(١٦) يزول الطغاة ويبقى الحسين.. الزيارة الاربعينية في العهود المظلمة
يزول الطغاة ويبقى الحسين.. الزيارة الاربعينية في العهود المظلمة
قيس العامري
الأربعين هي الذكرى التاريخية التي تسلط عليها الاضواء سنويا لمرور أربعين يوما على الحاق الرؤوس بالأجسام الطاهرة و استشهاد الإمام الحسين عليه السلام الذي ضحى بنفسه وبأنصاره في سبيل الدين. والتي تصادف يوم العشرين من شهر صفر ولها فضيلة كبيرة.
و قد ذكرت الزيارة الاربعينية بعدد من الروايات الشريفة كالحديث المروي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: (علامات المؤمن خمس: صلاة الاحدى والخمسين وزيارة الاربعين و التختم باليمين وتعفير الجبين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم) (بحار الأنوار 98: 329 (طبعة بيروت)، المزار للشيخ المفيد: 53).
والزيارة التي يستحب قراءتها في هذا اليوم -أي يوم الأربعين- هي النص منقول عن صفوان الجمّال عن الإمام الصادق عليه السلام والتي تبدأ كما يلي: (السلام على ولي الله وحبيبه…).
والزيارة الأخرى هي التي قرأها جابر بن عبدالله الأنصاري والتي تقرأ في زيارة الإمام في منتصف شهر رجب، وتبدأ بما يلي: (السلام عليكم يا آل الله…) (مفاتيح الجنان: زيارة الأربعين).
و اشتهر ان اول من زار الامام الحسين عليه السلام في يوم الاربعين هو جابر بن عبد الله الأنصاري، وعطية العوفي- وهو من رواة الشيعة الثقات، وموثوق حتّى في كتب الرجال عند السنّة - حيث ذكر في التاريخ و الروايات الشريفة انهما وصلا إلى قبر الإمام الحسين عليه السلام في الأربعين الأولى من بعد مقتله وزارا قبره الشريف، بعد أن أغتسل جابر بماء الفرات ـ وكان قد ذهب بصره ـ وتطيّب وسار نحو القبر بخطوات قصيرة حتى وقف عليه ووضع يده عليه بمساعدة عطية، فأغمى عليه، ولمّا أفاق صاح ثلاث مرّات: يا حسين، ثم قال: (حبيب لا يجيب حبيبه…) وقرأ الزيارة، والتفت بعدها إلى سائر الشهداء وزارهم أيضا (منتهى الآمال 1، أحداث الأربعين، نفس المهموم: 322، بحار الأنوار 98: 328).
و بينما كان جابر بن عبد الله الانصاري وعطية العوفي جالسان بين قبور الشهداء في كربلاء قدمت عليهم قافلة ركب السبايا الذي ذكر في الروايات ان بعد خروج السبايا من الشام توجهوا الى كربلاء مع الرؤوس الطاهرة، وكان وصولهم الى كربلاء في يوم العشرين من شهر صفر اي بعد مرور اربعين يوم على شهادة الامام الحسين عليه السلام ولذلك سمي هذا اليوم بيوم الاربعين.
كما ذكرنا في الروايات التي أكدت ان زيارة الاربعين للإمام الحسين عليه السلام من علامات المؤمن فان الشيعة و محبي اهل البيت عليهم السلام قد واضبوا عليها و على باقي الشعائر الحسينية، وكان لها اثر بالغ في زرع الروح الثورية لدى المظلوم على الظالم مما ادى الى نشوب ثورات تسلسلت بعد ثورة الامام الحسين عليه السلام، وقد لفتت هذه الشعائر و التجمعات نظر الطغاة الى وضع التضييق عليها خوفا على عروشهم، و بالخصوص محاربتها لزيارة الاربعين على مر التاريخ و نلقي هنا نظرة سريعة على معاملة ثلاث حقب من الحكومات لهذه الزيارة المليونية و كم تم التضييق علها.
زيارة الاربعين في العهد الاموي:
واجهت الزيارة الاربعينية في العصر الاموي اشد المعارضة في منعها من قبل سلاطين الحكومة الاموية و ذلك لما يحمله هذا العصر من التطبع السلبي، فمن ميزات هذا العهد المظلل ان إعلامه تبنى تشويه قضية الامام الحسين عليه السلام و اعتباره مارق عن الدين و خارج عن حكم الذي يعتقون به خليفة و يعتبرون كل من خرج عن امر خليفتهم فهو مستحق القتل، ومنشأ هذا الاندفاع هو كون شهادة الامام الحسين عليه السلام وقعت في عصرهم الدامي ولذا كانت وسائل التعتيم و محاربة اتباع اهل البيت عليهم السلام من ضروريات بقاء دولتهم الظالمة، و كان الشيعة يتحملون عبء كبير في مواجهة الطغاة و تحملهم القتل و القمع بكل انواعه، ولذا فان احياء الشعائر الحسينية في ذلك الزمن كان من الصعب على اتباع اهل البيت عليهم السلام و بالذات شعيرة زيارة الامام الحسين عليه السلام يوم الاربعين لان محيها يتعرض الى المضايقات تصل الى أعلى درجات التعذيب و التفنن بالقتل، حيث استخدمت الحكومة الاموية تلك الضغوط لما رأته من الخطورة في ممارسة الشيعة للشعائر الحسينية و بالذات الزيارة الاربعينية ولذلك حاولت ابادتهم و منع اقامة المآتم الحسينية ومحاربتها، وكان الشيعة صامدين في تلك الآونة حيث استلهموا قواهم من ثورة الامام الحسين صلوات الله عليه التي اعتبروها حركة توعية و تنبيه للعقول لما تحمله قضية الامام الحسين من المبادئ السامية.
ولذلك فان بعد مقتل الحسين عليه السلام و انتقال زعامة التشيع الى الامام زين العابدين بن الحسين عليه السلام الذي انتهج منهجا حكيما او غاية في الحكمة حيث ركزت مدرسته على بناء المظهر الاسلامي الحق بالفكر و القلم و القرطاس، فكانت مدرسة الامام زين العابدين هي عبارة عن امتداد لمدرسة ابيه الامام الحسين عليه السلام و مهدت لباقي مدارس اهل البيت عليهم السلام، حيث استند الامام زين العابدين في بناء مدرسته على التدبير و الحكمة اضافة الى توجه الانظار عليه من قبل شيعته التي منعت من الحاق الاذى به، ولذا انطلق في تعريف ثورة ابيه الامام الحسين عليه السلام.
زيارة الاربعين في العهد العباسي:
أما ما يخص العهد العباسي في محاربة الشعائر الحسينية ففي هذا العهد نرى سياسة غريبة نوعا ما لكون الدولة العباسية تأسست على رفع شعارات مظلومية اهل البيت عليهم السلام و اتخذتها ذريعة في في اسقاط الدولة الاموية التي اختتمت بآخر ملوكهم الذي كان يسمى (مروان الحمار)، ولذلك حققت الدولة العباسية انتصارها على الدولة الاموية.
و في بداية الدولة العباسية اصبح للشيعة انتعاش فكري واسع و كان أول من تولى الحكم أبو العباس السفاح، الذي بويع سنة (132 ه) ومات سنة (136 ه) وانشغل في زمن حكمه بتتبع وملاحقة بقايا الدولة الاموية مما سبب الغفلة عن حراك الامام الصادق عليه السلام -الذي كان معاصرا لهذه الحقبة الزمنية- واتباعه حيث انتهز الامام الصادق عليه السلام هذه الفرصة في نشر ثقافة اهل البيت عليهم السلام و استذكار مصيبة جده الامام الحسين عليه السلام و احياء الشعائر الحسينية بالخصوص الزيارة الاربعينية.
و بعد ان ثبت العباسيون اركان الدولة العباسية و قوت شوكتها فانهم توجهوا الى تحطيم الشيعة و مضايقتهم بكل الوسائل التي لا تخطر على العقول حيث اجرموا و اسرفوا بسفك الدماء و التعذيب على انواعهما وقد بلغوا في اجرامهم ما لم يبلغه بني امية (الحكم الاموي)، وتوارثوا الحكم حتى اثنى عشر حاكما عباسيا لم يرأفوا بالشيعة طرفة عين و تم تهديم ضريح الامام الحسين عليه السلام واخفاء اثره في العهد العباسي على يد المتوكل، وتتالت الجرائم عليهم من حاكم لآخر عدا (المنتصر بن المتوكل) الذي تعاطف مع الشيعة و ذرية النبي الاكرم و انتحى سياسة البر و الاحسان.
ففي مثل هذه الظروف التي مر بها الشيعة من مضايقات، فان للشعائر الحسينية و بالذات الزيارة الاربعينية خصوصية في عدائها و منع ممارستها، فكانت الدولة العباسية توجس منها خيفة كونها تعتبر تجمع يحيي قضية سامية و ارتقاء العباسيون منصة الحكم من خلال دفاعهم عنها و من ثم انقلبوا على اعقابهم بعد تمسكهم بالحكم فحاولوا اخمادها و نفيها من التاريخ الى الابد لكي لا تكون وصمة تاريخية عليهم من حيث ان الدولة استندت في انشاءها على الدفاع عن اهل البيت عليهم السلام و التوعد برفع الظلم عن الشيعة.
الزيارة الاربعينية في عهد النظام الصدامي البائد و تأثره بالوهابية التكفيرية:
كانت -قبل النظام الصدامي البائد- محاولات كثيرة من قبل الجهات الوهابية التكفيرية الى طمر معالم اضرحة ائمة اهل البيت عليهم السلام و لا سيما في البقيع الغرقد لما لهم من السيطرة و بسط اليد على تلك الاماكن، ووصلت ايديهم الى محاولة هدم ضريح النبي صلى الله عليه وآله، وعليه فان محاولاتهم في طمر هذه المعالم في العراق كثيرة، و منها ما كان في عام (1216هـ) حيث اغاروا على كربلاء المقدسة لمدة عشر سنوات و كان حصيلتها هدم قبر الامام الحسين عليه السلام و النهب و القتل، و في عام (1225هـ) توجه (الامير سعود) قائدا لجيش تعداده عشرون الف وهابي، و هجم على النجف و كربلاء.
اما بالنسبة للحكومة البعثية البائدة فإنها جعلت من اولوياتها محاربة الشيعة و الشعائر الحسينية بالعموم و الزيارة الاربعينية بالخصوص، في ظل التعتيم الاعلامي و قطع العلاقات بين منظمات حقوق الانسان من الطرفين!، حيث لم يكن (لحكومة صدام) المقبور اي رادع أو اي مراقبة دولية بل و كأن الشيعة لا يشكلون اغلبية بالعراق و القضية لا تعني أحد، حيث استخدمت الحكومة البعثية في العراق انواع الاسلحة و التعذيب و السجن بحق الشيعة لا سيما عند انطلاقة الانتفاضة في النجف الاشرف في يوم الأحد 16 شعبان 1411هـ/ 3 آذار 1991م، حيث كان النظام البائد يقمع و يمنع كل من يمارس شعيرة المشي الى الامام الحسين عليه السلام قبل الانتفاضة الشعبانية (1991م)و بعدها، وكان المنع باتخاذ طرق القتل و السجن و التعذيب العلني و تعرض اضرحة الائمة عليهم السلام الى التهديم الجزئي امام الملأ تحت ضل رعاية الفكر الوهابي التكفيري الذي يرعى بحماية الحكومة الصدامية مما يوفر لها من الفكر التكفيري ما يكفي لإهراق الدماء العراقية القادمة مشيا الى زيارة الامام الحسين عليه السلام.