(٥٨) وَقْفَة بَيْن يَدَي زِيَارَة الْأَرْبَعِيْن
وَقْفَة بَيْن يَدَي زِيَارَة الْأَرْبَعِيْن
حارث العذاري
بَعْد أَيَّام ذِكْرَى زِيَارَة الْإمَام الْحُسَيْن فِي الْعِشْرِيْن مِن صَفَر وَهِي زِيَارَة الْأَرْبَعِيْن، وَهُو الْيَوْم الَّذِي وَرَد فِيْه جَابِر بْن عَبْد الْلَّه الْأَنْصَارِي إلى كَرْبَلَاء لِزِيَارَة قَبْر الْحُسَيْن (عَلَيْه الْسَّلَام)، فَكَان أَوَّل مَن زَارَه مِن الْنَّاس، وَحِيْنَهَا كَان رُجُوْع حَرَم الْحُسَيْن (عَلَيْه الْسَّلَام) مَن الْشَّام إلى كَرْبَلَاء بِقِيَادَة الْإمَام زُيِّن الْعَابِدِيْن (عَلَيْه الْسَّلَام) .
وَهْنَا بِوُدِّي ان أَشِيْر إلى بَعْض الْنِّقَاط الْمُتَعَلِّقَة بِهَذِه الْمُنَاسَبَة الْعَظِيْمَة وَمِنْهَا:
أَوَّلَا: إن هَذِه الْزِّيَارَة إِنَّمَا هِي سُنَّة أَخَذْنَاهَا مِن الْمَعْصُومِين، وَهْنَا نُشِيْر إلى دَلِيْلَيْن وَرَدَّا عَن ثَلَاثَة مَعْصُوْمِيْن احَدُهُمَا عَمَلِي، وَالْأَخِر دَلِيْل قَوْلِي :
الْأَوَّل الْعَمَلِي: فَقَد قَام بِهَا اثْنَان مِن الْمَعْصُومِين وَهُمَا الْإِمَام الْسَّجَاد ووَلَدِه الْبَاقِر (عليهما السلام) حِيْنَمَا رَجَع مَوْكِب الْسَّبَايَا إلى كَرْبَلَاء فِي الْعِشْرِيْن مِن شَهْر صَفَر، وَمَعَهُم بَاقِي بَنَات رَسُوْل الْلَّه وَزَارُوْا قَبْر الْحُسَيْن (عليه السلام).
الْثَّانِي الْقَوْلِي: الْرِّوَايَة الْمَشْهُوْرَة عَن الْإِمَام الْحَسَن الْعَسْكَرِي (عليه السلام):
(عَلَامَات الْمُؤْمِن خَمْس: الْتَّخَتُّم بِالْيَمِيْن، وَصَلَوَات إِحْدَى وَخَمْسِيْن، وَالْجَهْر بِبِسْم الْلَّه الْرَّحْمَن الْرَّحِيْم، وَالْتَّعْفِير لِلْجَبِيْن، وَزِيَارَة الْأَرْبَعِيْن) فَزِيَارَة الْأَرْبَعِيْن مِن عَلَامَات الْمُؤْمِن كَمَا تَنُص الْرِّوَايَة .
ثَانِيا: مِن الْظَّوَاهِر الْمَعْرُوْفَة بَيْن الْنَّاس، هُو الِاعْتِنَاء بِالفَقَيد بَعْد أَرْبَعِيْن يَوْمَا مِن وَفَاتِه بِتَأُبَينِه تَخْلِيْدا لِذِكْرِه، وَقَد وَرَد عَن أَبِي ذَر الْغِفَارِي وَابْن عَبَّاس (رَضِي الْلَّه عَنْهُمَا) عَن الْنَّبِي (صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم): ((إِن الْأَرْض تَبْكِي عَلَى الْمُؤْمِن أَرْبَعِيْن صَبَاحْا)).
وَعَن زُرَارَة عَن أَبِي عَبْد الْلَّه (عَلَيْه الْسَّلَام): ((إِن الْسَّمَاء بَكَت عَلَى الْحُسَيْن (عَلَيْه الْسَّلَام) أَرْبَعِيْن صَبَاحْا بِالْدَّم، وَالْأَرْض بِالْكُسُوف وَالْحُمْرَة، وَالْمَلائِكَة بَكَت عَلَيْه أَرْبَعِيْن صَبَاحْا، وَمَا أختضَبّت إِمْرَأَة مِنّا وَلَا دَهَنت وَلَا اكْتَحَلَت وَلَا رُجِّلْت حَتَّى أَتَانَا رَأْس عُبَيْد الْلَّه بْن زِيَاد، وَمَا زِلْنَا فِي عِبْرَة مِن بَعْدِه))، وَمِن هُنَا جَرَت عَادَة الْشِّيْعَة جَزَآهُم الْلَّه خَيْر عَلَى إِحْيَاء ذِكْرَى يَوْم الْأَرْبَعِيْن مِن كُل سَنَة.
ثَالِثا: فِي هَذِه الْأَيَّام نَتَذَكَّر رِحْلَة سَبَايَا أُل الْرَّسُوْل مِن خِلَال عَوْدَة ال رَسُوْل الْلَّه مَن الْسَّبْي لَأَرْض كَرْبَلاء، ومَا جَرَى عَلَيْهِم مِّن الْمَصَائِب الْعَظِيْمَة فِي تِلْك الْرّحْلَة، وَهِي رِحْلَة خَاضَتْهَا بَنَات رَسُوْل الْلَّه بِقِيَادَة الْسَيِدَة زَيْنَب، وَبِإِشْرَاف الْإِمَام الْسَّجَاد (عَلَيْه الْسَّلَام)، وبِصَمَوْدِهِم وَإِصْرَارِهِم تُحَوِّل الإنْكِسَار إلى نَصْر فِي قُصُوْر الْظَّالِمِيْن.
قَال الْسَّيِّد الْشَّهِيْد الْصَّدْر:
وَلَوْلَا مَوْقِف زَيْنَب (سَلَام الْلَّه عَلَيْهَا) وَكَلَامُهَا وَاعْلامِهَا وَخِطَابَاتِهَا، لانْطُمَست ثَوْرَة الْحُسَيْن (عَلَيْه الْسَّلَام) وَانْدَرَجَت فِي طَي الْنِّسْيَان، وَكَأَنَّهَا لَم تَكُن، فَكَان لَابُد فِي الْحِكْمَة الْالَهِيَّة ان تُنَظِّم تِلْك الْثَّوْرَة الْكُبْرَى وَالتَّضْحِيَات الْجَلَيْلَة إلى هَذَا الْجَانِب الاعْلامِي الْمَرْكَز، لِكَي يُثْمِر ثَمَرَتُه وَيَنْفَع الَّاجْيَال بِاثَرِه كَمَا قَد حَصَل .
وَمَا اشَجَعَهَا (سَلَام الْلَّه عَلَيْهَا)، وَالْطَف بَيَانُهَا حِيْنَمَا تَقُوْل لَاكْبَر مَسْؤُوْل فِي الْدَّوْلَة يَوْمَئِذ: ((وَلَئِن جَرّت عَلَي الْدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَك، انّي لَاسْتَصْغِر قَدْرَك، وَاسْتَعْظِم تَقْرِيعَك، وَاسْتَكْثِر تَوْبِيْخَك، لَكِن الْعُيُوْن عَبْرَى وَالْصُّدُوْر حَرَّى، أَلَا فَالْعَجَب كُل الْعَجَب لِقَتْل حِزْب الْلَّه الْنُّجَبَاء بِحِزْب الْشَّيْطَان الْطُّلَقَاء))، وَهُنَاك بَطَلَة أُخْرَى وَهِي الْسَّيِّدَة أم كُلْثُوْم بِنْت أَمِيْر الْمُؤْمِنِيْن، ذَكَرُوْا أَنَّهَا تُسَمَّى أَيْضَا بِزَيْنَب الْصُّغْرَى، فَحِيْنَمَا دَخَلْت الْكُوْفَة أُمِرْت الْنَّاس بِالْإِصْغَاء، وَبَدَأَت حَدِيْثِهَا بِتَوْبِيخ أَهْل الْكُوْفَة لِتَخَاذُلِهِم عَن نُصْرَة الْحُسَيْن، وَقَالَت فِي خُطْبَتِهَا: ((يَا أَهْل الْكُوْفَة سَوْأَة لَكُم، مَا لَكُم خَذَلْتُم حُسَيْنا وَقَتَلْتُمُوْه، وَانْتَهَبْتُم أَمْوَالَه وَوَرِثْتُمُوْه، وَسَبَيْتُم نِسَاءَه وَنَكَبْتُمُوه، فَتَبّا لَكُم وَسُحْقا! وَيْلَكُم أَتَدْرُوْن أَي دَوَاه دَهَتْكُم)).
رَابِعا: ان لِزِيَارَة الْأَرْبَعِيْن فَضْل مِن خِلَال الْمَشْي عَلَى الْإِقْدَام، فَالزّوَار يَقْطَعُوْن آلِاف الْكِيلُومِتْرَات فِي الْلَّيْل وَالْنَّهَار، وَيَتَحَمَّلُوْن الْبَرَد وَالْحُر، وَالْنَّقْص فِي الْرَاحَة مِن أجْل الْوُصُول إلى الْحُسَيْن، وَمِن هُنَا تَتَجَسَّد مَجْمُوْعَة مِن الْدُرُوس فِي هَذَا الْعَمَل الْشَّرِيف وَمِنْهَا:
إن هَذَا يُعَبِّر عَن الْحُب وَالْوَلَاء لِلْحُسَيْن (عليه السلام) وَلِأَهْل الْبَيْت (عليهم السلام) وَهُو طَاعَة مَشْكُوْرَة مِن قَبْل الْلَّه تَعَالَى.
مِنْهَا: إن الْسِيَر عَلَى الْأَقْدَام انَّمَا يُرَبِّي الْنَفَس عَلَى التَّوَاضُع أمَام الَلّه تَعَالَى وَأمَام أوْلِيَائِه، فَأنت بَيْن تِلْك الْجُمُوْع لَا تُمَيِّز الْغَنِي مِن الْفَقِيْر، وَلَا تُعْرَف شيَخ الْعَشِيرَة أو الْمَسْؤُول مِن الإنْسَان الاعْتِيَادِي، فَكُل الْعَنَاوِيْن انَّمَا تَتَسَاقَط فِي طَرِيْق الْحُسَيْن، ولانُنَادِي احَدُهُم بِأي عُنْوَان، إنَّمَا نَّقُوْل لَه (زَائِر الْحُسَيْن )، وهَذِه الْحَالَة اللَّطِيْفَة انَّمَا تُقَدِّم دَرْسَا تَرْبَوِيا فِي التَّوَاضُع، مَا تَعْجِز عَنْه مِئَات الْمُحَاضَرَات وَالْخَطْب، وَنَتَحَدَّى مِن هُنَا كَافَّة الْمُؤَسَّسَات الْعَالَمِيَّة وَخُصُوْصا الَّتِي تَدَّعِي الْمُسَاوَاة وَحُقُوْق الْإِنْسَان أن تَقَدَّم لَنَا نَمُوْذَج فِي التَّوَاضُع وَالْتَّسَاوِي، كَمَا تُقَدِّمُه لَنَا هَذِه الْزِّيَارَة الْشَّرِيْفَة.
وَمِنْهَا: الْمَوَاكِب الْحُسَيْنِيَّة الْشَّرِيْفَة الَّتِي تُقَدَّم الْخِدْمَة لِلْزُّوَّار، والْتَّعَاوُن وَالْبَذْل وَحُب خَدَمَة الْآخِرِين، مَا يُقِل نَظِيْرَه فِي أَي مُنَاسِبَة أُخْرَى، فَيَجْلِس أَصْحَاب الْمَوْكِب أُعِزُّهُم الْلَّه لِخِدْمَة الْزُوَار، وَالْتَّفَنُّن بِتَقْدِيْم أَنْوَاع الْطَّعَام وَالْشّرَاب، حَتَّى أن بَعْضُهُم يُخَصِّص مَكَاناً فِي مَوْكِبِه لَفَرْك أَقْدَام الْزَّائِرِيْن، وَهُو لَا يَعْرِف اسْم الزَّائِر وَعُنْوَانُه، فَقَط يَعْرِف إنَّه مِن زُوَّار الْحُسَيْن لَا اكْثَر مِن ذَلِك، فَهَل يُوْجَد فِي مَحَافِل الْمُسْلِمِيْن وَغَيْر الْمُسْلِمِيْن تَوَاضُعا كَهَذَا.
مِن هُنَا أدْعُوَا عُلَمَاء الْإِسْلَام وَقَسَاوِسَة الْنَّصَارَى، وَأَحْبَار الْيَهُوْد، بَل حَتَّى الْمُفَكِّرِيْن الْعِلْمَانِيَّيْن فِي كَافَّة إِنْحَاء الْعَالَم إلى أن يَأْتُوَا وَيَسْتَفِيِدُوْا مِن هَذِه الْدُّرُوس، الَّتِي لَا يُمْكِن لِأَدْيَانِهِم وَّمَذَاهِبُهُم ان تُقَدِّمُهَا، لِإِشَاعَة الْرَّحْمَة وَالْخِدْمَة وَالَتَّوَاضُع بَيْن الْنَّاس.
وَمِنْهَا: إن أصَل وُجُوْد الْزِّيَارَة إنَّمَا هُو كَرَامَة، فَكَم مِن طَاغِيَة حَارَب زِيَارَة الْأَرْبَعِيْن، وَمَنَع الْسِيَر إلى كَرْبَلَاء، مُنْذ الْأُمَوِيِّين وَالْعَبَّاسِيِّين وَمُرُوْرَا بِطَاغِيَة الْعَصْر صَدَّام، وَحَتَّى الِاحْتِلَال، وَهَاهِي الْيَوْم مُفَخَّخَات التَّكْفِيْرِيِّين لَا تَحُوْل بَيْن عُشَّاق الْحُسَيْن وَالْوُصُوْل إلى قَبْرِه مَشْيَا، وَلَن تَحَوَّل أَي قُوَّة فِي الْكَوْن، لِان الْأَمْر مُرْتَبِط بِإِرَادَة الْلَّه تَعَالَى جَل فِي عُلَاه.
إن الْزُوَار لَم يَقْتَصِر وَجُوْدُهُم عَلَى الْعِرَاقِيِّيْن فَقَط، بَل ازْدَادَت فِي هَذِه الْأَعْوَام الْوُفُود مِن كَافَة الْدُّوَل، وَمَن الْمُتَوَقَّع أن تَكُوْن هَذِه الْسَّنَة مُتَمَيِّزَة جِدّا فِي حُضُوْر زُوَّار مِن دُوَل أُخْرَى، الْعَرَبِيَّة وَغَيْرِهَا، بَل الْمُتَوَقَّع بَعْض الْأَجَانِب مِن غَيْر الْمُسْلِمِيْن، لِمُشَاهَدَة هَذَا الْحَشْد المَلِّيُوْنِي الْعَجِيْب، بِفَضْل الْلَّه وَبِبَرَكَة سَيِّد الْشُّهَدَاء (عليه السلام).
وَهْنَا اخْتِم هَذِه المقالة بِهَذِه الْرِّوَايَة، وَهِي هَدِيَّة إلى زُوَّار الْحُسَيْن (عليه السلام)، عَن مُعَاوِيَه بْن وَهْب قَال دَخَلْت عَلَى أبَى عَبْد الْلَّه (عَلَيْه الْسَّلَام) وهُو فِى مُصَلَّاه، فَجَلَسْت حَتَّى قَضَى صَلَاتَه، فَسَمِعْتُه وهُو يُنَاجِى رَبَّه ويَقُوْل:
((يَا مَن خَصَّنَا بِالْكَرَامَه ووَعَدَنَا الْشَّفَاعَه، وحَمَلَنَا الْرِّسَالَه وجَعَلْنَا وَرَّثَه الْانْبِيَاء، وخَتَم بِنَا الْامَم الْسَّالِفَه، وخَصَّنَا بِالوَصِيْه، وأعْطَانَا عِلْم مَا مَضَى وعِلْم مَا بَقِى، وجَعَل افْئِدَه مِن الْنَّاس تَهْوَى الَيْنَا، اغْفِر لي ولاخْوَاني، وزُوَّار قَبْر أبِي الْحُسَيْن بْن عَلِي صَلَوَات الْلَّه عَلَيْهِم، الَّذِيْن أنْفَقُوْا أمْوَالَهُم وأشَخَصَوا أبْدَانَهُم رَغْبَه فِي بِرُّنَا، ورَجَا لِمَا عِنْدَك فِي صِلَتُنَا، وسُرُوْرَا ادْخَلُوه عَلَى نَبِيِّك مُحَمَّد (صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وآَلِه)، وإجَابَه مِنْهُم لِامْرِنَا، وغَيْظَا ادْخَلُوه عَلَى عَدُوِّنَا، أرَادُوْا بِذَلْكّك رِضْوَانَك، فَكَافِهِم عَنّا بِالرِّضْوَان، واكِلأهُم بِالْلَّيْل والْنَّهَار، واخْلُف عَلَى أهَالَيْهُم وأوْلادَهُم، الَّذِيْن خُلِّفُوا بِاحْسَن الْخَلَف، وأصْحَبْهُم واكْفِهِم شَر كُل جَبَّار عَنِيْد، وكُل ضَعِيْف مِن خَلْقِك أو شَدِيْد، وشَر شَيَاطِيْن الْانْس والْجِن، وأعْطِهِم أفْضَل مَا امَّلُوا مِنْك فِي غُرْبَتِهِم عَن أوْطَانِهِم، ومَا آثَرُوْنَا عَلَى أبْنَائَهُم وأهَالَيْهُم وقَرَابَاتِهِم، الْلَّهُم إن أعْدَائِنَا عَابُوْا عَلَيْهِم خُرُوْجَهُم، فَلَم يَنْهَهُم ذَلِك عَن الْنُّهُوْض والْشُّخُوْص إلَيْنَا خِلَافا عَلَيْهِم، فَارْحَم تِلْك الْوُجُوْه الَّتِي غَيْرَتِهَا الْشَّمْس، وَارْحَم تِلْك الْخُدُوْد الَّتِي تَقَلَّبَت عَلَى قَبْر أبِي عَبْدِالْلَّه (عَلَيْه الْسَّلَام) وارْحَم تِلْك الْأعْيُن الَّتِي جَرَت دُمُوْعُهَا رَحِمَه لَنَا، وارْحَم تِلْك الْقُلُوْب الَّتِي جَزِعْت واحْتَرَقَت لَنَا، وارْحَم تِلْك الْصَّرْخَه الَّتِي كَانَت لَنَا، الْلَّهُم إنّي اسْتَوْدِعُك تِلْك الْأنْفُس، وتِلْك الْأبْدَان، حَتَّى تَرْوِيْهِم مِن الْحَوْض يَوْم الْعَطَش، فَمَا زَال صَلَوَات الْلَّه عَلَيْه يَدْعُوَا بِهَذَا الْدُّعَاء وهُو سَاجِد، فَلَمَّا انْصَرَف، قُلْت لَه جُعِلْت فِدَاك لَو أن هَذَا الَّذِي سَمِعْتَه مِنْك كَان لِمَن لَا يَعْرِف الْلَّه لَظَنَنْت ان الْنَّار لَا تَطْعَم مِنْه شَيْئا ابَدَا، والْلَّه لَقَد تَمَنَّيْت أنّي كُنْت زُرْتُه ولَم أحَج، فَقَال لِي: مَا أقْرَبَك مِنْه فَمَا الَّذِي يَمْنَعْك عَن زِيَارَتِه يَا مُعَاوِيَه، ولَم تَدْع ذَلِك، قُلْت جُعِلْت، فِدَاك لِم ادْر ان الْامْر يُبَاغ هَذَا كُلِّه، فَقَال يَا مُعَاوِيَه: ومَن يَدْعُو لِزُوَّارِه فِي الْسَّمَاء أكْثَر مِمَّن يَدْعُو لَهُم فِي الْارْض، لَا تَدَعْه لِخَوْف مِن أحَد فَمَن تَرَكَه لِخَوْف رَأى مِن الْحَسْرَه مَا يَتَمَنَّى أن قَبْرِه كَان بِيَدِه، أمّا تُحَب أن يَرَى الْلَّه شَخْصِك وسَوَادُك فِيْمَن يَدْعُو لَه رَسُوْل الْلَّه (صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وآَلِه)، أمّا تُحِب أن تَكُوْن غَدَا فِيْمَن تُصِافِحُه المَلَائِكَه، أمّا تُحِب أن تَكُوْن غَدَا فِيْمَن يَأتِي ولَيْس عَلَيْه ذَنْب فَيَتْبَع بِه، أمّا تُحِب أن تَكُوْن غَدَاً فِيْمَن يُصَافِح رَسُوْل الْلَّه (صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وآَلِه))).