة المُخلصين المُمحَّصون، فكيف يمكن أن نتصوَّر منهم أنَّهم يكفرون به ويرتدُّون عن الإيمان بمهدويَّته؟!
المناقشة الرابعة: إنَّنا سبق أن ذكرنا في تاريخ الغيبة الكبرى(٧٠١) أنَّ احتجاب الإمام المهدي (ع) خلال غيبته الكبرى، مهما كان دقيقاً شاملاً، إلاَّ أنَّ الفرد إذا وصل في تربيته وتمحيصه إلى درجة مُعيَّنة عالية من الإيمان، فأصبح له من المُخلصين الكاملين، كان له أن يرى الإمام، ولا دليل على أنَّه (ع) يحتجب عن مثل هذا المستوى الرفيع من المؤمنين.
وهناك من الأخبار ما يدلُّ على مرافقة المهدي (ع) لجماعة من الناس، مع معرفتهم بحقيقة الغيبة الكبرى، وأنَّ عدداً من الناس ممَّن كانوا يُشاهدونه خلال ذلك، كانوا يعرفونه حين يُصادفونه بعد ذلك.
إذاً؛ فهؤلاء المُخلصون المُعاصرون للظهور، كانوا يعرفون الإمام المهدي (ع) خلال غيبته، وربَّما كان بعضهم مُتَّصلاً به ومعاشراً له، فمثل هؤلاء يكونون مُطَّلعين على حقيقة المهدي (ع) منذ غيبته، وقد سمعنا غير بعيد، احتمال أنَّ الإمام (ع) يخصُّهم خلال ذلك بالتعاليم التي تؤهِّلهم لتولِّي مسؤولياتهم الجسيمة بعد الظهور.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٠١) انظر ص١٥٠ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

↑صفحة ٥٢٦↑

إذاً؛ فهؤلاء الخاصة على يقين بأنَّ هذا الشخص بعينه هو المهدي المُنتظر منذ غيبته، فضلاً عن عصر ظهوره؛ ومعه فمن غير المُحتمل أن يخطر على بالهم التشكيك بمهدويَّته.
ومع وجود هذه المناقشات وغيرها، يُكمننا أن نطمئنَّ تماماً على استقامة هؤلاء الخاصة خلال مُمارستهم الحُكم والقضاء في دولة العدل العالمية، وخاصَّة بعد أن عرفنا أنَّ أسلوب الإمام القائد (ع)، هو تعاهدهم بالتوجيه والرعاية والإصلاح.
ومعه؛ لا يكون مضمون هذا الخبر الدال على ارتدادهم، قابلاً للإثبات التاريخي.
الجهة الرابعة: في تمحيص الإمام المهدي (ع) للأُمَّة ككل.
والأُمَّة الإسلامية تُشكِّل يومئذ أكثرية البشر، إن لم يكن جميعها، والدولة الإسلامية المهدوية مُسيطرة على العالم كله بطبيعة الحال.
والفرد الاعتيادي فيها يواجه عدَّة مستويات من التمحيص، بحسب ما يُدركه الباحث على الظهور.
المستوى الأول: التمحيص تجاه عواطف الفرد وغرائزه وشهواته.
فإنَّ الإنسان خلال الحُكم العادل، لا يتحوَّل عمَّا خُلق عليه من الميول والغرائز، وما رُكِّب فيه من الشهوات، بل يبقى إنساناً بماله من عقل وفكر، وغرائز وميول، وقصارى ما يُقدِّمه التشريع العادل، هو أن يُنظِّم له متطلَّبات هذه الجهات، بحيث يضمن له التوازن بينها أولاً، والتكامل المُستمرَّ ثانياً.
كما أنَّ قصارى ما تُقدِّمه الدولة العادلة، هو أن تفتح له فرص هذا التوازن والتكامل على مصراعيها، اجتماعياً واقتصادياً، ونفسياً وفكرياً.
وأمَّا الأخذ بزمام المبادرة إلى التحكُّم في الغرائز المنطلقة وكبح جماحها، وتطبيق مفاهيم الفضيلة والعدل عليها، وتطبيقها على هذه المفاهيم... فهو موكول إلى الفرد نفسه على طول الخطِّ، بحسب منطق الدعوة الإلهية، لا يختلف ما قبل الظهور عمَّا بعده في ذلك.
إذاً؛ فالفرد يواجه هذه المسؤولية على طول الخطِّ، وهي تُشكِّل تمحيصاً مُهمَّاً بالنسبة إليه، حيث تُقاس تصرُّفاته وردود فعله، تجاه مُتطلَّبات عواطفه وشهواته المُنحرفة! فبمقدار ما يمكنه أن يُطبِّق عليها المنهج العادل في التوازن والتكامل، يكون ناجحاً في التمحيص، ومهما قصر في ذلك استطاعت شهواته السيطرة على سلوكه وتفكيره، وأعاقت سيره نحو الكمال، كان فاشلاً في التمحيص.

↑صفحة ٥٢٧↑

المستوى الثاني: المُشاركة في تطبيق العدل الكامل.
فإنَّ العدل الكامل يتوقَّف على تجاوب وتعاطف بين الدولة والأفراد من ناحية، وبين الأفراد أنفسهم من ناحية أخرى، وعلى إطاعة كاملة وتطبيق حقيقي للتشريع العادل، على كل المستويات؛ لكي يكون لكل فرد في الدولة والمجتمع شرف المشاركة في إنجاح التجربة العادلة الكبرى، وفي جعل البشرية جمعاء في طريق التكامل الحقيقي والسعادة الكاملة، التي يهدف إليها تخطيط ما بعد الظهور.
وإنَّ أيَّ تقصير وتخلُّف - مهما كان بسيطاً - سوف يكون عاملاً عكسياً هدَّاماً في هذا التخطيط المُقدَّس، وهذا الهدف العظيم، ويُعتبر انحرافاً مُهمَّاً، وفشلاً ذريعاً في التمحيص، قال الله تعالى:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).(٧٠٢)
إذاً؛ فالكفر والتمرُّد على مُتطلَّبات العدل بعد تنفيذ هذا الوعد وإقامة الدولة العالمية العادلة، أمر يُمثِّل أقصى الخسَّة والانحطاط.
والدولة - بطبيعة الحال - تُساعد بكل اهتمام، في إيجاد الظروف الملائمة لتطبيق هذه المسؤوليات، على ما سنسمع في الفصل الآتي الخاص بأسلوب تربية الأُمَّة.
وفي مثل ذلك، يكون الأخذ بزمام المُبادرة إلى الطاعة وتطبيق العدل، من قِبَل الفرد سهلاً إلى حدٍّ كبير؛ ومن هنا تكون بوادر الانحراف والتمرُّد على هذه المسؤوليات من أعظم الجرائم وأكبرها، ولا يكون العقاب بالقتل عقاباً مُجحفاً.
المستوى الثالث: التسليم بكل ما يقوم به الإمام المهدي (ع) من أفعال وأقوال، والاعتقاد بكونه هو الحق الصحيح، وعدم الاستماع إلى الإرجاف الذي قد يحصل حول ذلك، مهما كان فعله (ع) مُلفتاً للنظر وغير معروف المصلحة؛ لأنَّ هذا التسليم هو الذي يُمكِّن المهدي (ع) من تربية الأُمَّة والبشرية تربية كاملة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٠٢) النور / ٥٥.

↑صفحة ٥٢٨↑

ومُستمرَّة، ووضع الأُسس التربوية التي يتبعها الحكَّام العالميون، الذين يُمارسون الحُكم بعده، بعد وضوح أنَّه هو الشخص الوحيد المُسدَّد من قِبَل الحكيم المطلق تعالى، في معرفة الحقائق والمصالح والأحكام.
والأخبار التي رويناها في الجهة الأُولى من هذا الفصل، حين تتعرَّض إلى صور التمحيص، يمكننا فهمها على أساس هذه المستويات الثلاثة.
فأخبار قضاء الإمام المهدي (ع) بأساليب الأنبياء السابقين، تتعرَّض إلى التمحيص، على الأساس الثالث، لوجوب التسليم بالقضاء الذي يتَّخذه المهدي (ع) على كل تقدير.
وكذلك هؤلاء الخاصة الذين يجفلون عنه إجفال النعم - لو تمَّ الخبر - فإنَّهم نجحوا في التمحيص بالمستويين (الأول والثاني)، وفشلوا في المستوى الثالث، وقد عرفنا تفصيله.
أمَّا امتحان أصحاب طالوت، وتطبيقها على أصحاب الإمام المهدي (ع)، فإنَّ القسم الأول منهم إن كانوا نجحوا بالمستوى الأول، فإنَّهم فشلوا في المستوى الثاني والثالث، فإنَّه كان اللازم الالتزام بكلام قائدهم بدون مناقشة للوصول إلى الخير والسعادة، بل إنَّهم لم ينجحوا حتى في المستوى الأول؛ لأنَّهم قدَّموا مصالحهم الحياتية على تطبيق التشريع العادل.
وأمَّا القسم الثالث من أصحابه، فقد نجحوا نجاحاً كاملاً في كل المستويات، فأصبحوا من الخاصة المؤمنين، الذين نصر الله تعالى بهم دعوته العامة.
وكذلك سيمرُّ أصحاب الإمام (ع) بالتمحيص، وستتعدَّد مستويات النجاح بالنسبة إليهم، مع فرق مُهمٍّ بينهم وبين أصحاب طالوت في فَهْم المستوى الثاني للتمحيص، فإنَّ أصحاب الإمام يتحمَّلون مسؤولية تطبيق العدل المطلق، وأصحاب طالوت يتحمَّلون مسؤولية تطبيق مرحلة من العدل، تُناسب المستوى الذي عاصروه من تطوُّر البشرية.
ولن يكون الامتحان الذي يمرُّ به أصحاب الإمام تماماً كذلك الامتحان بكل

↑صفحة ٥٢٩↑

حوادثه، وإنَّما تُشير الرواية إلى وجود تمحيصات لهم، لم تُشِرْ إلى هويَّتها، وإنَّما مثَّلت لها تمثيلاً، وقد شرحتها الروايات الأخرى بوضوح.

وأمَّا قوله في الحديث الآخر: (إذا خرج القائم، خرج من هذا الأمر مَن كان يرى أنَّه من أهله، ودخل فيه شِبه عَبدة الشمس والقمر...)، فهو بالرغم من كونه خبراً مُرسلاً لا يصلح للإثبات، غير أنَّنا لو لاحظناه على ضوء مجموع الفَهم الذي أعطيناه لتمحيص الأُمَّة، يُصبح فَهمه أمراً طبيعياً وسهلاً، بل يمكن الوثوق بصحَّة الحديث، على ضوء هذه القرائن العامة.
فإنَّ ذلك يُعتبر من النتائج الرئيسية للتمحيصات السارية المفعول في تخطيط ما بعد الظهور، فبينما يكون جماعة من المُتديِّنين بالحق، نجدهم يخرجون من عقيدتهم وينحرفون انحرافاً شنيعاً... بينما نرى قوماً آخرين ربَّما يكونون أكثر عدداً وأكبر عدَّة، يكون واقعهم قائماً على الإلحاد والمادِّية والتسيُّب واللا مُبالاة، (شِبه عبدة الشمس والقمر) يؤمنون بالمهدي (ع) ويحسن إيمانهم؛ نتيجةً لوضوح الحجَّة التي يُعلنها (ع)، وجمال العدل والسعادة التي تعمُّ دولته العالمية، وإذا كان المادِّيون، وهم أبعد الناس في تسلسل الفكر الاعتقادي لدى البشر عن الإسلام، يُصبحون مُسارعين إلى الإيمان، فكيف بالآخرين من ذوي الأديان السماوية وغيرهم، ممَّن هم أقرب في تسلسل الفكر الاعتقادي إلى الإسلام، نتيجةً لاعتقادهم بالخالق الحكيم وإنكارهم للمادِّية المُطلقة، وسنذكر في الباب التالي من هذا الكتاب، الفرص الكبرى التي تنفتح لأهل الكتاب من اليهود والنصارى للدخول في دين الله أفواجاً.
وأودُّ في هذا الصدد، أن يُفرِّق القارئ، بين سيطرة الإمام المهدي (ع) على العالم، وبين دخول الناس في عقيدته، فإنَّ هذه التمحيصات إنَّما تؤثِّر في زيادة الإيمان ونقصه، بعد استتباب الدولة العالمية، ولا ربط لها بتأسيس هذه الدولة.

↑صفحة ٥٣٠↑

الفصل السادس: أُسلوب الإمام المهدي (ع) في تربية الأُمَّة

تمهيد:
ينبغي في هذا الفصل أن نأخذ بنظر الاعتبار نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأُولى: إنَّ بحثنا عن أُسلوب الإمام (ع) في تربية الأُمَّة، سوف يكون بحثاً إجمالياً بعد تعذُّر الاطِّلاع على التفصيل؛ لأنَّ ذلك يقتضي الاطِّلاع الكامل على عُمق الوعي الذي ينشره الإمام (ع) في ربوع البشرية، ليمكننا أن نرى أصحَّ الطرق وأسهل الأساليب التي يتَّخذها (ع) في هذا الصدد، فيبقى تفصيل ذلك مؤجَّلاً إلى عصر الظهور.
ومن هنا؛ سوف نقتصر بالضرورة، على ما تُدركه أذهاننا من عناوين عامة، وأساليب مفهومة، مطابقة للقواعد العامة المُبرهنة الصحَّة في الإسلام.
النقطة الثانية: إنَّ هذا البحث، بالرغم من إجماله، سوف لن يعدم المصادر للاطِّلاع على بعض الخصائص من هذه الناحية، تلك المصادر التي اتبعناها في كل هذا التاريخ، وهي القواعد العامة في الإسلام والأخبار الواردة بالخصوص، ممَّا يمكن أن يُلقي ضوءاً على محلِّ الكلام، وسنرى هنا أنَّ في هذين المصدرين غناء وعطاء سخياً.
وسنتحدَّث في هذا الفصل عن جهتين:
إحداهما: في الأساليب العامة المُتَّخذة لتربية الأُمَّة في عهد الظهور.
والأخرى: في نتائج هذه التربية، وما يمكن أن يصل إليه المستوى الثقافي والإيماني للأُمَّة الإسلامية، نتيجةً للتربية المهدوية.
الجهة الأُولى: في الأساليب العامة المُتَّخذة لتربية الأُمَّة في عصر الظهور، ويكون في الإمكان أن نُدرك تلك الأساليب، لو استطعنا أن نحمل فكرةً واضحةً عن

↑صفحة ٥٣١↑

دواعي الانحراف وموجباته في المجتمع المُنحرف فيما قبل الظهور.
وتتلخَّص تلك الدواعي - بشكل عام - فيما يلي:
أولاً: التثقيف المُنحرف الموجَّه من قِبَل الدولة للأجيال الصاعدة، في المدارس والمعاهد ووسائل الإعلام بشكل عام.
ثانياً: الضغط الموجَّه من قِبَل الدولة، لإطاعة وتطبيق القوانين الوضعية المُخالفة للعدل الإسلامي.
ثالثاً: الحاجة المالية عموماً، والتنافس المالي خاصة، الذي يدعو الفرد إلى ارتكاب كل الأساليب في الحصول على المال، سواء في الصناعة أم التجارة أم خدمة الدولة أم غيرها.
رابعاً: التنافس الاجتماعي في توسيع السكن، وتجميل الثياب، وتحسين وجبات الطعام، والحصول على الآلات الحديثة المُوفِّرة للراحة، والرافعة من شأن صاحبها نتيجةً لهذا التنافس.
خامساً: الإغراء الجنسي، على مُختلف مستوياته وأشكاله.
وتتداخل هذه الأسباب وتتشعَّب، فيشعر الفرد المعاصر - بكل وضوح - بأنَّ السير في اتجاهها هو الأصلح له، والذي يوفِّر له قسطاً من الراحة والهناء؛ ومن هنا يندفع تلقائياً إلى التكيف طبقاً لمُتطلَّباتها، فيُعطيها من جانبه المعنوي والخلقي ومن راحته وهناءة نفسه الشيء الكثير.
ومن هذا المنطلق يحدث التغيير، إذ يشعر الفرد بالراحة والهناء، بدون وجود أسباب الانحراف ليتوفَّر له فرصة الهداية والسير نحو العدل والحق.
ومن هنا نستطيع أن نتبيَّن - بوضوح - الأسلوب الرئيسي الجديد لتربية الأُمَّة، ضمن النقاط التالية، كل واحدة بإزاء أحد الدواعي السابقة.
النقطة الأُولى: إنَّ التثقيف الخاص والعام، يُصبح موجَّهاً نحو طاعة الله وعبادته، في كل حقولها ومستوياتها، والخلق الرفيع، وذلك عن طريق كل ألسنة المهدوية... ابتداءً بالتوجيهات العُلْيا الصادرة من الإمام (ع) نفسه، وانتهاءً بأجهزة الإعلام، كالإذاعة والتلفزيون والصُّحف، وكذلك المناهج التربوية في المدارس والمعاهد العلمية في كل العالم.

↑صفحة ٥٣٢↑

النقطة الثانية: إنَّ الضغط بدل أن يكون موجَّهاً نحو تطبيق القانون المُنحرف، سيكون موجَّهاً ضدَّه، وسيستأصل كل مُنحرف وفاشل في التمحيص الإلهي، كما رأينا وسمعنا، وبذلك تنقطع الأرضية العامَّة لنموِّ الفساد انقطاعاً كاملاً، ويُطبَّق القانون العادل الكامل تطبيقاً كاملاً.
النقطة الثالثة: إنَّ التنافس سوف يكون موجَّهاً ومركَّزاً نحو الخير والصلاح، طبقاً للمفاهيم والقوانين العامة، التي تُصبح سائدة في ذلك العصر.
النقطة الرابعة: إنَّ الحاجة المالية، وهي من أعظم أُسس الجريمة في العالم اليوم، سوف ترتفع تماماً بعد الذي سنسمعه في الفصل الآتي، من توفير المهدي للمال وفرةً كبيرة جدَّاً، يرتفع فيه الدخل لكل أحد، ارتفاعاً كبيراً، وتتوفَّر فرصة العمل لكل الأفراد توفُّراً حقيقياً بشكل متساوي، على ما سنسمع أيضاً.
النقطة الخامسة: إنَّ الإغراء الجنسي المُنحرف ينعدم بالمرَّة، بعد تطبيق الأحكام الإسلامية في تنظيم العلاقة بين الجنسين؛ إذ بعد بناء النفوس والأفكار بناءً صالحاً عن طريق التثقيف العام والخاص، سوف تتمثَّل هذه العلاقة على أرفع صورها وأعدل أشكالها.
ومع اجتماع هذه النقاط، سوف يصدر الفرد عن قناعة وإخلاص، إلى ضرورة إقامته للخير والسلوك العادل، ومواكبة الأطروحة العادلة الكاملة، التي يدعو إليها المهدي (ع) ويُطبِّقها.
وسيشعر الفرد بوضوح: أنَّ السلوك الشرِّير على خلاف مصلحته الخاصة والعامة، على طول الخطِّ وفضلاً عن كونه خروجاً عن الخط العبادي لله (عزَّ وجلَّ)، ومستوجباً للعقاب في الدنيا والآخرة.
فهذا موجز عن الظروف التي توفِّرها دولة الإمام المهدي (ع) للصلاح والإيمان، وبالتالي: العدل... بغضِّ النظر عن تفاصيل المفاهيم التي يُعلنها في المجتمع... تلك المفاهيم والظروف التي تؤدِّي إلى النتائج الكبرى التي نُحاول أن نحمل عنها صورة واضحة في الجهة الآتية.
الجهة الثانية: في نتائج التربية الإسلامية في دولة المهدي (ع)، وما يمكن لأن يصل إليه المستوى الثقافي والإيماني في المجتمع، بشكل عام.
ونحن تارةً نُحاول أن نتناول ذلك من زاوية القواعد العامة التي عرفناها، أعني من

↑صفحة ٥٣٣↑

حيث الارتباط بالتخطيط الإلهي العام لهداية البشرية، وأخرى من حيث الاعتماد على الأخبار الواردة بهذا الصدد، ممَّا يمكن جعله منطلقاً إلى معرفة خصائص المستوى الثقافي والإيماني للناس، فيما بعد الظهور.
وأمَّا إذا نظرنا من زاوية التخطيط الإلهي العام، فمن مُكرَّر القول أن نؤكِّد على أنَّ النتيجة الأُولى التي تحدث باستتباب الحكم للمهدي (ع) في العالم، هو تطبيق ما سمَّيناه بـ (الأُطروحة العادلة الكاملة) من الناحية القانونية، وأنَّ النتيجة الكبرى والنهائية التي تحدث نتيجةً للخطِّ التربوي الطويل الذي يتَّخذه الإمام المهدي (ع) في دولته، هو الهدف الإلهي نفسه من خلق البشرية، ذلك الهدف الذي أعرب عنه قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(٧٠٣) وهو وجود المجتمع العادل في أفراده و(المعصوم) في رأيه العام... بل المجتمع المعصوم في أفراده أيضاً في نهاية المطاف، وسيأتي البرهان الكامل عليه في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة.
وأمَّا إذا نظرنا من زاوية الأخبار الواردة في هذا الصدد، فنجد أمثلة مُتفرِّقة تُعطينا صوراً كافية عن السلوك الصالح والمستوى الثقافي والإيماني، الذي يصله الأفراد بعد استتباب دولة المهدي (ع).
فمن ناحية الأخَّوة في الهدف المُشترك، والتصافي بين أفراد المجتمع، نسمع الأخبار التالية:
فمن ذلك: ما أخرجه السيوطي في الحاوي،(٧٠٤) عن نعيم بن حمَّاد، وأبو نعيم من طريق مكحول عن علي قال: (يا رسول الله، أمِنَّا آل محمد المهدي أم من غيرنا؟).
فقال: (لا، بل منَّا، يختم الله به الدين كما فُتح بنا، وبنا يؤلِّف الله قلوبهم بعد عداوة الفتنة، إخواناً في دينهم).
أقول: وهذا حديث مشهور أوردته الكثير من مصادر الفريقين.
وأخرج مسلم،(٧٠٥) عن أبي هريرة في حديث عن النبي (ص) أنَّه قال: (لتذهبنَّ الشحناء والتباغض).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٠٣) الذاريات: ٥٦.
(٧٠٤) ج٢ ص١٢٩.
(٧٠٥) ج١ ص٩٤.

↑صفحة ٥٣٤↑

وأخرج النعماني،(٧٠٦) بسنده عن عميرة بنت نفيل، قالت:
سمعت الحسن (الحسين) بن علي (ع) يقول: (لا يكون الأمر الذي تنظرون، حتى يبرأ بعضكم من بعض، ويتفل بعضكم في وجوه بعض، فيشهد بعضكم على بعض بالكفر، ويلعن بعضكم بعضاً!).
فقلت له: ما في ذلك الزمان من خير!
فقال الحسين (ع): (الخير كله في ذلك الزمان، يقوم قائمنا ويدفع ذلك كله).
وأخرج المجلسي(٧٠٧) في البحار، بإسناده عن بريد العجلي، قال: قيل لأبي جعفر (ع): إنَّ أصحابنا في الكوفة جماعة كثيرة، فلو أمرتهم أطاعوك واتَّبعوك.
فقال: (يجيء أحدهم إلى كيس أخيه فيأخذ منه حاجته؟!).
فقال: لا.
فقال: (هم بدمائهم أبخل!...).
ثمَّ قال: (إنَّ الناس في هُدنة، نُناكحهم ونوارثهم ونُقيم عليهم الحدود ونؤدِّي أماناتهم، حتى إذا قام القائم جاءت المُزايلة، ويأتي الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ حاجته ولا يمنعه).
أقول: المُزايلة هي المُفارقة والمُباينة بين أهل الحق وأهل الباطل، والكيس المراد به محلُّ حفظ النقود.
وهذه الصورة كافية لأن نستشفَّ من خلالها حياة الأخوَّة التي يبذرها الإمام القائد في مجتمعه العادل، لو أخذنا بنظر الاعتبار أنَّها أخبار قيلت طبقاً لفَهْم المجتمع الذي صدرت فيه.
فحسبنا أن نتصوَّر الأُخوَّة التي استطاع رسول الله (ص) أن يبذرها في صحابته، تلك الأُخوَّة الخالصة المبنيَّة على العقيدة والهدف المشترك، لكي نتصوَّر أنَّ الإمام المهدي (ع) يُقيم مجتمعه على نفس المستوى الذي أقام النبي (ص) مجتمعه عليه، طبقاً لما سمعناه عن رسول الله (ص) في الخبر: (وبنا يُصبحون بعد عداوة الفتنة إخواناً، كما أصبحوا بعد عداوة الشرك إخواناً في دينهم).
ولا يخفانا لُطْف المُقايسة في هذا الخبر، بين عصر الجاهلية وما استتبعه من (عداوة الشرك)،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٠٦) ص١٠٩.
(٧٠٧) ج١٣ ص١٩٥ - ١٩٦.

↑صفحة ٥٣٥↑

وعصر الغيبة وما يستتبعه من (عداوة الفتنة) إلى جانب المقايسة بين عصر النبي كرافع لعداوة الشرك، وعصر المهدي (ع) كمزيل لعداوة الفتنة، وما حدث ويحدث في هذين العصرين من أُخوَّة ووفاق.
كما أنَّ حسبنا أن نتصوَّر مستوى الأُخوَّة العظيم، المُقترن بالمفهوم الصحيح، وهو أنَّ لأخيك في الإيمان حقَّاً في مالك متى احتاج إليه، يُصبح أيُّ فرد مسروراً إذا امتدَّت يد أخيه المحتاج إلى كيسه ومحفظته ليأخذ مقدار حاجته، تلك الأُخوَّة التي يمكن بها فتح العالم، وتأسيس دولة العدل العالمية، ولئن كانت هذه الأُخوَّة في أول عهد الظهور محصورة بين الخاصة المُمحَّصين، فستكون بعد قليل هي الصفة الشائعة المسلَّمة، الموجودة في كل مسلم، نتيجةً لتربية المهدي (ع) وجهوده.
وأمَّا من ناحية المستوى الثقافي للأُمَّة، فتُعطينا الصور التالية:
أخرج الصدوق في إكمال الدين،(٧٠٨) بسنده عن أبي جعفر (ع) قال: (إذا قام قائمنا (ع) وضع يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم، وكمُلت بها أحلامهم).
وفي رواية الكافي:(٧٠٩) (وضع الله يده...) الخ.
وأخرج النعماني،(٧١٠) بسنده عن حبَّة العوني، قال: قال أمير المؤمنين (ع): (كأنِّي أنظر إلى شيعتنا بمسجد الكوفة، قد ضربوا الفساطيط يُعلِّمون الناس القرآن كما أُنزل).
وفي خبر آخر، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (كأنِّي بشيعة عليٍّ في أيديهم المثاني، يُعلِّمون الناس المثال المُستأنف).
وفي حديث آخر،(٧١١) عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر (ع)، أنَّه تحدث عن المهدي (ع) فقال - فيما قال -: (وتؤتون الحكمة في زمانه؛ حتى إنَّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله وسنَّة رسول الله (ص)).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٠٨) انظر كمال الدين المخطوط.
(٧٠٩) انظر: مُنتخب الأثر ص٤٨٣.
(٧١٠) ص١٧١، وكذلك الخبر الذي بعده.
(٧١١) ص١٢٦.

↑صفحة ٥٣٦↑

إلى غير ذلك من الأخبار، وسيأتي في الفصل الآتي ما ينفع في هذا الصدد:
والأحلام جمع حِلم بكسر فسكون، وهو الأناة والرُّشد والعقل. قال تعالى: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا...)(٧١٢)، أي عقولهم، وقد يُقابل به الجهل والسفاهة. قال زهير: وأنَّ سفاه الشيخ لا حِلم بعده.
وقوله: (وضع يده على رؤوسهم)، قال المجلسي في مرآة العقول:(٧١٣) الضمير في قوله: (يده)، إمَّا راجع إلى الله وإلى القائم (ع)، وعلى التقديرين: كنايةً عن الرحمة والشفقة، والقدرة والاستيلاء، وعلى الأخير يحتمل الحقيقة.
أقول: ليس المراد به شيء من ذلك... وإنَّما المراد الكناية عن تربية القائم (ع) للأُمَّة الإسلامية، وإنَّما عبَّر بالرؤوس باعتبار كونها وعاءً العقل والفكر باعتقاد الناس.
ووضع اليد عليها كناية عن السيطرة عليها بالإقناع والتربية، لا يختلف الحال في ذلك سواء كان الفاعل المُربِّي هو الله تعالى أم المهدي (ع)، فإنَّ شريعة المهدي (ع) هي شريعة الله تعالى، وتربيته هي تربية الله عزَّ وعلا، فكلاهما المُربِّي في حقيقة الأمر.
ومن هنا تُنتِج التربية نتيجتها الطبيعية المطلوبة، وهي اجتماع العقول، وتكامل الأحلام.
والمراد من اجتماع العقول، الجانب العلمي والثقافي من حياة الإنسان.
والمراد من اجتماعها تسالمها على مفهوم عقائدي واحد، وعلى أُطروحة تشريعية واحدة، بحيث يكون من الصعب أن نتصوَّر وقوع الخلاف بين شخصين مُندمجين في الإيديولوجية العامة لدولة المهدي العالمية، وخاصة إذا أصبحت الأُمَّة والبشرية بدرجة من الكمال، بحيث يُصبح الرأي فيها (معصوماً)، ويكون تحصُّل الاجتماع والاتِّفاق على الأمور سهلاً إلى حدٍّ كبير.
والمراد من تكامل الأحلام: ارتفاع مستوى الأناة والرُّشد، وهو الجانب العاطفي والنفسي للإنسان، ذلك الجانب الذي يُمثِّل بأول درجاته مستوى (العدالة) الفردية في الإسلام، ويُمثِّل في درجاته العُلْيا (مستوى العصمة) التي سوف يصل إليها المجتمع بعد فترة من الزمن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧١٢) الطور: ٣٢.
(٧١٣) انظر هامش مُنتخب الأثر ص ٤٨٣ نقلاً عن مرآة العقول.

↑صفحة ٥٣٧↑

وهذه النتيجة بجانبها العلمي والعاطفي، هي التي تُمثِّل الوعي العالي، الذي يوجِده المهدي (ع) في دولته ومجتمعه. وذلك الوعي الذي قلنا: إنَّه لا يمكن أن يُدرِك الفرد كُنهه إلاَّ المُفكِّر المُعاصر لعهد الظهور، وإنَّما نُدركه الآن بعناوينه العامة ليس غير.
ومن هنا؛ يتَّضح أنَّ وضع اليد على رؤوس العباد، لا يُراد به المعنى الحقيقي، ولا الرحمة ولا الاستيلاء بمعنى المُلك والسلطة، فإنَّ كل ذلك بمُجرَّده لا يُنتِج تكامل الأحلام ولا اجتماع العقول، كما هو واضح، وإنَّما الذي يُنتِج ذلك هو التربية والإعلاء للعقول والأفكار والعواطف.
والمراد بالقرآن كما أُنزل، ذلك الذي يعلمه أصحاب المهدي للناس، كما نطق به الخبر... المراد به المعاني الواقعية للقرآن، بعد وضوح عدم اختلاف القرآن عن عهد رسول الله (ص) لفظياً.
ومن الطبيعي أن يُعرض القرآن يومئذ كما أُنزل؛ لما سمعناه في الأخبار العديدة: بانَّ المهدي يأتي بالإسلام جديداً، كما جاء به رسول الله (ص)، فكانت وظيفة النبي (ص) هو التنزيل، ووظيفة المهدي (ع) هي التأويل، أي التطبيق، وإنَّ أهمَّ فقرات التطبيق وخُططه تفهيم الناس المقاصد الواقعية للقرآن الكريم، وتثقيفهم الثقافة العالية عن هذا الطريق... عن طريق الإمام المهدي (ع) وعن طريق أصحابه ثانياً.
والمثاني التي هي بيد أصحاب المهدي (ع) - كما نطق الخبر - هي الواردة في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ)، وقد فُسرِّت في اللغة بآيات القرآن الكريم، وهو لا يكاد يكون صحيحاً؛ فإنَّ الآيات لا تنحصر بسبعة، إلاَّ أن يُراد بها سورة الحمد خاصة، وهو تفسير وردت به بعض الأخبار، إلاَّ أنَّها لن تثبت، وهو - أيضاً - خلاف ظاهر الآية الكريمة.
والأوفق بالقواعد اللغوية والإسلامية معاً، هو هذا الاحتمال الذي نعرضه كأُطروحة مُحتملة في تفسيرها، فإنَّ المثاني في اللغة هو ما بعد الأول من الأشياء؛ ومعه يكون الأول هو القرآن الكريم الذي عطفته الآية على المثاني، وتكون المثاني مستويات سبعة مُتأخِّرة في الرتبة عن القرآن الكريم من قواعد الإسلام العامة، والأنسب عندئذ، هو أن يكون كل واحد من هذه الأمور السبعة يلي القرآن مباشرة في الأهمِّيَّة، بحيث يُعتبَر كل واحد منها ثاني القرآن، ليكون الجمع بالمثاني أقرب وأوضح.
وأمَّا أنَّ هذه القواعد بالتعيين ما هي، فيمكننا أن نعرف قليلاً منها: كالسنَّة والعقل

↑صفحة ٥٣٨↑

والسيرة العقلائية... والمظنون أنَّ عدداً منها غير معروف أساساً... فإنَّ المثاني إنَّما أوتيت إلى النبي (ص) (وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ...)، ومن المظنون أنَّ بعضها بلَّغه النبي (ص) إلى الناس، وبعضه بقي مذخوراً إلى اليوم الموعود.
وسواء عرفناها أم لم نعرفه، فاليوم الموعود، هو وقت إعلانها جميعاً، فأصحاب الإمام المهدي (ع) سيُصبحون - باعتبار تعاليمه وهداه - عارفين بكل المثاني السبع، يُطبِّقون مُتطلَّباتها، ويُفهمون الناس موجباتها وآثارها، في حدود ما تقتضيه مصالح التكامل البشري يومئذ.
والخبر الذي يُعرب عن ذلك، لا يدلُّ على أنَّ أصحاب الإمام (ع) يُعلِّمون الناس المثاني نفسها، وإنَّما قال: (بأيديهم المثاني يُعلِّمون الناس المثال المُستأنف)، فهم يأخذون المثاني بنظر الاعتبار، من أجل إشاعة الثقافة العُلْيا بين الناس.
والمثال المُستأنف، هو هذه الثقافة، وهي الإيديولوجية الكبرى التي يُبشِّر بها المهدي في دولته، نعرف ذلك من خبر آخر أخرجه النعماني، بسنده عن جعفر بن محمد (ع) أنَّه قال: (كيف أنتم لو ضرب أصحاب القائم الفساطيط في مسجد كوفان، ثمَّ يخرج إليهم المثال المستأنف؟!).
وإنَّما سُمِّيت هذه الثقافة بالمثال المُستأنف باعتبار أمرين:
أحدهما: كونها مثالية (أعلى من الواقع المُعاصر بكل مستوياته)، بالنسبة إلى عصر صدور هذه الأخبار، بالنسبة إلى عصر ما قبل الظهور عموماً.
ثانيهما: باعتبار كونها جديدة على الأذهان، غير معهودة لدى أغلب الناس، بل جميعهم في عصر ما قبل الظهور، فباعتبار الأمر الأول كانت (مثالاً)، وباعتبار الأمر الثاني كانت أمراً مُستأنفاً.
المثال المُستأنف يُخرجه المهدي (ع) إلى العالم بشكل رئيسي، فيتلقَّاه أصحابه عنه بشكل كامل ودقيق، فيُعطونه إلى العالم ويُبلِّغونه إلى البشر؛ توصُّلاً إلى الهدف الإلهي الرئيسي في إيجاد المجتمع الكامل ذو العبادة الإلهية الكاملة... طبقاً لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ).
هذا، وقد اشتملت بعض هذه الأخبار على التصريح بأنَّ شيعة علي (ع) هم الذين يقومون بهذه المُهمَّة الكبرى، وهو دالٌّ - بوضوح - على أنَّ أصحاب المهدي (ع) على مثل هذا المذهب، وقد سبق أن بسطنا الكلام في ذلك عند الحديث عن المذهب الإسلامي

↑صفحة ٥٣٩↑

 للمهدي (ع)، والمُهمُّ الآن أنَّهم أصحاب الإمام المهدي (ع) نفسه.
والحديث الأخير الذي سمعناه يتحدَّث عن المرأة، وعن المستوى الثقافي العالي الذي تبلغه في عصر الظهور، تلك المرأة عانت من المجتمع المُنحرف ظروفاً من الجهل والكبت والظلم، أمَّا في الدولة العالمية، فهي تنطق بالحكمة، وهي: المفاهيم المهدوية العُلْيا، وتقضي بكتاب الله وسنَّة رسوله، وتقوم بقيادة جانب مُهمٍّ من المجتمع على أحسن وجه، وإذا كانت كذلك، فما أحسن تعاملها مع زوجها! وما أفضل تربيتها لأولادها!
وهي في قيادتها تُطبِّق عملها على آداب اللياقة الإسلامية، وهو الحجاب والجانب الأخلاقي في العلاقة بين الجنسين، كما يقتضيه العدل الكامل، ذلك الجانب الذي قلنا في بعض بحوثنا: إنَّه لا يمنع من أيِّ عمل وتجارة وقيادة.

↑صفحة ٥٤٠↑

الفصل السابع: بعض مُنجَزَات الإمام المهدي (ع) على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي

لعلَّ من الواضح أنَّ الاطِّلاع على التفاصيل الكاملة لهذه المُنجزات مُتعذِّر تماماً لإنسان ما قبل الظهور، مهما كان عبقرياً، غير أنَّ المُهمَّ هو مُحاولة الاطِّلاع على بعض هذه المُنجزات في حدود ما تدلُّنا عليه القواعد العامة الإسلامية من ناحية، والأخبار الخاصة الدالة على هذه المُنجزات في الدولة العالمية، من ناحية أخرى.
ونحن نبدأ بسرد الأخبار الخاصة أولاً من دون ترتيب، فإنَّ الخبر الواحد قد يحتوي على عدَّة مُنجزات يمتُّ كلٌّ منها إلى حقل من حقول الحياة، ثمَّ نتحدَّث بعد ذلك عن الفهم العام لها وترتيبها مُطبَّقة على القواعد العامة، ثمَّ نذكر لهذا الفصل خاتمتين:
إحداهما: حول المُنجزات القضائية والعسكرية والفقهية للإمام المهدي.
والأخرى: حول المُنجزات التي تُسمَّى بـ (العلمية) في الإصلاح الحديث، ونسرد عدداً من الأخبار الدالة على أنَّ المهدي يستعمل آخر مُنجزات العلم الحديث في دولته.
وينبغي أن يقع الكلام في هذا الفصل ضمن عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: في إيراد الأخبار المُتضمِّنة لأهمِّ ما ورد من مُنجزات الإمام في دولته على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، وقد تحدَّثت عن ذلك أخبار الفريقين بغزارة.
فمن أخبار العامة في ذلك:
ما أخرجه البخاري،(٧١٤) بسنده عن أبي موسى عنه، عن النبي (ص) قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧١٤) ج٢ ص١٣٦.

↑صفحة ٥٤١↑

(ليأتينَّ على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب، ثمَّ لا يجد أحداً يأخذها...) الحديث.
وما أخرجه أيضاً،(٧١٥) عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله (ص) قال: (لا تقوم الساعة... - وعدَّ علامات كثيرة حتى قال: - وحتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يهمَّ ربُّ المال مَن يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أربَ لي به).
وما أخرجه مسلم،(٧١٦) بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): (والله، لينزلنَّ ابن مريم... - إلى أن قال: - ليدعونَّ إلى المال، فلا يقبله أحد).
وما أخرجه أيضاً،(٧١٧) بسنده عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (ص): (من خلفائكم خليفة يحثو المال حثياً، لا يعدُّه عدَّاً).
وفي خبر آخر، عن أبي سعيد، وجابر بن عبد الله، قالا: قال رسول الله (ص): (يكون في آخر الزمان خليفة يُقسِّم المال ولا يعدُّه).
وذكر له مسلم سندين، وأخرج الحاكم في مُستدركه(٧١٨) بهذا المضمون أكثر من حديث واحد.
وأخرجه الحاكم أيضاً،(٧١٩) عن أبي سعيد في حديث النبي (ص) يقول فيه: (... فيبعث الله رجلاً من عترتي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، يرضى ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدخر الأرض من بذرها شيئاً إلاَّ أخرجته، ولا السماء من قطرها شيئاً إلاَّ صبَّته عليهم مدراراً... تتمنَّى الأحياء والأموات ممَّا صنع الله عزَّ وجلَّ بأهل الأرض من خيره).
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧١٥) ج٩ ص٧٤.
(٧١٦) ج١ ص٩٤.
(٧١٧) ج٨ ص١٨٥.
(٧١٨) ج٤ ص٤٥٤.
(٧١٩) ج٤ ص٤٦٥.

↑صفحة ٥٤٢↑

وأخرجه أيضاً،(٧٢٠) عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (ص): (يكون في أُمَّتي المهدي، إن قصر فسبع وإلاَّ فتسع، تنعم أُمَّتي فيه نعمةً لم ينعموا مثلها قطُّ، تؤتي الأرض أُكُلها لا تدخر عنهم شيئاً، والمال يومئذ كدوس، يقوم الرجل فيقول: يا مهدي، أعطني. فيقول: خُذْ).
وأخرج أيضاً(٧٢١) عن ابن عباس، في حديث، قال: وأمَّا المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، كما مُلئت جوراً، تأمن البهائم والسباع، وتُلقي الأرض أفلاذ أكبادها.
قال: قلت: وما أفلاذ أكبادها؟
قال: أمثال الأسطوانة من الذهب والفضَّة.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يُخرجاه.
وأخرج أيضاً(٧٢٢) عن أبي سعيد: أنَّ رسول الله (ص) قال: (يخرج في آخر أُمَّتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويُعطى المال صحاحاً، وتكثر الماشية وتعظم الأُمَّة...) الحديث.
قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه.
وأخرج الترمذي،(٧٢٣) بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): (تقيء الأرض أفلاذ أكبادها أمثال الأسطوان من الذهب والفضَّة - قال: - فيجيء السارق فيقول: في هذا قُطعت يدي. ويجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت. ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي. ثمَّ يُدعونه ولا يأخذون منه شيئاً).
وأخرج القندوزي في الينابيع،(٧٢٤) عن الترمذي، عن أبي سعيد، عن النبي (ص) - في قصَّة المهدي -: (... فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي، أعطني، أعطني، أعطني -

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٢٠) ج٤ ص٥٥٨.
(٧٢١) ج٤ص٥١٤.
(٧٢٢) ج٤ص٥٥٨.
(٧٢٣) ج٣ص٣٣٤.
(٧٢٤) ص٥١٧ ط النجف.

↑صفحة ٥٤٣↑

قال: - فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله).
وأخرج أيضاً،(٧٢٥) عن أحمد والماوردي أنَّه (ص) قال: (أبْشِروا بالمهدي! رجل من قريش من عترتي، يخرج في اختلاف من الناس وزلزال، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً، ويرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، ويُقسِّم المال بالسويَّة، ويملأ قلوب أُمَّة محمد غناه ويسعهم عدله، حتى إنَّه يأمر مُنادياً فيُنادي: مَن له حاجة إلى المال يأتيه. فما يأتيه أحد، إلاَّ رجل واحد يأتيه، فيقول له المهدي: ائت السادن حتى يؤتيك.
فيأتيه فيقول: أنا رسول المهدي، أرسلني إليك لتُعطيني.
فيقول: اُحثُ. فيحثو، فلا يستطيع أن يحمله، فيخرج، فيندم، فيقول: أنا كنت أجْشع الأُمَّة نفساً، كلُّهم دُعيَ إلى هذا المال فتركوه غيري، فيردُّ عليه، فيقول السادن: إنَّا لا نقبل شيئاً أعطيناه...) الحديث.
وقال في الينابيع:(٧٢٦) وفي بعض الآثار... أنَّه يبلُغ سلطانه المشرق والمغرب، وتظهر له الكنوز، ولا يبقى في الأرض خراب إلاَّ يُعمَّر.
أقول: وانظر هذه المضامين في عدد آخر من المصادر العامة، كمسند أبي داود، وابن ماجة، وأحمد، والبيان للكنجي، والصواعق لابن حجر، ونور الإبصار للصبَّان، وإسعاف الراغبين للشبلنجي وغيرها.
وأمَّا أخبار المصادر الخاصة، فهي كما يلي:
فمن ذلك: ما أخرجه المفيد في الإرشاد،(٧٢٧) عن أبي جعفر (ع) أنَّه ذكر المهدي (ع) وخُطبته الأُولى في مسجد الكوفة، وقال: (فإذا كانت الجمعة الثانية، سأله الناس أن يُصلِّي بهم الجمعة، فيأمر أن يُخطَّ له مسجد على الغريِّ، ويُصلِّي بهم هناك، ثمَّ يأمر مَن يحفر من ظهر مشهد الحسين (ع) نهراً يجري إلى الغريَّين، حتى ينزل الماء في النجف،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٢٥) ص٥٦٢ وما بعدها، وانظر الحاوي للسيوطي ج٢ ص١٢٤.
(٧٢٦) ص٥٦٣.
(٧٢٧) ص٣٤١.

↑صفحة ٥٤٤↑

على فوهته القناطير والأرحاء، فكأنِّي بالعجوز على رأسها مِكْتَل فيه بُرٌّ، تأتي تلك الأرحاء فتطحنه بلا كري).
وأخرج عن المفضل بن عمر،(٧٢٨) قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (إذا قام قائم آل محمد (ع) بَنى في ظهر الكوفة مسجداً له ألف باب، واتَّصلت بيوت أهل الكوفة بنهري كربلاء).
وأخرج عنه(٧٢٩) قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (إنَّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربِّها... - إلى أن قال: - وتُظهر الأرض من كنوزها حتى يراها الناس على وجهها، ويطلب الرجل منكم مَن يصله بماله ويأخذ منه زكاته، فلا يجد أحداً يقبل منه ذلك، واستغنى الناس بما رزقهم الله من فضله).
وأخرج(٧٣٠) عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (ع): (إذا قام القائم (ع)، هدم المسجد الحرام حتى يردَّه إلى أساسه، وحوَّل المقام إلى الموضع الذي كان فيه).
وأخرج أيضاً(٧٣١) عنه، عن أبي جعفر (ع) في حديث طويل أنَّه قال: (إذا قام القائم (ع) سار إلى الكوفة، فهدم بها أربعة مساجد، ولم يبقَ مسجد على وجه الأرض له شرف إلاَّ هدمها وجعلها جماء، ووسَّع الطريق الأعظم، وكسر كل جناح خارج في الطريق، وأبطل الكنف والميازيب إلى الطرقات، لا ويترك بدعة إلاَّ أزالها ولا سنَّة إلاَّ أقامها).
وأخرج الشيخ في الغيبة،(٧٣٢) بسنده عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (إنَّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربِّها، واستغنى الناس... ويبني في ظهر الكوفة مسجداً له ألف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٢٨) ص٣٤٢.
(٧٢٩) نفس الصفحة.
(٧٣٠) ص٣٤٣.
(٧٣١) ص٣٤٤.
(٧٣٢) ص٢٨٠، وكذلك الخبر الذي يليه.

↑صفحة ٥٤٥↑

باب، وتتَّصل بيوت الكوفة بنهر كربلاء بالحيرة، حتى يخرج الرجل يوم الجمعة على بغلة سفواء يريد الجمعة فلا يُدركها).
وفي حديث آخر، عن أبي جعفر (ع) يقول فيه: (... فيخرج إلى الغريِّ، فيخطُّ مسجداً له ألف باب، يسع الناس عليه أصيص، ويبعث فيحفر من خلف قبر الحسين (ع) لهم نهراً يجري إلى الغريِّين، حتى ينبذ في النجف، ويعمل على فوهته قناطر وأرحاء على السبيل، وكأنِّي بالعجوز وعلى رأسها مِكْتل فيه بُرٌّ حتى تطحنه بكربلاء).
وأخرج أيضاً،(٧٣٣) بسنده عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (ما تستعجلون بخروج القائم؟ فوالله، ما لباسه إلاَّ الغليظ، وما طعامه إلاَّ الشعير الجَشِب).
وأخرج الراوندي في الخرايج والجرايج(٧٣٤) نحوه، في حديث طويل عن علي بن الحسين (ع).
وأخرج الصدوق في إكمال الدين،(٧٣٥) والطبرسي في إعلام الورى،(٧٣٦) عن محمد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (ع) يقول: (القائم منَّا، منصور بالرعب، مؤيَّد بالنصر، تُطوى له الأرض، وتظهر له الكنوز... ولا يبقى في الأرض خراب إلاَّ عُمِّر).
وأخرج الطبرسي أيضاً،(٧٣٧) عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: سمعت رسول الله يقول: (إنَّ ذا القرنين كان عبداً صالحاً... - إلى أن قال: - وإنَّ الله سيُجري سنَّته في القائم من وُلْدي... ويُظهر الله له كنوز الأرض ومعادنها وينصره بالرعب، ويملأ الأرض به عدلاً وقسطاً، كما مُلئت جوراً وظلماً).
وأخرج أيضاً،(٧٣٨) عن علي بن عقبة عن أبيه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٣٣) ص ٢٧٧.
(٧٣٤) ص١٩٦.
(٧٣٥) انظر المصدر المخطوط.
(٧٣٦) ص٤٣٣.
(٧٣٧) ص٤١٣.
(٧٣٨) ص٤٣٢.

↑صفحة ٥٤٦↑

إذا قام حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور وأمنت السبل وأخرجت الأرض بركاتها، ورد كل حق إلى أهله ... فحينئذ تظهر الأرض كنوزها وتبدي زينتها، فلا يجد الرجل منكم موضعا لصدقته ولا لبره، لشمول الغنى جميع المؤمنين ... الحديث.

قال: وأخرج المجلسي في البحار،(٧٣٩) قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه - في حديث -: (... ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم، حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلاَّ على النبات وعلى رأسها زينتها، لا يُهيجها سبع ولا تخافه).
فهذه نُخبة من الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا الصدد.
وكثرة الأخبار بهذا الصدد تُنتِج لنا أمرين:
الأمر الأول: اتِّضاح مدى اهتمام قادة الإسلام - النبي (ص) فمن بعده - إيضاح خصائص دولة المهدي وما يقوم به من أعمال، وما يُنتجه من خيرات، كيف لا؟ وهو يُمثِّل القمَّة لجهودهم والثمرة الطيِّبة لأعمالهم، والنتيجة الكبرى للتخطيط الإلهي الطويل.
الأمر الثاني: إنَّنا نستطيع بهذا السرد أن نؤدِّي حساب كل حادثة من الحوادث المنقولة بشكل أكثر وأدقّ، ونوفِّر لها المُثبتات بشكل أكثر؛ لوضوح أنَّ الروايات كلَّما زادت على الحادثة الواحدة، كانت آكد وأوضح في الذهن، وأقوى ثبوتاً من الناحية التاريخية.
والآن، لابدَّ أن نأخذ كل رواية من الروايات العامة المنقولة من هذه الأخبار، لنرى مقدار ثبوتها وموافقتها للقواعد العامة والقرائن المُثبتة، وذلك ضمن الجهات الآتية:
الجهة الثانية: المسلك الشخصي للإمام المهدي بصفته رئيساً للدولة العالمية العادلة، وهو ما صرَّحت به بعض هذه الأخبار، من أنَّ لباسه الخشن الغليظ، وطعامه الشعير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٣٩) ج١٣ ص١٨٢.

↑صفحة ٥٤٧↑

الجَشِب، وفي الخبر إيراد القسم على ذلك.
وهذا هو المسلك الصحيح لرئيس الدولة الإسلامية العادلة على طول الخطِّ، فإنَّه قد أخذ الله تعالى على كل إمام عادل يتولَّى الحكم الفعلي في المجتمع، أن يعيش في طعامه ولباسه على شكل وأسلوب أقلِّ أفراد شعبه، والحِكْمَة من ذلك، أوضح من أن تخفى، وهو أن لا يدعوه المنصب الكبير والمال الوفير إلى تناسي الفقراء من أبناء شعبه ومحكوميه.
وهذا المسلك هو الذي طبَّقه رسول الله (ص) على نفسه، حين تولَّى رئاسة الدولة الإسلامية بعد فتح مكَّة، واتَّخذه الخلفاء الأوائل الذين حكموا بعده إلى عصر خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
وكذلك سوف يكون الإمام المهدي (ع) حين يُمارس الحُكم العالمي العادل؛ لأنَّه سيكون من الواجب عليه أن يكون في عيشه مُماثلاً لأقلِّ فرد جائع ومسكين في العالم كله.
وسيكون أيضاً على هذا المسلك أصحابه الخاصة، الذين يوزِّعهم حكَّاماً على الأرض؛ لأنَّ الفرد منهم سيكون رئيساً عادلاً لمنطقة من الأرض، فيجب عليه أن يكون في حياته مُماثلاً لأقلِّ فرد في منطقته.
وقد سبق أن سمعنا في أخبار بيعة الإمام في المسجد الحرام لأول مرَّة، أنَّه (ع) يشترط على هؤلاء الخاصة شروطاً، يعود عدد منها إلى الحفاظ والتقيد من الناحية الشخصية، والعدد الآخر إلى العدل في المسلك الاجتماعي.
ففيما يعود إلى الناحية الشخصية يشترط عليهم أن (... لا يتمنطقوا بالذهب، ولا يلبسوا الخزَّ، ولا يلبسوا الحرير، ولا يلبسوا النعال الصرارة... ويلبسون الخشن من الثياب، ويوسِّدون التراب على الخدود، ويأكلون الشعير ويرضون بالقليل) الخ الخبر.(٧٤٠)
وحيث لا يكون ذلك واجباً على كل المسلمين، نعرف أنَّ الإمام المهدي (ع) إنَّما يشترط ذلك عليهم باعتبارهم سيُصبحون بعد فترة غير طويلة ريثما فتح العالم واستتباب الدولة العادلة، حكَّاماً على أقاليم الأرض، ومشاركين في الحكومة المركزية معه. وهذا المضمون من الواضح في القواعد الإسلامية العامة، بحيث لا يحتاج إلى خبر خاص يُعرب عنه.
وأمَّا الخبر الوارد بهذا الصدد، والذي سمعناه يقول: (فوالله، ما لباسه إلاَّ الغليظ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٤٠) انظر الملاحم والفتن ص١٢٢.

↑صفحة ٥٤٨↑

وما طعامه إلاَّ الشعير الجَشِب...)، فهو بالرغم من مُطابقته لهذه القواعد العامة يواجه سؤالين، لابدَّ من عرضهما مع مُحاولة الجواب عنهما.
السؤال الأول: أنَّ ما تقتضيه القواعد العامة، هو أن يعيش الرئيس في حياته الخاصة كأقلِّ فرد من محكوميه، وبعد أن نعرف طبقاً للروايات المُستفيضة عموم الرفاه، وكثرة المال في دولة المهدي العالمية، نعرف نتيجةً لذلك أنَّ الواجب عليه سيتغيَّر؛ لأنَّ أقلَّ الأفراد في العالم سيعيش مرفَّهاً عالي الدخل، فيكون للإمام المهدي (ع) أن يتوسَّع في حياته الخاصة إلى حدٍّ كبير، وكذلك أصحابه الخاصُّون تماماً؟
وجواب ذلك من عدَّة وجوه، نذكر منها اثنتين:
الوجه الأول: أنَّ الرواية لم تدلَّ على بقاء هذا المسلك للمهدي (ع) طيلة أيام حكمه، بل يكفي في صدقها كونه على ذلك فترة من الزمن في أول حكمه؛ لأنَّ العدل إنَّما يؤثِّر تدريجاً في نشر الرفاه في الأرض، والسعادة بين أبناء البشر أجمعين، وما لم يعمَّ الرفاه كل العالم بشكل حقيقي كامل، يبقى الفرد البائس موجوداً في بعض زويا العالم بطبيعة الحال، وما دام هذا الفرد موجوداً، يبقى المسلك المُشار إليه في الرواية واجباً على الإمام المهدي (ع).
الوجه الثاني: إنَّنا نحتمل - على أقلِّ تقدير - أنَّ تدريجية تأثير العدل في نشر الرفاه في العالم بكامله، سوف تستمرُّ طيلة حياة المهدي شخصياً، وإنَّما سيتحقَّق هذا الهدف الكبير بعده طبقاً لنظامه الذي يسنُّه هو (ع) للحكَّام العالميين الذين يخلفونه، ومن الصحيح أنَّ الأعم الأغلب من مناطق العالم ستكون مرفَّهة؛ ومن هنا يكتسب العالم كلُّه سِمة الرفاه والسعادة، في حياة المهدي، غير أنَّه من الممكن وجود الفرد البائس في مناطق نائية ومُتخلفة حضارياً من العالم، الأمر الذي يُحتِّم عليه بقاؤه على هذا المسلك طيلة حياته، وإنَّما تستطيع الدولة العالمية العادلة اجتثاث ذلك، على أيدي خلفائه.
السؤال الثاني: أنَّ الرواية تقول: (ما تستعجلون بخروج القائم؟! فوالله، ما لباسه إلاَّ الغليظ، وما طعامه إلاَّ الشعير الجَشِب)، مع أنَّ هذا المسلك الحياتي الذي يتَّخذه لا يُنافي استعجال ظهوره (ع)؛ لأمرين:
أحدهما: إنَّ الفرد المؤمن يتمنَّى ظهور الإمام (ع) لأجل المصلحة العامة، وهي

↑صفحة ٥٤٩↑

تطبيق العدل في العالم كله، وتنفيذ الهدف الرئيس من خلق البشرية، حتى وإن أوجب ذلك اتخاذ الفرد مسلك الزهد والتقشُّف، وأوجب الإجهاز على مصالحه الشخصية.
ثانيهما: إنَّ الفرد لو كان يتمنَّى ظهور الإمام (ع)، من أجل مصالحه الشخصية لرفع ظلاماته وترفيه عيشه، فهذا متوفِّر له على أيِّ حال، لما عرفناه من أنَّ هذا المسلك خاص غير عام، وسيكون الفرد الاعتيادي مُرفَّهاً سعيداً طيلة حياة المهدي (ع) وما بعده، ولن يكون هذا الفرد مسؤولاً عن اتخاذ ذلك المسلك؛ لأنَّه لا يكون مُمارساً للحكم في أيِّ منطقة من الأرض.
ومعه؛ يكون مؤدَّى الاستفهام الاستنكاري حين يقول: (ما تستعجلون بخروج القائم؟!...)، غامضاً مجهول القصد.
وجواب ذلك: إنَّنا ينبغي أن نفهم مَن هم المُخاطبون بقوله: (ما تستعجلون...)، لننطلق من ذلك إلى الجواب.
ولا شكَّ أنَّ الإمام أبا عبد الله الصادق (ع) كان يُخاطب قواعده الشعبية بهذا لكلام، تلك المجموعة التي كانت تُعاني من الظلم الأُموي والعباسي أشدَّ العذاب، وكان الفرد منهم ينتظر خروج القائم (ع) من أجل رفع الظلامات وتطبيق العدل، ومن ثمَّ من أجل الحصول على السعادة والرفاه، وهذه المجموعة تنقسم إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول: خاصة الإمام الصادق (ع) وطلاَّبه المُرتفعو الدرجة في العلم والإيمان.
القسم الثاني: الشعب الاعتيادي الموالي للأئمة المعصومين (ع)، والفرد من كلا القسمين يتمنَّى ظهور القائم المهدي بسرعة... وخطاب الإمام الصادق واستنكاره لذلك يمكن أن يشملهما معاً، فيكون لكل قسم فكرته الخاصة في الجواب.
أما القسم الأول، فمن الواضح أنَّه لو حصل التمنِّي وظهر المهدي (ع) يومئذ - بغضِّ النظر عن شرائط الظهور وعلاماته التي كان يجهلها الفرد منهم ـ، فإنَّ المهدي (ع) سوف يخصُّ أفراد هذا القسم بالاهتمام، ولن يجد غيرهم في التوزيع على مناطق العالم حكَّاماً وقضاةً، وإذا أصبحوا حاكمين كانوا مشمولين لوجوب مسلك التقشُّف كما قلنا.
ومن ثَمَّ لم يحصل السبب المُهمُّ في التمنِّي لسرعة الظهور، وهو الحصول على الحياة المرفَّهة السعيدة، فكان الاستفهام الاستنكاري عليهم من قِبل الإمام الصادق (ع) في محلِّه جدَّاً؛ لانطلاق جملة منهم من زاوية المصلحة الخاصة في هذا التمنِّي، كما يعرفه الإمام

↑صفحة ٥٥٠↑

الصادق نفسه من أصحابه.
وأمَّا القسم الثاني من الأفراد، فإنَّ الفرد الاعتيادي يومئذ باعتبار بساطته في الإيمان والعلم نسبياً، وعدم مروره بعصور التمحيص الطويلة، التي تصرَّمت بعد ذلك، يتخيَّل نفسه كامل الإيمان عميق الفهم، ويتوقَّع من المهدي (ع) - لو ظهر يومئذ - أن يُقرِّبه ويُمجِّد به؛ ومن هنا نعود إلى نفس التسلسل الفكري الذي عرفناه في القسم الأول.
إنَّ هذا الفرد الاعتيادي، لو حصل ما يتمنَّى وظهر المهدي (ع)، فإن أبعده واعتبره فرداً اعتيادياً من شعبه، فسوف يحصل على الرفاه إلاَّ أنَّ توقُّعه القُرب من المهدي (ع) سوف يتخلَّف، وهي صدمة عنيفة بلا شكٍّ، وأمَّا إذا قرَّبه المهدي (ع) إليه، واعتبره خاصته، فقد حصل توقُّعه من إمامه، إلاَّ أنَّه سيُرسِل هذا الفرد حاكماً في بعض أقاليم العالم، على أحسن تقدير، ومعه يكون مشمولاً لوجوب الزهد والتقشُّف، ولن يحصل على مصلحته الخاصة بحال، ومعه يكون الاستفهام الاستنكاري من قِبل الإمام الصادق (ع) في محلِّه تماماً.
والغرض الرئيسي من هذا الاستفهام سيكون هو أنَّ تمنِّي الظهور، لا ينبغي أن يكون من زوايا المصلحة الخاصة أساساً، وإنَّما يجب أن ينطلق من زاوية المصلحة العامة، التي هي تطبيق العدل العالمي، وتنفيذ الغرض الإلهي... وإلاَّ كان من المتوقَّع تخلُّف هذه المصلحة الخاصة أساساً.
الجهة الثالثة: في السياسة الزراعية التي يتَّبعها الإمام المهدي (ع) في دولته.
نستطيع أن نُحيط علماً ببعض نتائجها وأساليبها من الأخبار السابقة، حيث نصَّت على أنَّ الأرض تُؤتي أُكُلها لا تدخر منه شيئاً، وهو كناية عن أنَّ إنبات الأرض للنبات سيكون إلى أكبر حدٍّ ممكن يتحمَّله وجه البسيطة (حتى تمشي المرأة بين العراق والشام، لا تضع قدميها إلاَّ على النبات، ومن يخفى عليه حال هذه الصحراء التي تتوسَّط العراق والأردن والشام ونجد... إنَّها صحراء ضخمة موحِشة وجافَّة، لكنَّها ستُصبح يانعة بالأشجار والثمار في أقلِّ مدَّة ممكنة.
وما هذا إلاَّ مثال واحد من العالم كله، وإنَّما نصَّت عليه الأخبار، باعتبار قربه إلى أذهان المجتمع السامع لهذه النصوص في عصر صدورها، وليس ذلك باعتبار الانحصار.
فإذاً دولة المهدي (ع) عالمية، وجهوده وجهود المُخلصين في دولته، شاملة لكل العالم على حدٍّ سواء، فمن الطبيعي أن نتصوَّر أنَّ هذه الصحراء ليست هي الصحراء الوحيدة التي

↑صفحة ٥٥١↑

ستُصبح خضراء، وإنَّما ستخضرُّ كل الصحاري في العالم، بما فيها الربع الخالي، والصحراء الكبرى في شمال إفريقيا وغيرها.
وإذا كان هذا هو شأن الصحاري، فما هو شأن الأراضي التي كانت خصبة منذ عهد ما قبل الظهور، وما هو مقدار إنتاجها وإسباغ النعمة منها. إنَّ هذا لا يمكن لمُفكِّر بشري سابق على الظهور أن يُقدِّره.
وعلى أيِّ حال، فما هو العنصر المُسبِّب لهذا الانقلاب الزراعي الشامل؟ نستطيع أن نوعز - بعد عنصر التساوق بين التشريع والتكوين الذي الذي سنتحدَّث في جهة قادمة من هذا الفصل - نستطيع أن نوعزه إلى الإخلاص الحقيقي في العمل.
فمن السخف أن يُقال: إنَّ البشرية متَّجهة نحو المجاعة، وإنَّ زيادة النسل يؤدِّي حتماً إلى قلَّة الأرزاق في العالم، إنَّ ذلك إنَّما يتحقَّق، حين يكون الإخلاص ضئيلاً والتشريع ظالماً، كما هو الحال في عصر ما قبل الظهور، وأمَّا حين توجد الدولة المُخلصة والتشريع العادل والأيدي العاملة المُجدَّة والعمل المُنظَّم عالمياً، فسوف يمكنه أن يحفظ للبشرية أرزاقهم مهما تزايدت وتكاثرت، بل يمكنها أن تزيد الإنتاج إلى أضعاف الدخل الفردي لكل البشر، بشكل لا مثيل له في ما سبق من تاريخ.
وأمَّا المنهج التفصيلي التشريعي والعملي، الذي يتَّبعه المهدي (ع) في دولته لنيل هذه النتائج الزراعية الرائعة، فالتعرُّف عليه موكول إلى وعي ما بعد الظهور، وإنَّما المُستطاع التعرُّف على بعض فقراته من خلال ما بين أيدينا من قواعد وأخبار، وهذا ما سنتوفَّر عليه في الكتاب القادم من هذه الموسوعة.
إنَّ نفس الأخبار التي سمعناها تُعطينا بعض الحقائق التي تُفيدنا بهذا الصدد، فالإمام المهدي (ع) سيأمر بحفر نهر خلال الصحراء الواقعة بين كربلاء والنجف، حتى ينزل الماء في النجف، ويعمل على فوهته القناطير - يعني الجسور والأرحاء - وهو جمع أرحية، وهي المطحنة القديمة للحبِّ؛ ومن هنا قال في الرواية: (فكأنِّي بالعجوز على رأسها مِكْتَل فيه بُرٌّ، تأتي تلك الأرحاء فتطحنه بلا كري)، أي بدون أجرة.
فإذا علمنا أنَّ ذلك ليس إلاَّ مُجرَّد مثال، ذُكِر طبقاً للفهم القديم، استطعنا أن نتصوَّر مقدار الأنهر والقنوات ممدودة في الصحراء للريِّ، ومقدار التجهيز الآلي الزراعي المُباح التصرُّف فيه للناس مجَّاناً؛ ليُساعد على سرعة الإنتاج وضخامته، وعلى سرعة التوزيع والتسويق.

↑صفحة ٥٥٢↑

وستؤدِّي هذه الثورة الزراعية طبقاً لأيدولوجية الدولة المهدوية، إلى عدَّة نتائج مُهمَّة، نفهم بعضها:
منها: توفُّر الأطعمة والثمار لدى الناس، مع رخص قيمتها السوقية، بل توفُّرها مجَّاناً للكثير من الناس.
ومنها: توفير العمل المُنتج للعديد من الأيدي العاملة، وبالتالي إشباع الملايين من العوائل التي كانت فقيرة ومُضطهدة في عهد ما قبل الظهور.
ومنها: توفير الفرص الكبيرة لإزجاء الحاجات الحياتية مجَّاناً، وبدون عوض.
وبذلك نستطيع أن نتصوُّر حصول النتيجة المُهمَّة الكبرى المطلوبة، وهي توفير السعادة والرفاه في ربوع المجتمع البشري.
الجهة الرابعة: في السياسة العُمرانية في دولة المهدي (ع).
ونحن نرى نتائج السياسة واضحة فيما سمعنا من الأخبار، فبيوت الكوفة سوف تتَّصل بكربلاء والحيرة، ويكون الجميع بلدةًَ واحدةً، وهي من السعة بحيث لو ركب شخص بغلة سفواء - أي سريعة السير - من صبح يوم الجمعة قاصداً المسجد الذي تُقام فيه صلاة الجمعة ظهراً لأجل حضور هذه الصلاة، لم يُدركها، وإذا كان هذا الشخص قد توجَّه من أحد أطراف هذه المدينة، فالمسجد على أيِّ حال، ليس في طرفها الآخر، بل في وسطها؛ ومن هنا نعرف أنَّ هذه المسافة التي يمشيها هذه الرجل ببغلته السريعة، ليست إلاَّ قسماً من البلدة، ولا يُمثِّل أكثرها فضلاً عن جميعها.
وهذا أيضاً من التنبُّؤات الطريفة في الأخبار، فإنَّ سعةَ المُدن بهذا المقدار، لم تكن معروفة بأيِّ حال في الزمن القديم، بل لعلَّ مُجرَّد تصوُّرها كان فوق الخيال، وأما الآن، فهو يُعتبر أمراً طبيعياً، خاصة في العواصم الأخرى، كيف والكوفة ستُصبح عاصمة للعالم كله، تحت راية الدولة المهدوية؟! فمن الطبيعي لها أن تتَّسع بهذا المقدار.
ولعلَّنا نستطيع أن نفهم من هذا، مقدار تركيز الدولة واهتمامها بالعُمران في سائر البلدان، وليس في العاصمة فقط، فلئن كانت العاصمة بالتحديد الذي سمعناه، يزيد طولها على الثمانين كيلو متراً، فليكن غيرها مقارباً لذلك وبمقدار نصفه مثلاً... حسب

↑صفحة ٥٥٣↑

ظروف كل بلدة وموقعها الجغرافي وأهمِّيتها الاجتماعية.
وستنال المساجد اهتماماً خاصاً من قِبل الإمام المهدي (ع)، باعتبارها مراكز إسلامية رئيسية.
فالمسجد الحرام الذي فيه الكعبة المُشرّفة في مكّة المُكرَّمة، سوف يشطب على كل توسيعاته، ويهدمها ويردُّ المسجد إلى أساسه الذي كان عليه في صدر الإسلام؛ احتراماً لهذا الأساس الذي كان في زمن رسول الله (ص)، وستترتَّب على هذا التغيير بعض النتائج التي قد نُشير إليها في خاتمة هذا الفصل.
ويُحوِّل المهدي (ع) مقام إبراهيم من موضعه الحالي، ويردَّه إلى مكانه الذي كان عليه مُلاصقاً للكعبة المُشرّفة، بعد أن كان قد فُصِل عنها عدَّة أمتار، ولا زال مفصولاً عنها إلى العصر الحاضر.
إنَّ فكرة مقام إبراهيم - أساساً - تعني المكان الذي وقف عليه إبراهيم الخليل (ع) حين بنى الكعبة المُشرّفة، وبطبيعة الحال يقف الباني إلى جنب الجدار الذي يبنيه، ولا معنى أن يقف بعيداً عنه بعدَّة أمتار، ومعه الموضع الطبيعي لمقام إبراهيم هو جوار الكعبة المُشرَّفة، كما تقتضيه طبائع الأشياء.
وهو أيضاً يهدم في الكوفة، أربعة مساجد من دون تجديد، على ما هو ظاهر الأخبار، باعتبارها لم تُبنَ على التقوى، الذي هو الشرط الأساسي لمشروعية بناء المسجد في الإسلام، فإذا بنى على غير التقوى وجب هدمه لا محالة، ولم تكن قبل ظهور المهدي (ع) قوَّة مؤمنة قادرة على ذلك، ومن ثَمَّ وجب على دولة المهدي المُبادرة إلى إزالة آثار الانحراف والعدوان.
وأمَّا المسجد الذي يأمر المهدي (ع) ببنائه في ظهر الكوفة، أي خلفها من ناحية النجف، فهو الذي له ألف باب، وقد دلَّ على وجوده عدد من الأخبار، وهذا الرقم وإن لم يكن مقصوداً بنفسه، إلاَّ أنَّه يدلُّ على كثرة كبيرة جدَّاً من الأبواب، تلك الكثرة المُستلزمة لسعة ضخمة في المسجد.
فإنَّنا لو فرضنا هذا لمسجد مُربَّعاً، وكان في كل ضلع منه مئتان وخمسون باب، وكان بين كل باب وباب عشرة أمتار على الأقل، لأنَّ طول الضلع ألفي متر وخمسمئة متر، وهذا معناه أنَّ سعة المسجد لا تقلُّ عن ستِّ ملايين وربع من الأمتار المربَّعة، وهو مسجد لم

↑صفحة ٥٥٤↑

يسبق له مثيل قبل عهد الظهور يُبنى؛ لكي يُناسب الوضع الإسلامي في الدولة العالمية.
وإنَّما تنبثق الحاجة إلى ذلك، باعتبار صلاة الجمعة التي يُقيمها الإمام (ع) في كل أسبوع، والتي يجب شرعاً أن يحضرها الأعمُّ الأغلب من الذكور من سكَّان العاصمة، وما حواليها من الضواحي، إلى جانب كل مَن يرغب بالحضور للتشرُّف بالصلاة من خلف الإمام المهدي (ع)، وثمَّ سوف يكون التجمُّع كبيراً جدَّاً بحيث يمكن أن يجمعهم جامع الكوفة الكبير الذي يخطب فيه لأول مرَّة كما سمعنا، فاقتضت المصلحة إيجاد مثل هذا المسجد الضخم ليسدَّ هذه الحاجة الإسلامية المُلحَّة.
ومن هنا ذكرت الأخبار، أنَّ الإمام المهدي (ع) في أوَّل جمعة من وروده إلى العراق يخطب خُطبته الأُولى هناك، وهي التي سبق أن تعرَّضنا لها قال الخبر: (فإذا كانت الجمعة الثانية، قال الناس: يا بن رسول الله، الصلاة خلفك تُضاهي الصلاة خلف رسول الله (ص)، والمسجد لا يسعنا.
فيقول: أنا مُرتاد لكم.
فيخرج إلى الغريِّ، فيخطُّ مسجداً له ألف باب، يسع الناس).(٧٤١)
والمسجد الذي لا يسع المُصلِّين، هو جامع الكوفة الكبير الذي كان أمير المؤمنين (ع) يُصلِّي فيه، والغريُّ هو النجف الأشرف الواقع جنوب الكوفة، وقوله: (مرتاد لكم)، أي طالب ومُترقَّب لإجابة طلبكم.
ومن هنا نعرف أنَّ هذا المسجد يكون من أولى مُنجزاته العمرانية في العالم.
وهو يهتمُّ في كل مسجد أن يُطبِّق عليه الحكم الإسلامي الصحيح، حتى لو كان الحكم استحباباً غير إلزامي، حيث ينبغي أن يتربَّى المجتمع تدريجياً على الالتزام بالواجبات والمُستحبَّات معاً، ليبلغ في نهاية المطاف درجة العصمة المطلوبة، فهو (ع) يهدم كل مسجد عالي البناء، ويقتصر منه على المقدار الراجح في الشريعة العادلة، قال الخبر: (ولم يبقَ على وجه الأرض له شرف إلاَّ هدمها وجعلها جماء).
ومن جملة الأعمال العُمرانية للمهدي (ع) في دولته - كما في الخبر - أنَّه يُوسِّع الطريق الأعظم، والمراد به الطريق الذي بين بلدتين، وليس في الخبر إشارة إلى طريق مُعيَّن، وإنَّما المراد أنَّه يقوم بتوسيع الطُّرقات المُهمَّة التي تصل بين المدن عموماً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٤١) انظر غيبة الشيخ ص٢٨١، وإعلام الورى ص٤٣٠.

↑صفحة ٥٥٥↑

وإنَّنا في عصرنا الحاضر لنُدرك أهمِّيَّة هذا التوسيع، وجسامة العمل المُنتج له أكثر من أيِّ وقت مضى.
ومن تشريعاته العُمرانية أنَّه يمنع الأجنحة إلى الطُّرقات، ويهدم الموجود منها.
والجناح في اللغة هو الروشن والكوَّة،(٧٤٢) فيكون المراد بها الشبابيك التي تُطلُّ من المنازل على الطُّرق، فتكشف ما في داخل المنزل ما لا يصحُّ كشفه في الشريعة العادلة، فيكون من الواجب إزالتها، وإبدال سبب التهوية بشيء جديد.
وقد يُفهم من الجناح أمر آخر، وهو البروز الذي يجعل عادة في البناء إلى جانب الطريق والشارع، أمَّا عن طريق الأعمدة وبدونها، وهذا أنسب باستعارة الجناح ذوقاً، وإن لم يُنصَّ عليه لغةً، والمفهوم تقليدياً أنَّ المهدي (ع) يُحرِّم هذا النوع من البناء... غير أنَّه ليس من معاني الجناح لغةً.
ومن تشريعاته العُمرانية - كما نصَّ الخبر -: أنَّه يُبطل أي يمنع الكُنُف والمآزيب إلى الطُّرقات، والكُنُف بضمَّتين جمع كنيف، وهو البالوعة، والمراد بها مواسير المياه القذرة.
والمآزيب جمع ميزاب وهو معروف، وكلاهما مُستعمل بكثرة في عصرنا الحاضر، وهما موجبان لاتِّساخ الطُّرق وإزعاج المارَّة؛ ومن هنا يقوم الإمام (ع) بمنعها... ولابدَّ لأهل البيوت من تصريف مياههم بأساليب أكثر نظافة وتهذيباً.
الجهة الخامسة: في أهمَّية التعدين في الدولة المهدوية.
نصَّت الأخبار الواردة بطرق الفريقين، بأنَّ الأرض تُظهر معادنها وكنوزها على سطحها حتى يراها الناس، وتُلقي بأفلاذ أكبادها كأمثال الأُسطوانات من الذهب والفضَّة.
وهذا يمكن فَهْمه على أساس إعجازي، بمعنى يفترض أنَّ ظهور المعادن على سطح الأرض يكون عن طريق المعجزة، تأييداً من الله تعالى للمهدي ودولته.
وهذا الفهم المُحتمل، على ما سوف يأتي... إلاَّ أنَّه ليس فَهْماً مُنحصراً، بل يمكن تقديم فَهْمٍ آخر، لا يكون الفهم الإعجازي بالقبول منه على أقل تقدير.
وهو أن نفهم الشكل الطبيعي لظهور المعادن، وهو استخراجها بالآلة، عن طريق تخطيط مُعيَّن، واهتمام خاصٍّ من قِبل الدولة، حتى تتوفَّر المعادن بأيدي الكثيرين للقيام بها في الصناعات، وإزجاء مُختلف الحاجات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٤٢) انظر اقرب الموارد.

↑صفحة ٥٥٦↑

ولا يخفانا في هذا الصدد، أنَّ تطبيق الحُكم الإسلامي على المعادن يجعلها مملوكة للأفراد لا للدولة، بخلاف القوانين الوضعية التي تعتبرها جميعاً ملكاً للدولة، كما أنَّه يجعلها مُنتشرة بأيدي الآلاف لا بأيدي عدد قليل من الناس.
وذلك، بأن نفترض أنَّ الدولة المهدوية هي التي توفِّر آلات الاستخراج الضخمة، مع تطبيق الحُكم الإسلامي القائل: إنَّ كل مَن استخرج شيئاً من المعدن يجب عليه أن يدفع خُمسه إلى الفقراء، وهو يملك المقدار الباقي، فيُنتج أنَّ آلاف العمَّال العاملين في المعادن سوف يملكون كمِّيات ضخمة من المعدن المُستخرَج، وملايين من الفقراء سوف تنسدُّ حاجاتهم عن طريق دفع خُمس المقدار المُستخرَج إليهم.
فإذا ضممنا إلى ذلك الحُكم الإسلامي القائل: بأنَّه لا يجوز للمُستخرِج أن يزيد مقدار ما يستخرجه وما يملكه من المعدن، على قوت سنته، عرفنا أنَّه ليس من حقِّ أيِّ فرد من العاملين في المعدن أن يُثرى على حساب الآخرين، وإنَّما بمُجرَّد أن تصل ثروته إلى حدٍّ مُعيَّن، يفي بحاجته السنوية له ولعياله بما يُناسب حاله اجتماعياً، منعته الدولة عن الحصول على مقدار الزائد من المعدن، فإمَّا أن يعتزل العمل ويسمح لغيره بالاستخراج، لكي يملك من المعدن بهذا المقدار أيضاً، وأن يعمل ويكون الناتج للدولة مباشرة.
وعلى أيِّ حال، فالدولة تملك الكمِّية الفائضة من المعادن عن كمِّيات العمَّال، وهي كمِّيات كبيرة، قد تزيد على ما ملكه العمَّال جميعاً بأضعاف كثيرة، وهذه الكمِّيات تستخدمها الدولة في صناعاتها وسدِّ احتياجات العمل فيها.
ومن هنا؛ تكون المعادن تحت الحُكم العادل قد أفادت - بطريق مباشر وغير مباشر - ملايين الناس، وأغنت ملايين العوائل في العالم.
الجهة السادسة: في السياسة المالية للدولة المهدوية، كما أشارت الأخبار، واقتضتها القواعد الإسلامية العامة.
وأول ما يواجهنا في الأخبار المُستفيضة من الفريقين، هو ما نصَّت عليه من وفرة المال وكثرته، بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وأنَّ الأفراد كلَّهم يكونون من الغنى المالي، بحيث قد يكون للرجل زكاة وصدقة، فيبحث عن الفقير لكي يُعطيها فلا يجد، فيعرضها على الناس فيرفضون أخذها استغناءً، وأنَّ الإمام المهدي (ع) يعرض الأموال أمام الناس، ويُعلن التوزيع المجَّاني، لكي يحمل كل فرد منهم ما يستطيع حمله، إلاَّ أنَّ الناس لا يرغبون به ولا يأخذون منه شيئاً،

↑صفحة ٥٥٧↑

غير واحد يأتي ويأخذ ثمَّ يندم؛ لأنَّه أصبح الوحيد الطامع بالمال، ثمَّ يُحاول إرجاعه فيرفض طلبه.
وكلا هاتين الصورتين المعروضتين في الأخبار، صريحتان في شمول الغنى المالي الواسع لكل الناس في المجتمع، وأنَّ المال والذهب والفضَّة والأحجار الكريمة قد سقطت عن الرغبة الاجتماعية، باعتبار توفُّرها كالماء والتراب.
هذا، ولكنَّ هذه الأخبار تواجه بعض الأسئلة يحسن عرضها ومُحاولة الجواب عليها، وسنذكر كل سؤال في ناحية مُستقلَّة.
الناحية الأُولى: ما سبب تكدُّس المال وكثرته في الدولة المهدوية، سواء على مستوى الدولة أم الأفراد؟
وللجواب على ذلك عدَّة أُطروحات مُحتملة، لا بدَّ من عرضها وتمحيصها.
الأُطروحة الأُولى: توفُّر المال عن طريق المعجزة، ببركة الإمام (ع) ودعائه.
ولكنَّ هذه الأُطروحة لا تتمُّ لعدَّة اعتراضات، نذكر منها اثنين.
أولاً: إنَّها خلاف قانون المعجزات؛ من حيث إنَّه مهما أمكن توفُّر المال بالطريق الطبيعي لم يجز حمله على الوجود بسبب إعجازي، وإمكان فَهْم توفُّر المال بالطريق الطبيعي واضح، بعد الاطِّلاع على الأُطروحتين التاليتين.
ثانياً: إنَّ السياق العام لهذه الأخبار التي تذكر تكدُّس المال وكثرته، يُشير إلى عدالة النظام واستقامة الأمور إلى حدٍّ يتوفَّر المال بهذه الكثرة، ومن الواضح أنَّ افتراض توفُّر المال عن طريق المعجزة يُنافي هذا السياق، لإمكان وجود المعجزة - مع اقتضاء المصلحة - في أشدِّ الأنظمة ظلماً وفساداً.
وبتعبير آخر: إنَّ المال سوف يكون نتيجةً للمعجزة لا للنظام العادل، وهو خلاف ظاهر الأخبار؛ ومعه لا تكون هذه الأُطروحة صحيحة.
الأُطروحة الثانية: إنَّ المال يتوفَّر لدى الدولة، عن طريق ما تقوم به في الزراعة والصناعة والتعدين وغيرها من استثمارات، توجب توفُّر المال للدولة والفرد معاً.
وبهذه المشاريع يتوفَّر لدى الدولة المهدوية العالمية الاكتفاء الذاتي، بل زيادة المُنتجات على الحاجات من ناحية، ويتوفَّر فيها زيادة على ذلك كمِّيَّة ضخمة من النقد، ليس لها مُنفِّذ ومصدر للصرف مُعيَّن، فإنَّ مصادر استهلاك المال - مهما تعدَّدت - فهي تعود إلى الحاجة،

↑صفحة ٥٥٨↑

فحين تكون الحاجة مُنتفية في كل العالم، والدولة واحدة، والأمن مُستتبٌّ، والأُخوَّة عامة بين البشر، والحاجات الأوَّلية والثانوية والتربوية كلها مُستوفات، فيكون المال الزائد بلا مصدر مُعيَّن للصرف.
نعم، يمكن أن يذخر هذا المال لإنقاذ أيِّ منطقة من العالم، قد تُصبح محتاجة نتيجةً لظروف طبيعية طارئة، كالفيضان، والزلازل، والوباء وغيرها، إلاَّ أنَّ نسبة حدوث ذلك سوف يكون أقلَّ بكثير من نسبة تزايد المال وتوفُّر النقد.
وهذه الأُطروحة صحيحة لا مانع من القول بصحَّتها.
الأُطروحة الثالثة: إنَّ توفُّر المال يكون عن طريق السيطرة على البنوك الكبرى في العالم، حيث يُعتبر أكثر المال الذي خُزِن فيها مغضوباً وحراماً غير مشروع لمَن سُجِّلت باسمه، من الناحية الإسلامية.
ومن ثَمَّ تقوم الدولة المهدوية بعدَّة خطوات في هذا الطريق، أهمُّها تأسيس نظام مصرفي جديد، قائم على الإيمان بحرمة الربح الربوي من ناحية، وعلى عدم تقبُّل المال ما لم يُحرز كونه مالاً حلالاً من الناحية الإسلامية لصاحبه، من ناحية ثانية.
ثمَّ تقوم الدولة بجرد البنوك التي كانت في عصر ما قبل الظهور، وتصفية حساب الأموال المذخورة فيها، فإن كانت الشرائط الجديدة غير مُتوفِّرة، أُخرج المال من البنك وصادرته الدولة؛ باعتبار كونه مجهول المالك، وهو يعود إلى الدولة الإسلامية في حُكم الإسلام، وإذا ثبت في مال أنَّه مُسجَّل لغير مالكه الحقيقي أُعيد إلى المالك.
إلاَّ أنَّ الأموال التي تحصل عليها الدولة عن هذا الطريق كثيرة، وقد تَرْبُو على عشرات الملايين، وإن كانت هناك كمِّيَّات ضخمة أُخرى، تبقى مُسجَّلة لأصحابها، باعتبارها مُستجمعة للشرائط المطلوبة.
وهذه الأُطروحة أيضاً لا مانع من القول بصحَّتها.
والظاهر أنَّ الدولة تحصل على الأموال عن كلا الطريقين، المُبيَّنين في الأُطروحتين الثانية والثالثة، والمُعتقَد أنَّ الأموال الفائضة نتيجةً للأُطروحة الثانية، ستكون أكثر بكثير من الأموال التي تحصل عليها الدولة نتيجةً للأُطروحة الثالثة، بالرغم من كثرتها في نفسها؛ ومعه تكون العمدة في كثرة الأموال هو الأُطروحة الثانية.

↑صفحة ٥٥٩↑

الناحية الثانية: ما هو الهدف الذي يتوخَّاه الإمام المهدي (ع) من عرض الأموال للناس وتوزيعها عليهم مجَّاناً، كما أخبرتنا الأخبار؟
ويمكن أن نتصوَّر لذلك إحدى أُطروحتين مُحتملتين:
الأُطروحة الأُولى: أنَّ كمِّيَّة ضخمة من المال - كما سمعنا - تبقى من دون أن يتوقَّع لها مُنفِّذ مُعيَّن؛ ومن هنا يكون من المنطقي أن تُرصد للمُحتاجين أفراداً ومجتمعات، على طول الخطِّ، يأخذ منها المحتاج - أيَّاً كان - بدون مقابل وبدون شروط، وبدون تحديد كمِّيَّة مُعيَّنة، مادام المقدار معقولاً ومنطقياً.
غير أنَّ الأخبار دلَّت - بوضوح - على عدم إقدام الناس للحصول على شيء من هذا المال؛ لعدم وجود المحتاج بأيِّ شكل من أشكاله في الدولة المهدوية العادلة، حتى إنَّ هذا الفرد الذي يأخذ المال ثمَّ يندم عليه، سيكون دافعه للأخذ هو الطمع وليس الحاجة؛ ومن هنا أمكنه التفكير بإرجاعه بدون حرج.
الأُطروحة الثانية: إنَّ دولة المهدي (ع) بعد أن تستتبَّ أساليبها وبرامجها في إغناء الناس وإسعادهم، حتى لا يبقى فقير على الإطلاق ولا مُشتاق على المال أصلاً، عندئذ تتعلَّق المصلحة ببيان ذلك، وإيضاحه أمام البشر أجمعين والتاريخ، وذلك بالقيام بتخطيط مُعيَّن مؤقَّت، وهو أن تُعدَّ الأموال الفائضة، ويُعلَن في الناس إعلاناً عاماً، بأنَّ مَن يريد أن يحصل على المال، فإنَّه يستطيع بمقدار ما يشاء، وحين لا يقبل الناس على أخذ المال، غير واحد فقط، يثبت بالضرورة أنَّ جميع الأفراد قد أصبحوا أغنياء ومُرفَّهين إلى حدٍّ انقطعت أطماعهم وتحقَّقت كل آمالهم.
فإذا استطعنا أن نتصوَّر أنَّ هذا التخطيط المُعيَّن في كثير من بُلدان العالم، يبدأ به المهدي (ع) في العاصمة المركزية، ويُطبِّقه الحُكَّام المُوزَّعون على الأرض كلٌّ في إقليمه... وإذا كانت الاستجابة من الناس هي نفسها ومُقاربة في كل البلدان، حتى التي كانت مُعتادة على الجَشَع الرأسمالي... حينئذ نستطيع أن نُدرك كيف ولماذا أصبحت هذه التجربة هي المزيَّة الرئيسية للإمام المهدي (ع)، لم يستطع أحد قبله على الإطلاق أن يؤدِّيها، وأن يُفكِّر فيها، فضلاً عن أن ينجح في أدائها... مهما كانت دعاوى العقائد المُنحرفة السابقة على الظهور، ذات ضجيج وعجيج.
ومن هنا؛ نصَّت جملة من الأخبار على هذه المزيَّة بالتعيين، ولم تصف المهدي (ع) إلاَّ بها، كالذي أخرجه مسلم: (يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعدُّه). وما

↑صفحة ٥٦٠↑

أخرجه البخاري: (وحتى يعرضه عليه، فيقول الذي يُعرض عليه: لا أرَب لي به)، إلى غير ذلك من الأخبار، وقد سمعناها.
الناحية الثالثة: إنَّ بعض الأخبار السابقة يذكر كثرة المال، ولا يُشير إلى المهدي (ع) بالتعيين، فكيف نستطيع أن نفهم المقصود به ذلك؟
ولهذا السؤال أُسلوبان في الجواب، أحدهما عام لكل الأخبار الواردة حول المهدي (ع) مع أنَّها لم تذكر اسمه، وقد طبَّقنا جانباً من هذا الأُسلوب في التاريخ السابق،(٧٤٣) وقلنا: إنَّ كل التنبُّؤات بحوادث المُستقبل مربوطة بظهور المهدي (ع)، وتصلح أن تكون (علامات) له، ما لم يثبت بدليلٍ خاصٍّ تأخُّرها عن الظهور، وكونها من أشراط الساعة بشكل مباشر، وستأتي تفاصيل البرهان على ذلك في الكتاب الخاص بالسنّة والمهدي من هذه الموسوعة بتوفيقه تعالى.
وهناك من القرائن ما هو خاص بمورد كلامنا، تدلُّنا على أنَّ كثرة المال لا تكون إلاَّ في دولة المهدي العالمية العادلة، نذكر منها قرينتين:
القرينة الأُولى: أنَّه بعد أن ثبت بالضرورة والوجدان، عدم توفُّر المال بكثرة على الشكل الموصوف في الروايات، في أيِّ عصر من عصور البشرية إلى العصر الحاضر، إذاً؛ فهو سيتوفَّر في المستقبل، ولا يخلو عصر توفُّره من أحد احتمالات ثلاث:
الأول: توفُّر المال قبل الظهور، أي في الفترة المُتخلِّلة بين العصر الحاضر والظهور.
الثاني: توفُّر المال في دولة المهدي (ع) نفسها.
الثالث: توفُّر المال بعد دولة المهدي (ع)، أي في الفترة المُتخلِّلة بين نهاية الدولة، ونهاية البشرية.
وأمَّا الاحتمال الأول، فهو غير وارد على الإطلاق؛ لما عرفناه مُفصَّلاً من بقاء الظلم والفساد إلى لحظة الظهور، ومن غير المُحتمَل لعصر الفتن والانحراف أن يؤثِّر تأثيراً إيجابياً في كثرة المال بهذا الشكل، وهذه الأنظمة العالمية المُعاصرة أمامنا لم تُنتج هذه الكثرة وغير قابلة لأن تُنتِجها في المستقبل، وكذلك كل نظام لا يتكفَّل النظام العادل، بل يُمثِّل خطَّ الانحراف العام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٤٣) تاريخ الغيبة الكبرى ص ٥٢٣ وما بعدها.

↑صفحة ٥٦١↑

وأمَّا الاحتمال الثاني، فهو المطلوب؛ لأنَّه على تقدير صحَّته، يتعيَّن أن تكون كثرة المال في دولة المهدي نفسها.
وأمَّا الاحتمال الثالث، فهو - في واقعه - لا يتضمَّن مفهوماً مُغايراً للاحتمال الثاني:
فإنَّنا سنُبرهن في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة - مُفصَّلاً - على أنَّ دولة المهدي ونظامه سيبقى مُستمرَّاً إلى نهاية البشرية، فكثرة المال لو لم يتحقَّق في حياة المهدي (ع) بل تحقَّق بعده، طبقاً لهذا الامتحان، فهو قد تحقَّق في نظام المهدي ودولته العادلة نفسه، مهما أبطأ في الوجود، ولكن إذا صحَّ أن يوجد المال بكثرة نتيجةً للنظام العادل، فأحر به أن يوجَد في حياة الإمام المهدي نفسه، بصفته القائد الأعظم والأجدر من قادة هذه الدولة على الإطلاق، والمؤسِّس للنظام التكاملي والتربوي البعيد المدى فيها.
ومعه؛ يتعيَّن الاحتمال الثاني، وهو أن تكون كثرة المال التي أعربت عنها أيُّ رواية من هذه الروايات وغيرها، لا تكون بدايتها إلاَّ في عصر وجود المهدي بشخصه في دولته العالمية، وإن استمرَّت هذه الكثرة بعده قروناً من الزمن.
القرينة الثانية: أن تجعل الروايات التي تربط كثرة المال بظهور المهدي (ع) قرينةً على أنَّ المراد من الروايات الساكتة على ذلك هو ذلك أيضاً، وهذا فَهْم عرفيٌّ ولغويٌّ صحيح، ناشئ من حمل المطلق على المقيد، وفَهْم المطلق على ضوء المقيَّد.
والروايات التي تربط كثرة المال وحصول الرفاه الاجتماعي بظهور المهدي على قسمين:
أحدهما: روايات المصادر الخاصة كلها، ممَّا سمعناه وممَّا لم نسمعه.
ثانيهما: الأغلب من روايات المصادر العامة، فإنَّنا روينا في هذا الفصل منها اثني عشر نصَّاً:
منها: خمسة نصوص تُسمِّي المهدي على التعيين، وثلاثة منها تصف المهدي بصفة لا تنطبق إلاَّ عليه، كقوله: (فيبعث الله عزَّ وجلَّ رجلاً من عترتي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً)، وقوله: (يكون في آخر الزمان خليفة يُقسِّم المال ولا يعدُّه)، ونحوها من الروايات التي لا يُراد منها إلاَّ المهدي (ع) بإجماع المسلمين.
ومنها: أربعة نصوص مُهملة من هذه الجهة، هي روايتان عن البخاري، وواحدة عن مسلم، وواحدة عن الترمذي، وهي التي تقول - طبقاً للقاعدة اللغوية العامة -: إنَّ تلك الروايات الأكثر عدداً والأوضح صراحة تكون قرينةً على أنَّ المراد منها هو عصر الظهور للمهدي نفسه ليس غير.

↑صفحة ٥٦٢↑

وبوجود هاتين القرينتين يحصل المقصود:
هذا، ولكثرة المال سبب إيديولوجي نظري، هو ما يُسمَّى بالمذهب الاقتصادي في اللغة الحديثة، هذا ما نُحاول الدخول فيه الآن، فقد اقتصرنا هنا على الآثار والنتائج الاقتصادية الموسِّعة، الناتجة عن المذهب الاقتصادي المهدوي العادل، وأمَّا أنَّ هذا المذهب ما هو وكيف هو، فهذا ما سنفهم المقدار الممكن منه في الكتاب التالي من هذه الموسوعة مُفصَّلاً، إن شاء الله تعالى.
الجهة السابعة: في التأييد الإلهي لدولة المهدي (ع)
وينبغي أولاً أن نُقيم القرائن على صحَّة هذا التأييد عموماً، بالشكل الذي سنوضِّحه، ثمَّ نتحدَّث ثانياً عن مظاهر هذا التأييد في الدولة العالمية، ومن هنا نتكلَّم في ناحيتين:
الناحية الأُولى: في وجود التأييد الإلهي لجانب الحق والعدل عموماً، أينما وجِد، في مختلف الأزمنة والأمكنة.
ويمكن أن نلحظ ذلك في الأدلَّة الإسلامية، على مختلف المستويات:
المستوى الأول: وهو الذي يُعرب عنه مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(٧٤٤) فإنَّه مادام الفرد والمجتمع مُعطياً نفسه لنصرة الله، ماشياً قدماً في سبيل الله، فالله تعالى يفيض عليه النصر وقوَّة الإرادة، ويُعطيه من النتائج ما لم يكن مُتوقّعاً.
ومثل قوله تعالى: (... وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ).(٧٤٥)
وإنَّ من أوضح مصاديق هؤلاء المؤمنين الموصوفين في الآية هم المهدي وأصحابه، وإن لم تكن الآية تُشير إليهم بالذات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٤٤) ٤٧ / ٧.
(٧٤٥) ٢٢ / ٤٠ - ٤١.

↑صفحة ٥٦٣↑

ومثل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).(٧٤٦)
إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على أنَّ هناك مرتبة من الإخلاص والإيمان، إذا وصلها الفرد في عمله في سبيل الله - أيَّاً كان شكل العمل وأسلوبه - أصبح مُستحقَّاً للتأييد الإلهي والعناية والرحمة من قِبل ربِّ العالمين.
وأثر التأييد الإلهي، هو زيادة النتائج على المُقدِّمات، بمعنى أنَّ هذا العامل المُعيَّن لو لم يكن مؤيَّداً لأنتج نتائج مُعيَّنة محدودة، بحسب قوانين المجتمع العامة، كأيِّ عمل آخر.
لكن حين يُصبح العمل مقروناً بالتأييد، فإنَّ نتائجه تكون أوسع ممَّا يتوقَّع عادة من مثل هذا العمل.
ومن أمثلته المحسوسة في العصر الحاضر، انتشار الدين الإسلامي في العالم، فإنَّه بالرغم من قلَّة دعاته المُبشِّرين إليه، وقلَّة المُدافعين عنه وضعفهم، نجده محفوظاً مُتنامياً، بارزاً بالعزَّة والفخر أمام الرأي العام العالمي، يعتنقه في كل عام مئات الأفراد الجُدد في إفريقيا خاصة، وفي العالم عامة.
المستوى الثاني: وهو المفهوم من مثل قوله تعالى: (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ).(٧٤٧)
فمهما تزايد عنصر الصبر وعنصر التقوى في الأفراد العاملين، كان استحقاق عملهم للتأييد الإلهي أكثر فأكثر، وليست هذه الآية وأمثالها خاصة بالنبي (ص) وأصحابه، وإن نزلت لأول مرَّة فيهم؛ وبرهان عدم الاختصاص ينطلق من عدَّة وجوه، نذكر منها اثنين مُستفادَين من الآية نفسها:
الوجه الأول: إنَّ الآية أناطت الإمداد والتأييد بالصبر والتقوى، ولم تُنطه بكون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٤٦) ٤٧/ ١٧.
(٧٤٧) ٣/ ١٢٥ - ١٢٦.

↑صفحة ٥٦٤↑

القائد نبيَّاً ومُرسلاً من الله عزَّ وجلَّ، الأمر الذي يُعطينا أنَّ الصبر والتقوى يستتبعان التأييد أينما وجِد.
الوجه الثاني: إنَّ الهدف من تأييد الجيش النبوي مذكور في الآية، وهو قوله تعالى: (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ)، فمهما وجِد هذا الهدف بإخلاص وجِد التأييد، وكيف إذا عرفنا أنَّ الهدف المهدوي ليس محدوداً، بل واسعاً بسعة الأرض كلها؟! فإنَّ التأييد يكون من هذه الناحية أوْلى بطبيعة الحال.
المستوى الثالث: تعاضد التكوين والتشريع في إنتاج العدل لنتائجه النهائية.
فإنَّ المُستفاد من عدد النصوص من الكتاب الكريم والسنَّة الشريفة، أنَّ تطبيق العدل الإلهي أينما وجِد، والمجتمع المؤمن أينما تحقَّق، فإنَّ الطبيعة تكون مُساعدة له بمشيئة خالقها الحكيم، لإنتاج النتائج الحسنة والوصول إلى الرفاه الاجتماعي، وهذا أمر صحيح برهانياً، وسيأتي ما يُلقي عليه الضوء الكافي في الكتاب الآتي، من هذه الموسوعة.
كقوله تعالى - نقلاً عن النبي (ع) -: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ...).(٧٤٨)
وقوله - نقلاً عن نوح النبي (ع) -: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً(٧٤٩) فإنَّ إرسال السماء مدراراً، وشقَّ الأنهار، وزيادة البنين ونحوها، أمورٌ تكوينية ليس للإنسان فيها يد، وخاصة في عصر نوح (ع)، ومع ذلك فقد قُرِنت مع الاستغفار والتوبة، ومع إصلاح النفس والإخلاص بشكل عام، وهذا صادق بالنسبة إلى المجتمع المحدود، فكيف إذا أصبح المجتمع كله صالحاً مؤمناً؟!
فهذه مستويات ثلاثة من التأييد الإلهي، لا حاجة الآن إلى الزيادة عليها.
الناحية الثانية: في تطبيق ذلك على الدولة المهدوية، وما عرفناه من أشكال التأييد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٤٨) ١١/ ٥٢.
(٧٤٩) ٧١/ ١٠ - ١٢.

↑صفحة ٥٦٥↑

التي تُعتبر كنتائج لإحدى هذه المستويات.
ومن الواضح أنَّ الصفات المُعتبرة لاستحقاق التأييد في المستويات الثلاثة، كلُّها موجودة في أصحاب الإمام المهدي (ع) خاصة، وفي الدولة العالمية العادلة ككل، فمن الطبيعي أن يكونوا مشمولين لكل هذه الأشكال الثلاثة.
وأمَّا من حيث النتائج التي تعرضها علينا الأخبار السابقة، فتتجلَّى في صور مختلفة:
الصورة الأُولى: سهولة استخراج المعادن بشكل خارج عن الحسبان، سواء فهمناها من زاوية إعجازية أم من زاوية طبيعية، وقد تحدَّثنا عن ذلك.
الصورة الثانية: اتِّساع الزراعة والأراضي المزروعة بشكل عظيم، لم يسبق له مثيل.
(لا تدخر الأرض من بذرها شيئاً إلاَّ أخرجته، ولا السماء من قطرها شيئاً إلاَّ صبَّته).
الصورة الثالثة: ارتفاع الدخل الفردي بشكل لا مثيل له، إلى حدٍّ ينغلق الطمع بالمال الزائد تمام، كما صرَّحت به الروايات.
الصورة الرابعة: أنَّه (ع): (تُطوى له الأرض) , وهو تعبير عن سرعة الوصول إلى المكان البعيد، إمَّا بشكل إعجازي وبشكل طبيعي، كما سنتحدَّث عنه غير بعيد.
الصورة الخامسة: شمول الأُخوّة لكل الناس وعموم الصفاء بينهم جميعاً، الأمر الذي لم يحدث في أيِّ نظام آخر، كما نصَّت عليه أخبار الفريقين.
الصورة السادسة: إنَّ الأمن والصفاء لا يشمل البشر فقط، بل يشمل الحيوانات أيضاً، البهائم والسباع (واصطلحت السباع والبهائم) فيما بينها، وهي لا تُضرُّ الإنسان أيضاً (لا يُهيجها سبع ولا تخافه).
وهذا الصلح منصوص عليه في كتب العهدين أيضاً، ومقرون هناك بوجود المجتمع الصالح العادل، كما سوف يأتي في جزء آتٍ من هذه الموسوعة، قد أعطى هناك معنى يشمل الأفاعي وسائر الحشرات أيضاً.
وهذا الصلح أحد المظاهر الواضحة للتأييد الإلهي للمجتمع المهدوي، حتى إنَّ الوحوش تُصبح مُلهَمة بقدرة الله عزَّ وجلَّ، على أن تتجنَّب كلَّما يضرب البشر من قتلهم وقتل مواشيهم، وإفساد مزروعاتهم وغير ذلك، بل لعلَّها تُشاركهم فيما يشعرون من سعادة ورفاه وأُخوَّة (يرضى عنه ساكن السماء)، وهو الطير.
وهذا المطلب لا يمكن إثباته من ناحية العلم التجريبي الحديث، ولا يكون قابلاً

↑صفحة ٥٦٦↑

للتصديق من قِبل أيِّ فرد ممَّن وثق بهذا العلم واطمئنَّ إليه، ولكن حسبُنا تجربة المستقبل، وحدوث يوم الظهور نفسه، فبيننا وبين المُفكِّرين المُحدِّثين وجود المجتمع العالمي العادل:
(... فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).(٧٥٠)
فإنَّ تجربة وجود هذا الصلح لا يمكن تحقُّقها بدون تحقُّق ذلك المجتمع، فإنَّه الشرط الأساسي له، ولا يُعقل أن يتحقَّق الشيء قبل توفُّر سببه، فإن حدث ذلك المجتمع، ولم يحدث الصلح بين السباع والبهائم كان كلام المُنكرين صادقاً، ولكنَّهم لا يمكنهم إثبات ذلك في العصر الحاضر، بأيِّ حال من الأحوال.
فهذا هو مُهمُّ الكلام في هذا الفصل.
بقي علينا الدخول في الخاتمتين اللتين تتعرَّضان إلى أنواع أخرى من المُنجزات، لا تمتُّ إلى الجانب المالي والاقتصادي بصِلَةٍ.
الخاتمة الأُولى: في المُنجَزات القضائية والعبادية والفقهية ونحوها في دولة المهدي (ع):
ونتكلَّم عن ذلك في عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الدالة على هذه المُنجزات:
أخرج في البحار،(٧٥١) عن أبي عبيدة، عن أبي عبد الله (ع)، قال: (إذا قام قائم آل محمد حكم بحُكم داود وسليمان، لا يسأل الناس بيِّنة)، وأخرجه، في الوسائل(٧٥٢) بلفظ مُقارب.
وأخرج النعماني،(٧٥٣) عن أبان بن تغلب قال: كنت مع جعفر بن محمد (ع) في مسجد مكَّة وهو آخذ بيدي، فقال: (يا أبان، سيأتي الله بثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً في مسجدكم هذا... - إلى أن قال: - ثمَّ يأمر مُنادٍ فيُنادي: هذا المهدي يقضي بقضاء داود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٥٠) ٧/٧١، وانظر: ١٠ - ٢٠.
(٧٥١) ج١٣ ص ١٨٣.
(٧٥٢) ج٣ ص٤٣٥.
(٧٥٣) ص ١٦٩.

↑صفحة ٥٦٧↑

وسليمان، لا يسأل عن ذلك بيِّنةً)، وأخرجه الصدوق في إكمال الدين أيضاً.(٧٥٤)
وأخرج النعماني،(٧٥٥) عن أبان أيضاً، عن أبي عبد الله (ع) في حديث، أنَّه قال: (ويبعث الله الريح من كل وادٍ تقول: هذا المهدي يحكم بحكم داود، ولا يريد البيِّنة).
وهناك أخبار أخرى حول هذا القضاء، رويناها في الفصل الخاص بالتمحيص، فراجع.
وأخرج في البحار(٧٥٦) عن الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (ع)، قال: (أول ما يُظهر القائم من العدل أن يُنادي مُناديه أن يُسلِّم صاحب النافلة لصاحب الفريضة الحجر الأسود والطواف).
وروى أيضاً عن الكافي، بإسناده عن عمرو بن جميع، قالت: سألت أبا جعفر (ع) عن الصلاة في المساجد المُصوَّرة، فقال: (أكره ذلك، ولكن لا يضرُّكم اليوم، ولو قام العدل لرأيتم كيف يصنع في ذلك).
وقال في البحار: روى في كتاب مزار لبعض أصحابنا، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: قال لي: (يا أبا محمد، كأنِّي أرى نزول القائم في مسجد السهلة، بأهله وعياله).
قلت: يكون منزله، جُعلت فداك؟
قال: (نعم...).
قلت: جُعلت فداك، لا يزال القائم فيه أبداً؟
قال: (نعم).
قلت: فمَن بعده؟
قال: (هكذا من بعده إلى انقضاء الخلق).
قلت: فما يكون من أهل الذمَّة عنده؟
قال: (يُسالمهم، كما سالمهم رسول الله (ص)، ويؤدُّون الجزية عن يد وهم صاغرون...) الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٥٤) نسخة مخطوطة.
(٧٥٥) نفس الصفحة السابقة.
(٧٥٦) ص١٩٦ج١٣، وكذلك الخبرين بعده.

↑صفحة ٥٦٨↑

وروي أيضاً،(٧٥٧) عن السيد علي بن عبد الحميد، بإسناده إلى أحمد بن محمد الأيادي، يرفعه إلى إسحاق بن عمار، قال: سألته عن إنظار الله تعالى إبليس وقتاً معلوماً ذكره في كتابه، فقال: (... فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).(٧٥٨)
قال: (الوقت المعلوم يوم قيام القائم، فإذا بعثه الله كان في مسجد الكوفة، وجاء إبليس حتى يجثو على ركبتيه، فيقول يا ويلاه من هذا اليوم!
فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه، فذلك يوم الوقت المعلوم مُنتهى أجله).
وقد سبق أن روينا هذا الخبر، وأجَّلنا الحديث فيه إلى هذا الفصل؛ ومن أجل هذا كرَّرناه.
وروي في البحار أيضاً،(٧٥٩) عن بعض مؤلَّفات أصحابنا، بإسناده عن المفضَّل بن عمر، قال سألت سيدي الصادق (ع): هل للمأمور المنتظر المهدي (ع) من وقت معلوم يعلمه الناس؟ - وهو حديث طويل يقول فيه -:... قال المفضل: قلت: يا سيدي، فأين يكون دار المهدي ويجتمع المؤمنون؟
قال: (دار مُلكه الكوفة، ومجلس حكمه جامعها، وبيت ماله ومقسم غنائم المسلمين مسجد السهلة، وموضع خلواته، الذكوات البيض بين الغريَّين).
قال المفضل: يا مولاي، كل المؤمنين يكونون في الكوفة، قال: (إي والله، لا يبقى مؤمن إلاَّ كان بها وحواليها، وليبلغنَّ مجالة فرس منها ألفي درهم... وليصيرن الكوفة أربعة وخمسين ميلاً، وليجاورنَّ قصورها كربلا، وليُصيِّرن الله كربلاء معقلاً ومقاماً، تختلف فيه الملائكة والمؤمنون، وليكوننَّ لها شأن من الشأن...) الحديث.
وروى الحُرُّ في الوسائل،(٧٦٠) بإسناده عن الحسين الشيباني، عن أبي عبد الله (ع) قال:
قلت له: رجل من مواليك يستحلُّ مال بني أُميَّة ودمائهم، وأنَّه وقع عنده وديعة.
فقال: (أدُّوا الأمانة إلى أهلها وإن كان مجوساً؛ فإنَّ ذلك لا يكون حتى قام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٥٧) ص١٩٧، ج ١٣.
(٧٥٨) ٣٨ / ٨٠ - ٨١.
(٧٥٩) ج١٣ ص٢٠٠.
(٧٦٠) ص٦٨١.

↑صفحة ٥٦٩↑

قائمنا فيحلُّ ويُحرِّم).
وأخرج الصدوق في إكمال الدين،(٧٦١) بسنده عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (ع): (دمَّان في الإسلام حلال من الله عزَّ وجلَّ، لا يقضي فيهما أحد بحُكم الله عزَّ وجلَّ، حتى يبعث الله القائم من أهل البيت، فيحكم بحُكم الله عزَّ وجلَّ فيهما، لا يريد فيه بيِّنة: الزاني المُحصن يرجمه، ومانع الزكاة يضرب رقبته (عنقه)).
إلى غير ذلك من الأخبار التي لا حاجة إلى الإطالة بذكرها.
أقول: إنَّ أكثر الأخبار، بصفتها أخباراً مُفردة، غير قابلة للإثبات التاريخي، وخاصة ما نقلناه عن البحار؛ فإنَّ فيه ما هو مجهول ومُرسَل ومرفوع. فالعمدة في تصحيحها مُطابقتها للقواعد والقرائن، ولكنَّنا سنتحدَّث الآن عنها كما لو كانت كافية للإثبات، لعدم قيام القرائن على بطلانها على أيِّ حال.
الجهة الثانية: في الحديث عن قضاء المهدي (ع)، وقد تحدَّثنا عن ذلك مُفصَّلاً، وإنَّما بقيت هناك نقطتان لم يكن المجال لإيضاحهما مُتوفِّراً، فنتحدَّث عنهما الآن.
النقطة الأُولى: في معنى قضاء سليمان (ع)، فإنَّنا لم نذكره من بين أساليب الأنبياء للقضاء فيما سبق، وقد ورد في هذه الروايات ذكره.
هو ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا...).(٧٦٢)
وهذه الآية لم تذكر الحُكم الذي حكم فيه سليمان (ع) طبقاً لتفهيم الله عزَّ وجلَّ، ولكن ذكرته السنَّة الشريفة في عدَّة أخبار.
منها: ما روي(٧٦٣) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٦١) انظر المصدر المحطوط.
(٧٦٢) ٢١/٧٧ - ٧٨.
(٧٦٣) تفسير البرهان ج ٢ ص ٦٩٣.

↑صفحة ٥٧٠↑

(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ...)، قلت: حين حكما في الحرث كانت قضية واحدة؟
فقال: (إنَّه كان أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى النبيين قبل داود - إلى أن بعث الله داود -: أيُّ غنم نفشت في الزرع، فلصاحب الحرث رقاب الغنم، فلا يكون النفش إلاَّ بالليل، فإنَّ على صاحب الزرع أن يحفظه بالنهار، وعلى صاحب الغنم في الليل، فحكم داود (ع) بما حكمت به الأنبياء (ع) من قبله.
وأوحى الله عزَّ وجلَّ إلى سليمان (ع): أيُّ غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلاَّ ما خرج من بطونها، وكذلك جرت السنَّة بعد سليمان، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: (... وَكُلاًّ آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا...)، فحكم كل واحد منهما بحُكم الله (عزَّ وجلَّ)).
والمُستفاد من هذا الخبر وغيره، أنَّ اعتداء الغنم على الحقل، إن كان بالنهار فلا ضمان على صاحب الغنم؛ لأنَّ صاحب الحقل هو الذي يجب عليه حفظ حقله في النهار، فإذا اعتدت غنم غيره عليه كان هو مُقصِّراً، ولا يضمن له صاحب الغنم شيئاً، وأمَّا اعتداء الغنم في الليل فهو مضمون على صاحب الغنم؛ لأنَّه يجب عليه حفظ غنمه من الاعتداء على الآخرين أثناء الليل، فإذا لم يمنعها كان مُقصِّراً وعليه الضمان، وكان الاعتداء في القضية التي عُرضت على داود وسليمان(ع)، اعتداءً ليليَّاً، فكان صاحب الغنم ضامناً لما أتلفه غنمه، ولكن ماذا يجب أن يدفع صاحب الغنم إلى صاحب الحقل؟ إنَّ في ذلك ثلاث احتمالات:
الاحتمال الأول: أنَّه تُقدَّر قيمة التالف من الزرع، ويأخذ صاحبه من النقود بقدر هذه القيمة.
وهذا صحيح، إلاَّ أنَّ النقود لم تكن موجودة في ذلك العهد، بل كانت المُبادلة كلها بين الناس باعتبار العروض نفسه، فكان هذا الاحتمال ممَّا لا يمكن العمل به يومئذ.
الاحتمال الثاني: أنَّه تُقدَّر قيمة التالف في الحقل، ويأخذ صاحبه بقدر قيمته من العروض، ممَّا يملكه صاحب الغنم.
وأقرب شيء يأخذه صاحب الحقل هو ما أنتجته الغنم المُعتدية نفسها من حليب وولد وغيره، وهذا هو الذي حكم به النبي سليمان، طبقاً لتفهيم الله عزَّ وجلَّ... كما يقول الخبر.
الاحتمال الثالث: إنَّ صاحب الغنم يدفع إلى صاحب الحقل الغنمَ المُعتدِّية

↑صفحة ٥٧١↑

نفسها، أمَّا - كلها - كما هو ظاهر الخبر - وأمَّا بعضها بمقدار قيمة التالف، وهذا هو الذي حكم به داود (ع)، طبقاً لأحكام الأنبياء السابقين، كما يقول الخبر.
وكان الحكم العادل، المُطابق مع المستوى التربوي للبشرية يومئذ، هو ما قاله النبي سليمان (ع).
الجهة الثانية: في المُبرِّرات الكافية لاتِّخاذ المهدي (ع) أساليب قضاء سليمان وداود (ع).
والمُستفاد من مجموع الأخبار، أنَّ اتخاذ المهدي (ع) لقضاء سليمان أمر مؤقَّت، شأنه في ذلك شأن قضاء آدم ونوح وإبراهيم، التي سمعنا أنَّ المهدي (ع) يسير على طبق كل واحد منها مرَّة وأكثر؛ من أجل تمحيص الأُمَّة، ولكنَّ اتخاذ المهدي لقضاء داود أمر مُستمرٌّ ومُعتاد بالنسبة إليه، فهل هذا صحيح؟ وكيف يكون ذلك؟ هذا ما سنعرفه بعد قليل.
وليس المراد بقضاء داود (ع) حكمه في قضية الحقل التي حكم بها ولَده سليمان (ع)، بل أُسلوبه العام في أنَّه يقضي بدون أن يطلب من المُدَّعي بيِّنةً على مُدَّعاه.
وينبغي أن يقع الحديث في نقطتين:
النقطة الأُولى: في المُبرِّرات الكافية لاتِّخاذ المهدي (ع) قضاء سليمان (ع).
يمكن أن نذكر لذلك مُبرِّرين:
المُبرِّر الأول: إنَّ قضاء سليمان (ع) مطابق للقواعد الإسلامية نفسها، فإنَّه بعد أن يثبت اعتداء الغنم على حقل الغير، يكون صاحب الغنم ضامناً لصاحب الحقل قيمة ما اتلفته الغنم من الزرع، وهذا صحيح واضح في القواعد الإسلامية، وهو ممَّا أخذه سليمان وداود (ع) مُسلَّماً أيضاً، وإنَّما اختلفت الأحكام فيما يُمثِّل هذا الضمان الذي يدفعه صاحب الغنم كما قلنا في الاحتمالات الثلاث السابقة.
فبينما يبدو للفرد المعاصر لعصر النقود والعُملات الورقية، أنَّ الضمان يجب أن يكون مُتمثِّلاً بها، لم يكن هذا واضحاً ولا مفهوماً للمجتمع المعاصر لسليمان وداود (ع)؛ لانعدام العُملة عندهم.
ومن الصحيح إسلامياً، أنَّ الضمان في العصر الحاضر إنَّما يكون بالنقود والعُملة بوجه عام، ولكنَّ الصحيح إلى جانب ذلك أنَّه يمكن دفع العين والعروض بدلها

↑صفحة ٥٧٢↑

أحياناً، كما لو اتَّفق الدائن والمدين على ذلك، وكما لو أمر بذلك الحاكم الإسلامي الأعلى نفسه.
إذاً؛ فالفرق بين حكم سليمان وحكم الإسلام فيما يُمثِّل الضمان، فإذا حكم المهدي (ع) بحكم سليمان (ع)، فقد أمر ضمناً - بصفته حاكماً إسلامياً أعلى - بتحويل الضمان من النقد إلى العروض، فيكون هذا جائزاً ومُلزماً للمدين.
وأمَّا التفريق بين الاعتداء في الليل والاعتداء في النهار، فلا يكون في هذه المسألة منشأ للفرق بين حُكم سليمان وحُكم الإسلام فيها؛ لأنَّه كان اعتداء ليلياً مضموناً في حُكمه، وهو مضمون في الإسلام أيضاً.
نعم، لو كان الاعتداء في النهار، لكان منشأ للفرق الحقيقي، إلاَّ أنَّ المهدي (ع) سيحكم بالضمان كما حكم سليمان بالضمان.
المُبرِّر الثاني: إنَّنا لو تنزَّلنا - جدلاً - عن المُبرِّر الأول، وفرضنا أنَّ حكم سليمان (ع) غير صحيح إسلامياً، فعندئذ يكفي في صحَّته بالنسبة إلى الإمام المهدي (ع) ما كفى بالنسبة إلى اتِّخاذه أساليب قضاء الأنبياء الآخرين، كآدم ونوح، وقد أعطينا لذلك المُبرِّرات الكافية في الفصل السابق فراجع.
هذا، والمهدي (ع) أولى بالناس من أنفسهم وأموالهم، وله أن يعمل ما هو الأصلح على كل حال، شأنه في ذلك شأن نبي الإسلام (ص) نفسه، كما هو ثابت بضرورة الدين.
النقطة الثانية: في المُبرِّرات الكافية لاتِّخاذ المهدي (ع) قضاء داود (ع).
يمكن أن نُقدِّم لذلك ثلاثة مُبرِّرات بحسب فَهْمنا المعاصر:
المُبرِّر الأول: التمحيص والامتحان، الذي هو المُبرِّر العام لاتِّخاذ المهدي أيَّاً من أساليب قضاء الأنبياء السابقين، على ما عرفنا... إلى جانب مصالح أخرى عامة عرفناها.
وهذا المُبرِّر يكتسب إثباته التاريخي، بشكل رئيسي، ومن الظنِّ بأنَّ الإمام المهدي (ع) حين يحكم في قضية بحكم النبي داود (ع) سوف لن يُصرِّح بأنَّ هذا من ذاك، ولن يُوضِّح أنَّه حكم بعلمه مطابقاً للواقع، وإن خالف القواعد القضائية العامة؛ ومن هنا يكون مُثاراً للاحتجاج، وهو محكُّ التمحيص.
غير أنَّ هذا صحيح في العدد القليل من القضايا التي يتَّخذ فيها المهدي (ع) هذا الأسلوب القضائي؛ إذ تكون صفته صفة اتخاذه لأساليب القضاء الأخرى، مرَّة مرَّة، وهي التمحيص، غير أنَّ المُستفاد من الروايات استمرار ديدن المهدي (ع) على ذلك في

↑صفحة ٥٧٣↑

كثير من القضايا.
ومعه؛ يكون اتخاذ هذا الأسلوب لأول مرَّة مَحكَّاً للتمحيص، وحين يتكرَّر الأمر ويتَّضح السرُّ فيه، سيتّخذ الموقف مُبرِّراً آخر أعمق من ذلك.
المُبرِّر الثاني: تعويد المجتمع على الوصول إلى الواقع في المرافعات القضائية، فحين يعلم الإمام المهدي (ع) أنَّ القواعد القضائية ستوصِل القضية إلى الواقع لا يكون لديه مانع من استعمالها، وحين يعلم مُخالفتها للواقع فإنَّه سيُهملها ويتَّجه في حُكمه نحو الواقع مباشرة، وقد قلنا في الفصل السابق: إنَّ الحاكم العادل مُخيَّر بين الأُسلوبين باستمرار.
ومن هنا؛ كان هذا الأسلوب مُعتاداً له، لا بمعنى أنَّه يتَّخذه في كل القضايا على الإطلاق، بل بمعنى أنَّه يُكثر من اتخاذه، وذلك في موارد مخالفة القواعد العامة للواقع؛ ومن هنا يمكن القول: بأنَّ المهدي (ع) يجمع ما بين قضاء داود (ع) وقضاء محمد (ص)، وحيث نعرف أنَّ قضاء محمد (ص) - أعني بالقضاء بالبيِّنة واليمين - غالبي المُطابقة للواقع، وقليل المخالفة له، نعرف أنَّ المهدي (ع) سيتَّخذ قضاء محمد (ص) في الأغلب، وقضاء داود في الأقل، ولكنَّه (ع) سيصل إلى الواقع على كل تقدير.
ولا حاجة إلى التوسُّع في هذا المُبرِّر أكثر من ذلك.
المُبرِّر الثالث: تعويد المجتمع على الوصول إلى الواقع، في كل مصالح العامة، وليس في القضاء فقط؛ فانَّ القضاء بالرغم من أهمِّيَّته ليس هو أهمَّ مرافق الدولة وأعمق مستوياتها، فإذا كان الجانب الأضعف مُحتاجاً إلى الوصول إلى الواقع، فكيف بالجانب والجوانب المُهمَّة والعُلْيا في الدولة والمجتمع؟!
والمنطلق الأساسي لهذا المُبرِّر، وهو أنَّ الحكم العادل المطلق، الذي يحصل فيه الانسجام المطلق بين البشر أجمعين، لا يمكن أن يتحقَّق إلاَّ بعد التشخيص الحقيقي لكل الوقائع والحوادث، والرؤية الواضحة لكل الظواهر والتحرُّكات، وأيِّ ضعف في التشخيص وجهل في الرؤية، يؤدِّي إلى تضعضع العدالة في الحكم الوارد في الواقعة، وإذا كثر هذا الضعف كثر هذا التضعضع، ومن ثمَّ قد يودِّي بعدالة النظام كله.
ولا نريد بالتشخيص الحقيقي والرؤية الواضحة، إلاَّ ملاحظة كل واقعة وحادثة على واقعها من دون لبس وغموض.
إذاً؛ فتطبيق العدل الكامل المطلق، مُتوقِّف على الوصول إلى الواقع دائماً - أعني في المصالح العامة - وقد يصل بعد التربية البشرية المُستمرَّة حتى إلى الوقائع الشخصية الخاصة.
وهذا هو أحد الفروق بين داود (ع) والمهدي (ع)، حيث وقع هذا القضاء من داود

↑صفحة ٥٧٤↑

(ع) مرجوحاً - كما عرفنا - مُستحقَّاً للاستغفار والإنابة، بينما سوف يكون راجحاً من المهدي (ع) ومُطابقاً للمصالح العامة في دولته؛ لأنَّ المجتمع في عصر داود لم يكن في مستوى الوصول إلى الواقع، بل كانت القواعد القضائية العامة تربوية بالنسبة إليه إلى الحدِّ الكافي... على حين سيُصبح المجتمع في عصر الإمام المهدي (ع) مُحتاجاً إلى الوصول إلى الواقع في كل المصالح العامة.
ولا حاجة إلى التوسُّع في هذا المبرِّر الثالث أكثر من هذا أيضاً.
الجهة الثالثة: في مقتل إبليس
وهو ما دلَّ عليه بعض الروايات، منها ما نقلناه فيما سبق.
ولفَهم مقتل إبليس أُطروحتان، كلٌّ منهما يُحتمل أن يكون مقصود الرواية:
الأُطروحة الأُولى: الأُطروحة الصريحة (غير الرمزية) لهذا الحادث الطريف.
وتبدأ هذه الأُطروحة من زاوية ظهور القرآن الكريم بأنَّ إبليس مخلوق مُعيَّن، ذو شخصيَّة مُحدَّدة، وهو الذي أصبح - منذ عصيانه الأمر الإلهي بالسجود لآدم (ع) - مصدر الشرِّ والخطايا لآدم وذُرِّيته، وقد دعا إبليس ربَّه في ذلك الحين أن يرزقه العمر الطويل ليقوم بمُهمَّته خير قيام... وقد أجابه إلى ذلك؛ ومن هنا كان أيُّ كفر وانحراف وعصيان في البشرية منسوباً إلى إبليس والشيطان.
غير أنَّ إبليس دعا ربَّه أن يهبه العمر إلى نهاية البشرية (... إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، فاستجاب له قسماً من هذا الدعاء ورفض الآخر، بأن أعطاه قسماً من العمر المطلوب...
(قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).(٧٦٤)
وهو يوم الظهور وتأسيس الدولة العالمية، حيث يقوم الإمام المهدي بقتله، وتبقى البشرية بدون شيطان، فتكون تربيتها أسهل وتكاملها أسرع، وربَّما تكون هذه السرعة أضعاف ما هي عليه في حياة إبليس.
فبينما كان إبليس، أعني طاعته والانحراف باتجاهه، محكَّاً للتمحيص منذ أول البشرية إلى عهد الظهور؛ لما عرفناه من وجود اختلافات أساسية في الأسلوب والنتائج، بين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٦٤) ٣٨/ ٨٠ - ٨١.

↑صفحة ٥٧٥↑

التخطيط السابق والتخطيط اللاحق على الظهور.
وهذه الأُطروحة وكذلك الثانية، تصدق بغضِّ النظر عن بعض المناقشات الجانبية في مضمون الخبر، الذي سمعناه بهذا الخصوص، والذي يطول بنا المقام في سردها.
غير أنَّ أهمَّ مناقشة تواجهها هذه الأُطروحة، بعد التسليم بأنَّ ذاك الخبر وحده غير كافٍ في الإثبات التاريخي... هي جهلنا بمقصود القرآن الكريم من (الوقت المعلوم)، فإنَّ القرآن ظاهر فعلاً بأنَّ الوقت المعلوم أقصر مدَّة وأقرب زماناً من (يوم يبعثون)، إلاَّ أنه لم يُحدِّد هذا الوقت المعلوم... فلعلَّ المراد به يوم موت إبليس نفسه، فكأنَّه قال: إنَّك من المُنظرَين إلى حين موتك. ولعلَّ المراد به يوم ظهور المهدي، كما هو مُبيَّن في هذا الخبر، ولعلَّ المراد به يوم وجود المجتمع المعصوم، كما سنسمع في الأُطروحة التالية، كما لعلَّ المراد الإشارة إلى وجود حادث كوني مُعيَّن يودِّي بحياة الشيطان، ويجعل حياة الشياطين مُتعذِّرة.
وحيث لا مُعيِّن لأحد هذه الاحتمالات من ظاهر القرآن الكريم، وهذا الخبر وحده غير كافٍ للإثبات؛ إذن فلا يمكن التأكُّد من صحَّة الأُطروحة الأُولى.
الأُطروحة الثانية: الأُطروحة الزمنية، وهي أن نفهم من مقتل إبليس مقتله في نفوس البشر، بحيث إنَّه مهما كان في ذاته - لا يبقى له أيُّ اثر ووجود عملي على سلوك البشر إطلاقاً، وذلك حين تجتثُّ الدولة الإسلامية العالمية العادلة عناصر السوء والفساد من الأرض، وتُبدِّلها إلى جوِّ الخير والصلاح، في نفوس وعقول الأفراد أجمعين، فحينئذ لا يبقى لوجود إبليس أيَّة قيمة من الناحية العملية، وأمَّا بقاؤه حيَّاً في عالمه وموته هناك، فهذا غير مُهمٍّ بالنسبة إلينا، وحيث كان وجود الخير والصلاح في البشرية كلها ناتجاً من جهود الإمام المهدي (ع) وتعاليمه وقوانينه، كان نسبة مقتل إبليس إليه أمراً صحيحاً، وإنَّما كان مقتله في مسجد الكوفة - على ما نطق به الخبر - لأنَّ هذا المسجد بصفته أحد المراكز المُهمَّة في العاصمة العالمية الكوفة، سيكون هو منطلق تعاليم المهدي (ع) ونشر هدايته على العالم، ومن الواضح عندئذ كيف يتأسَّف الشيطان لذلك ويجزع - كما سمعنا من الخبر - ويكون مقتولاً في النفوس بسيف المهدي (ع) وسلاحه المعنوي.
إنَّ هذه الأُطروحة تنطلق من آيات القرآن الكريم أيضاً، فإنَّ مجموعة منها صريحة في

↑صفحة ٥٧٦↑

أنَّ إبليس ليس مُتسلِّطاً على كل البشر، ولا نافذ الأمر فيهم جميعاً، بل هناك جماعة مؤمنة خارجة عن نطاقه، وإنَّ الإنسان إذا وصل في إيمانه درجة مُعيَّنة، فإنَّه يكون في منجاة كاملة من أضاليل إبليس وشبهاته.
قال الله تعالى: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).(٧٦٥)
وقال تعالى: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).(٧٦٦)
وهذا النص مُلحق بقوله: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).(٧٦٧)
وقال عزَّ وجلَّ: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ).(٧٦٨)
وقال عزَّ وجلَّ: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ).(٧٦٩)
إلى غير ذلك من الآيات، وهي واضحة في أنَّ مستوى مُعيَّن من الإيمان يكون دافعاً لسلطان إبليس وإغوائه، باعتراف إبليس نفسه، كما دلَّت عليه الآيتان الأوَّليان، ويقول الله عزَّ وجلّ في الآيتين الأخيرتين.
وهذا المستوى من الإيمان يوجِده المهدي (ع) في البشرية خلال حياته، ومن ثَمَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٦٥) ١٥ / ٣٩ - ٤٠.
(٧٦٦) ٣٨ / ٨٢ - ٨٣.
(٧٦٧) ١٥ / ٤٢.
(٧٦٨) ١٥ / ٤٢.
(٧٦٩) ١٦/٩٩ ـ١٠٠.

↑صفحة ٥٧٧↑

يكون هو القاتل لإبليس مُباشرة بسيفه المعنوي، ولا أقلَّ من أنَّه يضع المنهج العام لتربية البشرية على الخطِّ الطويل، لكي تصل إلى عصر (المجتمع المعصوم)، وعندئذ يكون مقتل إبليس في نفوس البشر أكيداً وواضحاً؛ لوجود التنافي الأساسي والأكيد بين العصمة والمعصية.
وسيكون هذا المجتمع آخر نهاية محتملة له، نعلم من خلاله بموت إبليس وانفصاله عن البشرية نهائياً؛ لأنَّه إمَّا أن يموت يومئذ، ويموت في حياة المهدي (ع)، فيكون عند حصول المجتمع معصوماً ميِّت، ويموت - كما قلنا - بحادث كوني يجعل حياته مُتعذِّرة، وليس ذلك إلاَّ صفة العصمة، التي يتحلَّى بها المجتمع يومئذ، فإنَّها تقتله وتجعله مُنفصلاً عن البشرية بشكل نهائي، طبقاً للأطروحة الثانية.
بقيت آية واحدة قد يخطر على البال منافاتها لما قلناه، وهي قوله تعالى: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً).(٧٧٠)
فقد يبدو أنَّها دالة على بقاء الشيطان إلى يوم القيامة، كما أنَّها دالة على أنَّ اتِّباع الشيطان هم أغلب البشرية على طول الخطِّ، وإلى نهايتها، وهذا ينافي مع وجود المجتمع المعصوم الباقي إلى نهاية البشرية.
والصحيح أنَّها لا تدلُّ على كلا الأمرين، وإنَّما تدلُّ على أمور أخرى نذكر منها:
الأمر الأول: توقُّع الشيطان البقاء إلى يوم القيامة، وهو توقُّع لم يكن يلقَ قبولاً من قِبل الله عزَّ وجلَّ، كما عرفنا في قوله تعالى: (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).
الأمر الثاني: إنَّ الشيطان لو بقي إلى نهاية البشرية، فإنَّ أتباعه سيكونون هم الأغلب من البشر، وهذا صحيح، إلاَّ أنَّ بقاءه سوف لن يحدث، وهذه الآية غير دالة عليه؛ لأنَّه يقول: لئن أخرتني إلى يوم القيامة، لا أنَّك ستؤخرني فعلاً.
الأمر الثالث: إنَّ الشيطان ما دام موجوداً، فإنَّ أغلب البشر من أتباعه، وهذا صحيح، وسيبقى موجوداً إلى (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)، وعندئذ تنتهي حياته، فيسود الصلاح والعدل الكامل ربوع البشرية.
وهذا يصلح بُرهاناً على نقطتين، نضمُّهما إلى استنتاجاتنا السابقة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٧٠) ١٧ / ٦٢.

↑صفحة ٥٧٨↑

النقطة الأُولى: إنَّ الشيطان ما دام موجوداً في الواقع، فإنَّه مُتسلِّط على البشرية، ولا يعقل انفكاكه عن ذلك إلاَّ بموته، وهذا يُبرهن على عدم صحَّة الأُطروحة الرمزية، بل إنَّما يمكن الخلاص منه بقتله الحقيقي فقط.
النقطة الثانية: إنَّ تطبيق العدل الكامل متوقِّف على قتل الشيطان؛ لأنَّه يتوقَّف على شيوع الإيمان بين البشر، وهذا لا يكون في حياة إبليس، إذاً؛ فلا بدَّ من قتله من أجل ذلك، فيكون قتله خطوة أُولى لصلاح البشرية وتطبيق العدل الكامل فيها؛ ومن هنا يمكننا أن نفهم من الوقت المعلوم الذي هو نهاية عمر إبليس يوم قتل المهدي (ع) إيَّاه، فإنَّه لا بدَّ له أن يقتله من أجل فسح المجال لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة، وإنجاح تخطيط التكامل في عصر ما بعد الظهور.
ولا ينبغي أن نتحدَّث عن إبليس أكثر من ذلك.
الجهة الرابعة: الحجُّ في عصر المهدي (ع)
إنَّه بعد العلم أنَّه (ع) سوف يُعيده إلى أحكامه الواقعية، التي كان عليها في عصر نبي الإسلام (ص)، كما يفعل في كل مناحي الحياة، وقد يُضيف إليه أحكاماً أخرى، في جملة ما يُضيف من أحكام... بعد هذا لا يبقى ما يمكن ذكره غير نقطتين.
النقطة الأُولى: أنَّه (ع) - كما سمعنا في ما سبق - سيقوم بتقليص حجم المسجد الحرام، وإرجاعه إلى أُسسه التي كان عليها في صدر الإسلام، وهي الأُسس التي بناها إبراهيم النبي (ع)، وبذلك لا تبقى ربع المسافة التي عليها، المسجد في عصرنا الحاضر، وخاصة بعد التوسُّعات الضخمة التي أُدخلت عليه أخيراً.
النقطة الثانية: إنَّ ضيق المسجد لا يعني قلَّة الحُجَّاج، بل إنَّ الحُجَّاج سيتكاثرون بشكل هائل من كل العالم البشري، حين يعم الإيمان وجه الكرة الأرضية، وسيكون حجُّهم مُخلصاً، إطاعة للوجوب والاستحباب الشرعيين، لا للتجارة ولا للنزهة، كما كان عليه الناس قبل الظهور.
ومن هنا؛ توجد مشكلة مُهمَّة، هي ضيق المسجد بالطائفين ضيقاً شديداً، وسيواجه المهدي (ع) هذه المشكلة بعدَّة أحكام تقوم بتذليلها... أشارت الأخبار إلى اثنين منها:
الأول: جواز الطواف خلف مقام إبراهيم، الأمر الذي كان مُختلفاً فيه بين علماء المسلمين قبل الظهور، فإنَّنا سمعنا في خبر سابق أنَّه يُعيد مقام إبراهيم إلى موضعه الطبيعي مُلتصقاً بالبيت، أعني الكعبة المُشرّفة، وقد دلّت القرائن على صحَّة هذا الخبر - على ما

↑صفحة ٥٧٩↑

قلنا - ومعه يتعيَّن أن يكون الطواف خلف المقام، ولا تحديد له بعد ذلك إلاَّ جدار المسجد نفسه.
الثاني: منع الطواف المستحب مع وجود كثرة الطائفين طوافاً واجباً، وهذا ما دلَّ عليه الخبر الذي رويناه في الجهة الأُولى من هذه الخاتمة (أن يُسلِّم صاحب النافلة)، يعني الطواف المُستحبّ (لصاحب الفريضة)، يعني الطواف الواجب (الحجر الأسود)، يعني استلام الحجر، وهو عمل مُستحب (والطواف) فتُعطى القُدْمة لصاحب الفريضة، وبذلك يقلُّ عدد الطائفين بالبيت إلى حدٍّ كبير.
الجهة الخامسة: ذكرت الأخبار بعض الإنجازات الأخرى للمهدي في دولته، نذكر أهمَّها باختصار:
الأمر الأول: أنَّه يمنع المساجد المصوَّرة، وبتعبير آخر: أنَّه يمنع تصوير المساجد وزخرفتها، كما يمنع - كما سمعنا أيضاً - ارتفاع بنيانها، ويهدم منها ما كان مرتفعاً، ويهدم كل مسجد أُسِّس على غير تقوى.
الأمر الثاني: أنَّه يرجم الزاني المُحصن ويقتل مانع الزكاة، وهذه أحكام إسلامية نافذة المفعول منذ صدور الإسلام، إلاَّ أنَّها لن تكون مُطبَّقة قبل عصر الظهور، فهو أوَّل مَن يقوم بهما بعد عصر رسول الله (ص).
وهذه المعاصي قد تحدث في أول عصر الدولة العالمية، قبل رسوخ الإيمان في نفوس البشر أجمعين.
الأمر الثالث: أنَّه يجب في العصر الحاضر أداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر، من مختلف المذاهب والأديان، ويجب ألاَّ يحدو بالفرد إذا رأى من الآخر انحرافاً وكفراً أن يأكل عليه أمانته.
وأمَّا إذا ظهر الإمام واستتبَّت دولته، فإنَّه قد يتصرَّف في هذا الحكم المطلق (فيُحلُّ ويُحرِّم) كما نطق الخبر، فيمنع عن أداء الأمانة لغير المؤمن، فإنَّه بينما كان أداء الأمانة دالاَّ ًعلى عدالة الأمين واستقامته قبل الظهور، فإنَّ عدم أدائها بعد الظهور سيكون من أهمِّ الخطوات لمُحاربة الكفر والانحراف واجتثاثه، وليس على الأمين من ضير بعد أن أمره التشريع المهدوي بحبس الأمانة.
الأمر الرابع: أنَّ الأخبار العديدة تصف اتِّساع الكوفة وعمرانها بشكل مُنقطع النظير، وسيُصبح المتر من أراضيها غالي الثمن ومهماً جدَّاً، ولا غرو بعد أن تُصبح هي

↑صفحة ٥٨٠↑

العاصمة العالمية للدولة المهدوية.
وسيتَّخذ المهدي - كما يظهر من الأخبار - من مساجدها منطلقات للحكم والإرادة، فجامع الكوفة مجلس حكمه، وهو ما يقابل قصر الرئاسة والبلاط بلغة العصر الحاضر، ومسجد السهلة بيت المال، وهو ما يقابل وزارة المالية في الدولة المعاصرة، وأمَّا موضع عبادته وخلواته مع الله عزَّ وجلَّ فهو الذكوات البيض (بين الغريَّين) وهو النجف الأشرف، موضع قبر جدِّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ولم يكن عصر صدور هذه الأخبار مناسباً للدول في التفاصيل الإدارية أكثر من ذلك.
وليس اتخاذ المهدي المساجد مركزاً للإدارة أمراً غريباً، فإنَّ فكرة المساجد في الإسلام أُسِّست على ذلك، فإنَّ المساجد ليست ببنيانها وجمال شكلها، فإنَّ هذه ممَّا عليه سيشطب عليه المهدي (ع)... وإنَّما هي بما تؤدِّيه للإسلام والمجتمع العادل من خدمات ومنافع، وهل هناك أعظم منفعة من إدارة الدولة العالمية العادلة؟! إنَّها دولة أرادها الله، فينبغي أن تُدار من بيوت الله.
هذا، وقد تعرَّضت هذه الأخبار إلى وضع المهدي (ع) الجزية على أهل الكتاب، وهذا ما سنسمعه تفصيلاً في الفصل الآتي بتوفيق الله عزَّ وجلَّ.
الخاتمة الثانية: في المُنجزات العلمية - بالمصطلح الحديث - لدولة المهدي (ع)
وهذا ممَّا لا يمكن فَهمه بالصراحة من الأخبار، باعتبار ضرورة موافقة ظواهر الكلام مع المجتمع الذي يصدر فيه، وحيث لم يكن في ذلك المجتمع الأول أثر للصناعات والآلآت الحديثة، لم يكن من الممكن أن يرد في الأخبار ذكر واضح لها، وأن نتوقَّع منها التصريح باسمها وصفتها، وإنَّما كل ما يمكن تصيُّده من الأخبار، بعض العبارات الرمزية المُتفرِّقة التي ترمز إلى وجود الأجهزة الحديثة في دولة المهدي (ع)، بل هناك من الأخبار ما يدلُّ على وجودها قبل الظهور أيضاً في عصر الظلم والانحراف، وهذا هو الذي نعرفه الآن بالوجدان من الوضع الصناعي لعصورنا الحاضرة.
ولأجل استيعاب ما دلَّت عليه الأخبار في هذا الصدد، نودُّ أن نتحدَّث عن كلا العصرين: عصر ما قبل الظهور، وعصر ما بعده، ولذلك نتكلَّم في جهتين.

↑صفحة ٥٨١↑

الجهة الأُولى: ما دلَّت عليه الأخبار من وجود الصناعات والأجهزة الحديثة في عصر ما قبل الظهور:
أخرج مسلم في صحيحه،(٧٧١) بإسناده عن يزيد بن جابر، عن رسول الله (ص) حديثاً طويلاً يذكر خلاله يأجوج ومأجوج، فيقول: (... ثمَّ يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا أهل الأرض، هلمَّ فلنقتل مَن في السماء، فيرمون بنشَّابهم إلى السماء، فيردُّ الله عليهم نشَّابهم مخضوبة دماً).
وأخرج أبن ماجة(٧٧٢) حديثاً طويلاً، يتحدَّث خلاله عن يأجوج ومأجوج، ويذكر أنَّهم يقولون: (... هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، ولنُنازلنَّ أهل السماء. حتى إنَّ أحدهم ليهزَّ حربته إلى السماء، فترجع مُخضَّبة بالدم، فيقولون: قد قتلنا أهل السماء، ويقولون - بلفظ الحاكم(٧٧٣) -: قهرنا أهل الأرض وغلبنا من السماء قوَّة وعلوَّاً).
وأخرج الصدوق في إكمال الدين،(٧٧٤) بإسناده عن النزال بن سبرة قال: خطبنا علي بن أبي طالب (ع)، فحمد الله عزَّ وجلَّ وأثنى عليه، وصلَّى على محمد وآله، ثمَّ قال: (سلوني - أيُّها الناس - قبل أن تفقدوني - ثلاثاً ـ).
فقام إليه صعصعة بن صوحان، فقال: يا أمير المؤمنين، متى يخرج الدجَّال؟
والحديث طويل، وفيه من صفات الدجَّال أنَّه (يخوض البحار، وتسير معه الشمس، بين يديه جبل من دخان، وخلفه جبل أبيض يرى الناس أنَّه طعام، يخرج في قحط شديد تحته جمار أقمر، خطو حماره ميل، تُطوى له الأرض مَنهلاً مَنهلاً... يُنادي بأعلى صوته، يُسمع ما بين الخافقين... يقول: إليَّ أوليائي.. أنا الذي خلق فسوَّى وقدَّر فهدى، أنا ربُّكم الأعلى... - ثمَّ يذكر دابة الأرض، ويقول عنها: - ثمَّ ترفع الدابة رأسها فيراها ما بين الخافقين...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٧١) ج٨ ص١٩٩.
(٧٧٢) السُّنن ص١٣٦٤.
(٧٧٣) المُستدرك ج٤ ص ٤٨٨.
(٧٧٤) انظر إكمال الدين (نسخة مخطوطة).

↑صفحة ٥٨٢↑

) الحديث.
ولا ينبغي للقارئ أن ينسى فَهمنا ليأجوج ومأجوج والدجَّال، فإنَّهما بوجودهما المعاصر، وجهان للحضارة المادِّية الحديثة، وأمَّا إعطاء الفهم المتكامل لدابة الأرض، فهو ما سيأتي في الباب الأخير من هذا التاريخ.
وقد أوضحنا بجلاء - خلال حديثنا عن يأجوج ومأجوج - أنَّ المراد من السهام التي يرمونها إلى السماء الصواريخ الكونية، وإنَّما كرَّرنا الرواية لتلتحق هنا بنظائرها من هذه الناحية.
وأمَّا الصفات المُعطاة للدجَّال، فهي بعد البرهنة على استحالة صدور المعجزة من المُبطلين، يتعيَّن حملها على المعاني الطبيعية المناسبة.
فهو يخوض البحار، وهذا ما حدث فعلاً، فقد خاضت المدنية الحديثة في أعماق البحار، وسيَّرت البواخر على سطحه بكثرة مُسرفة.
(وتسير معه الشمس)، في الأغلب أنَّ هذا تعبير عن السلاح الذي يُرهب الدجَّال به العالم، وهو القنبلة الذرِّية والهيدروجينية، من حيث إنَّ حرارتها عالية جدَّاً كالشمس.
و(بين يديه جبل من دخان)، وما أكثر الدخان في المدنية الحديثة، في الحرب والسلم معاً، كما هو واضح، وكله يبدو في مصلحة هذه المدنية.
و(خلفه جبل أبيض يرى الناس أنَّه طعام)، أنَّه بهارج هذه المدنية وملذَّاتها، يرى الناس أنَّها جميلة وعظيمة، وليس ورائها في الواقع إلاَّ الانحلال والدمار.
و(تحته حمار أقمر، خطو حماره ميل)، وهذا تعبير جميل عن الشعارات والمفاهيم التي استطاعت المدنية والحضارة الحديثتان أن تسير بهما في العالم، وهي شعارات واسعة الانتشار سريعة السير.
والدجَّال (تُطوى له مَنهلاً مَنهلاً)، وذلك عن طريق وسائل النقل الحديثة، الأرضية والجوية على حدٍّ سواء، فإنَّ طيَّ الأرض يتضمَّن معنى سرعة السير، وبعد نفي احتمال المعجزة تتعيَّن صحَّة هذا الفهم.
(يُنادي بأعلى صوته، يُسمع ما بين الخافقين) ليس لأنَّ صوته مرتفع إلى هذا الحدِّ!! بل لأنَّه يستعمل أجهزة الإعلام الحديثة، بما فيها النجوم الإذاعية (التلستار).
وأمَّا دابة الأرض، فهي (ترفع رأسها، فيراها ما بين الخافقين)، عن طريق البثِّ

↑صفحة ٥٨٣↑

التلفزيوني بطبيعة الحال.
ولا ينبغي هنا أن نغفل ما قلناه سابقاً، من وجود التنبُّؤ في الأخبار بالنقل الجوِّي في عصر ما قبل الظهور، حيث سمعنا عن كيفيَّة تجمُّع أصحاب الإمام المهدي (ع) عند ظهوره، وكان منهم مَن (يسير في السحاب نهاراً)، وهو تعبير عن الطائرات، كما سبق أن برهنَّا.
فهذا هو ما يحدث في عصر ما قبل الظهور، وهو - بطبيعة الحال - سوف يبقى مُستمرَّاً إلى ما بعد الظهور، حتى لو حدثت حرب عالمية، كما سبق أن أوضحنا، فإنَّها إنَّما تقضي على المراكز العسكرية والعواصم المُهمَّة في العالم، وأمَّا الصناعات الحديثة وعدد من خبرائها فلا موجب لاستئصالها، وسيكون ذلك نواة صالحة للتشجيع من قِبل الدولة المهدوية، على البلوغ بالصناعات الحديثة إلى مراتب أعلى وأسمى وأدقَّ. وجعل هذه الصناعات مواكبة مع الأهداف العُلْيا المُتبنَّاة من قِبل الدولة وقائدها.
الجهة الثانية: فيما دلَّت عليه الأخبار من وجود الأجهزة والصناعات الحديثة في عصر ما بعد الظهور
روى الصافي في مُنتخب الأثر،(٧٧٥) عن أبي الربيع الشامي، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (إنَّ قائمنا إذا قام مدَّ الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم، حتى لا يرون (لا يكون) بينهم وبين القائم بريد يُكلِّمهم، فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه).
وروى الصافي أيضاً،(٧٧٦) والمجلسي في البحار(٧٧٧) عن ابن مسكان، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (إنَّ المؤمن في زمان القائم، وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٧٥) ص٤٨٣.
(٧٧٦) نفس الصفحة.
(٧٧٧) ج١٣ ص٢٠٠.

↑صفحة ٥٨٤↑

وأخرج النعماني في الغيبة،(٧٧٨) عن أبان، عن أبي عبد الله (ع) في حديث أنَّه قال: (ويبعث الله الريح من كل وادٍ تقول: هذا المهدي، يحكم بحكم داود...) الحديث.
وقد سبق أن رويناه.
وأخرج في البحار،(٧٧٩) عن جابر بن أبي جعفر (ع) في حديث عن المهدي (ع) أنَّه قال: (إنَّما سُمِّي المهدي لأنَّه يهدي إلى أمر خفيٍّ، حتى إنَّه يبعث إلى رجل لا يعلم الناس له ذنب فيقتله، حتى إنَّ أحدهم يتكلَّم في بيته، فيخاف أن يشهد عليه الجدار).
وأخرج أيضاً،(٧٨٠) عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: (كأنَّني بالقائم على ظهر النجف... - إلى أن قال: - ثمَّ يركب فرساً له أبلق بين عينيه شمراخ ينتفض به، لا يبقى أهل بلد إلاَّ أتاهم نور ذلك الشمراخ، حتى يكون آية له...) الحديث.
وأخرج النعماني في الغيبة،(٧٨١) عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (ع) في حديث عن القائم يقول فيه: (ويركب فرساً له أدهم أبلق، بين عينيه شمراخ، فينتفض فيه انتفاضةً، لا يبقى أهل بلد إلاَّ وهم يرون أنَّه معهم في بلدهم...) الحديث.
وأمَّا أخبار طيِّ الأرض للمهدي، فهي عديدة نذكر منها:
أخرج الصدوق في إكمال الدين،(٧٨٢) عن محمد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر، محمد بن علي الباقر (ع) يقول: (القائم منَّا، منصور بالرعب مؤيَّد بالنصر، تُطوى له الأرض...) الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٧٨) ص١٦٩.
(٧٧٩) ج١٣ ص٢٠٠.
(٧٨٠) المجلد والصفحة.
(٧٨١) ص١٦٦.
(٧٨٢) انظر المخطوط.

↑صفحة ٥٨٥↑

وأخرج أيضاً،(٧٨٣) بإسناده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى (ع):
إنِّي لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت جوراً وظلماً.
فقال: (يا أبا القاسم، ما منَّا إلاَّ وهو قائم بأمر الله عزَّ وجلَّ وهادٍ إلى دين الله، ولكنَّ القائم الذي يُطهِّر الله عزَّ وجلَّ به الأرض من أهل الكفر والجحود، ويملؤها عدلاً وقسطاً، هو الذي تخفى على الناس ولادته... وهو الذي تُطوى له الأرض...) الخبر.
وأخرج الطبرسي،(٧٨٤) بسنده إلى علي بن الحسين بن خالد، قال: قال الرضا (ع) - في حديث طويل عن المهدي (ع) -: (وهو الذي تُطوى له الأرض).
إلى غير ذلك من الأخبار.
وهذه الأخبار واضحة الدلالة - وبشكل مُتكرِّر - على استعمال البثِّ التلفزيوني في الدولة المهدوية، فالإمام المهدي نفسه يستعمله، وربَّما يُكثر من استعماله، حتى (لا يبقى أهل بلد إلاَّ وهم يرون أنَّه معهم في بلدهم)، وحتى (لا يكون بينهم وبين القائم بريد)، وهي مسافة مُعيَّنة من الأرض بالمسح القديم، ومن المعلوم أنَّ الصورة التلفزيونية أقرب إلى الناظر من هذه المسافة بكثير، غير أنَّ عصر صدور هذه الأخبار لم يكن ليسمح بالبيان أكثر من ذلك، والحديث قد نفى أن يكون بينهم وبينه مقدار بريد، فقد لا تتجاوز المسافة الناظر والصورة أكثر من مترين.
وعن هذا الطريق (يُكلِّمهم فيسمعونه، وينظرون إليه وهو في مكانه).
انظر لصراحة الخبر الصادر قبل أكثر من ألف عام في ذلك، إنَّه في الواقع لا زال في مكانه، ولكنَّ البثَّ التلفزيوني (الحي) يجعلهم يسمعون كلامه وينظرون إليه، وليس في الخبر أنَّهم يُكلِّمونه لتعذُّر ذلك تلفزيونياً.
وليس استعمال هذا البثِّ مُقتصراً على الإمام المهدي، بل يشمل سائر الأخوَّة في الإيمان حيث نجد (أنَّ المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٨٣) المصدر المخطوط.
(٧٨٤) إعلام الورى ص٤٠٨.

↑صفحة ٥٨٦↑

المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق)، فإنَّ الصورة التلفزيونية تقوم بذلك، من دون أن يحصل تبادل في الرؤية، بل المراد أنَّ البثَّ تارة يحصل في الطرف المشرق، وتارةً يحصل من طرف المغرب، وقد تقوم الدولة المهدوية بإيجاد أجهزة أُخرى، تجعل تبادل الرؤيا والكلام معاً ممكناً بالنسبة إلى الأفراد، بل والجماعات أيضاً، ولدينا في العصر الحاضر نموذج مُصغَّر لذلك، وهو التلفون التلفزيوني، الذي تمَّ اكتشافه ولم يتمَّ توزيعه في العالم على نطاق واسع إلى حدِّ الآن.
ونجد في هذه الأخبار الإشارة إلى البثِّ الإذاعي الصوتي أيضاً في قوله: (ويبعث الله الريح في كل وادٍ تقول)، يحتوي هذا الخبر على فلسفة البثِّ الإذاعي أيضاً، فإنَّ الريح والأثير الذي يحمل الموجات الصوتية الكهربائية، إلى جهاز الاستقبال الراديو.
ومن الأجهزة الدقيقة التي تُستعمل في دولة المهدي (ع)، أجهزة الاستخبارات التي قد تُستعمل ضدَّ المُجرمين والمُنحرفين (حتى إنَّ أحدهم يتكلَّم في بيته فيخاف أن يشهد عليه الجدار)، وهذا الخوف لا يكون منطقياً إلاَّ مع وجود مثل هذه الأجهزة.
والمهدي (ع) سوف (يركب فرساً أدهم أبلق، بين عينيه شمراخ)، وينبغي أن نفهم من الفرس واسطة النقل أيَّاً كانت، وإنَّما عبَّر عنها بالفرس، باعتبار مستوى العصر يوم صدور الخبر.
والأدهم: الأسود. ومن الخيل والإبل: الشديد لورقة حتى يذهب البياض،(٧٨٥) والورقة بالضمِّ فالسكون: سواد في غبرة،(٧٨٦) ويُفهم منه قلَّة السواد، وأنَّه من الألوان الغامقة القريبة من السواد.
والأبلق: الذي فيه سواد وبياض.(٧٨٧) يُقال: بِلق - بالكسر - إذا كان فيه سواد وبياض، وبلق الفرس، ارتفع تحجيله إلى فخذيه.(٧٨٨) يُقال: حجل، وتحجَّل الفرس، إذا كان في قوائمه تحجيل أي بياض، فهو مُحجَّل ومحجول.(٧٨٩)
والشمراخ، له عدَّة معانٍ في اللغة: منها رأس الجبل، ومنها غرَّة الفرس إذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٨٥) أقرب الموارد مادَّة (دهم).
(٧٨٦) المُنجد، مادَّة (ورق).
(٧٨٧) أقرب الموارد، مادَّة (بلق).
(٧٨٨) المصدر نفسه.
(٧٨٩) المُنجد مادَّة (حجل).

↑صفحة ٥٨٧↑

دقَّت وسالت وجلَّلت الخيشوم ولم تبلغ الجحفلة.(٧٩٠)
والجحفلة لذي الحافر كالشفة للإنسان.(٧٩١)
فإذا عرفنا ذلك، أمكننا أن نذكر لفَهم هذا الخبر أُطروحتين:
الأُطروحة الأُولى: وهي منطلقة من أنَّ معنى الشمراخ: رأس الجبل، فيكون معنى الخبر: أنَّ واسطة النقل التي يركبها المهدي ذات ارتفاع أمامي دقيق وطويل يُشبه قمَّة الجبل، وهذا الوصف ينطبق على الدبَّابة التي يكون أمامها المدفع، وينطبق على الطائرات الحديثة التي يكون مُقدَّمها مخروطي الشكل مُدبَّباً، ولكن بعد العلم أنَّ الطائرات لا تكون إلاَّ بيضاء، فلا ينطبق عليها اللون المذكور في الخبر، كما أنَّ التعبير بالفرس، يُراد به واسطة النقل الأرضية لا الجوِّية.
إذاً؛ نعرف انطباقه على الدبّابة، وهي إحدى وسائط النقل الحربية التي تُستعمل في القتال الأرضي.
ويؤيِّد هذه الأُطروحة، قضية اللون الموصوف في الخبر، فإنَّ عدداً من الدول تجعل الدبّابات، وهي إحدى وسائط النقل الحربية التي تُستعمل في القتال الأرضي.
ويؤيِّد هذه الأُطروحة قضية اللون الموصوف في الخبر، فإنَّ عدداً من الدول تجعل الدبابات ذات لونين: فاتح وغامق، وعلى شكل بقع كبيرة لكل لون، كالفرس الأبلق تماماً.
الأُطروحة الثانية: وهي منطلقة من أنَّ معنى الشمراخ: غرَّة الفرس أي جبهته، إذا كانت طويلة وجميلة، فيكون معنى الخبر: إنَّ في مُقدِّمة واسطة النقل التي يركبها المهدي شيء يمكن أن يصدق عليه مجازاً هذا الوصف، ويبدو الآن أنّ الزجاجة الواسعة التي تكون في مقدّمة السيّارة عادةً هي المقصود من الخبر؛ فيكون المراد: أنّ المهدي (ع) يركب سيّارة اعتيادية ذات لونين.
وحيث كان الحديث في الخبر عن الفرس، إذاً يكون فهم الشمراخ طبقاً للأطروحة الثانية هو الأفضل.
هذا، ولكن الخبر الآخر الذي وصف الشمراخ، ذكر أنّ له نوراً حتى (لا يبقى أهل بلد إلاّ أتاهم نور ذلك الشمراخ حتى يكون آيةً له) أي للإمام المهدي (ع).
ولفهم هذا النور عدّة أُطروحات، نذكر منها ثلاثاً:
الأُطروحة الأُولى: أن يكون النور إعجازيّاً، (حتى يكون آية له) من أجل تمييز سيّارة الإمام المهدي (ع) عن غيرها، ولأسباب أُخرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٩٠) أقرب الموارد، المادة (شمرخ).
(٧٩١) المصدر: مادة جحفل.

↑صفحة ٥٨٨↑

الأُطروحة الثانية: أن يكون هذا النور معنويّاً، يعبّر عن الهدى والعدل الذي يصدر عن راكب هذه السيّارة، أعني الإمام المهدي نفسه.

الأُطروحة الثالثة: أن يكون هذا النور ماديّاً صادراً من واسطة النقل بطبيعة تكوينها، غير أنّ سيّارة من هذا القبيل لم تُكتَشف إلى حد الآن، فلعلّها تُصمّم في المستقبل قبل الظهور وبعده.
وللقارئ تفضيل إحدى الأُطروحات على بعض.
وأمّا طيّ الأرض للإمام المهدي، فقد فهمنا منه الانتقال الطبيعي، بوسائط السفر السريعة التي لم تكن متوفّرة في عصر صدور هذه الأخبار.
وتبقى عندئذٍ بعض الأسئلة التي تحتاج إلى الجواب، نذكر أهمّها:
السؤال الأوّل: لماذا لم نفهم من طي الأرض للإمام المهدي الأُسلوب الإعجازي في الانتقال، كما يفهم ذلك التفكير التقليدي لدى المسلمين، فإنّ هذا بالنسبة للدجّال لم يكن ممكناً؛ لعدم إمكان صدور المعجزة منه - كما قلنا - ولكن ممكن بالنسبة إلى المهدي (ع) فينبغي الحمل عليه.
وجواب ذلك من عدّة وجوه:
الوجه الأوّل: أنّنا قلنا في التاريخ السابق(٧٩٢) وفي هذا الكتاب، إنّه كلما أمكن فهم الأُسلوب الطبيعي من الخبر، كان هذا متعيّناً، ما لم تقم قرائن واضحة في تعيين الأُسلوب الإعجازي، وهذه الأخبار لا تحتوي على مثل هذه القرائن، فحملها على الأُسلوب الطبيعي هو الصحيح.
الوجه الثاني: قانون المعجزات الذي يقول: إنّه كلما أمكن البديل الطبيعي للمعجزة لم يكن للمعجزة مجال. ومن الواضح أنّ السفر بوسائط النقل الحديثة، يوصل الفرد إلى أي نقطةٍ من العالم بأقصى سرعة، ولاسيّما في الطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت أكثر من مرّتين، فلا يبقى للمعجزة مجال.
الوجه الثالث: أنّنا سمعنا أنّ الدجال تُطوى له الأرض أيضاً، والمهدي تُطوى له الأرض أيضاً. فقد استعمل هذا المفهوم على نمط واحد بالنسبة إلى كلا الشخصين. فبعد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٩٢) انظر ص٢١٨ وغيرها.

↑صفحة ٥٨٩↑

البرهان على إرادة المعنى الطبيعي للسفر السريع، بالنسبة إلى الدجّال، يتعيّن نفس الفهم بالنسبة إلى المهدي؛ لأنّ الخبر استُعمل فيه نفس المفهوم بدون رتوش.
السؤال الثاني: إنّ طيّ الأرض ذُكر في الأخبار بصفته إحدى الصفات المهمّة التي يتصف بها المهدي، دون سائر البشر، فلو حملناه على معنى السفر الطبيعي السريع؛ لم تكن مزيّة للمهدي (ع) كما هو واضح.
وجواب ذلك يكون من وجوه، نذكر منها وجهين:
الوجه الأوّل: إنّ استفادة هذه المزيّة من الأخبار لا تخلو من مناقشة، إذ بعد اتصاف الدجّال بهذه الصفة أيضاً لا تكون الصفة من خصائص الإمام المهدي (ع) كما هو واضح. وقد نُسبت في بعض الأخبار إلى أصحاب الإمام المهدي (ع) عند اتجاههم إلى لقائه لأوّل مرّة - كما سبق - فكيف تكون من خصائصه.
الوجه الثاني: إنّ هذه الأخبار لا تدل على اختصاص هذه الصفة بالمهدي (ع) حتى مع التنزّل - جدلاً - عن الوجه الأوّل. فإنّها إنّما دلّت على أنّ مجموع ما ذكرت له من صفات، لا يمكن أن يتصف بها أحد غيره؛ وهذا صحيح. وأمّا كل واحدة من هذه الصفات لو لوحظت بحيالها فقد يتصف بها آخرون أيضاً، كطيّ الأرض نفسه، إلاّ أنّ بعض الصفات التي قام البرهان على اختصاصه بها: كتأسيسه للدولة العالمية العادلة، وأنّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.
السؤال الثالث: إنّ طيّ الأرض ذُكر في الأخبار في سياق أُمور إعجازية فنفهم باعتبار وحدة السياق أنّه يحدث بطريق إعجازي.
وجوابه: أنّنا استطعنا، من خلال هذا التاريخ وهذه الموسوعة، أن نفهم الأعم الأغلب من صفات الإمام المهدي، وما ذكرت عنه الأخبار. بشكل طبيعي اجتماعي مرتّب، لا إعجاز فيه ولا تنافر في مدلوله، ومن هنا يمكن القول بأنّ طيّ الأرض لم يقع في الأخبار ضمن الصفات الإعجازية، بل ضمن الصفات الطبيعية، ومن هنا تقتضي قرينة وحدة السياق: أن نفهم من طيّ الأرض الأُسلوب الطبيعي لا الإعجازي، على عكس ما توخّاه السائل.
وإلى هنا يتم الحديث في الخاتمة الثانية من الفصل السابع من هذا الباب، وبها ينتهي الفصل نفسه.

↑صفحة ٥٩٠↑

الفصل الثامن: موقف الإمام المهدي (ع) من أهل الكتاب ونزول المسيح (ع) في دولته

وينبغي أن نتكلّم خلاله ضمن عدّة جهات:
الجهة الأُولى: في سرد الأخبار المتعلّقة بالمسيح وأهل الكتاب
وهي عدد ضخم في مصادر العامّة، يصعب أن نحمل فكرة تفصيلية عنها، ومعه فسنقتصر في نقل الأخبار على أمرين:
أحدهما: نقتصر من مصادر العامّة على خصوص ما نقلته الصحاح الستّة من الأخبار دون غيرها، وخاصّة الصحيحان الرئيسان فيها. ونقتصر على المصادر القديمة المعتمدة من كتب الخاصّة.
وثانيهما: أن نختصر الإشارة إلى قضايا الدجّال ويأجوج ومأجوج من زاوية علاقتهما بالمسيح، وقد ذكرتها الأخبار مفصّلاً... بعد أن تكلّمنا عن ذلك فيما سبق، وإنّما نقتصر على الأُمور الأُخرى المتعلّقة به ممّا وردنا في الأخبار بيانه.
وبعد هذه التصفية، سوف يبقى مقدار كافٍ من الأخبار، ويكون المهم منها كما يلي:
أخرج البخاري(٧٩٣) عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله (ص):
كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم.
وأخرجه مسلم(٧٩٤) أيضاً. وفي حديث آخر مشابه يقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٩٣) صحيح البخاري: ج٤ ص ٢٠٥. وانظر أيضاً الترمذي ج٣ ص ٣٤٤، وابن ماجة ج٢ ص١٣٦٣.
(٧٩٤) صحيح مسلم: ج١ ص٩٤ وكذا ما بعده.

↑صفحة ٥٩١↑

إذا نزل ابن مريم فيكم وأمّكم.
وفي حديثٍ ثالث: فأمّكم منكم.
وأخرج البخاري(٧٩٥) عن أبي هريرة أيضاً، قال: قال رسول الله (ص):
والذي نفسي بيده، ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (الحرب)، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد. حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها.
ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).(٧٩٦)
ورواه مسلم أيضاً(٧٩٧) عن أبي هريرة نحوه، إلى أن قال:
وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد.
وأخرج أيضاً(٧٩٨) عن جابر بن عبد الله، قال: سمعت النبي (ص) يقول:
(لا تزال طائفة من أُمّتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة.
قال: فينزل عيسى بن مريم (ع)، فيقول أميرهم: تعال صلّ بنا! ‍فيقول: لا، إنّ بعضكم على بعض أُمراء، تكرمة الله هذه الأُمّة).
وأخرج أيضاً(٧٩٩) في حديث طويل ذكر فيه الدجّال وعدداً من تفاصيله، ثم قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٩٥) صحيح البخاري: ج٤ ص ٢٠٥.
(٧٩٦) النساء: ١٥٩.
(٧٩٧) صحيح مسلم: ج١ ص ٩٣ - ٩٤.
(٧٩٨) المصدر ص ٩٤.
(٧٩٩) المصدر ص ٩٥.

↑صفحة ٥٩٢↑

فبينما هو كذلك، إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفّيه على أجنحة مَلَكين. إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد منه ريح نفسه إلاّ مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه - يعني طلب الدجّال - حتى يدركه بباب لِدّ فيقتله.
ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنّة، فبينما هو كذلك، إذ أوحى الله إلى عيسى: إنّي قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم... الحديث، حيث يذكر خروج يأجوج ومأجوج.
وأخرج أبو داود(٨٠٠) عن أبي هريرة: أنّ النبي (ع) قال:
ليس بيني وبينه - يعني عيسى (ع) - نبي، وأنّه نازل. فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصّرتين، كأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل. فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلاّ الإسلام، ويهلك المسيح الدجّال، فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون.
ونحوه بألفاظ مقاربة في صحيح الترمذي(٨٠١) ونحوه في سنن ابن ماجة.(٨٠٢)
وهناك حديثان آخران تركتهما الصحاح، يحسن إدراجهما لنصل إلى الرأي الصحيح فيهما:
أخرج السيوطي في الحاوي(٨٠٣) عن أبي نعيم عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص):
(لن تهلك أُمّة أنا أوّلها، وعيسى في آخرها، والمهدي في وسطها).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٠٠) السنن ج٢ ص ٤٣٢.
(٨٠١) ج٣ ص ٣٤٨.
(٨٠٢) ج٢ ص ١٣٥٧.
(٨٠٣) ج٢ ص ١٣٤.

↑صفحة ٥٩٣↑

وأخرج ابن حجر في الصواعقى(٨٠٤) عن ابن ماجة والحاكم أنّه (ص) قال:
(لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدنيا إلاّ إدباراً، ولا الناس إلاّ شُحّاً، ولا تقوم الساعة إلاّ على شرار الناس، ولا مهدي إلاّ عيسى ابن مريم).
فهذه بعض أخبار المصادر العامّة.
وأمّا أهم أخبار المصادر الخاصّة: فقد أخرج النعماني(٨٠٥) بسنده عن جابر، قال:
دخل رجل على أبي جعفر الباقر (ع) فقال له: عافاك الله اقبض منّي على هذه الخمسمئة درهم. فقال له أبو جعفر(ع):
(خذها أنت فضعها في جيرانك من أهل الإسلام والمساكين من إخوانك من المسلمين).
ثم قال: إذا قام قائم أهل البيت قسّم بالسويّة... إلى أن قال: ويستخرج التوراة وسائر كتب الله عزّ وجلّ من غار بأنطاكية. ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل القرآن بالقرآن....) الحديث.
وفي حديث آخر(٨٠٦) قال ابن سنان، سمعت أبا عبد الله (ع) يقول:
(عصى موسى قضيب آس من غرس الجنّة أتاه بها جبرائيل (ع) لما توجّه تلقاء مدين، وهي وتابوت آدم في بحيرة طبرية، ولن يتغيّرا حتى يخرجهما القائم (ع) إذا قام).
وأخرج الأربلي في كشف الغمّة(٨٠٧) عن أربعين الأصفهاني والقندوزي(٨٠٨) عن كتاب الفتن لنعيم بن حماد، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص): (منّا الذي يصلّي عيسى بن مريم خلفه).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٠٤) ص٩٨.
(٨٠٥) الغيبة ص١٢٤.
(٨٠٦) غيبة النعماني ص١٢٥.
(٨٠٧) ص٢٦٤ج٣.
(٨٠٨) ص٥٣٩.

↑صفحة ٥٩٤↑

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(٨٠٩) بسنده إلى محمد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول: (القائم منّا منصور بالرعب.... إلى أن قال: وينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه).
واخرج في البحار(٨١٠): عن أبي بكير، قال: سألت أبا الحسن (ع) عن قوله تعالى: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً). قال: (أُنزلت في القائم (ع)، إذا خرج باليهود والنصارى والصابئين والزنادقة وأهل الردّة والكفّار، في شرق الأرض وغربها، فعرض عليهم الإسلام فمَن أسلم طوعاً أمره بالصلاة والزكاة، وما يؤمر به المسلم ويجب لله عليه، ومَن لم يسلم ضرب عنقه، حتى لا يبقى في المشارق والمغارب أحد إلاّ وحّد الله..) الحديث.
وأخرج أيضاً(٨١١) في حديث سبق أن رويناه عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) يقول فيه: قلت:
فما يكون من أهل الذمّة عنده؟ قال: (يسالمهم، كما سالمهم رسول الله (ص) ويؤدّون الجزية عن يد وهم صاغرون...) الحديث.
الجهة الثانية: في وحدة المهدي والمسيح
وهو احتمال نعرضه ونناقشه قبل الدخول في تفاصيل هذه الأخبار؛ لكي نتوفّر على التفاصيل، في نتيجة هذه المناقشة:
وينطلق هذا الاحتمال من أُطروحة معيّنة وهي: أنّه بعد العلم أنّ المنقذ العالمي لكل البشرية واحد لا يتعدّد، تكون له الزيادة الأُولى إلى الإصلاح العام، بشكل لا تعود بعده البشرية إلى الظلم والضياع مرةً أُخرى.
إنّ هذا المنقذ العالمي الواحد، هو الذي سمّاه الإسلام بالمهدي، وسمّاه السابقون - اليهود والنصارى -: بالمسيح، وسمّاه آخرون بأسماء أُخرى. ومعه يتعيّن أن يكون المسيح

 

(٨٠٩) نسخة مخطوطة.
(٨١٠) ج١٣ ص١٨٨.
(٨١١) المصدر ص١٩٦.

↑صفحة ٥٩٥↑

والمهدي لفظين وصفتين لشخص واحد، هو المنقذ العالمي الواحد الموعود.
وحيث كان مقابل هذه الأطروحة احتمالان رئيسيان: هما أن يكون المنقذ العالمي هو المسيح عيسى ابن مريم، وأن يكون هو المهدي الإسلامي مهما كان اسمه، فينطلق من هذين الاحتمالين احتمالان:
الاحتمال الأوّل: أن يكون المنقذ العالمي هو المسيح عيسى بن مريم، ونعبّر عنه بأنّ المهدي هو المسيح عيسى بن مريم.
الاحتمال الثاني: أن يكون المنقذ العالمي هو المهدي الإسلامي، ونعبّر عنه أنّ المسيح هو المهدي الإسلامي نفسه.
ولكل من هذين الاحتمالين مثبتاته التي سنذكرها، وأمّا احتمال أن يكون كلا هذين القائدين يمارسان مهمّة الإنقاذ العالمي، فهو ممّا تنفيه هذه الأُطروحة؛ لأنّه ينافي الفكرة المؤكّدة في وحدة المنقذ العالمي.
مثبتات الاحتمال الأوّل:
وهو أن يكون المهدي هو المسيح عيسى بن مريم، بمعنى أن يكون هذا النبي (ع) هو الذي يمارس الإنقاذ العالمي الموعود، ويطبق العدل الكامل، وقد سُمّي في الإسلام بالمهدي بالمعنى المتضمّن لذلك المفهوم.
ولهذا الاحتمال عدّة مثبتات:
المثبت الأوّل: أنّ عيسى بن مريم، ويسوع الناصري (ع) هو المسيح بقولٍ مطلق باعتراف الإنجيل والقرآن، وفي التبادر الذهني العام لكل سامع...فإذا قلنا المسيح لم نفهم غيره.
والمسيح ليس اسماً شخصيّاً له وإنّما لُقّب به باعتباره المنقذ العالمي، فإنّ لفظ المسيح مهما كان معناه اللغوي، لا يُراد به في الاصطلاح الديني إلاّ ذلك. ومن هنا كان يلقّب به داود(٨١٢) وشاؤل أيضاً(٨١٣) تفاؤلاً بأن يكونوا متخذين لتلك الصفة.
وحين جاء المسيح إلى الدنيا اتخذ هذه الصفة بشكل مطلق وبلا منازع، وهذا واضح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨١٢) انظر: صموئيل الثاني: ١٩/ ٢١ و٢٣ /١ وغيرها.
(٨١٣) أنظر صموئيل الأوّل: ٢٤ / ٦ و٢٦ / /٢٥ وغيرها.

↑صفحة ٥٩٦↑

جدّاً من الإنجيل والقرآن معاً. إذاً فهو المنقذ العالمي المطلق، باعتراف الإنجيل والقرآن معاً.
المثبت الثاني: ذكرت عدداً من الأناجيل(٨١٤) بتبشير يسوع الناصري بطول عمر المسيح وبمجيئه في آخر الزمان، ووافقت على ذلك السنّة الشريفة في الإسلام، كما سمعنا من هذه الأخبار وغيرها، حتى كاد أن يكون ذلك من واضح واضحات الديانتين المسيحية والإسلام.
وقد بشّر هو بإسهاب، كما نطقت بذلك الأناجيل، بقرب مجيء ملكوت الله الذي هو يوم العدل العالمي الموعود، وقد نفهم من ذلك أنّ الملكوت إنّما ينزل إلى حيّز التطبيق عند مجيئه في آخر الزمان، ومعه يكون هو المطبّق له.
المثبت الثالث: الخبر الذي سبق أن سمعناه أنّه: لا مهدي إلاّ عيسى بن مريم.
فإنّه متضمّن لمضمون هذا الاحتمال بصراحة، وأنّ المتكفّل للإنقاذ العالمي الموعود ليس إلاّ هذا النبي (ع)، وربّما أشعرنا هذا الخبر بأنّ النبي هو المسمّى بالمهدي في اصطلاح الإسلام.
وأمّا شأن هذه المثبتات من الصحّة فهو ما سنذكره بعد ذلك.
مثبتات الاحتمال الثاني:
هو أن يكون المهدي الإسلامي هو المسيح، ولا يوجد إلى جنبه وبعده وقبله شخص آخر مستحق لهذه الصفة، بصفتها ممثّلة للإنقاذ العالمي الموعود.
وإثبات ذلك ينطلق ممّا قلناه من أنّ المراد بالمسيح بالاصطلاح الديني: هو هذا المعنى، فبعد أن يثبت بضرورة الدين الإسلامي أنّ مهمّة الإنقاذ العالمي موكولة إلى المهدي الإسلامي وحده، إذاً فسوف يكون - بكل وضوح - هو المسيح الموعود.
غير أنّ الصحيح هو عدم صحّة كلا هذين الاحتمالين، بمعنى عدم صحّة الأُطروحة التي ينطلقان منها، وهي وحدة المسيح والمهدي، بل هما شخصان منفصلان، يظهران معاً في آخر الزمان، أعني عند البدء بالإنقاذ العالمي الموعود، ويضطلعان معاً بإنجاز هذه المهمّة بقيادة المهدي الإسلامي، وجهود المسيح عيسى بن مريم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨١٤) انظر: متى: ٢٨ / ٢٩ ١٦/ ١٩ و٢٤/ ٢ وغيرها.

↑صفحة ٥٩٧↑

وبهذا الفهم نستطيع أن نناقش مثبتات كلا الاحتمالين، ونعرف المناشىء الحقيقية له.
فالإنقاذ العالمي مهمّة مجيدة واحدة، لا معنى لتعددها، بعد البرهنة على عدم الحاجة إلى ذلك، كما سوف يأتي في الباب الآتي في الكتاب الآتي، والمنقذ العالمي واحد، هو المهدي الإسلامي دون غيره.
وأمّا تسمية النبي عيسى (ع) بالمسيح بلا منازع، فهو لا يدل على استقلاله بهذه المهمّة لوجهين:
الوجه الأوّل: أنّ تسمية المسيح عيسى بن مريم (ع) بهذا اللقب، لم يكن مستعملاً في حياته، بل كان يتخذ مدلولاً عاماً،(٨١٥) وإنّما أكّد على ذلك طلاّبه كَتَبَة الأناجيل الأربعة، إيحاءً بأنّه المنقذ المنتظر والمطبّق لملكوت الله دون غيره.
وأمّا تلقيب القرآن الكريم به بهذا الوصف، فهو باعتبار الشهرة الموجودة في ذلك العصر به، نتيجة لتركيز المسيحيين على ذلك طيلة عدّة قرون.
إذاً فهذه الشهرة العالمية لعيسى ويسوع (ع)، بهذا اللقب، ليس له أي مدلول أكثر من إطلاقه على داود وشاؤل الذي كان لمجرّد مجاملتهما على ما يبدو، بعد اليقين بأنّ أيّاً منهما لم يكن هو المنقذ المنتظَر.
الوجه الثاني: أنّه يكفي - في حدود الفهم الذي عرضناه - لتلقيب عيسى (ع) بالمسيح جهوده الكبرى في بناء اليوم الموعود، كما سنعرف، إلى حد يصدق من الناحية العلمية نسبة تطبيق العدل الكامل إليه، وإن كان ذلك في الواقع بقيادة الإمام المهدي الإسلامي (ع).
ولعلّ هذا هو الوجه الذي حدا بالقرآن الكريم إلى الاعتراف بهذه الشهرة لهذا النبي (ع) وعدم إلغائها وتبديلها، على حين ألغاها بالنسبة إلى غيره كداود.
وبهذا يكون المثبت الأوّل للاحتمال الأوّل مندفعاً.
وأمّا ما تسالمت عليه الديانتان من عودة المسيح في آخر الزمان، فهو لا يدل بمجرّده على استقلاله بتطبيق اليوم الموعود، بل نحتمل - على الأقل - أنّه لمجرّد المشاركة فيه؛ لأجل نيل المصالح التي سنعرف طرفاً منها في ما يأتي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨١٥) انظر يوحنّا: ٧/٢٧و٤٣.

↑صفحة ٥٩٨↑

وأمّا تبشيره بملكوت الله، فهو تبشير باليوم الموعود نفسه، وإنّما أكّد عليه المسيح عيسى بن مريم باعتباره الحلقة الأخيرة من التشريعات السابقة، على وجود الأطروحة العادلة الكاملة التي ستكون مطبّقة في ذلك اليوم.
وكل ما يتضمّن هذا البشير والتأكيد، هو أهميّة ملكوت الله وتطبيق عدله الكامل، ولا يعني بأيّ حالٍ استقلال المسيح بتطبيق العدل.
ولا تتضمّن الأناجيل ولا القرآن الكريم أيّ إشارةٍ إلى أنّ المسيح عيسى (ع) هو المطبّق الأكبر لذلك اليوم، وإنّما نُسب التطبيق إلى قائد معيّن أسمته الأناجيل بابن الإنسان، وهو ليس عيسى ويسوع على أيّ حال؛ لأنّ الأناجيل تُطْلِق على يسوع لقب: ابن الله... وابن الإنسان غير ابن الله، فلا يكون ابن الإنسان إلاّ القائد الواقعي لليوم الموعود.
ويوجد في كلام الأناجيل عدد من القرائن على ذلك، كما سيأتي في الكتاب الخاص بهذا الموضوع من الموسوعة.
وبهذا يكون المثبت الثاني للاحتمال الأوّل مندفعاً.
وأمّا المثبت الثالث: وهو الخبر الوارد بهذا الصدد، فقد ناقشه ناقلوه نقاشاً حامياً.
قال ابن حجر في الصواعق(٨١٦): قال الحاكم: أوردته تعجّباً لا محتجّاً به. وقال البيهقي:
تفرّد به محمد بن خالد. وقد قال الحاكم: إنّه مجهول. واختلف عنه في إسناده، وصرّح النسائي بأنّه منكر. وجزم غيره من الحفّاظ بأنّ الأحاديث التي قبله، أي الناصّة على أنّ المهدي من ولد فاطمة، أصحّ إسناداً.
كما أنّ هذا الخبر متضمّن لبعض المداليل المعلومة الكذب، وهو قوله: لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدنيا إلاّ إدباراً، ولا الناس إلاّ شُحّاً. فإنّه بمدلوله ينفي وجود اليوم الموعود الذي ترتفع فيه الشدائد وتقبل الدنيا بعد إدبارها، ويزول الشُحّ من الناس، ويتبدّل إلى التعاطف والأُخوّة على كل المستويات، ومعه، فالدليل القطعي الدال على وجود اليوم الموعود، ينفي مدلول هذا الخبر.
وإذا وجدت في الخبر فقرة فاسدة أمكن أن تكون فقراته الأُخرى فاسدة؛ فيكون ساقطاً عن الإثبات التاريخي.
وأمّا ما ورد في الخبر من أنّ الساعة لا تقوم إلاّ على شرار الناس، فهو ما ورد في عدّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨١٦) ص٩٨.

↑صفحة ٥٩٩↑

أخبار سنسمعها ونبحثها في الباب القادم.
وأمّا الاحتمال الثاني: وهو تلقيب المهدي الإسلامي بالمسيح بصفته المنقذ المنتظَر، فهو أمر معقول وصحيح غير أنّه متروك إسلامياً، باعتبار ما سوف يقع عندئذٍ من الخلط بين المهدي وعيسى بن مريم.
ولكنّه على كل تقدير لا يدل على وحدة هذين القائدين، وأنّ الذي بشّرت به الأناجيل والأخبار بمجيئه ليس إلاّ المهدي نفسه، دون عيسى بن مريم (ع)؛ لأنّ الأناجيل والأخبار لو كانا قد اقتصرا على لقب المسيح لكان هذا الحمل محتملاً، غير أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ الأناجيل بشّرت بعودة يسوع على أيّ حال: وأمّا الأخبار فقد سمعنا تسميته بصراحة: بعيسى بن مريم (ع)، وليس مجرّد كونه مسيحاً ليحتمل انطباقه على المهدي، بل هي - في الأغلب - سمته ولم تلقّبه بالمسيح.
ومعه، فاحتمال وحدة المسيح والمهدي، وأنّهما مفهومان عن شخصٍ واحد، غير وارد في الإطلاق، بل هما شخصان يظهران معاً ويبذلان جهوداً مشتركة في إنقاذ العالم وتطبيق العدل الكامل، ويتكفّل كلاهما قيادة ومهمّة واحدة، وإن كانت القيادة العليا مسندة إلى المهدي (ع) كما سنسمع.
وبعد استنتاج هذه النتيجة: يمكننا أن نمشي في الجهات الآتية، من الحديث بسهولة.
الجهة الثالثة: في المضمون العام لهذه الأخبار
إذا لاحظنا مجموع هذه الأخبار، واعتبرناها جميعاً قابلة للإثبات التاريخي، حصلنا على تسلسل الفكرة بالشكل التالي:
إنّ الدجال حين يبلغ قمّة مجده وإغرائه وسيطرته على العالم، ينزل المسيح من السماء واضعاً كفّيه على أجنحة مَلَكين، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، يبدو للرائي أنّه خرج من الحمّام لوقته؛ لأنّه إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدّرت منه جمرات كاللؤلؤ على وجهه. وإن كان المفهوم من الخبر أنّ هذا خيال للرائي ولي سهو برطوبة حقيقية.
وتكون الوظيفة الرئيسية الأُولى للمسيح هي قتل الدجّال والقضاء عليه، ويكون الدجّال يومئذٍ في دمشق فيلحقه المسيح فيدركه بباب لد فيقتله.

↑صفحة ٦٠٠↑

وحينما يقضي على الدجّال تكون مهمّته الثانية تأييد المؤمنين في العالم والقضاء على الكافرين والمنحرفين. أمّا المؤمنين فيواجههم ويحدّثهم عن درجاتهم في الجنّة، وأمّا الكافرين فيقاتلهم على الإسلام ويدق الصليب بمعنى أنّه يقضي على المسيحية المعروفة المتخذة للصليب، ويقتل الخنزير، بمعنى أنّه يحرّم أكله، ويأمر بالقضاء على الموجود للتدجين منه (ويضع الجِزية على مَن بقي على دين اليهودية والنصرانية) كما فعل رسول الله (ص) معهم، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون.
وأمّا المهدي (ع) فهو الشخص الرئيسي من هؤلاء المؤمنين الذين يواجههم المسيح. وحين تحين الصلاة بعد وصولهم إليه ووصوله إليهم، يدعوه الإمام المهدي (ع) احتراماً له، أن يكون هو الإمام في صلاة الجماعة، فيأبى ذلك قائلاً: لا، إنّ بعضكم على بعض أُمراء، تكرمة الله لهذه الأُمّة يعني: أنّ الأُمّة الإسلامية لابد - في الحكم الإلهي - أن يحكمها شخص منها، وحيث أنّ المسيح عيسى بن مريم ليس منها، باعتباره نبيّاً لدينٍ سابق، إذاً فلا ينبغي أن يحكم المسلمين وأن يأمّهم في الصلاة. وبعد هذا الاعتذار، يتقدّم المهدي إماماً للصلاة ويصلّي المسيح خلفه مأموماً.
وسيحين خلال هذه المدّة، الوقت المناسب لمنازلة الكافرين والمنحرفين، متمثّلين بيأجوج ومأجوج، وبالرغم من أنّ هذه القيادة العالمية إنّما هي بيد الإمام المهدي (ع) غير أنّ قيادة الحرب ستكون بيد المسيح (ع)، ومن هنا نُسب القضاء على يأجوج ومأجوج إليه، كما نُسب قتل الدجّال إليه أيضاً، مع أنّ هناك من الأخبار ما يدل على أنّ المهدي (ع) هو الذي يقتل الدجّال(٨١٧) وكلا النسبتين صادقة، باعتبار وحدة العمل والهدف.
وهذا التسلسل الفكري، يمكننا دمجه بفهمنا العام السابق للحوادث، وربطه بالتخطيط العام اللاحق له، فينتج لدينا النتيجة التالية: أنّ الدجّال ليس شخصاً معيّناً - كما قلنا - وإنّما هو كناية عن الحضارة المادية في قمّتها وأوج عِزّها وإغرائها. ومن الواضح أنّ مثل هذه الحضارة لا يمكن القضاء عليها بقتل شخص معيّن، وإنّما تحتاج إلى عمل فكري وعسكري عالمي للقضاء عليها، وتحويل الوضع إلى الحكم العادل الصحيح.
وهذا العمل موكول أساساً إلى المهدي (ع) بصفته القائد الأعلى ليوم العدل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨١٧) انظر منتخب الأثر ص٤٨٠ عن إكمال الدين وغيره.

↑صفحة ٦٠١↑

الموعود. ومن هنا ذكرت الأخبار بأنّه يقتل الدجّال. هذا لا ينافي أنّ شخصاً من أصحابه وتحت إمرته يشارك في هذه المهمّة مشاركةً رئيسية، بحيث تصحّ نسبة القتل إليه أيضاً، كما تصحح كونه مسيحيّاً مصلحاً للعالم.
والمستفاد عموماً من الأخبار: أنّ نزول عيسى (ع)، يكون بعد ظهور المهدي ولكن قبل استتباب دولته، يعني خلال محاربته للكافرين والمنحرفين وممارسته للفتح العالمي. وهناك(٨١٨) من الأخبار ما يدل على أنّه يبايعه في المسجد الحرام مع أصحابه الخاصّة الأوائل، غير أنّه غير قابل للإثبات التاريخي.
وهذا هو المراد من كون المهدي في وسط الأُمّة، وعيسى في آخرها، لو صحّ الخبر؛ لأنّه ينزل بعد ظهور المهدي، ويبقى بعد وفاته، فأصبح كأنّه بعد المهدي في الزمان، فيصدق عليه مجازاً، أنّه في آخر الأُمّة.
والمسيح يواجه بعد نزوله يأجوج ومأجوج، قد خرجوا من الردم، وقد عرفنا أنّهما يمثّلان الحضارة المادية ذات الفرعين الأساسيين في البشرية، ويكون مسؤولاً - خلال الفتح العالمي - عن محاربتهما والقضاء عليهما، وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك مفصّلاً.
وهنا قد يبدو أنّ الخبر الدال على ذلك، دال أيضاً على تأخّر خروج يأجوج ومأجوج من الردم، على نزول عيسى، ثم على ظهور المهدي، وهذا مخالف لفهمنا السابق؛ لأنّ الحضارة المادية بكلا فرعيها إنّما تكون قبل الظهور.
إلاّ أنّ دلالة الخبر على ذلك غير صحيحة؛ لأنّه دال على أنّ عيسى بعد أن يجتمع بالمؤمنين الصالحين، يخبره الله تعالى بإخراج يأجوج ومأجوج (فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إنّي قد أخرجت عباداً لي، لا يُدان أحد بقتالهم). إنّ هذا التوقيت توقيت للإخبار لا للخروج من الردم، وليس في الخبر الذي يتلقّاه هذا النبي أنّهم قد خرجوا لفورهم.
وهذا الإخبار لا يتضمّن معناه المطابقي اللفظي بطبيعة الحال، وإنّما يتضمّن الأمر بالمبادرة إلى قتالهم بعد أن التأم جمع المؤمنين مكوّناً من: المهدي والمسيح (ع) وأصحابهما، وقد أزفت ساعة الصفر للفتح العالمي، واقتضى التخطيط الإلهي ذلك.
ثم يكشف المهدي عن مواريث الأنبياء بشكلها الواقعي، كما خلفها الأنبياء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨١٨) انظر إلزام الناصب ص٣٠٧.

↑صفحة ٦٠٢↑

أنفسهم في الأرض، كلٌّ في منطقته، وهي: تابوت آدم (ع) أي الصندوق الذي كان يحفظ فيه كتاباته الدينية وتشريعاته، وعصر موسى (ع) والتوراة، والزبور، والإنجيل، وسائر كتب الله، فيبدأ هو والمسيح (ع) بمناقشة أهل الأديان السماوية بهذه الكتب والمواريث.
فيدخلون في الإسلام، وأمّا المتبقّي منهم، فيقول الخبر إنّهم يدخلون في ذمّة الإسلام ويدفعون الجِزْية، كما كان الحال في زمن رسول الله (ص)، ريثما يتمّ بالتدريج دخولهم في الإسلام.
وعندئذٍ (تذهب الشحناء والتباغض والتحاسد) ويعمّ الغنى أُمّة محمد (ص) وهم كل البشر (وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) عند استتباب الدولة العالمية.
فهذا هو المضمون العام لهذه الأخبار، وأمّا التفاصيل فسنعرفها في الجهات الآتية.
الجهة الرابعة: في الحديث عن بعض خصائص المسيح عيسى بن مريم (ع)
ونتكلّم عن ذلك في عدّة نواحي:
الناحية الأُولى: حين عبّرت الأخبار السابقة بنزول عيسى (ع)، فإنّما تريد نزوله من السماء بعد أن رفعه الله تعالى إليه؛ حين أراد اليهود قتله، فشُبّه لهم وقتلوا غيره مكانه... وهذا انطلاق من الفهم التقليدي للمسلمين عن ذلك، وقد ورد في أخبار الفريقين ما يؤيّده ويدل عليه.
ونحن لا نريد الدخول في إثبات ذلك الآن، وحسبنا أنّ القرآن الكريم بعد ضمّ بعض آياته إلى بعض غير صريح في ذلك... وإنّما غاية ما ينفعنا في المقام هو: أن نلتفت إلى أنّ مجيء المسيح مع المهدي لا يعني صحّة هذا الفهم بالتعيين، بل يمكن رجوعه بقدرة الله تعالى مهما كانت خاتمة حياته السابقة، وكما هو واضح.
الناحية الثانية: في الحكمة من بقاء المسيح (ع) خلال هذه المدّة الطويلة طبقاً للفهم التقليدي المشار إليه:
إنّ الحكمة من ذلك، حسب ما تدركه عقولنا الآن، تتمثّل في عدّة أُمور:
الأمر الأوّل: اختصاص هذا النبي (ع) بمميّزات شخصية أساسية من دون سائر الأنبياء: كولادته الإعجازية بدون الأب، وإحيائه للموتى، ورفعه إلى السماء. كما اختص موسى بالكلام مع الله عزّ وجلّ، ومحادثته مدّة عشرة أيام كاملة. واختص محمد، نبي الإسلام (ص) بالقرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة. ولابد لكل نبي رئيسي من خصائص تميّزه على أيّ حال.

↑صفحة ٦٠٣↑

الأمر الثاني: البرهان على صحّة الغيبة بالنسبة إلى المهدي (ع)، حيث يكون المسيح أكبر عمراً منه مهما طالت الغيبة بعدّة مئات من السنين، هي الفرق بين عصر ولادة المسيح وعصر ولادة المهدي (ع) وهي حوالي التسعمئة عام.
وحيث اعترف الفكر التقليدي الإسلامي ببقاء المسيح حيّاً لم يمت، إذاً، ففي الإمكان تماماً بقاء مَن هو أصغر منه عمراً، وإن لم يكن هو أولى بالبقاء منه.
وهذه تماماً هي الحكمة من بقاء الخضر (ع) حيّاً، كما اعترف به الفكر التقليدي الإسلامي أيضاً، ووردت به الأخبار من الفريقين. وورد في الأخبار الإشارة إلى هذه الحكمة بالذات لبقائه.(٨١٩) فإنّ عمره يزيد على عمر المسيح والمهدي معاً باعتبار أسبق ولادة منهما. فإذا كان بالإمكان بقاء الإنسان خلال هذا الدهر الطويل، فبالأولى أن يبقى شخص آخر بمقدار أقل منه. ولئن كان المسيح يعيش في السماء، فإنّ الخضر يعيش على الأرض تماماً كالمهدي (ع) وهو يزيد على عمره بأكثر من ألفي عام.
الأمر الثالث: تكامل المسيح (ع) خلال هذا العصر الطويل، من التكامل الذي سمّيناه بتكامل ما بعد العصمة. وقد برهنّا التاريخ السابق(٨٢٠) على ثبوته للمهدي (ع) من خلال عمره الطويل على الأرض، ومعاشرته للأجيال الطويلة للبشرية.
فكذلك يمكن القول بالنسبة للمسيح في عمره الطويل في السماء، في الملكوت الأعلى، وما يشاهده من عظمة الله وحكمته وعدله في ذلك العالم، الأمر الذي يوجب له أكبر الكمال.
وسوف يستفيد المسيح من هذا التكامل العالي، في تدبير المجتمع العالمي العادل، تماماً كما يستفيد المهدي (ع) من تكامله العالي أيضاً. فانظر إلى هذه القيادة العالمية الرشيدة المكوَّنة من هذين التكاملَين العاليين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨١٩) أخرج الصدوق في إكمال الدين (نسخة مخطوطة) بسنده عن سدير الصيرفي، عن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديثٍ طويل يقول فيه: وأمّا العبد الصالح أعني الخضر، فإنّ الله تبارك وتعالى ما طوّل عمره لنبوّةٍ قدّرها له، ولا لكتابٍ ينزل عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة مَن كان قبله من الأنبياء، ولا لإمامةٍ يلزم عباده الإقتداء بها، ولا لطاعةٍ يفرضها له، بلى إنّ الله تبارك وتعالى لما كان في سابق علمه أن يقدّر من عمر القائم في أيام غيبته ما قدّر، وعلم من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طول عمر العبد الصالح من غير سببٍ أوجب ذلك إلاّ لعلّة الاستدلال به على عمر القائم؛ ليقطع بذلك حجّة المعاندين، ولئلاّ يكون على الناس حجّة... الحديث.
(٨٢٠) تاريخ الغيبة الكبرى: ص ٥٠٤ وما بعدها إلى عدّة صفحات.

↑صفحة ٦٠٤↑

الناحية الثالثة: في الحكمة من مشاركة المسيح في الدولة العالمية العادلة.
يؤثّر وجود المسيح (ع) في الدولة العالمية، وبالتالي في التخطيط اللاحق للظهور، في حدود ما نفهم الآن، في عدّة أُمور:
الأمر الأوّل: إيمان اليهود والنصارى به، وهم يمثّلون ردحاً كبيراً من البشرية، وذلك حين يثبت لهم بالحجّة الواضحة أنّه هو المسيح يسوع الناصري نفسه، وأنّ الإنجيل والتوراة إنّما هي هكذا وليست على شكلها الذي كان معهوداً، وأنّ ملكوت الله الذي بشّر به هو في حياته الأُولى على الأرض قد تحقّق فعلاً، متمثّلاً بدولة العدل العالمية.
ولن يبقى منهم شخص من ذلك الجيل المعاصر للظهور إلاّ ويؤمن به، كما هو المستفاد من قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).(٨٢١)
فإنّ الاستثناء بعد النفي يفيد العموم.
الأمر الثاني: أنّه نتيجة للأمر الأوّل سوف يتيسّر الفتح العالمي بدون قتال، بل نتيجة للإيمان بالحق والإذعان له، وقد سبق أن تكلّمنا عن ذلك مفصّلاً، وعرفنا أنّ الجانب الفكري في الفتح العالمي سيكون أوسع بكثير من الجانب العسكري.
الأمر الثالث: تكفّل المسيح عيسى بن مريم (ع) للقيادة في جانب وعدّة جوانب من الدولة العالمية، وتحمّله مسؤوليّتها، كما لو أصبح في مركز مشابه لرئيس الوزراء في الدولة الحديثة، وتكفّل الحكم في رقعة كبيرة من الأرض، والدولة العالمية.
الناحية الرابعة: إنّ المسيح ابن مريم (ع) وإن كان نبيّاً مرسَلاً، وليس الإمام المهدي (ع) كذلك، غير أنّ القيادة العليا تبقى موكولةً إلى المهدي (ع)؛ وذلك لعدّة وجوه نذكر بعضها:
الوجه الأوّل: إنّ الإمام المهدي (ع) هو الوريث الشرعي للأُطروحة العادلة الكاملة عن نبي الإسلام (ص)، يروي عنه وعن قادة الإسلام الأوائل تفاصيلها وحل معضلاتها، وفهم ظواهرها وخفاياها؛ وبالتالي فقد مرّ الإمام المهدي (ع) بجوٍّ كافٍ للتعرّف على هذه الأُمور على يد آبائه (ع)، وهو ممّا لم يحدث أن وُفّق له المسيح عيسى بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٢١) ٤ / ١٥٩.

↑صفحة ٦٠٥↑

مريم (ع).
الوجه الثاني: القاعدة العامّة التي نصّت عليها الأخبار التي سمعناها، وهي يقولها المسيح نفسه حين يعتذر عن تقدّمه إمامة الجماعة بالمسلمين: إنّ بعضكم على بعض أُمراء، تكرمة الله هذه الأُمّة.
فإنّه بصفته نبيّاً لملّةٍ أُخرى غير دين الإسلام، يكون من الوهن في الحكمة الإلهية أن يكون حاكماً للمجتمع المسلم بما فيه من أولياء وصالحين، وكأنّه يظهر عندئذٍ عجز الأُمّة الإسلامية عن إيجاد قائد كبير منها. بل إنّ الحكمة والتفضّل الإلهيين اقتضى أن يكون الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية مسلماً بالأصل، لا يمت إلى أيّ دينٍ آخر بصلة، مضافاً إلى صفاته الأُخرى.
الناحية الخامسة: دلّت الروايات على أنّ بقاء المسيح في الأرض بعد نزوله أربعين سنة، ولعلّ المراد به مجرّد فكرة الكثرة، بشكل يناسب أن تكون أكثر وأقل بمقدارٍ ما. وحيث يكون من الراجح، كما سوف نشير أنّ الإمام المهدي (ع) لن يبقى في الحياة بعد ظهوره، إلاّ حوالي العشر سنوات، إذاً فسوف يبقى المسيح بعد المهدي (ع) حوالي ثلاثين عاماً، وهي فترة ليست بالقصيرة بالنسبة إلى النظام المهدوي الجديد. ويؤيّد ذلك قوله في رواية أُخرى، وعيسى في آخرها. فإنّه لا يكون في آخرها إلاّ إذا كان متأخّراً في البقاء في الحياة بعد الإمام المهدي (ع).
ومهما يكن من شكل الرئاسة العليا لدولة العدل العالمية بعد الإمام المهدي (ع) - وهذا ما سنذكره في الباب الآتي - فإنّ المسيح (ع) لن يتولّ الرئاسة على أيّ حال، بل سيكون له قسط من العمل والتوجيه، ويستمر بنفس صفته التي كان عليها بين يدي شخص الإمام المهدي (ع).
نعرف ذلك من القاعدة التي سمعناها: إنّ بعضكم على بعض أُمراء. ومن الواضح أنّ الأولياء الموجودين بعد المهدي (ع) كلهم مسلمون بالأصل غير المسيح؛ لأنّه نبي لدين سابق، فيكون هؤلاء الأولياء أولى منه بتولّي الرئاسة.
وإذ تنتهي حياته ويحين أجله، تسكت الروايات عن كيفية موته وسببه. والمفروض أنّه يموت كما يموت غيره من البشر، فهو الآن يصعد بروحه وحدها إلى السماء، بعد أن كان قد صُعد فيما سبق بروحه وجسمه معاً.
إنّ قانون: (كلّ نفسٍ ذائقة الموت) يعيّن عليه الموت مهما طال عمره؛ فإنّه قانون عام

↑صفحة ٦٠٦↑

لا يُستثنى منه نبي ولا ولي. وحيث لم يكن ارتفاعه الأوّل موتاً حقيقياً وكاملاً، كان اللازم بمقتضى هذا القانون: أن يموت الموت الحقيقي الموعود، ولو بعد مئات وآلاف من عمره الطويل.
فهذا هو الحديث عن بعض النواحي المهمّة من خصائص المسيح (ع).
الجهة الخامسة: في بعض خصائص أهل الكتاب وعقيدتهم يومئذ
ونتكلّم عن ذلك في عدّة نواحي:
الناحية الأُولى: دلّت بعض الروايات، بما فيها بعض ما سبق: على أنّ المهدي (ع) يستخرج التوراة والإنجيل، وكل الكتب والصحف المُنزَلة على الأنبياء من غار في أنطاكية، فيحتج بها على اليهود والنصارى، فيدخلون في الإسلام.
إلاّ أن هذا التعيين للمكان لا يخلو من بعض نقاط الضغف:
النقطة الأُولى: عدم كفاية هذه الروايات لإثبات هذا الأمر تاريخياً؛ فإنّها روايات قليلة نسبيّاً وضعيفة السند.
النقطة الثانية: إنّنا أشرنا خلال فهمنا لهذه الأخبار: أنّ المهدي (ع) يستخرج كل كتاب من المكان المذخور فيه... وذلك بعد ضمّ أمرين إعجازيين:
الأمر الأوّل: انحفاظ هذه الكتب من التلف خلال آلاف الأعوام.
الأمر الثاني: إطلاع الإمام المهدي على مكانها، وهي موزّعة في بقاع العالم.
وإنّما حدثت هذه المعجزة باعتبار هداية الناس بهذه الكتب بعد الظهور، فأصبحت مطابقة لقانون المعجزات، على أنّه يمكن حمل الأمرين على الشكل الطبيعي أيضاً.
وأمّا اجتماع هذه الكتب كلها من غار أنطاكية، فهو ممّا لا مبرّر له لا إعجازي ولا طبيعي، كما هو واضح، فيكون باطلاً.
الناحية الثانية: كيف يثبت للناس أنّ هذه هي الكتب الحقيقية؟ وكيف يثبت أنّ هذا هو عيسى بن مريم (ع) نفسه، وأن هذه هي الكتب الواقعية؟ مع أنّ الناس غير مشاهدين وغير معاصرين له ولا لها، وخاصّة أنّ هناك في اليد نُسَخ من التوراة والإنجيل ستكون مختلفة عن تلك النسخ الأصلية.
وجواب ذلك: أنّ هذا الإثبات يتم بعد إقامة الحجّة الكاملة من قِبَل المهدي (ع) على مهدويّته وصدقه، بحيث يكون كل ما يخبر به مسلّم الصحّة عند الناس؛ فيعرّفهم على

↑صفحة ٦٠٧↑

المسيح وعلى التوراة والإنجيل، مضافاً إلى ما قد يضيفه المسيح نفسه من حجج وبيّنات، فيثبت بها نفسه وصدقه، إلى جنب عدالة القضية ككل.
وبهذا نعرف أنّ قضية نزول المسيح واستخراج الكتب لا يكون بمجرّد حجّة كافية؛ لوضوح أنّ نزول عيسى من السماء لن يشاهده إلاّ القليل، وربّما لا يشاهده أحد.
فيحتاج هو على الأرض إلى إثبات لشخصيّته، وكذلك الكتب فإنّ مجرّد وجودها هناك لا يعني صدقها ومطابقتها للواقع، ما لم يقترن كل ذلك بالحجّة الكافية لإثباته.
نعم، بعد أن يثبت كل ذلك بالحجّة، وقد سبق أيضاً للناس التبشير بحصول ذلك في عصر المهدي (ع) في الأخبار التي سمعناها، يكون ذلك بطبيعة الحال، دعماً لصدقه وعدالة قضيّته.
الناحية الثالثة: أنّه دلّت بعض الأخبار على أنّ الإمام المهدي (ع) أنّه قال:
(لو ثُنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم).(٨٢٢)
كما يؤيّد أيضاً بقوله تعالى:
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٢٢) انظر إرشاد الديلمي ج ٢ ص٦ ط بيروت.

↑صفحة ٦٠٨↑

فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).(٨٢٣)
(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ).
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ...) الآية.(٨٢٤)
حيث دلّت هذه النصوص على أنّه عند الحكم العادل، ينبغي أن تنزل كل الكتب السماوية إلى حيّز التطبيق، وكل منها على مَن يؤمن بها. وقد وصف من يعصي حكم التوراة بالكافرين تارةً وبالظالمين أُخرى، ووصف مَن يعصي حكم الإنجيل بالفاسقين.
كل ما في الأمر أنّ الزمام الأعلى للحكم الإسلامي الذي أنزله الله تعالى في القرآن، مهيمناً على الملل السابقة.
وإنّما تمنّى أمير المؤمنين (ع) إنجاز ذلك، وإنّما يقوم المهدي (ع) به، تطبيقاً لهذا التأكيد القرآني الذي سمعناه.
ويمكن فهم هذا التأكيد على أساس عدّة أُطروحات محتملة:
الأُطروحة الأُولى: أن يُراد من تطبيق هذه الكتب: تطبيق ما أمرت به من الدخول في الإسلام، وبشّرت به من وجود نبي الإسلام. وسيكون هذا واضحاً في النسخ التي سوف يجيء بها المهدي (ع) من هذه الكتب.
وهذا هو الفهم التقليدي لهذه الآيات القرآنية، وهو فهم محترم لولا أنّه يخالف ظاهر بعض الآيات، فإنّ قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إلى أن يقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ظاهر بأنّ المطلوب هو تطبيق هذه الأحكام نفسها التي عدّدتها الآية الكريمة.
وقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ... لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ظاهر بأنّ الرفاه الاجتماعي ناتج عن إقامة الأحكام التفصيلية للكتب نفسها، وقَصْرها على مجرّد تبشيرها بالإسلام، خلاف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٢٣) ٥ / ٤٤ - ٤٨.
(٨٢٤) ٥ / ٦٦.

↑صفحة ٦٠٩↑

الظاهر لا يُصار إليه إلاّ بدليل.
الأُطروحة الثانية: أن يراد من تطبيق هذه الكتب، تطبيق أحكامها جملةً وتفصيلاً، وخاصةً تلك الكتب التي يخرجها المهدي (ع) ويثبت أنّها هي التوراة والإنجيل الواقعية.
إلاّ أنّ هذه الأُطروحة غير محتملة؛ لأنّ في هذه الكتب ناسخ ومنسوخ، وكلها منسوخة بشريعة الإسلام؛ فالتوراة ناسخة للشرائع السابقة عليها، والإنجيل ناسخ لأحكام التوراة، والقرآن ناسخ لأحكام الإنجيل. ومعنى كونه منسوخاً أنّه يجب العمل عليه في حكم الله عزّ وجلّ، بل يجب العمل فقط على الشريعة الأخيرة الناسخة لكل الشرائع السابقة، والتي ليس بعدها ناسخ لها، وهي الإسلام؛ ومعه، لا معنى للعمل بالأحكام التفصيلية للشرائع السابقة.
وهذا النسخ لا يختلف فيه الحال بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، فليس من الصحيح أنّ أحكام التوراة - مثلاً - منسوخة بالنسبة إلى المسلمين، ولكنّها سارية المفعول على اليهود؛ لأنّ الشرائع المتأخّرة عن التوراة إن لم تكن صحيحة، كانت تلك الأحكام منسحبة عن كل البشر، ولا معنى للتفريق.
على أنّ بعض هذه الكتب لا يحتوي على أحكام بالمرّة، ويحتوي على شيءٍ قليل لا يكفي لتطبيق العدل: كالزبور والإنجيل نفسه.
الأُطروحة الثالثة: تطبيق هذه الكتب من زاوية عدد من الأحكام المهمّة التي أعربت عنها، وليس المراد تطبيقها جملةً وتفصيلاً.
فإنّ هناك من الأحكام ما كان ناشئاً من فهم معيّن للعدل والقانون بشكلٍ عام، حتى أصبح عدد من واضحاتها ضروري التطبيق في المجتمعات البشرية كلها على خط وجودها الطويل، منذ أن استطاعت تطبيق الشرائع.
وحيث يكون فهم العدل والقانون في الشرائع السماوية عموماً واحداً، أعني الشرائع بشكلها الواقعي، فإنّها صادرة من مصدر واحد حكيم لا نهائي في علمه وقدرته؛ كانت الأحكام الأساسية مشتركة ما بين الشرائع، لا تختلف إلاّ في حدود اختلاف الحاجات التربوية التي تمرّ بها المجتمعات.
وإذ يكون هذا الفهم العام موجوداً أيضاً في دولة العدل العالمية، لكن بشكل معمّق

↑صفحة ٦١٠↑

وموسّع، يكون من المنطقي جدّاً: أن يكون تطبيق الأحكام الأساسية المشتركة الناشئة من ذلك الفهم مطلوباً أيضا ًفي هذه الدولة، مضافاً إلى الأحكام الأُخرى المطبّقة فيها.
وهذا التطبيق يكون عامّاً على كل البشر وغير خاص بأهل الملل السابقة، بل تدخل هذه الأحكام في ضمن قوانين الدولة العالمية، ويكون هو المراد من تطبيق هذه الكتب والحكم بمؤديات أحكامها، فإنّ تطبيق أحكامها الأساسية والفهم العام الذي تقوم عليه، يعتبر تطبيقاً لها، مضافاً إلى تطبيق تبشيراتها بالإسلام، واليوم الموعود، يوم العدل العالمي.
وهذه الأُطروحة صحيحة، بمعنى أنّها منسجمة مع سائر النصوص، ولا دليل على بطلانها، في تعيّن القول بصحّتها، مع بطلان الأُطروحتين السابقتين.
ولا ينافي صحّة هذه الأُطروحة، أن نلتزم بصحّة الأُطروحة الآتية لو رأينا الدليل عليها تامّاً، فإنّهما أطروحتان غير متنافيتين.
الأُطروحة الرابعة: أن يكون المراد من تطبيق التوراة والإنجيل، تطبيقهما على أهل الملل المؤمنين بهما دون غيرهم.
لكن لا بمعنى التفريق بينهم وبين غيرهم بشكلٍ كامل، الأمر الذي نفيناه فيما سبق، بحيث يكون الشامل لهؤلاء خصوص أحكام هذه الكتب دون سائر قوانين وأنظمة الدولة العالمية، بل إنّ هذه القوانين شاملة للجميع، ويختص هؤلاء بأحكام كتبهم، ريثما يدخلون في الإسلام تدريجيّاً.
وفي كل مادة قانونية اختلف فيه قانون الدولة عن حكم الكتب، كان الحاكم العادل مخيّراً بين تطبيق قانونه وقانونهم عليهم، كما أفتى به الفقهاء المسلمون أيضاً، واستفادوا ذلك من قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ).(٨٢٥)
يعني أحكم بينهم بحكم الإسلام، وأعرض عنهم ودعهم ليطبّقوا أحكامهم الخاصّة.
وهذا هو الأنسب مع نصوص الأخبار التي سمعنا بهذا الصدد، حيث قالت: إنّ أحكام التوراة تُطبّق على أهل التوراة، وأحكام الإنجيل تُطبّق على أهل الإنجيل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٢٥) ٥ / ٤٢.

↑صفحة ٦١١↑

وعلى أيّ حال، فقد تكون كلا الأُطروحتين الثالثة والرابعة صادقتين، ومعه لا تكون الأُطروحة الثالثة منافية مع هذا الظهور الذي أشرنا إليه في الأخبار، كما هو غير خفي.
هذا وسيأتي في الكتاب القادم، ما يلقي ضوءاً إضافيّاً على فهم النصوص.
الناحية الرابعة: في وضع الجِزْية على أهل الكتاب.
صرّحت عدد من الأخبار السابقة، بأنّ السياسة العامّة للدولة العادلة مع أهل الكتاب، ما داموا لم يسلموا، هي إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم، كما كان عليه الحكم الإسلامي قبل الظهور، وكما طبّقه رسول الله (ص)، وبقي عليه الحكم المسلم ردحاً طويلاً من الزمن.
كل ما في الأمر أنّ بعض الأخبار نسبت هذه السياسة إلى المسيح عيسى بن مريم (ع)، وبعضها نسبته إلى المهدي (ع)؛ وقد عرفنا أنّ هذا اختلاف شكلي يعود إلى عمل واحد وأهداف مشتركة، يقوم بها هذان القائدان على السواء.
وهذا هو الظاهر من قوله: يضع الجِزْية. يعني يشرّعها ويطبّقها، بعد أن كانت مرتفعة بعد انحسار الحكم الإسلامي قبل الظهور، وهذا هو المشهور في الأخبار كما سمعنا، والموافق للقاعدة الإسلامية المعروفة الواضحة قبل الظهور.
غير أنّنا سمعنا في خبر منها: تخيير المهدي (ع) لليهود والنصارى بين الإسلام والقتل، كما يفعل بسائر المشركين والملحدين في العالم. وهو الرأي الذي مال إليه المجلسي في البحار(٨٢٦) حيث نسمعه يقول:
وقوله: (ويضع الجِزْية معناه: أنّه يضعها من أهل الكتاب ويحملهم على الإسلام).
وهذا أمر محتمل في التصوّر على أيّ حال، حيث يكون ذلك من التشريعات المهدوية الجديدة التي تختلف عن الأحكام السابقة. غير أنّه ممّا لا يمكن الالتزام به بعد ظهور الأخبار بتشريع الجِزْية، وهي الأكثر عدداً بشكلٍ زائد.
وعلى أيّ حال، فالقضيّة منحصرة بمن يبقى على دين اليهودية والنصرانية، وهم عدد قليل يومئذٍ على كل حال، بعدما عرفنا من الفُرَص المتزايدة، والتركيز الكبير على نشر الدين الإسلامي في البشر أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٢٦) ج١٣ ص١٩٨.

↑صفحة ٦١٢↑

الباب السادس: في انتهاء حياة الإمام المهدي (ع)
وهو باب متكوّن من فصلٍ واحدٍ،
نتكلّم خلاله في عدّة جهات:

↑صفحة ٦١٣↑

الجهة الأُولى: إنّ النتائج التي عرفناها فيما يخص المقام، تتلخّص في عدّة أُمور:
الأمر الأوّل: إنّ مدّة بقاء المهدي (ع) بعد ظهوره، ستكون محدودة، قد لا تزيد على العشر سنوات، كما سبق أن رجّحناه.
الأمر الثاني: إنّ المهدي (ع) سيمارس الحكم من حين سيطرته على العالم إلى وفاته، ومن ثم يكون تحديد عمره حين الظهور، تحديد لمدّة حكمه.
الأمر الثالث: إنّ المهمّة التي يتكفّلها المهدي (ع) في دولته، بعد التجاوز عن الأُمور الإدارية، هي وضع الأُسس العامّة لتربية البشرية، من خلال الأُطروحة العادلة الكاملة باتجاه المجتمع المعصوم.
الأمر الرابع: إنّ نظام المهدي (ع) سيبقى بعد وفاته، وستستمر دولته إلى نهاية البشرية وقريباً من النهاية، وسنوضّح هذه الجهة في القسم الآتي من الكتاب.
ومن هنا لن تكون الآن هذه الأُمور مورداً للبحث، وإنّما نتكلّم عن أُسلوب وكيفيّة موت الإمام المهدي (ع) إذا شاء الله عزّ وجلّ أن يلحقه بالرفيق الأعلى.
الجهة الثانية: في الأخبار التي تنفع بهذا الصدد:
أخرج أبو داود(٨٢٧) بسنده عن أُمّ سلمة في حديث يقول فيه (ص) عن المهدي (ع): فيلبث سبع سنين، ثم يتوفّى ويصلّي عليه المسلمون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٢٧) سنن أبي داود ج٢ ص ٤٢٣.

↑صفحة ٦١٥↑

وأخرج ابن طاووس في الملاحم والفتن(٨٢٨) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص):
(أُبشّركم بالمهدي... إلى أن قال: فيكون ذلك سبع سنين وثمان سنين وتسع سنين. ثم لا خير في العيش بعده، وقال: لا خير في الحياة بعده).
وأخرج الأربلي(٨٢٩) عن أربعين الأصفهاني بسنده عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (ص):
(لو لم يبق من الدنيا إلاّ ليلة؛ لطوّل الله تلك الليلة حتى يملك رجل من أهل بيتي... إلى أن قال: فيملك سبعاً وتسعاً، لا خير في عيش الحياة بعد المهدي.
وقال في البحار:(٨٣٠) على ما ورد عنهم (صلوات الله عليهم) فيما تقدّم من: أنّ الحسين بن علي (ع) هو الذي يغسّل المهدي (ع) ويحكم في الدنيا ما شاء الله.
وقال في إلزام الناصب(٨٣١) ملخّص الاعتقاد في الغيبة والظهور، ورجعة الأئمّة لبعض العلماء، ويقول فيما يقول:
فإذا تمّت السبعون سنة أتى الحجّة الموت فتقتله امرأة من بني تميم اسمها سعيدة. ولها لحية كلحية الرجل بجاون صخر من فوق سطح، وهو متجاوز في الطريق. فإذا مات تولّى تجهيزه الحسين (ع)... الخ.
الجهة الثالثة: إنّ التبادر الأوّلي في الذهن الاعتيادي، هو أن يموت المهدي (ع) حتف أنفه كما يموت سائر الناس، غير أنّه في الإمكان الالتفات إلى عدّة وجوه مقرِّبة لإثبات قتله:
الوجه الأوّل: الخبر المُرسَل عن الإمام الصادق (ع):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٢٨) ص ١٣٥.
(٨٢٩) ج٣ ص٢٦٤.
(٨٣٠) ج١٣ ص٢٢٩.
(٨٣١) ص١٩٠.

↑صفحة ٦١٦↑

(ما منّا إلاّ مقتول وشهيد).(٨٣٢)
والمراد به أنّ الأئمّة المعصومين (ع) لابد أن يخرجوا من الدنيا بحادث تخريبي خارجي، ولن يموت واحد منهم حتف أنفه، بمَن فيهم الإمام المهدي نفسه، بحسب الفهم الإمامي.
إلاّ أنّ هذا الخبر قاصر عن الإثبات التاريخي، باعتباره خبراً مرسلاً لم تذكر له المصادر سنداً.
الوجه الثاني: ما أشرنا إليه في تاريخ الغيبة الصغرى(٨٣٣) من الفكرة التقليدية القائلة بأنّ النبي (ص) والأئمّة (ع) قد خلقت بنيتهم الجسدية قويّة كاملة، لا تكون قابلة للموت والتلف إلاّ بعارضٍ خارجي، فلو لم يحدث شيء على المعصوم، لكان قابلاً للبقاء إلى الأبد. ولكن طبقاً للقانون العام للموت الذي أعربت عنه الآية:
(كلُّ نفسٍ ذائقة الموت).(٨٣٤)
لابد أن يطرأ عارض خارجي كالقتل ونحوه على كل معصوم؛ لكي يكون هو السبب في انتهاء حياته. وهذه الفكرة تشمل الإمام المهدي (ع) بطبيعة الحال.
وقد ذكرنا في تاريخ الغيبة الصغرى(٨٣٥) ما يصلح أن يكون مثبّتاً لهذه الفكرة، وعرفنا هناك أنّها غير صالحة للإثبات؛ فلا يكون هذا الوجه صحيحاً.
الوجه الثالث: النص الأخير الذي نقلناه مع الروايات عن إلزام الناصب، فإنّه يصرّح بأنّ المهدي يموت مقتولاً، ويذكر طريقة موته، وسنعرض مضمونها ونناقشه في الجهات الآتية. والمهم الآن: أنّها هل تصلح دليلاً على إثبات هذه الفكرة بمجرّدها، وهي: أنّ المهدي (ع) يموت مقتولاً؟
والصحيح أنّ هذا النص غير قابل للإثبات أساساً؛ لأنّه ليس رواية عن أحد المعصومين بل عن بعض العلماء، وهذا العالِم لم نعرف اسمه. ولو كان هذا النص إشارة إلى مضامين الروايات - كما هو المضمون - فإنّه يصبح رواية مرسَلة ليس لها أي سند، ولا يعرف الإمام المروي عنه. على أنّ تلك الروايات المشار إليها لا تكون - عادةً - ضعيفة السند وغريبة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٣٢) انظر أعلام الورى ص٣٤٩، وتاريخ الغيبة الصغرى ص٢٣٠.
(٨٣٣) ص٢٣٠.
(٨٣٤) آل عمران: ١٨٥.
(٨٣٥) ص٢٣٢.

↑صفحة ٦١٧↑

المضامين، بشكل تسقط معه عن الإثبات التاريخي.
هذا، وستأتي بقيّة مناقشات هذا النص عند التعرّض لتفاصيله.
الوجه الرابع: استبعاد أنّ المهدي (ع) يموت حتف أنفه، وذكر قرائن معيّنة توجب الظن والاطمئنان بكونه غير قابل لمثل هذا الموت خلال سبع وعشر سنين، بل حتى خلال سبعين عاماً.
فمن ذلك قوّته البدنية الموصوفة في الأخبار، التي سمعناها فيما سبق، والتي في بعضها أنّه لو مدّ يده إلى شجرة عظيمة لقلعها، ولو صاح بالجبال لتدكدكت، وقد وُصف بدنه بالضخامة وعظامه بالخشونة ووجهه بالحمرة، ممّا يدل على قوّة بنيته إلى حدٍّ بعيد.
ومن ذلك غيبته المترامية في الطول، بحسب الفهم الإمامي فإنّ مَن عاش هذه القرون، قابل لأن يعيش ردحاً طويلاً من الزمن.
مضافاً إلى ما سبق أن قلناه من أنّ فترات عمر الإنسان، كالشباب والكهولة، تنقسم من عمره بنسب معيّنة، فإن كان العمر طبيعياً كالمعهود، كانت كل فترة خمسة عشر عاماً وعشرين مثلاً، وإن كان أطول كانت الفترات مقسّمة بنفس النسبة لكن بسنوات أكثر، على مقدار العمر المفترَض، فقد تكون فترة الشباب خمسمئة عام وهكذا.
فإذا علمنا أنّ الإمام المهدي يظهر بعد أكثر من ألف عام وهو في آخر الشباب، في عمر الأربعين، كما سمعنا من الأخبار، إذاً فقد بقيت فترات أُخرى من عمره لم يمر بها بعد وهي في الكهولة والشيخوخة، ويحتاج من خلال عمره الطويل أن يمر بنفس المقدار السابق من السنين تقريباً؛ لكي يستوفي هاتين الفترتين.
ومن ذلك، ما عرفناه مفصّلاً من الخبرة العميقة التي تكون لدى الإمام المهدي، بما فيها من خبرات طبيّة تعود إلى أُسلوب العناية بالجسم وإبقائه صحيحاً معافى إلى أكبر حدّ ممكن.
إلى قرائن أُخرى تدعم الظن، بأنّ الإمام المهدي لن يموت بهذه السرعة بدون حادث تخريبي خارجي.
وهذه القرائن قائمة، ولا نافي لها، إلاّ أنّها تعدو الظن، ولا تصل إلى درجة الإثبات التاريخي بطبيعة الحال.
وإذا لم يتم شيء من هذه الوجوه، كان احتمال موته حتف الأنف قابلاً للإثبات التاريخي؛ لأنّه القاعدة العامّة في البشر، حيث لا يوجد حادث خارجي.

↑صفحة ٦١٨↑

الجهة الرابعة: إنّ الخبر الأخير الدال على كيفية مقتله (ع)، يحتوي على عدّة نقاط ضعف، غير ما سبق:
النقطة الأُولى: إنّ الأمام المهدي يُقتل بحادث عمدي تخريبي، وبمؤامرة مدبّرة ضدّه، وهذا بعيد جدّاً، بعد أن استطاع المهدي تربية البشرية بشكلٍ عام، وإحراز الرأي العام لعدالة نظامه وعظمة شخصه، وما له من المميّزات والقدرات، الأمر الذي يخلّف أفضل الأثر في نفوس الناس وأعظم الاحترام، ممّا يستبعد معه تفكير أيّ منهم في التآمر ضدّه.
وسيدرك الناس تدريجيّاً وبسرعة: المبرّرات الواقعية التي قام المهدي بموجبها بحملات القتل الكثير في أوّل ظهوره، وسيعرفون أنّهم قد استفادوا من ذلك فائدةً كبيرة، إذ مع وجود أولئك المنحرفين لا يمكن إقامة العدل، ولا شمول السعادة والرفاه، ومعه لن يكون لتلك الحوادث انعكاس سيّئ في النفوس ليوجب تآمر البعض للإجهاز عليه.
ومعه، يكون ما دلّ عليه الخبر من وجود التآمر بعيد جدّاً.
النقطة الثانية: يدل الخبر على أنّ المهدي (ع) يُقتل بجاون صخر يقع عليه، من أعلى وهو ماشٍ في الطريق، والجاون آلة قديمة لسحق الأشياء ودقّها: كالحبوب، وهو عبارة عن جسم مجوّف ثقيل الوزن له فتحة من أعلاه توضع فيه الحبوب، ويلحق به جسم اسطواني ضخم للدق فيه، وهو قد يُعمل من الصخر وقد يُعمل من الخشب.
واستعمال مثل هذه الآلة في العصر المهدوي القائم على العمق الحضاري والعمق المدني معاً، كما سبق أن برهنّا، أمر غير محتمل، كما أنّ وجوده على السطح في مثل هذه البيوت القديمة التي كان يوجد فيها، أمر غير محتمل لثقله وقوّة الضرب فيه، ممّا يوجب انهدام السطح، وإنّما كان يستعمل عادةً على الأرض.
وقد يخطر في الذهن: أنّه في الإمكان حمل (الجاون) على بعض الآلات المتطوّرة كما حملنا السيف على كل آلة للقتال.
وهذا أمر محتمل، إلاّ أنّ جوّ الخبر ينافيه، ويدل على نفيه كما هو واضح، بخلاف مثل قولنا: إنّ المهدي يظهر بالسيف، فإنّ معناه: أنّه يظهر حاملاً للسلاح، وليس في تلك الأخبار ما يدل على نفي هذا المعنى.
النقطة الثالثة: يدل الخبر على أنّ المرأة التي تقتله ذات لحية كلحية الرجل.
وهذا المعنى له عدّة محتملات كلها فاسدة، فيكون أصل المعنى فاسداً.

↑صفحة ٦١٩↑

الاحتمال الأوّل: أن يكون لهذه المرأة شعر غير قليل في مكان اللحية حرصت على تنميته وإظهاره. وهذا ما قد يحدث لبعض النساء وإن كان نادراً. غير أنّ اللحية عندئذٍ لا تكون كلحية الرجل، بل لا تكون لحية إلاّ مجازاً؛ لأنّ المناطق الخالية من الشعر كثيرة جدّاً، فهي أشبه بلحية الرجل الأحص والأكوس، لا بلحية الرجل الطبيعي، مع أنّ ظاهر الخبر: أنّها كلحية الرجل الطبيعي.
الاحتمال الثاني: أن يكون لهذه المرأة لحية كلحية الرجل تماماً، وهذا مقطوع العدم؛ لأنّه لم يحدث في التاريخ لأيّ امرأة، ممّا يدل على أنّ الجنس الناعم مناف مع وجود مثل هذه اللحية خَلْقيّاً.
ويجيب الفكر التقليدي على ذلك:أنّه ما من عام إلاّ وقد خُصّ، وقدرة الله تعالى شاملة لمثل ذلك، ومن ثم توجد هذه المرأة بلحيتها لتكون هي القاتلة للإمام المهدي بعد ظهوره.
والجواب على ذلك: أنّه بعد التجاوز عمّا قلناه من عدم قابليّة الخبر للإثبات، بالرغم من أنّ الفكر التقليدي قائم على قبوله وقبول أمثاله تعبّداً.
إنّ هذه المرأة لو وُجدت في عصر الظهور، وعاشت بين الناس وأظهرت لحيتها، والتفت الناس إلى هذه الظاهرة النادرة، وكان مفكروهم وعلماؤهم قد قرأوا في الكتب أنّ مثل هذه المرأة تقتل المهدي.. إذاً فسوف تتعيّن هذه المرأة لقتل المهدي قبل أن تقوم به بسنين، وسوف يقع على ذلك كلام كثير ومناقشات، وسوف يسأل المهدي (ع) نفسه عنها، وسوف يكون للدولة تجاهها موقف معيّن لا نستطيع الآن أن نعرف كنهه، ليس هو غضّ النظر عنها وإهمالها بالمرّة على أيّ حال، فقد لا تكون النتيجة تماماً كما يتوقّع الفكر التقليدي أن يكون.
الاحتمال الثالث: أن تكون هذه المرأة طبيعية الخَلْق كباقي النساء، ولكنّها تضع لحية على نحو الاستعارة، على شكل باروكة تضعها على وجهها تشبّهاً بالرجل، وهذا الاحتمال له صورتان:
الصورة الأُولى: أن يفترض أنّه يوجد للنساء اتجاه عام لوضع اللحى المستعارة على الذقون، وتكون المرأة القاتلة واحدة من هؤلاء النساء.
إلاّ أنّ وجود مثل هذا الاتجاه في دولة العدل العالمية من غير المحتمل أن يوجد، بعد أن انتهت قصّة (تشبّه النساء بالرجال) بالظهور نفسه، وتمّ القضاء على جذورها

↑صفحة ٦٢٠↑

بسيف المهدي. وقد كان إحدى الصفات المنحرفة لمجتمع الظلم والفساد السابق على الظهور، فكيف يحتمل وجودها مع وجود النظام العادل؟
الصورة الثانية: إنّ هذه المرأة القاتلة تنفرّد بوضع الباروكة، من دون كل النساء.
ولعلّ هذا أبعد الاحتمالات وأشدّها فساداً، إذ يكفي في نفيه: أنّه بذلك تدل على نفسها، وتجعل نفسها عرضة لاحتمال كونها القاتلة للإمام المهدي، وأكثر من الاحتمال. وهذه ورطة تكون هذه المرأة في غنى عنها مع إهمال استعمال الباروكة، بل لعلّ فرص القتل عندئذٍ ستكون أكثر لو كانت شرّيرة قاصدة على كل حال.
وإذا بطلت كل المحتملات، كان افتراض وجود اللحية لهذه اللحية افتراض باطل، وإنّه يفتقر إلى الإثبات على أقل تقدير.
النقطة الرابعة: يدل الخبر على أنّ الإمام الحسين بن علي هو الذي يقوم بتجهيز الإمام المهدي ودفنه بعد موته.
وهذا افتراض يقوم على أُسس تقليدية ثلاثة:
الأساس الأوّل: القول بالرجعة عموماً بمعنى رجوع الأئمّة المعصومين السابقين مرّةً أُخرى إلى الدنيا؛ ليمارسوا الحكم من جديد بعد المهدي.
وهذا ما سوف نناقشه في الباب الآتي، وسنرى أنّه ممّا لا يمكن إثباته إثباتاً كافياً بالرغم من اندفاع البعض في تصحيحه والالتزام به.
الأساس الثاني: هو تطبيق من تطبيقات الرجعة، وهو الالتزام بأنّ الذي يرجع ويمارس الحكم بعد المهدي (ع) هو الإمام الحسين (ع) بالخصوص، وهذا أبعد عن إمكان الإثبات التاريخي من الأساس السابق، ولعلّنا نلم بذلك في الباب الآتي.
الأساس الثالث: أنّ الإمام المعصوم لا يقوم بتجهيزه بعد موته إلاّ الإمام المعصوم.
وهي فكرة تقليدية مرتكزة في بعض الأذهان إلى اليوم، بالرغم من أنّه لم يقم عليها دليلٌ كافٍ.
وحيث إنّ الإمام المهدي(ع) هو آخر الأئمّة المعصومين الاثني عشر، في الفهم الإمامي، إذاً فسوف لن يوجد أمام معصوم آخر يقوم بتجهيزه ما لم نقل بالرجعة، وأنّ إماماً من الأئمّة السابقين يعود إلى الدنيا بهذه المهمّة؛ ومن هنا قد يجعل هذا الأساس الثالث دليلاً على الرجعة نفسها.

↑صفحة ٦٢١↑

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ الأساس الأوّل هو الالتزام بالرجعة على وجه الإجمال أقوى الأُسس الثلاثة دليلاً، فمن غير المحتمل أن يصلح الأساسان الآخران كدليل عليه، لكنّنا سنرى في أدلّة الرجعة تشويشاً واضطراباً وغرابةً، تسقطها عن كفاية الإثبات التاريخي.
ولو أنّنا سلّمنا بالأساس الثالث، فلا ضرورة إلى القول بالرجعة؛ لإمكان تطبيق هذه القاعدة على البديل الآخر للرجعة، وهو أن يمارس الحكم بعد المهدي (ع) أولياء صالحون غير الأئمّة المعصومين السابقين، كما سنوضحه في الباب التالي.
فمع شيءٍ من التوسّع في فهم هذا الأساس الثالث، يكون خليفة المهدي (ع) تطبيقاً من تطبيقات هذا الأساس؛ لأنّه معصوم بمعنى من المعاني - على ما سنعرف - ولأنّه خير أهل الأرض بعد المهدي (ع).
فلو فرضنا قيام الدليل الكافي على هذا الأساس الثالث، فهو لا يأبى عن هذه الصورة بكل تأكيد، ولشرح ذلك والتوسّع فيه مجال آخر.
الجهة الخامسة: - من هذا الباب -: في أُمور أُخرى أشارت إليها الأخبار السابقة.
الأمر الأوّل: أنّ المهدي (ع) إذا مات صلّى عليه المسلمون.
وهذا أمر طبيعي بصفته إمام المسلمين ورئيسهم الأعلى، وهم يشكّلون يومئذٍ الأكثرية الساحقة في العالم.
والذي يصلّي عليه - عادةً - هو خليفته، أيّاً كان، أعني: سواء صحّ القول بالرجعة ولم يصح؛ فإنّه - بعد المهدي - رئيس المسلمين وخير أهل الأرض.
ويبدو أنّ المسيح عيسى بن مريم (ع)، لن يقوم بهذه الصلاة، لنفس السبب الذي رفض في أوّل نزوله تولّي إمامة الجماعة، كما انحسرت عنه خلافة المهدي بالرغم من بقائه بعده، وهو السبب الذي أشار إليه الخبر السابق، تكرمة الله هذه الأُمّة.
الأمر الثاني: قال الخبر الأخير: فإذا تمّت السبعون أتى الحجّة الموت. يُراد بهذه السبعين أنّ الحجّة القائم المهدي (ع) يبقى في الحكم سبعين عاماً، ولابد أنّ هذا منطلق من الخبر الذي سمعناه في فصل سابق من أنّه يبقى سبع سنين، كل سنة كعشر سنين من سنيّكم هذه، إذاً، فهو يبقى سبعين سنة. وقد سبق أن فهمنا هذا الخبر وأمثاله بشكل لا نصل معه إلى هذه النتيجة، فليراجع.
الأمر الثالث: نصّ أكثر من خبر واحد: أنّه لا خير في الحياة بعد المهدي (ع)، أو

↑صفحة ٦٢٢↑

لا خير في العيش بعده.
وهو أمر صحيح كما سنذكر، وقد اختصّت به المصادر العامّة، دون الإمامية، ولكن قد يبدو للذهن منافاته مع إحدى فكرتين:
الفكرة الأُولى: القول بالرجعة، فإنّ وجود الأئمّة المعصومين (ع) بعد المهدي (ع) يعني: انحفاظ التطبيق على مستواه الرفيع من دون أي خلّةٍ ونقصٍ، فيكون الخير في العيش بعد المهدي موجوداً.
ولعلّه لهذا لم يتبيّن الفكر الإمامي التقليدي مثل هذه العبارة، وخاصّةً وهو يؤمن: أنّ الأئمّة المعصومين من نورٍ واحدٍ، ولهم قابليات متماثلة وآراء مشتركة لا يختلف أوّلهم عن آخرهم؛ فإذا وُجد الحسين (ع) بعد المهدي (ع) أمكن أن يأخذ بزمام القيادة الإسلامية، تماماً كالمهدي.
ولا يحول دون ذلك سوى احتمال واحد من احتمالين ذكرناها في التاريخ السابق(٨٣٦) وهو أن يكون المهدي أفضل ممّن سبقه من الأئمّة (ع) ومن أكثرهم على الأقل، وقد سمعنا هناك الأخبار الدالّة على ذلك والمبررات الكافية له؛ إذ يكون الفرق بين القيادتين كافياً على صدق هذه العبارة: لا خير في الحياة بعده.
الفكرة الثانية: القول بوجود المجتمع المعصوم، فإنّ وجوده يعني: وجود الخير كله بعد المهدي، لا أنّه خير في الحياة بعده.
والصحيح صدق هذه العبارة حتى مع القول بوجود هذه المجتمع، إذ سيأتي في الباب التالي: أنّ القيادة التي ستخلف المهدي هي قيادة الأولياء الصالحين، وليس الأئمّة المعصومين، كما أنّ المجتمع المعصوم سوف لن يوجد بسرعة وبسهولة، بل سيتأخر كثيراً بعد وفاة الإمام المهدي.
فإذا التفتنا إلى ذلك، استطعنا أن نعرف: أنّ هناك فترة من الزمن هي التي تلي وفاة الإمام المهدي (ع) يشعر فيها المجتمع العالمي بكل وضوح الفرق بين القيادتين، وهو فرق كبير مهما أرادت القيادة الجديدة أن تبذل من الجهود، ومهما استطاعت أن تنتج من النتائج.
فإنّ المجتمع سيرى الفرق الكبير بين القيادة المهدوية التي عاصرها، وسعد تحت لوائها، وشاهد مميّزاتها، وبين القيادة الجديدة، كل ما في الأمر أنّ هذه القيادة ستستطيع بالتدريج البطيء،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٣٦) ص ٥١٢.

↑صفحة ٦٢٣↑

وتحت القواعد المهدوية العامّة لتربية البشرية، الوصول بالبشري إلى المجتمع المعصوم.
فهذا الجيل المعاصر لقيادة الإمام المهدي، سيقول عند وفاته بكل تأكيد: إنّه لا خير في حياةٍ بعده.

↑صفحة ٦٢٤↑

القسم الثالث: العالم بعد المهدي (ع)
وهو ينقسم إلى بابين:

↑صفحة ٦٢٥↑

الباب الأوّل: قيادة ما بعد المهدي (ع) من حيث خصائص الدولة والمجتمع
ونتكلّم عن ذلك في فصل واحد ذو عدّة عناوين داخلية:

↑صفحة ٦٢٧↑

قيادة ما بعد المهدي

وأعني به نوعيّة الحاكم الأعلى الذي يتولّى رئاسة الدولة العالمية العادلة بعده.
ونوجه بهذا الصدد أُطروحتين رئيسيّتين:
الأُطروحة الأولى: القول بالرجعة، أي الالتزام برجوع الأئمّة المعصومين إلى الدنيا ليمارسوا الحكم بعد المهدي.
الأطروحة الثانية: حكم الأولياء الصالحين بعد المهدي (ع).
وقد ورد في إثبات كل من الأطروحتين عدد من الأخبار، لابد من سماع المهم منها، وعرضها على القواعد والقرائن العامّة، لنختار في النهاية إحدى الأُطروحتين.
القول بالرجعة:
حين ننظر إلى المفهوم على سعته، يحتمل أن يكون له أحد عدّة معان:
المعنى الأوّل: ظهور المهدي نفسه، فإنّه قد يصطلح عليه بالرجعة، باعتبار رجوعه إلى الناس بعد الغيبة، وباعتبار رجوع العالم إلى الحق والعدل بعد الانحراف.
وهذا المعنى حق صحيح، إلاّ أنّ اصطلاح الرجعة عليه غير صحيح؛ لأنّه يوهم المعاني الأُخرى الآتية التي هي محل الجدل والنقاش، ونحن في غنى عن هذا الاصطلاح بعد إمكان التعبير عن ظهور المهدي بمختلف التعابير، وقد مشينا في هذا الكتاب على تسميته (بالظهور).
المعنى الثاني: رجوع بعض الأموات إلى الدنيا، وإن لم يكونوا من الأئمّة المعصومين، وخاصّة مَن محض الإيمان محضاً، ومَن محض الكفر محضاً.

↑صفحة ٦٢٩↑

المعنى الثالث: رجوع بعض الأئمّة المعصومين (ع) كأمير المؤمنين علي (ع) والحسين، وربّما قيل برجوع النبي أيضاً. وهم يرجعون على شكل يختلف عن حال وجودهم الأوّل في الدنيا، من حيث الترتيب، ومن حيث الفترة الزمنية أيضاً.
المعنى الرابع: رجوع كل الأئمّة (ع) بشكل عكسي، ضد الترتيب الذي كانوا عليه في الدنيا، فبعد المهدي يظهر أبوه الإمام الحسن العسكري، وبعده يظهر أبوه الإمام علي الهادي، وهكذا.
ويمارسون الحكم في الدنيا ما شاء الله تعالى، حتى إذا وصل الحكم إلى أمير المؤمنين كان هو دابة الأرض، وكانت نهاية البشرية بعد موته بأربعين يوماً.
والمعنيان الأخيران قائمان على الفهم الإمامي للإسلام، كما هو واضح، كما أنّ المعاني الثلاثة الأخيرة التي وقعت محل الجدل والنقاش في الفكر الإسلامي.
وينبغي لنا أوّلاً: أن نسرد الأخبار الدالة على ذلك، ونحن نختار نماذج مهمّة ولا نقصد الاستيعاب:
أخرج المجلسي في البحار(٨٣٧) بالإسناد عن محمد بن مسلم، قال: سمعت حمران بن أعين وأبا الخطاب يحدّثان جميعاً - قبل أن يحدث أبو الخطاب ما أحدث - أنّهما سمعا أبا عبد الله (ع) يقول:
(أوّل مَن تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي. وإنّ الرجعة ليست بعامّة، وهي خاصّة، لا يرجع إلاّ مَن محض الإيمان محضاً، ومحض الكفر محضاً).
وبهذا الإسناد عن بكر بن أعين، قال: قال لي مَن لا أشك فيه، يعني أبا جعفر (ع): أنّ رسول الله (ص) وعليّاً سيرجعان.
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) فقال: ليس أحداً من المؤمنين قُتل إلاّ وسيرجع حتى يموت، ولا أحد من المؤمنين مات إلاّ سيرجع حتى يُقتل.
وفي روايةٍ أُخرى عنه (ع) يقول فيها:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٣٧) البحار:ج١٣ ص٢١٠ وكذلك الأخبار الثلاثة التي بعده.

↑صفحة ٦٣٠↑

(فلم يبعث الله نبيّاً ولا رسولاً إلاّ ردّهم جميعاً إلى الدنيا، حتى يقاتلوا بين يدي على بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع)).
وفي رواية أُخرى(٨٣٨) عن حمران عن أبي جعفر، قال:
(إنّ أوّل مَن يرجع لجاركم الحسين (ع)، فيملك حتى تقع حاجباه على عينيه من الكبر).
وعن أبي بصير(٨٣٩) عن أبي عبد الله (ع)، قال:
انتهى رسول الله (ص) إلى أمير المؤمنين (ع) وهو نائم في المسجد، وقد جمع رملاً ووضع رأسه عليه. فحرّكه برجله ثم قال: قم يا دابّة الله. فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، أنُسمي بعضنا بعضاً بهذا الاسم؟ فقال: لا والله ما هو إلاّ له خاصّة، وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ).(٨٤٠)
ثم قال: يا علي، إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعدائك... إلى أن قال: فقال الرجل لأبي عبد الله (ع): إنّ العامّة تزعم أن قوله: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً)(٨٤١) عنى في القيامة، فقال أبو عبد الله (ع) فيحشر الله يوم القيامة من كل أُمّة فوجاً ويدع الباقين؟ لا، ولكنّه في الرجعة، وأما آية القيامة: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).(٨٤٢)
وعن(٨٤٣) الحسن بن الجهم، قال: قال المأمون للرضا (ع): يا أبا الحسن ما تقول في الرجعة؟ فقال:
(إنّها الحق، قد كانت في الأُمم السالفة ونطق بها القرآن). وقد قال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٣٨) المصدر: ص٢١١.
(٨٣٩) المصدر: ص٢١٣.
(٨٤٠) ٢٧/٨٢.
(٨٤١) ٢٧/٨٣.
(٨٤٢) ١٨/٤٧.
(٨٤٣) البحار ج ١٣ص٢١٤.

↑صفحة ٦٣١↑

رسول الله (ص): يكون في هذه الأُمّة كل ما كان في الأُمم السالفة حذوا النعل بالنعل والقذّة بالقذّة. وقال (ع): (إذا خرج المهدي من ولدي، نزل عيسى بن مريم فصلّى خلفه). وقال (ع): (إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله. ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يرجع الحق إلى أهله).
وعن(٨٤٤) عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (ع) قال رسول الله (ص):
(لقد أسرى بي ربّي عزّ وجلّ، فأوحى إليّ من وراء حجاب ما أوحى وكلّمني ما كلّم به، وكان ممّا كلّمني به... يا محمد، عليٌّ آخر مَن أقبض روحه من الأئمّة (ع) وهو الدابة التي تكلّمهم.....) الخبر.
وفي البحار أيضاً(٨٤٥) عن الإرشاد: روى عبد الكريم الخثعمي، عن أبي عبد الله (ع) قال:
(إذا آن قيام القائم مطر الناس جمادى الآخرة وعشرة أيام من رجب، لم تر الخلائق مثله. فينبت الله به لحوم المؤمنين وأبدانهم في قبورهم، وكأنّي أنظر إليهم مقبلين من قبل جهينة، ينفضون شعورهم من التراب).
وقال المجلسي بعد سرده للأخبار:
اعلم يا أخي أنّي لا أظنّك ترتاب بعد ما مهّدت وأوضحت لك في القول بالرجعة التي أجمعت الشيعة عليها في جميع الأعصار، واشتهرت بينهم كالشمس في رابعة النهار.... وكيف يشك مؤمن بحقّية الأئمّة الأطهار فيما تواتر عنهم من مئتي حديث صريح، رواها نيّف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام، في أزيد من خمسين من مؤلّفاتهم، ثم عدّهم المجلسي واحداً واحداً.
وهذا الكلام من المجلسي يواجه عدّة مناقشات:
المناقشة الأُولى: إنّ إجماع الشيعة وضرورة المذهب عندهم، لن تثبت على الإطلاق، بل المسألة عندهم محل الخلاف والكلام على طول الخط. والمتورّعون منهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٤٤) المصدر: ص٢١٧.
(٨٤٥) المصدر: ص٢٢٣.

↑صفحة ٦٣٢↑

يقولون: إنّ الرجعة ليست من أُصول الدين ولا من فروعه ولا يجب الاعتقاد بشيء، بل يكفي إيكال علمها إلى أهله. فهل في هذا الكلام - وهو الأكثر شيوعاً - اعتراف بالرجعة.
وإنّما اعتراف مَن اعترف بالرجعة وأخذ بها، نتيجة لهذه الأخبار التي ادعى المجلسي تواترها، إذاً، فالرأي العام المتّخَذ حولها - ولا أقول الإجماع - ناتج من هذه الأخبار، ولا يمكن أن تزيد قيمة الفرع على الأصل.
المناقشة الثانية: إنّه من الواضح: أنّ مجرّد نقل الرواية لا يعني الالتزام بمضمونها والتصديق بصحّتها، من قِبل الناقل والراوي؛ إذاً فهؤلاء الأربعون الناقلون لهذه الروايات لا يمكن أن نعدّهم من المعترفين بالرجعة.
المناقشة الثالثة: إنّ هؤلاء الرواة الاثنين والأربعون الذين عدّدهم المجلسي لم يجتمعوا في جيل واحد. فلو رُويت أخبار الرجعة من قِبل أربعين شخصاً في كل جيل حتى يتصل بزمن المعصومين (ع)، لكانت أخبار الرجعة متواترة. ولكن يبدو من كلام المجلسي نفسه، وهو أوسع الناس اطّلاعاً في عصره، أنّ مجموع الناقلين لأخبار الرجعة من المؤلّفين في كل الأجيال الإسلامية إلى حين عصره، لا يعدو النيّف والأربعين راوياً. فلو أخذنا المعدّل، وهو عملية لا مبرّر لها الآن، لرأينا أنّه يعود إلى كل جيل حوالي أحد عشر مؤلّفاً، لأن المجلسي عاش في القرن الحادي عشر الهجري،وهو عدد لا يكفي للتواتر.
المناقشة الرابعة: إنّ عدد المؤلَّفات التي ذكرها المجلسي، لا تثبت عن مؤلِّفيها، ولم تصلنا عنهم بطريق صحيح مضبوط، وأنّ روايته عن مؤلّفه ضعيفة أساساً، كتفسير علي بن إبراهيم، وكتب أُخرى لا حاجة إلى تعدادها.
المناقشة الخامسة: إنّ الروايات التي نقلها هؤلاء، ليست كلها صريحة وواضحة، وسنعرف عمّا قليل أنّها مشوّشة قد لا تدل على الرجعة أصلاً، وقد تدل على الرجعة بالمعنى العام المشترك بين الاحتمالات الثلاثة السابقة، وقد تدل على واحد منها بعينه وتنفي الاحتمالات الأُخرى. وهكذا.
إذاً فالتواتر المدّعى ليس له مدلول معيّن، ومعنى ذلك: أنّ الأخبار لم تتواتر على مدلول بعينه. وسنحاول إيضاح هذه النقطة أكثر.
ومعه، فكلام المجلسي يحتوي على شيءٍ من المبالغة في الإثبات على أقل تقدير وأمّا مناقشات مداليل الأخبار، فنشير إلى المهم منها:
المناقشة الأولى: عدم اتحاد الأخبار بالمضمون؛ فإنّ مداليلها مختلفة اختلافاً

↑صفحة ٦٣٣↑

شديداً، حتى لا يكاد يشترك خبران على مدلولٍ واحدٍ تقريباً.
والمداليل التي تُعرب عنها الأخبار عديدة:
المدلول الأوّل: رجوع مَن محض الإيمان محضاً، ورجوع مَن محض الكفر محضاً.
المدلول الثاني: رجوع كل مؤمن على الإطلاق؛ لأنّه إن كان قد مات فهو يرجع ليقتل، وإن كان قد قتل فيرجع ليموت.
المدلول الثالث: رجوع الأنبياء جميعاً.
المدلول الرابع: رجوع رسول الله (ص).
المدلول الخامس: رجوع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
المدلول السادس: رجوع الحسين بن علي (ع).
المدلول السابع: رجوع جماعة من كل أمة.
المدلول الثامن: رجوع عدد من المؤمنين في الجملة.
المدلول التاسع: رجوع بعض الأئمّة المعصومين (ع) إجمالاً.
المدلول العاشر: رجوع الحق إلى أهله، وهو ليس قولاً بالرجعة كما عرفنا.
وليس شيء من هذه المداليل متواتر في الأخبار بكل تأكيد.
نعم، هناك مدلول مشترك إجمالي بين الأخبار الدالة على المداليل التسعة الأُولى.
وهو رجوع بعض الأموات إجمالاً إلى الدنيا قبل يوم القيامة. وهو ما تتسالم عليه كثير من الأخبار. ومن هنا يكون قابلاً للإثبات، إلاّ أنّه لا ينفع القائلين بالرجعة، على ما سنقول.
المناقشة الثانية: إنّ الالتزام بصحّة المداليل التسعة جميعاً، أي القول بصحّة الرجعة على إطلاقها، ممّا لا يمكن، لضعف الأخبار الدالة على كثيرٍ منها. وأمّا الالتزام بها إجمالاً، بالمعنى الذي أشرنا إليه، فهو لا ينفع القائلين بالرجعة؛ لأنّ القول بالرجعة من الناحية الرسميّة يتضمّن أحد المعاني الثلاثة التي ذكرناها في أوّل الفصل. وهذا المعنى الإجمالي لا يعني واحداً منها، بل ينسجم مع افتراضات أُخرى كما هو واضح.
فهي لا تتعيّن في حدوثها بعد وفاة المهدي (ع) مباشرةً، ولا أنّها على نطاقٍ واسع.
ولا تتعيّن في أحد المعصومين (ع) ولا مَن محض الإيمان محضاً، ولا غير ذلك.

↑صفحة ٦٣٤↑

نعم، هناك مداليل تتكرّر في الأخبار، وأوضحها رجوع الإمام أمير المؤمنين (ع) بصفته دابّة الأرض التي نصّ عليها القرآن االكريم. إنّ هذه المداليل لا ترد عليها هذه المناقشة، وهي قابلة للإثبات من زاويتها.
المناقشة الثالثة: إنّ القول بالرجعة يتخذ سمةً عقائدية، فإنّه على تقدير صحّته يعتبر أحد العقائد - وإن لم يكن من أُصولها - وليس هو من الفروع والتشريعات على أيّ حال.
وقد نصّ علماء الإسلام بأنّ العقائد لا تثبت بخبر الواحد، وإن كان صحيحاً ومتعدّداً، ما لم يبلغ حدَّ التواتر، وقد علمنا أنّ الأخبار في المداليل التسعة والمعاني الثلاثة غير متواترة، فلا تكون الأخبار قابلة لإثبات أيٍّ منها، حتى لو كان المضمون متكرّراً في الأخبار، ما لم يصل إلى حدّ التواتر.
وأمّا المضمون الإجمالي المتواتر، فقد عرفنا أنّه لا ينفع القائلين بالرجعة، وسنزيد هذا إيضاحاً.
المناقشة الرابعة: إنّ المعنى الأخير من المعاني الأربعة التي ذكرناها أوّلاً، وهو رجوع الأئمّة المعصومين (ع) بشكل عكسي، لعلّه من أكثر أشكال الرجعة تقليديّةً ورسوخاً في الأذهان المعتقدة بها؛ وقد وجدنا أنّه ليس هناك ما يدل عليها على الإطلاق ولا خبر واحد ضعيف، بل ليس هناك أي خبر يدل على رجوع جميع الأئمّة المعصومين على التعيين، ولو بشكل مشوّش، إلاّ بحسب إطلاقات أعم منها بكثير، ككونهم ممّن محض الإيمان محضاً.
بل إنّ هناك ما يدل على نفي هذا المعنى التقليدي، كقوله في الخبر: أوّل مَن تنشقّ الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي.... فإنّه لو صحّ ذلك لكان أوّل مَن يرجع هو الإمام الحسن العسكري (ع) وليس الحسين (ع).
وأمّا دلالة القرآن الكريم على الرجعة: فإمّا أن نفهمه على ضوء الأخبار المفسِّرة له، وإمّا أن نفهمه مستقلاًّ.
أمّا فهمه على ضوء الأخبار، وهو باستقلاله، غير ظاهر بذلك المعنى، فهذا لا يعدو قيمة الخبر الدال على هذا الفهم، ويواجه نفس الإشكالات التي واجهناها في الأخبار. ومن ثم يكون من اللازم الاستقلال في فهم الآيات.
وإذا نظرنا إلى الآيات المذكورة للرجعة؛ وجدنا لكل منها معنىً مستقلاًّ لا يمتّ إلى الرجعة بصلة، حتى بذلك المعنى الإجمالي العام، أي أنّها لا تدل على إحياء بعض الموتى

↑صفحة ٦٣٥↑

قبل يوم القيامة، ولا أقل من احتمال ذلك المسقط لها عن الاستدلال على الرجعة.
وقد استدل البعض بأكثر من ثلاثين آية في هذا الصدد، وهو تطرّف ومبالغة في الاستدلال بكل تأكيد، وإنّما نودّ أن نشير هنا إلى ثلاث آيات فقط، تعتبر هي الأهم بهذا الصدد، لنرى مقدار دلالتها على الرجعة:
الآية الأُولى: قوله تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ).(٨٤٦)
وطريقة فهم الرجعة منها: أنّ الآية تشير إلى حياتين وموتين للناس. ونحن لا نعرف إلاّ حياةً واحدةً وموتاً واحداً، فأين الثاني منهما؟
وجوابه: إنّ ذلك إنّما يكون في الرجعة، فإنّها تتضمّن حياةً ثانيةً وموتاً بعدها، فإذا أضفناها إلى الحياة المعاصرة والموت الذي يليها، كان المجموع اثنين اثنين.
غير أنّ هذا الفهم إنّما يكون صحيحاً بأحد أُسلوبين:
الأُسلوب الأول: أن تصح الأخبار الدالة عليه. وقد عرفنا مناقاشاتها.
الأُسلوب الثاني: أن يكون فهماً منحصراً، بحيث لا يوجد مثله وأظهر منه في سياق الآية، فإن وُجد ذلك، لم يكن الاعتماد على هذا الفهم.
وهذه الآية تتضمّن معاني محتملة غير الرجعة:
المعنى الأوّل: أن يكون الموت يشير إلى ما قبل الميلاد، حال وجود النطفة مثلاً، وأن تكون الحياة الثانية هي الحياة في يوم القيامة، فإذا أضفناها إلى الحياة والموت المعهودَين كانا كما قالت الآية الكريمة.
المعنى الثاني: أن يكون المشار إليه هو حياة وموت آخر يكون في داخل القبر لأجل الحساب والسؤال، كما ثبت في الإسلام وقوعه.
المعنى الثالث: أن يكون المشار إليه هو حياة وموت آخر يكون في عالم البرزخ، أي أنّ الميّت يحيى بعد موته إلى عهدٍ قريب من يوم القيامة، ثم يموت بنفخة الصور الأُولى حين يُصعق مَن في السموات والأرض، وأمّا الإحياء ليوم القيامة فهو زمن التكلم وكأنّه غير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٤٦) ٤٠ / ١١.

↑صفحة ٦٣٦↑

داخل في الحساب.
إلى معاني أُخرى محتملَة، ولعلّ أكثرها ظهوراً هو المعنى الأوّل، دون معنى الرجعة والمعاني الأُخرى؛ فلا تكون الآية دالّة على الرجعة بحال.
ولعلّ أوضح ما يقرّب المعنى الأوّل على معنى الرجعة هو أنّ المعنى الأوّل عامّ لكل الناس، والرجعة خاصّة ببعضهم، وظهور الآية هو العموم.
الآية الثانية: قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً).(٨٤٧)
وقد أشار أحد الأخبار التي سمعناها إلى طريقة فهم الرجعة من هذه الآية: أنّ الله تعالى يحشر في يوم القيامة الناس جميعاً، لا أنّه يحشر بعضاً ويدع بعضاً: وهو المشار إليه في قوله تعالى: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)، إذاً فهي لا تشير إلى حشر يوم القيامة، وإنّما تشير إلى حشر آخر هو الحشر في الرجعة.
وإنّما سُمّي حشراً باعتبار أنّه يتضمّن الحياة بعد الموت لجماعات كثيرة، مشابهاً من هذه الجهة لحشر يوم القيامة.
ونحن إذا نظرنا إلى الآية الكريمة باستقلالها، لن نجدها دالّةً على الرجعة بحال، ولا اقل من احتمال معنى آخر بديل لمعنى الرجعة، لا تكون الآية دالّة عليه أقل من دلالتها على معنى الرجعة.
وهذا المعنى هو الحشر التدريجي، فإنّ الحشر والحساب في يوم القيامة له أحد أُسلوبين محتمَلَين:
الأُسلوب الأوّل: الحشر الدفعي والمجموعي، بمعنى: أن يُحشر الناس كلهم من أوّل البشرية إلى آخرها سويّةً، ويحاسبون على أعمالهم.
وهذا هو المركوز في الأذهان عادةً، غير أنّه ليس في القرآن ما يدل عليه، وترد عليه بعض المناقشات لسنا الآن في صددها.
الأُسلوب الثاني: الحشر التدريجي: جيلاً بعد جيل، وديناً بعد دين، ومجموعة بعددٍ معيّنٍ بعد مجموعة، وهكذا. وحتى يتمّ حساب الدفعة الأُولى تُحشر الدفعة الثانية، وهكذا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٤٧) ٢٧ /٨٣.

↑صفحة ٦٣٧↑

فقد تكون الآية التي نحن بصددها دالّة على هذا الأُسلوب من الحشر، حيث يقول: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً)؛ لأنّ حشر الجيل الواحد يتضمّن أن يعود إلى الحياة جماعة من كل مذهب ودين: (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) كما كان عليه الحال في الدنيا. وهو لا يريد إهمال الآخرين، بل هو يشير إلى دفعة واحدة من الحشر التدريجي، وأما الدفعات الأُخرى فيأتي دورها تباعاً. ولن تكون مهملة بدليل قوله تعالى: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) أي أنّ الحشر التدريجي سيستوعب في النتيجة كل البشرية من أوّلها إلى آخرها.
إذاً، فكلتا الآيتين تشير إلى يوم القيامة، ولا تمتّ إلى الرجعة بصلة، ولا أقل من احتمال ذلك، بحيث تكون دلالتها على الرجعة غير ظاهرة.
الآية الثالثة:
(وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ).(٨٤٨)
وطريقة دلالتها على الرجعة بأحد أُسلوبين:
الأُسلوب الأوّل: أنّ حادثة خروج دابّة الأرض تكون عند الرجعة، فهي تخرج مع الراجعين لتقوم بوظيفتها بينهم.
إلاّ أنّ هذا الأُسلوب غير صحيح بكل وضوح؛ لأنّ الآية لا تشير إلاّ إلى خروج دابّة الأرض، وأمّا أنّها تخرج في جيل طبيعي في جيل الرجعة، فهذا ما لا تشير إليه الآية إليه بحال.
الأُسلوب الثاني: أنّها تشير إلى رجعة دابّة الأرض نفسها، أعني حياتها بعد الموت، فهي تشير إلى رجعة شخص واحد لا أكثر. وإذا أمكن ذلك في شخص أمكن في عديدين.
وهذا يتوقّف على أن نفهم من (دابّة الأرض) أنّه إنسان سبق له أن عاش في هذه الحياة؛ وفي الآية قرينة على بشريّة هذه الدابّة وهي قوله: (تكلّمهم) فإنّ الكلام يكون من البشر دون غيره. ويتوقّف على أن نفهم من قوله (أخرجنا) معنى: أرجعنا إلى الحياة بعد الموت، لا أنّ هذا الإنسان يولد في حينه. وقد يجعل قوله تعالى: (أَنَّ النَّاسَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٤٨) ٢٧ / ٨٢.

↑صفحة ٦٣٨↑

كَانُوا بِآَيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ)، دليلاً على ذلك؛ لأنّ الآية إنّما تكون بالرجوع بعد الموت، وأمّا لو كان يولد في زمانه، لما حدثت الآية، وقد قامت الأخبار التي سمعنا طرفاً منها، بتعيين هذا الإنسان بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).
والإنصاف: أنّ فكرة الأُسلوب الثاني هي المستفادة من الآية الكريمة، فدابّة الأرض هو إنسان بعينه، وقوله أخرجنا دالٌّ على الإيجاد غير الطبيعي لا على مجرّد الولادة؛ إذاً، فالآية الكريمة دالة على رجعة هذا الإنسان.
غير أنّها لا تدل على أي معنى آخر للرجعة، لا العام ولا الخاص، ومن المحتمل بل المؤكّد أنّ هناك مصلحة في حكمة الله تعالى لرجوع دابّة الأرض، لا تتوفّر في أي بشريٍّ آخر، ومعه لا يمكن القول بالتعميم منه إلى رجعة أي شخص آخر. ومجرّد الإمكان في قدرة الله عزّ وجلّ، وهو ممّا لا شك فيه، لا يدل على الوقوع الفعلي.
وإذا وصلنا إلى هذه النتيجة، استطعنا أن نستنتج نتيجةً أُخرى مهمّة، هي التوحيد بين مدلول القرآن ومدلول الأخبار. فإنّنا عرفنا أنّ الأخبار لا يمكنها أن تثبت إلاّ المعنى الإجمالي الذي تواترت الأخبار عليه، وهو رجوع بعض الأموات إلى الحياة قبل يوم القيامة، بشكل يناسب أن يكون هذا الراجع واحداً لا أكثر. وهذا صالح للانطباق على ما دلّ عليه القرآن الكريم من رجعة دابّة الأرض. فإنّ هذا المعنى الإجمالي لم يثبت انطباقه بدليلٍ كافٍ إلاّ على دابّة الأرض فيتعيّن فيه، بعد ضمّ الدليلين إلى بعضهما.
ومعه في الإمكان القول: إنّ المقدار الثابت في السنّة الشريفة، ليس أكثر ممّا دلّ عليه القرآن الكريم، كما أنّ ما دلّ عليه القرآن الكريم هو بعينه ما ثبت في السنّة.
ومعه، فلم يثبت أي معنى من معاني الرجعة ولا احتمالاتها السابقة، وإنّما لابد لنا كمسلمين: أن نتعبّد بخروج دابّة الأرض التي نطق بها القرآن الكريم. وفي الإمكان أن نسمّي ذلك بالرجعة، إلاّ أنّه على خلاف اصطلاحهم.
فهذا هو نبذة الكلام حول الرجعة.
حكم الأولياء الصالحين:
أخرج الشيخ في الغيبة(٨٤٩) بسنده عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٤٩) ص٢٨٥.

↑صفحة ٦٣٩↑

طويل - أنّه قال:
يا أبا حمزة، إنّ منّا بعد القائم أحد عشر مهديّاً.
وأخرج أيضاً(٨٥٠) بإسناده إلى جابر الجعفي، قال:
سمعت أبا جعفر(ع) يقول: والله ليملكنّ منّا أهل البيت رجل بعد موته ثلاثمئة سنة. قلت: متى يكون ذلك؟ قال: بعد القائم. قلت: وكم يبقى القائم في عالمه. قال: تسع عشر سنة. ثم يخرج المنتصر فيطلب بدم الحسين (ع) ودماء أصحابه فيقتل ويسبي، حتى يخرج السفّاح.
وأخرجه النعماني في الغيبة(٨٥١) إلى قوله:
تسع عشر سنة، إلاّ أنّه قال: ثلاثمئة سنة ويزداد تسعاً.
وأخرج في البحار(٨٥٢) نقلاً عن غيبة الشيخ، عن أبي عبد الله الصادق (ع)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (ع)، قال:
قال رسول الله (ص) في الليلة التي كانت فيها وفاته، لعلي: يا أبا الحسن، أحضر صحيفة ودواة. فأملى رسول الله (ص) وصيته حتى انتهى (إلى) هذا الموضع. فقال: يا علي: إّنّه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً ومن بعدهم اثني عشر مهديّاً. فأنت يا علي أوّل الاثنا عشر إمام... وساق الحديث، إلى أن قال: وليسلّمها الحسن (يعني الإمام العسكري (ع) إلى ابنه محمد المستحْفَظ من آل محمد صلّى الله عليه وعليهم. فذلك اثني عشر إماماً. ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديّاً. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوّل المهديين (المقرّبين: نسخة الغيبة). له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي واسم أبي، وهو: عبد الله، وأحمد. والاسم الثالث: المهدي. وهو أوّل المؤمنين.
وفي عدد من الأدعية الواردة في المصادر الإمامية الدعاء لهؤلاء الأولياء الصالحين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٥٠) ص٢٨٦.
(٨٥١) ص١٨١.
(٨٥٢) ج١٣ ص٢٣٧. وانظر غيبة الشيخ.

↑صفحة ٦٤٠↑

بعد الدعاء للمهدي (ع) والسلام عليه.
ففي بعض الأدعية المكرّسة للدعاء للمهدي (ع) والثناء عليه، يقول في آخره:
اللّهمّ صلّ على ولاة عهده والأئمّة من بعده، وزد في آجالهم، وأعزّ نصرهم، وتمّم لهم ما أسندت إليهم من أمرك، وثبّت دعائمهم، واجعلنا لهم أعواناً وعلى دينك أنصاراً... الخ الدعاء.(٨٥٣)
وفي دعاء آخر يذكر فيه المهدي (ع) ويثني عليه طويلاً، ويقال في آخره:
وصلّ على وليّك وولاة عهدك والأئمّة من ولده، ومدّ في أعمارهم، وزد في آجالهم، وبلّغهم أقصى آمالهم ديناً ودنياً وآخرة؛ إنّك على كل شيءٍ قدير.(٨٥٤)
إلى غير ذلك من الأدعية.
هذا، وقد حاول المجلسي في البحار(٨٥٥) أن يرفع التنافي بين هذه الأخبار من حيث كونها دالّة على إيكال الرئاسة العليا بعد المهدي (ع) إلى غير الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، وبين القول بالرجعة الذي يقول: بإيكال الرئاسة إلى الأئمّة المعصومين أنفسهم. حيث قال: هذه الأخبار مخالفة للمشهور. يعني القول بالرجعة.
وطريق التأويل أحد وجهين:
الأوّل: أن يكون المراد بالاثني عشر مهديّاً: النبي وسائر الأئمّة سوى القائم (ع)، بأن يكون ملكهم بعد القائم....
والثاني: أن يكون هؤلاء المهديّون من أحبّاء القائم هادين للخلق في زمن سائر الأئمّة الذين رجعوا؛ لئلاّ يخلو الزمان من حجّة. وإن كان أوصياء الأنبياء الأئمّة حججاً أيضاً. والله تعالى أعلم.
وقال الطبرسي في أعلام الورى(٨٥٦): وجاءت الرواية الصحيحة بأنّه ليس بعد دولة القائم دولة لأحد، إلاّ ما روي من قيام ولده إن شاء الله ذلك، ولم ترد في الرواية على القطع والثبات. وأكثر الروايات أنّه لن يمضي - يعني المهدي القائم (ع) - من الدنيا إلاّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٥٣) مفاتيح الجنان المعرّب ص٥٤٢.
(٨٥٤) المصدر ص٥٣.
(٨٥٥) ج١٣ ص٢٣٧.
(٨٥٦) ص٤٣٥.

↑صفحة ٦٤١↑

قبل القيامة بأربعين يوماً، يكون فيها الهرج.
هذا ما قالته المصادر الإمامية، ولم نجد لدولة ما بعد المهدي في المصادر العامّة أيّ أثر.
ونودّ أن نعلّق أوّلاً على كلام المجلسي: إنّه يعترف سلفاً أنّ كلا الوجهين نحو من أنحاء التأويل، والتأويل دائماً خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلاّ عند الضرورة، ولا يكفي مجرّد الإمكان والاحتمال لإثباته.
وعلى أي حال، فالوجه الأوّل حاول فيه المجلسي على أن يقول أنّ الأولياء الاثني عشر بعد المهدي (ع) هم الأئمّة المعصومون الاثنا عشر أنفسهم، فترتفع المعارضة بين روايات الأولياء وروايات الرجعة، ويكون المراد منهما معاً الأئمّة المعصومين أنفسهم.
إلاّ أنّ هذا الوجه قابل للمناقشة من وجوه، نذكر منها اثنين:
الوجه الأوّل: إنّ عدداً من روايات الأولياء التي سمعناه، تنصّ على أنّ الأولياء الاثني عشر من ولد الإمام المهدي (ع).
قال في أحد الأخبار: (ثم يكون من بعده اثني عشر مهديّاً، فإذا حضرته الوفاة - يعني المهدي - فليسلّمها إلى ابنه أوّل المهديين).
وقال في الدعاء (والأئمّة من ولده). مع أنّ الأئمّة المعصومين السابقين هم آباء الإمام المهدي (ع) بكل وضوح.
الوجه الثاني: إنّنا لم نجد - كما عرفنا - دليلاً كافياً على عودة الأئمّة الاثنا عشر كلهم، لا بشكل عكسي ولا بشكل مشوّش، وإنّما نصّ فقط - بعد النبي (ص) - على أمير المؤمنين (ع) وابنه الحسين (ع).
وإذا لم يثبت رجوع الأئمّة الاثنا عشر جميعاً، كيف يمكن حمل هذه الأخبار عليه؟
وأمّا الوجه الثاني: االذي ذكره المجلسي، فيتلخّص في الاعتراف بوجود الأئمّة المعصومين (ع) والأولياء الصالحين في مجتمع ما بعد المهدي (ع) متعاصرين. ولكنّ الحكم العام سيكون للمعصومين (ع). وأمّا الأولياء فسيكونون هداةً عاملين في العالم من الدرجة الثانية؛ وبذلك يرتفع التعارض بين الروايات.
وأوضح ما يرد على هذا الوجه، هو أنّ روايات الأولياء، صريحة بمباشرتهم للحكم على أعلى مستوى، بحيث يكون التنازل عن هذه الدلالة تأويلاً باطلاً، كقوله: (ليملكن من أهل البيت رجل) وقوله: (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها - يعني الإمامة،

↑صفحة ٦٤٢↑

والخلافة - إلى ابنه أوّل المهديين) قوله: (اللّهمّ صلِّ على ولاة عهده والأئمّة من بعده) ونحوه في الدعاء الآخر.
ويحتوي كلام المجلسي في الوجه الثاني على استدلال ضمني على الرجعة مع جوابه.
وملخّص الاستدلال: أنّه ثبت في الفكر الإسلامي أنّ الأرض لا تخلو من حجّة باستمرار ما دام للبشرية وجود، حتى لو كان اثنان كان أحدهما الحجّة على صاحبه. ولكنّ الأرض بعد الإمام المهدي (ع) ستخلو من الحجّة، ما لا نقل بالرجعة، ليرجع الأئمّة المعصومون (ع) ليكونوا هم الحجج بعده، تطبيقاً لهذه القاعدة.
إلاّ أنّه من حسن الحظ أن يكون المجلسي نفسه قد أجاب على ذلك.
وملخّص الجواب: إنّنا لا نحتاج إلى القول بالرجعة كتطبيق لتلك القاعدة، بل إنّ حكم الأولياء الصالحين تطبيق لها أيضاً، قال المجلسي لأنّ (أوصياء الأنبياء و(أوصياء) الأئمّة حجج أيضاً) فالأرض تكون مشغولة بصفتهم أوصياء للأئمّة (ع)، فلا تكون خالية من الحجّة.
ومعه لا تكون هذه القاعدة مثبتة للرجعة، ولا منافية مع حكم الأولياء الصالحين.
وأمّا تعليقنا على كلام الطبرسي، فهو أنّ ما ذكره من أنّ ما رُوي من قيام ولد المهدي (ع) بعده، لم يرد على القطع واليقين، أمر صحيح؛ لأنّ الروايات الدالة على حكم الأولياء الصالحين متواترة، ولكنّنا سنرى أنّها صالحة للإثبات التاريخي، وهذا يكفينا في المقام.
وأمّا ما ذكر من أنّه ليست بعد دولة القائم دولة لأحد، فهو أمر صحيح؛ لأنّه إن أُريد بدولة القائم نظام حكمه، فهو نظام مستمر إلى نهاية البشرية تقريباً وتحقيقاً على ما سنسمع، وليس وراءه حكم آخر. وإن أُريد به حكمه ما دام في الحياة، بحيث تنتهي البشرية بعده مباشرة، فهو أمر غير محتمل؛ لأنّه أمر تدل كثير من الروايات على نفيه: كروايات الرجعة وروايات الأولياء وروايات أنّ الساعة لا تقوم إلاّ على شرار الخلق، وغير ذلك، بل تدل على ذلك بعض آيات القرآن: كآية دابّة الأرض بعد العلم بعدم خروجها في زمن المهدي (ع) نفسه.
إذاً، فالبشرية، ستبقى بعد المهدي (ع) والنظام سوف يستمر، وإنّما يراد من ذلك القول: إنّه ليس بعد دولة القائم دولة لأحد من المنحرفين والكافرين على الشكل الذي كان قبل ظهوره.

↑صفحة ٦٤٣↑

وأمّا قوله: وأكثر الروايات أنّه لن يمضي من الدنيا إلاّ قبل القيامة بأربعين يوماً... فهذه الروايات سنسمعها، ومؤدّاها أنّ الحجّة سيُرفع - أي يموت - قبل القيامة بأربعين يوم، وسنرى أنّه ليس المراد بالحجّة شخص الإمام المهدي بل شخص آخر، قد يوجد بعد زمان المهدي (ع) بدهرٍ طويل.
وبعد هذه المناقشات، وقبل إعطائهم الفهم الكامل لحكم الأولياء الصالحين، لابد لنا أن نجيب على هذا السؤال الذي يخطر في ذهن القارئ: وهو أنّنا كيف استطعنا أن نعتبر روايات كافية للإثبات التاريخي، على حين لم نعتبر روايات الرجعة كافية للإثبات، مع أنّها أكثر عدداً وأغزر مادةً وأوضح في أذهان العديدين.
وأمّا من زاوية كفاية روايات الأولياء للإثبات التاريخي، فهو واضح طبقاً لمنهجنا في هذا التاريخ أنّها متكاثرة ومتعاضدة، وذات مدلول متشابه إلى حدٍّ بعيد.
وأمّا من زاوية معارضتها لأخبار الرجعة، فهو واضح بعد فشل الوجهين اللذين ذكرهما المجلسي للجمع بين الأخبار، إذ يدور الأمر عندئذٍ بين أن يكون الحكم بعد المهدي (ع) موكولاً إلى المعصومين (ع) وإلى الأولياء الصالحين.
ونحن حين نجد أنّ أخبار الرجعة غير قابلة للإثبات، كما عرفنا، ونجد أنّ أخبار الأولياء قابلة للإثبات. كما سمعنا، لا محيص لنا على الأخذ بمدلول أخبار الأولياء بطبيعة الحال.
وبالرغم من أنّ مجرّد ذلك كافٍ في السير البرهاني، إلاّ أنّنا نودّ أن نوضح ذلك بشكل أكثر تفصيلاً.
إنّ نقطة القوّة الرئيسية في أخبار الأولياء المفقودة في أخبار الرجعة، هي أنّ أخبار الأولياء ذات مضمون مشترك تتسالم عليه، بخلاف أخبار الرجعة، فإنّها ذات عشرة مداليل على الأقل، ليس لكل مدلول إلاّ عدد ضئيل من الأخبار قد لا يزيد أحياناً على خبرٍ واحد.
ومن هنا نقول لمَن يفضّل أخبار الرجعة: ها أنت تفضّل أخباراً منها ذات مدلول معيّن، كرجوع الإمام الحسين (ع) مثلاً، وتفضّل تقديم مجموع أخبار الرجعة.
فإن رأيت تفضيل قسم معيّن من أخبار الرجعة، فهي لا شك أقل عدداً وأضعف سنداً من أخبار الأولياء، بل وأقل شهرةً أيضاً. وكل قسم معيّن منها يصدق عليه ذلك بكل تأكيد، غير ما دلّ على رجوع الإمام علي بن أبي طالب (ع)، الذي سوف نشير إليه.

↑صفحة ٦٤٤↑

وإن رأيت تفضيل مجموع أخبار الرجعة على أخبار الأولياء، إذاً فستصبح أخبار الرجعة بهذا النظر متعارضة ومختلفة المدلول - كما عرفنا - غير ذلك المدلول العام الإجمالي الذي برهنا على انطباقه على خروج دابّة الأرض التي نطق بخروجها القرآن الكريم. وهو - بمنطوق الأخبار - يعني خروج علي أمير المؤمنين (ع)، وهو بعيد عن أي مفهوم تقيلدي للرجعة، بل هو ليس من الرجعة في شيء؛ فإنّ مفهوم دابّة الأرض غير مفهوم الرجعة عندهم.
وهذا المفهوم لا ينافي حكم الأولياء الصالحين، ولا يعارض الأخبار الدالة عليه؛ وذلك لعدّة أُمور، نشير إلى أمرين منها:
الأمر الأوّل: إنّ خروج دابّة الأرض غير محدّد بتاريخ، لا في القرآن الكريم ولا في السنّة الشريفة، ومعه فقد يحدث بعد حكم الأولياء الصالحين بمدة طويلة.
الأمر الثاني: إنّ دابّة الأرض سوف لن تأتي لتمارس الحكم الأعلى في الدولة العالمية العادلة، كما يُستشعر من القرآن وتصرّح به الأخبار، بل تأتي من أجل إعطاء الأفراد حسابهم الكامل فتعيّن منزلة كل فرد ودرجة تطبيقه للمنهج العادل المطلوب منه، ولعلّنا نوضح ذلك فيما بعد.
وإذا تمّ ذلك، لم يكن خروج الدابّة منافياً مع حكم الأولياء حتى لو خرجت في زمن حكمهم؛ لأنّ وظيفتهم في المجتمع غير وظيفتها.
وبعد ترجيح روايات حكم الأولياء الصالحين، ينبغي لنا أن نقدّم لها فهماً متكاملاً ملحقاً بالتسلسل الفكري الذي سرنا عليه في هذا الكتاب. ثم نعقبه بدرأ ومناقشة بعض الإشكالات التي قد تخطر في الذهن في هذا الصدد.
إنّ الإمام المهدي (ع) لن يهمل أمر الأُمّة الباقية بعده، لا لمجرّد أن لا تبقى رهن الانحلال والضياع، وإن كان هذا صحيحاً كل الصحّة، بل لأكثر من ذلك، وهو ما قلناه من أنّ إحدى الوظائف الرئيسة للمهدي (ع) بعد ظهوره هو: تأسيس القواعد العامّة المركّزة والبعيدة الأمد لتربية البشرية في الخط الطويل، تربية تدريجية لكي تصل إلى المجتمع المعصوم.
وهذه التربية لا يمكن أن يأخذ بزمام تطبيقها إلاّ الإنسان الصالح الكامل حين يصبح رئيساً للدولة العادلة، ومثل هذا الرجل لا يمكن معرفته لأحد غير الإمام المهدي نفسه، ولعلّه يوليه التربية الخاصّة التي تؤهّله لهذه المهمّة الجليلة. وأمّا احتمال تعيينه بالانتخاب فهو غير وارد على ما سنقول.

↑صفحة ٦٤٥↑

ومن هنا سيقوم الإمام (ع) بتعيين ولي عهده وخليفته، خلال حياته وربّما في العام الأخير، ليكون هو الرئيس الأعلى للدولة العالمية العادلة بعده، والحاكم الأوّل لفترة حكم (الأولياء الصالحين).
وبالرغم من أنّ هذا الحاكم قد يكون هو أفضل من الأحد عشر الآتين بعده؛ باعتبار أنّه نتيجة تربية الإمام المهدي (ع) شخصيّاً، والمعاصر لأقواله وأفعاله وأساليبه، بخلاف ما سيأتي بعده من الحاكمين، بالرغم من ذلك فإنّه سيفرق فرقاً كبيراً عن المهدي (ع) نفسه، على حدٍّ يصدق (أنّه لا خير في الحياة بعده).
والسر في ذلك - على ما يبدو - يعود إلى أمرين رئيسيين:
الأمر الأوّل: ما سبق أن عرفناه من الفرق الشخصي والثقافي والنفسي بين الإمام المهدي (ع) وخليفته؛ الأمر الذي ينتج اختلافاً واضحاً في التصرّفات بينهما.
الأمر الثاني: راجع إلى الأُمّة نفسها والبشرية كلها، بتعبيرٍ آخر من حيث أنّ المجتمع مهما كان قد سار بخطوات كبيرة نحو الأمام، في السعادة والعدالة والتكامل، إلاّ أنّه لم يصل إلى درجة العصمة بأي شكلٍ من أشكالها التي سنشير إليها، وبقيت هناك في أطراف العالم مجتمعات متخلّفة عن الركب العام؛ لوجود انخفاض مدني وحضاري جديد سابق فيها، منعها أن تكون - مهما ارتفعت بجهود الإمام المهدي (ع) - مواكبة للاتجاه العالمي العادل العام.
إذاً فستكون التركة العالمية ثقيلة جدّاً، وتخلّفات عدد من الأفراد والمجتمعات عن تطبيق العدل، بعد ذهاب القائد الأعلى، محتملة جدّاً... وعدم استيعاب الكثيرين من وعيهم العقائدي لضرورة التجاوب الكلّي مع الرئيس الجديد، احتمال وارد تماماً، وخاصّة وأنّ الأمر الأوّل من هذين الأمرين سيعيشه العالم يومئذٍ بكل وضوح.
نعم، لا شك أنّ الإمام المهدي (ع) قبل وفاته قد أكّد وشدّد، بإعلانات عالمية متكرّرة على ضرورة إطاعة خليفتة، وعلى ترسيخ (حكم الأولياء الصالحين) في الأذهان ترسيخاً عميقاً، إلاّ أنّ البشرية حيث لا تكون بالغة درجة الكمال المطلوب؛ فإنّها ستكون مظنّة العصيان والتمرّد في أكثر من مجال.
ولكن وجود هذه المصاعب لا يعني الفشل بحال، بعد القواعد التربوية التي تلقّاها هذا الحاكم عن الإمام المهدي بكل تفصيل.
إنّ الدولة ستبقى مهيبة ومحبوبة للجماهير على العموم، وستبقى تمارس التربية المركّزة باستمرار، تماماً كما كانت عليه في

↑صفحة ٦٤٦↑

عصر الإمام المهدي، أخذاً بالمنهج المهدوي العام.
وسيكون حكم الأولياء الصالحين، فترة تمهيدية وانتقالية، يوصل المجتمع العالمي إلى عصر العصمة، حيث يكون الرأي العام المتّفق معصوماً، كما أشرنا في التاريخ السابق(٨٥٧) وعندئذٍ سترتفع الحاجة إلى التعيين في الرئاسة العامّة، كما كان عليه الحال خلال حكم الأولياء الصالحين، وستوكل الرئاسة إلى الانتخاب والشورى، حين يكون الأفراد كلهم من:
(لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).(٨٥٨)
وستوضع الشورى موضع التنفيذ طبقاً لقوانين تصدر يومئذٍ، لا يمكن التعرّف عليها الآن.
وببدء الشورى يكون عصر حكم الأولياء الصالحين المنصورين بالتعيين قد انتهى. ولكنّ الحكّام الجدد المنتخبين سيكونون أولياء صالحين أيضاً، إلاّ أنّ هناك فرقاً بين أُسلوب تربيته أساساً.
إنّ الحاكم الذي سيتم تنصيبه عن طريق التعيين، يكون بكل تأكيد نتيجة لتربية خاصّة مركّزة من قِبل سلفه، مقترنة بالتعليم الواضح المفصّل للقواعد الموروثة من قِبل الإمام المهدي (ع).
وأمّا الحاكم المنتخب، فهو لا يكون إلاّ في مجتمع يكون رأيه العام معصوماً، ومثل هذا المجتمع كما أنّ الأعم الأغلب من أفراده صالحين وعادلين، ولذا أصبح رأيه العام معصوماً؛ لأنّ الرأي العام من الصالحين لا يكون إلاّ صالحاً. يحتوي - إلى جنب ذلك - على عدد يقل ويكثر وصلوا إلى درجة عليا من العدالة والالتزام الصالح، قد نسمّيها بالعصمة، أعني ما يُسمّى بلغة الفلاسفة المسلمين: بالعصمة غير الواجبة. وبتلك الصفة نفسها يكونون مؤهّلين لتولّي الرئاسة العامّة للدولة العالمية العادلة، ولن يكون بينهم وبين تولّيهم الفعلي إلاّ تجمّع الأصوات في صالح أحدهم.
بقيت بعض الأسئلة والمناقشات، تلقي أجوبتها أضواء كافية على هذا التسلسل الفكري، نعرضها على شكل سؤال وجواب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٥٧) تاريخ الغيبة الكبرى ص٤٨٠.
(٨٥٨) ٤٢/٣٦ - ٣٨.

↑صفحة ٦٤٧↑

السؤال الأوّل: ما هو عدد الأولياء الصالحين؟
هذا ما لابد في تعيينه الرجوع إلى الأخبار السابقة. قال الخبر الأوّل الذي نقلناه: (إنّ منّا بعد القائم أحد عشر مهديّاً).
وقال في خبرٍ آخر (ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديّاً).
وموقفنا من هذا الاختلاف: أنّنا إمّا أن نعتبر كلا الخبرين، إذا نظرنا لكل واحد منهما مستقلاًّ، قابلاً للإثبات التاريخي.
وإمّا أن نعتبرهما معاً غير قابلين له، ويكون أحدهما قابلاً دون الآخر.
فإن لم يكونا قابلين للإثبات، وهذا لا يعني سقوط أصل نظرية حكم الأولياء الصالحين؛ لاستفادتها من مجموع الأخبار... إذاً فيصعب الجواب على هذا السؤال، فقد يكون عددهم كثيراً وقد يكون قليلاً، تبعاً للمصلحة التي يراها المهدي نفسه حين يؤسّس هذا الحكم بعده، وميزاته - كما عرفنا - تصل البشرية إلى عهد الشورى حين يكون الرأي العام معصوماً، ولا يبقى العدد مهمّاً إلى درجة عالية.
نعم، قد ينبثق من التفكير الإمامي رجحان أن يكون الأولياء اثني عشر، كما كان الأئمّة المعصومون (ع) اثني عشر، غير أنّ هذا بمجرّده لا يكفي للإثبات كما هو واضح.
وإن كان كلا الخبرين قابلاً للإثبات دون الآخر، أخذ بمدلوله دون الآخر، ويمكننا بَدويّاً أن نقول: إنّ الخبر القائل بعدد الاثني عشر أصحّ وأثبت فيُؤخذ به، ويبقى الآخر غير قابل للإثبات.
وأمّا إذا كان كلا الخبرين قابلين للإثبات، فيمكن الجمع بينهما برفع اليد عن ظهور الخبر القائل بالأحد عشر وليّاً، عن ظهوره بالحصر والضبط، بقرينة الخبر الآخر القائل بالاثني عشر، تكون النتيجة هو الالتزام بالاثني عشر بطبيعة الحال.
وبذلك يظهر أنّ الرقم الاثني عشر راجح على كل التقادير، وإن كان يحتاج إلى دليل مثبت أحياناً، وسنفرضه فيما يلي أمراً مسلّماً لتسهيل الفكرة على أقل تقدير.
السؤال الثاني: كم مدّة حكم الأولياء الصالحين بالسنين؟
إذا كان عدد الأولياء الحاكمين اثني عشر، وهم يتولّون الرئاسة في عمر اعتيادي بطبيعة الحال، غير أنّ معدّل العمر الاعتيادي في دولة العدل الكامل في مجتمع السعادة والأُخوّة والرفاه، لن يكون هو الستين والسبعين، بل هو مئة على أقل تقدير، ومن هنا

↑صفحة ٦٤٨↑

يمكن أن يعيش الرئيس ثمانين عاماً منها، وهو على كرسي الرئاسة؛ فإذا كان معدّل بقاء الفرد منهم ستّين عاماً، كان مجموع مدّة حكم الأولياء الصالحين سبعمئة وعشرين عاماً.
وهي مدّة كافية جدّاً لتربية البشرية تربيةً مركّزة دائبة ودقيقة، وإيصالها إلى مجتمع العصمة.
السؤال الثالث: كيف يعرف المجتمع بدء صفة العصمة؟
ومعرفته بذلك يعني عدّة نتائج، أهمّها ما عرفناه من انتهاء حكم الأولياء الصالحين وبدء حكم الأولياء المنتخبين عن طريق الشورى.
لمعرفة المجتمع بذلك عدّة أُطروحات محتملة:
الأُطروحة الأُولى:
في غاية البساطة، وهي أنّ المجتمع عرف بوصيّة المهدي (ع) نفسه عدد الأولياء الصالحين الذين سيمارسون الحكم فيه، ككونهم اثني عشر فرداً - مثلاً - فإذا تمّ العدد؛ كان حكم هؤلاء الأولياء قد انتهى وبالملازمة يكون مجتمع العصمة قد بدأ، إذ من غير المحتمل أن تكون الدولة قد فشلت في مهامّها التربوية.
الأُطروحة الثانية: لو فرضنا عدد الأولياء كان مجهولاً، وهو أمر بعيد عن أي حال، فمن المحتمل أن تكون هناك وصيّة خاصّة بالأولياء أنفسهم موروثة من الإمام المهدي (ع) تقول: في عام كذا إذا مات الولي الحاكم يومئذ، فعليه ألاّ يوصي إلى شخصٍ بعده، بل ينتقل الأمر إلى الشورى. وقد يكون في ضمن الوصيّة تعليل ذلك بأنّ مجتمع العصمة قد بدأ.
الأُطروحة الثالثة: أن تكون هناك وصيّة خاصّة بالأولياء موروثة عن الإمام المهدي (ع) تحدّد انتهاء حكمهم بحوادث وصفات اجتماعية معيّنة، تعود إمّا إلى وقائع تاريخية، وإلى تحديد في المستوى العقلي والثقافي للبشرية، الذي سيكون عليه في المستقبل، وإلى غير ذلك.
وهذه الأُطروحة صادقة أيضاً فيما إذا لم يكن عدد الأولياء الصالحين معيّناً سلفاً.
السؤال الرابع: إنّ هؤلاء الأولياء الصالحين، هل هم متفرّقون من حيث النسب، وأنّهم متسلسلون في النسب ينتهون إلى الإمام المهدي (ع) نفسه، وأنّهم على شكلٍ آخر؟
وينبغي أن نفهم سلفاً أنّه لا أهميّة كبيرة في الجواب على هذا السؤال؛ إذ الأهم في الموضوع هو صفاتهم الذاتية وأعمالهم العادلة، دون قضيّة النسب.

↑صفحة ٦٤٩↑

نعم، أجابت بعض الأخبار على ذلك، قال أحدها: (إنّ منّا بعد القائم أحد عشر مهديّاً). والمفهوم من قوله من أنّهم من نسل أهل البيت (ع) إجمالاً. وقال الخبر الآخر: (فليسلّمها إلى ابنه أوّل المهديين) وهو دال على أنّ الولي الأوّل ابن المهدي نفسه، ولم يذكر الأولياء الذين بعده.
ويقول أحد الأدعية التي سمعناها: (وولاة عهدك والأئمّة من ولدك).
فلو اعتبرنا كل هذه الأخبار قابلة للإثبات مستقلّة، لفهمنا أنّ هؤلاء الأولياء الصالحين هم من نسل أهل البيت (ع) ولا يراد بأهل البيت في لغة الأخبار إلاّ الأئمّة المعصومين (ع). وحيث لا يحتمل أن يكونوا من نسل إمام آخر غير المهدي (ع) باعتبار بُعد المسافة الزمنية، إذاً فهم من أولاد الإمام المهدي نفسه. وهذا افتراض واضح تعضده بعض هذه الأخبار، ولا تنفيه الأخبار الأُخرى.
يبقى لدينا: هل أنّهم متسلسلون في النسب أحدهم ابن الآخر، وأنّهم متفرّقون من هذه الجهة، وإن انتسبوا إلى المهدي في النهاية.
وفي هذا الصدد لا تسعفنا الأخبار بشيء، لكن هناك فكرة عامّة صالحة للقرينية على التسلسل النسبي. وهي ما نسمّيه بتسلسل الولاية. فإنّ كل ولي في ذلك العهد المرحلي، السابق على صفة العصمة، يحتاج إلى إعداد خاص وتربية معيّنة، قبل أن يتولّى الحكم.
ومن الصحيح أنّ المجتمع ككل، وخاصّة إذا كان صالحاً وعادلاً، يمكنه أن يربّي الحاكم أفضل تربية، إلاّ أنّ هناك عدداً من الحقائق والأساليب والقوانين الاجتماعية وغيرها، تكون خاصّة بالحاكم عادةً ولا يعرفها غيره على الإطلاق، وهي موروثة وراثة خاصّة عن الإمام المهدي (ع)، وهي تحتاج في ترسيخها وكشفها إلى الحاكم الجديد، إلى مدّةٍ وجهود من قِبل الحاكم السابق، الأمر الذي لا يتوفّر عادةً بين الوالد وولده، ومن الصعب جدّاً توفّره بين أبناء الأعمام مثلاً.
ومعه، فمن المظنون جدّاً أن يكون تسلسلهم النسبي محفوظاً، من أجل الحفاظ على تسلسل الولاية الضروري لتربية كل حاكم.
السؤال الخامس: هل المنطلق إلى فكرة (حكم الأولياء الصالحين) بعد الإمام المهدي هو الفهم الإمامي للمهدي، وينسجم مع الفهم الآخر.
كلاّ. إنّ حكم الأولياء الصالحين الذي طرحناه، ينسجم تماماً مع الفهم الآخر

↑صفحة ٦٥٠↑

الذي يقول: إنّ المهدي رجل يولد في حينه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ولا ربط له مباشر بغيبة المهدي قبل ظهوره ولا بكونه الإمام الثاني عشر من الأئمّة المعصومين كما هو واضح.
غير أنّ فكرة حكم الأولياء الصالحين، يبقى مفتقراً للدليل من أخبار العامّة أنفسهم. ولم نجد في حدود تتبّعنا أيّ إشارةٍ في تلك المصادر إلى دولة ما بعد المهدي (ع)، مهما كانت صفتها، ويبقى مفكرو العامّة بعد ذلك مخيّرين بالالتزام بهذه الأُطروحة.
السؤال السادس: ماذا - بعد ذلك - عن احتمال العصيان والتمرّد خلال حكم الأولياء الصالحين.
لا شك أنّ هذا الاحتمال يتضاءل تدريجياً، بالتربية المركّزة التي تمارسها الدولة باتجاه العدالة والكمال. حتى ما إذا وصل المجتمع إلى درجة العصمة، ولو بأوّل أشكالها، ارتفع احتمال التمرّد والعصيان ارتفاعاً قطعيّاً؛ لبرهان بسيط هو: منافاة العصمة مع العصيان، ولا أقل من أن تكون الأكثرية الساحقة للبشرية كذلك، بحيث من الصعب أن يفكّر أحد في حركة تمرّد وبثّ دعاية باطلة.
وإنّما يقع التساؤل عن الفترات الأُولى لحكم الأولياء الصالحين، عدّة ضمانات ضد مثل هذا الاحتمال، يمكننا أن نتعرّف على بعضها، بحسب مستوانا الذهني المعاصر:
الضمان الأوّل: السعادة والرفاه والأُخوة والتناصف بين الناس، هذا الذي أسّسه ونشره الإمام المهدي نفسه، الأمر الذي يجعل الفرد، ومن ثمّ الجماعات تميل تلقائياً إلى حب هذا النظام واحترامه والتعاطف معه، ممّا يحدو بالأعمّ الأغلب جدّاً من الناس بعدم التفكير بأي عصيان واضح، بل يحدو الكثيرين إلى الوقوف تلقائياً تجاه أي تمرّد وعصيان يفهمون به، وفضحه ولوم صاحبه لوماً شديداً.
الضمان الثاني: القواعد والأُسس الخاصّة التي علّمها المهدي (ع) نفسه لخلفائه، ممّا يمتّ إلى طبيعة المجتمع وحركة التاريخ، وأفضل الطُرق في التصرّف به ودفع شروره، وجلب مصالحه. الأمر الذي كان هو (ع)، أكثر الناس علماً به واطلاعاً على تفاصيله.
ومن أجل فوائد علمه بذلك، تزريقه إلى خلفائه الصالحين، ليستطيعوا أن يبنوا دولتهم الحديثة، ويدفعوا عنها الشرور بأيسر طريق.

↑صفحة ٦٥١↑

الضمان الثالث: عالمية الدولة العادلة: فإنّ لهذا العنصر جهتين من الضمان:
الجهة الأُولى: الهيبة التي تكسبها الدولة العالمية في نفوس الناس وعقولهم، بصفتها تمارس حكماً مركزيّاً مهمّاً لم تمارسه أي دولة أُخرى في التاريخ.
الجهة الثانية: سيطرتها على كل مصادر ومصانع الأسلحة في العالم لا يستثنى من ذلك شيء، ولها الطُرق المعقّدة للحد من التهريب والختل والخداع ونحو ذلك.
فهذه الضمانات وغيرها، تنتج في هذا الصدد، نتيجتين مهمّتين:
النتيجة الأُولى: أنّها تقف ضد احتمال كثرة التمرّد والعصيان، بشكل يعيق عن تطبيق المنهج التربوي العام، إذ مع وجودها سيقل مَن يفكّر من البشر بالحركات العصيانية.
النتيجة الثانية: أنّها تقف ضد ما قد يحدث من حوادث التمرّد والعصيان من القلائل الذين قد يفكّرون بذلك، وعن طريق هذه الضمانات التي تملكها الدولة، ستستطيع أن تقضي على كل حركة.
السؤال السابع: هل لدابّة الأرض خلال هذا العهد، وظيفة معيّنة؟
لمّا كانت الوظيفة الرئيسة لدابّة الأرض، كما يُستفاد من الأخبار، هي تمييز الكافر من المؤمن، والمنحرف من الملتزم، وإعطاء القيمة الأخلاقية لكل منهم علانية، فهذا لا يمكن أن ينجز في عهد ما بعد الظهور، المتطوّر نحو المجتمع المعصوم الخالي من الكفّار والمنحرفين... فهو لا يمكن أن يُنجز إلاّ في إحدى فترتين:
الفترة الأُولى: فترة ما بعد المهدي (ع) مباشرةً، حيث تعيش الدولة العالمية العادلة أحرج عهودها وأدق فتراتها، بعد فقد قائدها العظيم.
فإنّه من الصحيح - كما عرفنا - أنّ الإمام المهدي (ع) قام باستئصال المنحرفين من الكرة الأرضية، إلاّ أنّ هناك جزءاً من البشر، مهما كان قليلاً، قد سلّم لدولة المهدي خوفاً وطمعاً، لا عن إخلاصٍ حقيقي، فمن المحتمل جدّاً أن تتحرّك الأطماع بعد القائد الأعظم إلى السيطرة على الدولة، وعلى بعض أجزائها على الأقل.
والضمانات السابقة وإن كانت صالحة للوقوف ضد أي احتمال، غير أنّه من المحتمل أن تخرج دابّة الأرض، لتأخذ بعضد الدولة العالمية العادلة، باتجاه النصر والسيطرة على كل تمرّد وعصيان.

↑صفحة ٦٥٢↑

الفترة الثانية: الفترة السابقة على يوم القيامة مباشرة، وهي فترة سنبحث عن صحّة وجودها في الفصل القادم. غير أنّه - على تقدير صحّتها - سيتصف المجتمع العالمي خلالها بالكفر والانحراف، بعد أن يكون قد تنازل عن آخر صفات العصمة والعدالة. فمن المحتمل أنّ دابّة الأرض تخرج لتضمن بقاء المؤمنين على إيمانهم، ومدى خسارة الكافرين والمنحرفين، حين تنازلوا بسوء تصرّفاتهم عن العصمة والعدالة، وتقف في وجه الذين يكفرون بقتل المؤمنين، والإطاحة بكيانهم بشكلٍ وآخر.
وعلى أي حال، فحيث نعلم من القرآن الكريم، بضرورة خروج دابّة الأرض، وعدم خروجها خلال المجتمع المعصوم؛ لعدم انسجام وظيفتها معه، كما أنّه ليس هناك احتمال حقيقي لخروجها قبل الظهور... إذاً يتعيّن وجودها في إحدى الفترتين المشار إليهما. وأمّا إذا عرفنا في الفصل الآتي عدم وجود الدليل على انحراف المجتمع بعد اتصافه بالعصمة، إذاً ينحصر خروج دابّة الأرض بعد وفاة المهدي (ع) مباشرة، لتقوم بوظيفتها الكاملة.
وبذلك يكون سيف الإمام علي بن أبي طالب قد وطّد الإسلام في (آخر الزمان) كما وطّده في عصر الرسالة وصدر الإسلام (سلام الله عليه).
وبهذه الأسئلة وضعنا الرتوش الكافية على فترة حكم الأولياء الصالحين وما بعدها، ولا ينبغي لنا أن نزيد على ذلك، وإنّما نحيل القارئ إلى الكتاب الرابع الآتي من هذه الموسوعة.

↑صفحة ٦٥٣↑

الباب الثاني: قيام الساعة على شِرار الخَلْق
وهو بابٌ في فصلٍ واحد

↑صفحة ٦٥٥↑

وينبغي أن يتمّ الحديث في هذا الفصل ضمن عدّة جهات:

الجهة الأُولى: في سرد أهم الأخبار الدالة على ذلك، وهي واردة في مصادر الفريقين
أخرج مسلم في صحيحه(٨٥٩) عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله (ص) - في حديث تحدّث فيه عن الدجّال والمسيح عيسى بن مريم (ع)، ثم تحدّث فيه عن عصر ما بعد المسيح، فقال فيما قال -:
(فيبقى شرار الناس في خفّة الطير وأحلام الساعة، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثّل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم حسنٌ عيشهم، ثم ينفخ في الصور).
وأخرج أبو داود(٨٦٠) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص):
لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن مَن عليها، فذاك حين (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً).(٨٦١)
وأخرج الحاكم في المستدرك(٨٦٢) عن أبي أُمامة، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٥٩) ج٨ ص٢٠١.
(٨٦٠) ج٢ ص٤٣٠.
(٨٦١) ٦ / ١٥٨.
(٨٦٢) ج٤ ص٤٤٠.

↑صفحة ٦٥٧↑

(لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا المال إلاّ إفاضة، ولا تقوم الساعة إلاّ على شرارٍ من خلقه).
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وأخرج أيضاً(٨٦٣) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (ص):
(لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدين إلاّ إدباراً، ولا الناس إلاّ شحّاً، ولا تقوم الساعة إلاّ على شرار الناس، ولا مهدي إلاّ عيسى بن مريم).
وأخرج الشيخ في الغيبة(٨٦٤) عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال:
اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو(٨٦٥) عند أحمد بن اسحاق بن سعيد الأشعري القمّي، فغمزني أحمد أن أسأله عن الخَلَف - يعني الحجّة المهدي (ع).
فقلت له: يا أبا عمرو إنّي أريد (أن) أسألك وما أنا بشاكٍّ فيما أريد أريد أن أسألك عنه، فإنّ اعتقادي وديني: أنّ الأرض لا تخلو من حجّة إلاّ إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك وقعت (رفعت) الحجّة، وغلق باب التوبة. فلم يكن (يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً...)(٨٦٦) فأولئك الأشرار من خلق الله عزّ وجلّ. وهم الذين تقوم عليهم القيامة... الحديث.
وأخرج السيد البحراني في معالم الزلفى(٨٦٧) عن بستان الواعظين، قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله (ص) عن الخير وكنت أسأله عن الشر فقال النبي (ص):
(يكون في آخر الزمان فتن كقطع الليل المظلم، فإذا غضب الله تعالى على أهل الأرض أمر الله سبحانه وتعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة الصعق، فينفخ على حين غفلة من الناس...) الحديث.
فهذه كل الروايات التي وجدناها دالة على هذا المضمون.
الجهة الثانية: في نقد هذه الأخبار:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٦٣) ج٤ ص٤٤٠ ويرويه في الصواعق (٩٨) عن ابن ماجة.
(٨٦٤) ص ٢١٨.
(٨٦٥) هو الشيخ عثمان بن سعيد، النائب الأوّل للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى.
(٨٦٦) ٦ / ١٥٨.
(٨٦٧) ص ١٣٦.

↑صفحة ٦٥٨↑

إنّ أكثر هذه الأخبار يمكن إسقاطها عن الاستدلال تماماً؛ لأنّ كل خبر يواجه بحياله بعض المناقشات، فلا يبقى منها إلاّ القليل.
أمّا الخبر الذي أخرجه مسلم في صحيحه، فهو يصف أوّلاً فسق الناس وإطاعتهم للشيطان، وتحوّلهم إلى عابدي أوثان. وهذا كُلّه - بمعنىً وآخر - ممّا يقع قبل الظهور.
ويقول بعدها: ثم يُنفخ في الصور. والنفخ فيه كناية عن نهاية البشرية، إلاّ أنّ وجود هذه النهاية في ذلك الجوّ الفاسق ممّا لا يدل عليه الخبر؛ لأنّ حرف العطف (ثم) دليل على التراخي والانفصال كما نصّ النحاة واللغويون، فإن لم يكن الخبر دليلاً على بقاء البشرية بعد ذلك المجتمع الفاسق، فلا أقل من كونه ليس دليلاً على انتهائه به.
وأمّا خبر أبي داود، فهو غير دال بالمرّة على المضمون المشار إليه، فهو دال على أنّ الناس يؤمنون كلهم حين تطلع الشمس من مغربها. ولا يقول شيئاً غير ذلك، وقد قلنا في التاريخ السابق(٨٦٨) إنّ المراد من الشمس التي تطلع من مغربها: المهدي، حيث يطلع بعد غيبته، ولا تُقبل عندئذٍ من الفاسق توبة.
وكذلك الخبر الثاني الذي نقلناه عن الحاكم، فإنّ فيه قوله: ولا مهدي إلاّ عيسى بن مريم، وقد نقده ورفضه أهل الحديث العامّة والخاصّة، كما سبق، ولا حاجة إلى تكراره، مضافاً إلى إشكالات أُخرى مشتركة ستأتي.
وكذلك الخبر الذي نقلناه عن معالم الزلفى، فإنّه خبر مرسَل وضعيف، ويحتوي من خلاله على مضامين مدسوسة وغير صحيحة، كما يبدو لمَن راجعه في مصدره.
لا يبقى عندنا - بعد هذا - إلاّ خبران، أحدهما: الخبر الأوّل الذي نقلناه عن الحاكم، والخبر الذي أخرجه الشيخ في الغيبة.
على أنّ خبر الشيخ أيضاً لا يخلو من مناقشة، فإنّه ليس رواية عن معصوم، وإنّما يعبِّر فيه عبد الله بن جعفر الحميري عن اعتقاده، وليس بالضرورة أنّ كل ما يعتقده له الإثبات التاريخي الكافي، وإن كان هو شخصيّاً من العلماء الصالحين، كما ثبت في تاريخه.
وعلى أي حال، فالخبران يواجهان إشكالاً مشتركاً، هو أنّ مثل هذه القضيّة وهي: أنّ الساعة لا تقوم إلاّ على شرار الناس، من الأُمور الاعتقادية في الدين، ومن الواضح عند العلماء أنّ الأُمور الاعتقادية لا تثبت بخبر الواحد وإن كان صحيحاً سنداً وواضحاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٦٨) تاريخ الغيبة الكبرى ص ٥٩٦.

↑صفحة ٦٥٩↑

مضموناً، وإنّما تثبت فقط بالخبر المتواتر القطعي، مع العلم أنّ مجموع هذه الأخبار غير متواترة، فضلاً عمّا بقي بعد النقد منها.
هذا مضافاً إلى إشكال مشترك آخر على أكثر من خبر واحد. كالخبر الذي يقول: (لا يزاد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدين إلاّ إدباراً ولا الناس إلاّ شُحّاً...) فإنّ قارئ هذه الموسوعة، وخاصّة التاريخ السابق، يعلم أنّ هذه هي صفة المجتمع قبل الظهور.
وسيرتفع كل ذلك بالظهور، مع أنّ ظهور الخبرين هو أنّ ذلك باقٍ إلى يوم القيامة. وهو أمر تنفيه كل الدلائل السابقة التي عرفناها.
أضف إلى ذلك معارضة هذه الأخبار، بما دلّ على بقاء دولة العدل إلى يوم القيامة؛ لأنّ الانحراف القوي يستدعي لا محالة، انتقال الحكم إلى المنحرفين مع أنّ الأخبار تنصّ على بقاء الدولة مع المؤمنين العادلين.
أخرج الصدوق(٨٦٩) في إكمال الدين بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن الإمام الرضا (ع)، عن آبائه، عن النبي (ص) - في حديثٍ طويل - قال (ص):
(فنُوديت: يا محمد، أنت عبدي وأنا ربّك - ويستمر الحديث إلى ذكر آخر الأئمّة الاثني عشر، المهدي (ع) فيقول: - حتى يعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمنّ مُلْكه ولأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة).
وأخرج النعماني في الغيبة(٨٧٠) بسنده عن يونس بن رباط، قال: سمعت أبن عبد الله (ع) يقول:

(إنّ أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدّة، أما أنّ ذلك إلى مدّة قريبة وعاقبة طويلة).
وأخرج الشيخ في الغيبة(٨٧١) بإسناده عن أبي صادق، عن أبي جعفر (ع) قال:
(دولتنا آخر الدول، ولم يبق بيت لهم دولة إلاّ ملكوا قبلنا؛ لئلاّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٦٩) نسخة مخطوطة.
(٨٧٠) ص١٥٢.
(٨٧١) ص٢٨٢.

↑صفحة ٦٦٠↑

يقولوا، إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عزّ وجلّ: (والعاقبة للمتّقين)).(٨٧٢)
وأخرجه المفيد في الإرشاد(٨٧٣) في ضمن حديث عن علي بن عقبة، عن أبيه، وكذلك فعل الطبرسي في الإعلام.(٨٧٤)
فقوله: (ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة) واضح ببقاء المجتمع برمّته مؤمناً إلى نهاية البشرية، وهو نافٍ بصراحة لفكرة المجتمع الفاسق قبل يوم القيامة.
وكذلك قوله: (دولتنا آخر الدول) فإنّه واضح أنّه ليس بعد دولة الحق دولة من حين قيامها إلى آخر عمر البشرية. فإذا علمنا أنّ البشرية لا يمكن أن تخلو من حكومة ودولة، وأنّ المجتمع المنحرف يستدعي انحراف الدولة عادةً، يتعيّن أن تكون دولة مستمرة في البشرية إلى آخر عمرها.
ومع وجود هذه المناقشات، تكون تلك الأخبار ساقطة عن إمكان الإثبات التاريخي، ولا دليل على أنّه: لا تقوم الساعة إلاّ على شرار الخلق، وستأتي في الكتاب التالي مناقشات أُخرى قائمة على أُسس جديدة.
الجهة الثالثة: إعطاء الفهم المتكامل لهذه الأخبار، أعني القائلة إنّه لا تقوم القيامة إلاّ على شرار الناس.
فإنّنا لا يخلو الأمر إمّا أن نلتزم بمضمون هذه الروايات، وإمّا أن نرفضها؛ وعلى كلا التقديرين يمكننا أن نربط تسلسل الفكرة بالنتائج التي توصلنا إليها والمعلومات التي عرفناها فيما سبق.
ومن هنا لابد أن يقع الكلام في ناحيتين:
الناحية الأُولى:
إذا التزمنا بصدق هذه الأخبار، فسيكون تسلسل الفكرة على الشكل التالي: إنّ التخطيط الإلهي العام لما بعد الظهور، بعد أن ينتج نتيجته الكبرى، وهي إيجاد المجتمع المعصوم، وتنتقل الرئاسة الإسلامية من التعيين إلى الشورى، يكون الهدف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٧٢) ٧ / ١٢٨.
(٨٧٣) ص٣٤٤.
(٨٧٤) أعلام الورى ص٤٣٢.

↑صفحة ٦٦١↑

الأعلى من خلقة البشرية، وهو إيجاد العبادة الكاملة في ربوعها، قد تحقّق، وخاصّة بعد بقاء المجتمع على حاله الرفيع ردحاً طويلاً من الزمن.
عندئذٍ يبدأ - طبقاً لهذا الفهم - تخطيط إلهي جديد، هو التخطيط الأخير في البشرية، ليستهدف إيجاد المجتمع الكافر والمنحرف بكل أفراده؛ ليكون هو المجتمع الذي تقوم عليه الساعة.
ولو نظرنا إلى طبائع الأشياء، بحسب فهمنا المعاصر، أمكننا أن نجد الخطوط العامّة لهذا التخطيط العام.
إنّ الدفع الإيماني القوي الذي أوجده المهدي القائم (ع) في البشرية، والذي أذكى أواره وحافظ على كيانه المهديّون الاثني عشر بعده، خلال مئات السنين، حتى أنتج نتيجته الكبرى، هو المجتمع المعصوم.... إنّ هذه الدفع سوف يكون مهدّداً بالخطر إلى حدٍّ ما حين ينقلب أمر الخلافة من التعيين إلى الانتخاب.
إنّ هذا الدفع سوف يبقى صافياً صحيحاً أجيالاً متطاولة من الزمن، ما دامت درجة العصمة محفوظة في المجتمع، إلاّ أنّ الأجيال المتأخّرة سوف تنزل عن هذه الدرجة تدريجيّاً.
وستعمل عوامل الشر في نفس الإنسان، ونوازع المصلحة من جديد، وسوف لن يوجد لها الردع الكافي في حفظ العصمة؛ لأنّ التخطيط الإلهي قاضٍ بارتفاع هذه الصفة تدريجيّاً من المجتمع.
وسوف يأتي بالانتخاب إلى كرسي الرئاسة، أولياء مهما كانوا على مستوى العدالة العليا، إلاّ أنّهم لم يرافقوا المهدي (ع) ولم يعاصروا خلفاءه المهديين، ولم توجّه إليهم تربية خاصّة من أجل تولّي مهام الرئاسة؛ ومن هنا سوف يبذل كل رئيس وسعه في دفع التيّار المنحرف لن يستطيع الإجهاز عليه، بل يبقى يستفحل على مَرّ السنين ويعمّ بين البشر، إلى أن ينحسر الدين عن القلوب والعقول، ويصبح الناس كما كانوا قبل ظهور المهدي (ع) على مستوى عصيان واضحات الشريعة الإسلامية، حيث سمعنا من إحدى الروايات قتل إحدى الشخصيّات الإسلامية داخل الحرم، بل سوف يزداد الوضع سوءاً حتى لا يقال الله، الله، على ما نطقت بعض الروايات.(٨٧٥)
وعندئذٍ يتحقّق أمران لا مناص منهما:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٧٥) انظر مثلاً: مستدرك الحاكم، ج٤ ص٤٩٤.

↑صفحة ٦٦٢↑

الأمر الأوّل: إنّ الرئيس العادل الذي هو حجّة الله على الخلق، في ذلك الحين، يصبح مسلوب الصلاحيات من الناحية العملية لا يستطيع القيام بأي عمل على الإطلاق، ولا يؤمّل من وجوده أيّة فائدة.
الأمر الثاني: إنّ الله عزّ وجلّ يشتد غضبه على الأُمّة والبشرية، بحيث تكون أهلاً لأيّ عقوبة.
ويترتّب على الأمر الأوّل: أنّ الرئيس الإسلامي، حيث لا فائدة من وجوده فينبغي أن يرتفع من الأرض، فيقبضه الله له، ويتوفّاه. وذلك قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، كما ورد في الرواية.
وعند زوال هذا القائد، لن تكون البشرية على مستوى الشعور بالمسؤولية لانتخاب شخص جديد، بل سيبقون في فساد محض وظلم كامل لمدّة أربعين يوماً، وهم شرار الله، فيُؤثر الأمر الثاني أثره، وذلك بإنزال العقاب عليهم بالنفخ في الصور وقيام الساعة.
وبهذا التسلسل الفكري استطعنا الجمع بين عدّة قواعد مرويّة في السنّة الشريفة:
أحدها: أنّ الدولة الإسلامية العادلة تبقى إلى يوم القيامة.
ثانيها: أنّ الحجّة يُرفع عن الأرض قبل يوم القيامة بأربعين يوماً.
ثالثها: أنّ القيامة تقوم على شرار الناس. وعرفنا عدم المنافاة بين هذا التخطيط والتخطيط السابق عليه المنتج لوجود المجتمع المعصوم.
يبقى سؤالان، قد يخطران على الذهن، ينبغي ذكرهما مع الإجابة عليهما:
السؤال الأوّل: أنّه كيف يمكن للمجتمع المسلم بعد ارتفاع صفة العصمة عنه أن يمارس الانتخاب، مع أن إعطاء حق الانتخاب إليه كان بسبب هذه الصفة، إذاً، فلابد أن يرتفع بارتفاعها، ويعود الأمر إلى التعيين وإلى أي أُسلوبٍ آخر.
وهذا السؤال له عدّة إجابات، نذكر أهمّها:
أوّلاً: إنّ الانتخاب سوف لن يكون عشوائياً، وإنّما يكون للمؤهّلين للرئاسة، بحسب النظام الساري المفعول في الدولة العالمية، لا يختلف في ذلك عصر العصمة عمّا بعده. وإنّما الفرق أنّه في عصر العصمة يتوفّر عدد كبير من الناس المؤهّلين لذلك، بخلاف العصر المنحرف اللاحق له، فإنّ عددهم يتضاءل تدريجياً، وهذا لا ينافي قاعدة الانتخاب بطبيعة الحال.
ثانياً: إنّ القاعدة يومئذٍ سوف تقتضي بقاء الانتخاب؛ لأنّ هذا هو الأمر المعروف الموروث عن الدولة العادلة، وليس بين البشر مَن يستطيع إيجاد تشريع جديد، كما جاء به

↑صفحة ٦٦٣↑

المهدي (ع) نفسه زيادة على المعروف قبله؛ ومن هنا ينحصر سير البشرية على قاعدة الانتخاب بالضرورة، وسيكون تغييره انحرافاً عن القواعد العادلة المعروفة يومئذ.
وأمّا اقتران الانتخاب بصفة العصمة، وإناطته بها، فقد لا يكون شيئاً مفهوماً فهماً عامّاً يومئذٍ، وإنّما هو تقدير خاص موجود في ذهن المشرّع الذي بلّغ للناس وجوب الانتخاب عند دخولهم في عصر العصمة. وهو آخر الأولياء المهديين الاثني عشر. وقد يكون معروفاً لبعض خاصّته أيضاً.
السؤال الثاني: إنّ إعداد البشرية للانحراف يعني رضاء الله تعالى بالظلم وإرادته لوجوده، فكيف يصحّ ذلك منه وهو العدل المطلق؟
وقد سبق أن أثرنا مثل هذا السؤال، في تاريخ الغيبة الكبرى(٨٧٦) على التخطيط الإلهي لما قبل الظهور، وأجبنا عليه بشكل يرفع الشبهة.
وملخّص الفكرة التي ينبغي أن نفهمها الآن هو أنّ وجود الظلم لا يستلزم رضاء الله تعالى بالظلم وإرادته له ولا إجبار الناس عليه، وإنّما حين تتعلّق المصلحة بوجود الظلم في الخارج، من قبيل ما فرضناه من ضرورة قيام الساعة على شرار الخلق، ذلك الفرض الذي نتكلّم الآن على أساسه، فيكفي لله عزّ وجلّ أن يرفع المانع عن وجوده.
ومن هنا يكفي غضّ النظر عن هذا الانحراف، ورفع اليد عن مزيد التوضيح والتربية للناس إلى جانب الحق والعدل؛ لكي يوجد الظلم باختيار الأفراد الظالمين أنفسهم، وبكل قناعة منهم، مع وجود الحجّة البالغة لله عليهم بالنهي والزجر التشريعي، عن التورّط في هذا العقاب، واستحقاق العقاب عليه.
وهذا هو الذي خطّطه الله تعالى لعصر الغيبة مؤقّتاً لغرض التمحيص والإعداد ليوم الظهور، كما سبق أن فصّلناه في التاريخ السابق، وهو الذي يخطّطه أيضاً عند اقتراب الساعة، من أجل إيجاد المجتمع الذي يمكن قيام الساعة عليه، بعد استحالة قيامها في المجتمع المؤمن، على ما هو المفروض في هذا لكلام.
هذا كله على تقدير الالتزام بصحّة تلك الأخبار.
الناحية الثانية: إذا التزمنا بعدم صحّة تلك الأخبار، وعدم كفايتها لإثبات قيام الساعة عل شرار خلق الله، بل يمكن أن تقوم الساعة على المجتمع المؤمن نفسه، طبقاً لما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٧٦) ص٢٦٩ وما بعدها.

↑صفحة ٦٦٤↑

سبق أن ذكرناه من المناقشات.
وإذا كان هذا ممكناً لا استحالة فيه، كان ذلك متعيّناً، ولا يكون التخطيط إيجاد المجتمع المنحرف ممكناً، وذلك:
أوّلاً: لكونه لغواً بلا مبرّرٍ ولا حكمة. وإيجاد اللغو قولاً وفعلاً، محال على الله تعالى الحكيم الكامل من جميع الجهات.
ثانياً: لكونه مستلزماً - كما قلنا - لتقليل مستوى التربية والإيضاح، وهو ظلم للناس ما لم يقترن بمصلحة مهمّة مبرّرة له، والمفروض عدم وجودها.
ومعه فيتعيّن القول ببقاء المستوى المطلوب من العناية والتربية؛ نتيجة للقواعد الواضحة التفصيلية التي أعطاها الإمام المهدي طبقاً لوعي ما بعد الظهور، ونتيجة للدفع الإيماني الذي أوجده في الأُمّة، ذلك الدفع الذي أنتجه المجتمع المعصوم في نهاية المطاف، والذي لا يزول أثره إلى نهاية البشرية؛ فإنّ الوعي إذا كان على أعلى مستوى، لا يكون قابلاً للزوال، ولا الانحراف، وإنّما تؤكّده الحوادث وترسّخه المشاكل باستمرار، لو وُجدت في مثل هذا المجتمع المعصوم.
وبعد حصول صفة العصمة، سوف يكون المجتمع والدولة - بغضّ النظر عن شخص المهدي (ع) - أصلب عوداً وأقوى تطبيقاً للنظام الإسلامي الكامل. ومن هنا يكون من الطبيعي أن تتلاحق التأييدات الإلهيّة وتترسّخ بين أفراد المجتمع، فكيف يكون الانحراف مع وجود هذا التأييد؟
ويستمر المجتمع في الترقّي والتكامل في عالم الروح، حتى يكون كل فرد مترقّباً لقاء الله تعالى شأنه، مسروراً بالوصول إلى رضاه العظيم ونعيمه المقيم، فيشاء الله عزّ وجلّ أن يأخذهم جميعاً إليه كما تُزفّ العروس إلى عريسها والحبيب إلى حبيبه، فيموتون جميعاً موتاً كشمّ الرياحين، وبذلك تنتهي البشرية ويبدأ بذلك يوم القيامة.
وسيأتي في الكتاب الآتي تفسير أعمق من ذلك لنهاية البشرية، فليكن القارئ على علمٍ بذلك.

↑صفحة ٦٦٥↑

ولا حاجة هنا إلى افتراض ارتفاع الحجّة قبل أربعين يوماً من يوم القيامة، ولا إلى افتراض فساد المجتمع، فإنّ كلا الأمرين منقول بالروايات التي نفترض في هذه الناحية الثانية عدم صحّتها.
بل يكفي - منطقيّاً - لقيام الساعة، تحقّق الهدف من خلق البشرية، وهو وجود العبادة الكاملة ردحاً طويلاً من الزمن، بحيث لا يبقى بعدها هدف آخر متوقّع لها على وجه الأرض، وإنّما ينحصر وجودها وتكاملها في عالمٍ آخر، وقد تحقّق ذلك بوجود المجتمع المعصوم، فيبقى وجود البشرية بلا موضوع فلابد من زوالها بشكلٍ من الأشكال.
فهذا التسلسل الفكري المبني على عدم صحّة الأخبار القائلة بأنّ الساعة لا تقوم إلاّ على شرار الناس، هو الأنسب مع القرائن والقواعد العامّة الإسلامية، مضافاً إلى عجز تلك الأخبار عن قابليّة الإثبات، كما عرفنا.
وعلى إي حال، فلا ينبغي إعطاء شيء من تفصيل نهاية البشرية أكثر من ذلك، بعد العلم أنّه سيأتي في الكتاب الآتي ما يعطي ذلك كله بتوفيق من الله العلي العظيم.
هذا آخر ما أردنا إيراده من تاريخ ما بعد الظهور، والحمد لله ربّ العالمين على حسن التوفيق، وصلّى الله على نبيّنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قد تمّ بيد مؤلّفه المحتاج إلى رحمة ربّه الكريم محمد بن السيد محمد صادق الصدر.
بتاريخ مساء يوم الجمعة المصادف ١١ رمضان ١٣٩٢ هجرية الموافق ١٢ تشرين الأوّل ١٩٧٢ ميلادية في النجف الأشرف.

↑صفحة ٦٦٦↑

المصادر
أهمّ مصادر هذا التاريخ:

١ـ الاحتجاج، تأليف: أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي. مط: النعمان. النجف الأشرف. عام ١٣٨٦ـ ١٩٦٦.
٢ـ الإرشاد، للشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الملقّب بالمفيد. ط: طهران، عام ١٣٧٧هـ
٣ـ إلزام الناصب في إثبات الحجّة الغائب، لمؤلّفه المولى الشيخ علي اليزدي الحائري. ط: أصفهان في عام ١٣٥١ هـ شمسي.
٤ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة، للشيخ عِزّ الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الأثير. ط الأوفست، الإسلامية. طهران.
٥ - إسعاف الراغبين، للأُستاذ الشيخ محمد الصبّان، على هامش نور الأبصار (انظره).
٦ - الإشاعة لاشتراط الساعة، تأليف السيد الشريف محمد بن رسول البرزنجي الحسيني. ط: الأُولى، مصر عام، ١٣٧٠ هـ.
٧ - بحار الأنوار، تأليف الشيخ محمد باقر بن محمد تقي المعروف المجلسي. الجزء الثالث عشر، ط: الحجر عام ١٣٠٥ هـ.
٨ - البيان في أخبار صاحب الزمان، للحافظ أبي عبد الله محمد بن يوسف بن محمد النوفلي القرشي الكنجي الشافعي. قدّم له وعلّق عليه: محمد مهدي الخرسان. مط النعمان، النجف الأشرف، ١٩٦٢ - ١٣٨٢.
٩ - الجامع الصحيح، للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي. مط الفجّالة الجديدة، القاهرة: عام ١٣٨٧ - ١٩٦٧.
١٠ - الحاوي للفتاوي، للشيخ جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر بن محمد السيوطي،

↑صفحة ٦٦٧↑

حقّق أُصوله وعلّق على حواشيه: محمد محي الدين عبد الحميد. ط: مصر، الثالثة. مط السعادة عام ١٩٥٩ م.
١١ - الخرايج والجرايح، للشيخ قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة الله بن الحسين الرواندي. ط الهند، على الحجر، عام ١٣٠١ هـ.
١٢ - سنن أبي داود، للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني. ط: مصر، الأُولى، عام ١٣٧١ - ١٩٥٢.
١٣ - سنن ابن ماجة، للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني بن ماجة. بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء الكتب العربية، عام ١٣٧٣ - ١٩٥٣.
١٤ - شرح نهج البلاغة، للشيخ محمد عبده. بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. مطبعة الاستقامة، مصر، مهمل من التأريخ.
١٥ - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن يردذية البخاري الجعفي. مطابع الشعب مصر ١٣٧٨هـ.
١٦ - صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيري النيسابوري. مطبعة محمد علي صبيح وأولاده، مصر.
١٧ - الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، للمحدِّث شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي المكّي. ط: مصر عام ١٣١٢.
١٨ - الغيبة، للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي. ط: النجف الثانية، عام ١٣٨٥.
١٩ - الغيبة، للشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر الملقّب بالنعماني. ط: تبريز، عام ١٣٨٣.
٢٠ - الفتوحات المكّيّة، للشيخ أبي عبد الله محمد بن علي المعروف بابن عربي الحاتمي الطائي. أوفست دار صادر بيروت، مهمل من التأريخ.
٢١ - الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، للشيخ نور الدين علي بن محمد بن أحمد المالكي المكّي الشهير بابن الصبّاغ. ط: الحجر، طهران، عام ١٣٠٢.
٢٢ - الكافي (الأُصول) لثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني. نسخة خطّيّة من مكتبتنا الخاصّة. وقع الفراغ في تحريرها في عصر يوم الثلاثاء من شهر ذي القعدة الحرام سنة ١٠٧٧ هـ. بيد محمد بن طاهر آقاجان الشوشتري.

↑صفحة ٦٦٨↑

٢٣ - الكامل في التاريخ، لأبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير. بيروت - لبنان، عام ١٣٨٧ - ١٩٦٧.
٢٤ - كامل الزيارات، للشيخ الأقدم أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمّي. حقّقه وعلّق عليه الشيخ ميرزا عبد الحسين الأميني التبريزي. المطبعة المرتضوية، النجف، ١٣٥٦ هـ.
٢٥ - الكتاب المقدّس، أي كتب العهد القديم والعهد الجديد. انتشر على يد جمعيّة التوراة البريطانية والأجنبية. ط: جامعة كامبردج - بريطانيا.
٢٦ - كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، للعلاّمة أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي. المطبعة العلمية، قم.
٢٧ - مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، لصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي. وهو مختصر معجم البلدان لياقوت، تحقيق وتعليق: علي محمد البجاوي. دار إحياء الكتب العربية، مصر عام، ١٣٧٤ - ١٩٥٥.
٢٨ - مطالب السؤل في مناقب آل الرسول، تأليف الشيخ أبي سالم كمال الدين محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن القرشي العدوي الشافعي. دار الكتب التجارية في النجف الأشرف، ١٣٧١ - ١٩٥١.
٢٩ - مفاتيح الجنان، تأليف: الشيخ عبّاس القمّي. ترجمة: السيد محمد رضا النوري النجفي. ط: طهران، عام ١٣٥٩.
٣٠ - الملاحم والفتن، للسيد رضي الدين أبي القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس الحسني الحسيني. ط: الثالثة، الحيدرية، النجف الأشرف ١٣٨٣ - ١٩٦٤.
٣١ - منتخب الأثر في الإمام الاثني عشر، تأليف الشيخ لطف الله الصافي. الثانية، مهمل من التأريخ.
٣٢ - وسائل الشيعة في تحصيل مسائل الشريعة، للشيخ الحسن بن الحرّ العاملي. ط: الحجر، طهران، عام ١٣١٤هـ.
٣٣ - ينابيع المودّة، تأليف: الحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي. الطبعة السابعة، ط: النجف الأشرف، الحيدرية، عام ١٣٨٤ - ١٩٦٥.

↑صفحة ٦٦٩↑

التحميلات التحميلات:
التقييم التقييم:
  ١ / ٥.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات.

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

 

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2016