أبحاث العدد:
خلاصات بحوث العدد:
المسار:
الموعود » اعداد المجلة » العدد ٣ / جمادى الآخرة / ١٤٣٨ هـ
لتصفح المجلة بـ Flsh
لتحميل المجلة كـ Pdf
العدد 3 / جمادى الآخرة / 1438 هـ

إمامة الإمام المهدي عليه السلام بين الوجوب العقلي والنصّ

إمامة الإمام المهدي عليه السلام بين الوجوب العقلي والنصّ

مرتضى علي الحلّي

تَمهيدٌ مَفاهيمي:
إنَّ مِنْ المُتسالمِ عليه في عِلمِ الكلامِ والعقيدةِ عندَ عُلماءِ ومتكلِّمي مَدرسةِ أهلِ البيتِ المَعصومين عليهم السلام أنَّ الإمامةَ هي أَصلٌ أَصيلٌ مِنْ أُصولِ المَذهبِ الاثني عشـري، وتَرتبَطُ ارتباطاً مَكيناً بأصالةِ الاعتقادِ بالتوحيد والعَدلِ الإلَهييَن يَقيناً، فضلاً عن ارتباطها بحِكمةِ اللهِ تعالى في أفعالهِ المُعلَّلَةِ بالأغراضِ، والمَقاصدِ القويمةِ، و ببعثةِ الأنبياءِ والرُسلِ. ما جَعلَ أصالةَ الإمامةِ الحَقَّةِ، تكتَسبُ مَعقوليتها وشرعيتها مِنْ نفسِ أصالةِ العدلِ الإلهي، وحِكمةِ اللهِ تعالى في خَلقهِ مُطلقاً، تكويناً وتشـريعاً، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ( الحديد: 25).
(رَوى هُشامُ بن الحَكم: سألَ الزنديقُ الذي أتى أبا عبدِ الله عليه السلام، فقال: مِنْ أين أثبت أنبياء ورسلاً؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: «إنّا لـمَّا أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خَلَقَ، وكان ذلك الصانعُ حَكيماً لم يجز أنْ يُشاهده خَلقه ولا يلامسوه، ولا يُباشرهم ولا يُباشروه، ويحاجّهم ويحاجّوه، فثبتَ أنَّ له سفراءَ في خَلقه، يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم، وفي تركه فناؤهم، فثبتَ الآمرون والناهون عن الحَكيم العَليم في خَلقه، وثبتَ عند ذلك أنَّه له معبِّرين، وهم الأنبياءُ وصفوته في خلقه، حُكماء مؤدَّبين بالحكمةِ، مبعوثين بها، غير مشاركين للناسِ في أحوالهم، على مشاركتهم لهم في الخَلقِ والتركيبِ، مؤيَّدين مِنْ عندِ الحكيمِ العليمِ بالحكمةِ والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى...، فلا تخلو أرضُ الله مِنْ حجَّةٍ، يكون معه علمٌ يدلُّ على صدقِ مَقالِ الرسولِ، ووجوبِ عدالته)(1).
والإمامُ المَنصوبُ هو غايةٌ من غاياتِ بعثةِ الأنبياءِ والرُسلِ، فكما يكونُ مَقامُ النبيِّ في بيانِ التنزيلِ، فكذلك يكونُ مَقامُ الإمامِ المَعصومِ في حفظِ التنزيل والعلمِ بالتأويل، ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾ (الحديد: 9)، ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ (آل عمران: 7).
فلو نظرنا في حَراكِ العقلِ الإنساني ومَدركاته نظرياً وعملياً في قبوله لأصالة الإمامةِ اعتقاداً وإذعاناً ، لوجدناه يَرتكزُ على مُستندٍ مَتينٍ في جوهرهِ وآثارهِ ، بحيث لم تكن ركيزةُ اللطفِ التي ارتكزَ عليها علماءُ الكلامِ في بناءِ مَنظومةِ العقيدة بالإمامةِ الواجبةِ والمَنصوصةِ والمَعصومةِ، قد أتَتْ مِنْ فَراغٍ، أو سَدّاً لثغرةٍ قد شُكَّ فيها، ووقعَ فيها اختلافٌ، كما هو معلومٌ في تاريخِ العقيدةِ الإسلاميَّةِ.
وقد بيَّنَ ذلك المُستندَ المتينَ السيِّدُ المرتضـى عَلمُ الهُدى رحمه الله في كتابهِ الشهير (الشافي في الإمامةِ)، حيثُ ذكرَ: (فالإمامةُ عندنا لطفٌ في الدينِ، والذي يدلُّ على ذلك أنّا وجَدنا أنَّ الناسَ متى خلوا مِنْ الرؤساء، ومَنْ يَفزعون إليه في تدبيرهم وسياستهم، اضطربتْ أحوالهم، وتَكدَّرَتْ عيشتهم، وفشا فيهم فعلُ القبيح، وظهرَ منهم الظلمُ والبغي، وأنَّهم متى كانَ لهم رئيسٌ أو رؤساءٌ يرجعون إليهم في أُمورهم، كانوا إلى الصلاحِ أقرب، ومِنْ الفساد أبعد، وهذا أمرٌ يَعمُّ كُلَّ قَبيلةٍ وبلدةٍ وكُلَّ زمانٍ وحالٍ، فقد ثبتَ أنَّ وجودَ الرؤساءِ لطفٌ، بحسب ما نذهب إليه)(2).
بل جاء مِنْ نَفسِ حَراكِ العقلِ الإنساني، الذي استقلَّ في ادراكاته وقدراته وحُجّيته، وتحسينه وتقبيحه، لدرجةٍ ارتفعَ بها إلى موافقةِ الشـرعِ الحَكيم له، وإقراره بما يكتشفه مِنْ أدلَّةٍ وأحكامٍ وآثارٍ، على مستوى العقيدةِ والشريعةِ مَعاً، كما بيَّنَ ذلك سماحةُ السيِّد مُحَمَّد سعيد الحكيم (دام ظلُّه الوارف)، في كتابه (المُحكَمِ في أُصولِ الفقهِ)، بقوله: (إنَّ لزوم حُكمِ الشارعِ الأقدسِ على طبقِ مُقتضـى حُكم العقلِ، يبتني على وجوبِ اللطفِ منه تعالى عقلاً، بحفظِ مُقتضـى حُكم العقلِ تشـريعاً، وذلك لعدمِ كفاية الداعوية العقلية غالباً في الجري على مُقتضـى حُكم العقلِ، لمزاحمتها بالدواعي الأُخرى، التي هي أقوى منها في حقِّ أكثرِ الناسِ، فيجبُ على الشارعِ، لحفظِ مقتضياتِ الأحكامِ العقليةِ، جَعلَ الحُكمِ على طبقها، لتتأكَّدَ الداعويةُ العقليةُ بالداعويةِ الشـرعيةِ، حيث يتسنّى بجعلِ الحُكمِ الشـرعي الجريَ على مُقتضاه لأجله تعالى، والعمل لحسابهِ، لكونه المُنعم المَالك الكامل القادر)(3).
وإنَّ واحدةً مِنْ إبداعاتِ العقلِ الإنساني في علمِ الكلامِ والعقيدةِ، أنَّه قد أدرَكَ حقيقةَ الترابطِ والانتظامِ بين أُصول الدين الإسلامي نفسها، وقد تجلَّتْ هذه الإبداعات في عمليَّةِ التنظيرِ في البحثِ العقلي والإثباتي لأصالةِ الإمامةِ في مَدرسةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام المعصومين، ووجوبها على اللهِ تعالى عَقلاً، تحصيلاً للغرضِ الذي جُعِلَتْ من أجله.
لذا إنَّ أوَّلَ ما نَطقَ به العقلُ القويمُ في هذا البابِ هي مسألةَ أنَّ نَصب الإمامِ هو واجبٌ على اللهِ تعالى عَقلاً، وفي هذه المسألةِ اختلفتْ أفهام عُلماء الكلامِ بعد إذعانهم بوجوبِ وجودِ الإمامِ، ولم ينكر أحدٌ أصلَ الوجوبِ إلَّا مَنْ شَذَّ مِنْ بعضِ المُعتزلة والخوارجِ، فقد حكى العلَّامةُ الحلّي رحمه الله هذا الاختلافَ في كتابهِ (المَسلكُ في أُصولِ الدين)، وقال:
(واعلمْ أنَّ الناسَ اختلفوا في وجوبِ الإمامةِ على ثلاثةِ أقوالٍ: فمنهم مَنْ لم يُوجبها أصلاً، وهم الخوارج مُطلقاً، والأصمّ - من المعتزلة - بتقدير أنْ لا تظهر الفتنُ، ومنهم من أوجبها عقلاً، ومنهم مَن أوجبها سمعاً. و الموجبون لها عقلاً اختلفوا على قولين: فمنهم من أوجبها دفعاً للضـررِ، فأوجبَ نَصبَ الإمامِ بهذا الاعتبار على المُكلَّفين، ومنهم مَنْ أوجبها لكونها لطفاً في أداء الواجباتِ واجتنابِ المُقبَحاتِ، فأوجبَ نَصبَ الإمامِ بهذا الاعتبار على الله سبحانه وتعالى، والأوَّلُ هو مَذهب النظّام والجاحظ والخيّاط وأبي الحُسين البصري، والثاني مَذهب الإماميَّة، وهو الحقُّ)(4).
وإنما تنازعوا في كيفيَّة هذا الوجوب ومُحدِثه، فـ (أصحاب الحديث والأشعرية قالوا: إنَّه واجبٌ سمعاً لا عقلاً، وقالتْ الإماميَّة: إنَّه واجبٌ عقلاً، وقال آخرون: إنَّه واجبٌ على العقلاء)(5)، وقد علَّقَ الشيخُ جَعفرُ السبحاني على هذا الاختلافِ والتنازع بين متكلِّمي المسلمين، في كيفيَّةِ وجوبِ نَصبِ الإمامِ، بعد التسليمِ بأصلِ الوجوبِ، ما نصّه:
(ثمّ إنَّ اختلاف المُسلمين في كونِ النَصبِ فرضاً على اللهِ أو على الأُمَّةِ يَنجمُ عن اختلافهم في حقيقةِ الخلافةِ والإمامةِ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمَنْ ينظرُ إلى الإمامِ بوصفه رئيس دولةٍ، ليس له وظيفة إلَّا تأمينُ الطرقِ والسُّبُلِ، وتوفيرُ الأرزاق، وإجراءِ الحدودِ، والجهادِ في سبيل الله، إلى غير ذلك ممَّا يقومُ به رؤساءُ الدولِ بأشكالها المختلفة، فقد قال بوجوب نصبه على الأُمَّة، إذ لا يُشتَرطُ فيه من المواصفاتِ إلَّا الكفاءةُ والمَقدرةُ على تدبيرِ الأُمورِ، وهذا ما يمكنُ أنْ تقومَ به الأُمَّةُ الإسلاميَّةُ. وأمَّا على القولِ بأنَّ الإمامةَ استمرارٌ لوظائفَ الرسالةِ - لا لنفس الرسالة فإنَّ الرسالةَ والنبوَّةَ مختومتان بالتحاق النبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيقِ الأعلى -، فمِنْ المُتَّفقُ عليه أنّ تعهدَ هذا الأمر يتوقَّفُ على توفّرِ صلاحياتٍ عاليةٍ لا ينالها الفردُ إلَّا إذا حَظيَ بعنايةٍ إلهيةٍ خاصَّةٍ، فيخلفُ النبيَ في علمه بالأُصولِ والفروعِ، وفي سدِّ جميعِ الفراغاتِ الحاصلةِ بموتهِ، ومِنْ المعلومِ أنَّ هذا الأمرَ لا تتعرَّفُ عليه الأُمَّةُ إلَّا عن طريقِ الرسولِ، ولا يتوفَّرُ وجوده إلَّا بتربيةٍ غيبيةٍ وعنايةٍ سماويةٍ خاصَّةٍ)(6).
ولم يقتصـر إدراكُ وجوبِ نَصبِ الإمامِ أصالةً على العقلِ، بل أنَّ العقلاءَ أنفسهم، قد أدركوا هذا المعنى في تطبيقاته موضوعاً وآثاراً، بحيث تبانوا على أنَّ وجودَ الإمامِ أمرٌ ضروري، لِما له مِنْ قدرةٍ على مَنعِ الناسِ مِنْ التنازعِ والتدافعِ فيما بينهم، بصدِّهم عن المعاصي والفسادِ، وتحضيضهم على فعلِ الطاعاتِ، والتناصفِ، والإصلاحِ، (فلا أحدٌ مِنْ العقلاءِ إلَّا وهو عالمٌ بأنَّ وجودَ الرؤساء وانبساط أيديهم مُقلِّلٌ لوقوع الظلمِ والفسادِ، والبغي والعدوانِ، أو رافعٌ لذلك)(7).
وعلى أساسِ ما تقدَّم مِنْ أنَّ العقلَ الإنساني قد أدركَ حقيقةَ وضرورةَ ووجوبَ نصبِ الإمامِ على الله تعالى، وإنْ اختلفتْ الأفهام في كيفيَّة هذا الوجوب ومُحدِثه، وقد أذعنَ العقلاءُ في تبانيهم، عَملاً بذلك، فيتبيَّنُ أنَّ مُرتكزَ اللطفِ الإلهي، الذي قامتْ عليه أصالةُ الإمامة جَعلاً ونَصباً واعتقاداً، يقتضي ضرورةَ خَلقِ وإيجاد الإمام المعصومِ وتمكينه بالقدرةِ والعِلمِ، والنصِّ عليه باسمه ونسبه، وهذا ما قد فعله اللهُ (عزَّ وجَلَّ)، في نصِّه وذكره لإمامة أئمَّة أهل البيت المعصومين عليهم السلام وعصمتهم، في القرآن الكريم: ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33).
ممَّا يعني أنَّ الإمامَ المعصومَ واجبٌ وجوده ونصبه، والنصُّ عليه شخصاً وهويةً، وبالتالي سيتحمَّلُ الإمامُ المنصوبُ، تكليفه بوصفه إماماً للناسِ أجمعين، ممَّا يستدعي ذلك جعل المُذعنين بعقيدة الإمامِ ووجوده الشـريف، على عهدةِ المسؤوليةِ العقيديةِ والشـرعية، في نمطِ التعاطي معه، من جهةِ التكاليفِ العقيديةِ والشـرعيةِ على حدٍّ سواء، بلزوم قبول الأوامر والامتناع عن النواهي، وما يحصلُ مِنْ انكارٍ لهذه الركيزةِ البُنيوية اللطفيَّة - في حدِّ نفسها، أو فيما يترشَّح منها على الناسِ آثاراً وألطافاً -، سببه عدم إيمانِ ويقينِ نفسِ المُتلطَّفِ بهم مِنْ المُكلَّفين، وإلَّا فالعقل قد أذعنَ وآمنَ بالركيزة ووافقه العقلاءُ في الجَري العملي على ذلك، ومِنْ هنا وَجَبَ تحصيلُ اليقينِ في العَقيدةِ، وأُصولها الدينية.
وتفصيل الكلام يقع في مبحثين:
المبحثُ الأوَّلُ:
أدِلَّةُ الوجوبِ العقلي على إمامةِ الإمامِ المَهدي عليه السلام
الدليل الأوَّل: دليلُ اللُطفِ:
اللطفُ لُغةً: هو إيصالُ ما تحبّه إلى الآخرِ برفقٍ، تقولُ: لطُفَ اللهُ لكَ، أي أوصلَ إليكَ ما تحبّه برفقٍ، فاللطيفُ هو صفةٌ من صفات الله تعالى واسمُ من أسمائه، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجّ: 63)، وقال: ﴿اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ (الشورى: 19)، واللَّطِيف هو الذي اجتمع فيه الرِّفق في الفعلِ والعلمُ بدقائقَ المَصالحِ وإيصالها إلى مَنْ قدَّرها له مَنْ خَلقه. يُقالُ: لَطفَ به وله، بالفتح، يَلْطُف لُطْفاً إذا رَفَقَ به(8).
مفهوم اللطفِ في علمِ الكلام:
هو أمرٌ يُحدِثه اللهُ تعالى في العبادِ، يكونُ الإنسانُ المُكلَّفُ معه أقربَ إلى فعلِ الطاعةِ وأبعدَ عن فعلِ المعصيةِ، ولم يكن لهذا الأمر المُحدَث حظٌّ أو نصيبٌ في بلوغِ حالِ المُكلَّفِ إلى التفويضِ وسلب الاختيارِ منه، ذلك لأنَّ التفويضَ ليس لطفاً وسلبُ الاختيارِ يُنافي التكليفَ. أو اللطفُ هو ما يكون المُكلَّفُ به أقربَ إلى فعلِ الطاعةِ وترك المعصيةِ، ولا يبلغ الإلجاء وهو الفعلُ بإكراهٍ واضطرارٍ، وليس له حظٌّ من التمكين (التفويض)، (واللطفُ هو واجبٌ في الحِكمةِ الإلهيَّةِ وإلَّا لَزِمَ مُناقضةُ الحَكيم غرضه)(9).
بيانُ وجوبِ اللطفِ على اللهِ تعالى عَقلاً:
مِنْ المَقطوع به عقلاً في علمِ الكلامِ في مَدرسة الإماميَّة الاثني عشـرية، أنَّ اللطفَ واجبٌ عقلاً على اللهِ تعالى، إذ به يُحَصِّلُ الإنسانُ المُكلَّفُ غرضه، ولو لم يلطف اللهُ تعالى بعباده، للَزمَ نقضُ الغرضِ، ذلك أنَّ اللهَ تعالى إذا عَلِمَ أنَّ المُكلَّفَ لا يطيعُ أوامره إلاَّ بإحداثِ اللطفِ له أو به، فلو كلَّفَ اللهُ تعالى المُكلَّفين من دونِ أنْ يَلطفَ بهم أو لهم، كان حاشاه ناقضاً غرضه، لما ثَبتَ مِنْ أنَّ أفعاله سبحانه مُعللَّةٌ بالأغراضِ، وكان كمَنْ دعا غيره إلى طعام، وهو يَعلمُ أنَّه لا يُجيبه إلَّا أنْ يَستعملَ معه نوعاً مِنْ التلطّفِ والرفقِ به، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوعَ مِنْ الرفقِ والتلطّف بالمكلَّف، كان ناقضاً غرضه.
إذاً يَجبُ اللطفُ على اللهِ تعالى عقلاً لتحصيل الغرضِ مِنْ التكليفِ، وقد أكَّدَ هذا المفهوم العقدي، المُحقِّقُ الطوسي رحمه الله في كتابه (تجريدِ الاعتقادِ) بقوله: (اللطفُ واجبٌ ليُحصَّل الغرض به)(10).
وذكره أيضاً العلَّامةُ الحلّي رحمه الله في كتابه (البابُ الحادي عشـر)، حيث قال: (واللطفُ واجبٌ على اللهِ تعالى لتوقّفِ غرضِ المُكلَّفِ عليه، فإنَّ المُريدَ لفعلٍ من غيره إذا عَلِمَ أنَّه لا يفعله إلَّا بفعلٍ يفعله المُريدُ من غير مشقَّة لو لم يفعله، لكان ناقضاً غرضه وهو قبيحٌ عقلاً)(11)، واللطفُ قد يكونُ مِنْ فعلِ اللهِ تعالى مباشرةً وصدوراً كإرساله الرسل وبعثه الأنبياء ونَصبِ الأئمَّة والأوصياء، وقد يكون اللطفُ مِن فعلِ المُكلَّف نفسه لما وجبَ في حِكمَةِ اللهِ تعالى، مِنْ أنْ يُعرِّفه به ويُشعِره ويوجبه عليه، كوجوبِ طاعةِ الأنبياء والأئمَّة المعصومين عليهم السلام. وقد يكونُ مِن غيرِ اللهِ والمُكلَّف، بمعنى أنَّ اللطفَ يكون من فعل غيرهما، وهذا القسمُ واجبٌ في الحكمةِ الإلهيَّةِ وإيجابه ثابتٌ على الغير - غير الله والمُكلِّف - كتبليغ النبيِّ الرسالةَ، ويُشتَرطُ في هذا القسم إعلامُ المُكلَّفِ به، وهو النبيُّ ومُبلِّغ الرسالة، وإيجاب الله ِتعالى تكليفُ التبليغ عليه، وأنْ يكونَ للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في مقابل ذلك نفع يعودُ إليه، ومن ثَمَّ لا يحسَنُ تكليفُ مَن له اللطفُ، إلَّا بعد العلمِ بأنَّه يقع ويتحقَّق، إذ لولاه يلزمُ مُناقضةُ الغرضِ مِنْ التكليفِ.
أحكامُ اللطفِ الإلهيِّ:
هناك أحَكام تُستَوجَبُ في اللطفِ الإلهي هي:
1- أنَّ اللطفَ عامٌّ للمؤمن والكافر، ولا يلزمُ مِنْ حصوله للكافرِ عدمُ كفره، ذلك لأنَّ اللطفَ هو لطفٌ في نفسه، سواء حَصَلَ المَلطوفُ فيه أو لا يَحصَل، بل كونه لطفاً من حيث إنَّه مُقرِّبٌ إلى طاعةِ الله تعالى ومُرجِّحٌ لوجودها، وإنَّ عدم انتفاع الكافر بذلك اللطفِ هو لسوء اختياره وعصيانه، بمعنى أنَّ عدمَ ارتفاعِ كُفر الكافرِ الذي شمله اللطفُ الإلهي، إنَّما هو بسوء اختياره وعصيانه وجحده للحقِّ وشؤونه، قال تعالى: ﴿وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّـرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾ (لقمان: 7).
2- أنَّ اللهَ تعالى إذا لم يفعل اللطف لم يحسَن عقابه للمُكلَّفِ على تركِ المَلطوفِ فيه، لأنَّه إذا لم يفعل اللطفَ كان ذلك إغراءً منه، وحاشاه بالمعصية، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى﴾ (طه: 134)، فلو منعَ اللهُ تعالى إرسال الرسل، لكان للمُكلَّفين هذا السؤال والاحتجاج، ولا يكون لهم ذلك وقد لطفَ اللهُ بهم.
3- لا بدَّ مِنْ مُناسبةٍ بين اللطفِ والمَلطوفِ فيه، أي يجب أنْ يكونَ حصولُ اللطفِ داعياً إلى حصول المَلطوف فيه، وإلَّا لصارَ عدمُ كونه لطفاً فيه أولى مِنْ كونه لطفاً لغيره من الأفعالِ.
4- أنْ لا يبلغُ اللطفُ وإحداثه حَدَّ الإلجاءِ، وهو سلبُ المُكلَّفِ اختياره في تكليفه، لمنافاةِ ذلك للتكليفِ أصلاً.
5- أنْ يَدخلَ ويجوزَ في اللطفِ من جانبِ المُكلِّفِ التخييرُ لا التعيينُ، ليحقَّ للمكلَّفِ امتثالُ أحدِ الأفعالِ المُشتملة على المصلحة اللطفيَّة، كما هو الحال في خصالِ الكفّاراتِ الثلاثِ: (تحرير رقبة، او إطعام ستّين مسكيناً، أو صوم شهرين متتابعين).
باعتبار أنَّ أحدها يقوم مَقامَ الآخرِ في الإجزاء، والمُطابقة امتثالاً(12).
عرض دليل اللطف:
بعد بيانِ مَفهومِ اللطفِ ووجوبه وأحكامه، نقولُ: إنَّ دليلَ اللطفِ الإلهي هو مُرتكَزٌ عقلاني مَكينٌ في بُنيَّة المنظومةِ العقدية الاثني عشـرية، منذُ وقتٍ طويل، وخاصَّة في عصـرِ تدوين القواعدِ العَقدية والأُصولِ الدينيةِ الخَمسةِ: (التوحيد، النبوَّة، الإمامة، العدل، المعاد) في أواخر عصـرِ الغيبة الصغرى، واللطفُ الإلهي هو تدبيرُ الله تعالى وفعله اللطيف تكويناً وتشـريعاً، بتمكين عباده من الطاعاتِ وإبعادهم عن المعاصي، وذلك عن طريق نَصبِ الإمامِ المعصومِ، ليُبيَّن لهم المصالحَ والمَفاسدَ في هذه الحياة الدنيا، ويُمكِّنهم من تحقيق أغراضهم الإنسانيَّة، كالسلوكياتِ العامَّةِ لهم، وحفظِ نظامهم ومَصالحهم، ودفع الأضرارِ عنهم، بطريق إرشادهم إلى الأفعال الحَسنة وتجنيبهم القبيحِ منها.
وهذه القاعدةُ العقلانيةُ الانتزاع والتأسيس، بيَّنها القرآنُ الكريم في نصٍّ صريحٍ وواضحٍ يؤتِ الإنسانَ المُعتَقِدَ بإمامةِ الإمامِ المَهدي عليه السلام، زَخماً إيمانيَّاً قرآنياً مَتيناً، قال تعالى: ﴿اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ (الشورى: 19).
وإنَّ جملةَ ﴿اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ﴾ هي جملة اسميةٌ خبريةٌ حَقيقيَّةُ الموضوعِ والحُكمِ، وهي في حدِّها تُفيدُ الثبوتَ والتمكينَ والتأكيدَ القويّ للحُكمِ وهو اللطف بالعبادِ على نحو الإطلاقِ.
وعلى هذا الأساس القرآني الحقِّ، استندتْ مدرسةُ أهل البيتِ الكلامية في تأصيلِ عقيدةِ الإمامةِ الواجبةِ على الله تعالى عقلاً، إذ أنَّها اعتقدتْ اعتقاداً قرآنياً وعقلانياً بصوابِ وحَقِّ ما ذهبتْ إليه، مِن وجوبِ نَصبِ الإمامِ المعصومِ على اللهِ تعالى، الذي أخبرَ سبحانه بأنَّه لطيفٌ بعباده، وهذه القاعدةُ القرآنيةُ والعقلانيةِ تُعتَبرُ مَدرَكاً قويّاً وقطعياً على وجودِ إمامنا المَهدي عليه السلام، ووجوبِ نَصبه مِنْ قِبَل اللهِ تعالى، للطفه سبحانه بعبادِه أجمعين في العقيدة والشـريعة.
(إنَّ مُقتضـى اللطفِ أنَّ ينصبَ اللهُ الأدلَّةَ على العقائدِ والتكاليفِ حتَّى الفرعية، ويرفعَ الموانعَ التي من قِبَله تعالى لكلِّ من كلَّفه بذلك، كنقصان العقلِ أو عدم وصولِ الدعوةِ أو الغفلةِ عن مُراد الله تعالى، ولذا الشخص المتَّصف بتلك الموانع لم يكن الله تعالى بمُكلَّفٍ له، لا بالعقائدِ ولا بالفروعِ، كما دلَّت الأدلَّة على ذلك)(13).
وإنَّ وجودَ الإمامِ هو لُطفٌ بنفسهِ قَطعاً لا مُحالة، وإنْ لم نقف على هذا اللطفِ حِسّاً، وذلك لاعتقادنا بأنَّ الإمامَ المَهدي عليه السلام هو حافظُ الشـريعةِ الحقَّةِ، وحارسها الأمين مِنْ الزيادةِ والنقصانِ، كشـريعةٍ نازلةٍ مِن وراءِ الغيبِ الإلهيِ وباقيةٍ، لا كما نفهمه نحن منها، نعم الزيادةُ والنقصانُ في الفَهم البشـري للشـريعةِ، وقعَ وحَصلَ، ولا زال وسيبقى كذلك، مادام الإمامُ المَهدي عليه السلام غائباً عن ممارسة دوره الظاهري وتعاطيه مع نصوصِ الشـريعةِ الإسلاميَّةِ ومُعطياتها الحياتية. وقد بيَّنَ السيِّدُ المرتضى رحمه الله ذلك الأصلَ العقيدي بقوله:
(قد علمنا أنَّ شريعة نبيِّنا صلى الله عليه وآله وسلم مؤبَّدةٌ غير منسوخةٍ، ومستمرَّةٌ غير مُنقطعةٍ، فإنَّ التعبدَ لازمٌ للمُكلَّفين إلى أوانِ قيام الساعة، ولا بدَّ لها مِنْ حافظٍ، لأنَّ تركها بغير حافظٍ إهمالٌ لأمرها، وتكليفٌ لِمَنْ تعبَّدَ بها بما لا يطاق، وليس يخلو أنْ يكون الحافظُ معصوماً أو غير معصوم، فإنْ لم يكن معصوماً لم يؤمن من تغييره وتبديله، وفي جواز ذلك عليه - وهو الحافظُ لها - رجوعٌ إلى أنَّها غير محفوظةٍ في الحقيقة، لأنَّه لا فرق بين أنْ تُحفَظَ بمَن جائزٌ عليه التغيير والتبديل والزلل والخطأ، وبين أنْ لا تُحفَظ جملةً إذا كان ما يؤدّي إليه القول بتجويز ترك حفظها، يؤدّي إليه حفظها بمن ليس بمعصوم، وإذا ثبتَ أنَّ الحافظَ لا بدَّ أنْ يكون معصوماً، استحالَ أنْ تكون محفوظةً بالأُمَّةٍ وهي غير معصومةٍ، والخطأُ جائزٌ على آحادها وجماعتها، وإذا بَطلَ أنْ يكون الحافظُ هو الأُمَّةَ فلا بدَّ من إمام معصوم حافظ لها)(14).
ونحن أتباعُ مَدرَسةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام مُدركون تماماً لذلك الأمر، لذا تجدنا نؤمنُ في حالِ الغيبةِ الكبرى بالأحكامِ الظاهرية، التي يَستخرجها المُجتهدون مِن مَداركها الصحيحةِ، وهذا هو معنى مذهبنا (مذهب التخطِئة)، أي إنَّ أحكامنا قد توافقُ واقعَ أحكامِ الشـريعةِ، وقد لا توافقها، لعدمِ علمنا القطعي بالأحكام الواقعيَّة، إلَّا ما قامَ عليه الدليلُ اليقيني، فالتخطئةُ تعني إمكان أنْ لا يُطابق ما وَصَلَ إليه المُجتهدُ ما عليه الواقع.
بخلافِ غيرنا مِنْ الفِرَقِ الأخرى، والذين وقعوا في مأزق استخراج الحُكم الشـرعي من الشـريعة، فقالوا بالتصويبِ على قسميه الأشعري(15) والمعتزلي(16)، والذي ينصُّ على أنَّ الأحكامَ التي يَستخرجُها المُجتهدُ هي أحكامُ اللهِ واقعاً، فما ذهبوا إليه بمذهبهم هذا هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لعدمِ اعتقادهم بوجوبِ نَصبِ الإمامِ على اللهِ عَقلاً.
هذا من جهة، ومِنْ جهة أُخرى أنَّنا نؤمنُ قاطعين يَقيناً في فترة الغيبة الكبرى، بأنَّ اعتقادنا كمُكلَّفين بوجودِ الإمام المهدي عليه السلام في وقتنا هذا، واحتمال ظهوره الشـريف في أيِّ وقت يُقَرِّبنا من الطاعاتِ ويُبعِّدنا عن المفاسدِ في هذه الحياة الدنيا، وهذا في حدِّ نفسه هو مِصداقٌ للطفيةِ وجودِ الإمام المهدي عليه السلام، حتَّى ولوكان غائباً غير ظاهرٍ.
وإلى ذلك المعنى السديد أشارَ الخواجةُ نصير الدين الطوسي رحمه الله في كتابه الشهير (تجريد الاعتقاد)، وذكر: (أنَّ وجودَ الإمامِ نفسه لطفٌ، لوجوهٍ: أحدها: أنَّه يحفظ الشـرائع ويحرسها عن الزيادة والنقصان، وثانيها: أنَّ اعتقاد المكلَّفين لوجود الإمام وتجويز انفاذ حكمه عليهم في كلِّ وقت سببٌ لردعهم عن الفساد ولقربهم إلى الصلاح، وهذا معلومٌ بالضـرورة، وثالثها: أنَّ تصـرّفه لا شكَّ أنَّه لطفٌ ولا يتمُّ إلَّا بوجوده، فيكون نفسه لطفاً وتصرّفه لطفاً آخراً)(17).
وقد مَنعَ المخالفون لنا وجوبَ اللطفِ، وهو ظُلمٌ للهِ تعالى ولكرمه ولطفه بعباده لطفاً مُطلقاً، ومنعوا بأنَّ الإمامَ المَهدي عليه السلام، هو مصداقٌ للطف اللهِ تعالى في وقتِ الغيبة الكبرى.
وتبنّى ذلك المنعَ عضدُ الدين الإيجي(18) في كتابه (المواقف) ما نصّه: (احتجَّ المُوجبُ لنصبِ الإمامِ على اللهِ، بأنَّه لطفٌ لكون العبدِ معه أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية، واللطفٌ واجبٌ عليه تعالى. والجوابُ بعد مَنع وجوبِ اللطف، أنَّ اللطف الذي ذكرتموه إنَّما يحصلُ بإمامٍ ظاهرٍ قاهرٍ، يرجى ثوابه ويخشى عقابه، يدعو الناس إلى الطاعات ويزجرهم عن المعاصي، بإقامة الحدود والقصاص وينتصف للمظلوم من الظالم، وأنتم لا توجبونه على اللهِ، كما في هذا الزمان الذي نحن فيه، فالذي توجبونه وهو الإمام المعصوم المختفي أو ليس بلطف؟. إذ لا يُتصوَّرُ منه مع الاختفاءِ، تقريب الناس إلى الصلاح وتبعيدهم عن الفساد والذي هو لطف لا توجبونه عليه، وإلَّا لزم كونه تعالى في زماننا هذا تاركاً للواجب، وهو مُحال)(19).
وهذا الزعمُ مِنْ المُخالفين لنا، يشبهُ زعمَ اليهودِ في ظلمهم لأنفسهم، ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾، فجاءهم الخطابُ الإلهي تَقريعاً وإنكاراً: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ﴾ (المائدة: 64)، وقوله تعالى: ﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ﴾ قَرَّرَ حقيقةً واقعيةً في لطفِ اللهِ بعبادهِ مِنْ الرزقِ وتدبير معاشهم كبشـر، وتدبير أُمورهم التكوينية والعقيدية والتشريعية.
ونَفسُ هذه الآيةِ الشـريفةِ تَبسطُ علينا بنصِّها الجَليِّ، صورَ قدرةِ الله تعالى في تدبير شؤون عباده على نحو الإطلاق والديمومةِ والبقاءِ، كما هي قدرته (عزَّ وجلَّ) على الإحداث والخلَقِ من أوَّلِ الأمرِ، فلا انقطاع للطفِ الله تعالى بعباده ولا قبض في فيوضاته المُقَدَّسة في أُمور العباد، عقيدةً وهدايةً، وأعني نَصبَ حُججه الحَقَّةِ، ومنهم الإمام المهدي عليه السلام، كإمام يُمثِّلُ اللطفَ الإلهي بالعبادِ واقعاً.
ولسماحةِ السيِّد محمّد سعيد الحكيم (دام ظلُّه الوارف) جوابٌ قيِّمٌ على مَنعِ المُخالفين لوجوبِ اللطفِ على اللهِ تعالى، ورفضهم لوجوب نصب الإمام على الله عقلاً طبقاً لقاعدة اللطف الإلهي، والتي بيَّنها وردَّ إشكالَ المانعين فيها، بذكرِ ما نصّه:
(إنَّ مَرجعَ قاعدةِ اللطفِ إلى أنَّ عمومَ البشـرِ حيثُ كانوا في نقص ذاتي، جاهلين بما يصلحهم، غير معصومين من الفساد والشـرِّ والظلم، بل تتنازعُ فيهم دواعي الصلاح والفساد، والخير والشـرّ، والظلم والعدل، فهم في حاجةٍ إلى إمامٍ معصومٍ، يجمعهم على الصلاح والخير والعدل، ويُبعِدهم عن الفساد والشـرِّ والظلم، فمقتضـى حِكمةِ اللهِ تعالى ورحمته، أنْ يلطفَ بهم ويُزيحَ العلَّةَ مِنْ قِبَله عنهم، بأنْ يَجعَلَ لهم إماماً معصوماً، ويُعرِّفهم به بحجَّةٍ كافيةٍ ودليلٍ واضحٍ، ولعلَّه إلى ذلك يُشيرُ قوله تعالى: ﴿وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَـرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91]، وحيثُ كانتْ حاجتهم لذلك مُستمرَّةً في جميع الأوقاتِ تبعاً لدوام نقصهم وحاجتهم، فلا بدَّ من وجودِ إمامٍ مَعصومٍ في كلِّ زمانٍ يزيحُ العلَّةَ، ولا يكفي إرسالِ النبيِّ في وقته، بعد أنْ لم يكن خالداً، لأنَّه إنَّما يكون إماماً لعصره، ولا تُزاح العلَّة بعد ذلك، لما هو المعلوم مِنْ حصولِ الخلافِ بعده، وشيوع الشـرِّ والفساد وخروج الأُمَّةِ ولو ببعض فئاتها عن طاعة الله تعالى وضياع معالم الحقِّ عليه. هذا هو مفاد قاعدة اللطف الإلهي، وهي - قاعدة اللطف الإلهي - لا تقتضـي وجوبَ تحقّق العدلِ فعلاً بسيطرة الإمام وقبضه على زمام الأُمورِ وقَسـرِ الناسِ على الانصياع له والرضوخِ لحكمه، فإنَّ ذلك لم يحصل إلَّا في فتراتٍ زمنيةٍ قصيرةٍ، وربَّما لم يكن في تلك الفترات بنحو شاملٍ، بل المرادُ منها وجوب إزاحةِ علَّتهم من قِبَل الله تعالى تشريعاً بنصب الإمام لهم، وتعريفهم به بما تتمُّ به الحجَّةُ عليهم، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42]، ثمّ لهم بعد ذلك الاختيار...، فقاعدةُ اللطف بالإضافة إلى الإمامةِ ... تقتضـي بأنَّ الناسَ لـمَّا كانوا قاصرين بسبب جهلهم وفَقرهم، فالواجب على اللهِ تعالى بمقتضـى حكمته أنْ يلطفَ بهم ويُشـرِّع لهم من الأحكام ما يصلح به أمرهم في معاشهم ومعادهم، وفي علاقتهم مع الله سبحانه، ومعاشرتهم فيما بينهم، من دون أن تقضـي بوجوب تهيئة الظروف المناسبة لتطبيقهم تلك الأحكام، وحملهم على ذلك من أجل أن يفوزوا فعلاً بالخير والصلاح، ويبعدوا عن الشـرِّ والفساد، بل ليس عليه سبحانه إلَّا تشـريع الأحكام لصالحهم مع بقاء الاختيار لهم، كما قال (عزَّ من قائل) ﴿إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: 3])(20).
إذن على أساس ما تقدَّم يتبيَّن سقوطُ نقضِ عضد الدين الإيجي في كتابه (المواقف في علم الكلام)، على قاعدةِ اللطفِ بالإمام المَهدي عليه السلام المعصوم الغائب بقوله: (فالذي توجبونه وهو الإمام المعصوم المُختفي أو ليس بلطف؟ إذ لا يُتصوَّر منه مع الاختفاء تقريب الناس إلى الصلاح وتبعيدهم عن الفساد، والذي هو لطف لا توجبونه عليه، وإلَّا لزم كونه تعالى في زماننا هذا تاركاً للواجب، وهو محال).
وتقريرُ سقوطِ هذا النقضِ يكون بهذه الصياغة الكلاميَّة أيضاً: (وسَقطَ أيضاً النقضُ بالإمام المعصوم الغائب، ولعلَّ منشأه الغفلة عن حقيقة الإمامة، وتوهّم كونها السلطنة الظاهرية فحسبْ، وقد عرفتَ أنَّها مَنصبٌ إلهي كالنبوَّة، فكما أنَّ النبوَّةَ قد تجتمع مع السلطنة الدنيوية والحكومة الظاهرية، وقد تفترق عنها والنبوَّة باقية، كذلك الإمامة...، والبعث والنَصب مِنْ اللهِ في جميع الأحوالِ على حاله، والنبيُّ والإمام باقيان على النبوَّة والإمامة، وعلى الناس الانقيادُ لهما، والتسليم لأوامرهما ونواهيهما، ولا إلجاء من الله كما عرفتَ، فإن فعلوا اجتمعتْ الرئاستان وتمَّ اللطف، وإلَّا افترقتا ولم تبطل النبوَّة والإمامة، بل خسَرتْ الأُمَّةُ فوائدَ بَسطِ اليدِ ونفوذ الكلمة منهما . على أنَّ وجودَ النبيِّ أو الإمامِ الفاقدِ للسلطنة الظاهرية ينطوي على بركات وآثار، حتَّى ولو كان غائباً عن الأبصار)(21).
وقد ذَكرَ الشيخُ المُفيدُ رحمه الله مُقاربةً استدلاليةً مِنْ قاعدةِ اللطفِ الإلهي على وجوبِ نَصبِ الإمامِ المَهدي عليه السلام، على اللهِ تعالى عقلاً ووجوبِ النصِّ عليه، وذكرَ ما نصّه:
(ومِنْ الدلائلِ على إمامةِ القائمِ بالحقِّ ابن الحسن عليه السلام، ما يقتضيه العقلُ بالاستدلالِ الصحيحِ من وجودِ إمامِ مَعصومٍ كاملٍ غني عن رعاياه في الأحكام والعلوم في كلِّ زمان، لاستحالة خلوّ المُكلَّفين مِن سلطانٍ يكونون بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد من الفساد، وحاجة الكلِّ من ذوي النقصان إلى مؤدِّب للجناةِ، مُقوِّم للعصاةِ، رادع للغواة، مُعلِّم للجهّال، مُنبِّهٍ للغافلين، مُحذِّرٍ للضلّال، مُقيم للحدودِ، مُنفِّذ للأحكامِ، فاصل بين أهل الاختلاف، ناصب للأُمراء، سادّ للثغور، حافظ للأموال، حام عن بيضة الإسلام، جامع للناس في الجمعات والأعياد. وقيام الأدلَّة على أنَّه معصوم من الزلّات، لغناه بالاتِّفاق عن إمام، واقتضـى ذلك له بالعصمة بلا ارتياب، ووجوبُ النصِّ على من هذه سبيله من الأنام أو ظهور المعجز عليه لتمييزه ممَّن سواه، وعدم هذه الصفات من كلِّ أحد سوى من أثبت إمامته أصحاب الحسن بن عليّ وهو ابنه المهدي عليه السلام. وهذا أصلٌ لا يُحتاجُ معه في الإمامة إلى روايةِ النصوصِ، لقيامه بنفسه في قضيَّة العقول، وصحَّته بثابتِ الاستدلالِ، ثمّ جاءتْ رواياتٌ في النصِّ على ابن الحسن، مِنْ طرقٍ تنقطعُ بها الأعذارُ)(22).
الدليل الثاني: دليل الاضطرارِ:
وقد ذَكره السيِّد عبد الله شبَّر في كتابهِ (حقّ اليقين في معرفةِ أُصولِ الدين)، وبيَّن (أنَّ ما ذُكِرَ في بيانِ الاضطرارِ إلى الرسلِ فهو بعينه جار في الاضطرار إلى ‌أوصيائهم وخلفائهم، لأنَّ الاحتياجَ إليهم غير مُختصٍّ بوقتٍ دون آخرٍ، وفي حالةٍ دون أُخرى، ولا يكفي بقاءُ الكتبِ والشـرائعِ مِن دونِ قيِّم لها عالم بها، ألَا ترى إلى الفِرَق‌ المُختلفةِ والمذاهبِ المُتباينةِ كيف يستندون في مذاهبهم كلّها إلى كتاب الله (عزَّ وجلَّ)، فيستندُ المُجَسِّم إلى قوله تعالى: ﴿الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: 5]، ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10]. والمُجبِّرُ إلى قوله: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ [النساء: 78]. ومن قال بخلق الأفعال إلى ‌قوله: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ﴾ [النحل: 93]. ومن قال برؤية الله إلى قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22 و23]. ويُستَدلُّ العَدليَّةُ بما يخالفُ ذلك من الآيات، وبالجملة فإنَّك لا ترى فرقةً مِن الفِرَقِ المُحقَّةِ أو المُبطلةِ، إلَّا وهي تستندُ إلى كتابِ الله، بل وإلى سُنَّةِ رسولِ‌ الله صلى الله عليه وآله وسلم، و ذلك لأنَّ كتابَ الله فيه المُحكم والمُتشابه والمُجمل والمؤوَّل والناسخ‌ والمنسوخ، والسُّنَّة فيها ذلك أيضاً مع وقوعِ الكَذبِ والتحريفِ والتصحيفِ، هذا كلّه مع ‌جهل أكثر الخلق بمعانيها، وتشتّت أهوائهم وزيغ قلوبهم، فلا بدَّ حينئذٍ لكلِّ نبيٍّ مُرسلٍ ‌بكتابٍ من عند الله (عزَّ وجلَّ)، أنْ يَنصبَ وصيّاً يودعه أسرار نبوَّته وأسرار الكتاب المنزل عليه،‌ ويكشف له مُبهمه، ليكون ذلك الوصيّ هو حجَّة ذلك النبيّ على أُمَّته، ولئلَّا تتصـرَّفَ الأُمَّة في ذلك الكتاب بآرائها وعقولها، فتختلف وتزيغ قلوبها، كما أخبرَ الله تعالى بذلك فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 7])(23).
الدليل الثالث: دليل استحالة الإهمال على اللهِ تعالى:
وهو من الأدلّة العقليّة التي تبناها علماءُ الكلامِ والعقيدةِ في مسألةِ وجوبِ نَصبِ الإمامِ على اللهِ تعالى عقلاً، فـ (إنَّ العقلَ السليمَ والفَهمَ المُستقيمَ يُحيلُ على العزيزِ الحكيمِ والرسولِ‌ الكريمِ مع كونه مَبعوثاً إلى كافَّة الأنام، وشريعته باقية إلى يوم القيامة، أنْ يهملَ أُمَّته مع نهاية رأفته وغاية شفقته بهم وعليهم، ويتركَ بينهم كتاباً في غايةِ الإجمالِ ونهايةِ الإشكالِ له ‌وجوهٌ عديدةٌ ومَحاملٌ، يحمله كلٌّ منهم على هواه ورأيه، وأحاديث كذلك لم‌ يظهر لهم منها إلَّا القليل، وفيها مع ذاك المكذوب والمُفتَرى والمُحرَّف، ولا يُعيِّن لهذا الأمر العظيم رئيساً، يُعوَّلُ في المشكلاتِ عليه ويُركن في سائر الأُمور إليه، إنَّ هذا ممَّا يحيله ‌العقلُ على ربِّ العالمين، وعلى سيِّد المرسلين، وكيف يوجب اللهُ تعالى على الإنسانِ‌ الوصيَّةَ والإيصاء عند الموتِ لئلَّا يموت ميتة الجاهلية، ولئلَّا يدع أطفاله ومتروكاته بغير قيِّم ‌ووليّ وحافظ، ولا يوجب على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، الإيصاء والوصيَّة مع أنَّ رأفةَ الله بخلقه، ورأفة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بأُمَّته لا نسبة لها بذلك)(24).
المبحث الثاني دليل النصِّ على الإمام المنصوب وجوباً على اللهِ عقلاً:
ونعني به نَصَّ النبيِّ الأكرم مُحَمَّد صلى الله عليه وآله وسلم على الإمامِ المَهدي عليه السلام، وبعده الأئمَّةِ المعصومين عليهم السلام واحداً بعد واحدٍ، وإنَّ مَدرسةَ أهل البيت المعصومين عليهم السلام وشيعتها، قد آمنتْ بالنصِّ على نَصبِ الإمامِ المعصومِ مِنْ لدنِ اللهِ تعالى، منذُ عَهدِ الرسولِ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وسَلَّمَتْ بذلك تسليماً مُطلقاً، إيماناً منها بحقِّ وشرعيَّةِ مَنْ نَصبه الرسولُ الأكرمُ صلى الله عليه وآله وسلم، مِن أوَّلِ الأمرِ، ألَا وهو الإمامُ عليٌّ عليه السلام، ومِنْ بعده الأئمَّةُ المعصومون عليهم السلام وقائمهم الإمامُ المَهدي عليه السلام.
وللسيِّد الشهيد مُحَمَّد باقر الصدر رحمه الله توجيهٌ قيِّمٌ في مُعالجةِ الجَدلِ الذي دارَ بين المُسلمين، حول شرعيَّةِ الحاكمِ وكيفيَّةِ تسنّمه الحُكمَ وأثر العقيدةِ في ذلك المَنصبِ، ذَكره في بحثه السديدِ حول الولايةِ، وقال:
(وهكذا نرى أنَّ الشيعةَ ولدوا منذ وفاةِ الرسولِ صلى الله عليه وآله وسلم مباشرةً، مُتمثِّلين في المُسلمين الذين خضعوا عملياً لأُطروحة زعامة الإمام عليّ عليه السلام، وقيادته التي فرَضَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الابتداءَ بتنفيذها من حين وفاته مباشرةً، وقد تجَسَّدَ الاتجاهُ الشيعي منذ اللحظة الأُولى في إنكار ما اتَّجهتْ إليه السقيفةُ، مِنْ تجميدٍ لأُطروحةِ زعامةِ الإمام عليّ عليه السلام، وإسنادِ السلطةِ إلى غيره، ذكر الطبرسي في الاحتجاج(25) عن أبان بن تغلب، قال: قلتُ لجعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: جُعلتٌ فداك، هل كان أحدٌ في أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أنكر على أبي بكر فعله؟ قال: «نعم، كان الذي أنكر عليه اثني عشـر رجلاً من المهاجرين: خالد بن سعيد بن أبي العاص، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمّار بن ياسر، وبريدة الأسلمي، ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان، وعثمان بن حنيف، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأُبي بن كعب وأبو أيّوب الأنصاري»)(26).
فاتِّجاهُ التعبّدِ بالنصِّ والذي آمنتْ وسلَّمتْ به الشيعةُ، هو اتِّجاه قائمٌ منذ الصدر الأوَّلِ للإسلامِ، بحسبِ تعبيرِ السيِّدِ الشهيدِ مُحَمّد باقر الصدر رحمه الله، (وهكذا نعرفُ أنَّ الاتِّجاهَ الذي يُمثِّلُ التعبّدَ بالنصِّ، يُمثِّلُ الدرجةَ العُليا مِنْ الانصهارِ بالرسالةِ والتسليم ِالكاملِ لها، وهو لا يرفضُ الاجتهادَ ضمن إطارِ النصِّ وبذلِ الجُهدِ في استخراجِ الحُكمِ الشـرعي منه، ومن المُهمِّ أنْ نشيرَ بهذا الصددِ أيضاً إلى أنَّ التعبَّدَ بالنصِّ لا يعني الجمودَ والتصلّبَ الذي يتعارضُ مع متطلّباتِ التطوّرِ وعواملِ التجديدِ المُختلفةِ في حياةِ الإنسانِ، فإنَّ التعبَّدَ بالنصِّ معناه كما عرفنا التعبّدُ بالدينِ، والأخذُ به كاملاً دون تبعيض، وهذا الدينُ نفسه يَحملُ في أحشائه كُلَّ عناصرِ المرونةِ والقدرةِ على مسايرة الزمن، واستيعابه بكلِّ ما يحمل من ألوانِ التجديدِ والتطوّرِ، فالتعبّدُ به وبنصِّه تعبّدٌ بكلِّ تلك العناصر، وبكلِّ ما فيها من قدرةٍ على الخَلْقِ والإبداع والتجديد)(27).
وقد قَرَّر العلَّامةُ الحلّي رحمه الله دليلَ النصِّ على إمامة الإمامِ المنصوب إلهيّاً، كما في إمامة الإمام المهدي عليه السلام وتبنّاه، قال:
(وقد سبقَ النصُّ عليه - على الإمام المَهدي عليه السلام - في مِلَّةِ الإسلامِ مِنْ نبيِّ الهدى صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ونصَّ عليه الأئمَّةُ عليهم السلام واحداً بعد واحدٍ، إلى أبيهِ الحَسن عليه السلام، ونصَّ أبوه عليه السلام عليه عند ثقاته وخاصَّة شيعته، وكان الخبرُ بغيبته ثابتاً قبل وجوده، وبدولته مستفيضاً قبل غيبته، وهو صاحبُ السيفِ من أئمَّة الهدى عليهم السلام، والقائمُ بالحقِّ، المُنتَظرُ لدولةِ الإيمانِ، وله قبل قيامه غيبتان: إحداهما أطولُ مِنْ الأُخرى كما جاءتْ بذلك الأخبارُ، فأمَّا القصـرى منهما منذ وقتِ مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته، وعُدِمَ السفراءُ بالوفاة، وأمَّا الطولى فهي بعد الأُولى وفي أخرها يقومُ بالسيف، قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾ [القصص: 5]، وقال (جلَّ اسمه): ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 105 و106]، وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لن تنقضـي الأيّامُ والليالي حتَّى يبعثَ اللهُ رجلاً مِنْ أهل بيتي، يُواطئ [يُوافقُ] اسمه اسمي، يملأها قُسطاً وعدلاً، كما مُلِئَتْ ظلماً وجوراً»، وقال: «ولو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يومٌ واحدٌ لطوَّلَ اللهُ ذلك اليومَ حتَّى يَبعثَ فيه رجلاً من ولدي يواطئ [يوافق] اسمه اسمي، يملأها قِسطاً وعَدلاً كما مُلِئَتْ ظلماً وجوراً»)(28).
وذكره - دليل النصِّ - العلَّامةُ الحلّي أيضاً في كتابه (مِنهاج الكرامة في معرفةِ الإمامةِ)، وقال: (إنَّ الإمامَ يجبُ أنْ يكونَ مَنصوصاً عليه، لِما بيَّنّا مِن بطلانِ الاختيارِ، وأنَّه ليس بعض المُختارين لبعضِ الأُمَّةِ أولى مِن البعضِ المُختارِ للآخر، ولأدائه إلى التنازعِ والتناحرِ، فيؤدّي نصبُ الإمام ِ إلى أعظمِ الفسادِ التي لأجل إعدام الأقلّ منها أوجبنا نصبه، وغير عليّ عليه السلام من أئمَّتهم لم يكن منصوصاً عليه بالإجماع، فتعيَّن أنْ يكونَ هو الإمامُ(29).
لقد ذهبت الإماميَّة خاصّةً إلى أنَّ الإمام يجب أنْ يكونَ مَنصوصاً عليه، وإنَّ العلَّامةَ الحلّي رحمه الله عَرضَ هذا المطلبَ المُهمَّ والخطيرَ عَقديّاً والحسّاس في حياةِ الناس لغرضِ فَضِّ النزاعِ الذي دارَ حولَ الإمامةِ، وهل هي بالنصِّ أو بالبيعةِ، أي الانتخاب البشـري للإمام؟ أو غير ذلك مِن مذاهب المدارسِ العقدية الأُخرى في الإسلام. فأكَّدَ العلَّامةُ الحلّي على أنَّ طريقَ تعيين الإمام هو النصُّ ولا طريق غيره، ومستنده في ذلك: أنَّ الإمامةَ المنصوبةَ والمَعصومةَ هي أمرٌ إلهي لا يعلَم مُستحقّه إلَّا اللهُ تعالى، فلا بدَّ مِن التنصيص الإلهي والنبوي والإمامي على إمامةِ الإمامِ الحقِّ ربّانياً، والمعصومِ فعلياً، بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو بعد الإمام ، وإلَّا - أي وإن لم يكن النصُّ طريقاً إلى معرفة الإمام الحقِّ - يبقى خيارُ إظهارِ المُعجزة على يد مَنْ يَدعي الإمامةَ الحقَّةَ إثباتاً لصدق دعواه.
قال العلَّامةُ الحلّي: (الإمامُ يجبُ أنْ يكونَ منصوصاً عليه، لأنَّ العصمةَ من الأُمور الباطنة التي لا يعلمها إلَّا اللهُ تعالى، فلا بدَّ مِن نصِّ مَنْ يَعلمُ عصمته عليه، أو ظهورِ مُعجزةٍ على يده تدلُّ على صدقهِ، وقد علَّق الفاضلُ المقداد السيوري على ما تبنّاه العلَّامة الحلّي مِنْ طريقيةِ النصِّ حصـراً، بعد دليل اللطفِ، فقال: (هذه إشارةٌ إلى طريقِ تعيين الإمام، وقد حَصَلَ الإجماعُ على أنَّ التنصيصَ مِنْ اللهِ ورسولهِ وإمام سابقٍ، سبَبٌ مُستقلٌّ في تعيين الإمام عليه السلام، وإنَّما الخلافُ في أنَّه هل يَحصلُ تعيينه بسببٍ غيرِ النصِّ أم لا؟ فمَنعَ أصحابنا الإمامةَ مِن ذلك مُطلقاً، وقالوا: لا طريقَ إلَّا النصُّ، لأنّا قد بيَّنّا أنَّ العصمةَ شرطٌ في الإمامةِ، والعصمةُ أمرٌ خفي لا اطِّلاع عليه لأحدٍ إلَّا اللهُ، فلا يحصلُ حينئذٍ العِلمُ بها في أيِّ شخصٍ هي إلَّا بإعلامِ عالمِ الغيبِ، وذلك يحصل بأمرين: أحدهما: إعلامه بمعصومٍ كالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فيُخبرنا بعصمة الإمام عليه السلام وتعيينه، وثانيهما: إظهارُ المعجزةِ على يده الدالّةِ على صدقهِ في ادِّعائهِ الإمامة)(30).
وعلى أساسِ ذلك البناءِ العقدي جاءَ النصُّ على إمامةِ الإمامِ المَهدي عليه السلام، (جاءَ بالنقلِ المتواترِ من الشيعةِ خَلفاً عن سلف، والذي يفيدُ اليقينَ بعقيدةِ نصبِ الإمام وعصمته، كما كانَ النصُّ على إمامة الإمام عليّ عليه السلام ونصبه إلهيّاً، وقد نقلَ المخالفون ذلك من طرقٍ متعدِّدةٍ، تارةً على الإجمالِ، وأُخرى على التفصيلِ، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متواتراً أنَّه قال للحُسين عليه السلام: «هذا ابني إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمَّة تسعة تاسعهم قائمهم»، وغير ذلك من الأخبار. وروي عن مسـروق قال: بينا نحن عند عبد الله بن مسعود إذ قال له شابٌّ: هل عَهَدَ إليكم نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم كم يكون من بعده خليفة؟ قال: إنَّكَ لحديثِ السنِّ، وإنَّ هذا شيء ما سألني أحد عنه، نعم عَهَدَ إلينا نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم أنْ يكون بعده اثنا عشـر خليفة عدد نقباء بني إسرائيل. وقد بيَّنّا أنَّ الإمامَ يجبُ أنْ يكون معصوماً، وغير هؤلاءِ ليسوا معصومين إجماعاً، فتعيَّنتْ العصمةُ لهم، وإلَّا لزمَ خلوّ الزمان عن المعصومِ، وقد بيَّنّا استحالته)(31).
وبما تقدَّمَ ثبوتاً ومُستنداً في النصِّ على إمامة الإمام المهدي عليه السلام يبقى السؤالُ عن كيفيَّةِ الإيمانِ إثباتاً وظاهراً بصدقِ وجود الإمام المهدي عليه السلام فعلاً، كما ناقش ذلك السؤالَ المعرفي العقدي السيِّدُ الشهيد محمّد باقر الصدر رحمه الله في بحثه القيِّم حول المَهدي عليه السلام، وقدَّم جوابه السديد بيقينية الوجود التاريخي الحقّ للإمامِ المَهدي عليه السلام واستمراره حتَّى ظهوره وقيامه بالعدلِ والحقِّ، على أساسِ دليلين إسلامي وعلمي، فَصَّلَ فيهما يقينية الوجود الشـريف للإمام المهدي عليه السلام فعلاً وواقعاً.
ويَتَخذُ السيِّدُ الشهيد محمّد باقر الصدر رحمه الله هنا مَسلكاً جديداً في الاستدلالِ على مسألةِ تجسيد الفكرة - فكرة المَهدي عليه السلام - في إنسانٍ مُعيَّن هو الإمام الثاني عشـر، مُستفيداً من الرواياتِ والبحثِ الروائي، ومُوظِّفاً ذلك بصورة مُبدعة في إثباتِ المهدي عليه السلام، فيطرح أوَّلاً المبرِّرات التي يراها كافية للاقتناع، ويُلخِّصها في دليلين أحدهما أطلق عليه (الدليل الإسلامي) والآخر (العلمي)، فيقول:
(فبالدليل الإسلامي نُثْبِتُ وجودَ القائدِ المُنتَظرِ، وبالدليل العلمي نُبرهن على أنَّ المهدي عليه السلام ليس مُجرَّدَ أُسطورةٍ وافتراض، بل هو حقيقةٌ ثبتَ وجودها بالتجربةِ التاريخية)، ويَشـرعُ بتقديم الدليل الإسلامي، فيراه مُتمثِّلاً بمئاتِ الروايات الواردة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمَّة من أهل البيت عليهم السلام، والتي تَدلُّ على تعيين المَهدي عليه السلام وكونه من أهل البيت عليهم السلام، ومن ولد فاطمة عليها السلام (32)، والتاسع من ولدِ الحُسين عليه السلام (33)، وليس من ذرّية الحسن عليه السلام، وأنَّ الخلفاءَ اثنا عشـر(34)، فإنَّ هذه الرواياتَ تُحدِّدُ تلك الفكرةَ العامَّةَ وتُشخِّصها في الإمام الثاني عشـر مِنْ أئمَّة أهل البيت عليهم السلام.
ثمّ يقول (رضوان الله تعالى عليه) بشأنِ تلك الروايات:
(وهي رواياتٌ بلغَتْ درجةً كبيرةً مِن الكثرةِ والانتشارِ - كما وردَ عن طرقنا - على الرغم مِنْ تَحفّظِ الأئمَّةِ عليهم السلام واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العامّ، وقايةً للخلف الصالح من الاغتيال. إنَّ الروايات الكثيرةَ جدّاً التي تُشكِّلُ رقماً إحصائياً كبيراً - أي بلوغها حدَّ التواتر(35) كما حكى غيرُ واحدٍ من العلماء -)، يرى السيِّد الشهيد أنَّ الأساسَ في قبولها ليس مجرَّدَ الكثرةِ العدديةِ، على الرغم مِنْ أنَّه قد استقرَّ في الأوساط العلمية الروائية اعتبارُ مثل هذه الكثرة، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحَّتها، فالحديثُ الشـريفُ عن الأئمَّة أو الخلفاء أو الأُمراء بعده صلى الله عليه وآله وسلم، وأنَّهم اثنا عشـر إماماً أو خليفةً أو أميراً على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة، قد أحصـى بعض المؤلِّفين رواياته، فبلَغَتْ أكثرَ من مئتين وسبعين رواية مأخوذة من أشهر كُتبِ الحديثِ عند الشيعة والسُّنَّة بما في ذلك البخاري(36) ومُسلم والترمذي ومسند أحمد ومستدرك الحاكم، وقد لاحظَ الشهيدُ الصدر رحمه الله هنا أنَّ البخاري المولود سنة (194هـ) والمتوفّى (256هـ)، الذي نقلَ الحديثَ كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري عليهم السلام، وفي ذلك مغزى كبير، لأنَّه يبرهن على أنَّ الحديثَ قد سُجِّلَ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل أنْ يتحقَّقَ مضمونه، وهذا يعني أنَّ نقلَ الحديثِ لم يكن متأثِّراً بالواقع الإمامي الاثني عشـري، أو يكون انعكاساً له، لأنَّ الروايات المزيَّفةَ التي تُنسَبُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم هي انعكاساتٌ أو تبريراتٌ لواقعٍ متأخّرٍ زمنياً، لا تسبق في ظهورها وتسجيلها كُتبَ الحديثِ، ولقد جاءَ الواقعُ الإمامي الاثنا عشري ابتداءً بالإمام عليّ عليه السلام وانتهاءً بالمَهدي عليه السلام، ليكون التطبيقَ الوحيدَ المعقولَ لذلك الحديث النبوي الشـريف. هذا هو الدليل الإسلامي كما اصطلح عليه السيِّد الشهيد، أي الدليل الروائي - النصّ - في إثبات المَهدي عليه السلام.
أمَّا الدليل الآخر الذي اصطلحَ عليه بـ‍ (الدليل العلمي) والذي يسوقه السيِّدُ الشهيدُ الصدر رحمه الله لإثباتِ الوجودِ التاريخي للمَهدي عليه السلام، وأنَّه إنسانٌ بعينه ولدَ وعاشَ واتَّصلَ بقواعده الشعبية وبخاصَّته، فإنَّ هذا الدليلَ يتكوَّن كما يرى السيِّد الشهيد رحمه الله من التجربةِ التي عاشتها أُمَّةٌ مِنْ الناسِ فترةً امتدَّتْ سبعين سنة تقريباً، وهي فترة الغيبة الصغرى.
ويُعطي السيِّد الشهيد رحمه الله هنا فكرةً عن هذه الغيبةِ، ويفلسفها، مُبيِّناً دورَ القائدِ المَهدي عليه السلام، ودورَ سفرائه الأربعة، وما صَدرَ عنه مِن (توقيعات) أي رسائلٍ وإجاباتٍ، كلّها جَرَتْ على أُسلوبٍ واحدٍ وبخطٍّ واحدٍ وسليقةٍ واحدةٍ طيلةَ نيابةِ النواب الأربعة المُختلفين أُسلوباً وسليقةً وذوقاً وخَطّاً وبياناً، ومثل هذا كاشفٌ بالضـرورةِ عن وجود (الرجل)، لأنَّه قد ثبتَ واستقرَّ في الأوساط الأدبية وبما لا يقبل الشكّ أنَّ الأُسلوب هو للرجل، وكُلُّ الدارسين والمتذوّقين للأدبِ يدركون هذه الحقيقة بوضوحٍ.
وبعد هذه القرينة والشواهد القويَّة على وجودِ الإمامِ المَهدي عليه السلام، كما يُؤكِّدها السيِّد الشهيد رحمه الله يتَّجه إلى منطقِ الاستقراءِ ونظرية الاحتمالِ لتعزيز ذلك، فيقول:
(لقد قيل قديماً: إنَّ حبلَ الكذبِ قصيرٌ، ومنطق الحياة يُثبتْ أيضاً أنَّ مِن المُستحيل عملياً بحسابِ الاحتمالات أنْ تعيشَ أُكذوبةٌ بهذا الشكل وكلّ هذه المدَّة وضمن كلّ تلك العلاقات والأخذ والعطاء ثمّ تكسبُ ثقةَ جميعِ من حولها).
وهكذا يَخلصُ السيِّد الشهيد رحمه الله إلى القولِ أخيراً:
(إنَّ ظاهرةَ الغيبة الصغرى يمكن أنْ تُعتَبرَ بمثابةِ تجربةِ علميةِ لإثبات ما لها من واقع موضوعي، والتسليم بالإمامِ القائدِ، بولادته وحياته وغيبته وإعلانه العامّ عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسـرح ولم يكشف نفسه لأحد، أي حتَّى يأذن الله تعالى له بالظهور لتأدية دوره ووظيفته التغييرية الكبرى، «فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما مُلِئَتْ ظلماً وجوراً»(37)، كما بشَّـر بذلك خاتم الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا هو ما عليه اعتقاد الإماميَّة، ومُقتضـى توقيعِ الإمامِ الثاني عشر بإعلانه الغيبة الكبرى(38) (39).

 

 

مصادر البحث:
* القرآن الكريم.
* الاحتجاج: الطبرسي/ 1983م/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
* الإرشاد: الشيخ المفيد/ ط 2/ ت مؤسَّسة آل البيت/ قم.
* أُصول الفقه: الشيخ محمّد رضا المظفَّر/ط 1/ دار الغدير/ قم.
* أضواء على عقائد الشيعة الإماميَّة: الشيخ جعفر السبحاني/ مؤسَّسة الإمام الصادق عليه السلام.
* الإمامة في أهمّ الكتب الكلامية: السيِّد عليّ الحسيني الميلاني.
* بحث حول المهدي عليه السلام: السيِّد محمّد باقر الصدر/ ط 1 المحقَّقة/ 1417هـ/ مركز الغدير للدراسات الإسلاميَّة.
* بحث حول الولاية: السيِّد محمد باقر الصدر/ ط 2/ 1399هـ/ دار التعارف للمطبوعات/ بيروت.
* الحاوي للفتاوي: جلال الدين السيوطي.
* حقُّ اليقين في معرفة أُصول الدين: السيِّد عبد الله شبَّر/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
* الشافي في الإمامة: السيِّد المرتضـى/ ت السيِّد عبد الزهراء الحسيني/ ط 2/ نشـر مؤسَّسة الصادق للطباعة والنشر/ طهران.
* صحيح البخاري: البخاري/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
* صحيح مسلم: مسلم النيسابوري.
* علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ 1966م/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف.
* الغيبة: الشيخ الطوسي/ ط 1/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة.
* فِرَق أهل السُّنَّة، جماعات الماضي وجماعات الحاضر: صالح الورداني/ مركز الأبحاث العقائدية.
* الكافي: الشيخ الكليني/ ط 3/ 1388هـ/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
* كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: العلَّامة الحلّي/ 1435هـ/ مؤسَّسة النشـر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
* كفاية الأثر في النصِّ على الأئمَّة الاثني عشـر: الخزّاز القمّي/ 1401هـ/ نشـر بيدار/ قم.
* لسان العرب: ابن منظور.
* اللوامع الإلهيَّة في المباحث الكلامية: السيوري/ ت مجمع الفكر الإسلامي/ ط 1/ 1424هـ/ قم.
* المحكم في أُصول الفقه: السيِّد محمّد سعيد الحكيم/ ط 1/ 1994م/ مؤسَّسة المنار.
* المستجاد من الإرشاد: العلَّامة الحلّي.
* المسلك في أُصول الدين: العلَّامة الحلّي/ ط 1/ 1414هـ/ مجمع البحوث الإسلاميَّة/ إيران/ مشهد.
* منهاج الكرامة في معرِفة الإمامة: العلَّامة الحلّي/ ط 1/ مؤسَّسة عاشوراء.
* المهدي المنتظر الإمام الثاني عشـر: السيِّد محمّد سعيد الحكيم/ ط 1/ 2014م/ مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي عليه السلام.
* المواقف في علم الكلام: عضد الدين الإيجي.
* النافع يوم الحشـر: السيوري/ ط 2/ دار الأضواء.
* النور الساطع في الفقه النافع: الشيخ عليّ كاشف الغطاء/ 1963م/ مط الآداب/ النجف الأشرف.

الهوامش:
(1) علل الشرائع للصدوق 1: 9.
(2) الشافي في الإمامة 1: 47.
(3) المحكم في أُصول الفقه 2: 177.
(4) المسلك في أُصول الدين 1: 188.
(5) كشف المراد للعلَّامة الحلّي: 490.
(6) أضواء على عقائد الشيعة الإماميَّة: 385.
(7) الشافي في الإمامة 1: 53.
(8) لسان العرب/ مادَّة (لطف).
(9) اللوامع الإلهية للسيوري: 227.
(10) كشف المراد: 444.
(11) النافع يوم الحشر: 87.
(12) اُنظر: اللوامع الإلهية: 213 و214.
(13) النور الساطع 1: 217.
(14) الشافي في الإمامة 1: 180.
(15) تُنسَبُ هذه الفرقةُ إلى أبي الحسن الأشعري، كان من أتباع فرقة المعتزلة ثمّ انشقَّ عليها، وقام بطرح أفكاره الجديدة التي قامت على أساسها فرقة الأشاعرة، وهي أفكار تتعلَّق بالاعتقاد، أمَّا ما يتعلق بالفقه فقد التزم فيه بفرقة الشافعي، وجاء الأشعري بأفكاره من أجل التوفيق بين العقل والنقل، أي بين الفِرَق التي أسرفت في الاعتماد على أحاديث وأقوال الصحابة والتابعين والفِرَق التي أسرفت في استخدام العقل إلَّا أنَّه مال أكثر لأهل السُّنَّة. (اُنظر: فِرَق أهل السُّنَّة، جماعات الماضي وجماعات الحاضر للورداني: 133).

(16) وقد ظهرتْ هذه الفرقة أوَّل ما ظهرت في البصـرة، متمثِّلة في شخص واصل بن عطاء، حيث كان من تلاميذ الحسن البصـري، ثمّ انفصل عنه، ليُؤسِّس مدرسة عُرِفَت فيما بعد بمدرسة الاعتزال بالبصـرة. في قبال مدرسة الاعتزال في بغداد، والتي أسَّسها بعد ذلك تلميذه بشـر بن المعتمر الملقَّب بالهلالي والمكنّى بأبي سهل. (اُنظر: فِرَق أهل السُّنة، جماعات الماضي وجماعات الحاضر للورداني: 43).
(17) كشف المراد: 492.
(18) عضد الدين الإيجي (٦٨٠ - ٧٥٦هـ)، هو قاضٍ ومتكلَّم وفقيه ولغوي، شافعي المذهب، من أهل إيج بفارس.
(19) المواقف 3: 583.
(20) المهدي المنتظر، الإمام الثاني عشر: 193 - 196.
(21) الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميَّة لعلي الميلاني: 47.
(22) الإرشاد 2: 342.
(23) حقُّ اليقين: 183.
(24) حقُّ اليقين: 184.
(25) الاحتجاج 1: 75.
(26) بحث حول الولاية: 80.
(27) بحث حول الولاية: 81.
(28) الإرشاد 2: 340؛ المستجاد من الإرشاد: 233.
(29) منهاج الكرامة: 144.
(30) النافع يوم الحشر: 101.
(31) كشف المراد: 539.
(32) الحاوي للفتاوي للسيوطي 2: 214.
(33) كفاية الأثر للخزّاز القمّي: 249، في ذكر ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام في النصِّ على إمامة الإمام المهدي عليه السلام، أنَّه قال: «إنَّ قائمنا هو التاسع من ولد الحسين، لأنَّ الأئمَّة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشـر، وهو القائم». قلتُ: يا سيِّدي، فمن هؤلاء الاثنا عشـر؟ قال: «أوَّلهم عليّ بن أبي طالب، وبعده الحسن والحسين، وبعد الحسين عليّ بن الحسين، وأنا، ثمّ بعدي هذا - ووضع يده على كتف جعفر -». قلت: فمن بعد هذا؟ قال: «ابنه موسى، وبعد موسى ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه محمّد، وبعد محمّد ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه الحسن، وهو أبو القائم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً ويشفي صدور شيعتنا». قلت: فمتى يخرج يا رسول الله؟ قال: «لقد سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: إنَّما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلَّا بغتة».
(34) حديثُ «الخلفاء بعدي اثنا عشـر كلّهم من قريش»، أو حديثُ «لا يزال هذا الدين قائماً ما وليه اثنا عشـر كلّهم من قريش»، هذا الحديثُ متواترٌ، روته الصحاح والمسانيد بطرق متعدِّدة وإنْ اختلفت في متنه قليلاً، نعم اختلفوا في تأويله واضطربوا. (يُراجَع: صحيح البخاري 9: 101/ كتاب الأحكام من باب الاستخلاف؛ وصحيح مسلم 2: 119/ كتاب الإمارة).
(35) التواتر: هو ما أفادَ سكون النفس سكوناً يزولُ معه الشكّ، ويحصل الجزم القاطع من إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب، فإنَّه يجب - ليكون الخبرُ متواتراً موجباً للعلم - أن تتوفَّر شروط التواتر في كلِّ طبقة، طبقة من وسائط الخبر وإلَّا لا يكون الخبر متواتراً في الوسائط المتأخِّرة، لأنَّ النتيجة تتبع أخسّ المقدَّمتين. (اُنظر: أُصول الفقه للمظفَّر 2: 54).
(36) صحيح البخاري/ ج 3/ كتاب الأحكام/ باب الاستخلاف.
(37) الكافي 1: 338.
(38) الغيبة للطوسي: 395، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه، قال: حدَّثني أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتَّب، قال: كنتُ بمدينة السلام في السنة التي توفّي فيها الشيخ أبو الحسن عليّ بن محمّد السمري قدس سره، فحضـرته قبل وفاته بأيّام فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليّ بن محمّد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستَّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامَّة، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي مَنْ يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليّ العظيم». قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمَّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه، وقضى، فهذا آخر كلام سُمِعَ منه رضي الله عنه وأرضاه.
(39) بحث حول المهدي عليه السلام 34:

العدد ٣ / جمادى الآخرة / ١٤٣٨ هـ : ٢٠١٧/٠٢/٠٩ : ٥.٨ K : ٠
: مرتضى علي الحلي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

محتويات العدد: