المهدويَّة في الأشعار الأمويَّة والعبّاسيَّة (مقاربة نقديَّة نصّيَّة)
المهدويَّة في الأشعار الأمويَّة والعبّاسيَّة
(مقاربة نقديَّة نصّيَّة)
أ.د. أحمد حياوي السعد(1)
بحث مشارك في مسابقة خاتم الأوصياء (عجّل الله فرجه) للإبداع الفكري وحاز على المركز الرابع
مدخل أوَّلي للمقاربة:
تُعَدُّ المهدويَّة من أوضح الواضحات في المجتمع البشري، ولا يكاد شعبٌ من الشعوب أو أُمَّةٌ من الأُمم تخلو منها، وإن تفاوتت من زمن إلى آخر، أو اختلفنا نحن الإماميَّة مع الآخرين في تحديد وتشخيص هويَّة المصلح العالمي، وأنَّ المصلح الموعود هو الحجَّة بن الحسن (عليه السلام) أو غيره.
أمَّا سبب وضوحِها وجلائِها، فلربَّما يرجع إلى أنَّ نفسيَّة الناس تكره الظلم وتُحِبُّ العدل - سُنَّتهم في جميع الأزمنة والأمكنة -، فإذا لم يتحقَّق العدل في زمنهم لِأَيِّ سببٍ من الأسباب اشرأبَّت نفوسهم إلى حاكم عادل تتحقَّق على يديه العدالة بجميع أشكالها.
ولهذا السبب كان التبشير بها عنصراً أصيلاً في نصوص مختلف الديانات والدعوات النبويَّة. وهذا كاشف عن أرضيَّة اعتقاديَّة رسَّخها الوحي الإلهي فيها جميعاً، ودعمتها حياة الأنبياء (عليهم السلام) التي شهدت غيبات متعدِّدة، مثل غيبة إبراهيم الخليل (عليه السلام) وعودته، وغيبة موسى (عليه السلام) عن بني إسرائيل وعودته إليهم بعد السنين التي قضاها في مَدين، وغيبة عيسى (عليه السلام) وعودته في آخر الزمان التي أقرَّتها الآيات القرآنية، وما اتَّفق عليه المسلمون من الأحاديث النبويَّة الشريفة، وغيبة نبيِّ الله إلياس (عليه السلام) التي قال بها أهل السُّنَّة كما صرَّح بذلك مفتي الحرمين الكنجي الشافعي، في الباب الخامس والعشرين من كتابه (البيان في أخبار صاحب الزمان)، وصرَّح كذلك بإيمان أهل السُّنَّة بغيبة الخضر (عليه السلام)، وهي مستمرَّة إلى ظهور المهدي (عليه السلام) في آخر الزمان.
إذن قضيَّة الغيبة - التي كانت الداعم لهذا الأصل -، قبل ظهور المصلح العالمي، ليست مستغربة لدى الأديان السماويَّة، ولا يمكن لِمُنصف أنْ يقول بأنَّها قائمة على الخرافات والأساطير - كما يزعم بعض المستشرقين ومَنْ وافقهم بأُسطوريَّة ظهور المهدي في آخر الزمان (2) -، لأنَّ الخرافات والأساطير لا يمكن أنْ تُوجِد فكرة متأصِّلة بين جميع الأديان دون أنْ ينكر أيٌّ من علمائها أصلها. فلم ينكر أحدٌ منهم أصل الفكرة، وإنْ أنكر مصداقها في غير الدين الذي عشقه.
والملاحظ أنَّ الإيمان بحتميَّة ظهور المصلح العالمي ودولته العادلة لا يختصُّ بالأديان السماويَّة، بل يشمل المدارس الفكريَّة والفلسفيَّة غير الدينيَّة أيضاً. فنجد في التراث الفكري الإنساني الكثير من التصريحات بهذه الحتميَّة، فمثلاً يقول المفكِّر البريطاني الشهير برتراند راسل: (إنَّ العالم في انتظار مصلح يُوحِّده تحت لواء واحد وشعار واحد) (3).
ويقول العالم الفيزيائي المعروف ألبرت أينشتاين صاحب النظرية النسبيَّة: (إنَّ اليوم الذي يسود العالم كلَّه فيه السلام والصفاء، ويكون الناس متحابّين متآخين ليس ببعيد) (4).
وأدقُّ وأصرح من هذا وذاك ما قاله المفكِّر الإيرلندي المشهور برناردشو، فقد بشَّر - بصراحة - بحتميَّة ظهور المصلح، وبلزوم أنْ يكون عمره طويلاً يسبق ظهوره، ويرى ذلك ضرورياً لإقامة الدولة الموعودة. فقد قال في كتابه الإنسان السوبرمان - حسب ما نقله الأُستاذ عبّاس محمود العقّاد في كتابه عن برناردشو - في وصف المصلح العالمي بأنَّه: (إنسانٌ حيٌّ ذو بُنية جسديَّة صحيحة وطاقة عقليَّة خارقة، إنسان أعلى يترقَّى إليه هذا الإنسان الأدنى بعد جهد طويل، وأنَّه يطول عمره حتَّى ينيف على ثلاثمائة سنة، ويستطيع أنْ ينتفع بما استجمعهُ من أطوار العصور، وما استجمعهُ من أطوار حياته الطويلة) (5).
وغنيٌّ عن البيان أنَّ الأوصاف التي يذكرها المفكِّر الإيرلندي للمصلح العالمي من الكمال الجسمي والعقلي، وطول العمر، والقدرة على استجماع خبرات العصور والأطوار بما يُمكِّنهُ من إنجاز مهمَّته الإصلاحيَّة الكبرى، قريبة من الأوصاف التي يعتقد بها مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في المهدي المنتظر (عليه السلام) وغيبته.
على أنَّ الإحساس بهذا الشعور الغيبي، والمُستقبل المُنْتَظَر، لم يقتصر على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتدَّ إلى غيرهم أيضاً، وانعكس حتَّى على أشدّ الأيديولوجيات والاتِّجاهات الغيبيَّة رفضاً للغيب، كالمادّيَّة الجدليَّة التي فسَّرت التاريخ على أساس التناقضات، وآمنت بيوم موعود تُصفَّى فيه كلُّ التناقضات، ويسود فيه الوئام والسلام. وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنَّما يبرهن على أنَّ الإيمان بالفكرة التي يُجسِّدها المهدي الموعود هي من أكثر الأفكار انتشاراً بين بني الإنسان كافَّة؛ لأنَّها تستند إلى فكرة التطلُّع للكمال بأشمل صورة، أي إنَّها تُعبِّر عن حالة فطريَّة عامَّة، لذلك فإنَّ تحقُّقها حتميٌّ؛ لأنَّ الفطرة لا تطلب ما هو غير موجود، كما هو معلوم.
المهدويَّة والرَّجعة:
يُقصَد بالمهدويَّة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام)، وهو في الفكر الإسلامي ذلك الرجل الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً. حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تقوم الساعة حتَّى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً، ثمّ يخرج رجل من عترتي أو من أهل بيتي -الترديد من الراوي- يملؤها قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وعدواناً» (6).
وأمّا الرَّجعة، فهي عقيدة لازمة لفكرة المهدويَّة. وهي من ضروريات مذهب الإماميَّة الاثني عشرية حتَّى صار القول بها مدحاً في الرجل عند الخاصَّة، وعلامة من علامات التشيُّع عند العامَّة. ومعنى الرَّجعة: بعث أشخاص من الأموات عند ظهور القائم (عليه السلام). وقد دلَّ النقل عليه فيجب المصير إليه. قال الشيخ المُفيد (قدس سره): (إنَّ الله تعالى يردُّ قوماً من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعزُّ منهم فريقاً، ويذلُّ فريقاً، ويديل المحقِّين من المُبطلين، والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد (عليهم السلام)...) (7)، إلى أنْ يقول: (ثمّ يصير الفريقان من بعد ذلك إلى الموت ومن بعده إلى النشور، وما يستحقّونه من دوام الثواب والعقاب)(8).
ويُستفاد من مجموع الأخبار المستفيضة من طُرُق الإماميَّة أنَّ الراجعين صنفان من المؤمنين والكافرين، فقد رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: (إنَّ الرَّجعة ليست بعامَّة، وهي خاصَّة، لا يرجع إلَّا مَنْ محض الإيمان محضاً أو محض الشرك محضاً) (9). أمَّا سوى هذين الصنفين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب.
المهدويَّة عند شعراء أهل البيت (عليهم السلام):
لعلَّ مبدأ التشيُّع بما ينطوي عليه من صور الثورة على الواقع المُزري، والتطلُّع صوب مستقبل يلتقي فيه هذا الواقع بمثاله في دولة الأئمَّة المنتظرة (عليهم السلام) التي تسير في فلك النبوَّة، وتهتدي بهدي القرآن الكريم، أتاح لشعراء أهل البيت (عليهم السلام) - على اختلاف فِرَقهم - أنْ ينهلوا من معينه رحيقاً لا ينضب لشاعريتهم، ويُعبِّروا من خلاله عن نزوعهم النفسي إلى الكمال، وعن تطلِّعهم إلى تحرير مشاعرهم الحبيسة في أعماقهم. والذي نهتمُّ له في هذا الحديث هو دور الشعر في الدعوة إلى المهدويَّة.
فالشاعر كُثيِّر بن عبد الرحمن الخزاعي كان كيساني المذهب، وقال برجعة محمّد بن الحنفيَّة على أنَّه الإمام المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلاً، بعدما مُلئت جوراً (10):
أقرَّ اللهُ عيني إذْ دعاني وأَثنَى في هوايَ عليَّ خيراً هو المهدي خبرناهُ كعبٌ |
|
أمينُ اللهِ يلطفُ في السؤالِ ويسألُ عن بَنِيِّ وكيفَ حالي أخو الأحبارِ في الحِقَبِ الخوالي |
وهو يرى أنَّ الأئمَّة من قريش أربعة وهم: (عليٌّ وأبناؤهُ الثلاثة) الحسن والحسين ومحمّد، وأنَّ محمّداً هو المهدي المنتظر، الذي ورث عن أبيه علم الباطن، ولكنَّه توارى بأمر الله في جبل (رضوى) يأكل العسل ويشرب الماء، وسيعود بعد غياب، وهو يقود جيشاً جرَّاراً يرفع رايةَ الحقِّ، ويُحرِّر البشر من الظلم (11):
أَلَا إنَّ الأئمَّة من قريشٍ عليٌّ والثلاثةُ من بنيهِ فسبطٌ سِبطُ إيمانٍ وحلمٍ وسبطٌ لا يذوقُ الموتَ حتَّى تَغيَّبَ لا يُرى عنهم زماناً |
|
وُلاةُ الحقِّ أربعةٌ سواءُ هم الأسباطُ ليس بهم خَفاءُ وسبطٌ غيَّبتهُ كربلاءُ يقودَ الخيلَ يقدمها اللواءُ بِرضْوَى عِندهُ عسلٌ وماءُ |
ولذا راح كُثيِّر ينتظرهُ ويتعجَّل عودته؛ ليأنس بعودتِهِ حيث يقول (12):
ألَا قُلْ للوصيِّ فدتكَ نفسي |
|
أَطَلتَ بذلكَ الجبلِ المُقاما |
والحقُّ أنَّ محمّد بن الحنفيَّة من كلِّ ذلك الذي نُسِبَ إليه وارتكب باسمِهِ بُراء، فلقد كان سيِّداً جليلاً فاضلاً ورعاً، ورث الفضل والتُّقى والحجى عن أبيه عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام).
ولقد ينبغي هنا أنْ نشير إلى أنَّ من الشيعة مَنْ كان يعتقد أنَّ المهدي المغيَّب (بشعب رضوى) هو الإمام عليٌّ (عليه السلام) وهذا واضح في قول البحتري يردُّ على شاعر العبّاسيين عليِّ بن الجهم (13):
لِأَيَّةِ حالةٍ تَهْجُو عليّاً |
|
بِمَا لَفَّقْتَ مِنْ كَذِبٍ وَزُورِ |
وقول عليِّ بن الجهم هو (14):
ورافضة تقول بشعب رضوى |
|
إمام خابَ ذلك من إمامِ |
وليس جديداً القول: إنَّ المهدي المنتظر عند الشيعة هو الإمام الثاني عشر، واسمه محمّد المهدي، وأنَّه اختفى سنة (260ه)، فإنْ أخذنا بما ورد في شعر كُثيِّر عزَّة، وشعر عليِّ بن الجهم، فأَخْذُنا يدلُّ على قِدَم القول باختفاء المهدي وبعودتِهِ المُرتقبة. وممَّا يُسوِّغ ذلك عندنا ويُقوِّيه أنَّ الكميت الأسدي -وكان آن ذاك زيدي الرأي- حدَّد صفاته، فهو إمام عادل من آل البيت (عليهم السلام)، شجاع مبارك، يغلب الظَّلَمَة، ويُحْيي ببركتِهِ النِّعَم، ويُقيم بعدلِهِ ميزانَ الحقِّ، فيرتدُّ الجدبُ خصباً، والإجحافُ إنصافاً (15):
بِمَرْضِيِّ السياسةِ هاشميٍ وليثاً في المشاهدِ غيرَ نِكْسٍ يُقيمُ أُمورَها وَيَذُبُّ عنها |
|
يكونُ حَيَّاً لِأُمَّتِهِ رَبِيعَا لِتقويمِ البريَّةِ مُستَطيعَا وَيَترُكُ جَدْبَهَا أبداً مَرِيعَا |
ولقد روى الكميت -نفسه- أنَّه أنشد قصيدةً للإمام الباقر (عليه السلام) يُرثي بها الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، قال فيها (16):
أَضْحَكَني الدَّهرُ وأَبْكاني لِتِسعةٍ في الطَّفِّ قد غُودِرُوا |
|
والدَّهرُ ذو صَرْفٍ وأَلوانِ صَارُوا جميعاً رَهْنَ أَكْفانِ |
فبكى الإمام الباقر (عليه السلام) وبكى الجميع، حتَّى وصل الكميت لذكر الإمام الحجَّة (عليه السلام)، إذ قال (17):
مَتَى يَقومُ الحقُّ فِيكُمْ مَتَى |
|
يَقومُ مَهْدِيُّكُمُ الثَّاني؟ |
فقال الإمام الباقر (عليه السلام): «سريعاً إنْ شاء الله يا أبا المستهل.. إنَّ قائمنا هو التاسع من ولد الحسين (عليه السلام)» (18)، وهذا ممَّا يدلُّ على أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) قد أخبروا شيعتهم ومُحبِّيهم عن الإمام الحجَّة (عليه السلام) قبل ولادته.
وقد روي أنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) كان كثيراً ما يُكرِّر هذا البيت (19):
لكُلِّ أُناسٍ دولةٌ يرقبونها |
|
ودولتنا في آخرِ الدَّهرِ تظهرُ |
ففي هذا البيت يخبر الإمام الصادق (عليه السلام) شيعتَهُ ومحبِّيه بوجود دولة لهم في آخر الزمان بقيادة الإمام الحجَّة (عليه السلام)، ولعلَّه من هنا كان الكميت يدعو الله مخلصاً لقيام دولتهم العادلة، وهذا ما يُعبِّر عنه حين يقول (20):
فيا ربِّ عجِّلْ ما نُؤَمِّلُ فيهُمُ وَيَنْفَذُ في راضٍ مُقِرٍّ بحُكْمِهِ |
|
لِيَدْفَأَ مَقْرُورٌ ويَشْبَعَ مُرْمِلُ وفي سَاخِطٍ مِنَّا الكتابُ المُعَطَّلُ |
ويبدو أنَّ من الزيديَّة - وكان الكميت الأسدي في بادئ أمره على رأيهم ومذهبهم - مَنْ كان يدَّعي إمامةَ زيد بن عليِّ بن الحسين (عليهما السلام)؛ لأنَّ من شعراء الحزب الأُموي مَنْ كان يتهكَّم من فكرة المهدويَّة لدى الشيعة ويتندَّرون بها، فيقول شاعرهم حكيمُ بن عيَّاش الكلبي (21):
صَلَبْنا لكم زيداً على جِذْعِ نَخْلَةٍ |
|
ولم نَرَ مَهْديَّاً على الجِذْعِ يُصْلَبُ |
ويقول بعد هذا البيت:
وَقِسْتُم بعثمانٍ عَلِيَّاً سفاهةً |
|
وعثمانُ خيرٌ من عليٍّ وأَطْيَبُ |
ويُروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه لمَّا سمع هذا الهجاء رفع يديه وهما يرعشان، وقال: «اللّهمّ إنْ كان عبدكَ كاذباً فسلِّط عليه كلبك»، فبعثه بنو أُميَّة إلى الكوفة، فبينا يدور في سككها إذْ افترسه الأسد، واتَّصل خبره بجعفر الصادق (عليه السلام) فخرَّ ساجداً، ثمّ قال: «الحمد لله الذي أنجزنا وعده» (22).
ومن الشعراء الذين ذكروا في قصائدهم عقيدة الإمام المهدي (عليه السلام) الشاعر الورد بن زيد الأسدي - أخو الكميت -، فله قصيدة مدحيَّة في آل البيت (عليهم السلام) أنبأَ فيها عن بناء سامراء، وغيبة الإمام الحجَّة (عليه السلام) فيها، ورؤيته بالحجاز، وشبَّهه بالأنبياء - كلُّ ذلك قبل حدوث هذه الأُمور بعشرات السنين، ممَّا يكشف عن عمق هذه العقيدة وانتشارها بين قواعد الشيعة آنذاك ومحبِّيهم والموالين لهم -، وقد عرض ذلك كلَّه على الإمام الباقر (عليه السلام) إذْ قال (23):
مَتَى الوليدُ بسامَرَّا إذا بُنيَتْ حتَّى إذا قَذَفَتْ أرضُ العراقِ بهِ وغابَ سَبْتاً وسَبْتاً من ولادتِهِ لا يَسأمونَ به الجُوَّابُ قد تَبِعُوا شبيهُ موسى وعيسى في مَغابِهما إنِّي لأرجُو له رُؤيا فأُدرِكُهُ |
|
يبدو كَمِثل شهابِ اللَّيلِ طَلاَّعِ إلى الحجازِ أناخوهُ بِجَعْجَاعِ (24) مَعْ كُلِّ ذي جُوَبٍ للأرضِ قَطَّاعِ أسباطَ هارونَ كيلَ الصَّاعِ بالصَّاعِ لو عاشَ عُمْرَيهِما لم يَنْعَهُ ناعي حتَّى أكونَ لهُ من خيرِ أتباعِ |
ودفعاً لِمَظنَّة عِلْم الشاعر بالغيب، ومعرفته ما يحصل في نهاية الزَّمان من أحداث وظهور، نراه يعترف بأنَّه سمع ذلك كلَّهُ من الأئمَّة الطاهرين (عليهم السلام) الذين كانت علومهم امتداداً لعلوم جدِّهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك قال (25):
بذاكَ أنبأَنا الرَّاوونَ عن نَفَرٍ رَوَتْهُ عنكُم رواةُ الحقِّ ما شَرَعَتْ |
|
منهم ذوي خَشْيَةٍ للهِ طُوَّاعِ آباؤُكُمْ خيرُ آباءٍ وَشُرَّاعُ |
وهذه المعاني من جملة ما عبَّر عنه العبدي الكوفي يمدح الإمام عليَّاً (عليه السلام) ويذكر الأئمَّة (عليهم السلام) من بعده إلى الإمام المهدي (عليه السلام) (26):
وابنيه من هالكٍ بالسُّمِّ مخترمٍ لولا الفعيلةُ ما قادَ الذينَ هُمُ والعابد الزاهد السجّاد يتبعهُ وجعفر وابنه موسى ويتبعه ال والعسكريَّينِ والمهديُّ قائمهم مَنْ يملأ الأرضَ عدلاً بعدما مُلئتْ |
|
ومن معَفَّرِ خَدٍّ في الثَّرى تربِ أبناءُ حربٍ إليهم جحفل الحربِ وباقر العلم داني غاية الطلبِ برُّ الرضا والجواد العابدِ الدَّئبِ ذو الأمرِ لابس أثواب الهدى القشبِ جوراً ويقمع أهلَ الزَّيغِ والشَّغَبِ |
وكان السيِّد الحميري لا يزال يُؤمِن مثل كُثيِّر عزَّة برجعة محمّد بن الحنفيَّة. فقد حدَّث ابن المعتزِّ -بسنده- عن محمّد بن عبد الله، قال: قال السدري راوية السيِّد: كان السيِّد أوَّل زمانه كيسانياً يقول برجعة محمّد بن الحنفيَّة وأنشدني في ذلك (27):
حتَّى مَتى؟ وإلى مَتى؟ وكمِ المَدى؟ |
|
يا بْنَ الوصيِّ وأنتَ حيٌّ تُرْزَقُ |
وقد جلَّى عقيدته بالإمام الرابع في أبيات أُخَر كان يجيب بها على كلِّ مَنْ سأله عنها كما في فوات الوفيات (28):
سَمِيُّ نبيِّنا لم يبقَ منهمْ تغيَّبَ غيبةً من غيرِ موتٍ وبينَ الوحشِ يَرعى في رياضٍ فحلَّ فما بها بَشرٌ سِواهُ إلى وقتٍ ومُدَّةُ كُلِّ وقتٍ |
|
سِواهُ فَعِندَهُ حصلَ الرَّجاءُ ولا قَتْلٍ وسارَ به القَضاءُ مِنَ الآفاقِ مَرْتعُها خَلاءُ بِعَقْوتِهِ لهُ عَسَلٌ وماءُ وَإنْ طالتْ عليه لها انْقِضاءُ |
فإمامه - في هذه الأبيات - تغيَّب من غير موتٍ ولا قتلٍ وسار به القضاء من غير هذين الطريقين إلى (رياض من الآفاق مرتعُها خلاءُ)، وليس يرعى فيها معه غير الوحش من الظباء، وعنده عينان نضَّاحتان، تجريان بعسل وماء يستعين بهما على قضيَّة الوقت الذي لا بدَّ وأنْ ينقضي (ومدَّةُ كُلِّ وقتٍ وإنْ طالتْ عليه لها انْقِضاءُ).
وينبغي أنْ نلاحظ هنا أنَّ للسَّيِّد قصائد فيها إقرارٌ بالخلافة العبّاسيَّة، والذَّب عنها حتَّى يرجع محمّد بن الحنفيَّة. فلم يكد أبو العبّاس السفاح يظهر بالكوفة، ويخطب في أهلها، ويأخذ منهم البيعة حتَّى بادر السيِّد الحميري إليه، وحفَّ به، فرحاً بانتصار العبّاسيين، ومستبشراً بقيام دولتهم، فله يقول مهنِّئاً ومبايعاً (29):
دُونَكُمُوها يا بَني هاشمٍ دُونَكُمُوها لا عَلاَ كعبُ مَنْ دُونَكُمُوها فالبَسوا تاجَها خلافةُ اللهِ وسلطانُهُ قد ساسَها من قبِلكم ساسَةٌ لو خُيِّر المنبرُ فرسانَهُ والمُلْكُ لو شُووِرَ في سائسٍ لم يُبْقِ عبدُ اللهِ بالشَّامِ منْ فلستُ من أنْ تملِكوها إلى |
|
فَجدِّدوا من آيِها الطَّامِسا أمسى عليكُم مُلْكَها نافِسا |
فهو يبارك له بالخلافة، ويراها باقية في العبّاسيين، صافية لهم، حتَّى يعود محمّد بن الحنفيَّة من غيبتِهِ، وهي عودةٌ رَمَزَ لها بهبوط عيسى على الأرض. ولعلَّه لذلك وصفه الدكتور طه حسين بالمنافقة أو التقيَّة في مدائحه للعبّاسيين؛ لأنَّه (كان يستحلُّ أنْ يُظهِر غير ما يضمر، وأنْ يمدح بني العبّاس بلسانه ويلعنهم في قلبه، فيظفر بمالِهِم، ويتَّقي شرَّهم) (30). وجاراه في ذلك أحمد الشايب، إذْ ظنَّ أنَّه (جمعَ بين التعصُّب للعلويين تديُّناً، ومدح العبّاسيين تكسُّباً) (31).
ومن المحقَّق أنَّه لم يمدحهم منافقاً أو متكسِّباً أو متَّقياً، وإنَّما مدحهم مؤمناً بهم، مسلِّماً بخلافتهم، فهم أولياء المذهب الكيساني الذي يدين به. ومعروف أنَّ بعض الكيسانيَّة -وفيهم جمهور فرقة الهاشميَّة- كانوا يعتقدون بأنَّ العبّاسيين ورثوا الإمامة عن أبي هاشم -عبد الله بن محمّد بن الحنفيَّة-، لأنَّه أوصى بها لمحمّد بن عليٍّ العبّاس، فساقها محمّد لابنه إبراهيم، ثمّ ساقها إبراهيم لأخيه أبي العبّاس السفاح. فالعبّاسيون في نظر الكيسانيَّة هم أوصياء المذهب الكيساني، وخلافتهم صحيحة مقبولة عندهم.
ومن الطبيعي لذلك أنْ يواليهم السيِّد الحميري، ويُهلِّل لنجاحهم، ويرتضي خلافتهم، فقد كان يعتقد أنَّ ظَفَرهم بالأُمويين وفوزهم بالدولة فوزاً لمذهبه وفرقته. ولذالك صرَّح -كما قلنا- في تهنئتِهِ لأبي العبّاس السفاح بأنَّ خلافته تجديد لخلافة عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، كما ربط تأييده لبني العبّاس بغياب محمّد بن الحنفيَّة، فإذا رجع وجب أنْ يتنازلوا له عن الإمامة، ويُسلِّموا الخلافة.
وما زال السيِّد يقول بمذهب الكيسانيَّة حتَّى لَقِي الإمام الصادق (عليه السلام) بمكَّة أيّام الحجِّ فناظره وألزمه الحجَّة، فرجع عن ذلك، واعتنق مذهب الإماميَّة، وهو القائل (32):
ولمَّا رأيتُ الناسَ في الدِّينِ قد غَوَوْا وَدِنْتُ بدينٍ غيرِ ما كنتُ دائِناً ولكنَّهُ ممَّا مضى لِسبيلهِ |
|
تَجعْفرتُ باسمِ اللهِ فيمَنْ تَجعفرُوا |
والقائل أيضاً (33):
تركتُ ابنَ خولةَ لا عن قِلى |
|
وإنِّي لَكالكَلِفِ الوامِقِ |
ومن هنا ليس صحيحاً ما يزعمه أبو الفرج الأصفهاني (34)، ومَنْ تبعه من المحدِّثين من أمثال أحمد الشايب (35) وشوقي ضيف(36) وحسين عطوان(37)، من أنَّ السيِّد قد ظلَّ على كيسانيته إلى الرَّمق الأخير من حياتِهِ. يدلُّ على ذلك ما ذكرناه من أبيات، فضلاً عن قوله من قصيدة بعثها للإمام الصادق (عليه السلام) يشرح فيها أسرار اعتناقه لمذهب الكيسانيَّة، وقوله هو (38):
وما كانَ قولي في ابنِ خَولةَ مُبْطِناً ولكنْ رُوِينا عن وَصِيِّ محمّدٍ |
|
مُعاندةً مِنِّي لِنَسْلِ المُطَيَّبِ |
فحجَّته في مقام الثبوت -كما يُعبِّر الأُصوليون- أنَّ الرواية التي صحَّت عن الإمام عليٍّ (عليه السلام) وصيِّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) صريحة في غيبة وليِّ الأمر سنين... (39).
فلمَّا رُوِيِ أنَّ ابنَ خَولةَ غائبٌ وقُلنا هو المهديُّ والقائِمُ الذي |
|
صَرفْنا إليهِ قولَنا لمْ نَكْذِبِ |
فالمسألة -إذن- مسألة اجتهاد؛ لأنَّ الرواية الأُولى تنصُّ على غيبة إمامه، والرواية الثانية تقول إنَّ محمّداً قد غاب ولم تتحدَّث عن غيبة غيره، فإذن تسلم له النتيجة أنَّه هو الإمام، فليصرف القول إليه غير مُكذِّب وليتمَّ له اعتناق هذا المذهب بخصوصه حتَّى يبدو له ما ينقض إحدى مقدّمتيه، وفعلاً بدا له ما ينقض هذا المذهب واعتنق مذهب الإماميَّة أصحاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) حتَّى إنَّه قال ينعى نفسه قبل وفاته (40):
يا أهلَ كوفان إنِّي وامقٌ لكم |
|
مذْ كنتُ طِفلاً إلى السَّبعينَ والكبرِ |
فأئمَّة الشاعر -بعد الوصيِّ- جماعة عبَّر عنهم بلفظ الجمع (السيِّدينِ أُولي الحُسنى)، وإمامه الذي سيغيب هو (نجلهم) لا محمّد بن الحنفيَّة الذي كان أخاً للإمام الحسين (عليه السلام).
ونعدو السيِّد الحميري إلى الشاعر عليٍّ الخوافي، الذي عاش في عصر الإمام الرِّضا (عليه السلام)، وعندما تُوفّي الإمام (عليه السلام) رثاهُ بقصيدة ذكر فيها الإمام الحجَّة (عليه السلام)، وتمنَّى خروجه وإقامة دولة الحقِّ والإصلاح في هذه الأُمَّة، إذْ قال (41):
في كلِّ عصر لكم منَّا إمام هدى أمست نجوم سماء الدين آفلة |
|
فربعهُ آهلٌ منكم ومأنوسُ |
ومثل الخوافي، القاسم بن يوسف. وقد عمل في خلافة المأمون فكانت إليه جباية السواد. ونرى الصولي يروي له في كتاب الأوراق أشعاراً شيعيَّة مختلفة في مديح بني هاشم وبيان فضائل الإمام عليٍّ (عليه السلام)، وفي رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) وندبه ندباً حارَّاً، مُلوِّحاً بيده في وجه الشيخين أبي بكر وعمر، وفي وجوه خصوم الإماميَّة، مشيراً إلى مهديِّهم المنتظر (عليه السلام) الذي سيأخذ بثأرهم، فيقول (42):
إنِّي لأرجو أنْ تنالهُمُ بالقائمِ المهديِّ إنْ عاجلاً |
|
منّي يدٌ تشفي حَوَى الصَّدرِ أو آجلاً إنْ مُدَّ في عُمْري |
وإذا تركنا هذا الشاعر إلى أبي تمام الطائي، قيل لنا: إنَّه كان من رؤساء الرافضة (43)، وكان له شعرٌ في أهل البيت (عليهم السلام) كثير.
وقد أورد له الحافظ ابن شهر آشوب المازندراني في كتابه المناقب قصيدة -حُذِفَت من ديوانه المطبوع- يذكر فيها الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) حتَّى انتهى إلى الإمام المهدي (عليه السلام). والظاهر أنَّه ذكر فيها ما بعد أبي جعفر الثاني (الإمام الجواد (عليه السلام))؛ لكونه كان معتقداً إمامتهم بما ثبت من الآثار المرويَّة في الاثني عشر (عليهم السلام). يقول أبو تمام (44):
ربِّيَ اللهُ والأمينُ نبيِّي |
|
صفوةُ اللهِ والوصيُّ إمامي |
وعلى شاكلة أبي تمام، شاعر أهل البيت (عليهم السلام) دعبل بن عليٍّ الخزاعي. فقد أتاه نبأ عهد المأمون للإمام الرِّضا (عليه السلام) بالخلافة من بعده لسنة (201ه)، وكان المأمون لا يزال بخراسان فارتحل إليهما ولم يكد يَمْثُلُ بين أيديهما حتَّى أنشد تائيته المشهورة (45):
مدارسُ آياتٍ خَلتْ من تِلاوةٍ |
|
ومنزلُ وحيٍ مُقْفرُ العَرَصَاتِ |
وقد صوَّر فيها ما نزل بالعلويين من كوارث في (كربلاء) و(فخٍّ) نائحاً على قتلاهم وخاصَّة الإمام الحسين (عليه السلام) نواحاً مؤثِّراً ويفيض في حرمانهم من الاستمتاع بحقِّهم في الخلافة آملاً في خروج مهديِّهم المنتظر (عليه السلام) الذي يملأ الأرض عدلاً بعد أنْ مُلئت ظلماً وجوراً، وفيها يقول (46):
مَلامَكَ في أهلِ النَّبيِّ فإنَّهمْ |
|
أحبَّايَ ما عاشوا وأهلُ ثِقاتي |
فالخروج حتميٌّ وعلى لسان مَنْ لا ينطقُ عن الهوى إنْ هو إلاَّ وحيٌ يُوحى.
ودعبل على معرفة ويقين بهذا الخبر، عندما سأله الإمام الرِّضا (عليه السلام): «فهل تدري مَنْ هذا الإمام؟ ومتى يقوم؟»، فقال: لا يا مولاي، إلَّا أنِّي سمعت بخروج إمام منكم يُطهِّر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً كما مُلئت جوراً (47).
فالشاعر ذكر مسألة عقديَّة تخصُّ المشروع التكميلي للإمامة ألَا وهو الإمام الغائب (عليه السلام)، فكان خطابه الشعري بوتقة للتفاعل ما بين نصِّه الحاضر والنصِّ الغائب - حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) -، فجعله أداةً ناجحةً داخل تجربته يُقلِّبها وينهلُّ من معانيها ليرسم صورة المستقبل ويُذكِّر بقضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام)، وأنَّه سيخرج لا محالة ويُعيد الحقوق إلى أصحابها، ولذلك هو متفائل بالمستقبل وغير مبالٍ بالموت؛ لأنَّ عقيدته الولاء والمحبَّة لأهل البيت (عليهم السلام). ولمَّا كان عصر دعبل يطغى بالفوضى والاضطراب والصراع والمنازعات من الناحية السياسيَّة للاستيلاء على الخلافة، فلا بدَّ - إذن - من إعادة الحقِّ، وهي عودة مأمولة تُمثِّل الأمان لهذه الأُمَّة، وأنَّ الظهور أمرٌ من الله تعالى، وأنَّه يأتي بغتة مثل الساعة.
لقد أُعجب بالقصيدة الإمام الرضا (عليه السلام) فخلع عليه حُلَّةً من ثيابِهِ، ويُقال: إنَّ أهل مدينة (قم) المقدَّسة اشتروا منه الحُلَّة بثلاثين ألف درهم، كما اشتروا الدراهم المضروبة باسم الإمام الرِّضا (عليه السلام) كلَّ درهم بعشرة. ويقول ابن المعتزِّ: (إنَّ أهل هذه المدينة قسَّطوا له كلَّ سنة خمسين ألف درهم) (48).
وما دمنا قريبين من مدينة (قم) المقدَّسة فلا ضير أنْ نذكر شاعرها محمّد بن إسماعيل بن صالح الصَّيمري - وهو من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) -، فله قصيدة يمدح فيها أهل البيت (عليهم السلام) ويتعرَّض فيها للإمام الحجَّة (عليه السلام)، ويذكر فيها أنَّ للإمام غيبتين لا بدَّ منهما، وبعدهما سوف يظهر وينشر العدل والرفاه، وهو أمل هذه الأُمَّة المترقب. يقول (49):
عَشْرُ نجومٍ أَفَلَتْ في فُلْكِها |
|
ويُطْلعُ اللهُ لنا أَمثالَها |
وللشاعر عليِّ بن الحسين المعروف بلقب ابن الرومي قصيدة عصماء رثى بها الثائر الطالبي يحيى بن عمر العلوي الذي ثار ضدَّ بني العبّاس أيّام المتوكِّل والمستعين. وفي هذه القصيدة يُصوِّر هذا الشاعر مظالم بني العبّاس وما جنوه على الأُمَّة المحمَّديَّة، ويُبشِّر بانقراض دولتهم وإقامة دولة الحقِّ على يد الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) الذي رمز إليه بأوصاف من قبيل (إمام الحقِّ) و(الثائر في منطوى الغيب) دون تصريح باسمه؛ بسبب شدَّة الأوضاع التي عاصرها هذا الشاعر سنة ثلاث وثمانين ومائتين، أي بدايات الغيبة الصغرى (50)، يقول ابن الرومي:
غُرِرْتُم إذا صَدَّقْتُمُ أنَّ حالةً فَيُدرِكُ ثارَ اللهِ أنصارُ دينِهِ |
|
تدوم لكم والدَّهرُ لَونانِ أخْرَجُ |
فهو يُشير إلى حتميَّة ظهور المهدي الموعود وإزالة دول الجور، وأنَّ ظهوره سيكون بعد غيبة، مصرِّحاً بأنَّ ما أنزله الجائرون من ظلم بأهل البيت النبوي (عليهم السلام) هو ثأر الله تعالى، والله تعالى مُدرِك ثأره حتماً بأنصاره المخلصين وبإمام الحقِّ المهدي المنتظر (عليه السلام).
وإذا تقدَّمنا قليلاً بعد ابن الرومي عثرنا على مقطوعة مؤلَّفة من سبعة أبيات، للشاعر أبي فراس الحمداني، أورد فيها ذكر الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) وعدَّد ألقابهم، واختتم كلَّ بيت منها باسم عليٍّ (عليه السلام). وفيها يقف متضرِّعاً راجياً بعاطفة حارَّة وبإيمان متين قلَّ نظيره في بعض المُترفين ناهيك عن أبناء الملوك والسلاطين. يقول أبو فراس (51):
لستُ أَرجُو النَّجاةَ مِنْ كلِّ ما أَخْ |
|
شاهُ إلَّا بأحمدٍ وعَلِيِّ |
وثَمَّة مقطوعة ثانية في ذكر آل البيت (عليهم السلام)، يقول فيها(52):
شَافِعِي أحمدُ النَّبيُّ وَمَوْلاَيَ |
|
عَلِيٌّ والبِنْتُ والسِّبْطانِ |
فهو في كلا القطعتين يرجو الله تعالى متوسِّلاً بأهل البيت (عليهم السلام)، محمَّد وعليٍّ وفاطمة (عليهم السلام) حتَّى قائم آل محمّد (عليه السلام) الذي ينتظرهُ بلهفة؛ ليُظهِر (حقي مُحمَّد)؛ وليشفع له (يوم لا ينفعُ إلَّا غُفران ذي الغفرانِ).
وما من شكٍّ أنَّ استحضار الحمدانيين أُمراء دولة الثغور، وعلى رأسهم أبو فراس المجاهد المؤمن بانتظار الإمام، الانتظار الإيجابي، يحسم الأمر تاريخياً؛ لأنَّ هذه الدولة التي عاصرت الغيبتين: الصغرى والكبرى. وعاصرت النيابتين: الخاصَّة والعامَّة - وفارسها وأميرها الشاعر الذي يشهد شعره بولائه لأهل البيت (عليهم السلام) ويشهد تاريخه بتحمُّله أعباء الجهاد في دولة الثغور، وآلام الأسر في سجون الروم الأعداء - ما ينمُّ عن ارتكاز مفهوم الانتظار الإيجابي العملي في وعيها الملتصق بالمفهوم الإسلامي كتاباً وسُنَّةً، وعترةً وسيرةً.
ويمكن أنْ نضمَّ إلى أبي فراس الحمداني شعراء آخرين كانوا يتَّخذون من العقيدة المهدويَّة مثالاً يحتذونه، وطريقاً يسلكونه، للتعبير عن عاطفتهم الدينيَّة البريئة نحو النبيِّ وآل بيته (عليهم السلام)، ومن هؤلاء الشعراء أبو الفتح محمود بن الحسين المعروف ب (كشاجم)، فهو يُثبِت مصاديق الأثر النبوي حين يذكر الإمام المهدي (عليه السلام) بعد أنْ عدَّد أسماء الأئمَّة (عليهم السلام)، إذْ قال (53):
نبيِّي شفيعي والبتول وحيدر بِجَعْفَرْ بموسى بالرِّضا بمحمَّدٍ |
|
وسبطاهُ والسَّجّاد والباقر المجدِ |
وفي نحو هذا المعنى يقول الصاحب بن عباد (54):
بمحمَّدٍ وَوَصيِّهِ وابْنَيْهِما |
|
وبعابِدٍ وبباقِرَيْنِ وكاظِمِ |
وقريب منهما فكرة وصياغة قول الفقيه الشافعي أبو الفضل يحيى بن سلامة الحَصْكَفي (55):
حَيْدَرةٌ والحَسَنانِ بَعْدَهُ |
|
ثمَّ عليٌّ وابنُهُ مُحمَّدُ |
وكذلك قول الشريف الرَّضي (56):
معشرٌ مِنهُمْ رسولُ اللهِ والكاشفُ |
|
الكَرْبِ إذا الكَرْبُ عرَا |
أمَّا شاعر الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) أبو محمَّد العوني الغسّاني فقد نظم في الإمام المنتظر (عليه السلام) أبياتاً يقول فيها (57):
سلامٌ على الطهر المسمَّى بجدِّه |
|
سلامَ حزينِ القلبِ عبرتُه تجري |
وفي هذا الاتِّجاه ذاته يقول الشاعر نفسه (58):
السيِّد المهدي والقائم في |
|
الأرض الذي غُيِّب فهو المنتظَر |
وفي مثله يقول الأمير حسام الدولة أبو الشَّوك فارس بن محمَّد (59):
بالعسكريينِ اعتصامِي من لظى |
|
وبقائمٍ من آلِ أحمد في غدِ |
ومنه لمهيار الديلمي يمدح أهل البيت (عليهم السلام) ويذكر قائمهم (60):
عسى سطوةُ الحقِّ تَعْلُو المُحال |
|
عسى يُغْلَبُ النقصُ بالسُّؤَدُدِ |
ويطول بنا الأمر لو رحنا نتتبَّع قصائد الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) ومُحبِّيهم في مهديِّهم المنتظر (عليه السلام)، ففي ما نقلناه من أمثلة غُنْية، ويكفي أنْ نعلم أنَّ هؤلاء الشعراء قد آمنوا إيماناً شديداً بإمامهم الغائب الذي بشَّر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة الطاهرون (عليهم السلام). وقد لا نتعجَّل الحقائق إذا قلنا: إنَّ الاضطهاد الذي حاق بالشيعة، هو الذي قوَّاها في نفوس الشعراء؛ لأنَّه لم يعد أمامهم إلَّا أنْ يحلموا بالإنقاذ؛ ولذا كانت هذه القصائد تُمثِّل رفضاً سياسياً واضحاً -للواقع السيِّئ الذي كان يعيشه الشاعر- فضلاً عن كونها تنفيساً نفسياً عمَّا يصطرع في نفس الشاعر من آمال وأحلام ورؤية للواقع بأفضل ما يكون من السعادة والهناء، ولعلَّه من هنا كان الطلب من الله بتعجيل الظهور لتغيير الواقع الذي ضاقت به الصدور نتيجة الظلم والجور والفقر والعوز الذي كانت تعاني منه الناس آنذاك.
المتمهِّدون في العصرين الأُموي والعبّاسي:
المتمهدي: هو كلُّ مَنْ ادَّعى المهدويَّة كذباً وزوراً. أو نُسِبَتْ إليه - في حياته - وسكت عن ذلك؛ بدافع الدَّجَل وحُبِّ الرئاسة، أو لجلب القلوب واكتساب القدرة والعظمة. ونجد مصاديق هذين المعنيين عند خلفاء بني أُميَّة وبني العبّاس.
إذْ يبدو أنَّ بريق عقيدة الشيعة في المهدي المنتظر (عليه السلام)، وخروجه في آخر الزمان؛ ليملأ الأرض أمناً وعدلاً بعد أنْ مُلِئَت خوفاً وجوراً، قد دفع بعض أنصار البيت السفياني من الأُمويين إلى القول بمهدي من بني سفيان بن حرب بن أُميَّة.
فقد أورد أبو الفرج الأصفهاني (61) رواية تذهب إلى أنَّ خالد بن يزيد بن معاوية هو الذي وضع خبر السفياني وكبَّره، وأراد أنْ يكون للناس فيه طمعٌ، حين غَلَبهُ مروان بن الحَكَم على المُلك، وتزوَّج أُمَّه إمعاناً في إذلاله.. حتَّى إنَّ الكثيرين من المسلمين -من غير الشيعة- قد آمنوا بأنَّ (إماماً سفيانياً) سوف يظهر ويُعيد الخلافة إلى البيت السفياني. ثمّ قال بهذه العقيدة المروانيون، فزعموا أنَّ الخليفة المرواني القائم هو (المهدي المنتظر). والمرجَّح أنَّهم راموا من هذا الادِّعاء إلى أنْ يتمكَّنوا من المسلمين وأنْ يستميلوهم، ويبعثوا في الوقت نفسه اليأس في قلوب الشيعة والسفيانيين جميعاً من زوال حكمهم وانتقاله إلى غيرهم.
فسليمان بن عبد الملك بن مروان -كما يقول الفرزدق- (المهدي) الذي جاء ذكرهُ في التوراة والزَّبور، وحدَّث عنه القساوسة والأحبار، ففي عهده سينعم المسلمون بالخير والعدل، وبالعزَّة والنصر المبين (62):
أنتَ الذي نَعَتَ الكتابُ لَنَا |
|
في ناطِقِ التَّوراةِ والزُّبْرِ |
ويقول في كلمة أُخرى (63):
وألقيتَ من كَفَّيْكَ حَبْلَ جَماعةٍ |
|
وطاعةَ مَهديٍّ شَديدِ النَّقائمِ |
وهذا ما ردَّده نهار بن توسعة أيضاً، عند مدحه سليمان بن عبد الملك، ساعياً إلى أنْ يغرس في أذهان الناس فكرة أنَّ سليمان هو المهدي المنتظر (64):
له رايةٌ بالثَّغر سوداءُ لم تزل على طاعة المهدي لم يبقَ غيرها |
|
تفضُّ بها للمشركين جموعُ |
ويرى جرير في سليمان ما رآه الفرزدق ونهار بن توسعة، فهو (المهدي) العادل، العالم بالشريعة، المنقذ من الفساد والظلم، والسائر في سياسته على سنَّة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) (65):
سليمانُ المباركُ قد عَلمتُمْ |
|
هو المهديُّ قد وضَحَ السبيلُ |
ويُردِّد جرير في أكثر من قصيدة هذه المعاني التي تدور حول فكرة واحدة، وهي أنَّ الحاكم المرواني هو (المهدي) اختاره الله ليكون خليفته على الناس وإماماً لهم. فهشام مثل والده عبد الملك هداهُ اللهُ بهدْيهِ، وعصمهُ بحبلٍ متين من قدرته، وأولاهُ من الكرامات ما جعله يهدي الناس إلى دينِهِ القويم، ويشفع لهم عنده، فهو إمامهم المهدي، يستقيم به دينهم، وتصلح حياتهم، وهو وسيلتهم إلى الله تعالى ليحيل ببركةٍ منه، وبشفاعتِهِ، خوفهم أمناً، وجدبهم خصباً. يقول جرير (66):
إلى المهديِّ نَفزَعُ إنْ فَزِعْنا |
|
ونَستَسْقِي بِغُرَّتِهِ الغَمَاما |
ويُكرِّر المعنى ذاته عند تولِّي عمر بن عبد العزيز الخلافة مدَّعياً أنَّه المهدي المنتظر، وأنَّ الله قد قدَّر له الخلافة كما قدَّر من قبل النُّبوَّة لأنبيائِهِ، فيقول (67):
أنتَ المباركُ والمهديُّ سِيرَتُهُ |
|
تَعصِي الهوى وتقومَ اللَّيلَ بالسُّورِ |
ومثل هذه الصفات تدلُّ -إنْ صحَّ ما نذهب إليه من الفهم- على أنَّ الشاعر الأُموي كان مطَّلعاً على المعاناة التي عاشتها جماهير الأُمَّة وهي ترزح تحت ظلِّ بني أُميَّة، واحداً تلوَ الآخر، فقد أدرك أنَّ أهمَّ ما يشغل هذه الجماهير في عصر الأُمويين، هو البحث عن خليفة عادل يستطيع إنقاذها من وطأة الظلم، ومن هنا سعى الشاعر إلى استغلال آلام الناس وهمومها خدمةً لِأَهدافه السياسيَّة، فاستعان بفكرة المهدي المنتظر، بعد أنْ عَمَدَ إلى تحويرها لتتلاءم مع أهدافه السياسيَّة، فإذا كانت الشيعة تقول بغيبة الإمام المهدي، وتنتظر عودته؛ ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أنْ مُلِئَت ظلماً وجوراً، فإنَّ الشاعر الأُموي حاول إيهام الناس بأنَّ الخليفة الأُموي القائم بالحكم هو المهدي الذي انتظروه؛ ليُحقِّق لهم العدل.
وصفوة القول: إنَّ شعراء الحزب الأُموي قد تأثَّروا بفكرة المهدويَّة، فنسجوا عليها بما ينسجم مع مقولة المدح التي كانوا يمدحون بها أسيادهم من البلاط الأُموي.
فهم اختارهم الله تعالى ليخلفوه في الأرض، فضلاً عمَّا يتمتَّعون به من سطوة ومهابة وقوَّة وشكيمة. وكلُّ خروج عليهم هو خروج على إرادة الجماعة النابعة من إرادة الله تعالى الذي جعلهم أئمَّةً، واستخلفهم ليكونوا خلفاءً على المسلمين جميعاً.
ومثلما كان لعقيدة المهدي صدى قويَّاً في شعر الأُمويين، فقد اعتمد عليها الشعراء العبّاسيون وأخذوا يُجيِّرونها لممدوحيهم و(يزايدون) بها على مُبدعيها أنفسهم؛ لإضفاء التأثير الذي كان يتركهُ شعرهم في نفوس المسلمين. فلا يكاد عهد أبي جعفر المنصور يُظلِّل الشعراء حتَّى قصدوه مادحين ومصوِّبين لسياستِهِ ومنافحين عن خلافتِهِ.
ومن أوائل الشعراء الذين داهنوه، واستظهروا في مداهنتهم له أبو دُلامة، حتَّى قيل: إنَّه لم يصل إلى أحد من الشعراء ما وصل إليه من المنصور خاصَّة.
وكان أوَّل ما جعله يُسْنى له الجوائز داليَّته التي مدحه بها حين قَتَلَ أبا مسلم الخراساني، وفيها يقول (68):
أبا مُجرمٍ ما غيَّرَ اللهُ نعمةً |
|
على عبده حتَّى يُغيِّرها العَبْدُ |
وواضح أنَّه يُلقِّب المنصور في البيت الثاني بالمهدي، وأنَّه المنقذ الذي يُخلِّص الناس من بلاياهم، ويملأ الأرض عدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً، ويهدي الناس إلى الطريق السَّويِّ المستقيم.
انَّ الاسم الحقيقي للمهدي إنَّما هو محمَّد، ولعلَّ المنصور لاحظ ذلك حين لقَّب ابنه محمَّداً بالمهدي، وكأنَّهُ كان يُريد أنْ يُوحي للناس بأنَّه المهدي المنتظر. على أنَّ من الشعراء مَنْ مضى مثل أبي دُلامة يُلقِّبه نفسه بهذا اللقب. مع العلم أنَّ المنصور كان قد بايع -قبل ذلك- محمَّد بن عبد الله المحض المعروف بالنفس الزكيَّة، الذي نُسِبَت إليه المهدويَّة.
ولعلَّ هذا ما أدركه سُديف بن ميمون حين مضى ينتقد أبا جعفر المنصور دامغاً له بالاستبداد والطغيان، وسفك الدماء، ساخراً من صفة المهدي التي كان يخلعها عليه بعض أنصاره، ومنذراً له بجيش كثيف، كقوله(69):
أسرفتَ في قَتْلِ الرَّعيَّةِ ظالماً فلتأْتِيَنَّكَ رايةٌ حَسَنِيَّةٌ |
|
فاكْفُفْ يَديْكَ أَضَلَّها مَهْدِيُّها |
وينتهي عهد المنصور، فيستقبل ولده المهدي عهداً جديداً. ولعلَّ أوَّل ما يُلاحَظ عليه أنَّه استغلَّ من اسمه ولقبه طريقاً يسلك منه إلى دعوى عريضة. فقد ادَّعى بأنَّه هو محمَّد المهدي الذي بشَّر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: إنَّه يملؤها عدلاً وقسطاً. ولذا يصفه المؤمَّل بن أَميل المحاربي بأنَّه... (70):
هو المهديُّ إلَّا أنَّ فيه |
|
مشابه صورة القمر المنيرِ |
ويصفه ابن المولى بأنَّه القائم بالخلافة(71):
إلى القائم المهديِّ أعملتُ ناقتي |
|
بكلِّ فلاةٍ آلُها يترقرقُ |
أمَّا بشّار بن برد فلا تخلو قصيدة من القصائد التي مدح بها المهدي من الإجلال لشخصيته وأُسرته، والدعاية لسياسته، والمقارعة عن حقِّه في الخلافة. وهو عنده المهدي الحقيقي الذي تتحدَّث عنه الكتب والذي ينتظرهُ المسلمون (72):
سَمِيُّ مَنْ قامت الصلاةُ به |
|
لم يأتِ بخلاً ولم يقل كذبا |
ويُؤكِّد في قصيدة ثانية -يهجو فيها الحسن بن إبراهيم بن عبد الله العلوي- بأنَّ المهدي هو وارث الخلافة الشرعي، وأنَّه مهدي بني العبّاس الذي زهد في متاع الدنيا ونعيمها، ووهب نفسه لنصرة الدِّين وحراسته، يقول (73):
تَعَزَّ بصبرٍ عن خلافةِ أحمدٍ |
|
وكُلْ رغداً ممَّا تشرَّفتَ وارقدِ |
ونراه يُصرِّح في قصيدة ثالثة بأنَّ المهدي أحقّ بالإمامة وأولى بها، مع تأكيده بأنَّه المهدي المنتظر بما لفَّقه العبّاسيون من أحاديث نحلُوها للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وزعموا فيها أنَّه أوصى بأنْ تكون الخلافة لعمِّهِ العبّاس، وأنَّه أشار إلى أنَّ المهدي يكون من وِلْدهِ، دَعْماً لدولتهم، وهَدْماً لِمَا كان يعتقده الشيعة من أدلَّة على حقِّهم في الخلافة (74):
عُرفتَ أمير المؤمنينَ برقَّةٍ |
|
علينا ولم تُعرف بفخرٍ ولا كِبرِ |
وإذا كان بشّار قد تطرَّف في مدائحه للمهدي، وضمَّنها ما اخترعهُ العبّاسيون من أحاديث وضعوها على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحمَّلوها شهادته بأنَّ الخلافة لهم، وأنَّ المهدي يخرجُ منهم، فإنَّ مروان بن أبي حفصة تابعهُ في هذا التطرُّف، فقد وصفه بأنَّه المصطفى المهدي، وأنَّه الإمام الذي يشعُّ ضوؤُهُ في الليالي المظلمة فيهدي السائرين إليه (75):
إلى المُصْطَفى المهديِّ خاضَتْ رِكابُنا |
|
دُجَى اللَّيلِ يَخْبِطْنَ السَّريحَ المخَدَّمَا |
وكان للسِّيِّد الحميري موقف يختلف عن مواقف غيره من الشعراء، فقد وجد أنَّ ادِّعاء الخليفة بأنَّه هو المهدي المنتظر لا يتَّفق مع عقيدته الإماميَّة (الجديدة)، التي كانت إلى ذلك التاريخ تعتقد أنَّ المهدي لم يُولَد بعد، وأنَّه سَيُولَد بعد حين، فكيف يدَّعي الخليفة ذلك، ويُضلِّل به الناس؟
وهذا بالطبع ما لا يستطيع أنْ يصبر عليه بحال من الأحوال، ولذا قال معرِّضاً به (76):
ظَنَنَّا أنَّهُ المهديُّ حقَّاً |
|
ولا تَقعُ الأُمورُ كما ظَنَنَّا |
وتبلغ المهدي هذه الأبيات، وهو رجل جديد العهد لم يُجرِّب بعد كما جرَّب أبوهُ المنصور ليصبر عليه وعلى أمثاله ويحتفظ بهم كدعاة لتوطيد عناصر مُلْكِهِ في البلاد، فيغضب ويقول فيه: (هذا شعره وما أحتاج فيه برهاناً على ذلك)، ثمَّ يطلبهُ، فيضطرُّ هو إلى الاستتار والتخفِّي عنه، ويظلُّ متخفِّياً عنه مدَّة يضيق بها عليه الأمر فيفزع بالآخرة إلى التقيَّة التي هي من مبادئ عقيدته الجديدة، ويتَّخذ منها مجنَّاً يتدرَّع به للطوارئ، ثمّ يظلُّ يلتمس الفرص لإرضائِهِ، وربَّما استغلَّ أقربها إليه، وقد تكون هي فرصة أخذ البيعة لولديه موسى وهارون، فيقبل عليه يُهنِّئه بهذه القصيدة (77):
آليتُ لا أمدحُ ذا نائلٍ |
|
من مَعْشرٍ غيرَ بني هاشِمِ |
ومضى الشعراء يمدحون الهادي بعد المهدي مضيفين عليه نفس صفات القداسة والجلال من مثل قول العمَّاني مسبِّحاً بحمد الله تعالى الذي وهب للناس المهدي الهادي (78):
الحمدُ للهِ الذي بحمدهِ |
|
مَنَّ على عبادهِ بعبدهِ |
ولا يطلّ عهد هارون حتَّى يقصدهُ مروان بن أبي حفصة ويمدحهُ بقصيدة تشبه ترانيم الكهنة، خلع عليه فيها وعلى أخيه الهادي من قبله، لقب المهدي المنتظر الذي تُبشِّر به الأسفار ويتشوَّق إليه الناس، مردِّداً أنَّهما من نسل المهدي الأوَّل، وفيها يقول (79):
مُوسى وهَارُون هما اللَّذانِ |
|
في كُتُبِ الأخبارِ يُوجَدانِ |
وفي نحو هذا المعنى يقول أبو العتاهية يمدح هارون (80):
إمامَ الهُدَى أَصْبحتَ بالدِّينِ مَعنيَّا |
|
وأَصْبحتَ تَسقي كُلَّ مُستَمطرٍ رِيَّا |
ولإبراهيم الموصلي في مثله (81):
إذا ظُلَمُ البلادِ تَجَلَّلْتنا |
|
فهارونُ الإمامُ لها ضِياءُ |
وظاهرٌ من كلِّ ما أسلفنا أنَّ الشعراء الذين أيَّدوا العبّاسيين، استظهروا حقَّهم في الخلافة، وخلعوا عليهم الألقاب التي كان الشيعة يُطلِقونها على أئمَّتهم، ومتأثِّرين بالأساطير التي كان العبّاسيون يُروِّجونها من أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى بالخلافة إلى جدِّهم العبّاس، وأنَّه صرَّح بأنَّ المهدي المنتظر يخرج من بين صفوفهم.
وقد يسأل سائل بعد ذلك فيقول: إنَّ من أئمَّتكم وأولادهم وأحفادهم -كما تناولتم في هذا البحث- مَنْ نُسِبَت إليهم المهدويَّة وسكتوا عن ذلك، من نحو عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) وابنه محمَّد بن الحنفيَّة، وحفيده زيد بن عليٍّ.
والحقُّ أنَّ الإجابة عن هذا السؤال يسيرة؛ لأنَّ هؤلاء الذين نُسِبَت إليهم المهدويَّة إنَّما ادَّعاها لهم أصحابهم وأتباعهم بعد مماتهم، أمَّا في حياتهم فلم يشهد التاريخ أيَّ تصريح لهم بذلك، بل رفضوا ذلك -جملةً وتفصيلاً-، وأكَّدوا أنَّهم هُداة إلى الله تعالى فقط، ولهذا بشَّر محمَّد بن الحنفيَّة بالمهدي وقال ناقلاً الرواية عن أبيه (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «المهدي منَّا أهل البيت يصلحه اللهُ في ليلة» (82).
كما روى محمَّد بن بكير، قال: دخلت على زيد بن عليٍّ (قدس سره) وعنده صالح بن بشير، فسلَّمتُ عليه -وهو يُريد الخروج إلى العراق-، فقلت له: يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، متى يقوم قائمكم؟ قال: يا بن بكير، إنَّكَ لم تلحقهُ، وإنَّ الأمرَ يليه ستَّة من الأوصياء بعد هذا -الصادق (عليه السلام)-، ثمَّ يجعل الله خروج قائمنا فيملأها قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً. قلتُ: يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ألستَ صاحب هذا الأمر؟ قال: أنا من العترة، فعدتُ فعاد إليَّ، فقلتُ: هذا الذي تقولهُ عنك أو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: لو كنتُ أعلمُ الغيب لاستكثرت من الخير، ولكن عهدٌ عهدهُ إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ثمَّ أنشأ يقول (83):
نحنُ منَّا المصطفى |
|
المختارُ والمهديُّ مِنَّا |
وقبله قال جدُّهُ الإمام عليٌّ (عليه السلام)(84):
سَقَى اللهُ قائِمَنا صَاحِبَ |
|
القيامةِ والنَّاسُ في دَأْبِها |
وله أيضاً(85):
فللّهِ درُّهْ من إمامٍ سُمَيْدعٍ وما قلتُ هذا القَوْلَ فخراً وإنَّما |
|
يذلُّ جيوشَ المشركينَ بصارِمِ |
وللإمام الكاظم (عليه السلام) في مثله، مشيراً إلى الأئمَّة الأطهار (عليهم السلام) ومنهم الإمام الحجَّة (عليه السلام) (86):
أنا ابنُ منى والمشعرينِ وزمزَمِ |
|
ومكَّة والبيت العتيق المعظَّمِ |
فالأئمَّة (عليهم السلام) وأبناؤهم وأحفادهم، كلُّهم متَّفقون على أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام)، هو إمام من أهل البيت (عليهم السلام) حيٌّ لم يمت، ولكنَّه اختفى من وجه الظلم، وهو يظلُّ مختفياً إلى أنْ تُتاح له الفرصة للظهور واسترداد الحقِّ وإقامة العدل. ولهذا قال الإمام الصادق (عليه السلام) وقد أنشدناهُ من قبل:
لكُلِّ أُناسٍ دولةٌ يرقبونها |
|
ودولتنا في آخرِ الدَّهرِ تظهرُ |
خاتمة:
بالجملة لقد ساهم شعراء أهل البيت (عليهم السلام) في رفد الأدب العربي بالقصائد والمقطعات المتضمِّنة لسيرة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام)، فقد وضع أُولئك الشعراء بين أيدينا صورة واضحة عن سلوك هذا (المصلح المهدي (عليه السلام)) ودوره في بناء المجتمع الإسلامي، وإرساء قواعد الفكر الأصيل، وتشويق الناس إلى الأدب الرفيع، وحثِّهم على السيرة الصالحة، وما فيها من الأبعاد الأخلاقيَّة والعقائديَّة والسياسيَّة.
ولقد كان لعقيدة المهدي (عليه السلام) صدىً قوي في شعر الأُمويين والعبّاسيين تأثُّراً ببريق هذه العقيدة الشيعيَّة. فإذا كان شعراء الشيعة لم ينأوا بأنفسهم بعيداً عن نظرية الإصلاح، ومَنْ يُمثِّلها من أهل البيت النبوي (عليهم السلام)، فإنَّ الشعر في ركاب بني أُميَّة وبني العبّاس لم يُقصِّر في ذلك المعنى، بل غلا فيه وزاد عليه؛ إحساساً من الشعراء أنَّ مشاعر الناس وقلوبهم أقرب إلى الوقوف بعيداً عن الأُمويين والعبّاسيين رغم اتِّساع ملكهم وسخاء أيديهم.
ومن هنا لا نبتعد عن الواقع إذا قلنا: إنَّ أكثر هذا الشعر الذي قيل -رغم جودته- لم يكن صادراً عن إيمان قائله به وتفانيه في سبيله -على خلاف شعراء الشيعة الذين كانوا ينشدون شعرهم عن إيمان صادق وعقيدة أصيلة في أنفسهم-؛ لأنَّ شعراء بني أُميَّة وبني العبّاس كانوا يقولون شعرهم إمَّا تقليداً أو استنشاداً أو رغبةً في صلة أو تحامياً لأذى أو تحاشياً لاضطهاد. غير أنَّنا نُسجِّل في الوقت نفسه، وبكثير من الثقة، أنَّ هذا الشعر هو ضربٌ مبتدع من القول الجديد جعلهُ يسير في موكب السياسة مُمْسِكاً بأسبابها غير متخلِّف قيد أنملة عمَّا جرى من أحداث وما نشب من عظائم الأُمور.
على أنَّ الأمر الذي ينبغي لنا أنْ لا نغفله أيضاً، هو أنَّ الشعر هنا، كلَّهُ في خدمة الفكرة يستقصي المعاني دون الألفاظ، والمضمون دون الشكل، فجاء خالياً من زخرف اللفظ ولكنَّه جاء -في الوقت نفسه- ثريَّاً بعمق الأفكار وازدحام المعاني.
الهوامش:
(1) كلية الآداب/ جامعة البصرة.
(2) أغلب الظنِّ أنَّ هؤلاء المستشرقين لمَّا وجدوا عقائد أسلافهم ملأى بالخرافات والأساطير والضلالات، كَبُرَ عليهم أنْ يكتبوا عن الإسلام - الذي هو أنقى من الذهب الإبريز - دون أنْ يُضيفوا عليه شيئاً من أحقادهم، ولهذا وصفوا ما تواتر نقله عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن ظهور المهدي (عليه السلام) في آخر الزمان بأنَّه من الأساطير.
(3) بشارات الأديان بالمهدي (عليه السلام)، عرفان محمود (https://www.rafed.net/moamal)، نقلاً عن: المهدي الموعود (عليه السلام) ودفع الشبهات عنه/ السيِّد عبد الرضا الشهرستاني: 6.
(4) المصدر نفسه.
(5) بشارات الأديان بالمهدي (عليه السلام)، (https://www.rafed.net/moamal) نقلاً عن: برناردشو/ عبّاس محمود العقّاد: 124 و125.
(6) مسند أحمد بن حنبل: 3/ رقم الحديث 10920.
(7) أوائل المقالات: 78.
(8) المصدر نفسه.
(9) بحار الأنوار 53: 39.
(10) ديوانه: 233.
(11) المصدر نفسه: 521.
(12) المصدر نفسه: 538. الوصيّ: محمّد بن الحنفيَّة. الجبل: جبل رضوى محلُّ إقامة محمّد بن الحنفيَّة أثناء غيبته.
(13) ديوانه: ق 410/1038.
(14) الأغاني 10: 384.
(15) شرح هاشميات الكميت بن زيد الأسدي: 199.
(16) الغدير 2: 202، نقلاً عن كتاب: كفاية الأثر للخزَّاز القمّي: 248. والأبيات غير موجودة في ديوانه المطبوع بتحقيق الدكتور محمّد نبيل طريفي/ طبعة دار صادر/ بيروت/ 2000م.
(17) المصدر نفسه.
(18) المصدر نفسه.
(19) ينابيع المودَّة 2: 239.
(20) شرح هاشميات الكميت: 176 و177.
(21) مروج الذهب 2: 182.
(22) بحار الأنوار 46: 192.
(23) مقتضب الأثر في النصِّ على إمامة الاثني عشر: 50.
(24) الجعجاع: المكان الضيِّق الخشن أو المحبس.
(25) المصدر نفسه.
(26) الموسوعة الشعرية المهدويَّة: 184.
(27) ديوانه: 144.
(28) فوات الوفيات 1: 34؛ وديوانه: 19. ثمّ راجع الأبيات وشرحها في: شاعر العقيدة السيِّد الحميري: 30.
(29) ديوانه: 125 و126.
(30) حديث الأربعاء 2: 240.
(31) تاريخ الشعر السياسي: 244.
(32) ديوانه: 95 و96.
(33) المصدر نفسه: 145. خولة: هي أُمُّ محمّد بن الحنفيَّة.
(34) انظر: الأغاني 7: 236.
(35) انظر: تاريخ الشعر السياسي: 245.
(36) انظر: تاريخ الأدب العربي، العصر العبّاسي الأوَّل: 312.
(37) انظر: الشعراء من مخضرمي الدولتين الأُموية والعبّاسية: 191.
(38) ديوانه: 48.
(39) المصدر نفسه: 49. وانظر: شاعر العقيدة السيِّد الحميري: 43 و44.
(40) المصدر نفسه: 116.
(41) مقتضب الأثر في النصِّ على إمامة الاثني عشر: 51.
(42) الأوراق (قسم أخبار الشعراء): 182.
(43) الكنى والألقاب 1: 30، نقلاً عن الجاحظ في كتابه الحيوان، إذْ قال: (وحدَّثني أبو تمام وكان من رؤساء الرافضة).
(44) مناقب آل أبي طالب 1: 254.
(45) شعره: 71.
(46) المصدر نفسه: 74 - 76.
(47) أُصول الكافي 1: 338.
(48) انظر: تاريخ الأدب العربي (العصر العبّاسي الأوَّل): 321.
(49) مقتضب الأثر في النصِّ على إمامة الاثني عشر: 55.
(50) ديوانه 2: 496 و497.
(51) ديوانه 3: 429 و430.
(52) المصدر نفسه 3: 397.
(53) مناقب آل أبي طالب 1: 266.
(54) ديوانه: المستدرك ق 192/274. وانظر: مناقب آل أبي طالب 1: 265.
(55) البداية والنهاية 12: 297 و298. وانظر: مناقب آل أبي طالب 1: 255.
(56) ديوانه 1: 50 و51. وانظر: مناقب آل أبي طالب 1: 255.
(57) مناقب آل أبي طالب 1: 258.
(58) المصدر نفسه 1: 258.
(59) المصدر نفسه 1: 256.
(60) ديوانه 1: 300.
(61) الأغاني 17: 777. ثمّ انظر في ذلك كلِّه: الشعر السياسي من وفاة الرسول إلى نهاية العصر الأُموي: 324.
(62) ديوانه: 196. وانظر: الشعر السياسي من وفاة الرسول إلى نهاية العصر الأُموي: 324.
(63) المصدر نفسه: 560.
(64) شعره: ق 19/100.
(65) ديوانه: 358.
(66) المصدر نفسه: 412. وانظر: الشعر السياسي من وفاة الرسول إلى نهاية العصر الأُموي: 326.
(67) المصدر نفسه: 238.
(68) الشعر والشعراء: 778.
(69) العقد الفريد 5: 346.
(70) الأغاني (طبعة ساسي) 19: 147.
(71) الأغاني 3: 286. الآل: السَّراب.
(72) ديوانه 1: 327.
(73) المصدر نفسه 3: 73.
(74) المصدر نفسه 3: 284.
(75) شعره: 102.
(76) ديوانه: 206 و207.
(77) المصدر نفسه: 189 و190. ثمّ انظر: شاعر العقيدة السيِّد الحميري: 94.
(78) طبقات ابن المعتزِّ: 111.
(79) شعره: 110.
(80) ديوانه: 489.
(81) الأغاني 5: 217.
(82) حلية الأولياء 3: 177.
(83) أعيان الشيعة 23: 76.
(84) ينابيع المودَّة: 495.
(85) المصدر نفسه: 496.
(86) بحار الأنوار 48: 181.