مسيرة السبايا.. إماطة اللثام عن الزيف الإعلامي
محمد علي جواد تقي
شبكة النبأ: بعد تحقيق النصر العسكري في واقعة الطف لسنة ٦١ للهجرة، عقد ابن زياد اجتماعاً خاصاً في قصرة الإمارة، ضمّ شمراً وشبث بن ربعي، وعمرو بن الحجاج، تداولوا فيه كيفية إرسال عيال الإمام الحسين، عليه السلام، وما يعرف بـ (السبايا)، الى الشام، عاصمة الدولة الأموية، وتحديداً الى يزيد بن معاوية..؟.
هكذا الأعراف الجاهلية؛ حيث ترسل سبايا الخاسرين الى الملك أو رئيس القبيلة والسلطة العليا، وهي تضم أولاً: رؤوس القتلى من الجهة المقابلة، ثم حريمه والمتعلقين به، ليتحقق من تنفيذ الأوامر، ثم يسارع الذيليين والمتزلفين الى الفتات من الهدايا والجوائز والامتيازات...
لكن الأمويين كانوا يبيتون أمراً آخراً غير الظهور منتصرين، كما هو عهدهم في الجاهلية، إنما هم يقبضون بيد من حديد على مقاليد ومصائر الأمة من بعد النبي الأكرم وأهل بيته الإطهار، عليهم السلام. فليس لهم وثيقة حسن سلوك من الرسول الأكرم، أحسن من هتافه الشهير بوجههم: (اذهبوا انتم الطلقاء)، أما الأسوء، فهنالك الكثير، الكثير مما تنقله كتب السيرة والحديث. لأجل ذلك مهّد معاوية سلفاً، لتدارك هذه الثغرة الخطيرة، وذلك باستخدام سلاح الإعلام، في حدّه السلبي والهدّام، حيث التضليل والدعاية والإشاعة ضد أهل البيت، عليهم السلام، حتى تمكن الى حدٍ كبير من السيطرة على عقول وأذهان أهل الشام، آنذاك، وفصلهم عن رموزهم الدينية الحقيقية، بقيت بلاد وأمصار اسلامية أخرى بحاجة الى تغطيات دعائية وتضليلية مكثفة، برزت الحاجة اليها قبل وبعد واقعة الطف. فقد أشاع الأمويون، وبتأييد وشرعية من فقهاء السلطة والمال، بأن (الحسين، شقّ عصى المسلمين)..!.
وهكذا؛ كان موكب (السبايا) وسيلة أراد لها الأمويون أن تساعدهم على تكريس الحقائق المزيفة عما جرى في كربلاء يوم العاشر من المحرم سنة ٦١ للهجرة، لذا يقول المؤرخون أن ابن زياد اختار لقيادة الموكب ثلاثة من أشد رجال الكوفة فضاضة وقسوة، وهم: زجر بن قيس، وأبو بردة بن عوف، وطارق بن أبي ذبيان، وأمّر على الموكب، شمر بن ذي الجوشن. وقد تعمّد ابن زياد اختيار، خارطة الطريق – إن صحّ التعبير- تكون الأطول والأعسر على أهل البيت عليهم السلام، من أجل التعريف بهم بين أهل البلاد التي يمرون بها، على أنهم من بقايا الخارجين عن الطاعة، ومن ثم يوفّر على سيّده في الشام - يزيد- الشرعية لجريمته المهولة ضد الدين والانسانية.
وحسب المصادر فان ابن ذي الجوشن، كلما مرّ ببلد، سبق اليه موفد إعلامي – دعائي يروّج للموكب القادم على أنه يعود الى (رجل خارجي خرج على أمير المؤمنين..). فإن جازت الكذبة على القوم مرّ بالبلد، وإذا لم تجز، أو خيف من أهله وفطنتهم ووعيهم، مال منه، ولم يعرج عليه. وطالما مال الركب عن الطريق التي تسلكها الإبل، وخاصة البرية والرملية، خوفاً من غضب الناس واستنكارهم، لما يعلموا أن الركب يعود الى عترة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله.
هذه المحاولات لم تشفع للشمر ولا أكبر منه، من أن يزيّف الوقائع والحقائق، إذ كانت اليد الغيبية خير معين لموكب الرسالة، فقد كانت أسرة الإمام الحسين، عليه السلام، في حالة يُرثى لها، بل لم يحددها التاريخ أبداً، إلا ببعض الصور الباهتة والخفيفة عن مواصفات الإبل وبعض ملامح الجلاوزة من أتباع الشمر، لذا لم يكن من السهل واليسير تصوّر قدرتهم على مواجهة الزيف والتضليل الأموي خلال ساعات من مرور الموكب بين الأمصار والبلدان الاسلامية، لذا كان للإعجاز دوره الحاسم، والذي بقي أثره حتى اليوم.
تذكر المصادر التاريخية حوادث عديدة وقعت في البلاد الاسلامية إثر دخول موكب الرسالة، ومعهم الرأس الشريف للإمام ورؤوس اصحابه..
يذكر المؤرخ، ابن شهر اشوب في المناقب ٣/٢٣٥: (ومن مناقبه- الإمام الحسين- ما ظهر من المشاهد التي يُقال لها مشهد الرأس من كربلاء الى عسقلان، وما بينهما في الموصل، ونصيبين، وحماة، وحمص، ودمشق). وبناءً على ما ذكره، فان الاثار التي تركتها مسيرة (السبايا) اصبحت معلماً تاريخياً يوضح خط السير الذي سلكوه.. منها ما حصل في الموصل، حيث أمر الشمر، الوالي الأموي هناك، وقبل دخولها، أن يهيئ لهم احتياجاتهم من الغذاء والاعلاف، وايضاً أن يزين لهم البلدة، فاتفق أهل الموصل ان يهيئوا لهم ما ارادوا، وان يستدعوا منهم ان لا يدخلوا البلدة بل ينزلون خارجها، ويسيرون من غير ان يدخلوا فيها، فنزلوا خارج البلدة على فرسخ، منها ووضعوا الرأس الشريف على صخرة فقطرت عليها قطرة دم، فصارت تشعّ ويغلي منها الدم كل سنة في يوم عاشوراء، وبقي هذا الحال الى أيام عبد الملك بن مروان، فأمر بنقل الحجر، فلم يُر بعد ذلك منه أثر، ولكن بني على ذلك المقام قبة سُميت (مشهد النقطة)، وهذا ما ذكره بنفس المعنى السيد المقرم رحمه الله.
وفي مدينة نصيبين، ينقل الشيخ البهائي في (الكامل)، انهم لما وصلوا قرب نصيبين، امر المنصور بن الياس بتزيين البلدة، فزينوها بأكثر من ألف مرآة، فأراد اللعين الذي كان معه رأس الإمام، عليه السلام، ان يدخل البلدة، فلم يطعه فرسه، فبدل له بفرس آخر فلم يطعه.. وهكذا، واذا بالرأس الشريف قد سقط الى الارض فأخذه، شخص يدعى (ابراهيم الموصلي)، واذا يجده رأس الحسين، عليه السلام، فلامهم ووبخهم، وقد دفع هذا الانسان حياته ثمناً لموقفه الرافض والمبدئي، فقتله اهل الشام لهذا السبب.
وعلى هذا فهم لم يدخلوا نصيبين، وانما مروا بالقرب منها، وهذا ما ذكر في بعض المصادر من مرور السبي عليها وعلى، راس العين، وحران، وقنسرين وكفر طاب، وشيزر، وبعلبك.
ومن مدينة (حماة) السورية، يروي المحدث القمي – رضوان الله عليه- يقول: لما سافرت الى الحج، ووصلت الى حماة، رأيت بين بساتينها مسجداً يسمى (مسجد الحسين)، قال فدخلت المسجد ورأيت في بعض عمارته ستراً مسبلاً من جدار، فرفعته ورأيت حجراً منصوباً في جدار، وكان الحجر موربا، فيه موضع عنق رأسه أثر فيه، وكان عليه دم متجمد، فسالت من بعض خدام المسجد عن هذا الحجر والاثر والدم؟ فقيل لي هذا الحجر، هو موضع رأس الحسين، عليه السلام، وضعه القوم الذين كانوا يسيرون به الى دمشق....
ومن ابرز الآثار التي تركها موكب "السبايا" في مدينة حلب، ليكون في ذاكرة الاجيال والتاريخ والانسانية، هو مقام (السقط) الذي تقول المصادر إن إحدى نساء الإمام الحسين، عليه السلام، أسقطت حملها لشدة الإجهاد والتعب، وقد سُمي بـ (المحسن) تيمنّاً باسم المحسن الأول الذي أسقطته الصديقة الزهراء، عليها السلام في الحادثة المعروفة. وقد وجد اسم الحاكم الحمداني، علي سيف الدولة، على القبر، ربما يكون دليلاً على أنه باني القبر. حيث كانت هناك صخرة كُتب عليها "هذا قبر المحسن ابن الحسين ابن علي بن ابي طالب. عليه السلام.
ولكن عندما وصل الموكب الى الشام، عاصمة الدولة الأموية، اختلف الوضع تماماً، وسقط عن كاهل الأسرة النبوية كل التعب والإجهاد، لأن الدور تاريخي وخطير، فقد نصب يزيد نفسه خليفةً للمسلمين، مدعياً إنها امتداد من رسول الله، صلى الله عليه وآله، والناس في الشام، وفي سائر الامصار، وحتى في البلاد غير الاسلامية يعترفوا بقدره ومنزلته لهذا المنصب الذي يتقمّصه كذباً وزوراً. لذا نجد دور الإمام زين العابدين، وعمته العقيلة زينب، عليهما السلام، بارزاً جداً ومؤثراً، بين الناس، فقد انكشف كل شيء في الشام، لاسيما في مجلس يزيد نفسه، عندما عرف الناس والعالم، أن الاخير ليس إلا حاكم طاغية فاسد خارج عن شريعة السماء، يحكّم السيف والسوط بواسطة المال والمنصب. ومن أبرز تلكم الادوار، ما جرى في مجلس يزيد، عندما بيّن الامام السجّاد، عليه السلام، هويته وجذوره، ولمن يعود..؟ ثم بين حقيقة يزيد وجذوره، ومن يكون..؟ كما فعلت من قبل عمته زينب، عليها السلام، في خطبتها الشهيرة والمدوية أمام ذلك الطاغية، وقد أفرغته من كبريائه المصطنع وهيبته الكارتونية:
"أظننت يا يزيد..! حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى، أن بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده..؟! فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلا مهلا، أنسيت قول الله تعالى : ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾..
ثم قالت في نهاية خطبتها:
(ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنماً، لتجدنا وشيكا مغرما، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، والى الله المشتكى وعليه المعول.. فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وأيامك الا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادى المنادي ألا لعنة الله على الظالمين..).
هنا؛ خشي يزيد انقلاب الأمر عليه، فسارع الى إخراج الموكب سريعاً من الشام، وتوجيههم الى المدينة، لينهي بذلك أول فصول المواجهة بين معسكر التضليل والتحريف، وبين معسكر الحق والحقيقة. لتبدأ فصول أخرى لم يدركها يزيد، لأن دوي النهضة الحسينية، وهتافات (هيهات منّا الذلة) عصفت بالبلاد الاسلامية، فأنهت حالة السبات والغفلة، وأعطت دفعاً قوياً لحركة الوعي والثقافة المعرفة بالنهضة الحسينية.