قتل المدَّعي الشلمغاني بعد أن أفتى الفقهاء بإباحة دمه في عصر المقتدر العبّاسي:
قال ابن الأثير في الكامل في ذكر حوادث سنة (٣٢٢هـ): ذكر قتل الشلمغاني وحكاية مذهبه: وفي هذه السنة قُتل أبو جعفر محمّد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي القراقر(١)، وشلمغان التي ينسب إليها قرية بنواحي واسط. وسبب ذلك أنَّه قد أحدث مذهباً غالياً في التشيّع والتناسخ وحلول الإلهية فيه إلى غير ذلك ممَّا يحكيه، وأظهر ذلك من فعله أبو القاسم الحسين بن روح الذي تسمّيه الإمامية الباب متداول وزارة حامد بن العبّاس(٢)، ثمّ اتَّصل أبو جعفر الشلمغاني بالمحسن بن أبي الحسن بن الفرات في وزارة أبيه الثالثة(٣)، ثمّ إنَّه طلب في وزارة الخاقاني(٤) فاستتر وهرب إلى الموصل فبقي سنين عند ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان(٥) في حياة أبيه عبد الله بن حمدان(٦)، ثمّ انحدر إلى بغداد واستتر وظهر عنده ببغداد أنَّه يدَّعي لنفسه الربوبية، وقيل: إنَّه اتَّبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب الذي وزر للمقتدر بالله(٧)، وأبو جعفر وأبو علي ابنا بسطام، وإبراهيم بن محمّد بن أبي عون(٨)، وابن شبيب الزيّات، وأحمد بن محمّد بن عبدوس كانوا يعتقدون ذلك فيه، وظهر ذلك عنهم وطلبوا أيّام وزارة ابن مقلة(٩) للمقتدر بالله فلم يوجدوا. فلمَّا كان في شوّال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ظهر الشلمغاني فقبض عليه الوزير ابن مقلة وسجنه وكبس داره فوجد فيها رقاعاً وكتباً ممَّن يدَّعي عليه أنَّه على مذهبه يخاطبونه بما لا يخاطب به البشر بعضهم بعضاً، وفيها خطّ الحسين بن القاسم فعرضت الخطوط فعرفها الناس وعرضت على الشلمغاني فأقرَّ أنَّها خطوطهم وأنكر مذهبه وأظهر الإسلام وتبرَّأ ممَّا يقال فيه، واُخذ ابن أبي عون وابن عبدوس معه واُحضرا معه عند الخليفة وأمر بصفعه فامتنعا فلمَّا اُكرها مدَّ ابن عبدوس يده وصفعه وأمَّا ابن أبي عون فإنَّه مدَّ يده إلى لحيته ورأسه فارتعدت يده فقبَّل لحية الشلمغاني ورأسه، ثمّ قال: إلهي وسيّدي ورازقي، فقال له الراضي: قد زعمت أنَّك لا تدَّعي الإلهية، فما هذا؟ فقال: وما عليَّ من قول ابن أبي عون، والله يعلم إنَّني لا قلت له إنَّني إله قطّ! فقال ابن عبدوس: إنَّه لم يدَّع الإلهية وإنَّما ادَّعى أنَّه الباب إلى الإمام المنتظر مكان ابن روح، وكنت أظنّ أنَّه يقول ذلك تقيّة، ثمّ احضروا عدَّة مرَّات ومعهم الفقهاء والقضاة والكتّاب والقوّاد، وفي آخر الأيّام أفتى الفقهاء بإباحة دمه فصلب ابن الشلمغاني وابن أبي عون في ذي القعدة واُحرقا بالنار(١٠).
* وروى الطوسي رحمه الله عن الحسين بن عبيد الله، عن أبي الحسن محمّد بن أحمد بن داود القمّي رحمه الله، عن أبي علي بن همّام، قال: أنفذ محمّد بن علي الشلمغاني العزاقري إلى الشيخ الحسين بن روح يسأله أن يباهله، وقال: أنا صاحب الرجل وقد اُمرت بإظهار العلم، وقد أظهرته باطناً وظاهراً، فباهلني. فأنفذ إليه الشيخ رضي الله عنه في جواب ذلك: أيّنا تقدَّم صاحبه فهو المخصوم، فتقدَّم العزاقري فقُتل وصُلب واُخذ معه ابن أبي عون، وذلك في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة(١١).
* وقال النجاشي رحمه الله: (محمّد بن علي الشلمغاني، أبو جعفر المعروف بابن أبي العزاقر، كان متقدّماً في أصحابنا، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب، والدخول في المذاهب الرديئة حتَّى خرجت فيه التوقيعات، فأخذه السلطان، وقتله وصلبه)(١٢).
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــ
(١) هكذا في المصدر، والصحيح: (ابن أبي العزاقر).
(٢) هو حامد بن العبّاس، أبو الفضل الخراساني ثمّ العراقي، وزر للمقتدر سنة (٣٠٦هـ)، ولمَّا بانت قلَّة خبرته ضمَّ إليه علي بن عيسى ليدبّره، ثمّ عزله المقتدر وأعاد الوزير ابن الفرات، وسلَّم إليه حامداً فقتله سرّاً سنة (٣١١هـ).
(٣) هو ابن الوزير ابن الفرات المشهور، قال الزركلي في الأعلام (ج ٤/ ص ٣٢٤): علي بن محمّد بن موسى، أبو الحسن، ابن الفرات: وزير، من الدهاة الفصحاء الأدباء الأجواد. وهو ممهّد الدولة للمقتدر العبّاسي. ولد في النهروان الأعلى (بين بغداد وواسط) واتَّصل بالمعتضد بالله فولاَّه ديوان السواد. ثمّ بلغ رتبة الوزارة في أوائل أيّام المقتدر، فتولاَّها ثلاث مرَّات، الأولى سنة (٢٩٦ - ٢٩٩هـ) انتهت بقبض (المقتدر) عليه وسجنه خمس سنين. واُخرج من السجن إلى الوزارة سنة وخمسة أشهر، ونكب سنة (٣٠٦هـ) وسجن في قصر الخلافة نحو سنين، واُخرج سنة (٣١١هـ) فخُلع عليه واُعيد إلى الوزارة، فبطش بخصومه والكائدين له، واتّسق له الأمر عشرة أشهر و(١٨) يوماً، وقُبض عليه سنة (٣١٢هـ) فسجن (٣٣) يوماً وضُرب عنقه وطرحت جثته في دجلة.
(٤) قال الزركلي في الأعلام (ج ٤/ ص ١١٩): عبد الله بن محمّد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، أبو القاسم: وزير من بيت وزارة...، استوزره المقتدر العبّاسي سنة (٣١٢هـ)، واستمرَّ نحو (١٨) شهراً، وقبض عليه المقتدر وصادر أملاكه، ثمّ أطلقه فاعتلَّ ومات.
(٥) قال الزركلي في الأعلام (ج ٢/ ص ١٩٥): ناصر الدولة الحمداني، الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان التغلبي، من ملوك الدولة الحمدانية. كان صاحب الموصل وما يليها. ولقَّبه المتَّقي العبّاسي بناصر الدولة، وخلع عليه، وجعله أمير الأمراء. وهو أخو سيف الدولة، وأكبر منه...، ولمَّا توفّي أخوه سنة (٣٥٦هـ) اُصيب بالسويداء، فحجر عليه بنوه، وسيَّره ابنه فضل الله (الغضنفر) من الموصل إلى قلعة أردمشت مرفّهاً فتوفّي فيها، ونقل إلى الموصل. وكانت إمارته اثنتين وثلاثين سنة. وكان يداري بني بويه.
(٦) قال الزركلي في الأعلام (ج ٤/ ص ٨٣): أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي العدوي، أمير، من القادة المقدّمين في العصر العبّاسي. ولاَّه المكتفي بالله الموصل وأعمالها سنة (٢٩٣هـ)، فأقام إلى أن عزله المقتدر سنة (٣٠١هـ)، فقدم بغداد، فخلع عليه المقتدر وأعاده. ثمّ قبض عليه سنة (٣٠٣هـ) مع أخيه الحسين. وأطلقه سنة (٣٠٥هـ). وقلَّده طريق خراسان والدينور سنة (٣٠٨هـ) فكان يتولّى ذلك وهو بغداد. وضمن أعمال الخراج والضياع بالموصل والبلاد المجاورة لها سنة (٣١٥هـ) ثمّ قتله أحد رجال المقتدر، في فتنة خلعه والبيعة للقاهر.
(٧) هو أبو علي الجمّال، وزر للمقتدر سنة (٣١٩هـ)، ولقَّبوه عميد الدولة، وعزل بعد سبعة أشهر، وسُجن وعقد له مجلس في كائنة الشلمغاني، ونوظر، فظهرت رقاعه يخاطب الشلمغاني فيها بالإلهية، وأنَّه يحييه ويميته، ويسأله أن يغفر له ذنوبه. فأخرجت تلك الرقاع، وشهد جماعة أنَّه خطّه، فضربت عنقه، وطيف برأسه في ذي الحجّة سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة، وعاش ثمانياً وسبعين سنة. (أنظر: سير أعلام النبلاء ١٤: ٥٦٩).
(٨) قال الزركلي في الأعلام (ج ١/ ص ٦٠): إبراهيم بن محمّد بن أبي عون أحمد بن المنجم، أبو إسحاق، أديب، من أشياع الشلمغاني وثقاته ببغداد، له كتاب (النواحي) في أخبار البلدان...، قتله الراضي العبّاسي صلباً مع الشلمغاني، بعد أن عرض عليه أن يتبرَّأ من الشلمغاني ولم يفعل.
(٩) قال الزركلي في الأعلام (ج ٦/ ص ٢٧٣): محمّد بن علي بن الحسين بن مقلة، أبو علي، وزير، من الشعراء الأدباء، يضرب بحسن خطّه المثل. ولد في بغداد، وولي جباية الخراج في بعض أعمال فارس. ثمّ استوزره المقتدر العبّاسي سنة (٣١٦هـ)، ولم يلبث أن غضب عليه فصادره ونفاه إلى فارس سنة (٣١٨هـ)، واستوزره القاهر بالله سنة (٣٢٠هـ) فجيء به من بلاد فارس، فلم يكد يتولّى الأعمال حتَّى اتَّهمه القاهر بالمؤامرة على قتله، فاختبأ سنة (٣٢١هـ)، واستوزره الراضي بالله سنة (٣٢٢هـ)، ثمّ نقم عليه سنة (٣٢٤هـ) فسجنه مدَّة، وأخلى سبيله. ثمّ علم أنَّه كتب إلى أحد الخارجين عليه يطمعه بدخول بغداد، فقبض عليه وقطع يده اليمنى، فكان يشدُّ القلم على ساعده ويكتب به، فقطع لسانه سنة (٣٢٦هـ) وسجنه، فلحقه في حبسه شقاء شديد حتَّى كان يستقي الماء بيده اليسرى ويمسك الحبل بفمه، ومات في سجنه. قال الثعالبي: من عجائبه أنَّه تقلَّد الوزارة ثلاث دفعات، لثلاثة من الخلفاء، وسافر في عمره ثلاث سفرات اثنتان في النفي إلى شيراز والثالثة إلى الموصل، ودفن بعد موته ثلاث مرَّات.
(١٠) الكامل في التاريخ ٨: ٢٩٠ - ٢٩٢.
(١١) الغيبة للطوسي: ٣٠٧/ ح ٢٥٨.
(١٢) رجال النجاشي: ٣٧٨/ الرقم ١٠٢٩.