نبذة عن زيارة الأربعين والصدامات الدامية مع النظام المقبور
الشيخ جواد محدثي
الأربعين، هي ذكرى مرور أربعين يوما على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام الذي ضحى بنفسه وبأنصاره في سبيل الدين. وتكريم ذكرى الشهيد وإقامة أربعينه، إنما هو أحياء لاسمه ولمنهجه وطريقة. وإحدى طرق التكريم وإحياء الذكرى هي زيارة الإمام الحسين في اليوم الأربعين لاستشهاد والتي تصادف يوم العشرين من شهر صفر ولها فضيلة كبيرة.
قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: (علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين…) (بحار الأنوار ٩٨: ٣٢٩ (طبعة بيروت)، المزار للشيخ المفيد: ٥٣). وزيارة الأربعين التي يستحب قراءتها في هذا اليوم ـ أي يوم الأربعين ـ تبدأ كما يلي: (السلام على ولي الله وحبيبه…) وهذا النص منقول عن صفوان الجمّال عن الإمام الصادق عليه السلام.
الزيارة الأخرى هي التي قرأها جابر بن عبدالله الأنصاري في مثل هذا اليوم والتي تقرأ في زيارة الإمام في منتصف شهر رجب، تبدأ بما يلي: (السلام عليكم يا آل الله…) (مفاتيح الجنان: زيارة الأربعين.
ذكر المؤرخون أن جابر بن عبدالله الأنصاري، وعطية العوفي وصلا إلى قبر الإمام الحسين عليه السلام في الأربعين الأولى من بعد مقتله وزارا ضريحه الشريف، بعد أن أغتسل جابر بماء الفرات ـ وكان قد ذهب بصره ـ وتطيّب وسار نحو القبر بخطوات قصيرة حتى وقف عليه ووضع يده عليه بمساعدة عطية، فأغمى عليه، ولمّا أفاق صاح ثلاث مرّات: يا حسين، ثم قال: (حبيب لا يجيب حبيبه…) وقرأ الزيارة، والتفت بعدها إلى سائر الشهداء وزارهم أيضا (منتهى الآمال ١، أحداث الأربعين، نفس المهموم: ٣٢٢، بحار الأنوار ٩٨: ٣٢٨).
الزيارة مشياً:
المحبة هي التي تجذب الزائر للمسير إلى مرقد الحسين عليه السلام مشيا على الأقدام، وتجعله يشتري الخوف والخطر ومشقّة الطريق بنفسه، فزيارة سيد الشهداء لها ثواب جزيل. وقد أكد عليها الأئمة. قال الصادق عليه السلام: (من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي عليه السلام إن كان ماشيا كتبت له بكل خطوة حسنة ومحا عنه سيئة…) (بحار الأنوار ٩٨: ٢٨، المزار للشيخ المفيد: ٣٠).
كان أحد الشيعة يزور الحسين في كلّ شهر وبشكل مستمر، ولكن العجز والشيخوخة منعته مرة عن الذهاب، ولما وصل في المرة اللاحقة بعد عدّة أيام من المسير على الأرجل وسلم وصلى صلاة الزيارة رأى في المنام أن الحسين يقول له: لم جفوتني وكنت لي بَرّاً؟ وهكذا يعكس مدى الأهمية التي يوليها الأئمة للزائر مشياً.
قال معاوية بن وهب، وهو من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام: أتيت الأمام الصادق جعفر بن محمد وهو في مصلاّه فجلست حتى قضى صلاته فسمعته وهو يناجي ربه ويقول: (اغفر لزوار قبر أبي الحسين بن علي صلوات الله عليهما، الذين أنفقوا أموالهم واشخصوا أبدانهم… فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وأرحم تلك الخدود التي تقلّبت على قبر أبي عبدالله، وارحم تلك العين التي جرت دموعها رحمة لنا. اللهمّ أني أستودعك تلك الأنفس، وتلك الأبدان حتى ترويهم من الحوض يوم العطش).
وهذه السُنة، سنّة الزيارة مشياً على الأقدام، كانت منذ زمن الأئمة ولا والت إلى يومنا هذا، ونُقل أن لها ثوابا لا يحصى. قال فاضل الدربندي: (أن الزيارة مشيا إما أن تكون عن فقر الزائر فهي دليل على عمق الشوق والمحبة، وإما أن الزائر يرى صغر نفسه أمام شمس العصمة والشهادة، ويتحمّل في سبيله ألم ومتاعب السفر ماشيا، وكلاهما أمر جليل) (أسرار الشهادة لفاضل الدريدي: ١٣٦. (الطبعة الحجرية)).
وفي العراق هنالك تقليد شائع منذ سنوات متمادية وهي أن الهيئات والمجاميع والقوافل، صغيرة وكبيرة، تنطلق في أيام خاصة من البصرة وبغداد، ومن النجف على وجه الخصوص متوجهة إلى كربلاء سيرا على الأقدام، ولا سيما في أيام الزيارة الخاصة كزيارة النصف من شعبان، والأول من رجب، وأيام عشرة محرم والأربعين حيث تكون أكثر أبهة ورونقا، ويختار أغلب الناس المسير بمحاذاة نهر الفرات الذي تكون فيه المسافة من النجف إلى كربلاء ١٨ فرسخا، وتستغرق عدة أيام، وكان يشارك في هذه القوافل السائرة مشيا إلى الزيارة علماء كبار من أمثال الميرزا النائيني، وآية الله الكمباني، والسيد محسن الأمين، والكثير من العلماء المعاصرين، وتجري في هذه الشعائر عادة نشاطات إعلامية ولقاءات مع القبائل، وتطرح فيها شعارات، وتُقرأ فيها المراثي.
وفي عهد الحكومة البعثية اتّخذت هذه المسيرات المهيبة، ولا سيّما بعد أن أخذت تسلك طريقا آخر غير الطريق المعروف بين نجف وكربلاء إلى جانب نهر الفرات، اتخذت طابع المعارضة للنظام العراقي. ووقعت في إحدى المسيرات في أيام أربعين الحسين عام ١٣٩٧ هـ صدامات عنيفة بين القوات البعثية والمجاهدين الشيعة وقوافل الزيارة على طول الطريق وفي حرم أبي عبدالله عليه السلام، وسقط فيها الكثير من القتلى والجرحى وصارت تعرف بـ (الأربعين الدامية).
مجزرة الأربعين الداميّة:
في العراق وخاصة في المناسبات الخاصّة يسير المعزّون باستشهاد الإمام الحسين على شكل قوافل ومجاميع صغيرة وكبيرة نحو كربلاء سيراً على الأقدام. وهذه المسيرة المقدّسة التي غالباً ما تقام بمشاركة علماء الدين ولا سيّما من جهة النجف صوب كربلاء قد تعرّضت عدّة مرّات للمنع أو القمع من قبل النظام البعثي في العراق. وحدثت إحدى هذه المسيرات في عام ١٣٩٧ للهجرة حين أعدّت الجماهير المعزّية منهجاً واسعاً لاستثماره إعلامياً وسياسيّاً ضد طاغوت العراق، إلاّ أن الحكومة اتّبعت أسلوب العنف ضد المشاركين في المسيرة على طول الطريق، وأمطرتهم بالرصاص من الأرض ومن الجو.
وقد وقعت أمثال هذه الحوادث في الأعوام ١٣٩٠ و١٣٩٥ و ١٣٩٦ هـ، في أيّام العاشر من محرّم وفي أيّام الربعين. إلاّ إنّ الانتفاضة الواسعة التي وقعت في عام ١٣٩٧ هـ لم يسبق لها مثيل من قبل، وقد شهدت النجف في ذلك العام حشداً جماهيرياً هائلاً انطلق من جوار مرقد أمير المؤمنين عليه السلام ووصل بعد أربعة أيّام من المسير إلى كربلاء، وقد عبّرت تلك المواكب بالشعارات والخطب طوال الطريق عن معارضتها للحكومة البعثية.
كان الهتاف المتواصل لتلك الجماهير هو شعار (أبد والله ما ننسى حسينا) إلاّ أنّ القوات الحكومية وضعت مختلف العراقيل لمنع وصول الزوّار إلى كربلاء وحصلت صدامات عنيفة وقع على أثرها عدد من الشهداء، وحين وصول الجماهير إلى كربلاء وقعت حوادث أكثر عنفاً، وقتل جماعة، وألقي القبض على آخرين. ودخلت الانتفاضة الشيعية في أربعين ذلك العام في سجل التاريخ. وصارت نقطة مضيئة ومصدر إلهام لمزيد من الحماس في السنوات اللاحقة.