الصفحة الرئيسية » البحوث والمقالات » (٣٤) الأربعين في التراث الشيعي
 البحوث والمقالات

المقالات (٣٤) الأربعين في التراث الشيعي

القسم القسم: البحوث والمقالات الشخص الكاتب: السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني التاريخ التاريخ: ٢٠١٧/٠٣/٢٨ المشاهدات المشاهدات: ٢٢٥١ التعليقات التعليقات: ٠

الأربعين في التراث الشيعي

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ إحدى الشعائر المختصّة بالتشيّع، والتي لا يمكن العثور على مثيل أو شبيه لها في سائر الأمم والمذاهب، ظاهرة أربعين الإمام أبي عبد اللـه الحسين عليه السلام؛ فهي من مختصّات التراث الشيعيّ، وزيارته عليه السلام يوم الأربعين من الشعائر الخاصّة بالشيعة، ولم يثبت ذلك لأيّ إمام آخر من المعصومين عليهم السلام، حتّى الرسول الأكرم صلّى اللـه عليه وآله وسلّم، فزيارة حضرة سيّد الشهداء عليه السلام في يوم الأربعين، وإقامة مجلس العزاء لأجله مختصّة به فقط دون غيره!
ففي كتاب الإقبال للسيّد ابن طاووس، يروي بإسناده عن أبي جعفر الطوسيّ، وهو بإسناده عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام أنّه قال:
الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام يبيّن أنّ زيارة الأربعين إحدى شعائر الشيعة:
علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين (وهي مجموع الصلوات الواجبة والمستحبّة طوال اليوم والليلة)، وزيارة الأربعين (أي أربعين حضرة سيّد الشهداء عليه السلام)، والتختّم باليمين، وتعفير الجبين (بالتراب)، والجهرُ (في الصلاة) بـبسم اللـه الرحمن الرحيم.
فزيارة حضرة سيّد الشهداء في يوم الأربعين من مختصّات الشيعة، وقد طرحها الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام بعنوان أنّها شعار وعلامة للإنسان الشيعيّ، تماماً كما أنّ تعفير الجبين بالتراب هو من علامات الشيعيّ، وكذلك الجهر بالبسملة، والقيام بالنوافل طبقاً لتعاليم الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
لم تعد ذكرى الأربعين في هذه الأيّام شعاراً خاصّاً بالتشّيع:
مع كامل الأسف، في هذه الأيّام خرجتْ مسألة الأربعين عن كونها شعاراً للتشيّع وأحد مميّزاته، فانحدرتْ وسرتْ إلى سائر الأفراد، من جميع الطبقات والمستويات، حتّى بدتْ هذه العادة المتخلّفة والمرفوضة وكأنها سنّةً مفروضة في الأوساط الشيعيّة، وبدتْ شيئاً غريباً حتّى بالنسبة لسائر المذاهب الإسلاميّة، وبالطّبع، فقد زالت العلاقة بينها وبين سيّد الشهداء عليه السلام ولم تعدْ منتسبة إليه، وهذا المشهد الذي آلتْ إليه مخالفٌ قطعاً لمباني مدرسة التشيّع وأصولها الاعتقاديّة، وبعيد عن رضى أهل البيت عليهم السلام.
تتجلى ميزة التشيع في تبعيّة الإمام المعصوم وطاعته والانقياد له دون بحث وكلام؛ فهم ليسوا كسائر الفرق الإسلاميّة، الذين تخلّوا عن أحد ركنيّ الثقلين الأساسيّ، وابتعدوا عن عترة رسول اللـه، وتبعوا أشخاصاً وأفراداً آخرين، ومن الطبيعيّ أنّهم حرفوا أنفسهم عن الطريق الرحب للسعادة والفلاح، وقبعوا في وادي الضلال والغواية والمهالك الموبقة، وشيّدوا دينهم على أساس التوهّمات والتخيّلات والخرافات وبنوا حياتهم عليها بشكلٍ تامّ، وذلك بواسطة تدخّل القياسات والاستحسانات والسلائق الشخصيّة، وأوكلوا زمام أمور دينهم ودنياهم بيد الجهّال والمعاندين أمثال أبي حنيفة وغيره، فاختاروا خسران الدنيا والآخرة.
لأجل ذلك، فإنّ رمز فلاح الشيعيّ ونجاحه، تبعيتُه لسنن الأئمّة وأوامرهم، فقط لا غير! وليس له حقّ التدخّل والتصرّف في الأوامر الملقاة من الزعماء المعصومين عليهم السلام مطلقاً، وليس من حقّه أنْ يخطو خطوةً واحدة، أو يتعدّى الحدود المرسومة له في سائر القضايا والموضوعات، سواء العباديّة منها أم الاجتماعيّة؛ وإن يمضِ ويتخطَّ فسوف يبتلى بذاك الخسران، ويتورّط بتلك المهلكة التي سقط فيها الآخرون.
ينبغي على الشيعيّ أنْ لا يعمل من تلقاء نفسه، ولا يشرّع أحكاماً من عنده ولا يزيد ولا ينقص، بل لا بدّ وأنْ يحوّل توجّهه وعيناه وأذناه وحواسّه نحو ممشى الأئمّة ومبانيهم، دون أنْ يعيرَ أيّ سمع لتلقينات العوامّ وإيحاءاتهم، ولا أنْ يرفع يده عن أصوله ويتنازل عن أسسه، استجلاباً للعوامّ واسترضاءً لهم، بل يرجّح رضا اللـه وإمام الزمان أرواحنا فداه، ويقدّمهما على المصالح الدنيويّة والأوهام والشائعات وإرضاء بعض الجهلة الذين لا علم لهم بمباني التشيّع.
في هذا الزمان، لم تعدْ قضيّة أربعين سيّد الشهداء عليه السلام ذاتَ اهتمام وامتياز خاصّ، فقد خسرتْ حيثيّة كونها شعاراً وعلامة مائزة، وصارت في أوساط العوامّ وكأنّها أحد الشؤون العاديّة مثل سائر الأربعينيّات التي تقام على الأموات، ولم تعدْ محلاًّ لتوجّه المذاهب الأخرى ولفت نظرهم.
أقام أهل البيت العزاء على سيّد الشهداء في المدينة ثلاثة أيّام فقط:
والملفت هو أنّه بناءً على بعض الروايات المأثورة، فإنّ أهل بيت رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم، بعد دخولهم المدينة، لم يقيموا العزاء على سيّد الشهداء أكثر من ثلاثة أيام، مكتفين بذلك على العمل بسنّة رسول الله المتداولة في ذلك الزمان. وهذا المطلب موجود في كتاب أخبار الزينبيّات لـيحيى عبيدلي ،المتوفّى سنة ٢٧٧ هجري. والجدير بالذكر أنّ مؤلّف هذا الكتاب من السادات الحسينيّين، ويصل نسبه إلى الإمام السجّاد بفاصلة أربع وسائط، والعلماء أمثال العلاّمة الحاجّ الشيخ آغا بزرك الطهراني ّ يمتدحونه ويجلّون منزلته بسبب كتابه النفيس.
حيث يذكر في كتابه أنّه بعد وصول أهل البيت إلى المدينة، قد أقاموا العزاء ثلاثة أيّام وثلاث ليال، وشارك في ذلك نساء بني هاشم وسائر أصناف الناس.
نرى أنّه من المناسب أنْ نذكر هنا كلام المرحوم المغفور له، آية الله الشهيد الحاجّ السيّد محمّد علي القاضي الطباطبائيّ التبريزيّ ، حيث ينقل في كتابه القيّم الأربعين فيما يتعلّق بهذا المطلب:
... يجب أنْ نشير هناك إلى هذه النكتة، من أنّ أهل بيت الرسالة بعد دخولهم المدينة، لم يتخطّوا آداب الشريعة في إقامتهم العزاء على سيّد الشهداء عليه السلام ولم يعقدوا المجالس لأكثر من ثلاثة أيّام، والحال أنّ تعزية سيّد الشهداء عليه السلام متحقّقة على الدوام ودون أيّ تراجع أو قلّة، بل هي سنة بعد سنة. وأمّا بالنسبة لسائر الأشخاص، فقد ذكر الشيخ الطوسيّ (ره) في المبسوط: ويكره الجلوس للتعزية يومين وثلاثة أيّام. ومن المحتّم أنّ العمل المشهور -أي الثلاثة أيّام -غير مكروه، والإجماع المنقول عن الشيخ (ره) ليس بحجّة، كما قدْ حقّق ذلك في أصول الفقه بشكل تامّ، ولا شكّ أنّه في زماننا هذا، أصبحت الناس في تعزيتها وإقامة مجالس الترحّم على أمواتهم -وخصوصاً طبقة العلماء والفقهاء -تتخطى حدود الشرع وآدابه، وأصبحوا يوماً بعد يوم، يهيلون التشريفات التي لا طائل منها، إرهاقاً لأنفهسم وتضييعاً للأوقات. انتهى.
يقول كاتب هذه السطور: حتّى مع توجّه الإشكال على إجماع المرحوم الشيخ فيما ذكره من كراهة العزاء إلى ثلاثة أيّام، وذلك كما ذكره المرحوم المغفور له صاحب كتاب (الأربعين)، ولكن نفس إدّعاء الشيخ لهذا المطلب يثبتُ ويؤيّد أنّ السنّة الجارية في زمانه، أو السابقة على زمانه -على الأقل -قائمة على ما دون الثلاثة أيّام لا أكثر.
عدم المنع لا يدلّ على الحلّية والجواز:
فمن الممكن أنْ يقال: إنّ انعقاد مجالس الأربعين للأموات بغية طلب المغفرة والرحمة لهم، هو في حدّ نفسه سنّة حسنة ومرضيّة، وأنّه لا يراد منها -لا قدّر الله - مواجهة أربعين سيّد الشهداء عليه السلام أو مقابلته؛ وعليه فما هو الإشكال في أنْ يقدم أولياء الميّت ويبادروا إلى إقامة هكذا مجلسٍ، يتوخّى منه المغفرة ويهدى ثوابه إلى روح المتوفّى؟! وحيث أنّه لم يردنا المنع عن هكذا مجالس من طرف الشرع المقدّس، فسوف تكون النتيجة هي أنّ الحكم الأوّليّ قائم على الجواز وعدم الممنوعيّة، تماماً كما في سائر الموارد التي لم يرد فيها منع أو ردع بعينه من ناحية الشرع، وذلك في ما لا يتنافى مع الأصول الكلّية والقواعد العامّة للمذهب، ومقتضى القاعدة حينئذٍ هو عدم الحذر والإباحة الظاهريّة.
ولكن جواب هذه الشبهة هو أنْ يقال: إنّ مقتضى الاحتياط في خصوص هذه المسألة وما يشابهها من الموارد والمسائل، هو عكس الحكم بالإباحة وعدم الجواز، وهذه المسألة تختلف مع ما بُيّن في تقرير الشبهة.
وتوضيح المطلب في ما يلي:
قد دوّنت الأحكام الشرعيّة على أساس المصالح والمفاسد -النفس الأمريّة والواقعيّة - وارتكزتْ على أساس التربية، وإبراز فعليّة الاستعدادات البشريّة، فالملاك الذي يراعيه الشارع المقدّس في تشريعه للقوانين، هو توافق التكاليف الشرعيّة وانطباقها على الجهات التكوينيّة والفطريّة للإنسان، وحتّى مع كون فعل الحقّ تعالى خارجاً عن دائرة الموازنة والمقايسة مع المصالح والمفاسد -كما هو حاصل في أفعالنا وسلوكنا - إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ مشيئته وإرادته يمكن أنْ تتعلّق بأمر لغوي وعبثي، لأنّ حكمته البالغة تقتضي أن يكون فعل الله تعالى عين الصلاح، ويكون الصلاح عينَ فعله، وذلك في مرتبة متأخّرة عن إرادته ومشيئته، لا في رتبةٍ متقدّمة بعنوانها علّةً غائيّة.
وعلى ذلك، وحسب مفاد الآية الشريفة: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ فحيث أنّ خلقة الإنسان ناشئة عن الحكمة الإلهيّة البالغة، فلا بدّ وأنْ تكون الهداية والتربية أيضاً مرتكزة على نفس ذاك الأساس، بوزان واحد ومعيار ونسق واحد، كي لا يقع أيّ تضادّ أثناء الوصول إلى النتيجة وحصول الغاية المرجوّة.
وحيث أنّ خلقة الإنسان متنزّلة من أعلى رتبة من مراتب عالم الخلق وأحسنها وأسماها، كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، لأجل ذلك، ينبغي أنْ تكون أحكامه وتكاليفه الشرعيّة مبنيّة على أرقى ما يتصوّر من درجات التكليف وأحسنها، غاية الأمر أنّه هناك فارقٌ بين الأمرين؛ فأصل تكوّنه ونشأته في أحسن تقويم يمكن تصوره، إنّما كان بدون إرادة الإنسان ودون اختياره،وأمّا الأحكام والقوانين المنزلة من عند الله، فإنّها مجعولة لتكون موضع اختيار البشر وإرادتهم، ولتُنسج في عملهم، ولتكون سبباً في تحقّق تكاملهم وإخراجهم من مرحلة الاستعداد إلى رتبة التحقّق بالفعليّة التامّة. ولهذا، سوف لا يكون هناك فرقٌ بين هذين الجانبين وهاتين الحيثيّتين بشكلٍ مطلق، إلاّ من نفس حيثيّة التكوين وحيثيّة التشريع؛ بحيث لو جوّزَ الشارع المقدّس أنْ يختار البشرُ العملَ المرجوح والمفضول ولو بمقدار ذرّة واحدة، فسوف تكون هذه الرخصة منافيةً لحكمة الخلقة والتكوين ومتعارضة معها!
وعلى هذا الأساس، سوف يكون الحكم الممضى من ناحية الشرع والمرضيّ له، هو خصوص الحكم المنسجم مع إرادة الشارع ومشيئته مائة بالمائة، دون أدنى اختلاف ودون إدخال المصالح الدنيويّة والأذواق الشخصيّة والأهواء النفسانيّة. ومن هناك وحيث أنّ مشيئة الشارع هي تلك الملاكات والمصالح والمفاسد النفس الأمريّة، فإنّ تكليف الإنسان ينحصر في أنْ يطبّق أعماله وسلوكه بشكل تامّ على تلك الملاكات الكلّية، المبيّنة من ناحية الشارع والموضّحة من قِبَله. ومن الطبيعيّ أن يكون للفعل الواحد -من جهة أبعاده المختلفة -أغراض وحيثيّات متفاوتة، ويمكن إدراجه تحت ملاكاتٍ وقواعد مختلفة، لذلك ففي مقام الترجيح وتطبيق الملاكات الكلّية على ذاك العمل الخارجيّ، لا بدّ وأن تلاحظ الوجوه المرجِّحة، ولا بدّ وأن تراعى قوّتها وضعفها بشكل دقيق، إذْ من الممكن أنْ يكون أحد الأفعال مستحسناً ضمن ظروف وشرائط خاصّة، ويكون بعينه قبيحاً ضمن ظروف مغايرة وشرائط أخرى.
مع التوجّه إلى المطالب السابقة، يجب أنْ نلاحظ رأي الإسلام بالنسبة لمسألة (الأربعين) ونعرف أيّة سنّة طرحها الشارع المقدّس لإقامة مجالس العزاء والترحّم، وبالخصوص رأيه ونظره بالنسبة إلى الأربعين؟
لا يجوز ترك التزيّن للنساء في العزاء على الميّت لأكثر من ثلاثة أيّام:
يروي المرحوم الشهيد رواية في كتاب اللمعة في بحث الحداد (ترك الزينة للنساء)، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال:
(لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أنْ تحدّ على ميّت فوق ثلاث ليال إلاّ على الزوج أربعة أشهر وعشراً).
أي: إنّه لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله وتعتقد به وبالآخرة أنْ تترك التزيّن حداداً على ميّت أكثر من ثلاث ليالٍ، إلاّ على زوجها، فيجب أنْ تستمرّ في حدادها عليه أربعة أشهر وعشرة أيّام.
ثمّ يتابع الشهيد فيقول:
ولا حداد على غير الزوج مطلقاً، وفي الحديث دلالة عليه، بل مقتضاه أنّه محرّم، والأولى حمله على المبالغة في النفي والكراهة.
أي: ترك الزينة حداداً على غير الزوج لا وجود له في دائرة التشـريع مطلقاً، وقد ورد في الحديث ما يشير إلى ذلك، بل إنّ مقتضى الحديث حرمة الحداد، ولكن الأولى أنّه ليس المراد منه الحرمة وإنّما الكراهة الشديدة فقط.
في هذه الرواية كما هو واضح، قد جعل رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم العزاءَ على الميّت ثلاثة أيّام، وبعد الثلاثة ليس هناك عزاء.
ونظير هذه الرواية أيضاً، ما ورد في المدوّنة الكبرى المجلّد ٢ صفحة ٤٣٢ عن عائشة زوجة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (لا يحلّ لمؤمنة تحدّ على ميّت فوق ثلاثة أيّام).
وكذلك وردت هذه الرواية في كتاب المبسوط للشيخ الطوسيّ.
ويروي المرحوم الصدوق أيضاً عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّه قال:
(يُصنع للميّت مأتمٌ ثلاثة أيّام من يوم مات).
يستحبّ جلب الطعام إلى منزل صاحب المصيبة لمدّة ثلاثة أيّام:
كذلك ورد عن الإمام الصّادق عليه السلام، أنّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، حينما استشهد جعفر بن أبي طالب، أمرَ ابنته فاطمة الزهراء سلام الله عليها أنْ تذهب إلى منزل بنتِ عميس وجميع نساءها وأقاربها، وتصنع لهم الطعام مدّة ثلاثة أيّام؛ ومن ذلك اليوم انعقدت سنّة العزاء بين المسلمين على ثلاثة أيّام.
وقال الإمام الصّادق عليه السلام:
(ليس لأحدٍ أن يحدّ أكثر من ثلاثة أيّام إلاّ المرأة على زوجها حتّى تنقضي عدّتها).
وقد أورد العلاّمة المجلسي رحمة الله عليه في البحار:
وأمّا استحبابُ بعث الطعام ثلاثة أيّام إلى صاحب المصيبة فلا خلاف بين الأصحاب في ذلك، وفيه إيماءٌ إلى استحباب اتّخاذ المأتم ثلاثةً، بل على استحباب تعاهدهم وتعزيتهم ثلاثةً أيضاً، فإنّ الإطعام عنه يدلّ على اجتماع الناس للمصيبة.
ثمّ نقل بعد ذلك كلام الشهيد الأوّل عن الذكرى، وكذلك رواية الرسول الأكرم والإمام الصّادق عليهما السلام حيث ورد فيهما أنّ العزاء على المتوفّى ثلاثة أيّام فقط.
وكذلك الشيخ أبو الصلاح الحلبيّ يقول حين تعرّضه لهذه المسألة:
من السنّة تعزية أهله ثلاثة أيّام وحمل الطعام إليهم.
روايات أهل السنّة تدلّ على أنّ أمد مجلس الترحّم ثلاثة أيّام:
وكذلك أيضاً ما في كتب أهل السنّة، ففي كتاب إرشاد الساري لشرح صحيح البخاريّ:
باب حدِّ المرأة على غير زوجها:
قال: حدّثنا مسدد، حدّثنا بشر بن المفضل، حدّثنا سلمة بن علقمة عن محمّد بن سيرين قال: توفّي ابنٌ لأمّ عطيّة رضي الله عنها، فلمّا كان اليوم الثالث دعت بصفرة (نوع من الأدوية التي تتزيّن بها النساء وتدهن بها يديها) فتمسّحت به وقالت: نُهينا (من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم) أنْ نحدّ أكثر من ثلاثٍ إلاّ بزوج (أي إلاّ لأجل الزوج).
وكذلك يُنقل عن زينب بنت أبي سلمة أنّها قالت:
لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعتْ أمّ حبيبة رضي الله عنها بصفرة في اليوم الثالث، فمسحت عارضيها وذراعيها وقالت إني كنت عن هذا لغنيّة لولا أنّي سمعتُ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلم يقول: (لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أنْ تحدّ على ميّت فوق ثلاثٍ إلا على زوجٍ فإنّها تحدّ عليه أربعة أشهرٍ وعشراً).
وكذلك تقول زينب بنت أبي سلمة التي روت الحديث السابق:
دخلتُ على زينب بنت جحش حين توفّي أخوها فدعتْ بطيب، فمسّت، ثمّ قالت: ما لي بالطيب من حاجة غير أنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول على المنبر: (لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاثٍ إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشراً).
يستفاد من مجموع هذه الروايات، وكذلك السيرة المستمرّة من زمن رسول الله إلى ما بعده والمعمول عليها بين المسلمين، أنّه من المسلّم به دون ريبٍ هو أنّ سنّة نبيّ الإسلام والشرع المقدّس في موضوع التعزية وإقامة مجالس الترحّم على الميّت ثلاثة أيّام فقط لا أزيد! وقد هدّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المرأة التي تقيم العزاء على ميّتٍ لأكثر من ثلاثة أيّام. وهذه السنّة شائعة ورائجة، ولم يطرأ عليها شيءٌ من التغيير والتحوّل في زمان الأئمّة عليهم السلام.
الإيراد على كلام المرحوم النراقيّ من عدم انحصار العزاء في ثلاثة أيّام:
يقول المرحوم النراقيّ في كتابه الشريف مستند الشيعة ، في بحث التعزية ما يلي:
... وعن الكافي والحلبي والشهيد وأكثر المتأخّرين التحديد بثلاثة أيّام، لما من أنّ المأتم أو الحداد أو صنع الطعام لأهل الميّت ثلاثة أيّام، ولا دلالة فيها، وإن كان المأتم بمعنى الاجتماع في الموت؛ نعم يدلّ على جواز الاجتماع والجلوس لهم في الثلاثة.
ومن خلال التأمّل في المطالب السابقة، نجد أنّ هناك إشكالٌ في كلام المرحوم النراقيّ، لأنّه:
أولاً: إنّ حمل الطعام لأصحاب العزاء، وترك التزيّن، وإقامة مجلس الفاتحة والترحّم لمدّة ثلاثة أيّام -كما قد أشار إلى ذلك -لهو أفضل دليل وأوضح برهان على أنّ مراد الشارع المقدّس ونظره متعلّقان بخصوص الثلاثة أيّام دون زيادة، وإلاّ لكان بإمكانه أنْ يقول: ما دامت مجالس العزاء منعقدة يستحبّ إحضار الطعام لصاحب العزاء، أو يستحبّ ترك الزينة. بل من الواضح أنّ صاحب العزاء -أثناء انعقاد مجلس الفاتحة على الميّت وإبرازه الحزن على المصيبة -لا يتزيّن، وسوف لا يبرز نفسه بما يخالف وضعَ المصيبة وحالة العزاء، إلاّ أنْ يتعدّى عن عرف المجتمع وعاداته المتداولة، وحينئذٍ ليس أمامه إلاّ أنْ يلتزم بممشى العقلاء وسيرتهم في ذلك. وعليه، فحينما يقول الشارع: لا يجوز للمرأة أنْ تترك الزينة أكثر من ثلاثة أيّام، سوف يكون المراد من كلامه -حسب دلالته الإلتزاميّة العرفيّة -تحديدُ مدّة العزاء وتعيين وقت الحداد على المصيبة؛ والعجيب أنّه مع وضوح المطلب وجلائه إلى هذا الحدّ كيف خفي عليه!
ثانياً: إنّ مناسبات الحكم والموضوع تقتضي أن يكون مجلس العزاء حين انعقاده مكتسياً ومتلبّساً بحالة التعزية والحزن والألم، ولا يكون مدعاةً للسـرور والابتهاج والمرح والانشراح! ومقتضى الحزن والألم والمصيبة هو عدم التزيُّن والتزيين أو استعمال العطور والرياحين. وعليه، فسواءٌ قيل أنّه ليس من الجائز إقامة العزاء على المتوفّى لأكثر من ثلاثة أيّام، أم قيل أنه: لا يجوز ترك الزينة والتعطّر لما يزيد على الثلاثة أيّام، فإنّ مؤدّاهما واحد دون أيّ تفاوت؛ لأنّ مجلس العزاء يختلف اختلافاً ماهويّاً عن حفلة العرس أو العيد والسرور؛ تماماً كما لو أراد أحدٌ أنْ يرتدي لباس الحداد في حفلة العرس، دون مراعاة لعادات العرف وكيفيّة التزيّن، فكم هو قبيح ذلك!
ثالثاً: إنّ ما ذكره من أنّه يستفاد من الرواية جواز الاجتماع والمشاركة في العزاء طوال مدّة الأيّام الثلاثة هو محلّ تأمّل وإشكال أيضاً، لأنّ جواز الاجتماع والمشاركة في المجلس للتعزية وطلب المغفرة، وتسلية أهل الفقيد، في حدّ نفسه أمرٌ ممدوح ومستحسن، ولا يحتاج جوازه إلى دليل شرعيّ خاصّ؛ بداهة أنّ ذلك ثابت بحكم العقل وعموم النقل المستفاد من قوله تعالى ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾، وكذلك ما تقتضيه نفس التعزية وتسلية المصاب ومواساته، وعموم زيارة الإخوان والتحبّب إليهم، فمع كلّ ذلك لا يبقى مجال للشكّ في جواز انعقاد مجالس كهذه، وسوف يكون حكم الشرع بالجواز لغوٌ وعبثٌ. وعلى ذلك، فإنّ إخراج كلامِ الشارع وحكمِه عن دائرة اللغويّة والعبثيّة يقتضي أنْ نقول: إنّ مراد الشارع من تلك الروايات هو تحديد مدّة العزاء وتعيين وقت الحداد، ولو كان مراد الشارع ما هو أكثر من هذه المدّة فسوف يكون هذا التحديد لغواً وخالياً عن أيّ معنى، وكأنّه يقول: كلّ من يريد إقامة هذه المجالس فليقمها إلى ما يشاء، وليمدّدها ما دام ذلك ممكناً وميسوراً له، وكلّما زادَ فهو أفضل؛ وفي هذه الصورة تكون يدُ الناس مبسوطة في إقامة هذه المجالس، وسوف يكون حظّ المتوفّى أكثر وفرة من ناحية الثواب.
حصر الحِداد في الثلاثة أيّام يدلّ على المنع من الزائد:
لأجل ذلك، إنّ تعيين الشارع وتحديده لمثل هكذا مورد، بحيث أنّه فضلاً عن أنّ إقامة هذه المجالس غير منهيٍّ عنها شرعاً أو عقلاً أو عرفاً، فإنّها مطلوبة ومستحسنة، ففي هذه الحالة سوف يكون تحديد الشارع وتعيينه دالاًّ على عدم رضاه، ومُفهماً مبغوضيّته تشكيل هذه المجالس وانعقادها لأكثر من ثلاثة أيّام، ويجب أنْ لا يُتخطّى سنّة الشارع ودستوره، والعمل على ما أمر به دون نقيصة ولا زيادة.
مع الأسف مراسم العزاء في مجتمعاتنا لا توجب العبرة والاتّعاظ:
من المؤسف أنّه في هذا الزمان، وفي كثير من المسائل والتي من جملتها أحكام الموت، وما يترتّب عليه من الأحكام العرفيّة، لا نراعي أحكام الشرع التي ينبغي أنْ نلتزم بها، بل نمشي بشكلٍ معوجّ ومنحرف، فندمج مقتضيات عالم الآخرة مع اعتباريّات عالم الهوى والنفس الأمّارة، وننزّلهما نفس المنزلة، ونضع الحقائق مع الأوهام في كفّة واحدة.
فيجب أنْ يكون التشييع والدفن عبرةً للإنسان، ليدفعه إلى تذكّر الموت والحساب والكتاب وسائر العقبات التي يواجهها بعد الموت، فيجب أنْ يكون توجّه المشيّعين أثناء تشييعهم إلى مسألة الموت. وكلّ ما يوجب انصراف المشيّعين إلى الأمور الجانبيّة الاعتباريّة، كتهيئة إكليلٍ من الورد أو استعراض الفرقة الموسيقيّة الناعية والطبل والعلم، وقراءة الأشعار والمدح والثناء على المتوفّى وأمثال ذلك، جميع ذلك يقع في الطرف المقابل من رغبة الشارع ونظره.
ولذا ورد عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال:
(إذا أنتَ حَملتَ جنازةً فكن كأنّك أنت المحمول، وكأنّك سألت ربّك الرجوع إلى الدنيا فَفَعلَ، فانظرْ ماذا تستأنف)!
وفي أمالي الشيخ الصدوق يروي عن حضرة الإمام الصّادق عليه السلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال:
(أكيسُ الناس من كان أشدّ ذكراً للموت).
فتشييع الجنازة يجب أنْ يولّد للإنسان التفكير بالموت والتفكّر بالآخرة، وينبغي أنْ يخرجه من دائرة الاعتباريّات ويقطعه عن سائر الارتباطات، ويُحيي في نفس الإنسان الشعور بأنّ حقيقة الدنيا ممرّ ومعبر، وأنّ العالم الأبديّ هو الآخرة. يجب أنْ يلهج أثناء التشييع بـ(لا إله إلاّ الله) ويترك الأناشيد وإطلاق الشعارات والتعابير المبعّدة عن الغاية والهدف من مسير الإنسان وحركته. ولكن حيث أنّنا غارقون في عالم الوجاهة والاعتبارات، إلى الحدّ الذي امتلأ فكرنا وقلبنا وحواسّنا من هذه الأوهام والخيالات بشكلٍ تامّ، فلم يعدْ هناك منفذ ولا مجال للورود في عالم الأبديّة وعالم الحقائق، لذلك نتصوّر أنّنا بعد الموت، سوف يستمرّ معنا ذاك الذهب وتلك الحليّ، ونبقى نتمتّع بذاك الوميض البرّاق وتلك التجهيزات والغرور والكبرياء، الذي كنّا عليه حينما مضينا من الدنيا وتركناها، ولم نلتفت إلى أنّنا قد هجرنا عالم الاعتبارات من حين لحظة الموت، وأنّ المسافة التي تفصلنا عن هذه الوجاهات والاعتبارات ما بين الأرض والسماء.
بعض الانحرافات الواضحة فيما يتعلّق بدفن الميّت:
وللمرحوم الوالد العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه، كلام يرتبط بهذا الموضوع، قد ذكره في المجلّد الأوّل من كتابه النفيس معرفة المعاد حيث يقول:
لقد خُيّل لكم في الدنيا أنّ الآخرة تقتفي أثر الدنيا وتتمحور على شأن من شؤونها، فأوصيتم أنْ: ليقم الشخص الفلانيّ بتزيين مقبرتي بالمرايا، وببناء قبري بالرخام، وبإعداد أثاث المقبرة وفراشها بشكل لائق، وبأن يضع على الدوام مزهريتيْ ورد على القبر، وينضد حوله الأرائك الفخمة، ولينثر على قبري كلّ ليلة جمعة باقةً من الورود اليانعة.
إنّ هذه أمور لا تنفع ولا تجدي شيئاً، هذه زينة عالم الغرور لا عالم الملكوت، الميّت يذهب إلى الملكوت، وينبغي أن يُهدى له شيء ينفعه ويُجديه.
إنّ ما سينفع الميّت آنذاك الأولاد الصالحون، والصدقة الجارية، والعِلْم الذي خلّفه للناس لينتفعوا به، والإنفاق على الفقراء والضعفاء، ومساعدة البؤساء، وتربية الأيتام وتفقّد أحوالهم، ونشر العِلْم والتقوى في المجتمع، وإقامة الصلاة وتلاوة القرآن والتدبّر فيه، كما سينفعه طلب المغفرة له.
أمّا هذه الزينات التي سبق ذكرها، فعلاوة على أنّها لن تجديه نفعاً فهي ضارّة له، لأنّ أخذ باقات الورد إلى الميّت وإهداءها إلى قبره بدعة وحرام، كما أنّ تزيين القبور بهذه الأشكال المذكورة حرام أو مكروه كراهة شديدة على أقلّ تقدير وهي أمور تؤذي الميّت. كما أنّ تجميل المقابر بمثل هذه الكيفيّة مخالف لتعاليم الإسلام.
إنّنا نتخيّل -ونحن نعيش في هذه الدنيا -أنّ شؤون الآخرة تماثل شؤون الدنيا، وهو تفكير سقيم خاطئ، فنجد الميّت يوصي: ادفنوني في هذه المقبرة فأنا أخاف من الأرض التي لا سقف لها. ذلك لأنّه يتخيّل أنّ الأمر هناك كما هو هنا، فإذا دفنوه في غرفة ذات سقف فإنّه سيكون مُصاناً محفوظاً، أمّا لو أودعوه التراب في أرض مستوية فانّ الثلوج والأمطار ستؤذيه، كما إنّ حركة الناس فوق قبره ومزاره ستزعجه، وكفى بذلك جهلاً!
لقد اصطحبت الملائكة الروح إلى عالم البرزخ، وصار البدن المطروح في القبر طعاماً للديدان والأفاعي، ولقد أهلكت هذه الجهالة جميع أفراد البشر، وقد ضجّ القرآن الكريم بالنداء:
﴿وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾.
لقد فنيت خيالاتكم وأوهامكم وتبدّدت في رمال العدم وفي تيه الضلالة.
انتهى كلام المرحوم الوالد قدّس سرّه.
وعلى هذا الأساس يتضّح وجه هذا التأكيد على الذهاب إلى المقابر، وزيارة أهل القبور! فيجب أنْ تكون المقبرة بسيطة، دون أنْ يزرع فيها الورود والنباتات والأشجار، ودون أن تحدث فيها الأبنية، وذلك لتبعث في النفس العبرة والاتّعاظ، ولو كانت المقابر مشجّرة ومزيّنة بالورود، فسوف لا يعود الإنسان يفكّر بالموت أثناء زيارتها، بل سينعطف إلى هذه المظاهر، وهو خلاف هدف الشارع، وأمرٌ مرفوض.
فالنّاس يتصوّرون أنّه لو كانت المقبرة خالية من هذه التزيينات، فستوجب الذعر والخوف للأموات، وسيشعرون بالاضطراب والقلق؛ لذلك فهم يريدون أنْ يشغلوهم بهذه الأمور ليزيلوا عنهم وحشة العزلة -تماماً كما كان ذلك زمن حياتهم في الدنيا -فيعمدون إلى إنشاء هذه الطبيعة الخضراء، ليلهوهم بها ويدخلون عليهم الشعور بالبهجة والسرور، ويبعدوا عنهم شبح الإحساس بالغربة. ولكنّهم غافلون عن أنّ الذي ارتحلَ إلى الدار الأبديّة قد انفتحتْ عينه على حقائق عالم الملكوت وخصوصيّاتها، ولا وجود لهذه اللذّة والسـرور والفرح والانشراح الذي كان في الدنيا. فاللذّة والسرور في ذلك العالم يحصلان بواسطة شيء آخر؛ يأتي السرور من قراءة سورة الفاتحة لا من تشجير القبور وغرس الورود فيها، يأتي من الإنفاق والصدقات لا من العمران وتزيين المقابر. تماماً كالمريض المصاب بمرض خطير، فبدلاً من أنْ يأخذه أقرباؤه ليعاينه الطبيب ويعطيه وصفة الدواء ويشفى بواسطة العمل بها، يطوفون به في المنتزهات والحدائق ومراكز اللهو والمباريات. فالذهاب إلى هذه المراكز مع هذه الحالة المبتلى بها لا يشفيه ولا يداويه، بل يوقعه في الهم والغمّ والألم، ويودي بحياته ويميته.
ونحن نريد أنْ نسري أفكارنا الخاطئة وتصوّراتنا المغلوطة، ونطبّقها على شؤون الأموات وأمورهم، فحيثُ أنّنا نستوحش من المقبرة، نعمدُ إلى تزيينها بالورود والزرع، كي نرفع الخوف ونزيل الرعب الذي نحسّ به.
من المؤسف أنّه في هذه الأيّام، أصبحت مقابرنا تشبه أيّ شيءٍ غير محلّ الأموات ومكان دفنهم، وهو ما يبعثُ الأسف والألم الشديد، فمقبرة كهذه لا توجب العبرة للإنسان، ولا تنقله إلى تذكّر العالم الآخر، فصفوف بائعي الورد بجوار المقابر، تحرّك ذاكرة الإنسان نحو مجالس الفرح والبهجة أكثر منها إلى زيارة القبور، وهذا العمل خلاف نظر الشارع قطعاً، ولا بدّ من الإقلاع عنه بشكلٍ كامل.
البدع الوافدة من الغرب بالنسبة لمجالس العزاء:
ومن الأمور الباعثة على التأسّف أيضاً، ممّا قد رسخت وامتزجت بثقافتنا، كيفيّة إقامة العزاء وطريقة مجلس الفاتحة.
فقد تغيّرت مجالس الفاتحة في أيّامنا، فبدلاً من كونها مجلساً لطلب المغفرة حسب السنّة المتعارفة والمتطابقة مع منهج أولياء الدين وطريقتهم، فقد تحوّلت حقيقتها إلى نوع من العمل المسرحيّ، ومهارةٍ في فنّ التمثيل. وأصبح مديروها وهم: المشرفـون والخطيب الواعظ والمحاضر، كلّهم متّجهون صوب تحقيق هذه الأغراض. فبدلاً من أنْ يسلّط الضوء في هذه المجالس على الآخرة وقراءة العزاء، يُعمدُ إلى المظاهر وذكر مفاخر المتوفّى. فيتمادون بمدح أصله ونسبه وعشيرته، ورفعهم إلى مستوى الأفراد الشامخين الأفذاذ، فمثلاً: فلانٌ كان ابنه طبيباً معروفاً، أو صاحب منصب كذا وكذا.. وفلانٌ ابنه الآخر مدير ووزير وغيره، وقد حصل زمن حياته على الشهادات الفلانيّة، وحيثيّته وشأنه بين أقرانه كانَت كذا وكذا. ولو قصّر -لا سمح الله -الخطيب أو المعزّي في حقّ المتوفّى وأقربائه دون أنْ يتعرّض لهذه الخصوصيّات، فسيقوم أصحاب العزاء بما يلزم من العتاب والمحاسبة والتشديد عليهم، وسوف يُقْصونهم عن أيّة دعوة في المجالس اللاّحقة؛ ليهيّئوا الشخص الكفء واللاّئق، القادر على أداء المطلب حقّه! والمتمكّن من إبراز شخصيّة الأقرباء مشرّفين ومرفوعي الرأس أمام سائر الناس.
كذلك وضع الكؤوس وصفّ الأكواب، واستقبال المعزّين بأصناف الفواكه والحلويات، فإنّها تخرج هذه المجالس عن هدفها الأصليّ، وتوجب صرف النظر إلى المظاهر المخالفة لمراد الشارع ورغبته؛ لذلك فهي خلاف نظر الشارع. كذلك السكوت والوقوف تعظيماً لمقام المتوفّى فهو من السنن الوافدة من الغرب، وهي محرّمة شرعاً. ولم يأتِ في الإسلام الأمرُ بالسكوت أو تلاوة الفاتحة بحالة الوقوف، بل لو كان الإنسان جالساً فعليه أنْ يقرأ الفاتحة كما هو على هذا الحال، ولو كان واقفاً فعليه أنْ يقرأها وهو كذلك.
وكذلك تغيير عنوانيّ (الترحّم) و(المغفرة) واستبدالهما بـ( ذكرى تعظيم أو تخليد الميّت) فإنّه من الأمور المذمومة وغير المشروعة. فما وردنا من الإسلام ووصلنا من بيانات أولياء الدين هو طلب المغفرة والترحّم وتعزية أهل الفقيد وتسلية خاطرهم، وتسكين نفوس أصحاب العزاء والمصيبة، وليس التخليد والتعظيم وأمثال هذه الألفاظ والعبارات. ماذا تعني كلمة (التخليد)؟ فذاك المسكين قد ارتحل عن الدنيا، وهو الآن مبتلىً بألف داء وألف مشكلة، ويعاني من المصائب وواقع فيها، حينئذٍ نأتي ونقيم له مجلس التعظيم ونبجّله ونكرّمه! ينبغي أنْ يكون التعظيم والتكريم زمان حياته ـ
والحال أنّ كلّ ذلك هو اعتبار وتوهّم وتخيّل لا زمن وفاته وبعد مماته، حيث فاتَ الأوان وانقضت الفرصة لذلك! حيث لم يبقَ عَظَمةٌ ولا تعظيمٌ ولا اعتبارٌ ولا معتبر! الآن وقتُ الحساب لا العمل، ووقتُ كشف الحقائق لا الأمور التخيليّة والتوهميّة! الآن يسألون عن الصلاة والصيام والحجّ والإنفاق والأمر بالمعروف والصدق والأمانة والإخلاص في العمل، ولا يسألون عن العناوين المصطنعة التي يخصّص بها نفسه، ويميّزها عن سائر بني نوعه، ولا عن الوزارة والوكالة والمديريّة والمال والكسب! يسألونه الآن عن الالتزام بالتكاليف في الدنيا، وأنّه إلى أيّ حدّ كانت أموره الحياتيّة والاجتماعيّة جارية على رضا الله، وليس عن رتبته ووساماته ولباسه وغيره!
ومن هنا، فإنّ مقتضى الالتزام بالقاعدة الكليّة، ولزوم اندراج الأفعال تحت ملاكاتها الشرعيّة، هو أنْ تندرج جميع هذه الأمور تحت رضا الشرع، وأنْ تُنحّى عن مبتدعات النفس الأمّارة، وتبتعد عن الأذواق الجاهليّة.
ورود النهي عن مشاركة النساء في مراسم التشييع والدفن:
ومن جملة الأمور المذمومة أيضاً، مشاركة النساء في مراسم التشييع والدفن، حيث ورد فيه النهي من أولياء الدين بشدّة، وكانت السنّة في الإسلام على خلاف ذلك، لكن ومع الأسف، ما نشاهده اليوم هو رواج ذلك في الأوساط الشيعيّة، حيث يُعدّ بنظر العوام أمراً مبرّأً من البدعة والخطأ، بل يعتبرونه من أصول المعاشرة المتسالم عليها، ونوعاً من الارتباطات الاجتماعيّة.
والروايات الصادرة من أولياء الدين في هذا الباب، مورد اتّفاق كلٍّ من الشيعة وأهل التسنّن، ومع الأسف، قد عملوا هم بهذه السنّة والتزموا بها، ولكن تخلّفنا نحن عن القافلة؛ ومع ذلك ندّعي أنّنا تابعون ومطيعون وأنّنا شيعة لمدرسة رسول الله ومنهجه وسنّته! والحال أنّه ينبغي أنْ نكون في طليعة كلّ الملل والأقوام، فنبادر إلى العمل بأوامر رسول الله ومبانيه، ولا ندع المخالفين والمنحرفين لمذهب أهل البيت عليهم السلام يسبقوننا، ولنصبح عرضة للتّهمة، بأنّنا نُعملُ آراءنا الشخصيّة وندخل في الدين ما ليس فيه.
إنّ إبعاد منهج رسول الله وإقصاءه، وعدم العمل به والالتزام بأوامره وإحكام مبانيه، وبالتالي إعمال الذوق والنظريّات الشخصيّة بما يتماشى مع المصالح الدنيويّة والنفس الأمّارة بغية إعجاب العوام، كلّ ذلك يرجع في الحقيقة إلى بيع الدنيا بالآخرة، وهو ترجيح الخسران على السعادة والفلاح، فبذاك المقدار الذي يعمدُ فيه المخالفون إلى العمل على خلاف أوامر الله ورسوله، طبقاً للميل الدنيويّ ورغبات النفس الأمّارة، بهذا المقدار سوف يُقْصون أهل البيت والعترة، ليقعوا في تبعيّة أفرادٍ آخرين، ويكونون بذلك قد خرجوا عن طريق الحقّ، وتخطّوا الصراط المستقيم، وهو ما يجعلهم قابعين تحت نير السخط الإلهيّ وغضب رسوله. فلا قدّر الله أنْ نوهم أنفسنا بأنّنا ملتزمون بأمر رسول الله وولاية أئمّة الهدى، فنظنّ أنّنا تابعون لإمامتهم صلوات الله عليهم أجمعين، ثمّ نعمد إلى مخالفة سنّة رسول الله، ونقع في تجاوز منهجهم بشكلٍ عمليّ، وإذا قال لنا المخالفون: قدْ أدرتم رَحى تبعيّة أوامر رسول الله وطاعته على ولاية أهل بيته وإمامتهم، فأنتم تنوحون على ذلك وتلطمون صدوركم لأجله، ثمّ بعد ذلك لا تلتزمون بأوامرهم ولا تقتَدون بسنّتهم، فأيّ جواب ينبغي أن نتفوّه به؟!
لم يرد في الإسلام ذكر (الأسبوع) و(الأربعين) و(الذكرى السنويّة) للأموات:
ومن هنا، حيث اتّضحت كيفيّة وحقيقة سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنسبة لانعقاد مجالس العزاء، نعلم أنّه ليس لدينا في الإسلام شيء يسمّى بـالأسبوع أو الأربعين أو الذكرى السنويّة ؛ لذلك يتّضح جليّاً أنّ هذه المناسبات مخالفة لسيرة الإسلام وسنّته.
فأمّا (الأسبوع) و(الذكرى السنويّة)، فلم نلمح لهما أيّ اسم ولا ذكرٍ في الإسلام قطعاً. ومع الأسف، فقد أصبحت في الأوساط الشيعيّة ـوبالخصوص لدى الإيرانيّين سنّة خاطئة وجارية وشائعة، وكأنّها أمرٌ لا غنى عنه ولا يُترك ولا يقبل الخلاف والنقاش!!
ف-الذكرى السنويّة حسب التراث الشيعيّ الأصيل مختصّة فقط بالمعصومين عليهم الصلاة والسلام؛ وليس لدينا أيّ مدرك تاريخيّ ولا روائيّ يثبتُ أنّ الأئمّة عليهم السلام أمروا بتشكيل مجالس (الذكرى السنويّة) لأحدٍ من صحابتهم؛ فالذي وردَ الحثُّ والتأكيدُ عليه من تشكيل مجالس الذكرى، مختصّ بإحياء ذكرى أهل البيت فقط. ومن باب المثال: نجد أنّ الإمام الباقر عليه السلام قد أوصى بعد شهادته، أنْ يقام له في منى المآتم ويندبَ لمدّة عشر سنوات، ويُتعرّض فيها إلى ما كان الخلفاء يوردونه على الإمام، ويتمّ توضيح ذلك للنّاس.
وكذلك فيما يتعلّق بحضرة سيّد الشهداء عليه السلام، فقد وردنا روايات كثيرة إلى حدّ التواتر. بل حتّى لو لم يتمّ التأكيد في الروايات على إقامة مجالس أهل البيت، فيجب علينا أنْ نحكم بوجوب إقامة هذه المجالس تمسّكاً بعموم إحياء ذكر أهل البيت عليهم السلام، سواء مجالس المواليد أم الشهادات، ولا مجال لتطرّق الشكّ في ذلك من ناحية الثقافة الشيعيّة.
أمّا اليوم، فإنّنا نراهم يحيون (الذكرى السنوية) لسائر الأفراد، فيكرّرون ذلك كلّ سنة، حتّى ولو نخلتْ عظامه واستحالتْ تراباً، فإنّهم لا ينسون الميّت ولا يتركونه. نعم، من الواضح أنّ قلوب أصحاب هذه المجالس غير محترقة ولا مقروحة على الميّت، فهم يلاحظون استمرار منافعهم في هذه المجالس، ويرون أنّ حياتهم وبقاءهم مرهونين بانعقاد هذه المجالس، ويتصوّرون أنّهم بواسطة تعطيل هذه المجالس سيصبح الميّتُ نسياً منسياً، وبالتّبع فإنّ الأفراد المرتبطين بهذا المتوفّى، سوف يكتسبون بهذه المجالس المنافعَ والمصالح الدنيويّة، وبدونها سوف يُنسَون أيضاً، فيسعون جاهدين وبأيّة وسيلة أو حيلة، وبتحمّل العذاب والمشقّات أنْ يحفظوا إسم الميّت ويحيوا ذكره، بسائر الحجج والحيل الواهية، ومن خلال كلّ الظروف المتاحة لهم!
إنّ سورة التكاثر الشريفة التي ورد فيها: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر﴾ ناظرة إلى هذه الطائفة من الناس. فعلى الشيعيّ أنْ يُحكم ثقافته على أساس سنّة رسول الله، كي يستفيد من بركات هذه التبعيّة والاستنان به أولاً، وثانياً كي لا يكون ألعوبة أو وسيلة بيد المخالفين والمواجهين للتشيّع، ولا يمكّنهم من الطعن والاعتراض على التشيّع، ولا يكون مدعاة لتسليط أقلامهم وتصريحاتهم على التشيّع.
وأمّا مسألة (الأربعين)، فإنّها أشنع وأقبح من مسألة (الأسبوع) و(الذكرى السنويّة) قطعاً؛ وذلك لأنّه فضلاً عن عدم وجود أيّ خبرٍ أو أثرٍ عن الأئمّة عليهم السلام يفيد إقامة ذكرى الأربعين عن روح الأموات، فإنّ مسألة الأربعين من شعائر التشيّع وخصوصيّاته، وهي مختصّة فقط وفقط بحضرة أبي عبد الله الحسين أرواحنا فداه، لا غير!
إحياء الأربعين لجميع الأموات يخرجها عن كونها شعاراً خاصّاً لسيّد الشهداء:
ولو انجرّ الأمر إلى صيرورة إقامة مجالس الأربعين على الأموات بعنوانها سنّة ورسماً ثابتاً، فكيف يمكن حينئذٍ أنْ تكون شعاراً وعلامة وامتيازاً لسيّد الشهداء! ولو كانَ هناك رجحان من قبل الشارع لإقامة ذكرى الأربعين لسائر الأفراد، فلماذا لم نجدْ هذه المرغوبيّة بالنسبة لسائر الأئمّة عليهم السلام، بل ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟! ومع كون ذلك بالنسبة لهؤلاء العظماء أولى بهم وأجدر، بل وحتّى مع وجود كلّ هذا التأكيد على إقامة مناسبات أهل البيت عليهم السلام، والتشديد على الاستفاضة منها، فإنّنا مع كلّ ذلك لم نلحظ أيّ أثرٍ من الأئمّة بالنسبة لإقامة الأربعين على غير سيّد الشهداء عليه السلام.
وهذه المسألة تكشف عن أنّ إقامة الأربعين لغير سيّد الشهداء عليه السلام غير مرضيّ لهم قطعاً؛ بداهة أنّهم أمروا بإحياء ذكرهم، وحثّوا على تشكيل المجالس، إلاّ أنّهم لم يتعرّضوا لمسألة الأربعين إلاّ في خصوص سيّد الشهداء.
ولو قيل: ما هو الإشكال في أنْ تقام مجالس الأربعين عن روح الأموات، بغيةً لطلب المغفرة والرحمة، دون أيّ داعٍ أو غرض آخر، وبعبارة أخرى: يكون الداعي لعقد الأربعين عن روح المتوفّى الجهة المعنويّة والعباديّة دون الاعتبارات والمنافع الدنيويّة -التي مرّ ذكرها -فأيّ إشكال في ذلك، وأيّ منعٍ سوف يتوجّه من قبل الشارع في هذه الحالة؟
فإنّ جوابه:
أولاً: ما هو الفرق بين الأربعين أو الثلاثين أو الخمسين وغيرها حينئذٍ؟ ولأيّ سبب يجب عقد مجلس الترحّم عن روح الميّت في رأس الأربعين؟! ولو كان من المقرّر أنْ ينعقد مجلسٌ لذكرى الميّت، فلما لا يقيمونه بعد ثلاثين يوماً أو خمسين؟!
ثانياً: إنّ العبادة الصادرة من العبد، إنّما تقع مقبولة ومرضيّة فيما لو كانت متطابقة مع الأمر الإلهيّ، دون أنْ تصدر من تلقاء نفسه أو متأثّرةً بمزاجه. فالشرط الأساسيّ في صحّة العبادة هو التقرّب والانقياد؛ وهاتان المسألتان متفرّعتان على حيثيّة توقيفيّة العبادة وجهة تعبديّتها. وما لم يصدر الأمر بالعبادة من الشارع، فسوف يكون الإتيان بها بدعة وضلالاً وحراماً؛ حتّى وإن قصدنا القربة والرجاء ألف مرّة، فسوف لا يكون لهذا العمل أيّة قيمة ولا وزنٍ من وجهة نظر الشارع.
نعم، لو كانت المسألة بحيث يكون رجحان الفعل محرراً -من جهةٍ معيّنة -بالنسبة للمكلّف، أو على الأقلّ محتملاً، ولم يكن هناك دليل قطعيّ على الرجحان الشرعيّ، ففي هذه الحالة لا مانع من الإتيان بالفعل بداعي الثواب ورجاء التقرّب. ولكن ما نحن فيه فضلاً عن عدم كونه واجداً للرجحان الاحتماليّ العقليّ، فإنّه ومن خلال القرائن والشواهد العقليّة والنقليّة مرجوح ومفضول، وفي هذه الحالة لا مجال لداعي التقرّب والإتيان به رجاءً للثواب، وسوف يكون الإتيان به منافياً لنظر الشارع ومخالفاً لرضاه، أو سيكون باطلاً ومكروهاً كراهة شديدة قطعاً.
وحسب الاتّفاق، فإنّ مسألة (الأربعين) من هذا القبيل، حيث لو كـانَ الإتيـان بهـا ممضىً ومرضيّاً من ناحية الشارع، لكان من المحتّم أنْ يصدر شيء يتعلّق بهذه المسألة طوال مدّة إمامة وولاية المعصومين عليهم الصلاة والسلام، ولصدر منهم شيءٌ من التوصيات والأوامر فيما يتعلّق بها، والحال أنّه لم يتّفق شيء من ذلك، بل لمْ يُشـرْ إلى مورد واحدٍ لا تصريحاً ولا كنايةً! والحال أنّه لم يكن هذا الموضوع من الموضوعات المنحصرة بخصوص زمان تواجد المعصومين عليهم السلام فقط، بل هو على العكس من ذلك، فهو موضوعٌ حيويّ وعامّ البلوى، ومتجدّدٌ في كلّ سنة وكلّ شهر وكلّ أسبوع بالنسبة لهم وأصحابهم وأقربائهم، ومع كلّ ذلك لم يصدر أيّ تشويق منهم أو حثّ أو ترغيب لأصحابهم، أو على الأقل صدور الإجازة بعقد هذه الذكرى، لأجل ذلك، يمكننا أنْ ندّعي -بضرس قاطع -أنّه لم يكن انعقاد مجلس (الأربعين) على الأموات مورد رضىً للأئمّة المعصومين عليهم السلام، وأنّ نظرهم قائم على اختصاص (الأربعين) بحضرة أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
إلى هنا ننهي هذه الرسالة، وحتّى مع كون المسألة تحتاج إلى بسط أكثر، بلحاظ جهاتها المختلفة، إلاّ أنّه مع ملاحظة الرغبة في عدم التطويل، نكتفي بما تمّ ذكره، آملين من أتباع مدرسة الولاية ومذهب التشيّع، أنْ يقلعوا عن هذا الرسم وهذه العادة الجارية المبغوضة لله، من قبل أولياء الدين، ويتأسّوا بالسنّة السنيّة لرسول الله وأئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، ويكون هدفهم وغايتهم من كلّ أفعالهم وسلوكهم هو الانقياد والإطاعة للممشى القويم والصراط المستقيم لأئمّة الهدى عليهم السلام، الذين تنحصر الهداية والفلاح في إطاعتهم وانتخاب دستوراتهم وأوامرهم فقط لا غير.
ربّنا واجعلنا من شيعة أمير المؤمنين والأئمّة المعصومين عليهم السلام والذابّين عنهم، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت التوّاب الرحيم، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والسلام علينا وعلى جميع عباد الله الصالحين ورحمة الله وبركاته.

التقييم التقييم:
  ٠ / ٠.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2017