(٤٥) البُعد الإنساني- عقلاني في الأربعين الحسيني
البُعد الإنساني- عقلاني في الأربعين الحسيني
كريم الأنصاري
محاولة متواضعة لمحاكاة العنوان عبر التلبّس بشروط الاستحقاق الإنساني-عقلاني من خلال التجرّد – حين البحث- عن الانتماء العَقَدي والانسلاخ عن البرهان النقلي، ممّا يعني التسلّح بالمنهج النقدي العلمي في تحليل مورد دراستنا، ألا وهي ظاهرة الأربعين الحسيني، البالغة ذروتها في العشرين من شهر صفر حسب التقويم القمري من كلّ عام هجري، حيث تتجدَّد ذكرى رجوع المتبقّين -السبايا- من رحل الحسين بعد أسر الشام، إلى مدينة النبي مروراً بمدينة كربلاء لزيارة قبر الحسين وأولاده وصحبه الكرام.
كربلاء هي المكان الذي وقعت به معركة الطفّ الشهيرة عام 61 هـ.ق بين مايسمّى بجيش الحسين بن علي، الذي لم يتجاوز الثمانين مقاتلاً على أصحّ الروايات، وجيش يزيد بن معاوية الجرّار بقيادة عمر بن سعد، الذي أقلّ ما قيل في تعداده أربعة آلاف مقاتل . وقد حُسِمت المعركة في أقلّ من يومٍ واحد بمقتل الحسين وجميع أولاده وصحبه إلّا ماندر كعليّ بن الحسين المعروف بالسجّاد زين العابدين
لسنا بصدد التوسّع في بيان تفاصيل معركة الطفّ وأسبابها ونتائجها .. إنّما البحث منعقدٌ على نحو المعايشة الميدانية الحقيقية لظاهرة الأربعين الحسيني، تتناول المحاور التي تدعم الأُفق العلمي على التثبّت الميداني من صحّة أو بطلان الاستحقاق الإنساني-عقلاني لهذه الظاهرة الدينية الاجتماعية.
إذن نحن في إيفادٍ معرفي منهجي يستقريء ويفحص ويحفر ويتمسّح ويراجع ويقارن ويحلّل ويستنتج.
ملايين الناس تبدأ رحلة التوجّه مشياً على الأقدام إلى قبر الحسين بن علي في كربلاء من اليوم الأول من شهر صفر على المعتاد.
نعم ملايين الناس تعطّل التزاماتها وتتفرّغ لهذا العمل لا غير. وتختلف مسافة المسير باختلاف نقاط الانطلاق. ففي هذا العام -مثلاً- انطلق أكثر من ألف شخص من مدينة مشهد الإيرانية في مسيرة تبلغ 66 يوماً لغاية الوصول إلى كربلاء في اليوم الموعود.
على امتداد الطرق الموصلة للمقصد تتوفّر الخدمات التي يتعسّر علينا التعرّض لها هنا ولو خاطفاً لكثافتها وتنوّعها المثير.
لا تساهم الدولة في الصرف على الماشين أبدا؛ حيث يهبّ المتبرّعون بالإنفاق بشكلٍ حماسيٍّ لايصدّق، بل نرى الإبداع والتفنّن في عرض الخدمات بنحوٍ لايمكن استيعابه إلّا بالمعايشة عن قرب.
تتولّى الدولة رعاية الجانب الأمني بحضورٍ لافتٍ ومساندٍ وقوي.
ملحمة الضيافة تبلغ ذروتها في هذه الأيام، حيث يتنافس الناس ويتسابقون إلى الفوز باستقبال وإسكان وإكرام الماشين إلى قبر الحسين.
العراقيّون معروفون نوعاً بحدّة الطبع والمزاج لكنّك تجدهم في هذه الأيام على غير تلك الطباع تماماً.
لا ننسى أنّنا في العراق، حيث سيف الإرهاب والترويع ومحدودية الإمكانيات وتأزّم الاقتصاد تفرض مجتمعةً واقعاً خاصّاً بامتياز.. فلسنا في السعودية التي تستنفر في موسم الحجّ كل الطاقات والإمكانيات الهائلة والمرافق الحكومية والأهلية لأجل إنجاح الشعيرة المقدّسة التي لا يتجاوز عدد المشاركين فيها ثلاثة ملايين على أكثر التقادير. رغم ذلك قلّما يخلو موسم الحجّ من الحوادث صغيرها وكبيرها.
هناك من يقول: إنّ ظاهرة الأربعين الحسيني تجاوزت كذا وكذا مليون زائر حتى بلغت بعض التقديرات حدود العشرين مليوناً.. لكنّ القدر المتيقّن أنّها لاتقلّ عن الخمسة ملايين على أدنى الإحصائيات.. بلا حوادث كبيرة قياساً إلى حجم الحضور وأهمّية المناسبة.
بعد طيّ عشرات ومئات الكيلومترات مشياً على الأقدام يصل الزائر مدينة كربلاء وحين لا يجد منفذاً للوصول إلى قبر الحسين بن علي يكتفي بإبداء الولاء وتجديد العهد والسلام من على البُعد ثم يكرّ راجعاً من حيث أتى.
يقصد الماشي مدينة أبي عبدالله الحسين متحمّلاً ألوان المشقّة والتعب والمخاطر وهو يعلم يقيناً أنّه لن يحصل فيها على مكسبٍ دنيوي، بل هو خاسرٌ بالمعيار المادّي.
كل سنة يزداد شوق الحضور والمشاركة بشتّى الأبعاد والموازين الحسّية.
أقول: نحن نعلم أنّ صنع الفكرة من أعقد وأعسر وأخطر وأهمّ الصناعات المعرفية، حيث تتولّاها كبريات المراكز والمعاهد الاستراتيجية في بلدان العالم المتقدّمة على وجه الخصوص، كون الفكرة المنتَجة الحائزة على قبول العقل الجمعي تساهم بشكل فاعل في صياغة القرار على مستوى الحكومات والدول العظمى ناهيك عمّن سواها .
إذن، على ضوء المعايير العقلانية والحسابات المادّية والضوابط العلمية والمواصفات المعرفية، أين بإمكاننا تراتبياً وضع الفكرة التي صنعها الحسين بن علي قبل ما يقرب الأربعة عشر قرناً، ولازالت ساخنةً تستقطب عقول الملايين وقلوبهم بكلّ قوّة وحضور نابض بالحركة والنتاج الميداني الفاعل؟
هذه الفكرة الإنسانية المتجرّدة عن التعصّب والحميّة القبلية والأهواء الشخصية والأوهام الضيقة السلبية عصارةُ مافيها أنّها تدعو إلى التغيير والإصلاح وانتشال الإنسان من حضيض النفس البهيمية إلى ألَق الروح الفيّاضة بالرحمة والحبّ والسلام والقيم القدسية.
لذلك قاد الاستنتاجُ المعرفي بأدواته المنهجية العلمية المشار إليها أعلاه، إلى كون معركة الطفّ مثّلت انموذجاً راقياً من نماذج انتصار الدم على السيف، ولهذا النصر ثمارٌ وآثارٌ مافتئت تغرس روح الحوار والوئام والحبّ والسلام وحفظ كرامة الإنسان وحرّيته في الانتخاب والسعي الدائم نحو الإصلاح والتغيير على قاعدة القيم والمباديء العظام.
أمِنَ المعقول إذن أن تكون الجموع المليونية الحاضرة في الأربعين الحسيني ناهيك عن عشرات بل مئات الملايين الذين تهفو وتتفاعل بهم القلوب والعقول كالماشين إلى قبر الحسين، وتشاطرهم الفهم والدرك والإحساس بأبلغ المقاييس .. أمِنَ المعقول أن تكون جميعها مجنونة أو جاهلة لاتعي ولاتعلم ماذا تصنع وتفعل وتريد؟!
وهل أراد الحسين غير الاصطفاف في حضورٍ عظيم يدعو إلى الخير والفلاح؟!
وهل أراد الماشون غير التعبير سلميّاً عن الحزن والألم لِما حلّ بهذا الناهض المصلح الذي ضحّى بمهجته من أجل إسعاد الإنسانية وتحريرها من الظلم والجور والاستبداد اللعين؟!
حينئذٍ لامجال لتشبّث المعارض بكون الأمر لايعدو كونه أُسطوريّاً خرافيّاً غنوصيّاً؛ حيث الحسين حقيقةٌ والأربعون حقيقةٌ والناس حقيقةٌ والقيم الإنسانية حقيقة.. فهل عقلانيةٌ وإنسانيّةٌ أعمق وأشمخ وأسنى من الحسين وأربعينه ومحبّيه يا تُرى؟!