الإجابة: بسم الله الرحمن الرحيم
لابد أن نعلم أن كل صفات الكمال هي مختصة بالله (عزَّ وجلَّ) وليس صفة العلم بالغيب فقط، فالله تعالى هو الخالق وهو الغني وهو المحيي وهو المميت وهو الهادي وهو العزيز، وهكذا إلى بقية هذه الصفات التي يختص الله تعالى بها دون غيره من المخلوقين، ومعنى أن الله تعالى يختص بتلك الصفات أي يستقل بها وتجب له لكمال ذاته وقدرته، ولكن هذا لا يمنع أن الله تعالى يفيض بعطائه وكرمه على بعض عباده لسبب من الأسباب، ولا يُشكِّل ذلك قدحاً في توحيد الله (عزَّ وجلَّ) أو يلزم من ذلك الشريك له (تعالى عن ذلك علواً كبيراً)، ولذلك نجد في الوقت الذي ينسب القرآن الكريم صفة الخالقية والرازقية لله تعالى فقط، كما في قوله (عزَّ وجلَّ) ﴿هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ﴾، نرى في آية ثانية ينسب صفة الخلق إلى عيسى (عليه السلام): ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾، وفي الوقت الذي ينسب صفة العلم لله تعالى فقط وينفيها عن غيره، كما في قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ نرى في آية أخرى يصف بعض عباده بالعلماء ﴿إِنَّما يَخْشَـى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ﴾، وفي الوقت الذي ينسب الغنى لله تعالى فقط ويثبت الفقر لجميع خلقه كما في قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ﴾، نرى في آية أخرى ينسب الإغناء لنبيه المصطفى (صلّى الله عليه وآله): ﴿وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
مع ملاحظة مهمة ينبغي الالتفات إليها وهي أن إثبات هذه الصفات لغيره تعالى لا يصحح إطلاق تلك الألفاظ على غيره تعالى، فلا يقال إن عيسى (عليه السلام) كان خالقاً أو أن الإمام المعصوم (عليه السلام) عالماً بالغيب أو أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) هو الغني، فإن هذا يتنافى مع أدب العبودية، بل قد يُستظهر منه الشريك له تعالى، ولذلك منع الأئمة (عليهم السلام) إطلاق هذه الألفاظ عليهم على نحو الإطلاق والاستقلال.
فقد روى المفيد عن ابن المغيرة، قال: كنت أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن عند أبي الحسن (عليه السلام) فقال له يحيى: جعلت فداك، إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب، فقال: سبحان الله، ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت شعرة فيه ولا في جسدي إلّا قامت، ثم قال: لا والله ما هي إلّا وراثة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله). [الأمالي للشيخ المفيد: ص٢٣]
وجاء في نهج البلاغة أن أحدهم سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك (عليه السلام)، وقال للرجل وكان كلبياً: يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم. [نهج البلاغة: ج٢، ص١٠]
وبعد هذا البيان يكون الأمر واضحاً لديكم أن كل هذه الصفات الكمالية ثابتة لله تعالى وحده لا شريك له بذلك، ولكن لا يتنافى أن الله تعالى يفيض بعطائه ويعطي الغير بمنه وكرمه وبالمقدار الذي يأذن الله تعالى به لأوليائه من دون أن يشابهوه بصفة الإطلاق والاستقلال، فإن ذلك مختص له تعالى فقط، وقد روى الصدوق في قصص الأنبياء عن بريد القصراني عن الإمام الصادق (عليه السلام): صعد عيسى (عليه السلام) على جبل بالشام يقال له أريحا، فأتاه إبليس في صورة ملك فلسطين فقال له: يا روح الله أحييت الموتى وأبرأت الأكمه والأبرص، فاطرح نفسك عن الجبل، فقال عيسى (عليه السلام): إن ذلك أُذِنَ لي فيه، وهذا لم يؤذن لي فيه. [بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج١٤، ص٢٧١]
ومسألة رؤية المعصومين لأعمال العباد واطِّلاعهم على ذلك يأتي في نفس هذا السياق الذي أوضحناه ونحن على كل حال لا نعلم طبيعته وكيفيته لأنه لا يجري بحسب الوسائل المادية المتعارفة عند الناس حينما يريدون أن يطَّلعوا على أعمال غيرهم، سواء من خلال القراءة أو مشاهدة التلفاز وإلّا لاحتاج الأمر إلى فترة زمنية طويلة جداً للتعرف على أعمال إنسان واحد فكيف إذا كان الأمر متعلقاً بأعمال جميع العباد، ونظير ذلك ما يحكيه لنا القرآن الكريم عن يوم القيامة وكيف أن الإنسان هناك بنظرة واحدة إلى كتاب أعماله يستطيع أن يعلم أن هذا الكتاب قد أحصى عليه جميع أعماله من دون أن يتخلف عنه شيء من تلك الأعمال، يقول (عزَّ وجلَّ): ﴿وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها﴾ على أن الإنسان لو أراد أن يسجل سيرته كلها ويدوِّنها في كتاب من هذه الكتب المتعارفة والتي تُكتب بالحروف والكلمات لاحتاج إلى مئات وآلاف المجلدات وكل مجلد منها يحتاج عدة أيام لقراءتها، ومن هنا نقول إن طبيعة هذه الرؤية التي يعطيها الله تعالى للمعصومين (عليهم السلام) مجهولة بالنسبة إلينا وإنما نحن نصدقها ونعتقد بها تبعاً للأحاديث الشريفة، نعم ورد في الروايات أن للإمام المعصوم (عليه السلام) عموداً من نور أو مصباحاً إذا نظر إليه أتاح له ذلك المعرفة والاطلاع على أعمال الخلق، كما جاء في رواية البصائر عن خالد الجوان عن أحدهما (عليهما السلام) قال: فإذا قضيت إليه الأمور رفع له عمود من نور يرى به أعمال الخلائق. [بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص٤٥٤]، وفي رواية يونس عن الإمام الصادق (عليه السلام): وجعل له مصباح يرى به أعمالهم. [بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص٤٥٤]
ولأجل ذلك وردت عديد الروايات التي تفسر قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ بأن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وخلفاءه المعصومين (عليه السلام) يرون أعمالنا ويشاهدونها ولا يغيب عنهم منها شيء، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): قوله: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾. قال: هم الأئمة، تُعرض عليهم أعمال العباد كل يوم إلى يوم القيامة. [بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص٤٤٧]
وهذا المعنى يشمل إمام زماننا المهدي (عجّل الله فرجه) فيطلعه الله تعالى على أعمالنا أيضاً كما يطلع بقية المعصومين (عليه السلام)، فقد ورد في كتابه إلى الشيخ المفيد (رحمه الله) الذي نقله الطبرسي في الاحتجاج قوله (عجّل الله فرجه): نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم... . [الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج٢، ص٣٢٣]
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)