سنة (٣٦٩هـ):
وفاة جعفر بن محمّد بن قولويه كما أخبر الإمام المهدي عليه السلام بذلك قبل ثلاثين عاماً:
روي عن أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه، قال: فلمَّا وصلت بغداد في سنة تسع وثلاثين [وثلاثمائة] للحجّ، وهي السنة التي ردَّ القرامطة(١) فيها الحجر إلى مكانه من البيت(٢)، كان أكبر همّي الظفر بمن ينصب الحجر، لأنَّه يمضي في أثناء الكتب قصَّة أخذه وأنَّه ينصبه في مكانه الحجّة في الزمان، كما في زمان الحجّاج وضعه زين العابدين عليه السلام في مكانه فاستقرَّ(٣). فاعتللت علَّة صعبة خفت منها على نفسي، ولم يتهيَّأ لي ما قصدت له، فاستنبت المعروف بابن هشام، وأعطيته رقعة مختومة، أسأل فيها عن مدَّة عمري، وهل تكون المنيّة في هذه العلَّة أم لا؟ وقلت: همّي إيصال هذه الرقعة إلى واضع الحجر في مكانه، وأخذ جوابه، وإنَّما أندبك لهذا.
قال: فقال المعروف بابن هشام: لمَّا حصلت بمكّة وعزم على إعادة الحجر بذلت لسدنة البيت جملة تمكَّنت معها من الكون بحيث أرى واضع الحجر في مكانه، وأقمت معي منهم من يمنع عنّي ازدحام الناس، فكلَّما عمد إنسان لوضعه اضطرب ولم يستقم، فأقبل غلام أسمر اللون، حسن الوجه، فتناوله ووضعه في مكانه فاستقام كأنَّه لم يزل عنه، وعلت لذلك الأصوات، وانصرف خارجاً من الباب، فنهضت من مكاني أتبعه، وأدفع الناس عنّي يميناً وشمالاً، حتَّى ظُنَّ بي الاختلاط في العقل، والناس يفرجون لي، وعيني لا تفارقه، حتَّى انقطع عن الناس، فكنت أسرع السير خلفه، وهو يمشي على تؤدة ولا أدركه.
فلمَّا حصل بحيث لا أحد يراه غيري، وقف والتفت إليَّ فقال: (هات ما معك)، فناولته الرقعة. فقال من غير أن ينظر فيها: (قل له: لا خوف عليك في هذه العلَّة، ويكون ما لا بدَّ منه بعد ثلاثين سنة). قال: فوقع عليَّ الزمع حتَّى لم أطق حراكاً، وتركني وانصرف. قال أبو القاسم: فأعلمني بهذه الجملة.
فلمَّا كان سنة تسع وستّين اعتلَّ أبو القاسم فأخذ ينظر في أمره، وتحصيل جهازه إلى قبره، وكتب وصيَّته، واستعمل الجِدَّ في ذلك. فقيل له: ما هذا الخوف؟ ونرجو أن يتفضَّل الله تعالى بالسلامة، فما عليك مخوفة. فقال: هذه السنة التي خوّفت فيها، فمات في علَّته(٤).
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــ
(١) القرامطة: فرقة من الكيار إحدى عشائر الباب ومنبج، من أقضية محافظة حلب، وهم فرقة من الشيعة الإسماعيلية المباركية، وإنَّما سمّوا بهذا برئيس لهم من أهل السواد من الأنباط كان يلقَّب (قرمطويه)، وقالوا بإمامة محمّد بن إسماعيل جعفر الصادق عليه السلام ظاهراً، وبالإلحاد وإبطال الشريعة باطناً لأنَّهم يحلّلون أكثر المحرَّمات، ويعدّون الصلاة عبارة عن طاعة الإمام، والزكاة عبارة عن أداء الخمس إلى الإمام، والصوم عبارة عن إخفاء الأسرار، والزنا عبارة عن إفشائها، أنشؤوا دولتهم في البحرين ثمّ توسَّعوا غرباً حتَّى وصلوا بلاد الشام.
(٢) قال ابن كثير في البداية والنهاية (ج ١١/ ص ٢٥٢): ثمّ دخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، في هذه السنة المباركة في ذي القعدة منها رُدَّ الحجر الأسود المكّي إلى مكانه في البيت، وقد كان القرامطة أخذوه في سنة سبع عشرة وثلاثمائة كما تقدَّم، وكان ملكهم إذ ذاك أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسين الجنابي، ولمَّا وقع هذا أعظم المسلمون ذلك، وقد بذل لهم الأمير بجكم التركي خمسين ألف دينار على أن يردّوه إلى موضعه فلم يفعلوا، وقالوا: نحن أخذناه بأمر فلا نردّه إلاَّ بأمر من أخذناه بأمره. فلمَّا كان في هذا العام حملوه إلى الكوفة وعلَّقوه على الأسطوانة السابعة من جامعها ليراه الناس، وكتب أخو أبي طاهر كتاباً فيه: إنّا أخذنا هذا الحجر بأمر وقد رددناه بأمر من أمرنا بأخذه ليتمّ حجّ الناس ومناسكهم. ثمّ أرسلوه إلى مكّة بغير شيء على قعود، فوصل في ذي القعدة من هذه السنة ولله الحمد والمنَّة، وكان مدَّة مغايبته عنده ثنتين وعشرين سنة، ففرح المسلمون لذلك فرحاً شديداً. وقد ذكر غير واحد أنَّ القرامطة لمَّا أخذوه حملوه على عدَّة جمال فعطبت تحته واعترى أسنمتها القرح، ولمَّا ردّوه حمله قعود واحد ولم يصبه أذى.
(٣) روى الكليني رحمه الله في الكافي (ج ٤/ ص ٢٢٢/ ح ٨): عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن ابن أبي عمير، عن أبي علي صاحب الأنماط، عن أبان بن تغلب، قال: لمَّا هدم الحجّاج الكعبة فرَّق الناس ترابها، فلمَّا صاروا إلى بنائها فأرادوا أن يبنوها خرجت عليهم حيّة فمنعت الناس البناء حتَّى هربوا، فأتوا الحجّاج فأخبروه فخاف أن يكون قد منع بناءها، فصعد المنبر ثمّ نشد الناس وقال: أنشد الله عبداً عنده ممَّا ابتلينا به علم لما أخبرنا به، قال: فقام إليه شيخ فقال: إن يكن عند أحد علم فعند رجل رأيته جاء إلى الكعبة فأخذ مقدارها ثمّ مضى، فقال الحجّاج: من هو؟ قال: علي بن الحسين عليهما السلام، فقال: معدن ذلك، فبعث إلى علي بن الحسين صلوات الله عليهما فأتاه فأخبره ما كان من منع الله إيّاه البناء، فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: (يا حجّاج، عمدت إلى بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وانتهبته كأنَّك ترى أنَّه تراث لك، اصعد المنبر وأنشد الناس أن لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلاَّ ردَّه)، قال: ففعل فأنشد الناس أن لا يبقى منهم أحد عنده شيء إلاَّ ردَّه، قال: فردّوه، فلمَّا رأى جمع التراب أتى علي بن الحسين صلوات الله عليهما فوضع الأساس وأمرهم أن يحفروا، قال: فتغيبَّت عنهم الحيّة وحفروا حتَّى انتهوا إلى موضع القواعد، قال لهم علي بن الحسين عليهما السلام: (تنحّوا)، فتنحّوا، فدنا منها فغطّاها بثوبه، ثمّ بكى، ثمّ غطّاها بالتراب بيد نفسه، ثم دعا الفعلة، فقال: (ضعوا بناءكم)، فوضعوا البناء فلمَّا ارتفعت حيطانها أمر بالتراب فقلب فألقى في جوفه، فلذلك صار البيت مرتفعاً يصعد إليه بالدرج.
وقال الراوندي رحمه الله في الخرائج والجرائح (ج ١/ ص ٢٦٨/ ح ١١): إنَّ الحجّاج بن يوسف لمَّا خرب الكعبة بسبب مقاتلة عبد الله بن الزبير، ثمّ عمّروها، فلمَّا اُعيد البيت وأرادوا أن ينصبوا الحجر الأسود، فكلَّما نصبه عالم من علمائهم، أو قاض من قضاتهم، أو زاهد من زهّادهم يتزلزل ويقع ويضطرب، ولا يستقرّ الحجر في مكانه. فجاءه علي بن الحسين عليهما السلام وأخذه من أيديهم، وسمّى الله، ثمّ نصبه، فاستقرَّ في مكانه، وكبَّر الناس.
(٤) الخرائج والجرائح ١: ٤٧٥ - ٤٧٨/ باب ١٣/ ح ١٨؛ وهناك رأيان في تاريخ وفاة ابن قولويه رحمه الله، الأوّل: أنَّه توفّي في سنة (٣٦٨هـ)، قاله الطوسي رحمه الله في رجاله (٤١٨/ الرقم ٦٠٣٨/٣)، وتبعه على ذلك ابن حجر في لسان الميزان (ج ٢/ ص ١٢٥/ الرقم ٥٣٦)، الثاني: أنَّه توفّي في سنة (٣٦٩هـ)، قاله العلاَّمة في خلاصة الأقوال (٨٨ و٨٩/ باب ١/ الرقم ٦)، والرواية المذكورة في المتن تدلُّ على ذلك.