الثابت والمتغيّر المهدوي / الحلقة الأولى
الثابت والمتغيّر المهدوي
الحلقة الأولى
السيّد أحمد الإشكوري
عند المرور على الواقع المعاصر نرى ضياعاً على جميع الأصعدة، ضياعاً نفسياً واجتماعياً ومنهجياً، ضياعاً فلسفياً فكرياً، ولا نرى في مقابل ذلك شيئاً مقدَّماً على أنَّه مشروع بُنيوي في العالم البشري.
نعم ربَّما تقدَّمت البشـرية على بعض الأصعدة وهيَّأتْ سُبُلاً للراحة، لكنَّنا نراها أخفقت في جوانب أُخرى، بل وأفلست فيها كجانب الروح والفكر والعقيدة، ومن هنا نرى أنَّ مدارسهم الفلسفية التي قُدِّمت كمحاولات لنظم الفكر البشـري في الحقيقة زعزعت البنية التحتية الفكرية بدلاً من أن تخطو خطوة في بنائها، فأنتجت عدم الوثوق، وجعلت السفسطة تعجُّ في عالمنا، حتَّى غدا الناس يسيرون في مفازات ملؤها التزلزل وعدم الاطمئنان، على مستوى المنهج والفكر والعقيدة.
وفي هذا البحث نريد أن نتناول البعد العقائدي وإن كان للحديث جانب آخر - البعد التشريعي والأخلاقي لهما سهم وافر من هذه الدراسات والمشاريع، إذ أنَّنا نرى أنَّها أخفقت في هذه الأبعاد، وبرز إخفاقها جليّاً في البُعد الأخلاقي -، فخضع كلُّ شيء للتشكيك والإنكار بزعم الحداثة وما وراءها، على أمل أن تكون معالجات لمشاكل الإنسان المستعصية، لاّ أنَّها زادت الطين بلَّة.
ضابط الدين السماوي:
يثار سؤال مفاده - بعد علمنا بوقوع التزييف والتزوير (1) وامتزاج الأديان بشريها بسماويها - ما هو ضابط الدين السماوي البحت؟.
وكيف يمكن أن نتعرَّف على هذا الدين الذي لم تمسّه يد التحريف؟
ولا بدَّ أن يُعلَم مسبقاً أنَّ كلَّ الخوف على الدين هو أن يمسَّ من قِبَل يد التحريف في أُفُقِهِ الثابت، إذ لا أثر كبير للمساس به في أُفُق المتغيِّر، إذ أنَّ نفس الدين هو الذي فرض مساحة للمتغيِّر والتطوّر وجعل الكثير من الموضوعات المتبدِّلة والمتغيِّرة حسب البيئات والأعراف موضوعات لأحكامه.
وبذلك أمكن لنا أن نقول: إنَّ الهوية الدينية ذات المسحة الربّانية المحافظة على جوهرها هي التي حفظت هوية الثابت كمقوِّم للدين ولم تسمح للمساس به في هذا الأُفق، وليُعلَم أنَّه ليس المقصود من الثابت هنا بمعنى الراكد وغير المتغيِّر، بل هو الذي لا يستوجب التبدُّل فيه تغيُّره الماهوي وإنَّما إن حصل فيه تغيّر وتبدّل فهو على سبيل تكامل الماهيَّة سواء على صعيد الخطاب أو غيره، فلا بدَّ أن تكون ثوابت الدين معلومة، ومستوى معلوميتها محفوظة وغير قابلة للرأي والرأي الآخر، ومن هنا ينفتح مجال آخر للمحترم الديني، ولا بدَّ أن نُحدِّد ذلك في إطار التراث الواضح الذي نمتلكه عن الدين، ونغربل منه ما يناسب المنظومة التي نعتقدها، وعلى هذا يسير منوال تحديد قيم المنظومات العقائدية، ومن بينها المنظومة المهدوية.
وفي حديثنا عن هذا العنوان (الثابت والمتغيِّر المهدوي) خمس نقاط:
النقطة الأولى: القضيّة المهدوية في العقل الديني وآلية التعامل مع الغيب:
لا بدَّ أن نبحث عن الغيب مطلقاً كان ذلك الغيب أم مقروناً بالمادَّة على سبيل التركيب الاتِّحادي(2)، وكيف تعامل العقل الديني معه، ولعلَّنا في دراسة سريعة يمكن أن نلقي نظرة إجمالية على المدارس التي تعاملت معه لنستخلص من ذلك ما هي الآلية الأنسب للتعامل معه.
الأُولى: مدرسة التعطيل:
وتتمتَّع بأنَّها تُصدِّر خطاباتها على نحو تُغيِّب فيه المنظومة الدينية ولدواعٍ مختلفة، فمن مواكبة العصـر إلى المجاملة ولغة الوسطية إلى الحفاظ على المشتركات مع الحضارات المادّية، وغير ذلك.
ونتيجة ذلك أنَّ مقدار الغيب في هذه المدرسة يكون خجولاً جدّاً، ويُخفَّف على مستوى الماهيَّة والفكر والخطاب، بل ويُخفَّف حتَّى على مستوى التسويق، مع ذلك كلّه يتلقّاه البعض على أنَّه خطاب ديني اعتدالي، لاّ أنَّ واقعه هو خطاب ديني تعطيلي، بل وابتذالي.
ولسنا الآن في صدد الحديث عن هذه المدرسة ومبادئها، ومبدأ نشوئها، وما نجم عنها من آثار سلوكية على الواقع الديني، إنَّما حديثنا كما أكَّدنا هو في دائرة تعطيل العقل النظري.
وكحاجة ضرورية وإن كان استطراداً وخروجاً عن محلِّ بحثنا لاّ أنَّنا لا بدَّ أن نلتفت إلى أنَّ ما تعيشه مجتمعاتنا الدينيَّة حتَّى في الدائرة الخاصَّة لا تحتفظ بقوَّة ارتباط بعالم الغيب، ولا بدَّ من إيجاد معالجات ناجعة في دائرة العمل وكيفية تقوية ارتباطها بعالم الغيب.
وفيما يرتبط بالمنظومة المهدوية وتأثير هذه المدرسة السلبي عليها فإنَّها حاولت أن تجعل هذه المنظومة في الظلِّ ولا تُخرِجها في سياق بعدها الاستراتيجي في الفقه، بل وَسَعَتْ إلى تضييق الاهتمام بها وإذا ما اضطرَّت لطرحها وتقديمها لجمهورها، فإنَّها تُقدِّمها بخطاب خجول، على أنَّها موروث ديني مضطرّين لقبوله وإن كنّا لا نقدر على التعامل معه أو فهمه، فكانت أقرب إلى المدرسة الظاهرية في تعاملها مع النصِّ الديني من غيرها من المدارس الأُخرى.
وما وقعت فيه هذه المدرسة إنَّما هو أثر واضح لتعطيل البعد الثبوتي في الغيب.
الثانية: مدرسة التعجيز:
وهي مدرسة سعت إلى أن تفرض قضيَّة الإمام المهدي عليه السلام بمعزل عن أدواتها، بادِّعاء أنَّنا لا نملك في هذه القضيَّة أدوات فكرية ننفذ من خلالها للوقوف على منظومتها، فالحجم المتاح لنا لولوج القضيَّة المهدوية إن كان فهو متواضع ومعطياته بسيطة، ونتج عنها الدوران غالباً في أبحاث مهدوية ذات حديث مكرَّر ومعاد، ودراسات اجتزائية، وغير ذلك.
فجعل القضيَّة المهدوية أقرب إلى الخطِّ الأحمر منها إلى الأخضـر كان ثمرة سلبية ونتاجاً عقيماً لأفكار هذه المدرسة، فبدلاً من أن يكون العقل الوحياني مفعَّلاً بقضيَّة الإمام المهدي عليه السلام، وأنَّه يشاطر ويشارك القضايا الدينية الأُخرى حتَّى نتمكَّن من سحب هذه القضيَّة من مدار إلى مدار آخر، ونقوم بعملية التوظيف والتوليف والتوسعة لنأتي بنتاج أشمل ورؤية أوضح من خلال نظرة واسعة في الروايات الخاصَّة ورؤيتها للروايات العامَّة. بدلاً من ذلك قد عزلت القضيَّة المهدوية في وادٍ لا علاقة له بكلِّ ذلك.
هذه المدرسة اتَّجهت إلى تحجيم القدرة في دائرة الموروث المهدوي الخاصّ، ولم تتمكَّن من خلال نظرتها التعجيزية من الانتقال من زاوية إلى زاوية أُخرى في نفس الموروث، فكيف بك وجميع المنظومة الدينيَّة!
الثالثة: المدرسة المنفلتة:
وهي التي تعاملت مع المنظومة المهدوية على أساس منهجي منفلت وليس بموفَّق، فأدخلت المسالك الباطنية، وقدَّمت أُطروحة الإمام المهدي عليه السلام بعقل باطني على نمط من الكشف والاستشراق، فتعدَّت حدودها، فابتليت بأزمة الغلوِّ من حيث إنَّها انتخبت منهجاً لا محالة يجرّها إليه إذ تعدَّت المفردات التي رسمها العقل الوحياني والتراث الديني للسير في طرقات هذه المنظومة، بل إنَّ بعض صفوف هذه المدرسة لم يحتفظ لنفسه بمنهج معيَّن، بل تخبَّط ولم يخرج بشـيء يمكن أن يُعتَمد عليه.
الرابعة: المدرسة الالتقاطية:
وهي التي بحثت عن جذور القضيَّة المهدوية في الدائرة غير الإسلاميَّة، فراجعت العقل المسيحي وما قدَّمه من مشـروع المنقذ البشـري، وسعت إلى تنزيله على المنظومة المهدوية إسلاميّاً، حتَّى أنَّ البعض بدأ يتعامل مع قضيَّة الإمام المهدي عليه السلام على أنَّها ظاهرة نوعية تُسمَّى بالإنقاذ أو الإنجاء ولم تتعامل معها على أنَّها قضيَّة شخص معيَّن.
وسعت هذه المدرسة إلى جمع المشتركات بين الديانات السماوية على أساس من الاستيراد والانتقاء وفق الظاهرة الالتقاطية، فنشأ من جرّاء ذلك عقلية غيبية التقاطية أساسها موروث الديانات السماوية الأُخرى، بل لم يكتفِ ويقف عند هذا الحدّ إنَّما وسَّع دائرة الالتقاط والاستيراد الانتقائي إلى دائرة الموروثات الدينية غير السماوية، فأوجد توليفة بين المنقذية ونهاية العالم على أساس من سنن التأريخ والمدارس الاجتماعية الحديثة التي فسَّـر بعضها ظاهرة الخاتمية بأنَّها خاتمية الكون على أساس نظم وقوانين ليس لها أدنى ارتباط بالبنى الفكرية الدينية، بل وسعى شطر ثالث من هذه المدرسة إلى التوليف بين هذا المجموع وبين ما يحصل بين الحين والآخر من قفزات علمية وتطوّر تكنولوجي.
الخامسة: مدرسة الهامشية:
وهي من المدارس الخطيرة حيث صرفت الجهود الفكرية على مفردات تُعَدُّ من المتغيِّر الغيبي فضلاً عن المتغيِّر الفكري مبتعدة بذلك عن الثابت المهدوي، بل إنَّ بعضاً منها أقرب إلى الترف العلمي، فتكلَّمت فيما هو على هامش وطرف الجادَّة، وابتعدت عن المتن، فنشأ من ذلك فكر مهدوي هشّ لا يمتلك الأصالة والرصانة. وكثيراً ما تسعى هذه المدرسة لإسقاط المنظومة المهدوية على الواقع الخارجي بتكلّف، وليس ذلك لاّ لابتعادها عن العقل الديني والثابت المهدوي.
وعلى سبيل المثال: إنَّ هذه المنظومة عندما تتحدَّث عن أشراط الساعة نجدها تتخبَّط في حسابها، بينما نجد العقل الوحياني عندما يُصوِّرها لنا وكأنَّنا نراها في حين أنَّه قد يكون بيننا وبينها آلاف من السنين، وهنا يجدر بنا أن نسأل وللتنبيه لا أكثر: كيف ساغ لعاقل ترك عقل - أي العقل الديني - قادر على الجمع بين هاتين الظاهرتين، فعندما يُخبِر النبيُّ الأكرم أو القرآن عنها - أشراط الساعة - تترائى وكأنَّها أمام السامع، بينما واقعها يفصله بحساب الزمان المئات بل الآلاف من السنين؟ ويكفي بهذا المنبِّه أن يشير إلى عجز غير العقل الوحياني عن إدراك الوقائع على ما هي عليه، وبيانها بخطاب يناسب ذلك.
السادسة: مدرسة الغيب المحسوس:
وهي المدرسة التي تسعى إلى تقديم القضيَّة المهدوية وفق غيب محسوس من خلال تنزيله على مفاصل النظام المادّي لتُقدِّم غيب المادَّة لا غيب الغيب والمعنى، وفي بعض الأحيان نعيش في أواسطنا الفكرية ودون شعور وتبنٍ بعض مؤشِّرات هذه المدرسة، فلا بدَّ من الالتفات إلى ذلك. وهذه المدرسة تمدُّ ظلالها لتلتقي في بعض الأحايين بالمدرسة الالتقاطية من خلال تبنّيها لدور العلم وتغليبه على الغيب، فهي تدعو إلى قداسة العلم، وإن كانت تلك القداسة ملبسة بلباس الغيب فهو غيب علمي يخضع للمنهج العلمي حتَّى فُسِّـرت بعض النظريات في إطار هذه المدرسة بأنَّ العقل الإنساني مرَّ بمحطّات ثلاثة على نحو التكامل: الأُولى محطَّة الغيب، والثانية محطَّة الفلسفة، والثالثة وهي الأرقى محطَّة الغيب العلمي.
السابعة: مدرسة الغيب الاستقبالي:
وفي هذه المدرسة تُقدَّم القضيَّة المهدوية على أنَّها قضيَّة استقبالية بمعزل عن ماضٍ عاشته وحاضر تعيشه، وتقتصـر على مستقبل سيُعاش، ووفق هذه الرؤية فإنَّ القضيَّة المهدوية تدخل في سلك التنبّؤات المستقبلية وكجملة ممَّا صَدَر عن النبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من قبيل أشراط الساعة ومصاديقها قضيَّة الإمام المهدي عليه السلام(3).
فهي بمعزل عن الوقت المعاصر وخاضعة لمقوِّمات الأمر المستقبلي.
الثامنة: المدرسة التجريدية:
وهي التي قدَّمت القضيَّة المهدوية على أساس من البعد الفلسفي التجريدي المجرَّد عن أيِّ لمسة في دائرة العمل والسلوك، وهذا النحو من التقديم فيه تجفيف للقضيَّة المهدوية، وهو أقرب إلى التعطيل، إذ سلب منها أركان طراوتها ولطافتها ووجدانيتها ولم يُعطِها أدنى مسحة في التأثير.
هذه إطلالة سريعة على جملة من المدارس التي تعاملت مع الغيب، ورأينا أنَّها ابتعدت عنه أكثر عندما جنَّبت نفسها الخوض في حديث الثبوت، فقادها ذلك إلى الابتعاد رغم ادِّعاء كلّ واحدة منها أنَّها الأقرب في تفسير الغيب المهدوي.
النقطة الثانية: غياب البحث الثبوتي في قضيّة الإمام المهدي عليه السلام وعدم التركيز عليه:
سجَّل غياب البحث الثبوتي آثاراً خطرة على القضيَّة المهدوية لا يقلُّ خطرها عن تفسير الغيب بصورة خاطئة كما في النقطة الأُولى، فالعقل الذي لمس القضيَّة المهدوية لم يكن عقلاً متخصِّصاً، فغياب البحث الثبوتي في قضيَّة الإمام المهدي عليه السلام وعدم التركيز عليه فيها كلَّفنا كثيراً من الضـرائب في البعد العقدي فضلاً عن السلوكي، وما نعيشه اليوم في أجواء هي أقرب إلى الثقافية منها إلى التخصّصية إنَّما هو نتيجة هذا الابتعاد، والدخول في البحث الإثباتي الذي سيكون حتماً منفلتاً وبلا ضوابط إذا فصل عن الثبوتي منه، فينتج عن ذلك تخبطّات كثيرة وخطيرة فيما يرتبط بهذه العقيدة وبالإمام المهدي عليه السلام إلى حدٍّ يمكن أن نقول: إنَّ العقل الثقافي على وفق هذا السير لم يلمس القضيَّة المهدوية لاّ على مستوى القشور، والذبذبات الواصلة لنا عنها ضعيفة جدّاً، ممَّا يمكننا أن ندَّعي أنَّ القضيَّة المهدوية تعيش اليوم بمعزل شبه كامل عن المنظومة المعرفية المهدوية، والسبب في ذلك هي خطورة المنهج والابتعاد عنه، ممَّا يوجب اللجوء إلى البحث الإثباتي ابتداءً. وعلينا هنا أن نعيد وفي ضمن عملنا التخصّصي كيفية التعامل مع قضيَّة الإمام المهدي عليه السلام.
ويحقُّ لنا هنا أن نسأل: هل الذي لمس القضيَّة المهدوية عقل شيعي قائم على أساس نظرية (لا جبر ولا تفويض)(4)، أم أنَّه عقل أشعري أو معتزلي - وليس المقصود هنا من العقل الاعتزالي أو الأشعري هو التنظير إنَّما هو الواقع -، فعندما نمرُّ على بعض الدراسات في القضيَّة المهدوية نراها حوكمت بمحاكمات عقل اعتزالي تبرز على أثر هذه المحاكمات جملة من التساؤلات التي لو بني في المحاكمة على العقل القائم على أساس (لا جبر ولا تفويض) لما برز منها شيء مطلقاً.
وعلى هذا الأساس يُقدَّم لنا مشـروع مهدوي باسمٍ شيعي، ولكنَّه بواقع اعتزالي.
وكذلك إن قدَّمنا القضيَّة المهدوية بعقلية أشعرية على مستوى الواقع وإن سمَّيناها شيعية، فإنَّنا لا محالة نبتعد عن معادلة الإمامة وكونها معادلة إلهيَّة ربّانيَّة إلى الحدِّ الذي تتأثَّر لتقترب من معادلة السقيفة وما يترتَّب عليها من فهم الإمامة، وأنَّ أفعالنا بمعزل عن دور الإمام عليه السلام ورقابته.
وهكذا ينفتح الباب لأسئلة أُخرى تنتج عن واقع العقل الاعتزالي أو الأشعري، من قبيل: هل أنَّ الإمام يُخلَق ساعة ظهوره أم أنَّه موجود وسيظهر؟ وهل هو وجود معطَّل مجمَّد أم وجود مفعَّل؟ وهكذا تُسجَّل العشرات، بل المئات من الإشكالات المضمرة التي قد لا يبرزها الاستحياء، هي وليدة الواقع الأشعري أو الاعتزالي وإن أُلبست ظاهراً العقل الشيعي.
ومن هنا ينفتح المجال للحديث عن النقطة الثالثة وسبب الإخفاقات الكثيرة، ومن أين تأتَّت للقضيَّة المهدوية، ولماذا مسَّتها.
ولكن قبل البدء في حديثنا عن النقطة الثالثة نودُّ أن نُنبِّه إلى أنَّنا نسعى لتقديم دراسة منهجية عن القضيَّة المهدوية، وأنَّ الدارس لهذه القضيَّة لا يمكنه أن يحصل على النتائج المطلوبة إذا دخل من منتصف الطريق فإنَّه سيُضيِّع القضيَّة، نظير ما إذا أردنا أن نُقدِّم شابّاً للدراسة ونأمل أن يكون طبيباً، فلا يمكن لنا أن نُقدِّمه ابتداءً إلى الجامعة ما لم يمرّ بكلِّ المراحل الدراسية التي تسبقها لتهيأه للدراسة الجامعية، فإنَّنا نعتقد أنَّ الظواهر البادية من النصوص الدينية لا بدَّ أن تُفتَح على يد عقل تخصّصـي يملك مجموعة من مقوِّمات العلوم تُؤهِّله لمسِّ الخطاب الديني بما في ذلك الخطاب المهدوي، وفي نفس الوقت لانسمح لشخص يندفع ليمسَّ الخطاب الروائي لمحض تولِّده في الحوزة ومروره على دراساته التخصّصية سنين معدودة دون أن يمتلك التخصّص والإتقان ويخلق في نفسه المؤهَّل الكامل للتعامل مع الخطاب الديني من خلال الملكات العلمية التي يكتسبها طيلة فترته الدراسية في هذا الباب، وهذا ما يُعبَّر عنه أُصولياً بآليات الفحص في النصِّ الديني التي لا تتمُّ ما لم تسبقها مستلزمات كثيرة علمية وتخصّصية تؤهِّل الفاحص لدراسة النصِّ. ومن بين أبرز تلك الثوابت هي الثوابت الدينية العقلائية فضلاً عن الشرعية التي يتلقّاها الساعي لتحصيلها من خلال الدراسة وبمدى ليس بالقصير، إذ ربَّما هناك نصٌّ يتراءى بعده عن القضيَّة المهدوية ويقع في باب أبعد ما يكون عنها لكن مَسيس ارتباطه وامتداد ظلاله على هذه العقيدة يراه المتخصِّص ممَّا لا يمكن المحيص عنه، بل وفي بعض الأحيان من الضـرورات التي يلزم الوقوف عندها لتأثيره المباشر على نتائج النصِّ الديني المهدوي.
فإذن لا يمكن أن تَمُسَّ القضيَّة المهدوية ما لم تكن هناك دراسة شمولية للنصِّ الديني، فلا يمكن أن نسمح لأنفسنا فضلاً عن غيرنا أن نُقدِّم دراسة على أساس نصٍّ مهدويٍّ وصل إلينا من غير إخضاعه لغربلة من متخصِّص وصاحب باع في هذا المضمار، ولا نسمح أن تكون القضيَّة المهدوية مسرحاً لحديث العقل الجمعي وغير التخصّصي أو تكون مسرحاً لمن لديه أزمات في مكانٍ ما وزاويةٍ معيَّنة، ويحثّه عقله على اتِّخاذ رمزية معيَّنة فيندفع باتِّجاه القضيَّة المهدوية ساعياً خلق ذلك منها إشباعاً لتلك الرغبات.
كيف يمكن أن يُسوِّغ ذلك وأن يرتضيه شخص يحترم عقيدته في قضيَّة أُريد لها أن تكون عصارة المشروع الإلهي السماوي وتمام غاية الخلق، ولا يرتضي هذا في مسألة جزئية - فقهية - محدودة التأثير.
النقطة الثالثة: مداخل وقوع الإخفاق في القضيَّة المهدوية:
في أنَّ الثابت هل هو ثابت فكر أم دين أم خطاب؟ وهل يمكن الاستعاضة عنه بغيره إذا أردنا أن لا نسير وفقه؟ بل نعني منه الاستكشاف الناتج عن بذل الوسع التخصّصـي المستلزم للغوص في أعماق القضيَّة المهدوية، والكشف عن ارتباطاتها بالمنظومة الدينية.
وذلك من خلال بعض المفردات ذات العلاقة بالقضيَّة المهدوية لتنظيم القضيَّة المهدوية من أجل استكشاف ما فيها، ولا نعني بالاستكشاف هنا استكشاف الاسم والآثار البسيطة التي لا تحتاج لاّ إلى أدنى جهد وفحص ولو من غير المتخصِّص.
فالعبودية لله تعالى يفهمها الناس على بساطتهم بمقدار ما يُركِّب أذهانهم لهم من معبود، وفي الحقيقة هم يعبدون مصنوعاً صنعته لهم أذهانهم ولا يعبدون الله بما هو، قال تعالى: (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) (التوبة: 29)، وجاء في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: (كلُّ ما ميَّزتموه بأوهامكم في أدقِّ معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم)(5).
فهم متديِّنون ولكن لا يشعرون أنَّهم يدينون دين الباطل، لأنَّ المنظومة الساذجة البسيطة المسترسلة المقلوبة المنفلتة التي لم تحفظ الموازين وتراعِ الثوابت خلقت لهم إلهاً وفق رؤيتهم وليس وفق الحقيقة الواقعية.
* * *
فلكي نُقدِّم مشروعاً مهدوياً متكاملاً لا بدَّ أن نتحدَّث في بعض المفردات التي إن أصاب أيّ منها الغموض والتشويش والضبابية وعدم الوضوح نتج عنها مشروع مشوَّش ومربك ومنهار.
ومن هذه المفردات:
1 - المنظومة العقائدية:
وضرورة أن تأخذ نصيبها من الوضوح والصفاء، لأنَّ التشويش فيها ينعكس سلباً على رسم القضيَّة المهدوية وضبطها، ونذكر لذلك نماذج:
أ) صفات الباري الذاتية:
فإنَّنا ندَّعي أنَّ من المحال فهم الإمام المهدي عليه السلام ما لم تُفهَم الصفات الذاتية الإلهيَّة ولا يُتأمَّل منّا أن نُقدِّم شخصاً إلى دراسة جامعية دون أن يمرَّ بمراحل الابتدائية والمتوسِّطة والإعدادية، وأيضاً لا يمكن أن نُقدِّم مشـروعاً يتحدَّث عن تكامل الأديان، وفي نفس الوقت لا نرتضيه في القضيَّة المهدوية، فقد نُفاجَؤ بسؤال في دائرة الحديث عن القدرة وأنَّ الله تعالى لِـمَ لمْ يأتِ بالدين الإسلامي منذ خلق آدم؟ فهل هو عجز في قدرته تعالى الله عن ذلك؟ فيأتي الجواب منَّا وبلا تردّد وعلى نحو الإجمال أنَّ السير التكاملي للدين اقتضى هذا التأخير ولآلاف من السنين.
ومن هذا الجواب يمكن أن نقول:
لم نرتض هذا السير التكاملي في دائرة الأديان، وفي نفس الوقت نمنعه في قضيَّة الإمام المهدي عليه السلام، مع أنَّ الداعي فيهما واحد، ومُدَّعانا أنَّ التكامل يحصل في الدين الواحد وهو دين الإسلام ولا يعني هذا التكثُّر، فالكثرة هنا عينها الوحدة، فتكامل في دائرة غير الثابت على ما بيَّناه سابقاً.
فما لم نفهم حقيقة القدرة والعلم والإرادة الإلهية وأثرها في الدين ثمّ أثر التكامل في الدين من جهة أُخرى وحدود دائرته وسعة حركته لا يمكن لنا أن نفهم القضيَّة المهدوية بشكل واضح، وكثيراً ما نقع في التخبّطات ونترجَّل عن الصعود في الفهم والاعتقاد فضلاً عن السلوك، ليس ذلك لاّ لابتعادنا عن الثابت وأثره وركوننا إلى المتغيِّر والاستئناس به.
ب) النبوة:
وهكذا يجري الكلام في دائرة اعتقادنا بالنبوَّة وحدودها ومقدار ارتباطها بصفات الباري من جهة، وبالإمامة من جهة أُخرى، فمن يعتقد بأنَّ النبيَّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يملك قوى متعدِّدة تشريعية إفتائية وقضائية حكمية وتنفيذية إجرائية فضلاً عن ولايته التكوينية التي يقودنا إليها التحقيق كما يقودنا إلى القوى الثلاث المتقدِّمة فضلاً عن أنَّه يملك ولاية خاصَّة على أموال الناس، بل على أنفسهم يختلف من يعتقد ذلك عمَّن يعتقد بأنَّ النبيَّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مشروع ربّاني لكن دائرة قداسته ضيِّقة، وهذا يختلف جذراً عمَّن يعتقد أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم مشـروع بشـري فيُغيِّب فيه البعد السماوي بالمرَّة ويُقدِّمه كإنسان من سائر البشر ليُدخِل المنظومة النبوية في إطار الفكر الديني على أساس تمييع مقولة المُقدَّس بنحو يفرض لها مستوىً هابطاً من الفهم.
فهذا الفهم لهذه المنظومة بأنحائها المتقدِّمة يؤثِّر على المنظومة المهدوية وينتج منظومات وأفكاراً وعقائد مختلفة بعضها عن بعض بالمرَّة.
ج) الغيب:
أمَّا فيما يرتبط بعلاقة المنظومة بالغيب والعوالم المجرَّدة وعلاقتها - أي المنظومة الغيبية - مع الله من جهة وعلاقتها مع الإنسان من جهة أُخرى، فلا بدَّ أن نُقدِّم مشروعاً منسجماً مع هذه البنية حتَّى نترك الحركة في الدائرة الفارغة، ونتحوَّل من خلال هذه الرؤية إلى دائرة ممتلئة ينتهي مفادها إلى أنَّ خطاب الله تعالى بالسجود للملائكة أمام محراب آدم ليس ذاك منها سجوداً حدوثياً قد انبرم وانقضـى، وبقيت دائرة قصصيته فقط، وإنَّما هو خطاب بقائي إبقائي كما كان حدوثياً، فلا بدَّ للبشرية على هذا الفهم والرؤية أن تؤدّي سجودها - المعنوي - أمام الإنسان الكامل وتتقرَّب إليه بفرض الطاعة ليرتقي بها في سُلَّم كمالاتها، وهذه القضيَّة لا بدَّ أن نقرأها في ضمن ملاكاتها الحكمية، وما لم نُقدِّم في هذه الدوائر الثلاثة: دائرة الصفات، ودائرة النبوَّة، ودائرة الغيب، وما يرتبط بها ويتفرَّع عليها، دراسة موفقة وبحثاً دقيقاً، فإنَّنا بمقدار بعدنا عن ذلك نبتعد عن القضيَّة المهدوية.
2 - المنظومة الفكرية:
فإنَّ كلَّ ممكنٍ سواءٌ كان إمكانه على الصعيد الذهني أو الخارجي، فإنَّ هناك عوامل تُحدِّد قيمته، نمرُّ عليها سريعاً:
العامل الأوَّل: العلَّة الفاعليَّة:
وهنا نسأل من خلال هذا العامل عن أيِّ فكرة تواجهنا: هل أنَّها ربّانية سماوية أم من مخترعات الذهن البشري على اختلاف في سبب اختراعه؟ ألأِزمة تخيلية أم تعثُّر نظري أو عملي في حركة العقل أم تعصّب أم هوى نفسي؟ فضلاً عن الدعوات التي تنشأ من شهوات تجرُّ إلى تأسيس ديانات بشرية أو مذاهب. وينبغي أن لا يغفل هنا تأثير عناصر أُخرى من قبيل المُعِدِّ والشرط، فإنَّ كلَّ ذلك يدخل في تحديد هوية المشروع. وينبغي أن يكون أوَّل ما يُسئَل عنه إذا تمَّت مواجهتنا من قِبَل البعض بالدعوة إلى مشروع ما أن نسأل عن علَّته الفاعلية ثمّ عن حجم الارتباط بالذات الإلهية.
وينبغي أن لا يُغفَل هنا أنَّ هناك انحرافاً ينشأ من خلق فكرة ومحاولة جرّ انتسابها إلى الله تعالى.
وأنَّ هذا الحديث تارةً يكون في سياق البعد الثبوتي في الانتماءات، وأُخرى يكون في البعد الإثباتي، وبمجموع الأسئلة التي تُطرَح في كلِّ زاوية من هذه الزوايا يتَّضح لنا حجم البدعة عن حجم الحقيقة، ونتمكَّن من ضبط موضوع محلّ السؤال، وأنَّه هل ابتلي بابتداع ما وفي أيِّ زاوية منه؟
ولنأخذ قضيَّتنا محلّ البحث فكرة الإمام المهدي عليه السلام، فإنَّه بلحاظ بعض أبعادها يتمُّ تأمينها على أساس منظومة عقلية صـرفة دون الخوض في أجواء النصّ الديني، وإذا ما احتيج إليه يكون وفق موازين محدَّدة ومنضبطة كما أشرنا، وفي جانب البعد الإثباتي منها، ويتفرَّع على هذا الفهم أنَّ عندنا مهدويَّتين: عامَّةً يتكفَّل العقل بإثباتها، وخاصَّةً ولا تختلف عن العامَّة في شـيء لاّ في تنزيل ذلك الفكر العامّ وتطبيقه على الفرد المعيَّن ذي الخصوصيات والصفات المحدَّدة، وهذا التطبيق له آلياته ومعاييره، ويكشف عن ما ورائيات الانتماء إلى الفكرة، ومصادر الأخذ في تأمينها، ومقدار توفّر تلك الخصوصيات المؤمِّنة لاستجلائها.
فالعلَّة الفاعلية تؤمِّن لنا الارتباط بالمصدر، وتكشف عن الارتباطات الخفيَّة للقضايا المدَّعاة، وعن حجم تلك الارتباطات، فهل عِلَل القضيَّة الله تعالى وذاته المقدَّسة أم غيرها؟ وبعد تحديد تلك العلَّة الفاعلية وجهتها نبحث عن حجم الارتباط، وهذا كما قلنا معيار مهمٌّ جدّاً في تحديد الانتماء والانتساب، ومقدار الانحراف في نفس الوقت.
ونتيجة هذا نؤكِّد على ضرورة الاطمئنان في التلقّي، فعلى وفق الميزان المتقدِّم نعرف من أين نأخذ، ولمن نسمع، على أنَّ مستلزمات المنظومة الثبوتية فضلاً عن الإثباتية للفاحص المتخصِّص موفَّرة بمقدار فحصه وجدّه واشتغاله.
ويمكن أن نلحظ الترابط بين كون العلَّة فاعلة مستشعرة، وبين ما تقدَّم منّا من تأثير البحث التوحيدي الثبوتي كصفات الباري على الفكرة المهدوية، وأنَّ هذا البحث الثبوتي وهو بطبيعته بحث في الثابت يمدُّ بضلاله ويؤثِّر على الفكرة المهدوية وبناء أُسسها، فنظرك إلى الفكرة وأنَّها مرتبطة مع الله تعالى الكامل في كلِّ صفاته تعطيك انتقالات منظَّمة في زوايا البحث، ولا تُبتلى ببعثرة الفكرة، فترى فيها الحكمية والقادرية واللطفية وهكذا. وقد يُعبَّر عن هذا النظم على لسان بعض الباحثين بالأُصول الموضوعة قبل الدخول في البحث المهدوي.
أمَّا إذا افترضنا الفكرة بعيدة عن هذا المقاس، ونازلة في هذه الساحة، فسنعيش حتماً نتيجةً لهذا التحديد والتضييق مع فكرة فاقدة لجمالها ورونقها وجاذبيتها وتأثيرها وعالميتها وقدرتها، ويزداد اقترابنا من أفكار العقل التخيّلي كلَّما زاد ابتعادنا عن أفكار العقل الإلهي ذي الأفكار السماوية المنظَّمة المنضبطة المتكاملة البعيدة عن التولّد الزماني الظرفي المتغيِّر.
إذ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ عنصري الزمان والمكان لا يقدران على خلق فكرة ثابتة.
فإذا سألنا شخص عن تأريخ تأسيس الفكرة المهدوية نقول بلا تردّد بتأريخ تأسيس الفكر الديني، وعن خطاب الفكرة المهدوية نقول بخطاب: (من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه)(6).
إنَّ ذلك الخطاب هو من أسَّس لها وبنى منظومتها، فهناك تولَّدت لا بعد قرنين أو ثلاثة من الزمن(7).
ففي ذلك اليوم تولَّدت الفكرتان معاً، وتلازمتا تلازماً لا انفكاك معه، فكرة الإمامة وفكرة المهدوية، فلا يمكن لك أن تَفرِض إمامة بلا مهدوية، والعكس بالعكس.
فتوقُّف الفكرة المهدوية على فكرة الإمامة بحث ثبوتي ينبغي استجلاؤه بشكل واضح ضمن الموازين والأُطُر المحدَّدة في الأبحاث الثبوتية، ثمّ الاستدلال على هذا الترابط الثبوتي في الإمامة بالأدلَّة الإثباتية التي منها حديث الغدير، وهكذا تتنزَّل الأبحاث الثبوتية على الأبحاث الإثباتية لتقوم بعملية الضبط والحماية في نفس الوقت من الاختراق البدعي من قبيل الالتقاطات السُّنّية المؤثِّرة على فكرة الإمامة وتضييقها في دائرة معيَّنة، ولاّ فبحسب المنطق الشيعي فإنَّ القول بالإمامة يجرُّ بلا محالة إلى القول بالفكرة المهدوية. ثمّ إنَّ القول بالإمامة لا يمكن ضبطه لاّ بضبط فكرة النبوَّة، وهي لا تُضبَط إلاّ بالتوحيد، هذا هو الذي ندَّعيه من أنَّ هذه الأبحاث سلسلة مترابطة متكاملة إذا سارت في إطارها الثبوتي الصحيح استحال إيجاد فراغ فيها، كما استحال انفصال بعضها عن بعض.
إنْ قيل: إذا كان الأمر كما تقولون من هذا الترابط المنطقي الثبوتي فلماذا نجد إنكاراً للمهدوية من قِبَل بعض المذاهب الأُخرى أو إنكاراً للإمامة؟
فإنَّا نقول: إنَّ إنكارهم لم يبدأ من المهدوية أو الإمامة، وإنَّما إنكارهم نشأ عن إنكار بعض الصفات الإلهية أو عدم استيضاحها لديهم بشكل يُؤمِّن لهم الانتقال المنطقي المتسلسل منها إلى غيرها، فلو كانت مستوضحة بالشكل الذي هو موجود لدى أتباع أهل البيت عليهم السلام لما ساغ لهم الإنكار لاّ جحوداً.
ومن هنا ينكشف لنا أيضاً أنَّ المهدوية في هذا الإطار لا يمكن القبول بها لاّ بتنزيلها على فرد، نعم هذا التنزيل ليس تنزيلاً عقلياً ثبوتياً، بمعنى أنَّ العقل هو الدالّ عليه، لأنَّه لا ينال الجزئيات، وإنَّما بعد أن نظَّم العقل القضايا العامَّة وأمَّنها بشكل يفسح المجال للإثبات والدليل أن يأخذ دوره، فيأتي النصُّ الديني ليُرشِد إلى الإمام، ومن هو، ويُبيِّن خصائصه وصفاته وما إلى ذلك ممَّا يعتمد على الأبحاث الإثباتية الدليلية.
العامل الثاني: العلَّة الغائيَّة:
نحن نعتقد أنَّ هناك عللاً دانية وأُخرى عالية، كما أنَّ هناك توسّطاً في العلل، ومنها أيضاً القريبة والبعيدة، ولا نرى تصادماً بين العلل البعيدة أو القريبة. ويمكن أن نقول: إنَّ أيَّ فكرة دينية لا بدَّ أن تتوفَّر فيها الغايات القريبة وكذلك البعيدة، والغايات القريبة كالعدل والحقِّ المنبثقة من منظومة العقل العملي، وهو ما يُعبَّر عنه بإنبغاء الفعل، فلا بدَّ أن ترسو قيم العقل العملي لتُشكِّل منظومة أُمَّهات الأخلاق والتشريع، إذ التشريع له مرتبتان: ثبوتية، إثباتية.
وتوجَد في البين نظريات متعدِّدة عن دور الاجتهاد ومحلِّه في تأمين مسائل هذه المراتب، وهل يوجد في البين منطقة فراغ التي هي تُعَدُّ في دائرة المتغيِّرات، على أن لا تُفرَض دائرتها - المتغيِّرات - معاكسة ومشاكسة للثوابت، بل تتَّسق فيما بينها فينشأ تمام الصلح والأُلفة والوءام، وأنَّ هذا المتغيِّر ينال تغيّره من الثابت، إذ لو لم ينل تغيّره من الثابت لم يكن للمتغيِّر أدنى قيمة. وعبَّر بعض العلماء عن هذه المنطقة بنظرية الزمان والمكان(8).
إنَّ الغاية القصوى تتمثَّل بلقاء الله تعالى، إذ الغاية من كلِّ مفردة في المنظومة الدينيَّة لا بدَّ أن تصبَّ في هذا المصبِّ، وعلى هذا فكلُّ فكرة دينيَّة دانية أو متوسِّطة لا بدَّ أن نستنطقها لنجد أيتوفَّر فيها القابلية لتأمين لقاء الله تعالى؟ وكلُّ فكرة لا تُؤمِّن لنا ذلك فإنَّها فاقدة لقيمتها. وهذا هو الذي نُعبِّر عنه بالسير التكاملي بالمنظومة الدينيَّة، وأنَّ العبد لا بدَّ أن يتخلَّق بأخلاق السماء ليرتقي للقاء الله ويدنو - لا دنواً مكانياً أو زمانياً - منه تعالى، وهذا ما يفتح لنا الباب للعامل الثالث، فنقول:
العامل الثالث: العلَّة الصوريَّة:
ونعتبرها ذات أهمّية بالغة، لأنَّها تُنظِّم لنا منهاج التفكير، ويمكن لنا أن نُسمّيها بحسب المصطلح العلمي: (نظرية المعرفة الدينية) التي من خلالها نستكشف المجاهيل ونتعرَّف على آليات الوصول إلى الغايات، إذ لا يمكن للإنسان في زماننا أن يحاكم مفردة دينية دون أن يملك منظومة معرفية، فدونها يقع في التخبّط لعدم امتلاكه الميزان الذي يوزن به المفردات، وبالتالي لا يمكن اعطاء المفردات قيمها الذاتية، فالقيمة إنَّما تُعطى إذا وجدت آلية وزنها، فمتى ما كان هناك تنظيم ومنهجة ونظرية معرفة سـرنا باتِّجاه معرفة قيم المفردات وضبطها لتأمين حصول نتائجها بشكل دقيق، وفي هذا المضمار لا بدَّ أن نقف على ما نحصل به قيمة العقل والوحي والعلم. وعلى سبيل المثال: نظرية العلية والمعلولية هل نقول بها أو لا؟ وهل تؤثِّر على المنظومة الدينية وعلاقات مفرداتها مع بعضها البعض؟ وما هي معايير الصدق والكذب في المعلومات؟
البعض يتَّجه باتِّجاه حماسية القضيَّة الدينية، وتفريغها عن ضابطة الصدق والكذب، وبإدخالها في دائرة الحماس والعاطفة إخراج لها عن محتواها وعن آثاراها، إذ ستبقى حبيسة النفس وتأثيرها ضمن حدود هذه الدائرة لا أكثر، بل ستوصَف بأنَّها مفردات خيالية لا واقع لها وإن أثَّرت في وجدان الأشخاص، نظير متابعة مشهد سينمائي يؤمِّن العاطفة الهيّاجة إلى حدِّ البكاء، ولكن سرعان ما تخبو هذه الشحنات الداخلية العاطفية، ويصف نفس ذلك المتأثِّر الباكي المشهد بأنَّه خرافة وخيال ولا واقع له.
ونحن لا نُعطِّل العاطفة المنضبطة، بل نسعى لضبط معيار صور المفردات، لأنَّها مصباح الطريق، فمن لا يملك المصباح لا يستطيع سلوك الطريق، وإن سلكه فربَّما يسير بالاتِّجاه المعاكس(9).
فقد نملك طريقاً ولا نملك المصباح - والمصباح هو العلَّة الصوريَّة -، ومن لا يملكه سيُضيِّع طريقه حتماً.
فالطريق شيء والمنهج المعرفي شيء آخر.
فلا بدَّ من أن نملك منهجاً معرفياً يُمكِّننا من غربلة النظريات الموجودة، لنرى هل تُؤمِّن لنا هذه المفردات المدَّعاة ما تحدَّثنا عنه في العامل الثاني من لقاء الله التكاملي أم لا؟
العامل الرابع: العلَّة المادّية:
نعتقد أنَّ الدين إنَّما جيء به لأجل الإنسان، فالعلَّة المادّية لهذا الدِّين هو هذا المخلوق - الإنسان -، فتعريف الإنسان بأنَّه حيوان ناطق غير تامٍّ، بل هو حيٌّ مختار مُتَألِّه.
ونؤكِّد لاستيضاح الصورة أنْ لابديَّة حضور جميع العوامل الأربعة فضلاً عن الموانع والشرائط حتَّى يتحقَّق الدِّين الوحياني، إذ بتخلّف واحدة منها سنُبتلى حتماً بدين بشري، فالمنظومة الدينيَّة إنَّما تؤمَّن وتؤمِّن نتائجها بلحاظ العوامل، وما معها بعنوانها المجموعي لا الانحلالي، وفي العامل الرابع الإنسان - العلَّة المادّية - توجَد نظريات:
النظرية الأُولى:
وهي نظرية تقديس الإنسان، حيث تحمل شعار: (لا يُسئَل عمَّا يفعل)، وإن كان الحامل لهذا الشعار على مستوى الحمل الذاتي الأوَّلي لا يقول بهذه النظرية، وإنَّما يقول بها على مستوى حملها الشائع الصناعي، فينتج عن ذلك تخبّطات فكريَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة تمدُّ بظلالها على المنظومة الدينيَّة لتُشوِّهها فتُدخِل في الدين منظومات العادات والتقاليد والنفعيَّة، فتخلق بذلك ديناً بشرياً لا يُمثِّل الدِّين السماوي إلاّ ببعض المشتركات اللفظية، لأنَّ ملاك هذا الدِّين هو النفع، بينما تقدَّم في العلَّة الغائيَّة أنَّ ملاك الدِّين الوحياني هو لقاء الله.
النظرية الثانية:
وهي نظريَّة العرفاء التي طُرِحَت من قِبَلهم في مسألة القطب، ونحن لا نرتضيها، لأنَّها نظريَّة مخلوطة، إذ تدور مدار القطب، بينما نظريَّتنا المختارة هي نظريَّة الإمامة.
وهنا يأتي دور العقل التخصّصي ليمنع المساواة بين النظريتين، ويُجلي النظرية الثالثة، وهي نظرية الإمام المهدي عليه السلام.
النظرية الثالثة:
نظرية الإمامة، وأنَّ الإمام عليه السلام هو العلَّة المادّية الآخذ بجميع أفراد البشـرية إلى ما يُحقِّق لهم علَّتهم المادّية من خلال العلَّة الصوريَّة، ليُحقِّق علتهم الغائيَّة بلقاء الله التكاملي، دونما أن نقول: إنَّ العلَّة الفاعليَّة هنا هي نفس الإمام بمعزل عن الله تعالى، وإنَّما تبقى العلَّة الفاعليَّة هو الله تعالى دون غيره.
ولكي نستجلي الصورة أكثر نذكر خصائص نظريَّة العرفاء، وخصائص نظريَّة الإمامة.
فالعرفاء يقولون: إنَّ القطب هو قلب العالم، كما أنَّ قلب الإنسان هو قطبه، وهو الذي يُحرِّكه، ووجوده مرهون بالقلب، والقطب عندهم هو الإنسان الكامل.
نظريَّة العرفاء مفردتها الرئيسيَّة الحاجة، فالإنسان عندما يعترف بإرادته للحاجة - إنَّ تمام الكمال لا أن نطلب الماء بل أن نطلب العطش - فالإنسان إن ملك إرادة العطش فقد وصل، وأمَّا من يملك الماء فلا يصل، فإرادة العطش هي العنصر النافع دون إرادة الماء، وإرادة العطش تعني الارتباط بالقطب، فلا يمكن على وفق نظريَّتهم نيل السير التكاملي للإنسان لاّ أن يعيش هذه الإرادة.
أمَّا نظريَّة الإمامة فهي نظريَّة فيّاضية وفيّاضيتها للجميع، غاية الأمر أنَّ كلٌّ منّا يأخذ منها حسب إنائه(10)، فمن ليس لديه إناء أو ضاق إناؤه فيحرم بمقدار ذلك.
فعطاء الإمام عامٌّ، ولا يمكن الوصول إليه لاّ بهدايته، فلا مجال لوصولنا لأيِّ كمال لاّ عن طريق الارتباط بالإمام المهدي عليه السلام.
إن قيل: لماذا لا نرتبط بالله تعالى مباشرةً وهو يفيض علينا، مع اعتقادنا بأنَّ الله تعالى هو الفيّاض في الخلق؟
قلنا: إنَّ الله تعالى فيض لا متناهي، فلا بدَّ من وجود محلٍّ أوَّل يستقطب من الله تعالى هذا الفيض، ويكون مؤهَّلاً من هذا النمط من الفيّاضية من خلال السعة الوجودية والعلمية المؤهِّلة له لذلك، ليستقطب بها ذلك الفيض اللامتناهي، أمَّا عامَّة الناس التي تمسّهم الخطيئة فلا يمكن لهم تلقّي الفيض المباشر، فيتلقّونه من الإمام عليه السلام بقدر آنيتهم.
ثمّ إنَّ نظريَّة الإمامة تعني العصمة بخلاف القطب، فالإمام معصوم منصوب من قِبَل الله تعالى ظاهر معلن منه (عزَّ وجلَّ)، بخلاف القطب مضمر لا يُعرَف، فمستورية القطب ومعلومية الإمام وعصمته فارق جوهري بين هذا وذاك.
الأمر الثالث المفرَّق والأهمّ: أنَّ الإمام عليه السلام يملك مشروعاً، وليس مشروعه هداية فرد فحسب وإنَّما هداية كون، فهو يدفع بالكون باتِّجاه لقاء الله تعالى.
ومن هنا نشير إشارة نجعلها نافذة للبحث القادم إن شاء الله تعالى، فحيث إنَّنا انتهينا إلى أنَّ الإيمان بالغيب ضرورة، ووجود المعصوم ضرورة، ووجود المنهج ضرورة، وأنَّ المعصوم هو نظام خير لا شرَّ فيه وتكامل لا محيص عنه، لا بدَّ أن نؤمن بنظام الغيب بعد أن قبلنا أنَّ الأئمَّة اثنا عشر، وأنَّ هذه السلسلة تبدأ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنَّها تستمرُّ بعده من دون انقطاع، فلا بدَّ أن يفضي هذا الإيمان لا محالة إلى نظرية الغيب والإيمان به.
الهوامش:
(1) قال تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (النساء: 46)، وقال تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) (المائدة: 41)، وقال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) (الفتح: 15).
(2) التركيب الاتِّحادي هو أن يتحوَّل شيء في ذاته إلى أن يصير شيئاً آخر ويُكمِّل به ذاتاً واحدة، فيكون هناك أمر واحد، وهو عين كلّ واحد منهما وعين المركَّب، كالجنين إذا صار حكيماً. (الأسفار الأربعة 6: 283).
(3) عن عامر بن واثلة، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عشر قبل الساعة لا بدَّ منها: السفياني، والدجّال، والدخان، والدابَّة، وخروج القائم، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى عليه السلام، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر). (الغيبة للطوسي: 436/ ح 426).
(4) عن بريد عمير بن معاوية الشامي، قال: دخلت على عليّ بن موسى الرضا بمرو، فقلت له: يا بن رسول الله، روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: (إنَّه لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين)، فما معناه؟ قال: (من زعم أنَّ الله يفعل أفعالنا ثمّ يُعذِّبنا عليها فقد قال بالجبر، ومن زعم أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) فوَّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك)، فقلت له: يا بن رسول الله، فما أمر بين أمرين؟ فقال: (وجود السبيل إلى إتيان ما أُمروا به، وترك ما نُهوا عنه)، فقلت له: فهل لله (عزَّ وجلَّ) مشيَّه وإرادة في ذلك؟ فقال: (فأمَّا الطاعات فإرادة الله ومشيَّته فيها الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها، وإرادته ومشيَّته في المعاصي النهى عنها والسخط لها والخذلان عليه)، قلت: فهل لله فيها القضاء؟ قال: (نعم [ما] من فعل يفعله العباد من خير أو شرٍّ لاّ ولله فيه قضاء)، قلت: ما معنى هذا القضاء؟ قال: (الحكم عليهم بما يستحقّونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة). (عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 114/ ح 17).
(5) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 1: 110؛ بحار الأنوار 66: 292 و293.
(6) حديث متواتر عند الشيعة والسُّنَّة، راجع: الغدير للأميني 1: 12.
(7) كما يدَّعي أحمد الكاتب من أنَّ الفكرة المهدوية إنَّما نشأت في أوائل غيبة الإمام عليه السلام. (راجع: متاهات في مدينة الضباب: 20).
(8) منطقة الفراغ اصطلاح درج في أبحاث السيِّد الشهيد (قدّس سرّه) تعبيراً عن المتغيِّر، فيما درج تعبير الزمان والمكان عنه - أي المتغيِّر - عند السيِّد الخميني (قدّس سرّه).
(9) عن طلحة بن زيد، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: (العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، فلا تزيده سرعة السير من الطريق لاّ بعد). (من لا يحضره الفقيه 4: 401 و402/ ح 5864).
(10) قال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (الرعد: 17).