(٥) المسير إلى كربلاء زيارة الأربعين
المسير إلى كربلاء زيارة الأربعين
محمد جعفر الكيشوان الموسوي
يستقبل عشّاق الحسين ومحبيه شهري محرم الحرام وصفر المظفر بمزيد من الأسى والحزن لما جرى في الطف من مجزرة بشعة يندى لها جبين الإنسانية بحق حفيد نبي الإسلام ومنقذ البشرية من الشرك والضياع ومدخلهم نعيم الجنات. فكان أجر هذا النبي العظيم هو قتل ابن بنته الحسين بن علي عليهما السلام وسبي عياله وأخذهم سبايا إلى مجلس يزيد الفاسق الفاجر. في هذين الشهرين تقام مجالس العزاء الحسيني في شرق الأرض وغربها وقد بكته السماءُ من قبل دما. وفي يوم الأربعين يقصد الموالون والمحبون كربلاء الحسين مشيا على الأقدام كجزء من الوفاء لهذا الأمام العظيم ، كما أن البعض يقصدون الحسين عليه السلام طلبا للأجر والثواب ولسان حالهم يقول:
تبتلُ منكم كربلاء بدمٍ ولا تبتلُ مني بالدموع الجارية
لقد تعرضت هذه المسيرة المباركة عبر التاريخ لأقسى حملات التقتيل والتنكيل والتضييق والخناق حتى فُرضت ضرائب باهظة على الزوار كقطع الكفوف أو اليدين لكل من أراد أن يزور الحسين، ولكن الزوار لم يمنعهم ذلك التعسف والجور والظلم والحيف الكبير عن زيارة مولاهم ومقتداهم وإمامهم. بالأمس القريب كنا نقيم مجالس العزاء في العراق في البيوت فقط، لأن التظاهر بالحزن على سيد شباب أهل الجنّة يعد في فكر الهداميين جريمة لاتُغتفر، كما أن صلاة الشباب في المساجد وأروقة الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم كانت تُعد خروجا عن قانونهم. ولكن أين القصور أبا زيد ولهوها!!
ها هي الملايين في مسيرتها الحسينية الخالدة تقصد من كلّ فج عميق محراب الحسين عليه السلام وشعارها الذي زلزل الأرض تحت أقدام الظالمين:
لو قطّعوا أرجلنا واليدين نأتيك زحفا سيدي يا حسين
أنه جيش الحشر الحسيني كما وصفه أخونا الشيخ الكريم الأستاذ علي الغزي في جوابه على تعليقنا حول المشي إلى كربلاء. فالحسين هو نور الله الذي لا يُطفأ وهو ثار الله وابن ثأره، فأين المفر من الله..
قد يكون الإنسانُ عدوا لله والعياذ بالله ولكن ما حال من كان اللهُ عدوا له نستجير بالله.
الحسين عليه السلام هو ثأر الله لأن الذين قاتلوه هم إنما قاتلوا الله الكبير المتعال.
لقد دأب المعادون للبيت العلوي الطاهر أن ينالوا من زوار الحسين وقاصديه بشتى الوسائل لينضموا إلى تلك العصابة التي قاتلت الحسين عليه السلام وليس الذين قتلوه فقط. فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين وخسروا خسرانا مبينا.
في عصرنا الحالي عصر الديمقراطية وحرية المعتقد واحترام الرأي الآخر، يحاول البعض ممن يفكرون ليل نهار بحثا عن موضوع يتناولونه، التعرض لزوار الحسين وقاصديه مشيا على الأقدام بحجة أن هذه المسيرة الحسينية المباركة هي هدر للوقت الثمين جدا وكذلك هدر للمال المحترم والمصان جدا. سبحان الله كلّ شيء على ما يرام ولم يبق أمام التحضر والتقدم إلاّ منع هذه المسيرات التي تخرج للحسين عليه السلام. في إحدى الدول الأوربية تخرج الجموع في يوم معين من السنة وتركض بشكل بهلواني وراء الثيران في الشوارع وهي ترمي الثيران بأطنان الطماطم ولم ينتقد أحد هذه الظاهرة. ما الضير من أن توزع هذه الطماطم على الفقراء ثم ما ذنب هذا الحيوان حتى يضرب هكذا. في دولة أوربية أخرى يوجد يوم خاص للضحك حيث يجتمع الناس في مركز المدينة ليضحكوا من أجل الضحك فقط وهناك الكثير من هذه الأمثلة وربما تناولناها بشيء من التفصيل إن شاء الله ذلك.
لا أدري بالضبط عن أي وقت ثمين يتحدث هؤلاء السادة الأفاضل!!
هل نحن فعلا نحترم الوقت بساعاته ودقائقه وحتى ثوانيه!!
لو كنا فعلا كذلك، لربما اقتنعت بمناقشة أولئك السادة الأفاضل حول الوقت وكيف أنهم يهدرونه بكتابة تلك المقالات التي لا ينتفع بها أحد. بل يخسر القارئ وقته المحترم ويبذره وهو المسؤول عنه أمام الله. كم من مرّة شعرت بالذنب أن قرأت عن طريق الصدفة لهؤلاء السادة خزعبلاتهم التي لا تنتمي إلى المنطق والمعرفة. لم أقرأ مرّة مقالا أو بحثا أو سطرا ينتقد بعض السلبيات الموجودة فعلا بشيء من الأنصاف وبعيدا عن البهتان. العكس هو المعمول به، مقالات انفعالية بأسلوب ساخر من الخطباء والمجالس والحاضرين جميعا، وكأن حاضري مجلس عزاء الحسين لا يفقهون شيئاً. سمعتُ ان بعض المثقفين ينتقد بشدة تلاوة القرآن الكريم في سيارات الأجرة ويعتبر ذلك من المزعجات لغير المسلمين ويطالب الدولة ان تمنع ذلك لأنه ينافي الحريات العامة. ربما فكرنا بالتحاور مع هذا السيد المحترم لو كان منصفا بعض الشيء وطلب بذات الوقت منع حتى الموسيقى الصاخبة والأغاني التي تسبب لي الصداع وخاصة تلك التي تكون كلماتها مبتذلة ومهينة للمرأة.
اليكم هذه القصة:
- جارتي المسيحية المحترمة
قبل حوالي ثلاثين عاما كنتُ أعيش في منطقة في أوربا ليس فيها مسلمٌ سواي (على ما أعتقد). وكنت أسكن إلى جوار سيدة مسيحية محترمة تبتدأني التحية كلّما صادفتني في طريقها. غابت هذه السيدة بضعة أيام فلم أرَ لها أثرا في الطريق أو عند مدخل البناية التي كنتُ أسكنها. بينما أنا كذلك أفكر في أمرها وإذا بشاب في مقتبل العمر يطرق الباب ويقول لي بأن والدته تريدني عندها في البيت. فتحتُ الباب وقلتُ له: حسنا قل لسيدتك ووالدتك بأني سأحضر حالا. ذهبت إليها لأراها مريضة طريحة الفراش فدعوتُ لها بالشفاء التام العام العاجل وإذا بها تقول لي: أطلبُ منك طلبا وأرجوك أن تحققه لي. قلتُ أنا طوع أمرك أيتها السيدة المحترمة. قالت حسنا إني أحب أن أسمع منك ذلك الصوت وتلك الكلمات التي كانت تقرع مسامعي وتجعل دموعي تتساقط من عينيّ كالمطر، فأشعر بالأمن والأمان والراحة التامة. قلت لا يكون ذلك إلاّ في تلاوة القرآن الكريم فبذكر الله تعالى تطمئن القلوب. بدأتُ أتلو على مسامعها بعض أيّ الذكر الحكيم حتى سكن ألمها ونامت ليلتها وهي مطمئنة.
بعض المثقفين يحزن كثيرا على الأموال التي تُصرَف على الشعائر الحسينية وكأنها تُصرَف في صالات الخمر والميسر ناسيا هذا السيد المحترم أنها تصرف في بعض جوانبها على إطعام الطعام الذي يستفاد منه الفقير الذي يُسرقُ قوته كلّ يوم نهارا جهارا. لا بل حتى الطيور وبقية الحيوانات تستفاد من بقايا الطعام. أين التبذير وأين الإسراف أيها المحترم!!
هل إذا سقط صحن من الرز على الأرض من شدة الزحام يكون ذلك تبذيرا وأن نعمة الله تسحقها الأقدام!!
كما أن هذه الأموال تُصرفُ في جوانب أخرى على مجالس الوعظ والارشاد. أوليسَ ذلك بأنفع من أن تُصرَف في أماكن تشمئز منها النفس العفيفة وتنفر. ثم أن هذه الأموال هي أموال خاصة وليست أموال الدولة أو المجتمع. أو ليس من حق مالكيها أن ينفقوها كما يشاؤون وأينما يشاؤون، كما يذهب البعض إلى الشواطئ الرملية الزرقاء والخضراء ولياليها الحمراء، دون أن نقرأ لكم أيها السادة الأفاضل سطرا واحدا في الفكر والإصلاح.
الجانب الآخر هو أن العرب كرماء وإطعام الضيف وقراه فخرٌ لهم فحتى في الجاهلية كانوا يوقدون النار ليهتدي إليهم كلّ من يمر بديارهم فيحسنون ضيافته ويتولون خدمته، كما أن بعضهم كان يرسل غلامه قائلا له: إن جلبتَ لنا ضيفا فأنت حرٌ. كيف الحال أيها السادة حينما يكون الضيف هو زائر الحسين وقد قصده مشيا على قدميه. أنا لا أعتب حتى على بعض الكتّاب من الطائفة لأنهم لم يعرفوا بعد المولى أبا عبد الله الحسين حق المعرفة حتى لو كان أحدهم يحمل لقب أستاذ كرسي. الذي يعرف الحسين تراه يقبّل التراب الذي تطأه أقدام زوار الحسين وإنه لمن التوفيق أن ينال ذلك بيسر وعافية. ربما لا يروق هذا الكلام لبعض السادة المحترمين، فذلك شأنهم وهم أحرار. هذه عقائدنا ونحن أحرار كذلك. كان بعض العلماء العرفاء أعلى الله تعالى مقامه في الجنّة يكتحل بالتراب الذي تطأه أقدام زوار الحسين عليه السلام. من أراد المزيد فهناك كتب قيّمة في هذا الصدد تناولت أسماء الذين شافاهم الله تعالى بتربة الحسين عليه السلام.
الإصلاح لا يكون بالسخرية والاستهزاء بأفكار وعقائد الآخرين ومن جملتها الاعتقاد بالشفاء بتربة الحسين وزاد الحسين وزيارة الحسين عليه السلام. لم نكره أحدا على الاعتقاد بذلك كما إننا سوف لن نحاول إقناع أحد بمعنى البركة حينما يكون فاقدا لها ولم يتذوق طعمها في نفسه وماله وولده ووقته وعمله (بطالته وفراغه).
الإصلاح لا يكون بالسخرية من المجالس والمسيرات الحسينية..
السائرون، الماشون على الأقدام، الزاحفون نحو كربلاء هم أمّة بكاملها وليس فئة أو طبقة أو عشيرة أو حزب معين حتى نتهمهم بعدم احترام الوقت الثمين. فيهم المهندس والطبيب والمحامي والمعلم والأستاذ الجامعي والبروفسور والتلميذ والشرطي والجندي والعامل والفلاح والتاجر وطالب العلم والعالم والخطيب والمستمع من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والكهول من العراقيين وغير العراقيين ومن العرب والأجانب والأوربيين والمسلمين والمسيحيين والصابئة وغيرهم. أيعقلُ أن كلّ هؤلاء لا يفكرون في الوقت وجنابكم أيها السيد الباحث والكاتب المحترم تفكر بوقت هؤلاء وتشفق عليهم شفقة الأستاذ على طلابه الكسالى.
أيُعقَلُ أن يقصد كربلاء في يوم الأربعين مَن يُعلِن إسلامهُ في أرض الطهر والقداسة وجنابكم أيها السيد المحترم يعتبر ذلك تخلفا للبلاد!!
يؤسفني أن أقول للكبار (سناً) ماكنت أقوله للصغار(سناً):
لا تلقوا بتناقضاتكم وسلبياتكم على الدين أو المذهب أو الطائفة..
ما ذنب طائفة معينة إن كنتَ أيها السيد المحترم قد اختلفتَ مع أحد الخطباء أو المحاضرين الذي أساء أو إنك قد أسأت فهمه.
إن الانتماء للطائفة ـ أية طائفة ـ لا يعطيك الحصانة والحق بأن تنال من تلك الطائفة وتسخر منها.
سألني أحد المدرسين عن سبب عدم إتباع الطلاب له. قلتُ لأنك تكثر من قول لا تفعل أو افعل وكأنك تلقنهم أفكارك تلقينا. بإمكانك مثلا أن تشرح وتبين لهم فوائد النوم المبكر بدلا مِن أن تأمرهم بعدم السهر، مقدما لهم الدليل والبرهان على زعمك.
كان أحد الطلاب يحضر معه حاسوبه الشخصي حينما يأتي إلى محفل القرآن. أتذكر أني في إحدى المرّات جالسته وهو يلعب لعبته المفضلة مما أدى إلى تأخري عن الدرس نصف ساعة، لكنه خجل خجلا كبيرا حينما شعر أن لعبته تلك قد أربكت بقية زملائه فأصبح من المميزين عن أترابه.
نحن بحاجة إلى من يلفت عنايتنا ويرشدنا إلى أخطائنا ولكننا لسنا بحاجة إلى من يسخر منّا فلسنا بلهاء أو حمقى.
كنت أقول للأولاد: أنا والدكم ومن واجبي أن أرشدكم وأعلمكم وألفتُ انتباهكم إلى ما غفلتم عنه، ولكن أنا من الذي ياترى يرشدني ويعلمني فأنا بشر مثلكم كثير الخطأ والزلل ولكني أكبر سنّاً منكم!
الأولاد يأخذهم الخجل فلا يستطيعون إرشاد الوالد وإن كان ساهيا.
من يعلمنا نحن الكبار سنّا ايها السادة؟؟
أحقا نحن ملائكة لا نخطأ!!
أولسنا ايها السادة
"كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عن رَعيتِهِ". حديث نبوي شريف
نحنُ الكبّار سنّا يعلمُ بعضنا بعضاً بالكلمة الطيبة وبالموعظة الحسنة الجميلة لا بالسخرية والاستهزاء لأن ذلك لا يليق حتى بمقام السن. ربما تقبلنا بعض النقد الساخر من شاب في العشرين ولكن أن يأتيك من شيخ في الخمسين أو الستين وربما في التسعين فذلك معيب حقا ولا يليق بقائله. أتعجب كثيرا من الجمع بين حب الحسين وبين النيل من زواره وقاصديه مشيا على الأقدام واعتبارهم ممن يعطل أمر البلاد ويبذر أموال العباد.
المسير إلى كربلاء ليس هدرا للوقت إطلاقا. بل هو استثمار حقيقي للوقت:
أولاً: إنه طريق الله فالسائر فيه جاء من تلقاء نفسه ولم يجبره أحد على ذلك. إنه يرى التقرب إلى الله بهذا المسير فتحمل العناء والتعب وواصل المسير ليل نهار. أولسنا في عصر تُحترم فيه عقائد الناس وآراءهم أم أن ذلك لا يشمل زوار الحسين!!
ثانياً: في الطريق إلى كربلاء مساجد ومجالس يذكر أسم الله فيها فالسائر يلتزم بالصلاة في أوقاتها ويستمع إلى وعظ العلماء والخطباء، حتى أن البعض قد تعلم الصلاة في الطريق إلى كربلاء.
ثالثاً: تنشأ بين الزوار السائرين إلى كربلاء علاقات أخوية وإيمانية صادقة ويستمر التواصل والتزاور فيما بينهم بعد انتهاء مراسيم الزيارة وبعد عودتهم من كربلاء. علاقات كهذه ستكون مباركة وناجحة لأن البيئة التي ساعدت على توثيقها هي بيئة صالحة مباركة.
رابعاً: هناك في كربلاء تعقد ندوات ومؤتمرات فكرية وأخلاقية وليس هناك على وجه الأرض أعظم من المؤتمر المليوني الحسيني التلقائي الذي يعقده زوار الحسين الذين قصدوا كربلاء من كلّ حدب وصوب.
خامسا: المسير إلى كربلاء فيه من الفوائد الرياضية والنفسية ما يكون علاجا للكثير من الأمراض والأزمات التي يسببها الكسل والخمول والشعور بالوحدة والكآبة. في الدول المتقدمة تقام معسكرات ورحلات صيفية وشتوية لهذا الغرض. أين الخلل في المشي على الأقدام أو المعسكرات الحسينية.
خامساً: كنتُ ومنذ الطفولة مشاركا بهذه المسيرة المباركة وكنتُ أرى وأسمع كيف أن البعض قد أعلن توبته في الطريق إلى كربلاء وعاهد الله أن لا يعمل السوء ولا يقول المنكر. إنه مكان مناسب للتفكر ومحاسبة النفس وتذكيرها بيوم الحساب. هل في ذلك هدر للوقت!!
سادساً: الطريق إلى كربلاء يجمعنا، في حين تعجز أكبر شخصية فعل ذلك مهما أوتيت من قوة بيان وإعلان ومال وسلطان. الحسين للإنسانية جمعاء فهو الذي حارب الظلم والفساد وقدّم أهل بيته قرابين من أجل إعلاء كلمة الحق ودحض الباطل.
سابعاً: الشفاء بتربة الحسين عليه السلام. فالكثير من المرضى يقصدونه بأبي هو وأمي طلبا للشفاء وأحيانا لشفاء ما عجز الطب الحديث عن علاجه. أخشى أن يأتي يومٌ يكتب هؤلاء السادة المنتقدين عن عدم جدوى الحج وأنه تعطيل لبلاد المسلمين وتبذير للمال المحترم لأن نفقة الحج تكلف في عصرنا الكثير من المال، كما لا أستبعد أن ينكروا منافع الحج الذي يشهدها حجاج بيت الله الحرام، بل أخشى واقعا أن يقولو يوما بأن لا شفاء بماء زمزم فما الفرق بين ماء زمزم وتربة الحسين من حيث الاعتقاد.