(٨٧) نظرة في أدلة استحباب زيارة الأربعين
نظرة في أدلة استحباب زيارة الأربعين
الشيخ ليث الكربلائي
في كل عام ما إن يبدأ موسم احياء شعائر اهل البيت عليهم السلام حتى تنتفخ اوداج بعضهم ممن دأبه اعلان الويل والثبور على المجتمع في الصغيرة والكبيرة ونهجه التجريح والاتهام والتوهين بلا أثارة من علم ولا وازع من دين ولا اخلاق وفي نهاية كل موسم ايضا يلمس كل من وضع قدمه على ارض الواقع بعيدا عن تهريج الفضاء الازرق –يلمس- حضورا جماهيريا فاعلا لإحياء تلك الشعائر بالقدر الذي يبرهن على النجاح الباهر لتلك الجهود الكبيرة التي تبذل من قبل مختلف اطياف الشعوب فضلا عن المؤسسة الدينية.
وقد تداول بعض رواد العوالم الافتراضية كلاما كثيرا –سلباً أو ايجاباً- عن منشأ وأدلة زيارة الأربعين فانقسموا إلى مثبت وناف وفي هذه المشاركة ألقي نظرة خاطفة على أدلة الزيارة ومناقشتها بما ينسجم مع حجم المقال ولكن قبل ذلك ينبغي التذكير بأمرين:
الأول: ان استحباب الزيارة حكم فقهي يرجع فيه كل مكلف إلى من يعتقد انه الاعلم من بين العلماء عند اختلافهم ولا يلتفت إلى غيره في مقام العمل فهو الحجة عليه دون سواه كما هو ديدن العقلاء في شتى المجالات ولكن هذا لا يمنع من السؤال عن اصل الحكم وادلته.
الثاني: لا خلاف بين الفريقين المثبت والنافي –وكلاهما من الامامية- في أصل استحباب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في جميع الايام بما فيها يوم 20 /صفر الخير وانه عمل حسن يستحق فاعله ثواباً جزيلاً؛ لأن روايات استحباب زيارته (عليه السلام) بصورة عامة متواترة وبأسناد صحيحة بل أعلائية، وانما الخلاف في وجود استحباب مؤكد بالإضافة إلى الاستحباب العام لذا نتائج هذا الخلاف سلبية كانت ام ايجابية لا تضعنا امام مفترق طرق لان زيارة الأربعين ان لم يثبت لها دليل خاص فلا اقل هي مشمولة بعموم استحباب الزيارة.
بعد ذلك هلُم ننظر في الادلة التي تخص زيارة الأربعين على ان تستصحب معك هاتين النقطتين إلى النهاية.
أدلة زيارة الأربعين:
استدلوا على استحباب زيارة الإمام (عليه السلام) في خصوص يوم 20 /صفر الخير (زيارة الأربعين) بعدة أدلة أهمها:
الدليل الأول: ما روي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) (1) وكذلك عن الإمام الصادق (عليه السلام) (2) أنه قال: (علامات المؤمن خمس) وعدَّ منها (زيارة الأربعين).
تقريب الاستدلال:
ان الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث بصدد ذكر بعض العلامات التي تميز المؤمن وقد عدّ منها زيارة الأربعين ولاشك ان العلامات التي لها مدخلية في تحقيق عنوان الايمان او بها يمتاز المؤمن عن غيره تكون محبوبة عند الشارع وهو المطلوب.
المناقشة في الدليل الأول:
اولاً: المناقشة في السند:
ليس لهذه الرواية سند معروف اذ وردت عن الإمام العسكري (عليه السلام) مرسلة في مزار المفيد وتهذيب ومصباح الطوسي وهكذا من تأخر عنهما الا في مزار المشهدي إذ قال: (وبالإسناد عن أبي هاشم الجعفري، عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) أنه قال... الرواية) (3) ولكن سند المشهدي للجعفري غير معروف فضلا عن كون المشهدي نفسه لم تثبت وثاقته عند السيد الخوئي (قدس سره) (4). غير أن السيد ابن طاووس ذكر في بعض مصنفاته ما يُستشف منه وقوفه على سند لهذه الرواية اذ يقول: (روينا بإسنادنا إلى جدي أبي جعفر الطوسي فيما رواه بإسناده إلى مولانا الحسن بن علي العسكري (صلوات الله عليه) أنه قال:... الرواية)، ولكن لا ينفعنا ذلك ما دام السند غير معروف بالنسبة لنا.
اما نسبتها إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فهي الاخرى مجهولة السند اذ لم يذكر القمي منه غير المفضل بن عمر, وكذلك الاحسائي أوردها بلا سند(5).
ترميم السند:
يمكن ترميم سند هذه الرواية من خلال بعض المباني في قبول النصوص تتفرع جميعها عن الالتزام بمبنى الوثوق واهمها:
1- الشهرة: اذا بنينا على جابرية الشهرة العملية لضعف السند فان هذه الرواية قد حظيت بقدر لا يستهان به من الشهرة بين الاعلام منذ عصر الغيبة الصغرى والى يومك هذا اذ ذيَّل بها جمع كبير منهم فتواه باستحباب زيارة الأربعين مما يكشف اعتمادهم عليها في مقام العمل.
2- الاستفاضة: فهذه الرواية قد حازت على اهتمام عدد كبير من قدامى المصنفين اذ رووها في كتبهم منذ عصر الغيبة الصغرى لذا ادعى صاحب الرياض استفاضة مضمونها(6)، ولكن يبقى الكلام في قبول مثل هذه الاستفاضة وتوليدها للاطمئنان حتى في حال عدم وجود سند صحيح بل عدم وجود سند من رأس.
3- قاعدة التسامح في ادلة السنن في المستحبات عند من يقبل هذه القاعدة بناءً على روايات (من بلغه) (7) ولكنها لم تثبت عند السيد الخوئي قدس سره وكذا لم تثبت عند اغلب المعاصرين كالسيد السيستاني (دام ظله)، وغيره.
ثانياً: المناقشة في المتن:
اوردوا على دلالة هذه الرواية على استحباب زيارة الأربعين عدة مناقشات لا يرقى بعضها إلى مستوى البحث التخصصي أهمها:
1- ان المراد من زيارة الأربعين في الرواية زيارة اربعين مؤمنا وليس زيارة الإمام الحسين (عليه السلام).
وجوابه:
لو اراد الإمام (عليه السلام) أربعين مؤمنا لكان الأصح ان يقول (وزيارة اربعين) وليس (الأربعين).
ان الألف واللام في قوله (الأربعين) عهدية تشير إلى زيارة معهودة متعارف عليها ولا يتوفر ذلك الا في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في العشرين من صفر ومما يرشدنا إلى ذلك حسنة صفوان الجمال –الآتية في الدليل الثاني- إذ فيها: (قال لي مولاي الصادق (عليه السلام): (في زيارة الأربعين تزور عند ارتفاع النهار، وتقول: السلام على وليّ الله وحبيبه.. وذكر الزيارة) فيُلاحظ ان الإمام (عليه السلام) ذكر زيارة للإمام الحسين (عليه السلام) باسم زيارة الأربعين ولم يبادر صفوان إلى السؤال عن ماهيتها انما سأل عن كيفيتها مما يعني انه اصطلاح مستقر في اذهان الشيعة منذ عهد الإمام الصادق (عليه السلام) فحمل رواية الإمام العسكري (عليه السلام) على خلافه ضرب من التعسف.
ان الشارع يدعو لزيارة المؤمنين بصورة عامة ولا شاهد على الاكتفاء بزيارة اربعين منهم فقط بل هذا مخالف لروح الشريعة كما لا يخفى على ذي دربة.
هناك فهم لهذه الرواية متصل إلى عهد الغيبة الصغرى يرى ان المراد بها زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) لا غير كما نص الشيخ المفيد (8) وغيره, لا يمكن تجاوز هذا الفهم بناء على ضرب من التخمين. وقد توهم الشيخ حيدر حب الله ان التهذيب اقدم مصدر لهذه الرواية والصحيح ان اقدم مصدر لها مزار الشيخ المفيد كما عرفت.
ان الرواية في صدد بيان ما يمتاز به المؤمن (الاثنا عشري) عن غيره كما هو واضح من سائر العلامات المذكورة مما يتفرد به الفقه الامامي وزيارة أربعين مؤمناً ليست من سنخ هذه العلامات بخلاف زيارة الإمام الحسين (عليه السلام).
2- الاشكال الثاني هو اعادة تقريب الاشكال الأول بصياغة اخرى وذلك بان احياء يوم الأربعين بعد الوفاة شريعة يهودية فينبغي معه تفسير الرواية بزيارة أربعين مؤمناً.
وواضح ان هذه الصياغة ضرب من الهذر لا ينبغي ان يصدر من باحث اذ اشتراك الأديان في اسس فكرية وتشريعات عملية كثيرة أمر لا ينكر وهو مقتضى صدورها عن مشرِّع واحد فضلا عن كل ذلك لم يثبت وجود مثل هذا التشريع أو العرف عند اليهود.
والخلاصة: ان هذه الرواية تامة الدلالة على استحباب زيارة الأربعين غير انها مخدوشة سنداً بالإرسال وهو الآخر يمكن ترميمه وفق بعض المباني فيعود الخلاف مبنائياً بالنسبة لمن يلتزم بأحد المباني الثلاثة الآنفة.
الدليل الثاني: حسنة صفوان الجمال عن الإمام الصادق (عليه السلام):
رواها الشيخ الطوسي بسنده عن صفوان بن مهران قال: (قال لي مولاي الصادق (صلوات الله عليه): في زيارة الأربعين تزور عند ارتفاع النهار، وتقول: السلام على ولي الله وحبيبه...) واورد الزيارة إلى آخرها(9).
تقريب الاستدلال:
هذه الرواية اوضح من سابقتها في الدلالة على المطلوب اذ الحَثُّ فيها على زيارة الأربعين جلي بما لا يفتقر إلى مزيد بيان. حتى ان الإمام (عليه السلام) جعل لذلك اليوم زيارة تخصه.
مناقشة الدليل الثاني:
اولاً: مناقشة السند:
رجال هذه الرواية كلهم ثقات سوى ثلاثة:
الاول: علي بن محمد بن مسعدة فهو مهمل لم يوثقه أحد(10) ولكن لا يضر ذلك بصحة الرواية لأنها منقولة في هذه الطبقة عنه وعن الحسن بن علي بن فضال معا وهذا الاخير ثقة.
أما الثاني: فهو محمد بن علي بن معمر اذ لم يوثقه احد لذا عبّر العلامة المجلسي عن هذا الحديث بانه (مجهول)(11), الا انه من مشايخ الإجازة(12)، وهذا وان كان قرينة على صلاحه وعلمه لكنه لا يكفي مستقلا في توثيقه الا ان وجوده لا يضر بالرواية ايضا لأنه بالإضافة إلى كونه من مشيخة الاجازة قد ورد فيه مدح اذ عده ابن النديم (ت438هـ) من فقهاء الشيعة ومحدثيهم ومصنفيهم(13) وكذلك يتضح من كلمات الشيخ الطوسي انه من معاريف الشيعة(14) فالرواية من هذه الجهة حسنة. ودعوى عدم قبول المدح العام وانما يشترط ان يكون المدح خاصا من جهة نقل الحديث كما يرى الشيخ حيدر حب الله (15) ضرب من التكلّف لا يمكن المساعدة عليه لا سيما مع الالتفات إلى ان عمدة ادلة قبول خبر الثقة هو السيرة العقلائية ومن الواضح اكتفاء العقلاء بمطلق المدح العام للشخص في قبول خبره مع عدم وجود معارض ولا يشترطون كون المدح خاصا بجهة نقل الحديث.
اما الثالث: فهو سعدان بن مسلم وهو وان لم يرد فيه توثيق خاص(16) الا انه ثقة على مسلك السيد الخوئي (قدس سره) لانه واقع في اسناد علي بن ابراهيم في تفسيره فهو مشمول بالتوثيق العام وبصورة عامة تتوفر عدة قرائن اذا ضممنا بعضها إلى بعض نصل إلى وثاقة الرجل بل جلالة قدره وعلو كعبه أهمها:
1- وقوعه في اسناد تفسير القمي و كامل ابن قولويه
2- من أصحاب الأصول
3- من مشايخ صفوان بن يحيى البجلي الذي لا يروي الا عن ثقة
4- رواية الأجلاء عنه لا سيما ابن ابي عمير والحسن بن محبوب السراد ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم
5- قبول القميين لروايته ونقلها لا سيما ابن الوليد واحمد بن محمد بن عيسى
6- ترجمه النجاشي من غير ان يمدحه او يذمه وهو قرينه على انه سليم عنده عن الطعن في مذهبه او القدح في روايته وهذه حال كل من ترجمه وسكت عن مدحه او الغمز فيه كما يرى المحقق السيد الداماد(17)
فالرجل عموما ثقة من المعاريف فالقرائن الخمسة الاولى مجتمعة لا مناص للإعراض عنها وان كانت كل واحدة منها مستقلة لا تكفي للحكم بالوثاقة ولذا ذكره ابن داوود في القسم الاول من رجاله(18) وعن السيد الداماد (ت1041هـ): (أن سعدان بن مسلم، شيخ كبير القدر، جليل المنزلة) (19) ولذا عمل غير واحد من الفقهاء برواياته.
وسائر رجال الرواية كلهم من الثقات الاجلاء فالخلاصة ان هذه الرواية حسنة من جهة السند لمكان محمد بن علي بن معمر فهو لم يرد فيه توثيق لكنه ممدوح.
ثانياً: المناقشة في دلالة الرواية:
متن هذه الرواية صريح الدلالة, جلي في المطلوب، غير ان احد الكتّاب اورد عليه قائلا: (الرواية لا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى المراد من زيارة الأربعين) وبعبارة علمية يريد هذا الكاتب ان يقول: ان الرواية مجملة من جهة عدم معرفة المراد من زيارة الأربعين وجوابه ان متن الرواية من أوله إلى آخره يشهد على ان المراد بها زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وبعد ذلك مصداقها منحصر بزيارته (عليه السلام) بعد أربعين يوماً من استشهاده وهو ما تلقاه الأعلام منذ عصر الغيبة الصغرى والى يومك هذا فمن شاء صرفها عن ذلك عليه ان يتكلف القرينة كما هو واضح.
والخلاصة: ان الدليل الثاني تام سندا ودلالة.
الدليل الثالث: دخول ركب السبايا إلى كربلاء يوم الأربعين:
وهو ما ذكره عدد من المؤرخين بل يمكن ادعاء استفاضته بينهم ومنهم:
1. ابو الريحان البيروني (ت440هـ) قال: (في العشرين من صفر رد الرأس –الشريف- إلى جثته فدفن معها وفيه زيارة الأربعين ومجيء حرمه –عليه السلام- بعد انصرافهم من الشام)(20).
2. ابن نما الحلي (ت645هـ) قال: (ولما مر عيال الحسين (عليه السلام) في كربلاء وجدوا جابر بن عبد الله...) (21)
3. وغيرهم كابن زكريا القزويني (ت682هـ) وابن حجر والشبلنجي وغيرهم.
ومنه يتضح الخلط والغفلة التي وقع فيها الشهيد مطهري اذ قال: (ن هذا الأمر –عودة ركب السبايا إلى كربلاء- لم يذكره إلا السيد ابن طاووس في اللهوف) (22) اذ الامر كما ترى فإن بعض هؤلاء الأعلام متقدم على ابن طاووس (ت664هـ) بأكثر من قرنين والحق كان ينبغي للشهيد مطهري ان يقلب هذه العبارة رأسا على عقب فلو انه قال (واول من اعترض على وصول ركب السبايا إلى كربلاء يوم العشرين من صفر بحجة عدم كفاية الوقت هو السيد ابن طاووس ومنه اخذه من تأخر عنه) لو انه قال ذلك لما جانب الصواب.
تقريب الاستدلال:
قد يقول قائل لو سلمنا بوصول ركب السبايا يوم الأربعين إلى كربلاء فان ذلك لا يثبت حكما شرعيا لان مجرد كون الظروف والعوامل الموضوعية جعلت وصولهم في هذا اليوم دون غيره لا يدل على انها سنة ينبغي ان تحتذى.
والجواب ان هذا الاشكال نابع من قصور في تصور جهة الدلالة في هذا الدليل فهي مركبة من مقدمتين الكبرى منهما استحباب احياء مصائب اهل بيت النبوة (صلوات الله عليهم) والصغرى ان في هذا اليوم قد تجدد مصابهم بإرجاع الرأس الشريف إلى الجسد الطاهر وبنزول حرائر النبوة وزين العابدين (عليه السلام) عند قبور الشهداء والنتيجة استحباب احياء مصابهم في هذا اليوم بعينه فيندفع بهذا الاشكال المذكور.
المناقشة في الدليل الثالث:
المناقشة في هذا الدليل وقعت من جهة عدم امكان وصول السبايا في يوم الأربعين إلى كربلاء بثلاثة صور ابينها باختصار:
الاولى: ان السبايا سجنوا في الكوفة اكثر من شهر وكذلك في الشام ومعه لا يتصور وصولهم إلى كربلاء يوم الأربعين
الثانية: ان الوقت لا يسع الذهاب إلى الكوفة ثم الشام ثم العودة إلى كربلاء حتى وان سلمنا بانهم لم يسجنوا طويلا في الكوفة او الشام.
الثالثة: ان طريق المدينة يختلف عن طريق كربلاء من الشام فلا يتصور ما نقل من انهم عندما وصلوا مفترق طرق اختاروا طريق كربلاء
الجواب:
اما بالنسبة للصورة الاولى فكونهم سجنوا كل هذه المدة مما تفرد به الطبري في تاريخه ومنه اخذ من تأخر عنه وليس له شاهد في كتبنا بل ما اكثر النصوص المعارضة له منها ما ذكره ابو الريحان البيروني وابن زكريا القزويني والشيخ الكفعمي وغيرهم من ان السبايا قد دخلوا الشام في اليوم الاول من شهر صفر مما يدل على ان مكوثهم في الكوفة لم يتجاوز 12 يوماً لان الطريق بين الكوفة والشام لن تقطع باقل من 7 أيام كما سيأتي ويكاد المؤرخون ان يجمعوا على ان مكوثهم في الشام لم يتجاوز بضعة ايام(23).
اما التقريب الثاني للإشكال فجوابه ان بين الشام والكوفة في ذلك الوقت اكثر من خمسة سكك (طرق) بعضها يمكن قطعه في غضون سبعة أيام اذ يقع على خط مستقيم في الصحراء وبعضها الآخر يمكن قطعه في 10 أيام وبعضها يتطلب اكثر من ذلك ولا دليل على انهم قطعوا الطريق الاطول بل القرائن التي توجب ان يقطعوا اقصر الطرق كثيرة في مقدمتها خوف السلطة من الثوار.
اما امكانية قطع الطريق بمثل هذه المدة فعليه شواهد تاريخية كثيرة منها ما جاء في قصة مروان حينما ارسل عامر ابن ربيعة فسار بمائة الف مقاتل من الشام إلى الكوفة وجعل يجدّ في السير حتى وصل إلى الكوفة في عشرة ايام, ولا شك ان قافلة من نيف وعشرين جملاً أسرع بكثير من رتل من الجيش قوامه مائة الف بصنوفه من مشاة وغيرهم وبمؤونته من عتاد وطعام, وايضا ذكر في اعيان الشيعة ان بعض القبائل في زمانه كانت تقطع أحد الطرق من الكوفة إلى الشام في غضون سبعة أيام وغيرها من النصوص التي تدل على الوقوع وهو أدل دليل على الإمكان وهي كثيرة قد جمعها بعض الباحثين في مصنف على حدة فجزاه الله خيرا.
بعد ذلك اذا علمنا انهم دخلوا الشام في الاول من صفر ولم يمكثوا فيها الا بضعة أيام كما مرّ بالتفصيل فإذا افترضنا ان خروجهم منها كان بعد اسبوع فسيكون امامهم 13 يوماً للوصول إلى كربلاء وهو كاف حتى مع كون سيرهم مريحا.
اما التقريب الثالث للاشكال: فمبني على انهم سلكوا الطريق السلطاني (الطريق الرسمي) وهو أطول الطرق ولا دليل على انهم سلكوه بل القرائن على خلافه فمن الممكن انهم سلكوا إلى المدينة طريق الاردن ومنه عرجوا إلى كربلاء او أي طريق اخر اذ الطرق بين الشام والكوفة كثيرة كما مر.
ولا يلتفت إلى مناقشة الشهيد مطهري في هذا الدليل بعدم قيام دليل عقلي عليه فلعمري هذا خلط وخبط غريب من محقق عالي الكعب مثله فأنى له استساغة طلب الدليل العقلي على حادثة تاريخية, نعم يشترط ففيها ان لا تناقض العقل ولكن لا يشترط قيام دليل عقلي عليها.
الخلاصة: ان الدليل الثالث لا يبعد ان يكون دليلا تاما.
الدليل الرابع: الإجماع:
اذ اجمع علماء الطائفة على استحباب زيارة الأربعين غير ان هذا الاجماع لا يبعد ان يكون مدركيا بل هو كذلك فعلا فلا يصلح ان يكون دليلا مستقلا على الاستحباب.
وقد ذكر بعضهم دليلاً خامساً وهو فعل الصحابي جابر الانصاري الا انه كثير المناقشة قليل الجدوى لذا اعرضت عنه.
والخلاصة من كل ما تقدم ان الدليلين الثاني والثالث تامان سنداً ومتنا في الدلالة على استحباب زيارة الأربعين واما الدليل الاول فتام على بعض المباني على ان هذه الأدلة الثلاثة (الأول والرابع والخامس) وان كان كل منها لا يصلح للاستدلال به على حده لكنها مجتمعة تصلح لتعضيد وتمتين الدليلين الثاني والثالث.
وفي الختام أود التذكير مرة اخرى بان زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) من المستحبات الثابتة في أي يوم من أيام السنة بما فيها يوم 20 من صفر الخير وانما البحث عن استحباب مؤكد علاوة على الاستحباب العام الثابت بنصوص متواترة لانقاش فيها لذا فإن هذا الخلاف لا يضعنا امام مفترق طرق، ومن ثم ان اجتماع المؤمنين للاتيان بشعيرة مستحبة ولو بالاستحباب العام بصورة جماعية أمر مرغوب فيه وسنة حسنة ينبغي ترشيدها واستغلالها لنشر الوعي والقيم بما ينسجم مع حجمها وزخمها الايماني وليس محاربتها وتوهينها!! والله من وراء القصد.
الهوامش:
(1) رواها عن الإمام العسكري (عليه السلام): الشيخ المفيد (ت413هـ), المزار, ص53 ؛الطوسي (ت460هـ), تهذيب الاحكام, ج6, ص5, وايضا في مصباح المتهجد, ص788, وغيرهم.
(2) رواها عن الإمام الصادق (عليه السلام): محمد بن الحسن القمي (ق7هـ), العقد النضيد والدر الفريد, ص46, ابن ابي جمهور الاحسائي (880هـ), عوالي اللئالي, ج4, ص37.
(3) محمد بن جعفر المشهدي (ق6هـ), المزار, ص352.
(4) ظ: ابو القاسم الخوئي, معجم رجال الحديث, ج18, ص273, رقم 11823.
(5) بن طاووس (664هـ), اقبال الاعمال, ص100.
(6) ظ: هامش رقم (1).
(7) علي الطباطبائي (ت1231هـ), رياض المسائل, ج3, ص406.
(8) للاطلاع على بعض هذه الأحاديث والتي هي مدرك قاعدة التسامح يُنظر: الكليني (329هـ), الكافي, ج2, ص87, (باب من بلغه ثواب من الله على عمل)
(9) الطوسي, تهذيب الأحكام, 6, ص113, ومصباح المتهجد, ص787.
(10) ظ: معجم رجال الحديث, ج13, ص172, رقم 8478
(11) العلامة المجلسي (ت1111هـ), ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار, ج9, ص303.
(12) ظ: م. ن, ج18, ص31 – 32.
(13) ابن النديم, الفهرست, ص278 قال (ابن معمر أبو الحسين.. بن معمر الكوفي. وله من الكتب، كتاب قرب الاسناد).
(14) الطوسي, الفهرست, ص277, الرجال, ص442.
(15) كل ما نقل عن الشيخ حب الله في المقال مرجعه مقال له على موقعه الرسمي بعنوان (زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في الاربعين).
(16) ظ: ترجمته في معجم رجال الحديث, ج9، ص104، رقم5099.
(17) ظ: المحقق الداماد (ت1041هـ)، الرواشح السماوية، الراشحة السابعة عشرة.
(18) ابن داود الحلي (ت740هـ)، الرجال, ص103.
(19) معجم رجال الحديث، ج9، ص105.
(20) البيروني (ت440هـ)، الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص331.
(21) مثير الأحزان، ص107.
(22) الملحمة الحسينية ج3، ص246.
(23) ظ: المفيد، الارشاد، ص431، الصفار، بصائر الدرجات، ص159.