انتفاضة صفر.. ديمومة عاشوراء
نـزار حيدر
لا أدري ان كان طاغوت آخر حارب قضية الإمام الحسين السبط (عليه السلام) عبر التاريخ كما حاربها الطاغية الذليل صدام على مدى نيف وثلاثين عاما، فلقد بذل الطاغية كل ما بوسعه من أجل اسدال الستار على ذكرى عاشوراء وبكل ما يتعلق بها من قريب أو بعيد، تارة بذريعة الحضارة على اعتبار ان الشعائر الحسينية مخالفة للتقدم الحضاري، وكأن المقابر الجماعية والانفال وحلبجة من معالم الحضارة الحديثة.
وتارة باسم التقشف الاقتصادي على اعتبار ان الشعائر الحسينية تكلف خزينة الناس اموالا طائلة العراق بأمس الحاجة اليها من اجل تحقيق النهضة الحضارية، وكأن تخصيص (٧٠%) من ميزانية الدولة كل عام للأغراض العسكرية ولأغراض الامن وما يتعلق بها من سجون واجهزة تعذيب وغير ذلك من صميم النهضة الاقتصادية، أو كأن الحروب العبثية ضد شعبنا الكردي في الشمال وضد الجارتين ايران والكويت توفر على الخزينة الاموال الطائلة وتساهم في تحقيق النهضة الاقتصادية، وتارة باسم المجهود الوطني القاضي إلى الارتقاء بالتعليم والثقافة عند الشعب العراقي، على اعتبار ان الشعائر الحسينية تتناقض والثقافة والمعرفة، وكأن سياسات تكميم الافواه ومنع الناس من الاطلاع على اخبار العالم وتحويل العراق إلى قفص حديدي لا يخرج منه خبر ولا يدخل اليه خبر، وحملات تزوير التاريخ، من صميم الثقافة والمعرفة.
وهكذا ظل الطاغية ونظامه العفن يحارب الشعائر الحسينية بكل طريقة ووسيلة، لدرجة انه ابتكر في أواخر أيامه ظاهرة الأعراس الجماعية في يوم العاشر من المحرم تطوف في شوارع مدينة كربلاء المقدسة في مظهر من الفرح والسرور مصحوبة بفرق الرقص والغناء، في مسعى منه لإسقاط هيبة عاشوراء في قلوب ونفوس الناس، ولقد قسط النظام الشمولي حربه ضدها من أجل ان لا يواجه ثورة الراي العام ضده، ومن أجل ان يظل مسيطراً على مفاصل الحياة العامة، ولذلك بدأ حربه ضد الشعائر الحسينية بالتقسيط المريح رويداً رويدا، يساعده في ذلك جوقة وعاظ السلاطين واصحاب الأقلام المأجورة ومن خلفهم عدد كبير من مخلفات اليسار الذي ظل يبتلع طعم الحزب الحاكم مدة طويلة من الزمن.
وكان من مفاصل حرب النظام ضد شعائر الحسين الشهيد (عليه السلام) انه منع مسيرة الأربعين التي أعتاد عليها العراقيون في ذكرى أربعين الإمام والتي تصادف في العشرين من صفر من كل عام.
الا ان العراقيين كانوا أوعى من النظام والاعيبه وأساليبه الخبيثة، فقرروا التصدي لقرار المنع الذي اتخذه النظام في عام ١٩٧٧، عندما أصدر اوامره الصارمة بمنع مسيرة الأربعين في ذلك العام والحيلولة بكل وسيلة ممكنة دون وصول زائر واحد إلى كربلاء مشياً على الأقدام.
وتحدياً لهذا القرار الجائر تجمع أهالي مدينة النجف الأشرف النجباء ومعهم الجموع الغفيرة التي توافدت على المدينة وانطلقوا بمسيرة راجلة عظيمة ومهيبة صوب مدينة أبي الأحرار الإمام الحسين السبط الشهيد (عليه السلام) كربلاء المقدسة.
ولان النظام اعتبر المسيرة تحدياً صارخاً لقرار المنع، فقد قرر التصدي لها بكل ما أوتي من قوة، تمثلت بالطائرات والدبابات والقوة العسكرية الضخمة التي لم يفكر في يوم من الأيام ان يسير، بتشديد الياء الثانية وكسرها، مثلها إلى أي عدو للعراق ولـ(الأمة العربية) كاسرائيل مثلاً.
انتهت المسيرة بين شهيد ومعتقل ومطارد فيما وصلت بعض بقايا المسيرة إلى مرقد سيد الشهداء ليلقي عليها النظام القبض بالحيل والمصائد التي وضعها في طريق من وصل ليلتقطهم الواحد تلو الآخر.
لقد عرف النظام الشمولي البائد جيداً ان الظلم وعاشوراء نقيضان لا يجتمعان، ولأنه كان يخطط لأحكام قبضته الحديدية على العراق بسياسات ظالمة تبدأ بالتمييز الطائفي والعنصري ولا تنتهي بمطاردة الشرفاء وتكميم الأفواه وقمع المعارضة، لذلك فكر أولاً في ان يقضي على الجذوة التي تشعل التمرد على الظلم في نفوس العراقيين، وهي ليست الا عاشوراء وذكرى الطف وتضحيات أبا الأحرار وسيد الشهداء الحسين بن علي السبط، فقرر أن يقضي على كل ما يمت بالذكرى من صلة ليقضي على روح الثورة، ليصفو له الجو فيحكم كيف يشاء وبأية طريقة ووسائل يريد.
فجاءت انتفاضة صفر المظفر العظيمة في العام ١٩٧٧ لتجدد روح عاشوراء وقيم كربلاء وتضحيات الحسين السبط وأهل بيته وصحبه الميامين، ولذلك يمكن اعتبار الانتفاضة على انها ديمومة عاشوراء على قاعدة {كل يوم عاشوراء، وكل ارض كربلاء} فلازال هناك ظلم في زمن ما وفي أرض ما، يجب ان تتجدد عاشوراء بقيمها وتضحياتها، لتأخذ على يد الظالم وتوقفه عند حده وتجدد روح الثورة والتمرد على الظلم في نفوس المظلومين.
وفي ذكرى انتفاضة صفر الظافرة، أود هنا، كشاهد عليها شارك في مشاهدها منذ البداية وحتى النهاية، أود ان أسجل الحقائق والمقترحات التالية:
أولاً: ان الانتفاضة هي أول تحدي شعبي جماهيري عام للنظام الديكتاتوري البائد، فهي اذن حولت المواجهة مع النظام من العمل الحزبي النخبوي إلى العمل الجماهيري، ولذلك فإنها المفصل في عملية التحدي والتغيير.
ثانياً: انها أول دماء تراق على الأرض في مواجهة شعبية في وضح النهار، وبذلك تكون الانتفاضة قد نقلت وقود الثورة وعملية التغيير من السجون المظلمة إلى الشارع وأمام مرأى ومسمع الراي العام.
ثالثاً: ولأول مرة يكتشف النظام الديكتاتوري مدى حجم الرفض الشعبي لسياساته الرعناء التي تعتمد على تكميم الأفواه وعلى التضليل، فيما نبهت العراقيين كذلك إلى حجم الظلم الواقع عليهم ليستعدوا لمواجهته.
رابعاً: كما ان الانتفاضة كانت سبباً لوقوع الخلاف والاختلاف في صفوف النظام البائد وقياداته وأزلامه، فكلنا يتذكر الموقف الانساني الذي وقفته بعض قيادات النظام آنذاك عندما رفضت التصديق على أحكام الإعدام التي أصدرتها المحكمة الصورية الخاصة التي شكلها الطاغية الذليل صدام شخصياً لمحاكمة من شارك في الانتفاضة، هذا الموقف الذي دفعت ثمنه تلك القيادات آجلا بالقتل بعد ان تمت تصفيتهم من قيادة الحزب الحاكم والدولة عاجلاً.
كما اكتشف النظام بالانتفاضة ان كل أساليبه التي تعتمد الدعاية والتضليل لم تمض بالعراقيين الذين أثبتوا بأنهم على وعي كامل بما يحيكه النظام من سياسات ظالمة يراد بها اسكات الصوت الحر لهذا الشعب الأبي.
ولولا تلك التضحيات الجسام التي قدمها العراقيون على طريق ذكرى واقعة الطف العظيمة، لما شاهدنا اليوم كل هذا الزحف المليوني إلى مرقد سيد الشهداء (عليه السلام) في كربلاء المقدسة.
انه الثمن الذي لابد أن يدفعه أي شعب ينشد العيش بحرية وكرامة، وصدق الشاعر عندما قال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
هذه بعض الحقائق، أما المقترحات، فهي كما يلي:
أولاً: تكريم الذكرى بكل وسيلة ممكنة، بالنصب التذكارية والمهرجانات الشعرية والندوات الثقافية والأعمال الدرامية والمسرحية والفنية بكل أشكالها، وغير ذلك، حتى لا ينسى العراقيون ما حصل في ذلك اليوم العظيم، ومن أجل ان يطلعوا على الثمن الذي قدمه الشهداء فيما مضى من الأيام من أجل هذا اليوم الأغر، فمن يجهل الثمن يفرط بالإنجاز، ومن لا يعرف شيئاً عن الماضي لا يقدر الحاضر، ومن ينسى التاريخ يستخف بالمستقبل فلا يعيره شيئاً يذكر.
ثانياً: تكريم شهداء الانتفاضة، كذلك، بكل وسيلة ممكنة، بإطلاق أسمائهم على الشوارع والمدارس والحدائق العامة وعلى قاعات الفن والثقافة وعلى قاعات الجامعات والمنتديات الثقافية، وغير ذلك.
وهنا لا يسعني الا أن أتذكر الشهيد البطل (عباس أبو بسامير) الذي كان زميلاً لي في الجامعة، فهو كان صاحب الراية في الانتفاضة، والتي كان قد خط عليها عبارة (يد الله فوق أيديهم) حافظ عليها واحتفظ بها حتى آخر قطرة دم نزفت من جسده الطاهر إذ ظل يحملها ويتمسك بها طوال الطريق إلى ان أصابته رصاصة غدر من أزلام النظام البائد لترديه شهيداً إلى جنان الخلد، فسلام عليه وعلى شهداء الانتفاضة يوم ولدوا ويوم جاهدوا في سبيل الله ويوم استشهدوا ويوم يبعثون أحياءً في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ثالثاً: تعويض أسر الضحايا أسوة ببقية أسر الشهداء الأبرار الذين ضحوا من أجل العراق والدين والقيم، فلولا تضحياتهم لما تنعمنا نحن العراقيون اليوم بنعمة الحرية والكرامة وحرية الاختيار.
رابعاً: ادخال قصة الانتفاضة في المناهج الدراسية بطريقة أو بأخرى، سواء في مادة التاريخ أو في مادة التربية الوطنية أو ما إلى ذلك، لتبقى حية في ذاكرة الزمن، تتناقل بطولاتها الأجيال.
ان الشعوب الحية تخلد أبسط الحوادث الثورية التي تضحي فيها بقطرة دم واحدة، فتراها تقرأ عنها في مناهجها التعليمية وفي كتب التاريخ وفي المكتبات العامة، فلماذا لا نفعل نحن بذكرياتنا كما تفعل تلك الشعوب؟ أو ليست انتفاضة صفر واحدة من تلك الأحداث الثورية العظيمة التي سطر العراقيون تفاصيلها بالدم والدموع، بالشهداء والسجناء والأرامل والأيتام والامهات الثكالى؟ فلماذا نتجاهلها ليطويها النسيان بين صفات التاريخ؟ لماذا لا يدرسها أبناءنا في المدارس ولا يقرؤون عنها في الكتب ولا يستذكرونها على صفحات الجرائد وملحقاتها الأسبوعية ومن على الشاشة الصغيرة؟.
لماذا لا يبادر الإعلام الوطني إلى احياء الذكرى بريبورتاجات خاصة، يتحدث فيها الشهود وأسر الضحايا؟ لماذا لا يسجل اعلامنا الوطني تفاصيل الحدث على لسان من شارك فيه وصنعه؟.
كم اتمنى ان تسنح لي الفرصة يوماً ما لأدون كل ما أعرفه عن هذه الانتفاضة العظيمة التي أعدها شخصياً شعلة نور في سماء العراق وتاريخه الثوري المتألق.
خامساً: أتمنى ان تتقدم أسر الضحايا ومن حكم عليه بالسجن آنذاك، بملف القضية إلى المحكمة الجنائية الخاصة لإدراجها ضمن جرائم النظام البائد، ليكتشف الراي العام مدى حجم الجريمة التي ارتكبها النظام بحق العراقيين آنذاك، ومحاكمة النظام كمجرم حرب في حال غاب المجرمون الذين شاركوا في تنفيذ الجريمة، فان نظاماً يحشد كل هذه القوة العسكرية المدمرة ضد شعب أعزل أراد ان يعبر عن امتعاضه من قرارات جائرة تمس حرية الدين والتعبير، يستحق ان يكون أمثولة للآخرين.
ان اللسان ليعجز والقلم ليجف عند الحديث عن هول المجزرة التي ارتكبها النظام بحق المشاركين في الانتفاضة، فعلى الرغم من انها كانت حركة شعبية عفوية وسلمية لا تحمل اي نوع من السلاح لا الناري ولا الابيض، الا ان النظام البائد واجهها بكل أنواع السلاح الثقيل المدعوم بالطائرات التي ظلت تحلق في السماء فوق رؤوس الناس.
لقد اتخذ الجيش العراقي وقتها حالة الحرب على طول الطريق بين العاصمة العراقية بغداد ومدينة كربلاء المقدسة، وعلى جانبي الطريق، فحفر الخنادق لتستقر بها الدبابات وكل انواع الاسلحة الثقيلة، بين الخندق والاخر عشرة امتار فقط، وقد جلس الجنود في دباباتهم بكامل زيهم الحربي وبكامل الاستعداد، فيما اعلن النظام حالة الاحكام العرفية في مدينتي كربلاء المقدسة والنجف الاشرف، بعد ان حولهما إلى ثكنات عسكرية.
ولقد تسامى في الطريق بين كربلاء والنجف عدد من الشهداء الابرار، بعضهم سحقتهم الدبابات والمجنزرات العسكرية، فيما استشهد عدد آخر بأحكام الاعدام التي اصدرها النظام البائد بحقهم في محكمة صورية غاب عنها الدفاع وكل حقوق المتهم، اما السجون والمعتقلات فقد اكتظت بالأبرياء، فيما حكم على عدد منهم بالسجن المؤبد كان من بينهم الشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم وآخرون.