المسار
مسيرة الأربعين » البحوث والمقالات
الفهرس
البحوث والمقالات

(٤٦) البعد الروحي لزيارة الأربعين

البعد الروحي لزيارة الأربعين

عبود مزهر الكرخي

انطلقت في اليوم الأول من شهر صفر الخير زيارة الأربعين ومن منطقة رأس الشيب إيذاناً ببداية زيارة الأربعين المباركة والتي يطلق عندنا في العراق على من يمشي في هذا الطريق النوراني(المشاية) وتكتسب هذه الزيارة أهمية خاصة عند الشيعة كونها أحدى الزيارات الضخمة وأهمها ولتصل الأعداد بها إلى الملايين ولأنها تمثل أحدى علامات المؤمن المهمة التي حددها الإمام حسن العسكري(عليه السلام) والتي قال روحي له الفداء (علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر بـ﴿بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
ومن هنا اكتسبت الزيارة هذه الخصوصية الخاصة بل واعتبرت من أهمها لتمثل العلامة المميزة لكل موالي وشيعي ولتصبح الزيارة رمز من رموز التجمعات البشرية والتي فاقت أعدادها كل التجمعات البشرية العالمية في العالم كله.
ولتكون زيارة عظيمة الأثر تسطر فيها أعظم الملاحم الإنسانية عبر التاريخ الإنساني ولتكون زيارة نورانية تكتسي فيها كل الإفاضات الإلهية والتي تعجز القلم عن الإحاطة بما تختزنه زيارة الأربعين من مكنونات ربانية ورحمانية يعجز عقلنا القاصر عن الإلمام بها وعن استيعاب المضامين الملكوتية لرب العالمين التي اختص بها هذه الزيارة الخالدة وعلى مر التاريخ والتي حاول العديد من الطغاة والديكتاتورين وعبر التاريخ قمعها وبأشد الطرق وحشية وأجرام ولكن لم يفلحوا بل سقطت كل عروشهم العفنة على الجدار النوراني لهذه الزيارة العظيمة بل كان سقوطهم سريعاً لتتهاوى كل عروش الجبابرة والظالمين بفعل بركات هذه الزيارة الإلهية والتي هي محروسة وبعين الله سبحانه وتعالى وببركات الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس وأخته الحوراء زينب(عليهما السلام أجمعين) وقد كانت زيارة بحق زيارة حار الأعداء في معرفة والكشف عن السر في عظمة الزيارة وديمومتها على مر الزمان والتي هي باقية لحد ظهور قائم آل محمد الحجة المهدي(عجل الله فرجه الشريف) والذي هو يكون الآخذ بثأر جده الحسين(عليه الحسين) وليرفع شعار (يا لثارات الحسين) والذي بظهوره الشريف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً (اللهم أجعلنا من أنصاره وأعوانه وشيعته).
ولغرض تحليل ملحمة زيارة الأربعين واستشراف كل الجوانب المضيئة لهذه الزيارة سوف نحللها على شكل نقاط من أجل إتمام الفائدة من مقالنا والإحاطة بها بقدر الإمكان:
1) عن زُرارة، عن أبي عبد اللهِ (عليهِ السلام): (يا زرارة!.. إن السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم، وأن الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإن الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وإن الجبال تقطعت وانتثرت، وإن البحار تفجرت، وإن الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين).. قد يُراد بهِ المعنى الحقيقي ولكن نحنُ لا نعوّل على هذهِ الأمور، قضيتنا أرقى من هذا المعنى!.. فهذا الكون يُدارُ بجَناحين: جناح الشهود، وجناح الغيب.. ما المانع أن يُغيّر رَب العالمين بعض عناصر الوجود، حِداداً على المؤمنين؟.. فما جرى على سيد الشُهداء (عليه السلام) في يومِ عاشوراء، لم يجر على أحدِ من أولياء الله (عزَ وجل) طوالَ تاريخ البشرية.. نعم، يحيى (عليه السلام) أيضاً قُطعَ رأسه، وأُهديَ إلى بَغيةٍ من بغايا بني إسرائيل، وأصحاب الأخدود قتلوا، وسحرة فرعون أيضاً قتلوا.. ولكن هذا المجموع من الرزايا: سبي النساءِ، وقتلِ الصغيرِ، والطريقة التي قُتلَ فيها سيد الشهُداء (عليهِ السلام) لم ينقل التأريخ لها مثيل.. ولهذا عَظُمت في السموات، وعظمت في الأرضين، وعَظُمت عندَ ملائكة العَرش.
فإذن، أربعونَ يوماً السماء بَكت على الحُسين (عليهِ السلام)، والملائكةُ بَكت عليهِ أربعينَ صباحاً، ويُفهم من بعض النصوص: أنَ هُنالكَ ملائكة مُقيمة على قَبر الحُسين (عليهِ السلام) لا تزال تبكي لما جرى عليهِ.. عن هارون بن خارجة قال: سمعت أبا جعفر [أبا عبد الله] يقول: (وكل الله (عز وجل) بقبر الحسين (عليه السلام) أربعة آلاف ملك شعثا غبراً، يبكونه إلى يوم القيامة.. فمن زاره عارفاً بحقه؛ شيعوه حتى يبلغوه مأمنه.. وإن مرض؛ عادوه غدوة وعشياً.. وإن مات؛ شهدوا جنازته، واستغفروا له إلى يوم القيامة).
ثانياً: يوم الأربعين.. إن كتبنا مشحونةٌ بذكرِ زيارة الأربعين في العشرينَ من صفر، فهذا اليوم يومٌ مشهود، وقد وردَ فيهِ استحباب زيارة الحُسينِ (عليه السلام).. ولكن لماذا وضعَ الإمام العسكري (عليه السلام) يدهُ المباركة على زيارة الأربعين، وليس على زيارة عاشوراء؟..
والله العالم!.. لأنَ يوم عاشوراء: هو يَومُ مُصيبة؛ ويَومُ الكارثة، ويَومُ الفاجعة؛ وهذا اليوم لا يمكن للموالين أن ينسوه.. والإمام (عليه السلام) كأنه يُريد أن يُبقي هذهِ الجذوة مشتعلة، فقال: (وزيارة الأربعين)؛ أي لا تنسوا أربعينَ الحُسين!.. الإمام بكلمتهِ هذهِ، أرادَ أن يعلمنا هذا الدرس الذي علمنا مغزاهُ في هذا اليوم.. ففي مثل هذا اليوم تتقاطر ملايين البشر إلى كربلاء، تزحفُ بشكلٍّ لا نَظيرَ له.. هذهِ الزيارة الحُسينية في الأربعين، لابدَ أن ندخلها في الموسوعات القياسية.. فهذا الزحف الهادر، وهذا الإخلاص، وهذا الذوبان في حُب الحُسين (عليهِ السلام) من الصغيرِ إلى الكبير، هو من بركات يومِ الأربعين.. الناس في هذهِ الأيام، يبدونَ حبهم، وشوقهم، وولاءهم للحُسينِ (عليهِ السلام) بشتى الصور!.. أو لهذا كانت لزيارة الأربعين خصوصية معينة، فيوم عاشوراء: هو يوم الفاجعة الكبرى؛ وهذا اليوم لا يمكن للموالين أن ينسوه، وأما زيارة الأربعين فكأنما أراد الإمام (عليه السلام) بها أن يُبقي هذهِ الجذوة مشتعلة. وهو ما حض جميع أئمتنا المعصومين في زيارة الإمام الحسين والمداومة على زيارته.
2) ومن هنا كان لابد من وجود مسلمات وقواعد يسير بموجبها الزائر عن قيامه بالمشاية لتكون للزيارة طعمها وجوها الإيماني والخالص لوجه الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا كان لابد من أن تكون الزيارة محطة إيمانية عظيمة للمؤمن يتم فيها تجديد كل القيم ومعاني الولاء لله سبحانه وتعالى ولأهل بيت النبوة(صلوات الله عليهم أجمعين) ولتكون عبارة عن زخم جديد للمؤمن تعطيه اندفاعات قويه في المسير في طريق الإسلام المحمدي الأصيل والذي كان الحسين يمثل أحد الوجوه والمرتكزات الأساسية في المسير على نهج وفكر الحسين في القيام بنهضته والقيام بالإصلاح في أمه جده نبينا الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ولتكون بالتالي مسير المشاية من أي بقعة في العالم هو مسير أيماني ونوراني تشع من جوانبه كل الإفاضات الإلهية والذي يكون مسير هؤلاء الزوار المباركة برعاية الله سبحانه وتعالى وببركات الإمام الحسين(عليه السلام) والذي يكون حاضر في كل مكان من مسير الزوار هو وأخوه أبي الفضل العباس ويرافقهم في السير ابنه الإمام الحجة المهدي(عجل الله فرجه الشريف).
3) ومن النقطة السابقة وعندما نعرف ما لهذه الزيارة من عظمة وقدسية ومن يكون معها كان لابد من الزائر الأخذ بعدة أمور مهمة لكي يتم حصول الأجر الكامل من هذه الزيارة وجعلها في ميزان حسنات كل مؤمن فليس المهم أن الزائر يسير في طريق المشاية ويتعب ولعدة أيام بل وحتى أسابيع ويعاني من التعب وقلة النوم والراحة ولكنه همه فقط السير وعدم استحضار الجوانب الروحانية والإيمانية في هذه الزيارة لأنه عند ذلك تصبح الزيارة مجرد السير والوصول إلى كربلاء المقدسة والقيام بالزيارة وبأسرع وقت ثم الرجوع ليتفاخر بعدها الزائر بأنه قد مشى في طريق المشاية ووصل إلى كربلاء مشياً وهذا ما نلاحظه منتشر وسائد بين فئة الشباب وحتى بين الرجال والنساء.
4) إن طرق المشاية وزيارة الأربعين هي زيارة نورانية كما قلنا ولهذا يتطلب من الزوار استحضار كل الجوانب الإيمانية والتي أقرها ديننا الحنيف بذلك وفي مقدمتها الصلاة لأنها عمود الدين كما ورد في الحديث النّبوي الشريف (عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها، واِن رُدّت ردّ ما سواها) ولهذا يجب على السائر في طريق العشق الحسيني مراعاة القيام بالصلاة وخصوصاً الفروض وعدم الإتيان بها فذلك يمثل قمة التهاون والاستخفاف بمبادئ الإمام الحسين(عليه السلام) التي خرج من اجلها ولهذا يجب التأكيد على الصلاة التي بها تمثل ديننا الحنيف وبها تسلم أنفسنا وأرواحنا والتي بها نرجو من الله سبحانه وتعالى والحسين قبول زيارتنا ومسيرنا نحو كعبة الأحرار ونجدد العشق الإلهي لأبي الشهداء سيدي ومولاي أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) والتي نأمل من الله ودعاؤنا أن يتقبل زيارة كل الزائرين والتي بقبولها تعتبر هي غاية الغايات فليس من المعقول أن تصدح مكبرات الصوت من قبل المواكب بوقت الصلاة ونجد هناك من يمشي ولا يقيم الصلاة وهذا هو قمة اللامبالاة والاستخفاف بالصلاة وهذا ما أكدت عليه مرجعيتنا الرشيدة في أغلب توجيهاتها فهي تؤكد على ذلك وتقول ((فالله الله في الصلاة فإنها ـــ كما جاء في الحديث الشريف ـــ عمود الدين ومعراج المؤمنين إن قُبِلت قُبِلَ ما سواها وإن رُدّت رُدَّ ما سواها، وينبغي الالتزام بها في أول وقتها فإنّ أحبّ عباد الله تعالى إليه أسرعُهم استجابة للنداء إليها، ولا ينبغي أن يتشاغل المؤمن عنها في اول وقتها بطاعةٍ أخرى فإنها أفضل الطاعات، وقد ورد عنهم (عليهم السلام): (لا تنال شفاعتنا مستخفّاً بالصلاة).
وقد جاء عن الإمام الحسين (عليه السلام) شدّة عنايته بالصلاة في يوم عاشوراء حتى إنّه قال لمن ذكّره بها في أول وقتها: (ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلّين) فصلّى في ساحة القتال مع شدّة الرمي)).

البحوث والمقالات : ٢٠١٧/٠٧/١٩ : ١.٨ K : ٠
: عبود مزهر الكرخي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.