(٥٩) شعيرة المشاية.... الأجر والثواب، والعزة والإباء
شعيرة المشاية.... الأجر والثواب، والعزة والإباء
علي المالكي
منذ أيام خلت، بدا الزحف المليوني لأتباع آل البيت (عليهم السلام) من كل مكان مشيا على الأقدام باتجاه مدينة كربلاء الإباء، لتجديد العهد والولاء لسيد الشهداء في ذكرى الأربعين .
مسيرة الأحرار بدأت من أقصى جنوب العراق، من محافظة البصرة في مواكب مهيبة ضمت الكبار والصغار والرجال والنساء والشيوخ والأطفال، في تقليد سنوي دأب عليه عشاق الحسين (عليه السلام) من أجل إظهار المظلومية الكبيرة التي تعرض لها الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته في واقعة طف كربلاء، عندما خذله المتشبثون عبثا بلباس الإسلام في ذلك الوقت، من خلال آلاف الكتب التي أرسلت إليه تدعوه للمجيء إلى العراق ومحاربة جيش الطاغية يزيد بن معاوية (لع)...، وبعد مجيء الإمام (عليه السلام) غدر به الغادرون، وخاض تلك المعركة الكبيرة بمفرده وقلة قليلة من أهل بيته وأنصاره، الذين ذابوا عشقا بين يديه، وكانوا يستأنسون بالمنية كاستئناس الرضيع بمحالب أمه، وبمجرد استذكار تلك اللحظات ينتاب القلب شعور اللوعة والأسى، عندما وقف ابن بنت رسول الله على باب خيمته وهو على مرأى ومسمع الأعداء ينادي هل من ناصر ينصرنا، هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله!، وسط صمت مطبق أصاب الأمة التي ختم الله على قلوبهم، واختاروا سوء العاقبة على الجنة، التي كانت في متناول اليد.
وبعد أكثر من ألف عام على تلك الواقعة، لبى أحباب الحسين ذلك النداء بهذه الأعداد الغفيرة، وهرعوا من كل حدب وصوب باتجاه قبلة العاشقين...، وباتجاه ذلك الصوت الذي طالما علا في كربلاء، دون أن يلقى صدا في آذان من تحجرت قلوبهم قبل آذانهم، وحالت بينهم وبين نصرة الحسين، تلك العقيدة الفاسدة التي كانت تنصاع دائما لملذات الدنيا ونعيمها الزائف، واختاروا ذلة الحياة على عز الآخرة ونعيمها اللامتناهي.
شعيرة المشي على الأقدام تمثل بحد ذاتها ثورة على الطغاة، ونهضة الحق في سبيل الحرية المنشودة، والتي من أجلها ضحى سيد الشهداء...، لذلك ترى هذه الشعيرة حوربت منذ زمن مضى، لكنها عادت بقوة (أي شعيرة المشي على الأقدام) بعد أن ولّى من وقف في طريقها حجر عثرة، وأصبحت السّمة الأبرز التي تميز أنصار الحسين (عليه السلام) التواقين حباً لسيد الشهداء في كل زمان وفي كل مكان .
وعلى الرغم من إن قضية الإمام الحسين (عليه السلام) لم تختزل في زمان وفي مكان، لكن الله شرف هذه البقعة الطاهرة من أرض العراق، والتي احتوت بين طيات ترابها الجسد الطاهر، وتعطرت بدماء الحسين (عليه السلام)، فأصبحت قبلة الأحرار في كل مكان، وإليها تهفو قلوب الملايين في كل عام .
وتتميز شعيرة المشي على الأقدام لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) بجوانب إنسانية واجتماعية وضاءة، لايعرف معانيها إلا من عايشها عن قرب...، ومن أبرز مايميز هذه الشعيرة أنها ألغت الفوارق الطبقية بين مكونات المجتمع، وجمعت الكل تحت اسم الحسين (عليه السلام)، ففيها المثقف والواعي، والجاهل وكل طبقات المجتمع، والكل يأكل من طبق واحد وينام في مكان الواحد...، وهذا ما أكد عليه الإمام الحسين (عليه السلام) وثار من أجله ...، فهو أول من سعى إلى إلغاء الفوارق الطبقية، وتذويب المسميات العنصرية تحت اسم الإنسانية، التي من أجلها ومن أجل عزتها وكرامتها ضحى الإمام الحسين بكل مايمكلك، وطبق الإمام الحسين هذا عمليا عندما وضع خده على خد جون، وقام بحمل وهب النصراني ووضعه مع قتلى أهل البيت (عليهم السلام).
ولم تكن شعيرة المشي على الأقدام لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) بدعة، على الرغم من كل الصعاب المحيطة بها، وإنما جاءت الأحاديث الشريفة والنصوص المروية عن أهل البيت تؤكد أهمية هذه الشعيرة، وثواب من قام بها.
فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث مع ابن عباس: ((يبن عباس من زار الحسين عارفاً بحقه، كتب الله له ثواب ألف حجة وألف عمره)).
عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ((يا حسين؛ من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي (عليه السلام) إن كان ماشيا كتب له بكل خطوة حسنة، ومحي عنه سيئة، حتى إذا صار في الحير كتبه الله من المفلحين المنجحين، حتى إذا قضى مناسكه، كتبه الله من الفايزين، حتى إذا أراد الإنصراف أتاه ملك فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرئك السلام، ويقول لك: استأنف العمل فقد غفر لك ما مضى)) (بحار الأنوار: ج 98 ص 72).
وعن أبي سعيد القاضي قال: دخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) في غرفة له فسمعته يقول: ((من أتى قبر الحسين ماشياً، كتب الله له بكل خطوة وبكل قدم يرفعها ويضعها عتق رقبة من ولد إسماعيل)) (وسائل الشيعة: ج14 ص 425-442 ح [ 19558 ]).
والكثير الكثير من الأحادث التي تبين فضل هذه الزيارة وعظمتها .
وبطبيعة الحال فإن هذه الشعيرة أخذت بالإزدياد والتوسع، ولم تقتصر على العراقيين فحسب، بل الكثير من أتباع أهل البيت من الدول المجاورة والبعيدة، جاءوا هذا العام إلى البصرة والتحقوا بركب الأحرار وتوجهوا مشيا إلى كربلاء، وسط حفاوة كبيرة من أصحاب المواكب والخَدَمَة، الذين انتشروا على طول الطريق المؤدي إلى كربلاء، من البصرة مروراً بباقي المحافظات الأخرى...
دعاؤنا لهذه الملايين بالصحة والسلامة والنعمة والأمان عليهم وعلى جميع المؤمنين.