نزوع البشرية إلى المنقذ
نزوع البشرية إلى المنقذ
الشيخ نزيه محيي الدين
لنبدأ من مكان بعيد - ظاهراً - عن مطلبنا، ولكن سيتبيَّن أنَّه يمسُّ جوهر الدليل..
يُدرَّس في المدارس، ويُعرَض في الأفلام الوثائقية، كيفية اختراع الإنسان للطبخ ومذاقه، فتقول الرواية الشبه دارونية: إنَّ الإنسان القديم كان يأكل اللحم النيّئ، فضربت صاعقة الغابة بالقرب من كهفه، فوجد حيوانات كثيرة ميِّتة ومشويَّة، فأكلها اضطراراً، فوجد طعمها أطيب من طعم اللحم النيّئ، واستمرَّ يأكل من اللحم المشوي بفعل الحرائق خمسة ملايين سنة، ثمّ اكتشف طريقة للتحكّم بالنار وصُنعِها قبل (400) ألف سنة، فأخذ يحرص على تجميع النار وتعاهدها، وأخذ يطبخ بها، فتطوَّر مطبخه إلى هذا اليوم.
السؤال المهمّ: من أخبر هؤلاء بهذه القصَّة؟
وما الدليل عليها؟
الجواب: هو الخيال، وهو الدليل فقط وفقط.
أليس غريباً أن تصاغ أفكار مدرسية بفرضيات خيالية تُدرَّس كحقيقة لا تقبل الجدل؟
ولكن للأسف هذا هو الواقع في الكثير من الفرضيات الخيالية التي تُسمّى حقائق علمية التي آمن بها العلماء، كما هو في تفصيلات العديد من جوانب نظرية دارون وغيرها، فما هي إلَّا فروض خيالية لا يدعمها أيّ دليل علمي، وإنَّما دليلها الخيال وتصنيع الأدلَّة وزراعتها من أجل تصديق الخيال. وقد أطبق علماء الغرب على التصديق بهذه الخيالات إلَّا القليل النادر منهم الذي يعترض ولا يقبل تسمية كلّ الترقيعات بالأدلَّة.
وعلى هذا المنوال نقرأ نشوء الأديان في الأرض، بخيال طريف يقول بأنَّ الإنسان كان جاهلاً ضعيفاً، فرأى الأحوال المناخية والظواهر القاهرة فخاف منها، وبدأ الخوف يسيطر عليه بشكل جماعي، فاخترع فكرة الإله الخالق الذي يفزع إليه الناس من أجل الاطمئنان، فكان الإيمان بالله عبارة عن علاج نفسي للخوف والرهبة الشديدة من الصواعق والعواصف والوحوش.
والدليل على هذا السيناريو هو الخيال المحض الذي لا يدعمه أيّ دليل إطلاقاً.
ولكن هل يتوقَّف الأمر عند تفسير نشأة التديّن بعبادة الخالق بهذا الحدّ؟
لا أبداً، بل أصبحوا يتفنَّنون في تفسير كلّ المعتقدات الدينية، وكيف انحدرت من ذلك الخوف الجاهل لتكوين ديانة كاملة.
طيّب هؤلاء يريدون أن يُقنِعوا أنفسهم بأنَّ الدين ناتج عن التخلّف الإنساني في فهم الطبيعة وظواهرها المخيفة.
وحركتهم هذه إنَّما هي للعداء مع الكنيسة التي قتلتهم بجريمة العلم، كما قتلت الفيزيائيين والكيمائيين الذين أسموهم بالمهرطقة أي الزنادقة أو المرتدّون عندهم. فهذا ردُّ فعل نمى وتطوَّر في ظرف صراع مع الكنيسة.
لكن أن نرى مسلمين أو متديّنين مخالفين للتشيّع، وللأسف بعضهم من أبوين شيعيين، يحاولون تفسير ظاهرة النصوص على الإمام المهدي عليه السلام وظهوره ليملأ الأرض عدلاً بدل الظلم والجور فيها، بنفس هذه التفسيرات الخيالية، بدعاوى ليس لها أيّ أرضية علمية إلَّا الخيال، فنراهم يُصرِّحون أنَّ المهدي خرافة بشرية أنتجها الظلم والاضطهاد الذي لا يستطيع المظلوم أن يرى لنفسه خلاصاً وسعادةً، فيخترع هذه الفكرة من أجل الأمل في الحياة، وهكذا بدأت التحليلات الخيالية تنمو عند هؤلاء.
ولا يشعر هؤلاء بالخجل حين يُحوِّلون خيالات غير علمية، بل يعارضها العلم جزماً إلى حقائق علمية تقام عليها ديانة معاكسة نتيجة القناعة بالخيال.
ينقل الأُستاذ ثامر هاشم العميدي في كتابه دفاعاً عن الكافي تحليلات العباقرة في الخيال، مثل قولهم: (والذي دعا الشيعة إلى تبنّي فكرة المهدي المنتظر والتركيز عليها، هو ما آلت إليه أحوالهم بعد مقتل علي، وتولّي معاوية الأمر، ومبايعة الحسن له، ثمّ استشهاد الحسين، وفشل الحركات التي قاموا بها ضدّ الأُمويين، وقوَّة شوكتهم، فعملوا على تحويل دعوتهم إلى دعوة سرّية تعمل في الخفاء على الإطاحة بالحكم الأُموي، وتقويض أركانه، ولكنَّهم أدركوا أنَّ هذا لا يتمُّ إلَّا بعد جهود مضنيَّة، ووقت طويل، فكان لا بدَّ من ربط الأتباع بأمل يتطلَّعون إليه، وكان ذلك الأمل هو الإمام الغائب أو المهدي المنتظر محمّد بن الحنفية، أو محمّد بن الحسن العسكري، أو عبيد الله المهدي، وفقاً لاختلاف فِرَق الشيعة).
ونقل الأُستاذ العميدي عنهم أيضاً: (والواقع أنَّ عقيدة المهدي قد تمَّت وترعرعت قبل وقوع غيبة الإمام، وذلك عقب موقعة كربلاء، وبعد فشل الشيعة في تقويض دعائم الحكم الأُموي، وبالتالي كان الشيعة مهيَّئين لقبول فكرة المهدي مخرجاً للتعارض بين ضرورة النهي عن المنكر من ناحية، وبين التسليم بالسلطة القائمة من ناحية أُخرى، وبالتالي كانت المهدية أُمنية شيعية وجانباً سلبياً في حياتهم يُمثِّل باباً للخروج والانسحاب من الحياة السياسية).
أقول: هكذا نجد الأفكار الخيالية التي تُحلِّل الأُمور بخيال خصب، تُعرَض وكأنَّها حقائق غير قابلة للنقاش. وأنَّ فكرة المهدي نابعة من الفشل في تحقيق الأهداف السياسية.
أقول: وقد نسي هذا العبقري المنكر للمهدي أحاديث النبيِّ عن المهدي، الذي قال عنه المحدِّثون الأوائل من أهل السُّنَّة بأنَّه من ضروريات الاعتقاد في الإسلام. وقد أقرَّ ذلك شيخ السلفية الحديثة عبد العزيز بن باز، فقد قال في جواب من سأل: (يوجد لدينا رجل ينكر المسيح الدجّال والمهدي ونزول عيسى عليه السلام)، مجيباً: (مثل هذا الرجل يكون كافراً والعياذ بالله؛ لأنَّه أنكر شيئاً ثابتاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام...)، الخ الجواب.
إذن هذا جزء يسير من دعواهم بأنَّ فكرة المنقذ وفكرة المهدي هي نتيجة ضغوط الحياة والفشل في تحقيق الأهداف، فتتحوَّل الآمال إلى انتظار منقذ عالمي سيقوم بتحقيق كلّ الآمال والطموحات.
ولو كان فكرة المنقذ هي فكرة أبناء الغابة ومنحصرة في الشعوب البدائية والمتخلِّفة والتي لا تعرف الله، لقلنا: إنَّها ظاهرة نفسية إنسانية، ولكن ماذا لو ثبتت أنَّها تعليمات إلهية ثابتة في كلِّ الأديان من أقدم الديانات إلى الآن؟ فهل هذا دليل على أنَّها ظاهرة نفسية لمعالجة الألم بالأمل؟
فلنسأل أنفسنا: هل أنَّ انتظار المهدي في آخر الزمان هو جزء من الأمل عند الإنسان، وعملية علاج نفسي داخلي، أم هناك أمر آخر أكثر واقعيةً من تصوّرات خيالية؟
المعروف أنَّ الأمل هو بالفرج وحصول الأشياء في الحاضر أو المستقبل القريب وليس في آخر الزمان بعد آلاف السنين، فالفكرة إذا بدت صحيحة بوجود الأمل وفاعليته في النفس الإنسانية، فهذا لا يعني أنَّها تصنع شخصية عالمية محدَّدة تأتي في آخر الزمان بعد فساد كلّ الحضارات وانتشار الظلم والجور وسيادة جبروت الإنسان وسيطرته على مقدَّرات الأرض، فهذه أُمور ليست من مدرَكات العقل العملي ولا النظري إلَّا بمقدار عمومي وقريب جدَّاً لا يصل إلى فكرة آخر الزمان. فما استندوا عليه من خيال لا ينتج شيئاً ممَّا قالوه، وإنَّما ينتج عموم حصول الفرج بعد الشدَّة، والأمل في نجاح المطالب، وتحسين الحال في المستقبل بعد معاناة مختلفة الشدَّة. وهذا موجود دائماً، ولا علاقة له بالمنقذ العالمي الذي له شخصية واقعية وصفات وأفعال محدَّدة ذكرتها كلّ الأديان وبالإطباق على تلك الصفات والأفعال.
وفي سبيل تكذيب وهمهم فعلينا أوَّلاً إثبات أنَّ التبشير بالمنقذ المخلِّص للناس من مشاكلهم هو تبشير ديني عبر أنبياء الله أو أولياءه أو عبر الديانات عموماً، فهناك اتِّجاهان سنختار واحداً منهما:
الاتِّجاه الأوَّل: هو معرفة هل أنَّ فكرة المنقذ عالمية منصوصة في الأديان عبر كلّ التاريخ، أم هي حالة طارئة عند بعض الشيعة المأزومين الذين فشلوا في تحقيق أحلامهم السياسية كما يدَّعون؟
الاتِّجاه الثاني بالنسبة للمسلمين: وهو يحصل في الجواب على السؤال التالي: هل أنَّ فكرة المهدي هي فكرة شيعية متأخِّرة نتيجة الفشل في تحقيق الأهداف السياسية، أم هي فكرة محمّدية فيها نصوص كثيرة عن النبيِّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وصلت إلى درجة الصحَّة عند غير الشيعة؟
الاتِّجاه الثاني يحتاج إلى بحث كامل، ولكنَّه اتِّجاه سهل في تناوله، لكثرة النصوص والتحقيقات سواء عند السُّنَّة أو عند الشيعة على حدٍّ سواء، وهي نصوص فيها صحيح الصدور، وفيها محتمل الصدور، وفيها الضعاف التي لا يمكن الجزم بها، وهذا ليس مقتصراً على الشيعة، بل هو عند السُّنَّة أيضاً، فما دام هناك أحاديث صحيحة الصدور فليس في القضيَّة مشكلة، ويُحمَل الضعيف أو الحسن المحتمل على الصحيح، فيكون كلام مثل هذا المتخيِّل لهذا السيناريو إنَّما هو غناء في الكوز.
اليوم نختار البحث في إثبات أنَّ فكرة المنقذ تُبشِّر بها الأديان من القِدَم.
وعليه لنقرأ أنَّ فكرة المنقذ والمصلح العالمي هي فكرة دينية ذُكِرَت في الكتب المقدَّسة، وكانت جزءاً من الاعتقادات الدينية على مرِّ الزمن.
فهي ليست وليدة اليأس من انتصار العدل ليأمل الناس بظهور من سيملؤها عدلاً، بل هي جزء من البشارات الإلهية في الكتب المقدَّسة.
فهي إخبار إلهي بمصير البشر الأحياء في الأرض، كما أنَّه أخبر بمصير البشر فيما بعد الموت بيوم الجزاء والعدل.
ومن هنا قد نستغرب ورود فكرة المهدي في أديان نعتقدها غير توحيدية وغير إلهية ظاهراً وإنَّما هي أكاذيب على الناس، ولكن يبدو من خلال التحقيق بأنَّ هذه الديانات كانت توحيدية وإلهية، ولكن التحريف عند الأتباع وصل إلى مرحلة لا يوجد فيها لقاء بين النصّ الأساس وبين الواقع. فمثلاً بوذا الذي يُدَّعى أنَّه لا يؤمن بإله أصلاً، وأنَّ ديانته قائمة على تحسين الأخلاق، ففي وصيَّة بوذا الأخيرة قبل موته قال للتلاميذ حوله: (ليس في العوالم المرئيَّة وغير المرئيَّة إلَّا قدرة واحدة لا بداية لها ولا نهاية، لا شريعة لها إلَّا شريعتها، لا تميّز ولا تحقّد).
فهل هذا كلام من لا يؤمن بالله الواحد اللانهائي المنحصرة فيه القدرة والحقّ في التشريع؟ على أنَّ الترجمات نشكُّ فيها غالباً، فإنَّ من يقوم بها يحذف ما لا يخدم هدفه.
ولسنا هنا في بحث هل الديانات مثل البرهمية التي هي أصل المجوسية التي نشأت في أُور في نفس فترة النبيِّ إبراهيم عليه السلام في القرن العشرين قبل الميلاد؟ فهل كان من الصدفة أن يكون اسم الديانية هو البرهمية وتنشأ في زمن إبراهيم نفسه، وفي نفس مدينته، وتأخذ نفس المسمّيات كمسمّى خدمة المعبد السومري (المجوس)؟ هذا مجرَّد تساؤل لعلَّه يُفسِّر بنتيجته الإيجابية ما فعله الإمام علي عليه السلام باعتبار المجوس أصحاب كتاب، وعاملهم معاملة أهل الكتاب في نشر الذمَّة، كما يُذكر في بعض الروايات.
وفي (مجمع الفائدة) قال المقدَّس الأردبيلي: (قيل: كان لهم نبيّ وكتاب، قتلوه وحرقوه، واسم نبيّهم زردشت، واسم كتابه جاماست)، (أُنظر: مجمع الفائدة ج 7/ ص 438).
وفي وسائل الشيعة: (إنَّ اسم نبيِّهم داماست فقتلوه، وكتاب يقال له: جاماست كان يقع في اثني عشر ألف جلد ثور فحرقوه)، (وسائل الشيعة ج 5/ ص 127).
في كتاب الطهارة للسيِّد الخوئي (ج 2/ ص 48) أنَّه قال: (ثمّ إنَّه إذا بنينا على نجاسه أهل الكتاب بمقتضى الأخبار المتقدِّمة وتسالم الأصحاب، فهي لما تختصّ باليهود والنصارى والمجوس...).
وفي الكافي للحلبي (ص 245) يقول: (والكفّار أربعة أصناف: كتابيّون، وهم اليهود والنصارى والمجوس).
وفي تحرير الأحكام للعلَّامة الحلّي (ج 3/ ص 461) قال: (اليهود لهم كتاب التوراة، والنصارى لهم الإنجيل، أمَّا المجوس فقيل: لهم كتاب ثمّ نُسِخَ ورُفِعَ بين ظهرهم، فلهم شبهة كتاب، فلحقوا بالكتابيين في أحكامهم).
فحتَّى لو لم يكن كلّ من زرادشت (قيل: في حدود 1400قبل الميلاد، وقيل: في حدود 625 قبل الميلاد، المتبنّي للبرهمية المجوسية بحدود 1950 قبل الميلاد)، أو بوذا (وُلِدَ سنة 568 ق م)، وكونفوشيوس (551 ق م)، أنبياء فإنَّ أصل رسالاتهم لا يبعد أنَّها من الديانة الإبراهيمية الحنيفية. وهذا يحتاج إلى مزيد من التحقيق رغم كثرة القرائن لحدِّ الآن.
والمجوس الزرادشتية هم أصل الديانة الهندية كالهندوسية والبوذية الهندية والصينية الكنفوشية، كما يقولون هم بأنَّ الهندوسية البرهمية مذهب من مذاهب المجوسية البرهمية، والبوذية تصحيح لانحراف الهندوسية، والكنفوشية تصحيح تطوير للبوذية.
فحال هؤلاء واعتبارهم أصحاب ديانة سماوية كحال الوهّابية اليوم، حيث نعتبرهم من المسلمين، ولكن بتحقيق أقوالهم فلا تجد أيّ لقاء بين الإسلام وبين الوهّابية إطلاقاً. ويستحيل أن تكون الوهّابية تُمثِّل النبيَّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو الحال في الديانات الأُخرى كاليهودية والنصرانية والمجوسية، حيث يستحيل نسبتها إلى الله الذي أنزل موسى وعيسى والنبيّ إبراهيم أصل الديانة العراقية والشرقية.
ولعلَّ أغرب ما نقرؤه أنَّ البوذيين يعتبرون الكعبة في مكّة هي مكانهم المقدَّس، وأنَّها قبر بوذا (مع أنَّهم يدَّعون إحراقه وتوزيع رماده بين البلدان).
ورد بصحيفة الحياة اللندنية كلام د. حاتم الطحاوي الأُستاذ في كلّية الآداب جامعة الملك فيصل قائلاً:
إنَّ المؤرِّخ (شو جو كوا) في القرن الثالث عشر الميلادي ذكر (أنَّ المسلمين يحتشدون في شكل سنوي عند اقتراب موعد الاحتفال بالذكرى السنوية لوفاته في مكّة المكرَّمة. كما تحدَّث عن الكعبة المشرَّفة وستائرها الحريرية باعتبارها منزلاً لبوذا أيضاً. وأوغل المصنِّف الصيني في تشوّشه ليشير إلى أنَّ قبره يقع في مكّة أيضاً).
ودراسة البوذية ليست سهلة، لأنَّها تمتلك تاريخ وأفكار ومفاهيم مشوّشة عجيبة، مثلاً ممَّا ينقله البوذيون من كلام بوذا يخالف معتقدهم تماماً، فمثلاً هم يستدلّون على أُلوهيته بنصٍّ ضدّهم تماماً، فيقولون: قال بوذا قبل أن يموت: (إنَّ كلَّ مركَّب مصيره إلى الفساد)، فيُقرِّرون أنَّه تخلَّص من التركيب وعاد إلى أُلوهيته. والحقيقة أنَّه شهد على نفسه بالتركيب وبالفساد ومصيره الموت، فكيف يكون إلها؟ ولو صحَّ ما قالوه بأنَّ التحلّل هو نفي للتركيب، وهو عبارة عن ارتفاع إلى السماء، فكلُّ الكائنات الحيَّة تتحلَّل، فهل كلّها بوذا، وكلّها آلهة؟
فهكذا هي هذه الديانات الشرقية على نفس المنوال من الخلط بين الحقِّ والباطل، والإيغال في التفسير البعيد عن المقاصد بموجب البيان الإنساني وأُصوله العقلية، ولذا هو أمر يحتاج إلى المزيد من التحقيق، ولكن على كلِّ حالٍ فإنَّ هذه الديانات تُبشِّر بمنقذ عالمي يُوحِّد الأرض، وينشر العدل العامّ، وينشر الخير والرزق الوفير للجميع.
فقد قال الدكتور علي أبو الخير في بحثه (عالمية الخلاص وحتمية الظهور في الفكر السياسي) ما يلي: (إنَّ فكرة (المنتظر) فكرة تكاد لا يخلو منها مجتمع بشري أو عقيدة دينية، فجذور الانتظار تضرب في أعماق التاريخ والمعتقد الديني، وهي فكرة مرادفة لمفهوم الخلاص).
ونبدأ بما نُقِلَ من نصوص عن المنقذ في الديانات الشرقية القديمة، وبعد ذلك نعرف ما هو موجود في الديانتين اليهودية والنصرانية.
وهنا يجب أن نقول: إنَّ كلَّ النصوص مترجمة من لغات متعدِّدة، ونعتمد فيها على رواتها ومترجميها، فإنَّنا نفتقر إلى معرفة اللغات العالمية الحديثة والقديمة، وهذا ليس من اختصاصنا، فالعهدة على من ترجم ونقل، والأمر مفتوح لمن يعلم اللغات، فلعلَّه يجد ما لم يعثر عليه المترجمون السابقون.
المنقذ في معقتدات الزرادشتية:
نقلتُ النصوص عن موقع مركز أهل البيت في لندن بإدارة السيِّد محمّد الموسوي حفظه الله، وهو ومجموعته أعرف بلغة أهل الهند. فينقل الموقع ما يلي:
ورد عندهم ثلاثة أسماء للظهور في آخر الزمان:
جاء في كتاب شابوهرجان، من الكتب المانوية المقدَّسة عندهم: (... خرد شهر إيزد لا بدَّ أن يظهر في آخر الزمان وينشر العدل في العالم...).
وعن سوشيانت، من الكتب الزرادشتية المقدَّسة عندهم، جاء فيه: (... استوت إرت، سوشيانت أو المنقذ العظيم. سوشيانس، أو موعود آخر الزمان..، وسيلة وعلاج جميع الآلام به، يقتلع جذور الألم والمرض والعجز والظلم والكفر، يُهلِك ويسقط الرجال الأنجاس...).
وفي رسالة جاماسب (صفحة 121): (... سينشر (شوشيانت، المنقذ) الدين في العالم فكراً وقولاً وسلوكاً).
المنقذ في المعتقدات الهندية:
أنقل تلخيص شبكة الإمام المهدي في ما جاء في هذه الديانة، والعهدة على الموقع، بما يلي:
(جاء الحديث حول المنقذ والموعود في أعراف الهنود وكتبهم، مثل كتاب (مهابهارتا) وكتاب (بورانه ها) حيث قالوا:
تذهب الأديان جميعاً إلى أنَّه في نهاية كلّ مرحلة من مراحل التاريخ يتَّجه البشر نحو الانحطاط المعنوي والأخلاقي، وحيث يكونون في حال هبوط فطري وابتعادٍ عن المبدأ، ويمضون في حركتهم مضيّ الأحجار الهابطة نحو الأسفل، فلا يمكنهم أنفسهم أن يضعوا نهاية لهذه الحركة التنازلية والهبوط المعنوي والأخلاقي، إذن لا بدَّ من يوم تظهر فيه شخصية معنوية على مستوى رفيع تستلهم مبدأ الوحي وتنتشل العالم من ظلمات الجهل والضياع والظلم والتجاوز، وقد أُشير لهذه الحقائق في تعاليم كلّ دين إشارة رمزية منسجمة مع المعتقدات والقيم الأُخرى انسجاماً كاملاً.
فمثلاً: في الديانة الهندية، وفي كتب بورانا (burana) شرح تفصيلي حول مرحلة العصر الكالي (kali) يعني: آخر مرحلة قبل ظهور أو تاراي ويشنو العاشر).
المنقذ في المعتقدات الصينية البوذية والكنفوشية:
ورد في كتاب أوبانيشاد (صفحة 54) المقدّمة ما يلي: (... حينما يمتلئ العالم بالظلم يظهر الشخص الكامل الذي يُسمّى (يترتنكر: المبشَّر) ليقضي على الفساد ويُؤسِّس للعدل والطهر...، سيُنجي كريشنا العالم حينما يظهر البراهميتون).
وجاء في كتاب ريك ودا ماندالاي (ص 4 و24): (يظهر ويشنو بين الناس..، يحمل بيده سيفاً كما الشهاب المذنب، ويضع في اليد الأُخرى خاتماً برّاقاً، حينما يظهر تكسف الشمس، ويخسف القمر وتهتزُّ الأرض) .
أقول: بعد دراسات الكثير من عقائد البوذية وجدت أنَّهم يؤمنون بظهور بوذا الخامس، أي المستنير الخامس الذي سيُوحِّد العالم. وفي فلسفتهم التناسخية المتأخِّرة في الفكر البوذي نراهم يقولون بتناسخ بوذا، وإنَّه سيعود بولادة بوذا الخامس (كَمايتريا) من جديد لينقذ العالم. وهذا ما أجمعت عليه دراساتهم التي قرأناها باللغة العربية.
كما في موقع بيت الصيّاد مقال للمستنير (أُوشو) بعنوان أبعد من الأبعاد عن عودة بوذا من جديد، حيث يُفسِّر موضوع ظهور بوذا الخامس بتفسير غريب خليط بين التناسخ والولاية التكوينية، فيدَّعي أنَّ بوذا حينما يرتفع إلى السماء الخامسة يحافظ على جسده في كلِّ سماء، فجسده في الرابعة والثالثة والثانية محفوظ، ويفقد جسده المادّي المتحلِّل في الأرض، وعندما يصعد إلى السماء السابعة تتحلَّل روحه وتصبح مندمجة بالله، ولكنَّه حينما يرجع إلى الأرض يستخدم أجساده في السماوات لتتمثَّل في الأرض بطريقة يقول عنها أنَّها معقَّدة جدَّاً.
وعلى كلِّ حالٍ هذه تفسيرات تبرّعية، المهمُّ فيها هو تسالمهم بنزول المنقذ الذي يحكم العالم وينشر العدل.
المنقذ في الديانة اليهودية والنصرانية:
اليهود الآن ينتظرون المنقذ، واسمه مسيّا ومشيحا. والنصارى ينتظرون المنقذ، واسمه عندهم في كتبهم البركليت.
إذن لنقرأ في مقدّمة كتاب (حرمة ذبائح أهل الكتاب) للشيخ البهائي بقلم السيِّد زهير طالب الأعرجي، ذكر جملة مهمَّة عن إيمان اليهود الحاليين التي يجب أن تتوفَّر في الذابح حتَّى تتمَّ التذكية عندهم، فقال:
وأغلب اليهود تؤمن بالله الواحد، الخالق، الأوَّل، الآخر، وبأنبياء الله (عدا عيسى ومحمّد) صلوات الله عليهم، وبتعاليم موسى عليه السلام، و بخروج المنقذ المنتظر (767 :Melton Messia).
وللعلم فإنَّ اليهود والنصارى يشتركون في كتب العهد القديم، ولكنَّهم يختلفون في عدد الكتب والفصول، فبعضها يُعتَرف به وبعضها لا يُعتَرف به.
في الكتب اليهودية ذُكِرَ النبيُّ محمّد، وذُكِرَ الإمام المهدي، وذُكِرَ علي، وذُكِرَ الحسين ومصيبته صلوات الله عليه أجمعين، ولكن هناك خلط عند المسلمين بين ما هو لمحمّد المهدي وبين ما هو لمحمّد رسول الله، فبعض النصوص لا تقبل الانطباق إلَّا على شخصية واحدة وبعضها تقبل الانطباق على شخصيتين، وهم يخلطون بينها. والفارق بينهما حسب التتبّع هو مهمَّته وفعله، فإذا كان صاحب الرسالة فهو النبيُّ محمّد، وإذا كان القائم بالدولة العالمية وإخضاع جميع البشر في آخر الزمان فهو المهدي. وعلى هذا المعيار سنذكر ما ينطبق على المهدي فقط بدون شروح كثيرة وأدلَّة على هذه الدعوى.
وسنختصر البحث في النصوص اليهودية والمسيحية اختصاراً قد يكون مخلَّاً، لأنَّه طويل الذيل جدَّاً.
فالمنقذ ورد عندهم بتسميات وصفات، هي:
1 - الوارث للأرض.
2 - المسيّا والبيركليت.
3 - جذع يسي.
4 - المشيحا.
1 - الوارث للأرض:
نعلم أنَّ هناك تحدٍّ كبير للديانتين المسيحية واليهودية بذكر الله لنصٍّ في الزبور في نصِّ القرآن، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105).
ولم يُكذِّبه أيٌّ من المسيحيين أو اليهود، وهذا النصُّ موجود بالفعل في الزبور، وفيه إضافات تدلُّ على ما صرَّح به أئمَّتنا من أنَّه لا ينطبق إلَّا على المهدي عليه السلام في آخر الزمان.
أقول: كيف ينفون ذلك وهو نصٌّ في الزبور؟ إذ يقول: (الصدّيقون يرثون الأرض، ويسكنونها إلى الأبد)، (المزامير 29: 37).
إنَّ النصَّ بهذا المزمور يصف طبقة من المؤمنين كما هو ظاهر القرآن، ولكن بملاحظة النصوص المرافقة في المزمور نجد أنَّ النصَّ يتكلَّم عن تعميم الحقّ والعدل على الأرض وزوال الأشرار كلّياً من الأرض في آخر الزمان. وهذه صفات دولة الإمام المهدي، وقيادة الإمام المهدي الذي سيتربَّص به الشرّير فلن يُمكِّنه الله منه حتَّى يُظهِره لإظهار الحقِّ.
إذن لنقرأ بعض النصوص في نفس المزمور: (لأنَّ الربَّ يُحِبُّ العدل، ولا يتخلّى عن أتقيائه، بل يحفظهم إلى الأبد. أمَّا ذرّية الأشرار فتُفنى)، 29 - (الصدّيقون يرثون خيرات الأرض، ويسكنون فيها إلى الأبد)، 30 - (فم الصدّيق ينطق دائماً بالحكمة، ويتفوَّه بكلام الحقِّ)، 31 - (شريعة إلهه ثابتة في قلبه، فلا تتقلقل خطواته)، 32 - (يتربَّص الشرّير بالصدّيق ويسعى إلى قتله)، 33 - (لكن الربّ لا يدعه يقع في قبضته، ولا يدينه عند محاكمته)، 34 - (انتظر الربّ واسلك دائماً في طريقه، فيرفعك لتمتلك الأرض، وتشهد انقراض الأشرار)، 35 - (قد رأيت الشرّير مزدهراً وارفاً كالشجرة الخضراء المتأصِّلة في تربة موطنها)، 36 - (ثمّ عبر ومضى، لم يوجد. فتَّشت عنه فلم أعثر له على أثر)، 37 - (لاحظ الكامل وانظر المستقيم، فإنَّ نهاية ذلك الإنسان تكون سلاماً)، 38 - (أمَّا العصاة فيُبادون جميعاً، ونهاية الأشرار اندثارهم)، 39 - (لكن خلاص الأبرار من عند الربِّ، فهو حصنهم في زمان الضيق)، 40 - (يعينهم الربُّ حقَّاً، ويُنقِذهم من الأشرار، ويُخلِّصهم لأنَّهم احتموا به).
2 - المسيّا والبركليت:
هذان الاسمان مشخِّصان لمنقذ في آخر الزمان، الأوَّل في النصوص اليهودية، والثاني في النصوص المسيحية، وكلاهما بنفس الجذر اللغوي حسب الترجمة.
(المسيّا) هو (حمدا) في العبرية، ويُكتَب (حمدا)، فترجموها (المسيّا) باليوناني وتعني المخلِّص، وهذا التحريف متأخِّر حدث بعد الإسلام، والكتب القديمة كلّها كان يُكتَب (حمدا) أو (حمادا)، وهي بمعنى المشتهى أو المحمود المرغوب كما في القواميس العبرية.
و(البركليت) في اللغة اللاتينية هي أفعل التفضيل للفعل (حمد)، ويقابلها كلمة مفتوحة الباء والراء تُلفَظ (بَارَاكليت) وهي بمعنى المهرِّج في المهرجانات. وفي الترجمات المتأخِّرة منحوا معنى الثاني للأوَّل وسمّوه بدل المهرِّج المسلّي والمعزّي.
والبركليت عندهم سيبعثه الله في آخر الزمان لخضع العالم كلّه لدين واحد، ينشر العدل والسعادة والحقَّ.
لكن مواصفاتهما واحدة، وهي لشخص يأتي في آخر الزمان، يدين الناس جميعاً، أي يُوحِّد الدين لله في الأرض.
إذن فلننظر لمواصفات (مسيّا) و(البريكليت) و(المهدي) حسب المصادر الأصلية، حتَّى نطابق بشكل دقيق:
(مسيّا): مصلح من الله، ينشر العدل والسلام على كلِّ الأرض في آخر الزمان، وينتشر الخير في زمنه.
و(البركليت) فإنَّه: مصلح إلهي، يُمثِّل روح الحقِّ والحقيقة، سيأتي آخر الزمان لنشر العدل والحقيقة، ويخضع جميع الأُمم بسلامه، وينشر الخيرات في الأرض.
و(المهدي المنتظر عليه السلام): يأتي في آخر الزمان لينشر العدل والحقَّ في كلِّ الأرض، ويُخضِع جميع الأُمم، وينشر الخير في كلِّ الأرض.
فإخضاع العالم كلّه، وجمع كلمته، ونشر العدل والخير، هي صفات كلّ واحد من هؤلاء في آخر الزمان.
وهذه صفات شخص واحد منتظَر من قِبَل جميع الديانات، إذ لا يمكن التعدّد في نفس الوقت لمثل هذه الحالة؛ لأنَّ كلّ دين يقول: إنَّه واحد لا يتعدَّد في زمن واحدٍ هو آخر الزمان، وفي جميع الأرض فلا مكان لغيره. وهم متَّفقون على هذا.
وهنا مشكلة تقع بسبب أنَّ المسلمين (سُنَّة، وشيعة) يقولون: إنَّ (مسيّا) و(البركليت) هو النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ذاته وليس المهدي عليه السلام. فهي بشارة بالدين الحنيف، وليست بشارة بالمنقذ الأخير حامل لواء محمّد.
والحقيقة أنَّهم لم يلتفتوا لمهمّات الشخص المذكور بالنصوص المسيحية واليهودية، مثل ما ورد بأنَّه يبكت العالم على خطية، وعلى برٍّ، وعلى دينونة. وفسَّروا الدينونة بأنَّها نشر ديانة رئيس العالم، فإنَّه لا يمكن أن يكون النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنَّه لم يملك الأرض جميعاً، ولم يُوحِّد الدين في الأرض. فهذا لم يحدث للنبيِّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو صفة الإمام محمّد المهدي. نعم، قد يقال بأنَّ ابنه هو من سيقوم بذلك وبدين النبيِّ، فيكون منسوباً للنبيِّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
فأقول: هذا صحيح، ولكنَّه بالنتيجة هو فعل محمّد المهدي ابن النبيِّ محمّد، فالاسم له.
3 - جذع يسي:
أمَّا نصوص جذع يسي، فهو موضوع في غاية الأهمّية، لأنَّه يصف دولة الإمام وما سيحدث فيها، وهو بشارة بشخص من نسل (يسي) يقوم بكلِّ ما نصَّت عليه روايتنا في زمن الإمام المهدي.
وهناك كلام طويل في تحقيق احتمال التحريف من (يس) إلى (يسي) لأسباب وجيهة، منها: أنَّ المهدي إسماعيلي كما في بشارة يعقوب، ويسي هو والد داود، فيعني أنَّه من نسل إسحاق، وهذا خلاف بشارة يعقوب عندهم.
وأُورد هنا نصَّ جذع يسي مكتفياً به، فإنَّه يشرح نفسه، وهو يدلُّ على نصِّ الكتب السماوية بمنقذ آخر الزمان بغضِّ النظر عن التطبيق.
وفي سفر أشعيا (11): (جذع يسي 11: 1 - ويفرخ برعم من جذع يسي، وينبت غصن من جذوره. 2 - ويستقرُّ عليه روح الربِّ، روح الحكمة والفطنة، روح المشورة والقوَّة، روح معرفة الربِّ ومخافته. 3 - وتكون مسرَّته في تقوّي الربِّ، ولا يقضي بحسب ما تشهد عيناه، ولا يحكم بمقتضى ما تسمع أُذُناه. 4 - إنَّما يقضي بعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض (لعلَّه يقصد أنَّه يقضي حسب الواقع لا الظاهر)، ويعاقب الأرض بقضيب فمه، ويُميت المنافق بنفخة شفتيه. 5 - لأنَّه سيرتدي البرّ ويتمنطق بالأمانة. 6 - فيسكن الذئب مع الحمل، ويربض النمر إلى جوار الجدي، ويتآلف العجل والأسد وكلُّ حيوان معلوف معاً، ويسوقها جميعاً صبي صغير. 7 - ترعى البقرة والدبّ معاً، ويربض أولادهما متجاورين، ويأكل الأسد التبن كالثور. 8 - ويلعب الرضيع في (أمان) عند جحر الصل، ويمدُّ الفطيم يده إلى وكر الأفعى (فلا يصيبه سوء). 9 - لا يُؤذون ولا يُسيئون في كلِّ جبل قدسي، لأنَّ الأرض تمتلئ من معرفة الربِّ كما تغمر المياه البحر. 10 - في ذلك اليوم ينتصب أصل يسي راية للأُمم، وإليه تسعى جميع الشعوب، ويكون مسكنه مجيداً) انتهى.
4- المشيحا:
وهذا الاسم الصفة تعرَّض لشتّى أنواع التشويه، وهو على كلٍّ شخصية متنظَرة منقذة ستأتي آخر الزمان، ويُوحِّد العالم حكماً وديناً، ويُسعِد الناس.
(الماشيحا) باللغة العبرية هي المخلِّص المنقذ، وعندهم أيضاً المهدي كما في قاموس كوجمان العبري العربي.
طبعاً انتظار المشيحا من أهمِّ اعتقادات اليهود، وهم لا زالوا ينتظرونه، وصفاته نفس صفات المهدي المنتظر، موحِّد العالم، وناشر العدل. ولكنَّه عندهم صفة وليس اسماً، بينما عندنا هو اسم شخص ذو حسب ونسب ومحدَّد الشخصية.
واختصاراً أقول:
إنَّ نزوع البشر إلى المنقذ الناشر للعدل في كلِّ الأرض، والمزيل للظلم والجور، وموحِّد البشر تحت راية إدارية ودينية واحدة، ليس حلماً مجرَّداً نتيجة أحلام العاجزين عن تحقيق الأحلام، وإنَّما هو وعد إلهي تحقَّق على لسان الأنبياء، وتبنَّته كلُّ الديانات السماوية، ورُشِّح حتَّى من ديانات انحرفت وأصبحت وثنية خالصة، ولكنَّها تحتفظ بهذا الوعد المتكرِّر مع كلِّ نبوَّة. فوصيَّة يعقوب، ووصيَّة موسى، ووصيَّة عيسى، ووصيَّة النبيِّ محمّد صلوات الله عليهم، واحدة بهذا الموعود القائم بالعدل والحقِّ.
فهذه الظاهرة هي نزوع لانتظار هذا الموعود حسب الوعد الإلهي للبشر، ومن حسن طالعنا كشيعة أنَّ هذا الموعود العالمي هو إمامنا الحالي الذي نُدين له بالطاعة والولاية، وننتظره بلهفة، عسى أن ننال رضاه ونكون من خدّامه والذابّين بين يديه.
ونحن الوحيدون في الأديان من يُسمّي المنقذ، وينسبه لآبائه، ويُشخِّصه بصورة واضحة، بعكس كلّ الديانات التي وضعت له صفات أو جعلته متناسخاً عن القدماء بلا دليل.