آية الله العظمى الشيخ محمد اسحاق الفياض
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأفضل بريته محمد وعترته الطاهرين .
يتوجه الملايين من أبناء الأمة الإسلامية في الأيام المقبلة القليلة إلى مدينة كربلاء المقدسة لأحياء ذكرى أربعينية الإمام الحسين عليه السلام ليستلهموا أعظم الدروس وأحسن العبر، وليجددوا العهد مع إمامهم عليه السلام على السير في دربه والاهتداء بهديه والتمسك بمنهجه المقدس، فإن (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة)، فعظم الله أجور المؤمنين وأحسن لهم العزاء وجعل ثوابهم يوم القيامة رفقة الحسين عليه السلام في أعلى عليين إن شاء الله تعالى.
إن زيارة الأربعين من الزيارات العظيمة والمناسبات المقدسة التي تمسك بها المؤمنون وداوم محبوا أهل البيت على إحيائها منذ استشهاد الإمام الحسين عليه السلام إلى يومنا الحاضر بإصرار عجيب وبعزيمة مذهلة رغم كل محاولات المنع ووسائل القمع التي مارسها العديد من الطغاة وأشرار الخلق لقطع الطريق على الزائرين لأجل القضاء على هذه الشعيرة الإيمانية المباركة، ومن تلك الممارسات حرث موضع القبر، وفتح السيل عليه لإخفائه، ودرس معالمه ومن تقطيع الأيدي وبتر الأعضاء، وفرض الضرائب الكبيرة على الزائرين، وغير ذلك من المحاولات اليائسة التي أرادوا أن يطفئوا بها نور الله تعالى ويعتموا على نصره المؤزر، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فإن الأجيال قد استلمت نصر الحسين عليه السلام وحملته في حناياها ليصبح الزحف إلى كربلاء يوم الأربعين علامة من علامات المؤمن وسمة تميزه على الآخرين، فإن ثورة الحسين عليه السلام امتدت لتسري إشعاعاتها الباهرة إلى كل الأرواح التائقة إلى التحرر والسمو، ولتحضر في صراع الخيرين ونضالهم المرير ضد قوى الظلام والانحراف في كل مكان وزمان، فثورة الحسين منهج للاستقامة وتقويم للانحراف وتمسك بالشريعة الإسلامية الغراء، فإن (الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء)، وهذا هو معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (حسين مني وأنا من حسين) أي بقاء شريعتي واستمرارها من الحسين عليه السلام.
وأنه لخطأ كبير إن تفهم الثورة الحسينية بغير هذا المعنى الأصيل كما هو حاصل فعلاً في العديد من الأوساط، وأنه لمن المؤسف جداً أن تختزل كل تلك المعاني السامية ويضيق ذلك الطريق الواسع كما عبر عنه الإمام الصادق عليه السلام حينما قال (نحن سفن النجاة ولكن سفينة جدي الحسين أوسع) ليصبح هذا الطريق الواسع مجرد مجموعة من الشعائر والطقوس التي أعتاد الناس على ممارستها في هذه المناسبة العظيمة، ونحن لا نستنكر على هذه الطقوس، ولا نمنع من إقامتها، ولكن ما نرفضه ونستنكره أشد الاستنكار أن تختزل الاستفادة من ثورة الحسين في هذه الطقوس فحسب، وأن تتجسد تضحيات الحسين عبر هذه الممارسات فحسب، لا سيما وإن الكثير ممن يمارس هذه الشعائر بعيدُ كل البعد في واقع حياته عن حقيقة النهج الحسيني والالتزام بتعاليم الشريعة المقدسة، فإننا نرى العديد ممن يأتون إلى زيارة الحسين عليه السلام وهم لا يصلون، أو لا يصومون شهر رمضان، أو ممن يرتكبون المحرمات كالغيبة والكذب وسوء الخلق وإيذاء الآخرين وغير ذلك من الانحرافات والسلوكيات المحرمة التي حاربها الحسين وضحى بحياته الشريفة من أجل القضاء عليها.
إن هؤلاء في الواقع لم يفهموا حقيقة الثورة الحسينية ولم يلامسوا جوهرها الوضاء، لأن صراع الحسين عليه السلام كان صراعاً شاملاً ضد كل شكل من أشكال الظلم والفساد ومناهضاً لأي نوع من أنواع الانحراف، وإن ثورة الحسين منهج متكامل ودستور قيم، وعلى كل من أراد الوصول إلى رضا الله تعالى أن يتمسك به ويلتزم بمفرداته حرفياً، و إلا فإن من لم ينتهج نهج الحسين لا يمكن أن نتصوره إلا فاسداً منحرفاً عن الطريق المستقيم، وان من فاته أن يختار معسكر الحسين عليه السلام فليلتحق الآن و إلا فإنه سيكون في معسكر يزيد لا محالة، فمن جاء إلى الزيارة وهو تارك لبعض الواجبات فليغتنم هذه الفرصة ويعلن توبته ليلتحق فعلاً بمسيرة الحسينيين، ومن كان يرتكب المحرمات قبل اليوم فليقف صادقاً أمام الحسين عليه السلام في درب كربلاء المقدس ليعلن براءته من معسكر يزيد، معسكر الخطايا والانحراف، وليلتحق بركب الحسين عليه السلام ركب الاستقامة والصلاح، فإن الحسين عليه السلام إنما خرج طلباً للإصلاح وتقويم الاعوجاج في دين جده. كما ورد في مقولته الشهيرة.
إذاً فلينتبه الزائرون الحسينيون أيدهم الله تعالى إلى إن الالتزام بتعاليم الشريعة والتطبيق الكامل للمنهج الإسلامي المقدس هو الهدف الحقيقي لثورة الحسين وهو الغاية التي ضحى من اجلها كل تلك التضحيات العظيمة.
وتظل هنا كلمة أخيرة نوجهها إلى رجال الدين وخطباء المنبر الحسيني، نرجو بها صلاح الأمة وتغيير الحال ونأمل منهم أعزهم الله تعالى أن يأخذوها بنظر الاعتبار ويلتزموا بها قربة إلى الله تعالى، فنحن في هذه المرحلة بحاجة ماسة إلى دعاة مخلصين واعين يأخذون على عاتقهم مسؤولية رعاية الجماهير وتحصينهم عقائديا وفقهيا وأخلاقيا، فإنقاذ الناس وتبيان ما يبرئ ذمتهم يوم القيامة أمانة في أعناقنا وواجب شرعي ينبغي أن لا نتهاون فيه أبدا، لذا ينبغي على رجال الدين أيدهم الله تعالى أن يكسروا الحواجز، ويتخطوا الموانع التي وضعها الشيطان وأعوانه بينهم وبين عامة الناس، وليختلطوا معهم ويتواضعوا لهم ويتلطفوا في معاملتهم فيجلسوا في مجالسهم، ويهتموا بقضاياهم، وبالخصوص في ما يتعلق بالأحكام الشرعية، وتبيان الحلال والحرام، فان زيارة الأربعين فرصة عظيمة للتداخل مع الناس، وإيصال التعاليم المقدسة إليهم بسهولة ويسر عبر جلسات الاستراحة وفي دقائق ولو قليلة ما بين الصلوات، وحتى في جلسات الإطعام، وأثناء السير في الطريق، فان ذلك كله هو حقيقة المنهج الحسيني، وهو الأثر النوراني لثورة الحسين عليه السلام .أسال الله تعالى أن يجعلنا من السائرين على درب الحسين والمتمسكين بمنهجه والطالبين بثأره بحق محمد وآله الطاهرين. السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين عليه السلام.