(٨٤) تأملات في زيارة الأربعين
تأملات في زيارة الأربعين
علي كاظم العوادي
أضحت زيارة أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) حدثاً عالمياً مهماً لا يمكن للمتتبع أو لمراكز البحوث أو حتى لراسمي القرارات الدولية تجاهله لما انطوت عليه من سعة المشاركة والحضور المليوني للمسلمين من دول شتى وارتباط الزيارة بمعتقدات دينية ذات أبعاد سياسية تمس الصراع المذهبي أو الديني في العراق والمنطقة والعالم بأسره.
تمثل ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) بوجه الطبقة الفاسدة الحاكمة نبراسا في كل زمان ومكان ولايمكن لأي مسلم يؤمن بالله ورسوله ألا يقف مع الامام الحسين سبط النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة وهو يعلم مكانة الحسين في القران والموروث الصحيح من السنة النبوية المطهرة والتي تتفق عليها معظم كتب الصحاح المعتمدة لدى عامة المسلمين وقد توارث المسلمون احياء ذكرى الثورة وارتبطت بها طقوس وممارسات أخذت أبعادا اجتماعية واسعة وكان للمنير الحسيني دوراً في تهيئة النفوس وتربية الاجيال على حب التضحية والفداء والشجاعة وتجسيد صورة البطل الذي يتكرر في سرد الملحمة الحسينية وشخوصها كما يحمل الموروث الاسلامي وخاصة لدى محبي أهل البيت (عليهم السلام) –ولا أقصد الطائفة الشيعية فقط– فضل زيارة الامام الحسين وسائر أهل البيت (عليهم السلام) والتعبد والتبرك في رحاب أضرحتهم و كان لوجود هذه الاضرحة تأثيرات اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية مهمة على المدن التي تضمها حيث اكتسبت هذه المدن والمجتمعات فيها مكانة متميزة عبر التأريخ عدا أن بعضاً من هذه المدن أصبحت مدارس فكرية مؤثرة تخرج المئات بل الالاف سنوياً من رجال الفكر والعقيدة والذي يأتي البعض منهم من دول مختلفة من العالم.
فيما يخص زيارة الأربعين والمسير إلى كربلاء فذلك موروث يمتد عبر مئات السنبن كان مختصا بأهالي مدينة النجف الاشرف الذين ينتظمون في كل عام في تجمعات تسمى المواكب لها بعد اجتماعي يختص بالمحلات الاربع التي كانت تتألف منها المدينة القديمة المسورة لتتحرك سيرا على الاقدام مسافة 80 كم تقريبا في أرض صحراوية على الطريق بين النجف وكربلاء حيث أنشئت ثلاثة خانات كبيرة لمبيت الزائرين وحمايتهم من عوامل البيئة والمناخ اذ يمضي الزائر ليلة في كل خان منها ولكن مع مرور الزمن تعددت المواكب وأخذت أبعادا وتسميات أخرى حيث تبدأ بالانتشارعلى طول الطريق لتقديم خدماتها للمشاة طيلة الثلاث ليال وفي صبيحة العشرين من صفر تلتئم المواكب في موكب واحد يسمى موكب المشاهدة أو أهالي النجف للدخول إلى الصحن الحسيني واقامة مراسم العزاء فيه.
على مدى التاريخ حصلت مصادمات بين السلطة وهذه الممارسات الدينية الاجتماعية خاصة عندما يكون الوالي أو السلطان أو الحاكم قصير النظر في التعامل معها فتتوقف بسبب القمع والكبت الذي تقوم به السلطة لكنها ولأنها مرتبطة في وجدان الناس تعود مرة اخرى بشكل أقوى وأوسع وقد حصل ذلك مرات عدة بعد نشوء الدولة العراقية الحديثة ولكن أخطر المواجهات ما حصل أيام حكم البعث وخاصة بعد انتفاضة صفر أو ما سمي أحداث 5 و6 شباط 1977.
بعد 1968 بدأ الصراع بين التيار الاسلامي وحزب البعث الذي استلم السلطة وحاولت السلطة التي كانت تضم تيارات متعددة استمالة مجتمع النجف حيث دعمت المواكب الحسينية وأصبح رجال السلطة يشاركون فيها ويدعمونها ولم يستمر ذلك طويلا فقد تدخلت السلطة لمنع بعض الممارسات بالقوة وحصل اصطدام في مدينة النجف مع قوات الشرطة وانتهى بتوسط بعض زعماء المدينة لدى رئاسة الجمهورية وانهاء اثاره.
في ذلك الوقت كان هناك صراع بين أركان حكم البعث انتهى بهيمنة صدام على مقاليد الحكم بعد سلسلة من التصفيات الدموية وكان اخرها مقتل مدير الامن العام ناظم كزار وعدد من المسؤولين وهذا ما أطلق يد صدام للتفرد في اتخاذ القرارات ولم يكن قد امتلك الخبرة والتجربة الكافية للتعامل مع قضايا اجتماعية أو سياسية مهمة.
في عام 1977 صدرت اوامر السلطة بمنع المسير من النجف إلى كربلاء بحجة ان هذه التجمعات تضم بؤراً معادية لمسيرة الحزب والثورة وهي التهمة الفضفاضة التي يلبسها صدام أي صاحب فكر أو رأي أو معتقد وقتل بها رفاقه في السلطة مثلما قتل الالاف من الابرياء من أبناء الشعب وكان المجتمع النجفي مهيئا للانتفاض والتمرد على تلك الاوامر نتيجة الحرص على اقامة هذه الشعيرة المتوارثة وبفعل التثقيف والتحريض الذي قام به المبلغون والشعراء وقسم من رجال الدين على مدى السنوات الماضية فقد خرج الالاف بصورة عفوية متحدين هذه الاوامر دون ان يكون لأي حزب أو تنظيم سياسي دور في ذلك وطافوا أرجاء المدينة قبل أن يتوجهوا إلى طريق كربلاء ورفضت قوى الشرطة المحلية الاصطدام مع المواطنين العزل فاستعان صدام بالجهاز الحزبي لوقف المسيرة في منتصف الطريق عند خان النص والذي لم يكن ليصمد أمام مد الجماهير وأوصل رسالة إلى صدام عن حدوث تمرد وهذا مادفع الاخير إلى وضع أجهزة الدولة بالانذار وإلى ارسال القوات المدرعة والطائرات الحربية لمطاردة الزوار العزل الذين تفرقوا في البساتين فمنهم من عاد ادراجه إلى النجف ومنهم من وصل إلى كربلاء ليجد نفسه بعد ذلك قد وقع في كمين باصات العودة إلى النجف والتي هيأها جهاز الامن لنقل الزائرين إلى الامن العام واخضاعهم للتعذيب والاهانة أو القتل.
كما جرت حملة اعتقالات واسعة لمطاردة المشاركين في الانتفاضة وتشكلت محكمة صورية للحكم باعدام عدد من المتصدين في المسيرة وبالسجن المؤبد على عدد اخر وجل هؤلاء كانوا من الكسبة أو طلبة الثانوية أوالمواطنين الذين لم يكن يعرف لهم نشاط سياسي من قبل وقد رفض اثنان من القيادات البعثية المهمة وهما الدكتور عزة مصطفى والسيد فليح حسن الجاسم القبول بأن يكونوا أعضاء في مهزلة المحكمة لانهم وجدوا أن الامر لا يستأهل هذه الاجراءات التعسفية و هذه الاحكام الجائرة فتم فصلهم من الحزب ونقلهم إلى وظائف عادية في قرى بعيدة.
بعد هذه الجريمة النكراء استمرت أعداد من الناس وفي كل عام بالمسير إلى كربلاء متخفين بعيداً عن أعين اجهزة السلطة حتى سقوط صدام عام 2003 ليظهر بركان الغضب المتفجر ويجسد الارادة الشعبية للتعبير عن الذات بصور مختلفة في تجمعات مليونية تمتد من اقصى جنوب العراق إلى شماله وبتشجيع من القوى السياسية الشيعية التي كانت تستفيد من هذه التجمعات المليونية للتحشيد المذهبي والدعاية الانتخابية لكن الامر اصبح ممارسة سنوية شعبية لاتحمل اية توجهات سياسية وانضم اليها الملايين من ايران واقطار الخليج العربي في السنوات اللاحقة وأمام هذا التوجه لابد من النظر إلى هذا التجمع الفريد برؤية واعية متبصرة للاستفادة من الاثار الايجابية له وهي كثيرة ومتميزة أثارت اعجاب العالم وأبرز تلك الاثار باعتقادي ان هذه المسيرة كانت سببا مباشرا لاستعداد الناس في التحشيد لمواجهة ارهاب داعش واندفاع المقاتلين لخوض المعارك ببسالة وشجاعة اضافة إلى شيوع روح التعاون والتسامح والأداء التطوعي لافراد المجتمع.
ويجب على الدولة بعد هذه السنوات السعي لتقليل الآثار السلبية أو الحد من تأثيرات هذه المسيرة على البلد وهذا يتم من خلال الادارة السليمة لها ولجعلها ممارسة لغرس الروح الوطنية ونبذ الطائفية وكما حصل في هذا العام وعلى الدولة أيضاً وضع الخطط الكفيلة لغرض التنظيم الجيد وضبط المسيرة وجعلها بتوقيتات وأماكن محددة من أجل تضييق الاداء العفوي الجماهيري ووقف الهدر في الوقت والأموال.