الإجابة: بسم الله الرحمن الرحيم
ما من مؤمن إلّا وهو يعاني أو قد عانى من محنة أو مشقة ترافقه حينا وتغادره أخرى وتزداد تارة أو تخفت في تارة أخرى واطرادها أو نقصانها إنما يتبع مقدار إيمانه وإخلاصه، وقد جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام): إنما يبتلي المؤمن في الدنيا على قدر دينه. [الكافي للشيخ الكليني: ج٢، ص٢٥٣]، وإذا كان الأمر كذلك فلا مناص أن البلاء الذي يُدرك الإمام (عجّل الله فرجه) ويحيط به يفوق ما نختبره ونقاسيه، كما أن أساس بلائه ومحنته تختلف عنا في الأسباب والعلل فبعضنا قد يبتلى بسبب معصية ارتكبها أو لتكفير ذنب ألمّ به، ولا ريب أن الإمام (عجّل الله فرجه) خلو من كل تلك الأسباب وإنما رزيته منا وفينا وفي نفسه ومن غيره، فأما التي في نفسه فأنه يعيش الغربة وطول الوحشة من عالم طُبِع على التغير والتقلب يتصرف بأهله من حال إلى حال وأي محنة هي أعظم من أن تعيش الثبات والقرار في عالم لا يرحم إلّا من يتوائم معه في تقلباته وتغيراته، محنة الإمام (عجّل الله فرجه) عليه في نفسه أنه لا يهنأ بعيش ولا ينعم بحياة، يصفه الإمام الباقر (عليه السلام) بقوله: الشريد الطريد الفريد الوحيد المفرد من أهله الموتور بوالده. [الغيبة للشيخ النعماني: ص١٨٤]، فلا يهنأ له سكن ولا دار كما نعيش نحن في دورنا وبين عوائلنا أوليس هو الذي يقول (عجّل الله فرجه) لابن مهزيار: إن أبي عهد إلي إلّا أجاور قوماً غضب الله عليهم وأمرني إلّا أسكن من الجبال إلّا وعرها ولا من البلاد إلّا قفرها. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص٢٦٦]، محنة الإمام (عجّل الله فرجه) في نفسه هي محنة العاِلم بين من يجهلون حقه ويعرضون عنه، محنته أنه يعيش في عالم لا يباليه ولا يرقبه ولا أشد على العِالم من أن يعيش ضياع أمته وضلالهم وبين يديه خلاصهم ونجاتهم وهم صادّون عنه ولا يأبهون، أوليس كان يقول آباؤه الطاهرون (عليهم السلام): بلية الناس علينا عظيمة إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا. [الإرشاد للشيخ المفيد: ج٢، ص١٦٧]، وإذا صح أن يقال إن آباءه الطاهرين قد استراحوا من هم الدنيا وغمها فهو المنفرد عنهم والبقية منهم الذي ما زال يكابد ويعاني كل ما عانوه، فيرى كل ذلك ماثلاً أمامه كأنه حصل بالأمس القريب، ألم نقرأ عنه وصف حاله في زيارته لجده الحسين (عليه السلام) وما جرى عليه من مصاب: فلأندبنّك صباحاً ومساء، ولأبكينّ لك بدل الدموع دماً حسرة عليك وتأسّفاً على ما دهاك وتلهّفاً حتّى أموت بلوعة المصاب، وغصّة الاكتئاب. [المزار الكبير لمحمد بن جعفر المشهدي: ص٥٠١]، وكيف يحكي لنا طول الحزن والألم الذي ما زال يحتوي قلبه الطاهر ولا يفارقه على حال في ليله ونهاره.
وأما محنته (عجّل الله فرجه) من غيره، فيكفي أن نعلم أنه ما من مصيبة أو رزية تلُم بالمؤمنين أو تصيبهم إلّا وله منها نصيبٌ، فهو الذي يمرض لمرضهم ويحزن لحزنهم ويستشعر كل الآمهم صغيرها وكبيرها، الكثير منا يتجنب أن يسمع الأخبار المؤلمة أو يمتنع من رؤية المشاهد الحزينة فنبحث عما يبهجنا ويضحكنا ولا نهتم إلّا بما يعنينا أو يلزم القريبين منا فهذه هي حال أكثر الناس، أما الإمام (عجّل الله فرجه) فهو المطلع على كل ما يدور حولنا، فحاله معنا كحال الوالد مع أولاده فتراه يتألم لهم كما يتألمون ويتوجع لما يتوجعون، وهو مع ذلك لا يستطيع في كثير من الأحيان أن يدفع عنهم ضيماً ولا أذى، ثم يختزن بعد هذا وذاك في دخيلة نفسه كل حسرة وأسف وكرب وشدة، وهذه هي محنة الإمامة وبلاؤها مع الناس والمؤمنين، ولأجل ذلك يروي الصدوق (رحمه الله) في الحديث الصحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام): ما من أحد من شيعتنا يمرض إلّا مرضنا لمرضه ولا اغتم إلّا اغتممنا لغمه. [صفات الشيعة للشيخ الصدوق: ص٣]، وكذلك ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه لرميلة: يا رميلة ليس من مؤمن يمرض إلّا مرضنا لمرضه، ولا يحزن إلّا حزنّا لحزنه، ولا يدعو إلّا آمنّا له، ولا يسكت إلّا دعونا له ولا مؤمن ولا مؤمنة في المشارق والمغارب إلّا ونحن معه. [بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج٢٦، ص١٥٤]، ونفس هذا المعنى وبذات القدر يلم أيضاً بإمام زماننا وولي عصرنا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في كل ما يصيبنا ويعرض علينا ونحن عنه غافلون وساهون، ولذا ورد عنه (عجّل الله فرجه) في توقيعه الشريف للشيخ المفيد: فانّا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم. [الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج٢، ص٣٢٣]
بعد كل ذلك يمكن أن نفهم ولو قليلاً من معنى البلوى التي تحيط بمولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في غيبته وغربته ويقينا أن ما ندركه ونعيه هو بعض من حال بلائه ومحنته، ويمكن أن نفهم لماذا في كثير من الأحيان إذا استذكره الأئمة (عليهم السلام) أجهشوا بالبكاء واستدرت له دموعهم، فها هو ابن أبي دلف يروي عن الإمام الجواد (عليه السلام) أنه قال: إن الإمام بعدي ابني علي أمره أمري وقوله قولي وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن أمره أمر أبيه وقوله قول أبيه وطاعته طاعة أبيه ثم سكت. فقلت له: يا بن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى بكاءً شديداً، ثم قال: إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص٣٧٨]، وهكذا ما رواه سدير الصيرفي وأصحابه حينما دخلوا على الإمام الصادق (عليه السلام) فرأوه جالساً على التراب وهو يبكي بكاء الواله الثكلى فلما سألوه عن ذلك زفر زفرة عظيمة انتفخ منها جوفه ثم قال: نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم، وتأملت منه مولد قائمنا وغيبته وإبطائه وطول عمره وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص٣٥٣]
ولا يبقى بين أيدينا إلّا أن نقول يعز علينا ما يناله إمامنا المغيب (عجّل الله فرجه) من أحزان وهموم ورزايا وما يجري عليه من محن ومصائب على مر الأيام وتطاول الدهور والأزمان، ونسأله تعالى تعجيل الفرج له ولنا بظهوره الشريف ولجميع المؤمنين وهو أرحم الراحمين.
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)