(١٥): دفاع الإمام المهدي عليه السلام عن زوّار جدّه الحسين عليه السلام:
روى النوري رحمه الله في جنَّة المأوى، قال: قال صالح بن [محمّد] مهدي القزويني(١) أيَّده الله: وحدَّثني الوالد أعلى الله مقامه، قال: خرجت يوم الرابع عشر من شهر شعبان من الحلَّة اُريد زيارة الحسين عليه السلام ليلة النصف منه، فلمَّا وصلت إلى شطّ الهندية، وعبرت إلى الجانب الغربي منه، وجدت الزوّار الذاهبين من الحلَّة وأطرافها، والواردين من النجف ونواحيه، جميعاً محاصرين في بيوت عشيرة بني طرف من عشائر الهندية، ولا طريق لهم إلى كربلاء لأنَّ عشيرة عنزة قد نزلوا على الطريق، وقطعوه عن المارّة، ولا يدعون أحداً يخرج من كربلاء ولا أحداً يلج إلاَّ انتهبوه.
قال: فنزلت على رجل من العرب وصلَّيت صلاة الظهر والعصر، وجلست أنتظر ما يكون من أمر الزوّار، وقد تغيَّمت السماء ومطرت مطراً يسيراً. فبينما نحن جلوس إذ خرجت الزوّار بأسرها من البيوت متوجّهين نحو طريق كربلاء، فقلت لبعض من معي: اخرج واسأل ما الخبر؟ فخرج ورجع إليَّ وقال لي: إنَّ عشيرة بني طرف قد خرجوا بالأسلحة النارية، وتجمَّعوا لإيصال الزوّار إلى كربلاء، ولو آل الأمر إلى المحاربة مع عنزة. فلمَّا سمعت قلت لمن معي: هذا الكلام لا أصل له، لأنَّ بني طرف لا قابلية لهم على مقابلة عنزة في البرّ، وأظنّ هذه مكيدة منهم لإخراج الزوّار عن بيوتهم لأنَّهم استثقلوا بقاءهم عندهم، وفي ضيافتهم. فبينما نحن كذلك إذ رجعت الزوّار إلى البيوت، فتبيَّن الحال كما قلت، فلم تدخل الزوّار إلى البيوت وجلسوا في ظلالها والسماء متغيّمة، فأخذتني لهم رقَّة شديدة، وأصابني انكسار عظيم، وتوجَّهت إلى الله بالدعاء والتوسّل بالنبيّ وآله، وطلبت إغاثة الزوّار ممَّا هم فيه. فبينما أنا على هذا الحال إذ أقبل فارس على فرس رابع كريم لم أرَ مثله وبيده رمح طويل وهو مشمر عن ذراعيه، فأقبل يخب به جواده حتَّى وقف على البيت الذي أنا فيه، وكان بيتاً من شعر مرفوع الجوانب، فسلَّم فرددنا عليه السلام، ثمّ قال: (يا مولانا _ يسمّيني باسمي _ بعثني من يسلّم عليك، وهم كنج محمّد آغا وصفر آغا _ وكانا من قوّاد العساكر العثمانية _، يقولان: فليأتِ بالزوّار، فإنّا قد طردنا عنزة عن الطريق، ونحن ننتظره مع عسكرنا في عرقوب السليمانية على الجادّة). فقلت له: وأنت معنا إلى عرقوب السليمانية؟ قال: (نعم).
فأخرجت الساعة وإذا قد بقي من النهار ساعتان ونصف تقريباً فأمرت بخيلنا، فقدمت إلينا. فتعلَّق بي ذلك البدوي الذي نحن عنده وقال: يا مولاي لا تخاطر بنفسك وبالزوّار وأقم الليلة حتَّى يتَّضح الأمر. فقلت له: لا بدَّ من الركوب لإدراك الزيارة المخصوصة. فلمَّا رأتنا الزوّار قد ركبنا، تبعوا أثرنا بين ماش وراكب فسرنا والفارس المذكور بين أيدينا كأنَّه الأسد الخادر، ونحن خلفه، حتَّى وصلنا إلى عرقوب السليمانية فصعد عليه وتبعناه في الصعود، ثمّ نزل وارتقينا على أعلى العرقوب فنظرنا ولم نرَ له عيناً ولا أثراً، فكأنَّما صعد في السماء أو نزل في الأرض ولم نرَ قائداً ولا عسكراً. فقلت لمن معي: أبقي شكّ في أنَّه صاحب الأمر؟ فقالوا: لا والله. وكنت وهو بين أيدينا أطيل النظر إليه كأنّي رأيته قبل ذلك، لكنَّني لا أذكر أين رأيته، فلمَّا فارقنا تذكرت أنَّه هو الشخص الذي زارني بالحلَّة، وأخبرني بواقعة السليمانية.
وأمَّا عشيرة عنزة، فلم نرَ لهم أثراً في منازلهم، ولم نرَ أحداً نسأله عنهم سوى أنّا رأينا غبرة شديدة مرتفعة في كبد البرّ، فوردنا كربلاء تخب بنا خيولنا فوصلنا إلى باب البلاد، وإذا بعسكر على سور البلد فنادوا: من أين جئتم؟ وكيف وصلتم؟ ثمّ نظروا إلى سواد الزوّار ثمّ قالوا: سبحان الله هذه البرية قد امتلأت من الزوّار أجل أين صارت عنزة؟ فقلت لهم: اجلسوا في البلد وخذوا أرزاقكم ولمكّة ربٌّ يرعاها.
ثمّ دخلنا البلد فإذا أنا بكنج محمّد آغا جالساً على تخت قريب من الباب فسلَّمت عليه فقام في وجهي فقلت له: يكفيك فخراً أنَّك ذكرت باللسان، فقال: ما الخبر؟ فأخبرته بالقصَّة، فقال لي: يا مولاي، من أين لي علم بأنَّك زائر حتَّى أرسل لك رسولاً وأنا وعسكري منذ خمسة عشر يوماً محاصرين في البلد لا نستطيع أن نخرج خوفاً من عنزة. ثمّ قال: فأين صارت عنزة؟ قلت: لا علم لي سوى أنّي رأيت غبرة شديدة في كبد البرّ كأنَّها غبرة الظعائن، ثمّ أخرجت الساعة وإذا قد بقي من النهار ساعة ونصف، فكان مسيرنا كلّه في ساعة وبين منازل بني طرف وكربلاء ثلاث ساعات ثمّ بتنا تلك الليلة في كربلاء. فلمَّا أصبحنا سألنا عن خبر عنزة فأخبر بعض الفلاَّحين الذين في بساتين كربلاء قال: بينما عنزة جلوس في أنديتهم وبيوتهم إذا بفارس قد طلع عليهم على فرس مطهم، وبيده رمح طويل، فصرخ فيهم بأعلى صوته: (يا معاشر عنزة، قد جاء الموت الزؤام، عساكر الدولة العثمانية تجبَّهت عليكم بخيلها ورجلها، وها هم على أثري مقبلون فارحلوا وما أظنّكم تنجون منهم).
فألقى الله عليهم الخوف والذلّ حتَّى أنَّ الرجل يترك بعض متاع بيته استعجالاً بالرحيل، فلم تمض ساعة حتَّى ارتحلوا بأجمعهم وتوجَّهوا نحو البرّ، فقلت له: صف لي الفارس، فوصف لي وإذا هو صاحبنا بعينه، وهو الفارس الذي جاءنا، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة على محمّد وآله الطاهرين(٢).
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــ
(١) هو صالح بن محمّد مهدي بن حسن بن أحمد الحسيني، القزويني الأصل، الحلّي، النجفي. كان فقيهاً إمامياً، شاعراً، ناثراً، من الشخصيات البارزة في عصره. ولد في الحلَّة سنة سبع وخمسين ومائتين وألف. ودرس المبادئ من العربية وغيرها على حسن الفلوجي الحلّي وغيره. وقصد النجف الأشرف، فحضر على الفقيهين الكبيرين: مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري، وخاله مهدي بن علي بن جعفر كاشف الغطاء. وبعد أن استقرَّ والده الفقيه السيّد محمّد مهدي (المتوفّى ١٣٠٠هـ) بالنجف، تلقّى أكثر الدروس عليه، واُجيز منه ومن الميرزا علي الخليلي بالاجتهاد. وتصدّى للبحث والتدريس بعد والده، فحضر عليه جمع من الطلاَّب. وقرَّض الشعر، وطارح به شعراء عصره، وساهم في بعث الحركة الأدبية ودعمها، حتَّى عُدَّ أحد أركان النهضة الأدبية في العراق في الشطر الأخير من القرن الثالث عشر. وللمترجم تآليف، منها: مقتل أمير المؤمنين عليه السلام، ورسالة فتوائية في العبادات ألَّفها نزولا عند رغبة جماعة رجعوا إليه في التقليد بعد وفاة والده. وعني بإتمام ما كان ناقصاً من مؤلَّفات والده، ولكن الأجل لم يمهله، حيث أدركه وهو في النجف سنة أربع وثلاثمائة وألف. (أنظر: موسوعة طبقات الفقهاء ١٤: ٢٨٠ و٢٨١/ الرقم ٤٥٨٣).
(٢) جنَّة المأوى: ١٢٢ - ١٢٥/ الحكاية السادسة والأربعون.