أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) في وجدان الإسلام
عدنان عبد النبي البلداوي
عندما تكون الذكرى عظيمة بأهدافها السامية، يكون أثرها في العمق النفسي متناسبا مع عظمتها.. وكلما تتكرر يتجسد حدثها وكأنه ولد من جديد، لأن رافدها الحق، ورحمها الحقيقة، ولأن الهالة التي تحيط بعظمتها دائمة التوهج، لا تنقطع عن بث سناها.
وفي مثل هكذا ذكرى من المؤكد ان الوجدان الأصيل يحتوي صداها بشغف، لأنه مدين لها بالإيقاظ والاستنهاض.. ويتفاعل مع شعائرها، لأنها أشبعته بروافد الحرية ونسائم الكرامة..
وكيف لا يهتز وينحني لقدسيتها وقد زرع غرس عظمتها سيد شباب أهل الجنة في يوم دام، شهد فيه التاريخ نهضة فاعلة وميدانية ضد الباطل، لإيقاظ ضمائر الناس وتحريك مشاعرهم وأحاسيسهم .
ولاشك في ان تحريك تلك الضمائر شبه الميتة والعمل من اجل إعلاء كلمة الحق وردم بؤر الباطل يحتاج الى فدية ضخمة وكان يعلم (عليه السلام) انه هو الوحيد الذي يملك ان يتقدم لتحقيق ذلك لأن الحقيقة تقول: (من كان أكثر وعيا كان أكثر مسؤولية).
ان البعد الوجداني الذي اصطلح عليه بالبعد الرابع في هذا الموضوع الجهادي العظيم يكاد يطغى على كل الأبعاد الأخرى في ملحمة عاشوراء، لأن نبض الإنسانية مرتبط بحكم التداخلات السايكولوجية المودعة في أعماق النفس، فكل شريان ينزف بسبب اختراق صادر من ظالم فاسق ضد إنسان نقي، تبكي عليه الإنسانية وتندبه... فكيف حال الإنسانية مع أطفال وفتيان وكهول كانوا كواكب تمشي على الأرض يسري في عروقهم نور النبوة واشراقة الإمامة فإذا بهم يهوون سراعا بسيوف أراذل الأرض وفساقها في ظهيرة يوم ليس كمثله يوم.
ان خلود ذكرى اربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) في وجدان الإسلام كانت تحصيل مراحل اجتازها الإمام ابتداء من البعد الأول لنهضته الخالدة وهو بعد الارتباط بالله تعالى ذلك البعد المقدس المُداف بلحمه ودمه (عليه السلام) تحقيقا لأهداف الهية، سبق أن أشار إليها جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) يوم قال: (حسين مني وانا من حسين) وهو النبي المرسل الذي (لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى)
ومن ثم مرحلة البعد الثاني وهو البعد الانساني الذي تفاعل الحسين (عليه السلام) مع أجوائه من خلال خطبه وكلماته التي أكد فيها قضية رفض الظلم اينما وجد كقوله (عليه السلام) عند التقائه بالحر بن يزيد الرياحي:
(الا وان هؤلاء لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء واحلوا حرام الله وحرموا حلاله)
ان الحسين (عليه السلام) كان يركز على الظلم والجور الذي كان يمارسه يزيد تجاه المسلمين وتجاهه بشكل خاص، وكذلك قضايا الحرمان والاستضعاف.
لذا فان البعد الثاني المذكور كان بعدا إنسانيا مطروحا في تحركه (عليه السلام).
اما البعد الثالث وهو التخطيط الكامل للتحرك.. البعد الذي أفضى في محصلته الى تعرية بني أمية وكشف حقيقتهم وقد تجسد ذلك قبل المعركة وبعدها، أضف الى ان التخطيط الهادف لتبصير الناس بما يحيطهم من ضلال، يترك آثارا نفسية وسياسية واجتماعية على مجمل الأوضاع العامة للمسلمين، وهذا ما كان يستهدفه الإمام في كل خطوة خطاها. لذا كان وراء إقدامه (عليه السلام) تخطيط محكم وفي غاية الدقة، من اجل تفعيل أهداف النهضة قولا وفعلا، لأنه لو اخذ برأي الناصحين له بالجلوس في بيته وعدم التوجه الى العراق، لأعطى حكومة يزيد الفاجر صفة الشرعية ولأنه (عليه السلام) كان عارفا بأن بقاءه سيؤول الى القتل ايضا ولكنه ما أراد قتلا بصورة او حالة لا تضخ وقودا متجددا لديمومة الرسالة المحمدية كالتي ضختها معركة الطف بمشاهدها وأحداثها الاليمة..
ان كل من فكر ويفكر على مر الأيام والسنين في هكذا تخطيط بعيد المدى، وما آلت إليه النتائج من انتصار الدم على السيف قد أصبح متيقنا كل اليقين بأن الحسين (عليه السلام) إنما هو للإنسانية جمعاء، ولاشك في ان هكذا يقين لابد ان يحتل في الوجدان مكانا لا يبرحه بفضل مابثته نهضة الحسين (عليه السلام) من ومضات فاعلة للإيقاظ والتبصير وعدم التراجع.
ولاشك في ان الأبعاد الثلاثة قد تداخلت، ليولد البعد الرابع الذي هو البعد الوجداني الباقي الى يومنا هذا يستنهض الهمم ضد البغي والطغيان ويُبكي القلوب قبل العيون لعِظم المأساة التي اتخذت لها في سويداء القلوب مشاعل دائمة.. فكل موقف دام أفرزته واقعة الطف في كل لحظاتها هو خالد في وجدان الإسلام، وحتى في وجدان الكثير من غير المسلمين والشواهد على ذلك كثيرة.
اما موضوع أربعينية الحسين (عليه السلام) فلأن مراسيمها تُؤدى من قبل الموالين منذ زمن بعيد فإن مدى الأثر الوجداني هو اثر ذو نتائج خاصة بهم وذو سمة لا تفارقهم فإذا كانت ذكرى الاستشهاد قد تركت في الوجدان العام مواجع تنكأ في أيام عاشوراء فإن مواجع المتفانين في حب الحسين (عليه السلام) تظل بطبيعتها تنكأ في كل أيام حياتهم وهذا يعني ان لهيب وجدانهم في ذكرى الأربعينية قد سجل ويسجل أعلى نسب التفاعل مع الحدث.
ان أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) ذات سمة خاصة انقطعت عن كل ما سبقها من عادات وتقاليد، وقد تجلى ذلك في التوقيت الزمني الذي حصل دون قصد او تخطيط مسبق، لأن أوامر سير وتوقف الركب الحسيني كانت تصدر عن أعوان يزيد (لذا فالتوقيت الذي نحن بصدده قد أفضى أخيرا الى ان يحط عيال الحسين رحالهم مرة أخرى في ارض كربلاء بعد خروجهم من الشام ليتزامن وقوفهم على قبر الحسين وقبور الشهداء عليهم السلام جميعا في يوم يحمل الرقم (أربعين) وقد اكدد تزامن الرقم أربعين مع عودة السبايا الى كربلاء أمهات المصادر وأوثق الروايات ففي كتاب (لواعج الأشجان) وفي (مقتل الحسين) للسيد المقرم ما نصه:
(وبعد زوال يوم الثاني عشر من محرم سار ابن سعد بالسبايا الى الكوفة، ونقل الفاضل الدربندي ان يوم (الثالث عشر) من محرم دخلت السبايا الكوفة وفي (الرابع عشر) منه أدخلت السبايا في القصر على ابن زياد ولم يمكثوا أكثر من أسبوع في الكوفة واما الطريق الى الشام فكان يستغرق شهرا للإبل ذوات الصبر والقوة ولكن الحداة الغلاظ أرهقوا قدرتها فقطعت المسافة في عشرة ايام وقال المازندراني في معالي السبطين (ودخلت الرؤوس والسبايا الى دمشق يوم الجمعة أول صفر سنة ٦١هـ وهو يوم عيد عند بني أمية ثم أمر يزيد بالسبايا ووضعهم في خربة قرب باب الفراديس وباتوا فيها ثلاثة أيام.
وروى الشبراوي في (الإتحاف) ان رأس الحسين (عليه السلام) أعيد الى جثته بعد اربعين يوما واكد ذلك الشريف المرتضى في مسائله وابن طاووس في (الملهوف على قتلى الطفوف) وابن حجر في (شرح همزية البوصيري).
وهناك أكثر من رواية تقول ان يزيد سلم رؤوس الشهداء الى السجاد (عليه السلام) فألحقها بالأبدان الطاهرة يوم العشرين من صفر.
ومنذ ذلك التوثيق التاريخي بدأ الشيعة في كل مكان يحيون ذكرى أربعينية سيد الشهداء ويقيمون لموتاهم الأربعينية تيمنا بذلك.
وقد يقول قائل: ان ذكرى الأربعينية من الممكن ان تقام مراسيمها في أماكن تعزية معينة دون الحاجة الى ان يشد الرحال آلاف الرجال والنساء سيرا على الأقدام صوب كربلاء بالذات، كما من حق القائل ان يعرف ماذا يقف وراء هذا الدافع المليوني في كل عام..؟
لاشك في ان التوغل اللامحدود لألم الذكرى في العمق الوجداني لم يكتف بتفعيل التعبير عن الحزن والاسى تفعيلا نظريا وفي أماكن خاصة بعيدة عن كربلاء وانما قاده الجرح المكلوم الى تفعيل التعبير تفعيلا ميدانيا وعمليا، لا بدعة ولا تطرفا كما يتقول من لم يع معنى توجع الإنسانية، وفعلا قد تجسد ذلك التعبير العملي دون تصنع او تكلف، ودون إيعاز مكره او أوامر قسرية من جهات سلطوية، لأن حقيقة ذلك التعبير قد أفصحت بأن ارتباط الدافع النفسي بالمسير مشدود بمنظر الركب الحسيني الحزين يوم كان يسير عبر الفيافي والقفار، عائدا من الشام الى كربلاء في التوقيت الزمني الأربعيني الذي مر ذكره.. وفي ضوء ذلك لم يطق الوجدان صبرا في كل زمان إلا ان يواسي ويحيي هيأة مسير العيال عليهم السلام إحياء فاعلا على ارض الواقع، اقتداءً بمبدئية القول والفعل لسيد الشهداء ليعلن للعالم عن سر هذا التجمع المليوني..
والآن قد أصبح واضحا بحكم ما أقرته طبيعة الأحداث والمواقف وما استوعبته المشاعر، ان الشيعة ساروا ويسيرون صوب كعبة الأحزان، لأن عيال الحسين (عليه السلام) ساروا مسيرا يحمل الكثير من النتائج والأهداف.
فلماذا وقف ويقف الوجدان وراء كل حركة او خطوة في ذلك التوجه..؟
من الشائع في السياق الاجتماعي العام ان مما يثير المشاعر ألما هو تفعيل سلوكيات ظالمة تنتج عنها صرخة مظلوم ضاع حقه، اما أشد ما يلهب المشاعر ويقسرها على ان تذرف الدموع دما، اذا رافق الصرخة نزفُ شريان وقطعُ وريد، لا لأجل ملك مُضاع، او منصب دنيوي مُرتقب، وإنما لأجل الإصلاح وإحقاق حق اغتصبه فاجر، ولأن إحقاق الحق مطلوب في مختلف الظروف وان الطغاة والظالمين وراء سحقه وضياعه، فان وجدان الإنسانية يبقى يستلهم من مواقف دعاة الحق والعدالة والإنصاف حافزا لمقارعة الانحراف، وطمأنة المظلومين بان في الأفق صيحة مبادئ سامية سيبقى دويها دائم الحدثان، لأنها انطلقت بفصاحة إمام معصوم في أجواء نشط فيها الفجور واستفحل في جنباتها الباطل، انها الصيحة الخالدة التي ارتبطت كلماتها منذ ولادتها بالوجدان الإسلامي الذي تشرّف باحتوائها واتخاذها نبراسا، لتنير الطريق في يوم تتلبد فيه الغيوم، لان في كل عصر يوجد (يزيد) لابد من ان يخرج عليه احد، وعندها يحتاج داعي الحق الى تلك القولة المبدئية المدوية:
(اني لم اخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطاب الإصلاح في امة جدي، أريد ان آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين).