النجف الأشرف.. ركيزة مراسيم أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)
د. علي المؤمن
مسيرة المشاة السنوية إلى مرقد الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) في ذكرى أربعينيته؛ هي ممارسة شرعية، ومنتجة في آثارها ومخرجاتها، وعظيمة في تأثيرها وشكلها ومضمونها.
لقد بدأت المسيرة بشكلها المنتظم الحديث في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي؛ بأفراد ينطلقون من مدينة النجف الأشرف إلى مدينة كربلاء المقدسة مشياً على الأقدام لمدة أربعة أيام؛ بمعدل ٢٠ كيلومتراً في اليوم.
تبدء المسيرة في يوم ١٦ صفر؛ حيث ينطلق الزوار المشاة في صباحه من النجف الأشرف إلى خان المصلى (خان الربع)، ويبيتون الليلة هناك. وفي يوم ١٧ صفر ينطلقون من خان المصلى إلى خان الحماد (خان النص في ناحية الحيدرية حالياً)، ويبيتون ليلتهم فيه. وفي يوم ١٨ صفر ينطلقون من خان الحماد إلى خان النخيلة (خان الثلاثة أرباع)، ويبيتون ليلتهم فيه. وفي يوم ١٩ صفر ينطلقون من خان النخيلة باتجاه مدينة كربلاء، ويبيتون الليلة في كربلاء بجوار مرقد الإمام الحسين. وفي صبيحة الـ ٢٠ من صفر يقوم النجفيون بالاشتراك مع مواكب المدن العراقية وغير العراقية الأخرى بإحياء المراسيم النهائية لذكرى أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام).
جدير بالإشارة إلى ان الخانات هي ثلاثة مباني قديمة تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين؛ وتقع في الطريق بين مدينتي النجف الأشرف وكربلاء، وتفصل بينهما مسافات غير متساوية؛ ولكن معدل المسافة بين كل خان وآخر هو ٢٠ كيلومتراً؛ إذ تبلغ المسافة من مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف إلى مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء حوالي ٧٥ كيلومتراً. وهذه الخانات بنيت خصيصا كأماكن لاستراحة الزائرين القادمين من النجف إلى كربلاء وبالعكس. كما كانت تستخدم أحيانا كمقرات عسكرية لحماية الزوار والمنطقة من قطاع الطرق والعابثين بالأمن. وبقيت هذه الخانات تستخدم للغرض نفسه حتى العام ١٩٧٩؛ حين أقدم النظام البعثي على منع مسيرة المشاة من النجف إلى كربلاء نهائياً؛ فتعرضت الخانات إلى الإهمال والتخريب بمرور الزمن. ولاتزال اليوم شبه مهجورات؛ بعد أن أخذت مئات المباني الحديثة والحسينيات والمخيمات المتراصة من النجف إلى كربلاء محلها في خدمة الزوار.
في صباح يوم الـ ٢٠ من صفر؛ الذي يصادف ذكرى أربعين استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)؛ يدخل المشاة إلى مرقده؛ معزين بالذكرى الأليمة، ومواسين الإمام علي بن الحسين السجاد والسيدة زينب بنت الإمام علي وأرامل وأيتام آل البيت الذين وصلوا في مثل هذا اليوم إلى كربلاء قادمين من عاصمة يزيد بن معاوية (دمشق الشام) ومعهم رأس الإمام الحسين (عليه السلام) ليدفنوه مع جثمانه الطاهر.
وكانت هذه المراسيم التي أحياها الإمام زين العابدين والسيدة زينب ومن معهما في عام ٦١ للهجرة هي التي أسست لمراسيم ذكرى أربعينية الإمام الحسين سنويا. وكان معهم أفراد من الصحابة والتابعين وبعض القاطنين قرب كربلاء؛ أهمهم جابر بن عبد الله الأنصاري.
وإذا كانت مراسيم إحياء ذكرى أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) بشكلها الحديث؛ أي السير على الأقدام من مدينة النجف الأشرف إلى مدينة كربلاء؛ قد بدأت بمبادرة أفراد من النجف قبل حوالي ١٥٠ عاماً؛ فإنها تطورت إلى جماعات بالمئات في أوائل القرن العشرين، واستمرت بحشود بعشرات الآلاف في أواسط القرن العشرين الميلادي. وها هي تصل هذا إلى ٢٠ مليون مشارك في أكبر مسيرة راجلة متعددة الجنسيات عرفتها وتعرفها البشرية في تاريخها وجغرافيتها. هذا العدد الهائل الزاحف عبر طرق متعددة تمتد.
بمجموعها إلى أكثر من ٢٠٠٠ كيلومتر داخل العراق، وحشود تنتمي إلى أكثر من ٧٠ دولة؛ لم تنظمها جهة أو حكومة، ولم تصرف على طعامها وشرابها وسكنها وتداويها ونقلها أية جهة أو حكومة.
صحيح إن الدولة العراقية بعد عام ٢٠٠٣ تسهر بقواتها المسلحة ودوائرها المدنية على حماية المراسيم، وتدافع عن مشروعيتها داخل مؤسسات الدولة، وتدعمها لوجستياً أحياناً؛ بل ويشارك معظم مسؤوليها في هذه المراسيم؛ كسائر المواطنين؛ إلّا أن الأهالي المشاركين في المسيرة؛ سواء المشاة أو القائمين على خدمتهم؛ لا يقبضون من الدولة العراقية وأية دولة أو جهة أخرى أي دعم مالي أو عيني.
وقد وصل عدد هيئات الخدمة ومواكبها في الطريق بين النجف وكربلاء وحدها إلى حوالي ٧٠٠٠ (سبعة آلاف) هيئة. ويصل العدد إلى عشرين ألف هيئة وموكب وحسينية في طرق العراق الأخرى؛ ولاسيما في مناطق الفرات الأوسط والجنوب والغرب والعاصمة بغداد. وربما يبلغ حجم الإنفاق الأهلي على مراسم الأربعينية الحسينية خلال خمسة يوماً؛ ما يقرب من نصف مليار دولار؛ يتحمل أهالي النجف الأشرف ١٠ بالمائة منها؛ أي ما يقرب من ٥٠ مليون دولار.
وقد انتفض النجفيون ضد نظام البعث الحاكم مرتين حين منعهم من أداء مراسيم المسيرة الراجلة؛ الأولى في العام ١٩٧٦، وكانت انتفاضة صغيرة ومحدودة، والثانية في العام ١٩٧٧، وهي الانتفاضة النجفية الصفرية الكبرى، وفي كلا الانتفاضتين كان النجفيون عزّل من السلاح، وكانوا يعلمون إن الخروج في مسيرتهم السلمية الدينية الصرفة؛ يساوي الموت؛ ولكنهم لم يأبهوا للموت، وخرجوا بعشرات الآلاف لإقامة المراسم. وكانت نتيجة انتفاضتهم الكبرى في العام ١٩٧٧ تعرّض حوالي ٣٠ ألف شخص إلى الاعتقال. كما أعدم النظام البعثي عشرة من قادة الانتفاضة، وحكم على العشرات من المشاركين في الانتفاضة بالسجن المؤبد أو السجن لمدد مختلفة.
ويعبر النجفيون عن انتفاضتهم التاريخية الصفرية الكبرى بأنها نموذج مشرق لتطبيق مفهوم هوان الدنيا من أجل خط آل البيت (عليهم السلام). ويعتقدون أن من عاش لذة هذا العشق والتحدي والفداء في أيام النظام البعثي؛ ولا سيما الفترة من صفر عام ١٩٧٦ وما بعدها؛ هو الذي يعي ما يعنيه مفهوم هوان كل شيء من أجل آل البيت (عليهم السلام).