أبحاث العدد:
خلاصات بحوث العدد:
المسار:
الموعود » اعداد المجلة » العدد ٢ / ذو الحجة / ١٤٣٧ هـ
لتصفح المجلة بـ Flsh
لتحميل المجلة كـ Pdf
العدد 2 / ذو الحجة / 1437 هـ

المنقذ العالمي في المسيحية

المنقذ العالمي في المسيحية

د.علي الشيخ

تُعتَبر عقيدة مجيء المصلح العالمي في آخر الزمان من العقائد المشتركة بين الأديان السماوية، حيث يُعتَبر هذا المنجي أمل المؤمنين في هذه الأديان، وسيقوم عند ظهوره بنشـر المحبَّة والعدل في أرجاء الأرض، ويُطهِّرها من براثن الشرك والظلم والعدوان.
ومع أنَّ هذه العقيدة يتَّفق عليها أصحاب الديانات التوحيدية الثلاث، إلَّا أنَّ هناك اختلافاً في تفاصيل وجزئيات هذه العقيدة من دين لآخر، فكلُّ دين يذكر له علامات وأمارات وما سيفعله أثناء مجيئه، وكيفية محاربته للظالمين والكفرة وتحقيق رجاء وأمل أتباعه.
وعقيدة الرجاء المبارك أو عقيدة المجيء الثاني في المسيحية قريبة من عقيدة انتظار الموعود في الإسلام، وهي تعني ترقّب ظهور مصلح عالمي في آخر الزمان يقود الشعوب والأُمم نحو الإيمان والصلاح والعدل، فالمسيحيون ينتظرون بشوق كبير المجيء الثاني للمسيح عليه السلام الذي تناقلت أخباره أسفار العهد الجديد، وستكون بعد مجيئه الدينونة(1) والقيامة، وفي هذا البحث سنُسلِّط الضوء باختصار على عقيدة الرجاء المبارك وفق الرؤية المسيحية، ومع أنَّه لا يمكن تناول هذه العقيدة في المسيحية بكلِّ جوانبها ببحث مختصر كهذا، لذا سأُشير إلى أهمّ المرتكزات الأساسية لهذه العقيدة عبر نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: الأدلّة على مجيء المنجي في المسيحية:
يعتقد المسيحيون أنَّ المسيح عليه السلام سيعود في آخر الزمان، وتُسمّى هذه العقيدة في المسيحية (الرجاء المبارك)(2)، ويستدلُّ عليها النصارى بنصوص كثيرة من الكتاب المقدَّس وبالخصوص أسفار العهد الجديد، ولهم آراء ونظريات وفقاً للتفاسير المختلفة بين علماء الكتاب المقدَّس حول تلك النصوص، ومن تلك الآيات:
1 - تحدَّث سفر أعمال الرسل عن كيفية صعود المسيح عليه السلام إلى السماء، وذكر البشارة بمجيئه ثانيةً في آخر الزمان، يقول كاتب السفر: (وَلَـمَّا قَالَ هَذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالاَ: أَيُّهَا الرِّجَالُ الجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ)(3).
2 - ويتحدَّث المسيح عن مجيئه أيضاً مع تلاميذه وحواريه في إنجيل متّى حيث يقول: (وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ التَّلاَمِيذُ عَلَى انْفِرَادٍ قَائِلِينَ: قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هَذَا؟ وَمَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟ فَأَجَابَ يَسُوعُ: انْظُرُوا لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ، فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ المَسِيحُ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ...، وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلَامَةُ ابِنِ الْإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ، وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الْأَرِضِ وَيَبْصُرُونَ ابِنَ الْإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ)(4).
3 - يذكر مرقس في إنجيله حول مجيء المسيح الثاني في حواره مع تلاميذه وهو قريب ممَّا نقله متّى في إنجيله، فيقول نقلاً عن عيسى عليه السلام: (وَأَمَّا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ بَعْدَ ذَلِكَ الضِّيقِ فَالشَّمْسُ تُظْلِمُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَنُجُومُ السَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ، وَالْقُوَّاتُ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ)(5).
4 - وفي سفر رؤيا يوحنّا يذكر: (هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، نَعَمْ آمِينَ)(6).
وقد جاء في تفسير إنجيل مرقس ما نصّه: (في أعظم الضيق، عندما يزداد الشـرّ ويصل إلى ذروته، يقترب المسيح من العالم، وتراه كلُّ عين، وكما ارتفع سابقاً من الأرض سيرجع مكشوفاً لكلِّ أعين البشـر، فهو سيرجع بذات الطريقة الشخصية التي فارقهم بها، أي أكثر من مجرَّد رجوع روحي)(7).
وإنَّ تاريخ البشـرية لا ينتهي إلَّا بعد مجيء المسيح عليه السلام، فيُصـرِّحون بأنَّ: (تاريخ العالم سينتهي بمجيئه الثاني في مجد وجلال ليعلن قوَّته الإلهية وسلطانه فوق كلّ قوات الظلمة)(8).
وقد ورد في الروايات الإسلاميَّة أيضاً حقيقة مجيء المسيح عليه السلام بعد ظهور الإمام المهدي عليه السلام، ومنها ما ورد عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم)(9)، وأيضاً يصف النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم نزول عيسى عليه السلام بقوله: (فبينما هو كذلك، إذ هبط عيسى بن مريم عليه السلام بشـرقي دمشق، عند المنارة البيضاء، بين مهرودتين(10)، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدَّر منه جمال كاللؤلؤ...، فيطلبه - أي الدجّال - حتَّى يدركه بباب لِدٍّ فيقتله)(11).
النقطة الثانية: العلامات قبل مجيء المسيح عليه السلام:
أشارت أسفار العهد الجديد إلى علامات وآيات كثيرة تدلُّ على قرب مجيء المسيح عليه السلام، وقد أخبر كما تنقل الأناجيل عن بعض تلك الأحداث والعلامات، التي هي مقدَّمات لمجيئه، ومن تلك العلامات:
أوَّلاً: كثرة الحروب والمجاعة والزلازل:
يقول لوقا في إنجيله نقلاً عن المسيح عليه السلام حول هذه العلامة: (فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَقَلاَقِلٍ فَلاَ تَجْزَعُوا لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوَّلاً، وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ المُنْتَهَى سَرِيعاً، ثُمَّ قَالَ لَهمْ: تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ وَتَكُونُ زَلاَزِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ، وَتَكُونُ مَخَاوِفُ وَعَلاَمَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنَ السَّمَاءِ)(12).
ثانياً: خراب الهيكل(13):
وهي أيضاً من العلامات التي أشار إليها المسيح عليه السلام قبل مجيئه، حيث يقول متّى في إنجيله:( ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَمَضَـى مِنَ الهَيْكَلِ فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ لِكَيْ يُرُوهُ أَبْنِيَةَ الهَيْكَلِ. فَقَالَ لهُمْ يَسُوعُ: أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هَذِهِ؟ اَلحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ هَهُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ)(14).
ثالثاً: معركة هَرْمَجِدُّون:
وهي من أهمّ وأخطر العلامات التي تسبق المجيء الثاني للمسيح عليه السلام، كما يعتقد النصارى، وقد أشار سفر رؤيا يوحنّا إلى هذه المعركة، بقوله: (وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ الهَيْكَلِ قَائِلاً لِلسَّبْعَةِ المَلاَئِكَةِ: امْضُوا وَاسْكُبُوا جَامَاتِ غَضَبِ اللهِ عَلَى الأَرْضِ...، ثُمَّ سَكَبَ المَلاَكُ السَّادِسُ جَامَهُ عَلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ الْفُرَاتِ، فَنَشِفَ مَاؤُهُ لِكَيْ يُعَدَّ طَرِيقُ المُلُوكِ الَّذِينَ مِنْ مَشْـرِقِ الشَّمْسِ. وَرَأَيْتُ مِنْ فَمِ التِّنِّينِ، وَمِنْ فَمِ الْوَحْشِ، وَمِنْ فَمِ النَّبِيِّ الْكَذَّابِ، ثَلاَثَةَ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ شِبْهَ ضَفَادِعَ، فَإِنَّهُمْ أَرْوَاحُ شَيَاطِينَ صَانِعَةٌ آيَاتٍ، تَخْرُجُ عَلَى مُلُوكِ الْعَالَمِ وَكُلِّ المَسْكُونَةِ لِتَجْمَعَهُمْ لِقِتَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، يَوْمِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ...، فَجَمَعَهُمْ إِلَى المَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ (هَرْمَجِدُّونَ))(15).
ويعتقد النصارى أنَّ هناك معركة مصيرية تجري بين معسكر الخير ومعسكر الشـرِّ، وممثِّل الخير في هذه المعركة هو المسيح والملائكة والمؤمنون، وممثِّل الشـرِّ هم ملوك الأرض والكفّار، وهذه المعركة تدور رحاها على أرض فلسطين وبالتحديد في هرمجدّون، وينقل سفر الرؤيا أيضاً عن هذه الحرب الأخيرة:
(ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِيناً وَصَادِقاً، وَبِالْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ، وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلَّا هُوَ، وَهُوَ مُتَسَـرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ (كَلِمَةَ اللهِ). وَالأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بِيضٍ، لاَبِسِينَ بَزّاً أَبْيَضَ وَنَقِيّاً. وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْـرِبَ بِهِ الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَـرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكْتُوبٌ: (مَلِكُ المُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ) وَرَأَيْتُ مَلاَكاً وَاحِداً وَاقِفاً فِي الشَّمْسِ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً لِجَمِيعِ الطُّيُورِ الطَّائِرَةِ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ: هَلُمَّ اجْتَمِعِي إِلَى عَشَاءِ الْإِلَهِ الْعَظِيمِ، لِكَيْ تَأْكُلِي لُحُومَ مُلُوكٍ، وَلُحُومَ قُوَّادٍ، وَلُحُومَ أَقْوِيَاءَ، وَلُحُومَ خَيْلٍ وَالجَالِسِينَ عَلَيْهَا، وَلُحُومَ الْكُلِّ حُرّاً وَعَبْداً صَغِيراً وَكَبِيراً. وَرَأَيْتُ الْوَحْشَ وَمُلُوكَ الأَرْضِ وَأَجْنَادَهُمْ مُجْتَمِعِينَ لِيَصْنَعُوا حَرْباً مَعَ الجَالِسِ عَلَى الْفَرَسِ وَمَعَ جُنْدِهِ، فَقُبِضَ عَلَى الْوَحْشِ وَالنَّبِيِّ الْكَذَّابِ مَعَهُ، الصَّانِعُ قُدَّامَهُ الآيَاتِ الَّتِي بِهَا أَضَلَّ الَّذِينَ قَبِلُوا سِمَةَ الْوَحْشِ وَالَّذِينَ سَجَدُوا لِصُورَتِهِ، وَطُرِحَ الاِثْنَانِ حَيَّيْنِ إِلَى بُحَيْرَةِ النَّارِ المُتَّقِدَةِ بِالْكِبْرِيتِ، وَالْبَاقُونَ قُتِلُوا بِسَيْفِ الجَالِسِ عَلَى الْفَرَسِ الخَارِجِ مِنْ فَمِهِ، وَجَمِيعُ الطُّيُورِ شَبِعَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ)(16).
وهرمجدّون كلمة عبرية مكوَّنة من مقطعين أو لفظين (هَرْ) ومعناه تل أو جبل، و(مجدّو) وهو اسم وادٍ أو سهل صغير يقع شمال فلسطين(17)، وقال بعضهم: (هرمجدّون تل في فلسطين يشـرف على وادي يزرعيل المشهور في التاريخ بموقعه الاستراتيجي الحربي، وقيل: إنَّ هرمجدّون تبعد (20) ميلاً جنوب شرق حيفا)(18).
وقد تمَّ تأليف كتب كثيرة حول هذه المعركة العظيمة وأحداثها، وقد اتَّفقت المصادر المسيحية والإسلاميَّة على عنف هذه المعركة، فالمسيح يُصـرِّح بأنَّها معركة لا مثيل لها في التاريخ، ويُطلَق عليها سفر الرؤيا: (وليمة الله الكبرى)، وينقل مسلم في صحيحه عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم حول هذه المعركة، قوله: (لا يُرى مثلها) أو (لم يُرَ مثلها)(19)، وأيضاً ينقل عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، قوله: (فيقتلون شهراً لا يكلُّ لهم سلاح ولا لكم، ويقذف الطير عليكم وعليهم، فإذا كان رأس الشهر، قال ربّكم: اليوم أسلُّ سيفي فأنتقم من أعدائي، وأنصـر أوليائي، فيقتتلون مقتلة ما رئي مثلها قطّ، متى ما تسير الخيل إلَّا على الخيل، وما يسير الرجل إلَّا على الرجل)(20).
وتقول الكاتبة الأمريكية هاليسل في كتابها (النبوءة والسياسة): (إنَّنا نحن المسيحيين نؤمن أنَّ تاريخ الإنسانية سوف ينتهي بمعركة تُدعى هرمجدّون، وأنَّ هذه المعركة سوف تُتوَّج بعودة المسيح...)، وتضيف: (اقتناعاً منّا بأنَّ هرمجدّون نووية لا مفرَّ منها، بموجب خطَّة إلهية، فإنَّ العديد من الإنجيليين المؤمنين بالتدبيرية، ألزموا أنفسهم سلوك طريق مع إسرائيل، يؤدّي بصورة مباشرة إلى محرقة أشدّ وحشيةً وأوسع انتشاراً من أيَّة مجزرة يمكن أن يتصوَّرها عقل هتلر)(21).
رابعاً: يكون ظهوره مفاجئاً:
من الأُمور التي أكَّد عليها المسيح مراراً حسب الأناجيل أنَّ هذا الظهور والمجيء الثاني سيكون مفاجئاً وغير معلوم زمانه، فعندما سأله التلاميذ (الحواريّون) عن ذلك التاريخ لمجيئه، قال المسيح عليه السلام: (وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ وَلاَ المَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ الاِبْنُ إلاَّ الأبُ. اُنْظُرُوا، اسْهَرُوا وَصَلُّوا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْتُ، كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ تَرَكَ بَيْتَهُ وَأَعْطَى عَبِيدَهُ السُّلْطَانَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ وَأَوْصَى الْبَوَّابَ أَنْ يَسْهَرَ. اسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ أَمَسَاءً أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ أَمْ صَبَاحاً. لِئَلَّا يَأْتِيَ بَغْتَةً فَيَجِدَكُمْ نِيَاماً، وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ: اسْهَرُوا)(22).
فالمسيح لم يعطِ لتلاميذه تاريخاً محدَّداً لمجيئه، بل أمرهم أن يكونوا على استعداد دائم لهذا المجيء.
النقطة الثالثة: أعمال المسيح بعد مجيئه الثاني:
الظاهر من آيات أسفار العهد الجديد أنَّ المسيح عليه السلام عند مجيئه الثاني يأتي بسلطان عظيم ومجد بهي، ومعه الملائكة الأطهار، وأنَّه سيجازي كلَّ واحد بأعماله، فقد جاء في سفر رؤيا يوحنّا: (وَهَا أَنَا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لِأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ)(23)، وأيضاً تكون نهاية الدجّال على يديه، وكذلك كلّ الذين يكونون مع الدجّال.
وقد ورد في أحاديث عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ عيسى عليه السلام سينزل في نهاية الأيّام ليقتل الدجّال، والروايات بهذا الخصوص كثيرة، وتقدَّم نقل بعضها في النقطة الأُولى.
وأيضاً فإنَّ المسيح بعد مجيئه وقتله الكذّاب الدجّال، سيقوم بإنقاذ المؤمنين من هذه الأحداث والمعارك المهلكة، وهو ما يُعرَف بعقيدة (الاختطاف)، بل وحتَّى الموتى سيُبعَثون من قبورهم أحياءً ويصعدون لمقابلة المسيح على السحاب، بل الأحياء ليبتعدوا عن الدجّال، ويستدلّون على هذه الواقعة بنصوص من العهد الجديد، منها ما جاء في رسالة بولس الى أهل تسالونيكي حيث يقول: (إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذَلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ سَيُحْضِـرُهُمُ اللهُ أَيْضاً مَعَهُ. فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هَذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، وَالأَمْوَاتُ فِي المَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الهَوَاءِ، وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ، لِذَلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِهَذَا الْكَلاَمِ)(24).
الألفية السعيدة:
هذه من أهمّ الأماني التي ينتظر المسيحيون تحقّقها بعد مجيء المسيح الثاني، وقضائه على الأشرار، ومعناها أنَّ العالم سيعيش فترة عدل وسلام ورفاهية، تستمرُّ مدَّة ألف عام، ويستدلّون على ذلك بالنصِّ الوارد في سفر رؤيا يوحنّا، وهو: (وَرَأَيْتُ عُرُوشاً فَجَلَسُوا عَلَيْهَا، وَأُعْطُوا حُكْماً، وَرَأَيْتُ نُفُوسَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ شَهَادَةِ يَسُوعَ وَمِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ اللهِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْجُدُوا لِلْوَحْشِ وَلاَ لِصُورَتِهِ، وَلَمْ يَقْبَلُوا السِّمَةَ عَلَى جِبَاهِهِمْ وَعَلَى أَيْدِيهِمْ، فَعَاشُوا وَمَلَكُوا مَعَ المَسِيحِ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الأَمْوَاتِ فَلَمْ تَعِشْ حَتَّى تَتِمَّ الأَلْفُ السَّنَةِ، هَذِهِ هِيَ الْقِيَامَةُ الأُولَى)(25).
ويعيش المؤمنون فترة الألف عام من السلم والخير الكثير، أي الجنَّة الأرضية، ويعتقد البعض بأنَّها القيامة الأُولى وهي قيامة لأجساد المؤمنين الذين ماتوا قبل مجيء المسيح عليه السلام، ليملكوا وكذلك معهم المؤمنون الأحياء، وأمَّا عن هذه الفترة فقد ذكر سفر أشعيا بعض أوصافها، والتي تشبه إلى حدٍّ كبير ما ذُكِرَ في التراث الإسلامي من روايات تتحدَّث عن فترة ما بعد ظهور الإمام المهدي عليه السلام، حيث يقول أشعيا: (وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ المَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ المَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ. وَلَذَّتُهُ تَكُونُ فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ، فَلاَ يَقْضِـي بِحَسَبِ نَظَرِ عَيْنَيْهِ، وَلاَ يَحْكُمُ بِحَسَبِ سَمْعِ أُذُنَيْهِ، بَلْ يَقْضِـي بِالْعَدْلِ لِلْمَسَاكِينِ، وَيَحْكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِـي الأَرْضِ، وَيَضْـرِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ، وَيُمِيتُ المُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ. وَيَكُونُ الْبِرُّ مِنْطَقَهَ مَتْنَيْهِ، وَالأَمَانَةُ مِنْطَقَةَ حَقْوَيْهِ. فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الجَدْيِ، وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالمُسَمَّنُ مَعًا، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. وَالْبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلاَدُهُمَا مَعًا، وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْنًا. وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوَانِ(26). لاَ يَسُوؤُونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي، لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ)(27).
وقد وردت روايات كثيرة تتطابق مع هذه الأوصاف للشـيء الذي ذكرته الأسفار، منها ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، حيث قال: (يملك المهدي مشارق الأرض ومغاربها، وترعى الشاة والذئب في مكان واحد، ويلعب الصبيان بالحيّات والعقارب ولا تضـرّهم شيء، ويذهب الشرُّ ويبقى الخير)(28).
وقد ورد عن الإمام الحسن عليه السلام: (تصطلح في ملكه السباع، وتخرج الأرض نبتها، وتنزل السماء بركتها، وتظهر له الكنوز، يملك مابين الخافقين، فطوبى لمن أدرك أيّامه وسمع كلامه)(29).

المصادر والمراجع:
(1) الكتاب المقدَّس.
(2) عمر أُمَّة الإسلام: أمين محمّد جمال/ المكتبة التوفيقية للنشر والتوزيع/ 1996م.
(3) صحيح البخاري: البخاري/ طبعة عام 1401هـ/ دار الفكر/ بيروت.
(4) عقيدة المسيح الدجّال في الأديان: سعيد أيّوب/ دار البيان/ 1413هـ/ قم.
(5) المسيح المنتظر ونهاية العالم: عبد الوهّاب عبد السلام طويلة/ دار السلام للطباعة والنشـر/ 2013م.
(6) يوم الخلاص: كامل سليمان/ ط 1993م/ الأعلمي للمطبوعات/ بيروت.
(7) كنز العمّال: المتَّقي الهندي/ ط 5/ 1405هـ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
(8) بحار الأنوار: العلَّامة المجلسـي/ ط 1/ 1424هـ/ دار إحياء التراث العربي.
(9) قاموس الكتاب المقدَّس: نخبة من المؤلِّفين/ دار الکتاب المقدَّس/ 1996م.
(10) صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ ت محمّد فؤاد عبد الباقي/ ط 1/ 1419هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
(11) العين: خليل الفراهيدي/ ط 2/ 1409هـ/ مؤسَّسة دار الهجرة/ قم.

الهوامش:
(1) الدينونة: هو يوم الربّ، ويشار به إلى الأزمنة الأخيرة، وهو اليوم الذي يعلن فيه يهوه ذاته.
(2) الرجاء المبارك ورد في رسالة بولس الرسول إلى تيطس: 2 - 13: (منتظرين الرجاء المبارك لظهور مجد الله العظيم ومخلِّصنا يسوع المسيح).
(3) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ سفر أعمال الرسل 1: 9 - 11.
(4) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ إنجيل متّى 24: 30.
(5) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ إنجيل مرقس 13: 24 - 26.
(6) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ سفر رؤيا يوحنّا 1: 7.
(7) تفسير إنجيل مرقس: 158.
(8) قاموس الكتاب المقدَّس: 869.
(9) صحيح البخاري 4: 205.
(10) أي غيمتين ملوَّنتين.
(11) يوم الخلاص: 289.
(12) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ إنجيل لوقا 21: 8 - 11.
(13) الهيكل أو هيكل سليمان أو معبد القدس حسب التسمية اليهودية المعروف باسم الهيكل الأوَّل.
(14) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ إنجيل متّى 24: 1 - 2.
(15) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ سفر رؤيا يوحنّا 16: 12 - 16.
(16) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ سفر رؤيا يوحنّا: 19.
(17) المسيح المنتظر ونهاية العالم لعبد الوهّاب طويلة: 265.
(18) عقيدة المسيح الدجّال في الأديان لسعيد أيّوب: 218.
(19) صحيح مسلم 25: 18.
(20) كنز العمّال/ الحديث (39652).
(21) عمر أُمَّة محمّد لأمين محمّد جمال: 30.
(22) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ إنجيل مرقس 13: 32.
(23) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ سفر رؤيا يوحنّا 22: 12.
(24) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ رسالة بولس إلى أهل تساولنيكي الأُولى 4: 14 - 17.
(25) الكتاب المقدَّس/ العهد الجديد/ سفر رؤيا يوحنّا 20: 4.
(26) الأُفعوان: ذكر الأفعى، وهي حيَّة رقشاء طويلة العنق عريضة الرأس، لا ينفع منها رقية ولا ترياق، وربَّما كانت ذات قرنين. (العين للفراهيدي 2: 260/ مادَّة فعو).
(27) الكتاب المقدَّس/ العهد القديم/ سفر أشعيا 11: 1 - 9.
(28) يوم الخلاص: 317.
(29) بحار الأنوار 52: 280.

العدد ٢ / ذو الحجة / ١٤٣٧ هـ : ٢٠١٦/١٠/٠٢ : ٦.٢ K : ٠
: د. علي الشيخ
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

أبحاث العدد: