المَهدويّة في الحَراكِ الفطري والإنساني والثقافي (التّمَثُلُ والأهداف)
المَهدويّة في الحَراكِ الفطري والإنساني والثقافي
(التّمَثُلُ والأهداف)
مرتضى علي الحلي
المبحث الأوّل: التمثّل المهدوي في الحَراك الفطري والإنساني:
إنَّ المهدويَّة بوصفها عقيدةً دينيةً مُسلَّمةً في الداخل الإسلامي قد تمَّ الإيمانُ بها طبقاً لعقديَّتها القائمة على الأدلَّة العقلية والنقلية الصحيحة عند المسلمين، وهي تُمثِّلُ تعبيراً فطرياً ودينياً وثقافياً عند أغلب الناس، وإن اختلفت صوره وتفسيراته انثروبولوجياً واجتماعياً.
بل تكادُ تكون القضيَّةُ المهدويةُ فكرةً ورمزيَّةً، من القضايا المشهورات والذائعات بين الناس، بل حتَّى عند جميع العقلاء، أو أكثرهم، والتي أخذت سِمَة التصديق بها من شهرتها الفطرية والإنسانية، نتيجة التطابق عليها، اعتقاداً وطلباً وسلوكاً، ولما تحملُ في جوهرها من قيم اجتمعت عليها آراء الناس، وبمختلف ألوانهم وألسنتهم ودياناتهم وبلدانهم، وعلى رأس هذه القيم الفطرية والأوَّلية هو حسن العدل وقبح الظلم، واللذان هما من أشهر مبادئ الفكر المهدوي هدفاً وغرضاً.
ومن الواضح أنَّ المهدوية فكرةً ورمزيةً هي قضيَّة مطلقة غير مقيَّدة بقوم دون قوم، أو بأُمَّةٍ دون أُخرى، لما أثبته التاريخ لنا، مِنْ أنَّ أغلبَ الناسِ تنزعُ إلى فكرة المُخلِّص أو المنقذ أو المهدي المنتظَر، بتمثّلٍ متنوعٍّ للتعبير النفسي والفطري عند نوع الإنسان نفسه.
وما يمكن أن نُسمّيه بالآراء المحمودة بحسب اصطلاح المناطقة، أي إنَّ هذا النزوع الفطري والنفسي عند أغلب الناس، إنَّما برز وظهر بفعل الحاجة الضرورية إليه، على مستوى الفرد والمجتمع، ولتوقّف النظام العامّ وبقاء النوع الإنساني عليه، ولأنَّ مبادئ فكرة المهدوية بكلِّ تمثُّلٍ ومصداقٍ قد تُلائم طبيعة الإنسان من جهة تحقيق حقوقه المشروعة، كالإحسان إليه والعدل معه، ودفع الظلم عنه، نجده يؤمن بتلك المبادئ الفطرية والأوَّلية ويدافع عنها اعتقاداً ويطلبها سلوكاً.
وقد تعرَّض الشيخ العلَّامة محمّد رضا المُظفَّر (رضوان الله عليه) في كتابه الشهير (المنطق) إلى تفصيل تلك المبادئ القيميَّة المتجانسة والمتناظرة عند جميع الناس، وقد فصَّل في بحث دوافع النزوع الطبيعي والفطري للإنسان إلى تلك المبادئ المحمودة والصالحة (حسن العدل، قبح الظلم، إحقاق الحقوق، الأمان)، حيث ذكر ذلك تحت مقسَم القضايا المشهورة وبحسب اختلاف أسباب شهرتها وذكر ما نصّه:
(التأديبات الصلاحية: وتُسمّى المحمودات والآراء المحمودة، وهي ما تطابق عليها الآراء من أجل قضاء المصلحة العامَّة للحكم بها، باعتبار أنَّ بها حفظ النظام وبقاء النوع، كقضيَّة حسن العدل وقبح الظلم، ومعنى حسن العدل: أنَّ فاعله ممدوحٌ لدى العقلاء، ومعنى قبح الظلم: أنَّ فاعله مذمومٌ لديهم، وهذا يحتاج إلى التوضيح والبيان، فنقول: إنَّ الإنسان إذا أحسن إليه أحدٌ بفعلٍ يلائم مصلحته الشخصية، فإنَّه يثير في نفسه الرضا عنه، فيدعوه ذلك إلى جزائه، وأقلُّ مراتبه المدح على فعله، وإذا أساء إليه أحدٌ بفعلٍ لا يلائم مصلحته الشخصية، فإنَّه يثير في نفسه السخط عليه، فيدعوه ذلك إلى التشفّي منه والانتقام، وأقلُّ مراتبه ذمّه على فعله، وكذلك الإنسان يصنع إذا أحسن أحدٌ بفعلٍ يلائم المصلحة العامَّة من حفظ النظام الاجتماعي وبقاء النوع الإنساني، فإنَّه يدعوه ذلك إلى جزائه، وعلى الأقلِّ يمدحه ويثني عليه وإن لم يكن ذلك الفعل يعود بالنفع لشخص المادح، وإنَّما ذلك الجزاء لغاية حصول تلك المصلحة العامَّة التي تناله بوجه، وإذا أساء أحدٌ بفعلٍ لا يلائم المصلحة العامَّة ويخلُّ بالنظام وبقاء النوع، فإنَّ ذلك يدعو إلى جزائه بذمِّه على الأقلِّ وإن لم يكن يعود ذلك الفعل بالضرر على شخص الذامّ، وإنَّما ذلك لغرض دفع المفسدة العامَّة التي يناله ضررها بوجه، وكلُّ عاقل يحصل له هذا الداعي للمدح والذمّ لغرض تحصيل تلك الغاية العامَّة، وهذه القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء من المدح والذمّ لأجل تحصيل المصلحة العامَّة تُسمّى الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحية، وهي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء، وسبب تطابق آرائهم شعورهم جميعاً بما في ذلك من مصلحة عامَّة)(1).
ومعنى ذلك أنَّ تطابق النزوع الفطري عند جميع الناس على المبادئ المتجانسة قيميَّاً فيما بينهم، وعلى أغراضها وغاياتها، يُفسِّر حتميَّة وصول الحَراك الفطري إلى مستقر مكين وعدل حقيق بأن يتحقَّق ولو لأجل بعيد.
ذلك لأنَّ الناس إنَّما يتحرَّكون فطرياً باتِّجاه مقاصدهم الضرورية لما يتصوَّرونه من مصلحة وحكمة، تترتَّب قطعاً على ذلك في آخر الفعل الاختياري والطلب والاعتقاد، وتدخل في صميم صلاحهم، وتأمين حاجاتهم الفردية والاجتماعية.
وأفضل مَنْ توسَّع في بيان هرميَّة حاجات الإنسان فطرياً وضرورة إشباعها وتحقيقها، هو عالم النفس الأمريكي الشهير، آبراهام ماسلو (1908 - 1970م)، حيث اقترب كثيراً من مبادئ المهدوية فطرةً وفكرةً ورمزيةً وأغراضاً ومقاصداً، وفي كافَّة أنساق النزوع الإنساني فرداً ونوعاً إلى تحقيق الحاجات الفطرية، وذكر أنَّ من أهمِّها(2):
1 - (الحاجات الفسيولوجية (Physiological needs)، مثل الجوع، والعطش، وتجنّب الألم، والجنس، وغيرها من الحاجات التي تخدم البقاء البيولوجي بشكل مباشر).
وتُمثِّل هذه الحاجات صورةً واقعيَّةً من صور ضرورة حفظ النوع الإنساني وبقاءه، وهي متطابقٌ عليها عند جميع الناس، والذي هو (حفظ النوع الإنساني) من أهمِّ مقاصد وأغراض المهدوية عقيدةً وفكرةً وسلوكاً، بل إنَّ حفظ النوع الإنساني وبقاءه هو من أُمَّهات أغراض الإمام المهدي عليه السلام، وذلك ما يتجلّى في بعد حتميَّة تطبيق العدل في نظام الاقتصاد وتوزيع الثروات بقدر عادل، وإيصال الحقوق إلى مستحقّيها، لذلك نرى سنخ حراك فطري عند أغلب الناس عقيدةً وسلوكاً وانتظاراً للمُصلِح أو المُخلِّص أو المهدي، لما وقع عليهم من ظلم وفساد في إشباع هذه الحاجات الضرورية، والتي تُهدِّد أمن الإنسان غذائياً وسلام النوع الإنساني وبقاءه حياتياً.
والقرآن الكريم قد رصد هذا النوع من الحاجات في جانب الاختلال والابتلاء حيث قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155).
(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف: 130).
وقد عرضت الروايات إلى هذا المعنى في الاختلال والابتلاء والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، وذكرته بوصفه ظاهرةً غير مستقيمة، جديرة بالإصلاح تُهدِّد النوع الإنساني، ستتحقَّق في قابل الأيّام، وهي قد تحقَّقت بوجه ما يقارب دلالة الروايات وأخبار آخر الزمان، (عن أبي نضرة، قال: كنّا عند جابر بن عبد الله، قال: يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم قفيز (نوع مكيال) ولا درهم، قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَل العجم، يمنعون ذلك، ثمّ قال: يوشك أهل الشام أن لا يُجبى إليهم دينار ولا مُدّ، قلنا: من أين ذاك، قال من قِبَل الروم، يمنعون ذاك، قال: ثمّ أمسك هُنيهةً ثمّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يكون في آخر أُمَّتي خليفة يحثو المال حثواً لا يعدّه عدَّاً»)(3).
2 - (حاجات الأمان (Safety needs) وتشمل مجموعة من الحاجات المتَّصلة بالحفاظ على الحالة الراهنة، وضمان نوع من النظام والأمان المادّي والمعنوي مثل الحاجة إلى الإحساس بالأمن، والثبات، والنظام، والحماية، والاعتماد على مصدر مشبع للحاجات، وضغط مثل هذه الحاجات يمكن أن يتبدّى في شكلِ مخاوف مثل الخوف من المجهول، من الغموض، من الفوضى واختلاط الأُمور، أو الخوف من فقدان التحكّم في الظروف المحيطة.
و(ماسلو) يرى أنَّ هناك ميلاً عامَّاً إلى المبالغة في تقدير هذه الحاجات، وأنَّ النسبة الغالبة من الناس يبدو أنَّهم غير قادرين على تجاوز هذا المستوى من الحاجات والدوافع).
إنَّ هذه الحاجات في نسق وضرورة الأمان للإنسان فرداً ونوعاً، لهي من أُصول الحَراك المهدوي عقيدةً وفكرةً وفطرةً وسلوكاً، بل حتَّى أنَّ القرآن الكريم قد ذكرها نصَّاً في العلامات الحتميَّة للمُنتظِرين من المؤمنين كافَّة وباختلاف ألوانهم وألسنتهم، قال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (النور: 55).
فحاجة الأمان التي أدركها المفكّر (آبراهام ماسلو) إنَّما هي حاجة فطرية تطابق عليها جميع العقلاء، بحيث يحصل عندهم ميل فطري عامّ باتِّجاه تحقيقها قدر الإمكان، لدرجة أن لا يمكن لهم الاستغناء عنها فعلاً، لما تُمثِّله من نوع استقرارٍ مادّي ومعنوي وفكري لهم في حياتهم الفردية والاجتماعية، وبالفعل إنَّ الأمان ودوافع البحث عنه هو أمر فطري ونفسي يطلبه الإنسان دفعاً للخوف من انعدامه، ومن اختلال النظام بفقده، وما يترتَّب على ذلك من مفاسد خطيرة تُهدِّد وجود الإنسان وحياته.
وعلى أساس ذلك يكون دافع الحَراك الفطري والإنساني لطلب الأمان مطلقاً، وبسبب وجود الخوف الفعلي من المجهول في أبواب التعايش، في الحاضر والمستقبل، باعثاً على الاعتقاد بضرورة وجود الإمام المهدي أو المُخلِّص أو المُصلِح أو حتَّى المسيح، لتأمين هذا البعد الفطري والنفسي عند الجميع، فقد ورد هذا المعنى القيِّم في الروايات المعتبرة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «لو بقيت الأرضُ يوماً بلا إمام منّا لساخت بأهلها، ولعذَّبهم الله بأشدّ عذابه، إنَّ الله تبارك وتعالى جعلنا حجَّةً في أرضه وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لم يزالوا في أمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن يهلكهم ثمّ لا يمهلهم ولا ينظرهم ذهب بنا من بينهم ورفعنا إليه، ثمّ يفعل الله ما شاء وأحبّ»(4).
ففكرةُ طلب المهدوية أو الإصلاح فطرياً، طبقاً لبعد الحاجة للأمان، تُمثِّل تكفّلاً أكيداً في مُنتَظم التعايش الإنساني، على مستوى عالمي التكوين والتشريع في هذه الحياة الدنيا.
3 - (حاجات الحبّ والانتماء (Love & Belo nging needs) وتشملُ مجموعة من الحاجات ذات التوجّه الاجتماعي مثل الحاجة إلى علاقة حميمة مع شخص آخر، الحاجة إلى أن يكون الإنسان عضواً في جماعة مُنظَّمة، الحاجة إلى بيئة أو إطار اجتماعي يحسُّ فيه الإنسان بالأُلفة مثل العائلة أو الحيّ أو الأشكال المختلفة من الأنظمة والنشاطات الاجتماعية).
من المعلوم في علم الاجتماع الإنساني أنَّ الإنسان هو كائن مدني بالطبع، ينشدُّ فطرياً إلى نظيره الآخر من نوعه أو من صنفه أو من شعبه، بحكم عامل الحاجة وضرورة الاجتماع، والتواصل، والتعارف، وبحكم عامل دفع الخوف، الذي قد يحصل بفعل العزلة والفرادة في العيش، ودفع الخوف هو أمر فطري وواجب عقلي، يُدرِكه كلُّ فردٍ في هذه الحياة.
فضلاً عن كون الجبلَّة والطبيعة البشرية، هي بنفسها تقتضي الانتماء إلى الآخر فرداً أو جماعةً في إطارٍ من التعاقد الفطري والاجتماعي والأخلاقي وحتَّى الفكري وبنسق مُنظَّمٍ، وهادف، تتلاشى فيه سمات الفردية والوحدة الشخصية، وتظهرُ فيه سمات الأُلفة، وفهم الآخر، والتكيّف معه وظيفةً وقصداً.
وإلى هذا المعنى الاجتماعي تكوّناً وصيرورةً وغرضاً، قد أشار القرآن الكريم، في قوله تعالى: (يا أَيهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
فدوافع حاجة الحُبِّ والانتماء وتمثُّلها في مُنتَظم التعاقد الفطري والاجتماعي والفكري السليم، هي واحدةٌ من صور الحَراك الإنساني الذي سيصل لا محالة إلى آفاق التعارف الأكبر نوعاً وقيمةً ومَقيساً بين الناس، وليلتقي عند مقسَم القيم الكبيرة وهو العدل، الذي يُنظِّم في طريقه كلَّ فضيلة، وكلَّ حقٍّ، وكلَّ صلاحٍ، ذلك لأنَّ العدل هو السائس العامّ في حَراك المهدوية فطرةً وعقيدةً، والذي به يُحفَظ قوام وتدبير الحياة الدنيا، من حيث وضع الأُمور في مواضعها الحقَّة، ولن يشذَّ هذا الحَراك عن أغراض الفطرة الإنسانية الأصيلة التي قامت على أساس الوحدة النوعية، وعدم الاختلاف ونبذ التنازع، قال تعالى: (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: 213)، (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (يونس: 19 و20).
4 - حاجات التقدير (Esteem needs) هذا النوع من الحاجات كما يراه (ماسلو) له جانبان:
أ) جانب مُتعلّقٌ باحترام النفس، أو الإحساس الداخلي بالقيمة الذاتية.
ب) والآخر مُتعلّقٌ بالحاجة إلى اكتساب الاحترام والتقدير من الخارج.
إنَّ نزوعَ الإنسانِ وجهةَ حاجات التقدير الذاتي والاجتماعي هو أيضاً ينبعُ من أصالة التكريم الإلهي له بالفطرة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم: 30 - 32)، وحفظ هذه القيمة الطبيعية والخَلقيَّة في وجوده، يُمثِّلُ غرضاً كبيراً، عند الإنسان وعند الله تعالى وعند المعصوم وعند شريعة الإسلام، بل عند العقلاء كافَّة، لذا حرَّم الله تعالى قتلَ النفس المحترمة وحرَّم ظلمها وهتكها، وهذه الحاجات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأصلها الأصيل وهو الحاجة إلى الأمن والأمان عند فرد ونوع الإنسان.
من هنا يكون دفع التقدير للإنسان والتجاوز عليه واحداً من مُحفِّزات الميل الفطري عند الناس، شطرَ ظهور المُصلِح والمهدي والمسيح، لكي يأمنوا على أنفسهم وكرامتهم.
5 - (حاجات تحقيق الذات (Self-actualization) والحاجات العليا (Meta needs) تحت عنوان تحقيق الذات يصف (ماسلو) مجموعة من الحاجات أو الدوافع العليا التي لا يصل إليها الإنسان إلَّا بعد تحقيق إشباع كافٍ لما يسبقها من الحاجات الأدنى. وتحقيق الذات هنا يشير إلى حاجة الإنسان إلى استخدام كلّ قدراته ومواهبه وتحقيق كلّ إمكاناته الكامنة وتنميتها إلى أقصى مدى يمكن أن تصل إليه. وهذا التحقيق للذات لا يجب أن يُفهَم في حدود الحاجة إلى تحقيق أقصى قدرة أو مهارة أو نجاح بالمعنى الشخصي المحدود، وإنَّما هو يشمل تحقيق حاجة الذات إلى السعي نحو قيم وغايات عليا مثل الكشف عن الحقيقة، وخلق الجمال، وتحقيق النظام، وتأكيد العدل، الخ. مثل هذه القيم والغايات تُمثِّل في رأي (ماسلو) حاجات أو دوافع أصيلة وكامنة في الإنسان بشكل طبيعي مثلها في ذلك مثل الحاجات الأدنى إلى الطعام، والأمان، والحبّ، والتقدير. هي جزء لا يتجزَّأ من الإمكانات الكامنة في الشخصية الإنسانية والتي تلحُّ من أجل أن تتحقَّق لكي يصل الإنسان إلى مرتبة تحقيق ذاته والوفاء بكلِّ دوافعها أو حاجاتها.
بعد تحقيق الذات يتبقّى نوعان من الحاجات أو الدوافع هما الحاجات المعرفية والحاجات الجمالية:
1 - الحاجات الجمالية (Aesthetic needs):
وهذه تشمل فيما تشمل عدم احتمال الاضطراب والفوضى والقبح والميل إلى النظام، والتناسق، والحاجة إلى إزالة التوتّر الناشئ عن عدم الاكتمال في عمل ما، أو نسق ما.
2 - الحاجات المعرفية (Cog nitive needs):
وتشمل الحاجة إلى الاستكشاف والمعرفة والفهم، وقد أكَّد (ماسلو) على أهمّيتها في الإنسان، بل أيضاً في الحيوان، وهي في تصوّره تأخذ أشكالاً متدرِّجة، تبدأ في المستويات الأدنى بالحاجة إلى معرفة العالم واستكشافه بما يتَّسق مع إشباع الحاجات الأُخرى ثمّ تتدرَّج حتَّى تصل إلى نوع من الحاجة إلى وضع الأحداث في نسق نظري مفهوم، أو خلق نظام معرفي يُفسِّر العالم والوجود. وهي في المستويات الأعلى تصبح قيمة يسعى الإنسان إليها لذاتها بصرف النظر عن علاقتها بإشباع الحاجات الأدنى).
إنَّ حاجات تحقيق الذات الإنسانية مفهوماً ومصداقاً في هرميَّة (ماسلو) هي جديرة بالبحث والتأمّل والتحليل، ولو بقدرٍ يسير، ذلك لما أظهرته من قيم متجانسة مفهوماً وطلباً عند نوع الإنسان وأفراده، وعلى رأسها تحقيق النظام وتأكيد العدل، وإشباع الحاجات الجمالية والمعرفية، والتي ترتكز على أبعاد متعدِّدة تتناول محوري التخلّي عن الرذائل الأخلاقية والنواقص والقبائح، ومحور التناسق والتنظيم لقيم الفضيلة والاستقرار.
وأمَّا إشباع الحاجات المعرفية عند (ماسلو) هي وجه من وجوه الفلسفة، تُقدِّم تفسيراً معقولاً ومقبولاً لعلاقة الإنسان بالوجود والكون والمصير، وتحلُّ كلَّ إشكاليات الإنسان الفكرية والعقدية والأخلاقية والاجتماعية وحتَّى السياسية، التي عانى منها الإنسان نفسه طيلة تاريخ وجوده على الأرض، وليدخلُ ذلك كلّه في حَراك فطرة الإنسان المختلف في لونه ولسانه ودينه، الذي يكدح إلى التكامل بحكم طبعه وإدراك عقله، وقد ورد عندنا في الروايات المهدوية ما يُقارب مفهوم إشباع الحاجات المعرفية في آخر الزمان عن أبي جعفر - الإمام محمّد الباقر عليه السلام -، قال: «إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم»(5).
المَبحثُ الثاني: التمثُّلُ المهدوي في الحَراك الثقافي:
قَدَّمَ (العالمُ الأنثروبولوجي الإنكليزي إدوارد تايلور(1832 - 191م) تعريفاً للثقافة، ما يزال سائداً حتَّى يومنا هذا، على الرغم من ظهوره عام (1878م)، ويذهبُ إلى تعريف الثقافة بأنَّها: ذلك الكلُّ المركَّب الذي يضمُّ المعرفة والعادات والمعتقدات والأخلاق والفنّ والقانون، وأيَّةِ قدراتٍ أُخرى يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع)(6).
إنَّ المهدوية بوصفها ثقافةً ومعرفةً ومعتقداً وفكرةً ورمزيةً قد أخذت معقوليَّتها من وحدة العقل العملي عند نوع الإنسان، كفكرٍ يستبطن تصوّراً قويماً يرفدُ الوعيَ والسلوكَ الإنساني ونظامَ الاجتماع البشري بحزمة عمليَّة من الحلول النهائية القويمة لمُجمَل ما تواجهه البشرية من مشكلات دينية واجتماعية واقتصادية وحقوقية وسياسية وأخلاقية، وذلك التوحّد الإنساني في سمة العقل العملي وما يُدرِكه ممَّا ينبغي عمله وما لا ينبغي عمله، خاصَّة في تحسين العدل وتقبيح الظلم، هو الذي يمنحُ النزوعَ العقلاني والثقافي عند أغلب الناس قوامته و مشروعيَّته، بل وحتَّى حتميَّة تحقّقه في النهاية والغاية بحكم فاعليَّة السنن الكونية إلهيَّاً.
وذلك لأنَّ مفهوم الثقافة في تكوينها النظري والعامّ، قد أخذ نسقاً إنسانياً وحَراكاً فكريَّاً وسلوكياً، يتوفَّرُ في كنهه على قدرٍ مُعتدٍّ به من كلِّ بابٍ، من المعرفة والعلم والفهم والاعتقاد والأخلاق وقيم التاريخ والدين والمجتمع والآداب والوجدان الإنساني والفطرة السليمة.
وقد بدا هذا الفكرُ في لونه الثقافي منذ القِدَم عند أغلب الأُمم بمختلف أديانها ومذاهبها السماوية (اليهودية، النصرانية) والأرضية، وبمسمّيات متقاربة نسبياً في الغرض كالمنقذ العالمي، إلى يومنا هذا، و(إنَّ عقيدة اليهود في هذا المجال تشتملُ على تحديد زمني لبدءِ مقدّمات ظهور المُنقِذ العالمي؛ الذي يبدأ من عام (1٩١٤) للميلاد، وهو عام تفجّر الحرب العالمية الأُولى كما هو معروف، ثمّ عودة الشتات اليهودي إلى فلسطين، وإقامة دولتهم التي يعتبرونها من المراحل التمهيدية المهمَّة لظهور المنقذ الموعود، ويعتقدون بأنَّ العودةَ إلى فلسطين هي بداية المعركة الفاصلة التي تنهي وجود الشرّ في العالم ويبدأ حينئذٍ حكم الملكوت في الأرض لتصبح الأرضُ فردوساً) (7)، والمُخلِّص(8)، واليوم الموعود(9) الذي تبنَّته المدرسة الماركسيَّة والتي آمنت بجدل التناقضات في حركة التاريخ، (وهكذا يبقى العراكُ قائماً حتَّى تكون الإنسانيةُ كلّها طبقة واحدة، وتتمثَّلُ مصالح كلِّ فردٍ في مصالح تلك الطبقة الموحَّدة...، في تلك اللحظة يسود الوئام، ويتحقَّق السلام، وتزول نهائياً جميع الآثار السيِّئة للنظام الديمقراطي الرأسمالي)(10)، والمعارك الرابحة والسوبرمان والمَسيح والمَهدي.
وحتَّى أنَّ المدارس الفلسفية والفكرية غير الدينية قد أدركت عقلانيَّاً وثقافياً هذا اللون من الفكر الإنساني العامّ، (فالمادّية الجدلية التي فسَّرت التأريخ على أساس التناقضات، تؤمن بأنَّ هناك يوماً موعوداً تتلاشى فيه التناقضات ويسوده الوئام والسلام)(11).
ومثَّل هذا اللون العقلاني والثقافي في بُنية الإنسان النفسية والاجتماعية نزوعاً ذاتياً مُلحَّاً استقرَّ في كلِّ ضميرٍ حي، وخالج وجدان كلِّ إنسانٍ، خاصَّةً عندما تتعاظم المشاكل البشرية ويعمُّ الظلم والقهر.
إنَّ الدين قد دعم هذا النزوع العقلاني والثقافي العامّ ليؤكِّد أنَّ الأرض في عاقبة الأمر ستمتلأ قسطاً وعدلاً مثلما مُلِئَت ظلماً وجوراً، ففي الحديث الشريف المتواتر «لولم يبقَ من الدهر إلَّا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً»(12).
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ لهذا النزوع العقلاني والثقافي قيمته الموضوعية في التمثّل الواقعي اجتماعياً بحيث يتجلّى بذلك المُنتَجُ والمُعطى على مستوى الإيمان بضرورة التحقّق والتطبيق للشعور الفطري والإنساني المشروع فعلاً، ليأخذ هذا الإيمان العامّ عند بني الإنسان الجميعَ إلى مستقبل أفضل وأصلح عقلانياً ودينياً.
وإذا ما تمَّ تدعيم ذلك الشعور الإنساني العامّ بنصوص قطعية قرآنية في دلالاتها القابلة الوقوع مستقبلاً، فإنَّ ذلك سيرفد الحَراك الفطري والإنساني والثقافي بالعطاء وبالقوَّة القريبة من الفعل والتحقّق قطعاً.
وذلك كما في قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5).
إنَّ الحَراك الثقافي العامّ في لون المهدوية والخلاص والمُنقِذ هو حفظٌ للكمون الأوَّلي في جبلَّة الإنسان وطبيعته، يتجلّى ويتمظهر بين فترة وأُخرى تبعاً لمنطق السنن الإلهية والتاريخية وآثارها الوضعية.
قال الله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد: 25).
ولن يبقى هذا الكمون الأوَّلي فطرياً وثقافياً على وتيرة واحدة، بل سيظهر ويبرز بقوَّة في يوم ما ليتحوَّل إلى واقع موضوعي وخارجي، يتمثَّل في صورة إظهار الدين الحقّ وقيام دولة العدل الإلهية المُرتقبة إنسانياً على يد الإمام المهدي عليه السلام، والقضاء على كلِّ أشكال الظلم والفساد والانحراف الديني والدنيوي، كما في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33).
ولا نُبالغ إن قلنا: إنَّ الفطرة الإنسانية في حَراكها الأوَّلي والثقافي هي تنحى منحىً منطقياً وعقلانياً، يقتربُ بمسافة كبيرة من الدين نفسه إن لم تكن هي الوجه الآخر للدين القَيِّم ، كما في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30).
ولنا على ذلك التقارب بين حَراك الثقافة والدين، الدليلُ من جملة ما قاله المفكِّر الايرلندي الشهير برناردشو (1856 - 1950م)، والذي بشَّر منطقياً وفطرياً بحتمية ظهور المُصلح في آخر الزمان، وبلزوم أن يكون عمره طويلاً يسبق ظهوره، وهذا هو عين النزوع الثقافي الكامن في بُنية كلِّ إنسانٍ، خاصَّةً مِنْ مثلِ (برناردشو)، ليقارب بذلك النزوع في عقيدة الشيعة الاثني عشرية، بضرورة وجود المُصلح والإمام المعصوم (الإمام المهدي عليه السلام) كتعبيرٍ نهائي عن نزوع الفطرة الأوَّلية إنسانياً، وكوعدٍ إلهيٍ صادقٍ لبني الإنسان في تحقّق الخلاص والعدل والأمان والإصلاح.
وهذا الشعور الثقافي يُوفِّر حجَّة فطرية ووجدانية، إنسانية ومنطقية وتاريخية للفكر المهدوي عقيدةً وثقافةً وشخصاً.
قال (برناردشو) في كتابه (الإنسان السوبرمان) وبحسب ما نقله عنه الدكتور عبّاس محمود العقّاد في كتابه (برناردشو) في وصف المُصلح بأنَّه (ثمّ يأتي السوبرمان، وهو إنسانٌ حيٌّ ذو بنية جسدية صحيحة وطاقة عقلية خارقة، إنسانٌ أعلى يترقّى إليه هذا الإنسان الأدنى بعد جهد طويل، وهو كما أسلفنا بُنية بيولوجية، وأنَّه يطول عمره حتَّى ينيف على ثلاثة مئة سنة، ويستطيع أن ينتفع بما استجمع من أطوار العصور وما استجمعه من أطوار حياته الطويلة)(13)، وقد علَّق عبّاس محمود العقّاد على ذلك بالقول: (ويلوحُ لنا أنَّ سوبرمان برناردشو ليس بالمستحيل، وأنَّ دعوته لا تخلو من حقيقة ثابتة، وهي أنَّ النوع الإنساني يعظم كلَّما وسَّع الإنسانُ آفاق وجوده، ويصغر ويضمحلُّ كلَّما انحصر في وجوده المحدود)(14).
ومن الواضح معرفياً أنَّ المهدوية في منحاها الثقافي العامّ كفكرةٍ إنسانية وبمعالمها الدينية والعقلانية الصحيحة، والتي تتجانس مفهوماً عند الأعمِّ الأغلب من الناس وإن اختلفوا في المصداق، تُقرِّبُ بين الحاضر والمستقبل نفسياً وموضوعياً، وتُسهم في توحيد الرؤى والثقافات المختلفة بحكم وحدة الشعور النفسي والثقافي العامّ، بضرورة الخلاص أو حتميَّة الوصول إلى منطقة العدل المُطلَق والصلاح التامّ والحياة الفضلى.
وقد ذكر هذا المعنى المستشرق اليهودي المجري جولد تسيهر (1850 - 1921م):
(إنَّ عقيدة المهدي وما تنطوي عليه من آمال وأمان، تظهرُ في بيئات التُّقى والورع عند المسلمين كزفرة من زفرات الأسف والانتظار، يصعدونها وهم في غمرات حالات سياسية واجتماعية لا تنقطع ثورة ضمائرهم حيالها)(15).
فجولد تسيهر يعترفُ وجداناً بعقيدة المهدي عليه السلام، كفكرة واقعية وحقيقية وإن حاول التشكيك فيها ووضعها في منطقة التفسير السياسي والاجتماعي، لكنَّها مُسلَّمةٌ عنده كظاهرة ثقافية وإنسانية ودينية واجتماعية وعند المستشرقين، (وهذه الحقيقة من الواضحات التي أقرَّ بها كلُّ من درس عقيدة المصلح العالمي حتَّى الذين أنكروا صحَّتها أو شكَّكوا فيها كبعض المستشرقين مثل جولد تسيهر المجري في كتابه (العقيدة والشريعة في الإسلام)، فاعترفوا بأنَّها عقيدةٌ عريقةٌ للغاية في التاريخ الديني، وُجِدَتْ حتَّى في القديم من كتب ديانات المصريين والصينيين والمغول والبوذيين والمجوس والهنود والأحباش، فضلاً عن الديانات الكبرى الثلاث: اليهودية والنصرانية والإسلاميَّة)(16).
وهذا ما نجده أيضاً في كلمة المفكِّر الإنكليزي الشهير برتراند راسل (1872 - 1970م) حيث ذكر (أنَّ العالم في انتظار مُصلِح يُوحِّده تحت لواءٍ واحدٍ وشعارٍ واحدٍ)(17).
ذلك لما للمهدوية من رمزية ثقافية جامعة للفطرة والدين معاً، عند من يؤمنُ بها بحيث تضعه على الصراط الحقِّ ثقافةً وفكراً وسلوكاً.
وقد أشار إلى هذا المعنى أيضاً المفكِّر الانثروبولوجي الأمريكي كليفورد جيرتس (1926 - 2006م) في مقالته (الدين بوصفه نسقاً ثقافياً) حيث قال: (إنَّ مفهوم الثقافة الذي ألتزمُ به لا يُعاني ممَّا يُشار إليه من عدد في المعنى، وليس له غموض غير عادي، فهو يشيرُ إلى نمطٍ من المعاني المنقولة تاريخياً والمُتجسدة في رموز، وهو نسقٌ من مفاهيم موروثة للتعبير عنها بصيغ رمزية، عن طريقها يتمُّ للناس تواصل واستمرار وتطوير معرفهم عن الحياة واتِّجاهاتهم ومواقفهم منها)(18).
وذكر أيضاً (وتُقدِّمُ الرموزُ الدينية للقادرين على حملها طالما كانوا قادرين على ذلك ضماناً كونياً، ليس فقط على قدرتهم لفهم العالم، وإنَّما كذلك لفهمه والقدرة على إعطاء فهمٍ دقيقٍ لمشاعرهم وتعريف لعواطفهم يمكنهم تحمّله ببساطة أو سعادة أو حزن أو فروسية)(19).
وطبقاً لما تقدَّم إذا ما أردنا أن نضبط حَراك المهدوية فطرياً وإنسانياً وثقافياً فما علينا إلَّا أن نفهم أمرين مهمَّين هما:
1 - معرفة مُنتَظم القيم المُكوِّنة فطرياً للتجانس الثقافي إنسانياً، من الإيمان بالمُخلِّص أو المُصلِح أو المستقبل الأفضل ووحدة الشعور النفسي العامّ عند بني الإنسان في طلبه للعدل والحقِّ والأمان وإشباع الحاجات وغيرها.
2 - الممارسة والتطبيق والسلوك وصناعة الخطاب الثقافي المقبول عقلانيَّاً وشرعياً لإنتاج الفعل التغييري نفسياً واجتماعياً.
وهذان الأمران يُسهمان في تحقيق الأهداف الدينية والثقافية التي تعمل كُلُّ ألوان ومذاهب الثقافة الإنسانية الصالحة على تحقيقها، من بناء الشخصية نفسياً، وجعلها سويَّةً في رغباتها البشرية إلى إشباع حاجاتها المشروعة من السُّبُل الصحيحة، ذلك لأنَّ التحضّر والتغيير والتمدّن والتدبير الصالح لكلِّ شؤون الإنسان والحياة والمجتمع، كلّها أهداف واحدة عند الجميع، ومطلوبة التحقّق، ورهان ذلك كلّه مرتبط بقناعة وفعاليَّة التغيير، قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (الرعد: 11)، (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 53).
المبحث الثالث: أهداف الحَراك الفطري والإنساني والثقافي في لونه المهدوي:
إنَّ للإنسان في هذه الحياة أهدافاً أساسيَّة يتوقُ لها بقدرٍ كبيرٍ من الحَراك والطلب والإرادة، وقد تُمثِّلُ له هذه الأهداف حقوقاً وواجبات وأفكاراً وآمالاً ومبادئ أخلاقيَّة واعتقادات حقَّة.
ويمكن تبويب أهمّ هذه الأهداف الإنسانية والثقافية الجامعة لأقسام متعدِّدة، وهي كالآتي:
1 - التغيير الأصلح والمُطلَق.
2 - تحقيق النظام التدبيري الأحسن وبناء الدولة العادلة.
3 - تثبيت العدل عمليَّاً والقضاء على الظلم والفساد فعليَّاً، و إحقاق الحقِّ ودحض الباطل.
4 - إظهارُ الدِّين القيِّم (الإسلام) على الدِّين كلّه، هدايةً وغلبةً.
1 - التغيير الأصلح والمُطلَق:
إنَّ التغيير الإنساني والثقافي في كافَّة أنماطه الفكرية والسلوكية والمجتمعية وغيرها، يرتبطُ ارتباطاً أوَّلياً وبُنيوياً بإرادة الإنسان نفسه، وما لم يتحرَّك الإنسان وبإرادة جادَّة، ورغبة لتبديل أحواله الحياتية إلى الذي هو خير وأصلح وأنفع وأحسن له، فلا يمكن له إحداث أيِّ تغييرٍ نوعي في أنماط الثقافة الإنسانية المتعدِّدة، كما بيَّن ذلك وفصَّله المفكِّر الإسلامي الكبير السيِّد محمّد باقر الصدر (رضوان الله تعالى عليه)، حيث ذكر: (إنَّ الإنسان أو المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساسُ لحركة التاريخ، وإنَّنا ذكرنا أنَّ حركة التأريخ تتميَّز عن كلِّ الحركات الأُخرى، بأنَّها حركة غائية لا سببيَّة فقط، ليست مشدودة إلى سببها، إلى ماضيها، بل هي حركة مشدودة إلى الغاية لأنَّها هادفة، لها علَّة غائية مُتطلِّعة إلى المستقبل، فالمستقبل هو المُحرِّك لأيِّ نشاط من النشاطات التاريخية)(20).
فالتغيير الثقافي هو مفهوم نسبي وإرادي قد تعلَّق واقعاً بإرادة الإنسان جزماً، حتَّى أنَّ القرآن الكريم قد نسب هذا الحَراك في طلب التغيير الثقافي إلى الإنسان أوَّلاً وبالذات، قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 53).
وهنا يطرحُ القرآنُ الكريم مفهوماً جديداً في حَراك التغيير الثقافي في الآفاق النفسية والمجتمعية، وهو التغيير النفسي، والذي يعني أن يتناول التغيير الثقافي أحوال النفس وشؤونها وسلوكها، بل وحتَّى قصودها (النيّات المضمرة) ليأخذها ويُبدِّلها إلى أحوال أحسن وهي خيرٌ لها، والقرآن الكريم نفسه قد رصد حَراك الإنسان والمجتمع في تنميطه الثقافي، والذي ارتبط بالبُنية النفسية المتذبذبة، والتي لا تقبل التغيير للذي هو أفضل وأصلح، قال تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة: 61)، ومحلّ الشاهد من هذه الآية الشريفة هو قوله تعالى: (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)، وهذا النصُّ القرآني الشريف يعطينا خياراً عقلانياً وحتَّى شرعياً، بضرورة التزام جانب الأصالة والخيرية في الأشياء في قبالة دنوّ الأشياء المُعاصرة وهبوط قيمتها، ذلك كون القرآن الكريم حينما يعرض المصداق فقطعاً سينكشف ما يريدُ تأسيسه مفهوماً وكلّياً، وهذا الاستظهار من هذا الباب.
وإذا أدركنا أنَّ التغيير الثقافي قد ارتبط في حَراكه المجتمعي بمفهوم التغيير النفسي الذي يجب أن يوجد عند الإنسان من أجل إحداث التغيير النوعي في نظام الاجتماع الإنساني، فيجب البحث عن منهج قويم يتمكَّن من إحداث التغيير النفسي في بُنية الإنسان، وبالتالي يتمكَّن من التأثير والتغيير الثقافي نوعياً، وممكن تبويب منهج التغيير النفسي بنقاط رئيسة وفق رؤية قرآنية قويمة.
أ - إنَّ القرآن الكريم قد نقد حَراك الإنسان في أنماطه الخارجية سواء على مستوى العبادات أو المعاملات أو العلاقات أو غيرها. ولم يقرّ له بأنَّ حَراكه الخارجي والظاهري هو المعيار الأوَّل أو المُحرِّك الأساس في التغيير الثقافي نوعياً، بل نبَّهه على أنَّ المُحرِّك الأساس في التغيير الثقافي هو المُحرِّك الذاتي والنفسي حتَّى أعطاه سمة البرّ والخيرية المُطلَقة، قال الله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177).
فالخير المتوقَّع من التغيير الثقافي هو مرهونٌ بالتغيير النفسي فكرياً وعقدياً وقصدياً، لذا نلحظُ أنَّ القرآن الكريم قد قدَّم الأُصول العقديَّة، كالإيمان بالله تعالى والإيمان بالمعاد والقرآن والأنبياء، على الفروع الدينية، ثمّ فرَّع عنها حَراك الإنسان اجتماعياً، كبذل المال ودعم المحرومين والمستحقّين. وهذا التقديم القرآني يجعلنا نُدرِك تماماً أنَّ حركيَّة المُتغيِّر النفسي تنتج قطعاً تغييراً ثقافياً محسوساً، طبقاً لما أرشدت إليه هذه الآية القرآنية الشريفة.
وفي آيات أُخرى أيضاً قد ورد مثل هذا المعنى والمفهوم المُرتبط بجذرية التغيير النفسي وأهمّيته في إحداث التغيير النوعي، قال تعالى: (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (الحجّ: 37)، وقوله تعالى في سورة الشمس: (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (الشمس: 7 - 10).
إذاً يتبيَّن أنَّ محور التغيير النفسي هو الفاعل والمؤثِّر في إحداث التغيير الثقافي نوعياً للتي هي أحسن وأقوم بتمثّلها المهدوي الحقّ، قال تعالى: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (الإسراء: 9).
ب - إنَّ القرآن الكريم يُبيِّن ثَمَّة ترابطٍ فعلي (علّية) بين التغيير النفسي القائم على أساس البصيرة الذاتية السليمة، وبين التغيير الثقافي الخارجي نوعياً، كما هو الحال في الدعوة إلى الله تعالى في الإيمان به وتوحيده وقبول دينه الحقّ الإسلام، قال تعالى: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108).
وهنا تنبلج الرؤية القرآنية الرائعة والمؤسّسة لضبط حَراك التغيير النفسي وجعله يتحرَّك على صراط الاستبصار الذاتي الواعي والمُنتج والذي يتوطَّن في صقع النفس ووجودها، ليكون هذا الاستبصار محلَّ ثقةٍ ووثوقٍ في حَراكه الذاتي الداعي إلى التغيير الثقافي نوعياً. والمُلفِت للنظر في هذه الآية الشريفة، هو توفّرها على ضمانات قطعية للمتلقّي، تتعهَّد له بأنَّ منهجها القويم في التغيير الثقافي هو كفيلٌ بتحقيق ما يريده جزماً، لننظر التشريك في الحَراك التغييري مطلقاً في قوله تعالى: (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)، وما لم توجد البصيرة وهي الحجَّة الواضحة واليقين الثابت في نفس الإنسان على مستوى العقيدة والفكر وانبعاث السلوك، والذي يجب أن يقبل التغيير على أساس مصلحته وصلاحه وخيره واستبصاره، فلا يمكن النهوض بواقع ما هو خارج عن ذاته، و هذه البصيرة ليس هي مجرَّد اعتقادٍ وادِّعاءٍ، لا بل هي فعلٌ من أفعال النفس، يأخذُ بُعد الوعي والتعقّل والفهم، واستظهار حال الأشياء والوقوف على ظاهرها وخافيها، والتفطّن للمقدّمات والمآل.
ومعلوم أنَّ موضوع البصيرة ومادَّتها في منظومة الثقافة الإسلاميَّة هو القرآن الكريم، لذا جاءت الدعوة الثقافية القرآنية إلى الإنسان لتدعوه بأن يستبصر في وبالقرآن الكريم، ليهتدي في حَراكه الثقافي إلى الصراط المستقيم، قال تعالى: (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية: 20).
ومن ثَمَّ بيَّن القرآن الكريم للإنسان خياراته في القبول أو الرفض لثقافة الاستبصار وآثار ذلك عليه، قال تعالى: (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (الأنعام: 104).
ج - يجب أن يحوطَ الإنسانُ المؤمنُ نفسه بسور منيع يقيني وثابت يحفظه من التعرّض للصدمات الكوسمولوجية(21) (الكونية) والايديولوجية (الفكرية) والسيكولوجية (النفسية)، ذلك لأنَّ نظام العولمة المُعاصر يعملُ جاهداً على هدم البُنى الفكرية الأصيلة للدين والثقافة، من خلال خلق جوٍّ حضاري وتقني واجتماعي واسع، يقومُ على فلسفة حياتية تختلف تماماً عمّا قام عليه الإسلام العزيز، ليعطي هذا النظام في المُحصِّلة نمطاً حياتياً جديداً غير معهوداً من ذي قبل، قد يَظهرُ فيه الإنسان كائناً مادّياً وربَّما رقميًا محضاً، وليعزله في مصيره ومستقبله عن أصالته وبداياته الصحيحة دينياً وفطرياً وثقافياً، ممَّا يُسهِم في خلق حالة ضعف في نفس الإنسان المعاصر، ربَّما يستسلم معها للحضارة والحداثة والعولمة، ويترك دين الله إن لم يكن ينساه تماماً، كما يُلحَظ في عصرنا هذا. وممكن استظهار هذا التحوّط المُلزم للإنسان المؤمن، في تعاطيه مع ما يتوقَّعه من الصدمات الكوسمولوجية الحضارية والثقافية من قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6).
وإنَّما يُلزم الإنسانَ بضرورة أن يتَّقِ النارَ مستقبلاً، فيما لو انحرف عن صراط الحقّ ومالَ إلى صراط الباطل والهوى والضلالة، بل إنَّ القرآن الكريم قد أرشد الإنسان المؤمن إلى ضرورة عدم الانبهار والغرور بما يصنعه أعداء الدين والحقّ، قال تعالى: (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) (غافر: 4)، (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) (آل عمران: 196).
ومعلوم أنَّ مفهوم التقلُّب هنا هو ارتسام لمجمل الحَراك والتطوّر والتبدّل في الأحوال الحياتية عند خصم الإسلام، على مستوى الاقتصاد أو العمران أو القوَّة العسكرية أو الفكر أو الاجتماع.
وكلُّ ذلك التقلّب الحضاري يجبُ أن لا يُضعِّف من إرادة الإنسان المؤمن في تغييره النفسي والثقافي.
د - إنَّ من الأُمور المهمَّة في إحداث التغيير النفسي والتغيير الثقافي نوعياً هو أن يحسَّ ويشعرَ الإنسانُ بقدرته على التغيير، أو بقدرته على قبول التغيير من أصحابه المُرتقبين، لما لثقافة الثقة بالنفس أو القناعة بالخيارات الصحيحة من أثر في ذلك، فضلاً عن الإحساس الأخلاقي بأنَّ الله تعالى هو حاضرٌ وفاعلٌ في ميادين الحَراك النفسي والثقافي، وقطعاً لما تفرضه حكمته تعالى ووعوده الحقَّة بالتغيير المُرتقب والمُنتظَر، على مستوى الذات أو المجتمع، سواء قام به الإنسان المعاصر أو الإمام المهدي عليه السلام المُنتظَر، ففي القرآن الكريم ثَمَّة ثقافاتٍ وقناعاتٍ بحتمية التغيير النفسي والآفاقي مستقبلاً، ممَّا تُعطي الإنسان المؤمن زخماً وقدراً كبيراً من المعنويات والآمال بصدق وجزم وقوع التغيير مطلقاً، قال الله تعالى مفصحاً عن تلكم المعنويات والآمال المشروعة والحقَّة والقطعية في تحقّقها المرتقب: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5).
2 - تحقيق النظام التدبيري الأحسن وبناء الدولة العادلة:
من المعلوم أنَّ الإنسانَ عانى ويعاني من كلِّ نظامٍ جرَّبه طيلة التاريخ، لذا نجده ينشدُّ فطرياً وثقافياً إلى بلوغ النظام الأحسن والأتمّ في دولة عادلة مطلقاً. ويذكر السيِّد الشهيد محمّد باقر الصدر (رضوان الله تعالى عليه) في شأن ذلك: (والواقعُ أنَّ إحساس الإنسان المعاصر بالمشكلة الاجتماعية أشدّ من إحساسه بها في أيِّ وقتٍ مضى من أدوار التاريخ القديم، فهو الآن أكثر وعياً لموقفه من المشكلة وأقوى تحسّساً بتعقيداتها، لأنَّ الإنسانَ الحديثَ أصبحَ يعي أنَّ المشكلةَ من صنعه، وأنَّ النظامَ الاجتماعي لا يُفرَض عليه من أعلى بالشكل الذي تُفرَض عليه القوانين الطبيعية، التي تتحكَّم في علاقات الإنسان بالطبيعة، على العكس من الإنسان القديم الذي كان ينظر في كثير من الأحايين إلى النظام الاجتماعي وكأنَّه قانون طبيعي، لا يملك في مقابله اختياراً ولا قدرةً، فكما لا يستطيع أن يُطوِّر من قانون جاذبية الأرض، كذلك لا يستطيع أن يُغيِّر العلاقات الاجتماعية القائمة)(22).
وإذا كان الإنسان قد أدركَ أنَّ المشكلةَ هي من نفسه ومن نفس النظام الذي صبغَ حياته ومصيره به، دون أن يبحث عن النظام الأكمل والأحسن والأصلح، فلا بدَّ له من طلب التغيير في النظام المُجَرَّب والذي لم يُحقِّق أهدافه وتطلّعاته، لينحصر خياره في النهاية بخيار الله تعالى وإرادته بعد أن هجرها مليَّاً، (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب: 36)، وهذا الخيارُ هو خيارُ المعصوم شخصاً ونظاماً، والقائمُ عليه هو الإمام المهدي عليه السلام كما تعتقدُ به الفرقةُ الإماميَّة الاثني عشرية الحقَّة في منظومتها العقدية، فقد ورد عن أبي جعفر (الإمام الباقر عليه السلام)، قال: «دولتنا آخر الدول، ولن يبقَ أهلُ بيتٍ لهم دولة إلَّا ملكوا قبلنا، لئلَّا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله (عزَّ وجلَّ): (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)»(23).
وإنَّما يجب أن يكونَ النظامُ المُرتَقبُ والمطلوبُ والمنصوصُ والمنصوبُ أصلاً معصوماً، ذلك لدفع الفساد، واختلال النظام، وشيوع الظلم والباطل. ولأجل تدبير النوع الإنساني، وحفظه وإرشاده للتي هي أقوم سبيلاً وشرعةً ومنهاجاً. من هنا قد تبنَّت الطائفة الشيعية هذه الرؤية السديدة، رؤية النظام الأحسن والإنسان المعصوم شخصاً، وقد فصَّل العلَّامة الحلّي (رضوان الله تعالى عليه) هذه الرؤية العقدية القويمة بقوله: (يجب أن يكون الإمامُ معصوماً عند الشيعة، لأنَّ المقتضي لوجوب الإمامة ونصب الإمام، جواز الخطأ على الأُمَّة، المُستلزم لاختلال النظام، فإنَّ الضرورةَ قاضيةٌ بأنَّ الاجتماع مظنَّة التنازع والمغالبة، فإنَّ كلَّ واحدٍ من بني النوع يشتهي ما يحتاج إليه، ويغضب على من يزاحمه في ذلك، وتدعوه شهوته وغضبه إلى الجور على غيره، فيقع من ذلك الهرج والمرج، ويختلُّ أمر الاجتماع، مع أنَّ الاجتماع ضروري لنوع الإنسان، فإنَّ كلَّ شخص لا يمكنه أن يعيش وحده، لافتقاره إلى غذاء وملبوس ومسكن، وكلّها صناعية لا يمكن أن تصدر عن صانع واحد، إلَّا في مدَّة لا يمكن أن يعيش تلك المدَّة فاقداً لها، أو يتعسَّر إن أمكن، وإنَّما يتيسَّر لجماعة يتعاونون ويتشاركون في تحصيلها، يفرغ كلُّ واحد منهم لصاحبه عن بعض ذلك، فيتمُّ النظام بمعاوضة عمل بعمل ومعاوضة عمل بأجرة، فلهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، فلا بدَّ حينئذ من سلطان قاهر، مُطاع، نافذ الأمر، متميِّز عن غيره من بني النوع، وليس نصبه مفوَّضاً إليه، وإلَّا وقع المحذور، ولا إلى العامَّة، لذلك أيضاً، بل يكون من عند الله تعالى، ولا يجوز وقوع الخطأ منه، وإلَّا لوجب أن يكون له إمام آخر، ويتسلسل، فلهذا وجبَ أن يكون معصوماً، ولأنَّه تعالى أوجب علينا طاعته وامتثال أوامره، لقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59)، وذلك عامٌّ في كلِّ شيء، فلو لم يكن معصوماً لجاز أن يأمر بالخطأ، فإن وجب علينا اتِّباعه لزم الأمر بالضدّين وهو محال، وإن لم يجب بطل العملُ بالنصِّ)(24).
إنَّ تحقيق النظام الأحسن إنَّما يكون بفعل وجود الدولة العادلة تدبيراً وسياسةً، ذلك لما يتأكَّد من أساسيَّة العدل قيمةً واعتقاداً وثقافةً وسلوكاً في بُنية النظام الأحسن، فالدولة العادلة التي تقوم على أساس النظام الأحسن يجب تتوفَّر على عناصر مهمَّة من أهمّها عنصر العلم والحكمة، والمعرفة والقيم الأخلاقيَّة الثابتة والقارَّة في منتظم العقلاء، وعنصر الاقتصاد، وحتَّى عنصر الاعتراف ومفهوم السيادة، والقوَّة والذي يُسمّيه القرآن الكريم بالبأس الشديد في قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد: 25).
وقد تنبَّه إلى هذه العناصر الأساسية في بناء الدولة العادلة أو المرتقبة عالمياً، المفكِّرُ الأمريكي المعاصر (فرانسيس فوكوياما)، حيث ذكر في كتابه الشهير (نهاية التاريخ وخاتم البشـر) في فصل الدولة العامَّة والمتجانسة: (إنَّه يمكن النظرُ إلى الدولة العامَّة والمتجانسة التي ستظهر في نهاية التاريخ، باعتبارها قائمة على أساسين : الاقتصاد والاعتراف، فالمسار التاريخي الإنساني الذي يؤدّي إلى تلك الدولة، كان يدفعه إلى الأمام مُحرِّكان متساويان: الازدهارُ المستثمر في العلوم الطبيعية الحديثة والسعي إلى نيل الاعتراف...، ولا يمكن لأيِّ وصفٍ للمسار التاريخي (أي التاريخ العامّ الحقّ للبشرية) أن يكون كاملاً دون الحديث عن هذين الأساسين تماماً، كأيِّ وصفٍ للشخصيَّة الإنسانية هو غير كاملٍ ما لم يتحدَّث عن الرغبة والعقل والثيموس(25) (26).
إذاً يتبيَّن أنَّ قيام الدولة العادلة بنظامها الأحسن يتوقَّف على شروط علمية وأخلاقية ومعرفية وتدبيرية تطابق عليها العقل والعقلاء، ولذا نجدُ أغلب الحَراك الثقافي الواعي يأخذ هذه الوجهة القويمة وجهة التنمية في العلم والمعرفة والقوَّة والقيم والتنظيم والتطوّر التقني والتي ندب التوجّه إليها القرآن الكريم في آية (25) من سورة الحديد.
3 - تثبيت العدل عمليَّاً والقضاء على الظلم والفساد فعليَّاً وإحقاق الحقِّ ودحض الباطل:
إنَّ العدلَ هو أصلٌ ديني وإنساني قد تسالم عليه جميعُ الناس، وهو من جملة ما يُدرِكه العقل العملي وممَّا ينبغي فعله، ويقتضي تحسينه، ويرشدُ إليه الشرعُ الحكيم، وهو الجامعُ الفطري والثقافي في حَراك التغيير المنشود، فما من أُمَّة تُعاني من الظلم والفساد والباطل إلَّا وترفع راية العدل بقوَّة، ذلك لأنَّ العدلَ أساسٌ به قِوام العالَم والدولة، ويضعُ الأُمور في مواضعها الصحيحة، ويقتضي المساواة في المكافأة والجزاء.
وهو الذي يكسبُ الأنظمةَ والدولَ شرعيَّتها وقيمتها وديمومتها، رغم الاختلاف الواقع بين الأُمم والدول في مصدر الشرعيَّة.
يقولُ المفكِّرُ الأمريكي المعاصر والشهير (فرانسيس فوكوياما) في كتابه (بناء الدولة النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين) في الفصل الثالث ما بعد الدولة الأُمَّة، ما نصّه: (يختلفُ الأمريكيون والأُوربيون في آرائهم حول مصدر الشرعيَّة على الصعيد الدولي، إذ يعتقدُ الأمريكيون أنَّه (الشرعيَّة) متجذِّرةٌ في إرادة الأغلبيات الديمقراطية في الدول - الأُمم الدستورية-، بينما ينزعُ الأُوربيون إلى الاعتقاد بأنَّه يتأسَّس على مبادئ العدالة الأعلى قيمةً من قوانين وإرادات الدول - الأُمم كافَّة -. ويمكن تفهّم هذا الخلاف إلى حدٍّ بعيد، لأنَّ كلَّ طرفٍ يتوصَّل إلى رأيه اعتماداً على أسباب ضاربة في عمق تاريخه القومي. الرأي الأُوربي صحيحٌ بالمعنى المجرَّد، لكنَّه مُخطئ في الممارسة، يُؤكِّد الكثير من الأُوربيين أنَّهم أنفسهم وليس الأمريكيين المناصرون الحقيقيون للقيم الليبرالية العالمية، لأنَّهم يؤمنون بهذه القيم بمعزل عن تجسيداتها في دول أمم ديمقراطية، فعليه لا شيء يضمن أن تكون القرارات التي تتَّخذها الديمقراطيات الليبرالية ذوات السيادة عادلة أو مُنسجمة مع هذه المبادئ الأسمى، حتَّى ولو كانت صحيحة إجرائياً، يمكن أن تُقرِّر الأغلبيات الديمقراطية القيام بأفعال فظيعة تجاه دول أُخرى مثلاً، ويمكن أن تنتهك حقوق الإنسان وأعراف اللياقة التي ينبني عليها نظامهم الديمقراطي في ذاته)(27).
في إشارة من المفكِّر الأمريكي (فرانسيس فوكوياما) إلى أنَّه لا توجد ضمانة لا دوليَّة ولا كونيَّة في دولنا المعاصرة في تطبيق العدل على وجهه الأسمى وقيمته الأعلى، وإن آمنوا به نظرياً وتجريداً.
وبالفعل إنَّما سيكون ذلك الضمانُ الدولي والكوني الموعود تطبيقاً، على يد الإمام المهدي عليه السلام، «يخرجُ آخر الزمان رجلٌ من ولدي، اسمه كاسمي وكنيته كنيتي، يملأ الأرضَ عدلاً ملثما مُلِئَتْ جوراً، فذلك هو المهدي»(28)، وهذا حديث مشهور.
بعدما أُزيحَ العدلُ من واجهة الحياة بقدر كبير ولأمد طويل فسوف يعودُ حتماً، لأنَّه غاية شريفة وقيميَّة يجب أن تتحقَّق، بعد إزاحة كلِّ ظلم وفسادٍ، وقد تكفَّل الله تعالى بتحقيقها حتماً مقضياً كما في قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25).
فقيامُ الناسِ بالقسطِ بحكم كونه الغاية الرئيسة لبعثة الأنبياء والرسل سيجدُ طريقه في آخر الدول، وفي عصر الظهور الشريف للإمام المهدي عليه السلام، عدلاً في النظام والاجتماع، وعدلاً في التعايش وحقوق الإنسان، وعدلاً في تقسيم المال بالسويَّة و توزيع الثروات والخيرات والثمرات على الناس أجمعين، وعدلاً في الأحكام طبقاً للواقع والعلم واليقين، وعدلاً في القضاء، وعدلاً في إحقاق الحقوق، وقد وردت هذه المفاهيم القيميَّة في ارتقابها القابل على لسان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في ذكره لعلامات وأخبار آخر الزمان: «أَلَا وفِي غَدٍ وَسَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا، وَتُخْرِجُ لَه الأَرْضُ أَفَالِيذَ كَبِدِهَا وَتُلْقِي إِلَيْه سِلْماً مَقَالِيدَهَا فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّيرَةِ وَيُحْيِي مَيِّتَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ منها»، وعن أبي عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام)، قال: «إذا قام قائم آل محمّد عليه وعليهم السلام حَكَمَ بين الناس بحكم داود لا يحتاج إلى بيِّنة، يُلهِمه الله تعالى، فيحكم بعلمه، ويُخبِر كلَّ قوم بما استبطنوه، ويعرف وليَّه من عدوِّه بالتوسّم، قال الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) [الحجر: 75 و76]».
وفي الأخبار أنَّ الإمام المهدي عليه السلام سيشمل حكمه وعدله كلَّ الأُمم بمختلف ألوانها وأديانها، فعن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنَّه قال: «إذا قام قائم أهل البيت قسمَ بالسويَّة، وعدلَ في الرعيَّة، فمن أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله، وإنَّما سُمّيَ المهدي مَهديَّاً لأنَّه يهدي إلى أمر خفي، ويستخرجُ التوراة وسائر كتب الله (عزَّ وجلَّ) من غار بأنطاكية، ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل القرآن بالقرآن، وتُجمَعُ إليه أموال الدنيا من بطن الأرض وظهرها، فيقول للناس: تعالَوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدماء الحرام، وركبتم فيه ما حرَّم الله (عزَّ وجلَّ)، فيُعطي شيئاً لم يُعطِه أحدٌ كان قبله، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً كما ملئت ظلماً وجوراً وشرَّاً».
4 - إظهارُ الدِّين القيِّم (الإسلام) على الدين كلِّه، هدايةً وغلبةً:
إنَّ واحدةً من أهمِّ مهام الإمام المهدي عليه السلام هو إظهار الدين الإسلامي على وجهه الحقّ والقويم، بانكشافه عقيدةً سديدةً وشريعةً حكيمةً ومنهاجاً قيِّماً للأُمم كافَّة، بعد ما شابَهُ التشويه والتهميش والتحريف، من المسلمين أنفسهم أو من أعدائهم. ولكي يتمكَّن الدينُ الإسلامي من الظهور الكبير والمُطلَق والتمكين في العقيدة والشريعة والمنهاج، لا بدَّ له من حَراكٍ يسبقه وبأسباب ظاهرية سليمة وخطاب إنساني وثقافي، يتمثَّلُ في توجيه الناس وجهةَ الإسلام فكراً وسلوكاً في طوره الأخير مهدوياً، لما ورد عندنا من ضمانات قرآنيَّة قطعيَّة، بل وحتَّى ضمانات نقلية روائية صحيحة وحتمية، تتكفَّل بتحقّق إظهار الدين الحقّ الإسلام العزيز على يد إمام آخر الزمان المهدي عليه السلام، وما هذه الآيات الثلاث في قوله تعالى إلَّا دليلٌ كافٍ على هذه الحقيقة الدينية والثقافية.
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33).
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (الفتح: 28).
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصفّ: 9).
وإنَّما جاء تكرار مقولة إظهار الدين الحقّ في هذه الآيات الثلاث، لغرض التقرير والتمكين للحقيقة المستقبليَّة في نفوس المؤمنين بها عقديَّاً، ولتُقدِّم لهم وعداً إلهيَّاً مفعولاً ومسؤولاً لن يتخلَّف في الوقوع والتحقّق يقيناً.
وفي تفسير هذه الآيات الشريفة ذكر الفخر الرازي ما نصّه:
(واعلم أنَّ ظهور الشيء على غيره قد يكون بالحجَّة، وقد يكون بالكثرة والوفور، وقد يكون بالغلبة والاستيلاء، ومعلوم أنَّه تعالى بشَّر بذلك، ولا يجوز أن يُبشِّر إلَّا بأمرٍ مُستقبَلٍ غير حاصل، وظهور هذا الدين بالحجَّة مقرَّرٌ معلوم، فالواجبُ حمله على الظهور بالغلبة...، وروي أنَّ هذا وعدٌ من الله بأنَّه تعالى يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان، وتمام هذا إنَّما يحصل عند خروج عيسى، وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي، لا يبقى أحدٌ إلَّا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج).
وثَمَّة إشراقة قرآنية تلوحُ من هذه الآيات الثلاث الشريفة، وهي أنَّ مبدأ هذا الإظهار للهدى ودين الحقّ على الدين كلّه، قد بدأ إحداثاً منذ بعثة الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنَّه واجه عقبات، ولم يظهر على غيره للآن، بفعل عوامل عديدة، منها اختلاف المسلمين من بعد النبيِّ الكريم على الحكم والإدارة وحتَّى في بعض أُصول العقيدة والشريعة، فضلاً عن مكر وكيد أعداء هذا الدين القيّم، ودفع الأئمَّة المعصومين عليهم السلام عن مقامهم ورتبهم في تدبير وإدارة شؤون المسلمين والناس كافَّة، والغيبة الكبرى للإمام المهدي، إلَّا أنَّ هذا الإظهار سيبين يوماً ما، بقوَّة وعلوّ على كلِّ الديانات الأُخرى ببركة ظهور الإمام المهدي وقيامه بالهدى والحقِّ.
المصادر والمراجع:
* المنطق للشيخ محمّد رضا المظفَّر 3: 270 و271/ ط 2/ سنة 1425/ انتشارات إسماعيليان/ قم.
* موقع وكيبيديا/ الموسوعة الحرَّة (www.ar.wikipedia.org)، نظرية (ماسلو) في هرم الحاجات الإنسانية.
* مسند أحمد بن حنبل 3: 317/ إصدار بيروت.
* كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: 204/ ط 1405هـ/ مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين في قم المقدَّسة.
* الكافي للكليني 1: 25/ ط 3/ سنة 1388هـ/ دار الكتب الإسلاميَّة.
* موقع ويكيبيديا/ الموسوعة الحرَّة (www.ar.wikipedia.org)، علم الإنسان الثقافي.
* صحيفة العهد اللبنانية/ العدد 685/ مقال تحت عنوان: (حركة شهود يهوه، النشأة، التنظيم، المعتقد).
* إنجيل متّى/ الإصحاح 5/ نصّ 5، الموقع الالكتروني (تلمذة أُونلاين).
* ظ/ فلسفتنا للسيِّد محمّد باقر الصدر: 26.
* فلسفتنا للسيِّد محمّد باقر الصدر: 25.
* بحث حول المهدي للسيِّد محمّد باقر الصدر: 87/ منشورات مؤسّسة أحباب الصدّيقة الطاهرة/ النجف الأشرف.
* سنن أبي داود 2: 310/ ط 1/ سنة 1410هـ/ دار الفكر.
* برناردشو لعبّاس محمود العقّاد: 75 و76/ نشر مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة/ القاهرة.
* المصدر السابق: 76.
* العقيدة والشريعة في الإسلام لجولد تسيهر: 93/ ط 2/ القاهرة، (مترجم).
* أعلام الهداية/ الإمام المهدي المنتظر خاتم الأوصياء 14: 22/ نشر المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام في قم المقدَّسة.
* المهدي الموعود ودفع الشبهات عنه للسيِّد عبد الرضا الشهرستاني: 6.
* انثروبولوجيا الإسلام للدكتور أبي بكر باقادر: 415/ ط 1/ سنة 2005م/ دار الهادي/ بيروت.
* المصدر السابق: 429.
* المدرسة القرآنية للسيِّد محمّد باقر الصدر: 116/ ط 1434هـ/ إصدار مركز الأبحاث التخصّصية للشهيد الصدر.
* (الكوسمولوجية)، هو مصطلح اغريقي قديم يرمز إلى دراسة الكون على أساس مادّي صرف بمعزل عن الرؤية الدينية.
* المدرسة الإسلاميَّة للسيِّد محمّد باقر الصدر: 17/ منشورات مؤسّسة المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر.
* الغيبة للطوسي: 473/ ط 1/ سنة 1411هـ/ مؤسّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم المقدَّسة.
* تذكرة الفقهاء للعلَّامة الحلّي 9: 395/ ط 1/ سنة 1419هـ/ مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث/ قم.
* (الثيموس) هو اصطلاح اغريقي قديم يُطلَق على سمة الشهور بتقدير الذات والرغبة في نيل الاعتراف.
* نهاية التاريخ وخاتم البشر لفرانسيس فوكوياما: 184/ ط 1/ الأهرام/ ترجمة حسين أحمد أمين.
* بناء الدولة - النظام العالمي ومشكلة الحكم والإرادة في القرن الحادي والعشرين لفرانسيس فوكوياما: 195 و196/ المملكة العربية السعودية/ نقله إلى العربية مجاب الإمام.
* تذكرة الخواصّ لابن الجوزي: 363/ إصدار مكتبة نينوى الحديثة.
* نهج البلاغة: 196/ تحقيق د. صبحي الصالح/ ط 1/ سنة 1387/ نشر بيروت.
* الإرشاد للمفيد 2: 386/ ط 2/ سنة 1414هـ/ مؤسّسة آل البيت لتحقيق التراث/ دار المفيد.
* الغيبة للنعماني: 243/ ط منشورات أنوار الهدى/ إيران/ قم.
* تفسير الرازي 16: 40/ ط 3.
الهوامش:
(1) أعلام الهداية (الإمام المهدي المنتظر خاتم الأوصياء): نشر المجمَّع العالمي لأهل البيت عليهم السلام في قم المقدَّسة.
(2) إكمال الدين وتمام النعمة: الصدوق/ ط 1405هـ/ مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في قم المقدَّسة.
(3) الكافي: الكليني/ ط 3/ سنة 1388/ دار الكتب الإسلاميَّة.
(4) الإرشاد: المفيد/ ط 2/ سنة 1414هـ/ مؤسّسة آل البيت لتحقيق التراث/ دار المفيد.
(5) العقيدة والشريعة في الإسلام: جولد تسيهر/ ط 2/ القاهرة، (مترجَم).
(6) الغيبة: الطوسي/ ط 1/ سنة 1411هـ/ مؤسّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم المقدَّسة.
(7) الغيبة: النعماني/ ط منشورات أنوار الهدى/ إيران/ قم.
(8) المنطق: الشيخ محمّد رضا المظفَّر/ ط 12/ سنة 1425ه/ انتشارات إسماعيليان/ قم.
(9) المدرسة القرآنية: السيِّد محمّد باقر الصدر/ ط 1434هـ/ إصدار مركز الأبحاث التخصّصية للشهيد الصدر.
(10) المدرسة الإسلاميَّة: السيِّد محمّد باقر الصدر/ منشورات مؤسّسة المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر.
(11) المهدي الموعود ودفع الشبهات عنه: السيِّد عبد الرضا الشهرستاني.
(12) مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ إصدار بيروت.
(13) إنجيل متّى/ الإصحاح (5)، نصّ (5)/ الموقع الالكتروني (تلمذة أُونلاين).
(14) انثروبولوجيا الإسلام: د. أبو بكر باقادر/ ط 1/ سنة 2005م/ دار الهادي/ بيروت.
(15) بناء الدولة - النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين: فرانسيس فوكوياما/ المملكة العربية السعودية/ نقله إلى العربية مُجاب الإمام.
(16) بحث حول المهدي: السيِّد محمّد باقر الصدر/ منشورات مؤسّسة أحباب الصدّيقة الطاهرة/ النجف الأشرف.
(17) برناردشو: عبّاس محمود العقّاد/ نشر مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة/ القاهرة.
(18) تذكرة الفقهاء: العلَّامة الحلّي/ ط 1/ سنة 1419هـ/ مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث/ قم.
(19) تذكرة الخواصّ: ابن الجوزي/ إصدار مكتبة نينوى الحديثة.
(20) تفسير الرازي: فخر الدين الرازي/ ط 3.
(21) سنن أبي داود: أبو داود السجستاني/ ط 1/ 1410هـ/ دار الفكر.
(22) صحيفة العهد اللبنانية/ العدد: ٦٨٥/ مقال تحت عنوان (حركة شهود يهوه، النشأة، التنظيم، المعتقد).
(23) فلسفتنا: السيِّد محمّد باقر الصدر/ ط 3/ سنة 1425هـ/ مؤسّسة دار الكتاب الإسلامي.
(24) موقع ويكيبيديا/ الموسوعة الحرَّة (www.ar.wikipedia.org)/ نظرية ماسلو في هرم الحاجات الإنسانية.
(25) موقع ويكيبيديا/ الموسوعة الحرَّة (www.ar.wikipedia.org)/ علم الإنسان الثقافي.
(26) نهاية التاريخ وخاتم البشر: فرانسيس فوكو ياما/ الأهرام/ ترجمة حسين أحمد أمين.
(27) نهج البلاغة: تحقيق د. صبحي الصالح/ ط 1/ سنة 1387هـ/ نشر بيروت.