أبحاث العدد:
خلاصات بحوث العدد:
المسار:
الموعود » اعداد المجلة » العدد ٦ / ذو القعدة / ١٤٣٩ هـ
لتصفح المجلة بـ Flsh
لتحميل المجلة كـ Pdf
العدد 6 / ذو القعدة / 1439 هـ

الآثار المهدويّة من النصف الثاني من القرن الخامس إلى النصف الثاني من القرن السابع الهجري

الآثار المهدويّة من النصف الثاني من القرن الخامس
إلى النصف الثاني من القرن السابع الهجري

السيّد علي الحسيني
ترجمة: السيد جلال الموسوي

المقدّمة:
استشهد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) سنة (260هـ)(1)، ولم يطَّلع أحدٌ على وَلَدِه الإمام المهدي (عليه السلام) إلَّا عدَّة معدودة من ثقاة أصحابه ومواليه.
فقد نقل الحسن بن موسى النوبختي وسعد بن عبد الله الأشعري، اللذان عاصرا تلك البرهة من التأريخ، أنَّ الشيعة في ذلك العصر لم يجيزوا لأنفسهم الحديث حول الإمام الغائب (عليه السلام)، ولا البحث في القضية المهدوية، خوفاً على أرواحهم من الخطر المحدق بهم على الدوام(2).
ولكن، وبمرور الزمان، وانتشار المذهب الإماميّ بين المسلمين، بدأ عدد المعتقدين بالإمام المهدي (عليه السلام) وغيبته عن الأنظار يزداد شيئاً فشيئاً.
ومن جهة أُخرى، ازداد عدد المخالفين لهذا الأمر، وكثرت الإثارات المغرضة حول المهدوية، وهو ما يظهر لنا واضحاً من خلال مطالعة الكتب والمؤلَّفات في القرون اللاحقة لتلك الحقبة. وقد كان القرن الخامس إلى القرن السابع الهجري، من جملة مقاطع هذا الدور من أدوار الفكر المهدويّ.
وللتعرّف أكثر على هذا الأمر، سنمرُّ مروراً سريعاً على هذه الكتب، ونتوقَّف قليلاً عند بعض موضوعاتها المهمَّة.
1- كتاب المقنع في الإمامة:
تأليف الشيخ الجليل عبيد الله بن عبد الله السُّذآبادي.
ليس بين أيدينا الكثير حول حياة الشيخ عبيد الله بن عبد الله السُّذآبادي مؤلِّف كتاب (المقنع في الإمامة)، وهو من أعلام القرن الخامس الهجري، إلَّا ما ذكره ابن شهرآشوب (558هـ) في كتابه (معالم العلماء)، حيث يقول: عبيد الله بن عبد الله السُّذآبادي، له (عيون البلاغة في أُنس الحاضر ونقلة المسافر) أو (المقنع في الإمامة).
وقد صار كلام ابن شهرآشوب هذا مصدراً لعلماء الرجال وكُتّاب الفهارس فيما بعد، فلم يذكروا في السُّذآبادي أكثر ممَّا ذكره ابن شهرآشوب.
ولذا، ليس في أيدينا معلومات دقيقة وموثَّقة عن تأريخ ولادة وسنة وفاة السُّذآبادي، ولا يسعنا إلَّا القول بأنَّه كان معاصراً لشيخ الطائفة الطوسي (رحمه الله)، لأنَّ ابن شهرآشوب ذكر اسم هذا العلم في كتابه (معالم العلماء)، وهو تتمَّة ومكمِّلٌ لكتاب فهرست الشيخ الطوسي. ومن هنا نستنتج أنَّ (السُّذآبادي) كان معاصراً للشيخ الطوسي، ولكنَّ الشيخ لم يذكره في الفهرست(3).
وهذا الكتاب (المقنع في الإمامة) وكما يظهر من عنوانه يدور حول الإمامة، ويحتوي على مقدَّمة وعشر فصول، تتضمَّن البحث في ماهية الإمامة، منافع وجود الإمام، الشرائط اللازم توفّرها في الإمام، اختلاف الأُمَّة في أمر الإمامة، ومباحث أُخرى في خصوص إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
ويتناول المؤلِّف في الفصلين الأخيرين مسألة إمامة المهدي (عليه السلام) بالبحث، ففي الفصل التاسع يشير بدايةً إلى وجوب وجود النصِّ على الإمام، ووجوب اتِّصافه بالعصمة، وأنَّ إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كانت مستندة إلى النصوص الواردة فيها من قِبَل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنَّ إمامة الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام) كانت مصرَّحة في النصِّ الوارد عليه من قِبَل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن قِبَل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهكذا إمامة الإمام الحسين (عليه السلام) منصوصة من قِبَل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والإمام عليّ بن أبي طالب والإمام الحسن بن عليّ (عليهما السلام)، وهكذا حال سائر الأئمَّة من ولد الحسين (عليهم السلام) حتَّى الإمام الثاني عشر، وإنَّ إمامة كلِّ واحدٍ من هؤلاء الأطهار كانت منصوصة عليها من قِبَل من سبقه من المعصومين.
ويقول في خصوص إمامة الإمام الثاني عشر (عليه السلام):
(ونصَّ الحسن على وَلَده الخَلَف الصالح صلوات الله عليهم أجمعين...، فلمَّا أدركته الوفاة (عليه السلام) فجمع شيعته وأخبرهم أن ولده الخلف صاحب الأمر (عليه السلام)، وأنَّ أبا محمّد عثمان بن سعيد العمري وكيله، وهو بابه، والسفير بينه وبين شيعته، فمن كانت له حاجة يقصده كما كان يقصده في حياته).
ثمّ يعطف المؤلِّف على ذكر النوّاب الأربعة، ويعبِّر عنهم بلفظ (باب)، وأوَّلهم عثمان بن سعيد العمري، والذي نصَّبه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وأودع أهله وعياله عنده، ولمَّا قربت وفاة عثمان بن سعيد العمري أوصى وبأمر من الإمام المهدي (عليه السلام) إلى ولده محمّد بن عثمان، كنائب خاصٍّ للإمام المهدي (عليه السلام).
وحين وفاة محمّد بن عثمان بن سعيد العمري أوصى بأمرٍ من الإمام المهدي (عليه السلام) إلى الحسين بن روح النوبختي، فكان النائب الخاصّ الثالث للإمام المهدي (عليه السلام) في زمن الغيبة، وأخيراً وحينما دنت وفاة الحسين بن روح أوصى وبأمرٍ من الإمام المهدي (عليه السلام) إلى عليّ بن محمّد بن سهل السمري، فكان آخر النوّاب الأربعة الخاصّين للإمام المهدي (عليه السلام)، وبموته لم يعين أحدٌ كنائب خاصّ(4).
ويشير المؤلِّف في الفصل العاشر من كتابه إلى عدد الأئمَّة (عليهم السلام)، وينقل روايات عن أهل السُّنَّة وعن الشيعة في أنَّ عدد الأئمَّة اثنا عشر إماماً عليهم أفضل الصلاة والسلام.
ومن جملة الروايات التي ينقلها عن أهل السُّنَّة، رواية ابن مسعود وأنَّه سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قائلاً: كم الخلفاء بعدك؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «هم اثنا عشر، على عدد نقباء بني إسرائيل».
ومن الروايات التي يذكرها عن المصادر الشيعية، الخبر المعروف بخبر اللوح، والذي ينقله جابر بن عبد الله الأنصاري للإمام السجّاد (عليه السلام)، من أنَّ جابراً:
... رَأَى‏ فِي‏ يَدِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ (عليها السلام) لَوْحاً أَخْضَرَ مِنْ زُمُرُّدَةٍ، فِيهِ كِتَابَةٌ بَيْضَاءُ.
فَقَالَ جَابِرٌ: قُلْتُ لَهَا (عليها السلام): مَا هَذَا اللَّوْحُ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ؟
فَقَالَتْ: «لَوْحٌ أَهْدَاهُ اللهُ إِلى أَبِي، وَأَهْدَاهُ أَبِي إِلَيَّ، فِيهِ اسْمُ أَبِي وَاسْمُ بَعْلِي وَالْأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِي».
ويذكر المؤلِّف روايات أُخرى في هذا السياق(5).
ومن الأُمور اللافتة للنظر في هذا الكتاب أنَّ المؤلِّف يتناول حياة إمامين من الأئمَّة (عليهم السلام) بالتفصيل والإسهاب، الأوَّل منهما: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث يبحث بشكل مطوَّل في حياته، وثانيهما: الإمام صاحب العصر والزمان (عليه السلام)، حيث يتطرَّق لجوانب كثيرة مرتبطة به (عليه السلام)، وأمَّا بقية الأئمَّة (عليهم السلام) فيكتفي بذكر أسمائهم دون أن يتطرَّق إلى حياتهم، وهذا يكشف بوضوح عن أهمّية مسألة إمامة إمام الحجَّة (عليه السلام) في القرن الخامس.
2- كتاب الاحتجاج:
ومن الآثار القيمة الأُخرى الباقية من القرن السادس الهجري كتاب (الاحتجاج)، تأليف العلّاَمة الخبير أبي منصور أحمد بن عليِّ بن أبي طالب الطبرسي.
وسنة ولادة ووفاة الطبرسي مجهولة لدينا. وهو من علماء القرن الخامس، وقد أدرك أوائل القرن السادس(6).
وقد ذكره أصحاب التراجم بعنوان: الفقيه، الفاضل، والمحدِّث الثقة(7).
ويتضمَّن كتاب (الاحتجاج) احتجاجات ومناظرات المعصومين (عليهم السلام)، من خاتم الأنبياء إلى الإمام الحجَّة المنتظر (عليهم السلام)، وبعض أصحابهم وأنصارهم.
ولذا، فإنَّ الكتاب مصنَّفٌ على أربعة عشر فصلاً، يتناول كلُّ فصلٍ من فصوله كلام أحد المعصومين (عليهم السلام).
وخَصَّص المؤلِّف القسم الأخير من الكتاب لكلمات وتوقيعات ومكاتيب حضرة وليِّ العصر والزمان (عليه السلام).
هذا وذكر المصنِّف مضافاً إلى ذلك في بعض صفحات الكتاب كلمات المعصومين (عليهم السلام) وأحاديثهم في خصوص آخر الحُجج الإلهية إلى الإمام المهدي (عليه السلام)، وكمثال على ذلك نقل حديث (اللوح) عن جابر بن عبد الله الأنصاري، حيث ورد في اللوح:
«ثُمَ‏ أُكْمِلُ‏ دِينِي‏ بِابْنِهِ‏ مُحَمَّدٍ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، عَلَيْهِ كَمَالُ مُوسَى، وَبَهَاءُ عِيسَى، وَصَبْرُ أَيُّوبَ، سَيِّدُ أَوْلِيَائِي، سَيُذَلُّ أَوْلِيَائِي فِي زَمَانِهِ، وَتُتَهَادَى رُؤُوسُهُمْ كَمَا تُتَهَادَى رُؤُوسُ التُّرْكِ وَالدَّيْلَمِ، فَيُقْتَلُونَ وَيُحْرَقُونَ، وَيَكُونُونَ خَائِفِينَ مَرْعُوبِينَ وَجِلِينَ، تُصْبَغُ الْأَرْضُ بِدِمَائِهِمْ، وَيَفْشُو الْوَيْلُ وَالرَّنَّةُ فِي نِسَائِهِم»(8).
وفي الحديث إشارة إلى أوضاع محبّي الإمام (عليه السلام) في زمان غيبته، وما يقاسونه من المحن والمصائب.
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) ينقله المصنِّف، في بيان الحكمة من الغيبة، حيث جاء في كلام الصادق (عليه السلام):
«... وَجْهُ‏ الْحِكْمَةِ فِي‏ غَيْبَتِهِ‏ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي غَيْبَاتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ حُجَجِ اللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، إِنَّ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ لَا يَنْكَشِفُ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ، كَمَا لَمْ يَنْكَشِفْ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيمَا أَتَاهُ الخِضْرُ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ، وَقَتْلِ الْغُلَامِ، وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ، لِمُوسَى (عليه السلام) إِلَى وَقْتِ افْتِرَاقِهِمَا.
يَا ابْنَ الْفَضْلِ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَسِرٌّ مِنْ سِرِّ اللهِ، وَغَيْبٌ مِنْ غَيْبِ اللهِ، وَمَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ حَكِيمٌ صَدَّقْنَا بِأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا حِكْمَةٌ وَإِنْ كَانَ وَجْهُهَا غَيْرَ مُنْكَشِفٍ»(9).
فالإمام الصادق (عليه السلام) في هذه الرواية يبين أنَّ لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام) حكمة، ولكنَّ هذه الحكمة خافية علينا حتَّى يكون الظهور المبارك له (عليه السلام)، فتظهر لنا الحكمة من غيبته، كما كانت الأفعال التي قام بها الخضر خافية الحكمة عن موسى (عليه السلام) حتَّى حان وقت افتراقهما، فكذلك الحكمة في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، وهذا الأمر سرٌّ من الأسرار الإلهية.
ومن جهة أُخرى، نحن نعلم بأنَّ الله تعالى حكيمٌ، وأنَّ كلَّ أفعال الله (عزَّ وجلَّ) لها حكمة ومصلحة، وإن خفيت علينا تلك الحكمة.
ومن جملة الروايات التي ينقلها الطبرسي في هذا الكتاب، رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) في أوصاف وخصائص صاحب الأمر، حيث ورد في كلام الرضا (عليه السلام) للسيد عبد العظيم الحسني:
«مَا مِنَّا إِلَّا قَائِمٌ‏ بِأَمْرِ اللهِ،‏ وَهَادٍ إِلَى دِينِ اللهِ، وَلَكِنَّ الْقَائِمَ مِنَّا هُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ اللهُ الْأَرْضَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالجُحُودِ، وَيَمْلَأُهَا عَدْلًا وَقِسْطاً. هُوَ الَّذِي يَخْفَى عَلَى النَّاسِ وِلَادَتُهُ، وَيَغِيبُ عَنْهُمْ شَخْصُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ تَسْمِيَتُهُ، وَهُوَ سَمِيُّ رَسُولِ اللهِ وَكَنِيُّهُ، وَهُوَ الَّذِي تُطْوَى لَهُ الْأَرْضُ، وَيَذِلُّ لَهُ كُلُّ صَعْبٍ، يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ عَدَدُ أَهْلِ بَدْرٍ (ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ) رَجُلًا مِنْ أَقَاصِي الْأَرْضِ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ): ﴿أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148]، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْعِدَّةُ مِنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ أَظْهَرَ أَمْرَهُ، وَإِذَا كَمُلَ لَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ رَجُلٍ خَرَجَ بِإِذْنِ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ)، فَلَا يَزَالُ يَقْتُلُ أَعْدَاءَ اللهِ حَتَّى يَرْضَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى».
قال عبد العظيم: فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، وَكَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ قَدْ رَضِيَ؟
قَالَ: إِنَّ اللهَ يُلْقِي فِي قَلْبِهِ الرَّحْمَةَ، فَإِذَا دَخَلَ المَدِينَةَ أَخْرَجَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى فَأَحْرَقَهُمَا(10).
فكما نلاحظ فإنَّ الإمام الرضا (عليه السلام) يبين أنَّ من خصائص المهدي (عليه السلام) خفاء ولادته، غيبته، وحرمة تسميته باسمه.
ثمّ يذكر الإمام (عليه السلام) بعض الأُمور المتعلِّقة بالأمر، من قبيل عدَّة أصحاب الإمام المهدي، وأنَّهم بعدَّة أهل بدر، وأنَّه يقارع الظالمين وأعداء الله بلا هوادة، حتَّى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
وكما أشرنا فيما سبق، فإنَّ الطبرسي قد جمع في هذا الكتاب احتجاجات المعصومين (عليهم السلام) ونقلها، ومن جملة تلك الاحتجاجات كلمات وأحاديث الإمام المهدي (عليه السلام)، والتي خَصَّص لها قسماً من أقسام الكتاب.
وفي هذا القسم يتعرَّض الطبرسي فقط ما عدا مورداً أو موردين إلى التوقيعات الشريفة الصادرة عن إمام العصر والزمان (عليه السلام) في المناسبات والمسائل المختلفة.
فبعض هذه التوقيعات صدرت في معرض الإجابة عن أسئلة الشيعة التي كانوا يكتبونها، وبعضها صادرة رأساً عنه (عليه السلام)، والتي تتضمَّن مسائل من قبيل:
1- ردِّ الغلاة.
2- ردِّ أدعياء البابية والنيابة عنه.
3- بيان النوّاب والسفراء الواقعيين.
4- حول شروع الغيبة الكبرى له (عليه السلام).
5- بعض المسائل الفقهية.
6- تقديمه العزاء والتسلية في بعض المسائل، كموت الشيخ عثمان العمري، أو موت الشيخ المفيد.
7- المكاتيب الموجَّهة إلى نوّابه الأربعة.
وأوَّل حديث ينقله الطبرسي في باب احتجاجات إمام الزمان (عليه السلام)، هو عن سعد بن عبد الله الأشعري القمّي. والقضية كما في الاحتجاج (ج 2/ ص 461) أنَّ سعد بن عبد الله القمّي الأشعري قال:
بُلِيتُ بِأَشَدِّ النَّوَاصِبِ مُنَازَعَةً، فَسَأَلَنِي عَن مَسَائِلٍ عَييتُ عَن الإِجَابَة عَنهَا، فَاحْتَرَزْتُ عَنْ جَوَابِ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ عَنْ هَذَا الْخَصْمِ عَلَى حَالٍ يَنْقَطِعُ كَبِدِي، فَأَخَذْتُ طُومَاراً وَكَتَبْتُ بِضْعاً وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً مِنَ المَسَائِلِ الْغَامِضَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ عِنْدِي جَوَابُهَا، فَقُلْتُ: أَدْفَعُهَا إِلَى صَاحِبِ مَوْلَايَ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام) الَّذِي كَانَ فِي قُمَ‏ أَحْمَدَ بْنِ‏ إِسْحَاقَ، فَلَمَّا طَلَبْتُهُ كَانَ هُوَ قَدْ ذَهَبَ، فَمَشَيْتُ عَلَى أَثَرِهِ، فَأَدْرَكْتُهُ، وَقُلْتُ الْحَالَ مَعَهُ، فَقَالَ لِي: جِئْ مَعِي إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى حَتَّى نَسْأَلَ عَنْ هَذِهِ المَسَائِلِ مَوْلَانَا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَذَهَبْتُ مَعَهُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى، ثُمَّ جِئْنَا إِلَى بَابِ دَارِ مَوْلَانَا (عليه السلام)، فَاسْتَأْذَنَّا عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَنَا، فَدَخَلْنَا الدَّارَ، وَكَانَ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ جِرَابٌ قَدْ سَتَرَهُ بِكِسَاءٍ طَبَرِيٍّ، وَكَانَ فِيهِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ صُرَّةً مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا خَاتَمُ صَاحِبِهِا الَّذِي دَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَلَمَّا دَخَلْنَا وَقَعَتْ أَعْيُنُنَا عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ (عليه السلام)، كَأَنَّ وَجْهَهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَقَدْ رَأَيْنَا عَلَى فَخِذِهِ غُلَاماً يُشْبِهُ المُشْتَرِيَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، وَكَانَ عَلَى رَأْسِهِ ذُؤَابَتَانِ...(11).
فأوَّل احتجاج ينقله صاحب (الاحتجاج) بحسن انتخابه، ينقله عن شخص رأى الإمام المهدي (عليه السلام) في زمن والده الإمام العسكري (عليه السلام)، وتشرَّف بلقائه زمن صباه.
وآخر توقيع يذكره الطبرسي، هو التوقيع الصادر عن الإمام الحجَّة (عليه السلام)، والذي جاء في آخره:
«وَلَوْ أَنَ‏ أَشْيَاعَنَا وَفَّقَهُمْ‏ اللهُ‏ لِطَاعَتِهِ‏ عَلَى‏ اجْتِمَاعٍ‏ مِنَ‏ الْقُلُوبِ‏ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ عَلَيْهِمْ، لَمَا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْيُمْنُ بِلِقَائِنَا، وَلَتَعَجَّلَتْ لَهمُ السَّعَادَةُ بِمُشَاهَدَتِنَا عَلَى حَقِّ المَعْرِفَةِ وَصِدْقِهَا مِنْهُمْ بِنَا، فَمَا يَحْبِسُنَا عَنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَّصِلُ بِنَا مِمَّا نَكْرَهُهُ، وَلَا نُؤْثِرُهُ مِنْهُمْ،‏ وَاللهُ المُسْتَعانُ،‏ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ،‏ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِين»(12).
ونقل هذا التوقيع في نهاية هذا القسم من الكتاب يكشف عن حُسْن تدبير وحسن انتخاب الطبرسي، فهو يحاول تذكيرنا بمشكلتنا الأساسية في زمن الغيبة، وبالحكمة من الغيبة.
3- كتاب المنقذ من التقليد:
تأليف الشيخ سديد الدين محمود الحمصي الرازي، المتوفّى في أوائل القرن السابع الهجري، والشيخ محمود من أعلام القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجري. لم يرد تأريخ ولادته في كلمات أرباب السير والتراجم، فقد اكتفى الشيخ (منتجب الدين) وهو تلميذ الشيخ محمود، في كتابه الفهرست بالقول:
(الشيخ الإمام سديد الدين محمود بن علي بن الحسن الحمصي الرازي، علَّامة زمانه في الأُصوليين، ورع ثقةٌ، له تصانيف...)(13).
وهذا الوصف يكشف بوضوح مقام وشأن الشيخ محمود العلميّ.
أكثر مؤلَّفات الشيخ التي تتداول أسماؤها في المحافل العلمية، هي في علم الكلام والعقائد الإسلامية، ومن جملتها كتاب (المنقذ من التقليد)، والذي يعَدُّ دورة عقائدية كاملة في الكلام الإسلامي الشيعي.
وهذا الكتاب أجمع وأكمل كتاب إسلامي كُتِبَ في القرن السادس الهجري، وكما يذكر نفس الشيخ في مقدَّمته بأنَّه كتبه استجابة لطلب الناس ووجهاء مدينة الحلَّة في سنة (581هـ).
واستناداً إلى رأي العلَّامة الطهراني في كتاب (الذريعة إلى تصانيف الشيعة)، فإنَّ الشيخ محمود قد انتقل إلى الديار الباقية في أوائل القرن السابع الهجري(14).
وقد طُبِعَ هذا الكتاب ونُشِرَ بمجلَّدين من قِبَل مؤسَّسة نشر جامعة المدرِّسين.
ويتعرَّض المؤلِّف في القسم النهائي للمجلَّد الثاني إلى مسألة إمامة إمام العصر والزمان (عليه السلام) وغيبته، والبحث الذي يبدأ به ذلك القسم من الكتاب هو السؤال عن غيبة الإمام (عليه السلام)، وأين هو؟ ولماذا لا يظهر؟ وما هي علَّة الغيبة؟
فيقول المصنِّف في معرض الجواب عن ذلك: لو قبلنا الأُصول التي ذكرناها في البحوث السابقة في هذا الكتاب، لن يبقَ إيراد وإشكال في خصوص هذه الأُمور، بل سيكون من الحسن والضروري، والأُصول التي نعنيها هي:
1- أنَّ الأئمَّة من بعد النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هم اثنا عشر إماماً، وآخرهم هو إمام العصر والزمان (عليه السلام).
2- لا يخلو عصرٌ من إمام زمان.
3- يجب أن يكون الإمام معصوماً من الصغائر والكبائر.
4- أنَّ الحقَّ لا يخرج عن الأُمَّة(15).
فمع قبول هذه الأُصول تكون غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) موجَّهة وحسنة، إذ أنَّ هناك عدَّة آراء في المجتمع الإسلامي حول مسألة الإمامة:
ألف) فعدَّة منهم يذهب إلى إمكان خلوِّ الأُمَّة عن الإمام.
ب) وعدَّة قالوا بعدم اشتراط العصمة في الإمام.
ج) وعدَّة قالوا بإمامة صاحب الزمان (عليه السلام).
يقول المصنِّف: وقد تقدَّم في البحوث السابقة ما يثبِت بطلان الرأي الأوَّل والرأي الثاني بكلِّ وضوح، فلا يبقى إلَّا الرأي الثالث، إذ لو قلنا ببطلان هذا الرأي أيضاً لزم أن يخرج الحقُّ عن الأُمَّة، وهو مخالف للأُصول المسلَّمة والمقبولة.
وعليه، فالإمام المهدي (عليه السلام) موجودٌ، وهو يتولّى قيادة وإمامة الأُمَّة، وهذا الإمام غائب عن أنظارنا، ونحن نقول بعصمته عن المعاصي، ولذا فإنَّ غيبته لا بدَّ أن تستند إلى علَّة أو عوامل اضطرَّته إلى الغيبة عن الأنظار. فإذا ما جهلنا تلك العلَّة أو العوامل، فإنَّ ذلك لا يقدح في أمر غيبته (عليه السلام).
فكما أنَّنا نقول في خصوص خلق الحيوانات المؤذية، أو في خصوص عموم الأُمور التي تبدو بظاهرها شروراً في المجتمع البشري، أو ما نقوله في خصوص الجواب عن الشبهة المطروحة في مسألة الأمراض التي تُبتلى بها المجتمعات، وأنَّ كلَّ ذلك من الله الحكيم العادل الذي لا يفعل القبيح، فكلُّ واحدٍ من هذه الأُمور يتضمَّن حكمة تجعل تحقُّق ذلك الأمر حسناً، فلا تُعَدُّ تلك الأُمور قبيحة أبداً في حقيقتها، وهي من الله تعالى، فلا يرد عليها أيُّ إشكال وإيراد.
نعم، فصحيحٌ أنَّنا لا نعلم بحكمة تلك الأُمور بنحو التفصيل والدقَّة، لكنَّنا نعلم بنحو الإجمال بحسن هذه الأُمور وفائدتها، ولا نرى قبحاً في تحقّقها، وهذا المقدار من العلم كافٍ لحلِّ الشبهة والإشكال المطروح في مثل هذه الأُمور.
وكذلك غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، فهو على نفس هذا المنوال، فنحن نعلم بنحو الإجمال بأنَّ غيبته مبتنية على أساس الحكمة والمصالح، وإن كنّا لا نعلم بنحو التفصيل والدقَّة، وهذا لا يدعو إلى الاستشكال على أصل الغيبة، فحتَّى لو ذكرنا عدَّة أدلَّة وبنحو التفصيل، وذكرنا المصلحة أو المصالح لغيبة إمام العصر والزمان (عليه السلام)، فهي ليست إلَّا أمراً تبرعياً.
ونشير هنا إلى بعض هذه الأدلَّة والمصالح، التي ذكرها الأصحاب وأعاظمنا:
فمن جملة دواعي الغيبة، الخوف على حياة الإمام المهدي (عليه السلام)، فالظالمون والطواغيت يرتجفون من ظهور الإمام وحضوره (عليه السلام)، إذ أنَّ الأحاديث والروايات الواردة في خصوص ظهور الإمام (عليه السلام) وحكومته، تُخبِرنا عن أنَّ ظهوره الشريف يعني إزالة الظلم والجور واقتلاع جذورها وملء الأرض قسطاً وعدلاً، فالمستكبرون وأتباع الشيطان لا يطيقون وجود الإمام وحضوره، وسيحاولون بكلِّ الوسائل قتل الإمام (عليه السلام)، وهذا ما يدعو الإمام (عليه السلام) للتخفّي خوفاً على حياته.
وبعبارة أُخرى: يمكننا القول بوجود مانع من ظهوره (عليه السلام)، وهذا المانع أوجده الطواغيت والظلمة.
فإذا كان الإمام (عليه السلام) خائفاً، لزم أن يحافظ على نفسه، ويختفي عن الأنظار خلف ستار الغيبة، كما حافظ النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على نفسه حينما خاف بطش قريش، فاختفى في الغار، وفي شعب أبي طالب(16).
وبعد أن بيَّن الحمصي علل الغيبة تناول بالتفصيل الردَّ على الشبهات المطروحة حول الغيبة، ويجيب عليها جميعاً.
ففي معرض جوابه عن شبهة عدم لقاء مواليه وشيعته به (عليه السلام)، وعدم انتفاعهم من وجوده(17)، يذكر المصنِّف عدَّة أجوبة، ثمّ يقول معقِّباً:
(فلا يلزمنا إيراد شيء من هذه الوجوه... بلطف الإمامة... في حال غيبته، حاصل كحصوله في حال ظهوره... قول صحيح قويٌّ...، إنَّما هم الذين علموا بالدليل وجوده وإمامته وفرض طاعته، وأنَّه لا بدَّ له من خروج...، ولا يكون معهم شكٌّ وريب في ذلك، ومن كذلك لا بدَّ من أن يكون خائفاً عند اقترافه معصية عرفه عليها من أن يطَّلع عليها الإمام، إمَّا بمشاهدة أو بإقامة بيِّنة عنده، فيقيم عليه ما يستحقّه من التأديب والحدّ، ويكون خوفه من ذلك بأحد وجهين: إمَّا بالظهور العامّ لجميع الخلق على ما هو موعود في حقِّه (عليه السلام)، وإمَّا بظهوره خاصَّة لإقامة حدِّ الله عليه، إذ لو ظهر له خاصَّة لما أمكنه مقاومته والامتناع ممَّا يريده من إقامة الحدِّ عليه، ولا يستجيز أيضاً مخالفته وأن لا ينقاد له وإن فرضنا قدرته على ذلك، إذ لو استجاز ذلك لخرج عن الولاية إلى العداوة، ولما كان وليّاً بل عدوّاً، فتحقَّق بما بيَّناه أنَّ الوليَّ لا يفوته الانتفاع بلطف الإمامة في حال غيبة الإمام)(18)‏.
ثمّ يتطرَّق الحمصي بعد ذلك إلى شبهة التعجّب من الولادة ووجود حضرة صاحب الزمان (عليه السلام). ومن جملة ما جاء في جوابه عن شبهة عدم اطِّلاع الناس في ذلك الزمان على ولادته، بل وحتَّى أبناء عمومته وأقربائه ومنهم عمُّه جعفر لم يكونوا يعلمون بولادته، وأنكروها(19)، فيقول: إنَّ التمسّك بالتعجّب لإبطال مذهبٍ أو عقيدةٍ ما، لا قيمة له، فإنَّ الأمر الذي ثبت بالأدلَّة القطعية، لا يمكن إبطالُه بمجرَّد الغرابة. هذا مضافاً إلى أنَّ خفاء قضية الولادة عن عموم الناس، وحتَّى عن الأقرباء وأبناء العمومة، ليس أمراً خارقاً للعادة ومخالفاً لها، فمثل ذلك حصل كثيراً في سيرة الأنبياء الماضين، وكذلك في حياة الملوك والزعماء، بل وحتَّى عند عامَّة الناس.
وفي النهاية يستنتج الحمصي بأنَّ خفاء الولادة أمرٌ عادي وليس شيئاً غريباً جدّاً يجعله عجيباً لدرجة بلوغه الدليلية على الإنكار والإبطال.
هذا مضافاً إلى أنَّ عدَّة غير قليلة من شيعة الإمام العسكري (عليه السلام) قد اطَّلعوا على ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، وهم من خُلَّص أصحابه وأنصاره، وقد تشرَّفوا برؤيته (عليه السلام) في زمن والده العسكري (عليه السلام)، وقد سألوه عن بعض المسائل فأجابهم.
كما أنَّ بعض الأوامر والنواهي كانت تصدر عنه (عليه السلام) في زمن الغيبة، وكان له نوّاباً خاصّين عينهم بنفسه ليكونوا الرابط بينه وبين شيعته.
أضف إلى تشرّف البعض بلقائه (عليه السلام) في زمن الغيبة وزيارته والاستماع إليه(20).
ثمّ يتطرَّق الحمصي إلى شبهة طول عمر الإمام المهدي (عليه السلام)، ويقول:
(وأمَّا تعجّبهم من طول بقائه وعمره، ثمّ من طول استتاره، فالكلام عليه أن نقول: التعجّب من طول العمر إمَّا أن يكون من حيث اعتقاد المتعجِّب أنَّ ذلك مستحيل، وهو غير مقدور، وإمَّا أن يكون من حيث كونه خارقاً للعادة.
أمَّا الأوَّل فهو قول الدهرية والطبائعيّين الذين لا يقرّون بالصانع المختار العالم، ويُكذِّبون بما جاء في القرآن من قوله تعالى في نوح: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً﴾ [العنكبوت: 14]، وفي أصحاب الكهف: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ [الكهف: 25]، وبما هو مشهور بين الأُمَّة من قصَّة المعمِّرين من الأنبياء والحكماء والملوك وغيرهم، على ما جاء في التفاسير والآثار والقصص، وليس هذا من مذهب فرقة من فِرَق المسلمين.
وأمَّا الثاني وهو أنَّه خارق للعادة فلا شكَّ فيه، ولكنّا قد بيَّنا في الكلام في النبوَّة أنَّ خرق العادة في حقِّ غير الأنبياء جائز حسن، وأنَّه ليس فيه وجه قبح، ويوافقنا على ما ذكرناه الصوفيَّة وأصحاب الظاهر والأشعرية، فلا وجه للاستعجاب من هذا الوجه أيضاً.
والتعجّب من طول استتاره وغيبته وعدم العثور على مستقرِّه، فممَّا لا يصحُّ التمسّك به في إبطال وجوده، فكم من وليٍّ لله تعالى يسيح في الأرض يعبده تعالى، وينفرد عن الخلق، لا يعرف أحد لهم مكاناً، ولا يدَّعي إنسان لقائهم ولا الاجتماع معهم، أليس الخضر (عليه السلام) موجوداً قبل زمن موسى (عليه السلام) وإلى وقتنا هذا بإجماع أهل النقل واتِّفاق أهل السير والأخبار؟)(21).
4- تفسير روض الجِنان وروح الجَنان:
وهذا الأثر من التفاسير المعروفة عند الشيعة، وهو من مصنَّفات القرن السادس الهجري، للمفسِّر الشيعي الكبير أبي الفتوح الرازي، الحسين بن علي بن محمّد بن أحمد الخزاعي النيشابوري.
ومن جملة خصوصيات هذا الكتاب المهمَّة، كتابته باللغة الفارسية. فهذا التفسير يتعرَّض بإسهاب لمسألة المهدوية، نشير إلى بعض ما جاء فيه، فنقول:
يستدلُّ الشيخ أبو الفتوح على ضرورة وجود الإمام في ذيل الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرضِ وَلا فِي السَّماءِ﴾ (آل عمران: 5)، ويقول:
(إنَّ حكمة الحقِّ تعالى قد اقتضت أن لا يترك أعضاءَك السبعة بلا رئيس، فكيف تقتضي حكمته تعالى أن يترك الأقاليم السبعة بلا إمام؟! فلا بدَّ لكلِّ زمانٍ من إمام، ولكلِّ رعية من راعٍ، ولكلِّ قطيع قائد، وأنت مكلَّف بوجوب معرفته، فمعرفته من الأُصول الإسلامية، ومن قواعد الإيمان، «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»، كما ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ففي هذا الخبر دليلان على أصلين من أُصولنا: أحدهما أنَّ لكلِّ زمانٍ إمام، ولا يخلو الزمان من الإمام، إذ إن لم يكن إمام لم يمكن التعرّف على الواجبات والمحرَّمات، وهو أيضاً دليلٌ على وجوب معرفة ذلك الإمام، فمعرفة الإمام من أُصول الدين، ولو لا ذلك لما قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مات ميتة جاهلية»(22).
ويعتبر أبو الفتوح أنَّ أحد موارد الإيمان بالغيب الإيمان بمهديِّ الأُمَّة، فيقول في تفسير ذيل الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (البقرة: 3):
(جاء في تفسير أهل البيت (عليهم السلام): الغيب هو مهديُّ الأُمَّة، فهو غائب عن أنظار الخلق، وهو الموعود في الأخبار والقرآن...
فأمَّا الأخبار فهي كثيرة، منها قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لو لم يبقَ من عمر الدنيا إلَّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يخرج رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلاً وَقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً»، وهذا خبر مذكور في كتب المخالفين والمؤالفين، وبأسانيد صحيحة)(23).
ويعتقد صاحب تفسير روض الجنان بأنَّ إمام العصر والزمان (عليه السلام) وعدٌ إلهيٌّ للمؤمنين، ففي تفسيره للآية الشريفة: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ﴾ (النور: 55)، يقول:
(جاء في تفسير أهل البيت (عليهم السلام) لهذه الآية أنَّ المراد بالخليفة صاحب الزمان (عليه السلام)، الذي أخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بخروجه في آخر الزمان وأنَّه المهديّ، وقد أجمعت الأُمَّة الإسلامية على خروجه)(24).
ثمّ يتعرَّض الشيخ أبو الفتوح الرازي لموضوع طول عمر إمام العصر والزمان (عليه السلام)، فيقول في ذيل تفسيره قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ (البقرة: 259):
(إنَّ الله تعالى قد خرق العادة والقانون الطبيعي في إبقاء وحفظ الطعام والشراب السريعي التغيير، لمصلحة وحكمة، فأبقاهما سالمين عن التلف لمائة عام، أفلا يعقَل أن يتلطَّف على شخص قد أُعِدَّ لإصلاح العالم بخرق العادة في إطالة عمره لعدَّة سنوات خلافاً لما جرت السُّنَّة في أبناء نوعه من البشر، فلا يهرم ولا تضعف قواه؟)(25).
وفي باب ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) يرى صاحب روض الجنان بأنَّ العلم بزمان ظهور الإمام (عليه السلام) هو من مختصّات الله تعالى، فلا أحد يعلم بتأريخ الظهور إلَّا هو (عزَّ وجلَّ)، وفي تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا﴾ (آل عمران: 7)، يقول المصنِّف:
(وما قالوه في تفسير المتشابه لعلم الساعة والعلم بفناء العالم وخروج الدجّال وخروج يأجوج ومأجوج، قالوه في خروج المهديِّ (عليه السلام)، والعلم بالروح والعلم بالغيب، فإنَّ كلَّ هذه الأُمور لا يعلمها أحدٌ إلَّا الله تعالى)(26).
ثمّ يتعرَّض المصنِّف في (روض الجنان) إلى بيان بعض علامات ظهور الإمام (عليه السلام)، استناداً للآيات القرآنية.
ومن جملة علامات الظهور التي يذكرها المصنِّف، ما قاله في ذيل الآية المباركة: ﴿وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ (سبأ: 51):
(جاء في الأخبار أنَّ علامة خروج المهديِّ (عليه السلام) خسف في المشرق، وآخر في المغرب، وآخر في البيداء، وعلامته خروج السفياني. ففي هذا الخبر الذي ذكر راية الهُدى التي تخرج في الكوفة، ليست إلَّا راية المهدي (عليه السلام)، على ما جاء في الأخبار)(27).
كما ويتعرَّض أبو الفتوح الرازي في موارد مختلفة إلى خصائص العالم في عصر الظهور، ونشير هنا إلى بعضها:
4/1- تشكيل حكومة المستضعفين العالمية:
قال في تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾ (القصص: 5):
(روى أصحابنا أنَّ هذه الآية نزلت في شأن المهديِّ (عليه السلام)، فإنَّ الله تعالى يمنُّ عليه وعلى أصحابه بعد استضعافهم، ويجعله إماماً لكلِّ الأرض ووارثاً لها)(28).
كما ويؤكِّد الرازي على نفس هذا المعنى في تفسيره للآية (55) من سورة النور، ويستدلُّ عليه(29).
4/2- عصر غلبة الإسلام:
وفي معرض تفسيره لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33)، يقول:
(وأمَّا معنى الآية، فقد اختلف المفسِّرون فيه، فقال عبد الله بن عبّاس بأنَّ (الهاء) تعود إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأمَّا باقي المفسِّرين فقد أرجعوا (الهاء) في ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ إلى (الدِّين الحقِّ).
وقال أبو هريرة والضحّاك بأنَّ معنى الآية هو: ليظهر الدين الحقّ على كلِّ الأديان، وذلك عند نزول عيسى بن مريم، فلا يبقى أحدٌ إلَّا ودخل الإسلام طوعاً ومكرهاً، أو يعطي الجزية عن يدٍ وهو صاغر.
وهاتان الروايتان متقاربتان، لأنَّ نزول عيسى من السماء يقارن خروج المهدي (عليه السلام)، كما جاء ذلك في أخبار المخالف والمؤالف)(30).
4/3- إرجاع حُليّ بيت المقدس:
ويقول (رحمه الله) في تفسيره للآية (4 - 8) من سورة الإسراء المباركة:
(ثمّ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ثمّ يرجِعُ المهديُّ حُليَّ بيت المقدس، أخذوها في (1700) سفينة، وإنَّ الله يجمع الأوَّلين والآخرين في بيت المقدس»(31).
4/4- الرجعة:
ويقول الشيخ أبو الفتوح الرازي في تفسيره الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 243):
(وهذه الآية دليلٌ على القول بالرجعة، ولقطع الشغب والتعجّب والاستبعاد)(32).
4/5- عيسى (عليه السلام) في آخر الزمان:
وقال الرازي (رحمه الله) في تفسيره للآية الكريمة: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (الزخرف: 61):
(و في الحديث: «ينزل عيسى على ثنية من الأرض المقدَّسة يقال لها: أفيق، وعليه ممصّرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة، وهي التي يقتل بها الدجّال، فيأتي بيت‏ المقدس والناس في صلاة العصر، والإمام يؤمُّ بهم، فيتأخَّر الإمام فيُقدِّمه عيسى ويُصلّي خلفه على شريعة محمّد، ثمّ يقتل الخنازير، ويكسر الصليب، ويُخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلَّا من آمن به»)(33).
5- تفسير مجمع البيان:
تأليف الشيخ الجليل أمين الإسلام، أبي علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، وهو من كبار علماء مذهب الإمامية في القرن السادس الهجري.
وهذا التفسير الشريف من جملة الكتب الخالدة على مرِّ الزمان، وهو تفسير مقبولٌ عند العامَّة والخاصَّة. وقد أذعن كبار علماء الطائفتين الشيعة والسُّنَّة بعظمة ومكانة الشيخ الطبرسي، وذكروه بإجلال.
قالوا بأنَّ الشيخ الطبرسي وُلِدَ في سنة (447هـ)، وإنَّه فارق الحياة سنة (548هـ)(34).
لقد ترك هذا العالم الجليل آثاراً كثيرة، منها تفسيران آخران للقرآن الكريم باسم (جوامع الجامع) و(الكافي الشافي).
وهذا الشيخ الجليل قد تعرَّض للمسألة المهدوية في تفسيره القيم (مجمع البيان)، وفي عدَّة مواضع، منها:
المهدي من آل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله):
طبَّق الشيخ الطبرسي في مجمع البيان (العباد الصالحين) الذي ورد ذكرهم في الآية الشريفة: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105) على أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام)(35).
الإيمان بالغيب:
ويرى العلَّامة الطبرسي بأنَّ موارد (الإيمان بالغيب) المذكورة في القرآن الكريم باعتبارها من خصائص أهل التقوى، يراد بها غيبة إمام العصر والزمان وخروجه في آخر الزمان(36).
ظهور السفياني قبل ظهور صاحب الأمر (عليه السلام):
وينقل الطبرسي (رحمه الله) رواية عن علي بن الحسين والحسن بن الحسن بن علي (عليهم السلام) في ذيل تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ (سبأ: 51) تتحدَّث عن السفياني وأنَّه من علامات ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)(37).
الرجعة في زمان قيام المهديِّ (عليه السلام):
وفي تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (النمل: 83)، يقول العلَّامة الطبرسي:
(والشيعة القائلون بالرجعة يستدلّون بهذه الآية الشريفة عليها).
ظهور الدِّين الإسلامي:
إنَّ من خصائص عصر الظهور الشريف لإمام العصر والزمان (عليه السلام) انتشار الإسلام في كلِّ الأرض، وقد وعد الله تعالى في كتابه الكريم بهذا الظهور، كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33).
حكومة المؤمنين والصالحين:
ومن جملة الخصائص المهمَّة جدّاً لعصر الظهور، حكومة المؤمنين والصالحين للأرض، وهو من الوعد الإلهي، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ (النور: 55).
ويشير الشيخ الطبرسي بدايةً إلى الاختلاف الموجود في تفسير هذه الآية الشريفة، ثمّ يقول:
(ما وصلنا من أخبار أهل بيت العصمة والطهارة، يشير إلى أنَّ هذه الآية نزلت في المهديِّ من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
ويطبِّق الشيخ الطبرسي الآية الشريفة: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105) على أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام) مستنداً في ذلك إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام)، حيث ينقل رواية على ذلك(38).
6- كتاب بعض مثالب النواصب في نقض فضائح الروافض:
المعروف بـ (النقض)، تأليف: عبد الجليل القزويني الرازي.
كتاب (النقض) كتابٌ كلاميٌّ، رجاليٌّ أدبيٌّ، تأريخيٌّ، جغرافيٌّ، مضافاً إلى اهتمامه بشؤون الملل والنحل.
وفي هذا الكتاب معلومات قيمة عن الشيعة وعن الآثار والعلماء، والآراء الكلامية الشيعية، والتي قد لا يتيسَّر الحصول عليها في الكتب الأُخرى.
وكما يظهر من اسم الكتاب، فإنَّ المؤلِّف كتبه كجوابٍ على كتاب باسم: (بعض فضائح الروافض)، والذي كُتِبَ للتشنيع على الشيعة.
وكاتب كتاب (بعض فضائح الروافض) غير معروف حتَّى في زمن عبد الجليل القزويني، وهو ما يشير إليه القزويني في بداية الكتاب(39).
ومن جملة المباحث التي يتضمَّنها هذا الأثر النفيس مبحث المهدوية وما يرتبط بها من تفرّعات، فيجيب عبد الجليل القزويني (رحمه الله) على الشبهات التي يطرحها كاتب كتاب بعض فضائح الروافض.
ويصرِّح القزويني في موضع من كتابه بأنَّ خاتم الأوصياء والإمام المعصوم هو الإمام المهدي (عليه السلام)(40).
ويقول في الردِّ على شبهة حول ظهور الإمام الحجَّة (عليه السلام):
(وأمَّا إنكاره لظهور القائم (عليه السلام)، فكان عليه أن يراجع التواريخ، فإنَّ أصحاب الحديث يصرِّحون بأنَّ من أيقن نزول عيسى المسيح في آخر الزمان، لا ينكر المهدي (عليه السلام)، فجمهور أصحاب الشافعي خلفاً عن سلف، والشيعة، كلاهما يقرُّ بذلك، ولكن أصحاب أبي حنيفة البهري ينكرون كلا الأمرين معاً)(41).
ويقول في موضع آخر: يقول صاحب كتاب (بعض فضائح الروافض): (إنَّ الشيعة وأئمَّتهم يعتقدون بأنَّ قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ...﴾ (النور: 55) ناظرٌ إلى القائم في آخر الزمان، والذي تُسَلَّمُ له الأرض كلّها).
يقول عبد الجليل في الجواب:
(إنَّ هذه النسبة وهذا التفسير صحيحان، فإنَّ مذهب الشيعة خلفاً عن سلف قائم على هذا الاعتقاد، وعلى خلافة الأئمَّة الطاهرين (عليهم السلام) وخروج الإمام المهدي (عليه السلام)، وقد أوردوا ذلك في التفاسير، وعوَّلوا عليه بالدليل والحجَّة. فمذهبنا يرى بأنَّ المهديَّ (عليه السلام) إذا ظهر فإنَّه يدين بنفس هذا الدين وهذه الشريعة وهذا الكتاب فلا تتبدَّل التكاليف، وهو خليفة الله في الأرض، الذي يقتدي بشريعة جدِّه المصطفى، فلو أنصف المتأمِّل في تفسير هذه الآية الشريفة، لأقرَّ بدلالتها على خروج وإمامة المهدي (عليه السلام)(42).
ثمّ يقيم الشيخ عبد الجليل القزويني الشواهد والأدلَّة على أنَّ هذه الآية المباركة ناظرة إلى الإمام المهديِّ (عليه السلام)، وأنَّ زمان تحقّقها هو زمان ظهوره الشريف.
ثمّ يعالج الشيخ صاحب كتاب (النقض) بعض الشبهات المرتبطة بمسألة الرجعة، ويقول:
(إنَّنا وبحمد الله تعالى لا ننكر أنَّ الله تعالى يرجِع جماعة من كلِّ أُمَّة إلى الدنيا بعد موتهم، ببركة دعاء الإمام المهدي (عليه السلام)، وذلك حين خروج المهدي ونزول عيسى، فكما جاء في الآية الشريفة: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا﴾ (النمل: 83)، وهذا الحشر لا بدَّ أن يقع قبل قيام القيامة، فإنَّ إجماع الأُمَّة قائم على أنَّ الحشر يوم القيامة يكون لجميع الخلائق، لا لفوج من كلِّ أُمَّة، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً﴾ (المجادلة: 6)، ليتَّضح ويظهر لنا الفرق بين الآيتين، فتحصل الفائدة، فإنَّ من كان قادراً على البديع من الفعل في إحياء الموتى في زمن عيسى وموسى وعُزير وإبراهيم، كما نطق القرآن الكريم بذلك، لقادر على فعله في زمن دولة حفيد رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فليس ذلك بعيداً عن قدرته، ولا هو بعيد عن حرمة سيد السادات. وإنَّ إنكار هذا المقدور الذاتي لله تعالى، إنكارٌ للبعث والنشور يوم القيامة. فالرجعة في عهد ظهور الإمام المهديِّ (عليه السلام)، مذهبُ الشيعة الإمامية بلا شبهة)(43).
هذا وقد تعرَّض هذا العالم الجليل الشيخ عبد الجليل القزويني في موارد متعدِّدة من كتابه إلى بعض المباحث والموضوعات المرتبطة بمسألة المهدوية، وأجاب عنها بإجابات شافية، نكتفي بما ذكرناه منها في هذا المقام، ونحيل طلَّاب المزيد إلى مراجعة نفس الكتاب.
7- رسالة عجالة المعرفة في أصول الدين:
وهذا الأثر الخالد نتاج يراع العالم الشيعي الجليل الشيخ ظهير الدين الراوندي، من أعلام القرن السادس الهجري(44).
وهذه الرسالة موجزة جدّاً، لا يتجاوز عدد صفحاتها العشرين صفحة، وعلى الرغم من إيجازها، تطرَّق الراوندي بنحو مفصَّل تقريباً إلى مسألة المهدوية.
وقد تمسَّك في إثبات إمامة الإمام المهدي (عليه السلام) بقول ونصِّ النبيِّ الأكرم ونصوص أجداده الطاهرين (عليهم السلام)، كما أنَّه قدَّم الدليل العقلي على وجود الإمام المهدي (عليه السلام)، والذي يبتني على عدم جواز تكليف الناس في حال عدم وجود إمام معصوم هو أعلم الناس بالأحكام الشرعية(45).
ويرى هذا العالم الجليل بأنَّ سبب غيبة الإمام (عليه السلام) هو نفس دليل (الخوف) الذي ابتلي به الأنبياء السابقون مثل موسى ويونس وإبراهيم (عليهم السلام)، والذي اضطرَّهم إلى الغيبة عن قومهم، فكذلك الإمام المهديّ (عليه السلام)، فكما أنَّ غيبة هؤلاء الأنبياء (عليهم السلام) لم تورد خللاً في نبوَّتهم، فكذلك غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) لا تورد خللاً في إمامته(46).
وأمَّا فيما يرتبط بطول عمر الإمام المهديِّ (عليه السلام)، فيقول:
لا مجال للاستغراب والتعجّب في هذا الخصوص، فإنَّ من ينكِر أو يتعجَّب من طول عمر الإمام المهدي (عليه السلام)، لا يخرج من أحد حالين: إمَّا أن يقبل قدرة الله تعالى، وإمَّا أن ينكِرها. فإن قبل وأذعن بقدرة الله تعالى، ولكنَّه شكَّ في أنَّه قادر على كلِّ مقدور، فإنَّ شكَّه حينئذٍ سيكون مثل شكّ من كان معتقداً بعلم الله تعالى بكلِّ المعلومات ولكنَّه شكَّ في علمه بكلِّ الجزئيات، فكما أنَّ هذا الشكّ لا معنى له وهو باطل، فكذلك الكلام في المقام. وأمَّا إذا كان منكراً لقدرة الله تعالى، فلا كلام لنا معه في موضوع الإمامة والغيبة، بل لا بدَّ أوَّلاً من البحث معه حول قدرة الله تعالى(47).
8- رسالة الخلاصة في علم الكلام:
وهذا الأثر من الآثار الباقية للعالم الشيعي الجليل الشيخ قطب الدين السبزواري(48).
يقول السبزواري في استدلاله على إمامة الإمام الحجَّة (عليه السلام):
(لمَّا كنّا نشترط العصمة في الإمامة، وليس في زماننا اليوم أحدٌ يتَّصف بالعصمة غير إمام العصر (عليه السلام)، لزم أن يكون هو الإمام لهذا العصر).
ويقول هذا العالم، في خصوص سبب الغيبة:
(1- لا يمكن أن يكون سبب غيبته من جانب الله (جلَّ عزّه)، لأنَّ الله تعالى لا يخلُّ بالأُمور الواجبة، ولذا فإنَّ غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) لا تستند إلى الله تعالى.
2- ولا يمكن أن تكون غيبة الإمام المهديِّ (عليه السلام) مستندة إليه هو، لأنَّه معصوم ولا يجوز في حقِّه أن يترك ما يجب عليه ويغيب.
فنستنتج إذن، أنَّ سبب الغيبة إنَّما هو الخوف من الأعداء وقلَّة الناصر والمعين، ومتى ما زال الخوف، أو وُجِدَ الأنصار والأعوان بالمقدار اللازم، ظهر (عليه السلام)، وملأ الأرض قسطاً وعدلاً)(49).
وبالتأمّل والدقَّة في الموارد السابقة الذكر، يتَّضح لنا بأنَّ مسألة المهدوية قد شغلت حيزاً واضحاً في الفكر الشيعي في القرنين الخامس والسادس الهجري، بل وحظيت باهتمام العلماء في كلِّ العالم الإسلامي، وهذا ما تكشف عنه المحاججات والردِّ والقبول لهذه المسألة، ممَّا يدلُّ على انشغال الأذهان بهذه المسألة، ومحاولة إبطال الشبهات المثارة حولها، وهو دليل واضح على طول تأريخ مسألة المهدوية في الفكر الإسلامي.

المصادر:
1- المقالات والفِرَق: سعد بن عبد الله الأشعري/ نشر العطائي/ 1963م.
2- الفهرست (أسماء علماء الشيعة ومصنِّفيهم): منتجب الدين أبو الحسن علي بن عبيد الله الرازي)/ ت المحدِّث الأرموي/ مكتبة المرعشي النجفي/ 1366ش.
3- روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن: أبو الفتوح حسين بن محمّد بن أحمد الخزاعي النيشابوري الرازي/ ت محمّد جعفر الياحقي ومحمّد مهدي الناصح/ بنياد پژوهش هاى خاص/ 1368ش/ مشهد.
4- عجالة المعرفة في أُصول الدين: محمّد بن هبة الله الحسن الراوندي/ ت السيد محمّد رضا الحسيني الجلالي/ مجلَّة تراثنا/ العدد 29/ (1412هـ).
5- الخلاصة في علم الكلام: قطب الدين السبزواري/ ت السيد محمّد رضا الحسيني الجلالي/ مجلَّة تراثنا/ العدد 34/ (1414هـ).
6- المقنع في الإمامة: عبيد الله بن عبد الله السُّذآبادي/ ط 1/ 1414هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
7- الشيخ الطبرسي إمام المفسِّرين في القرن السادس: الشيخ جعفر السبحاني / ط 1/ 1382ش/ مؤسَّسة الإمام الصادق (عليه السلام)/ قم.
8- الإرشاد في معرفة حجج العباد: الشيخ المفيد/ ط 1/ 1413هـ/ المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد.
9- النقض: عبد الجليل القزويني الرازي/ ت المحدِّث الأرموي/ انتشارات انجمن ملّى/ 1358ش.
10- أمل الآمل: الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي/ ت السيد أحمد الحسيني/ مكتبة الأندلس/ بغداد.
11- المنقذ من التقليد: سديد الدين محمود الحمصي الرازيّ/ ط 1/ 1414هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
12- مجمع البيان في تفسير القرآن: أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي/ دار إحياء التراث العربي/ 1379ق/ بيروت.
13- الاحتجاج: أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي/ ط 6/ انتشارات الأُسوة/ (1425هـ).
14- فِرَق الشيعة: حسن بن موسى النوبختي/ المكتبة المرتضوية/ (1355هـ).

الهوامش:
(1) الإرشاد للمفيد 2: 336.
(2) فِرَق الشيعة للنوبختي: 110؛ المقالات والفِرَق للأشعري: 104.
(3) المقنع في الإمامة: 20 و21.
(4) المقنع في الإمامة: 146 - 148.
(5) المقنع في الإمامة: 149 و150.
(6) الاحتجاج: 22.
(7) أمل الآمل للحرِّ العاملي 2: 17.
(8) الاحتجاج 1: 86.
(9) الاحتجاج 2: 140.
(10) الاحتجاج 2: 481 و482.
(11) الاحتجاج 2: 523 - 535.
(12) الاحتجاج 2: 602.
(13) الفهرست (أسماء علماء الشيعة مصنِّفيهم) لابن بابويه الرازي: 107/ الرقم 389.
(14) المنقذ من التقليد: 5 - 12.
(15) أي إنَّ الأُمَّة لا تجتمع على الخطأ، ولا بدَّ أن يكون للحقِّ أتباع وأنصار في الأُمَّة الإسلاميَّة.
(16) المنقذ من التقليد: 372 - 374.
(17) المنقذ من التقليد: 380.
(18) المنقذ من التقليد: 385 - 386.
(19) المنقذ من التقليد: 387 - 388.
(20) المنقذ من التقليد: 388 - 391.
(21) المنقذ من التقليد: 398 - 401.
(22) روض الجنان 4: 172 و173.
(23) روض الجنان 1: 104.
(24) روض الجنان 14: 170.
(25) روض الجنان 4: 23.
(26) روض الجنان 4: 180.
(27) روض الجنان 16: 85.
(28) روض الجنان 15: 94 و95.
(29) روض الجنان 14: 169 و170.
(30) روض الجنان 9: 226.
(31) روض الجنان 12: 164.
(32) روض الجنان 4: 335.
(33) روض الجنان 17: 182.
(34) الشيخ الطبرسي إمام المفسِّرين في القرن السادس للسبحاني: 8 و9.
(35) مجمع البيان 7: 66 و67.
(36) مجمع البيان 1: 38؛ قال ما نصّه: (ويدخل فيه ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي (عليه السلام) ووقت خروجه).
(37) مجمع البيان 8: 397 و398.
(38) مجمع البيان 7: 67.
(39) النقض: 2.
(40) النقض: 29.
(41) النقض: 267.
(42) النقض: 268.
(43) النقض: 270 و271.
(44) وقد قام المحقِّق الجليل السيِّد محمّد رضا الحسيني الجلالي بتحقيق هذه الرسالة، وتمَّ نشرها في مجلَّة تراثنا/ العدد 29/ (1412هـ).
(45) مجلَّة تراثنا 29: 233/ عجالة المعرفة.
(46) المصدر السابق؛ قال ما نصّه: (... بقي علينا أن نُبيِّن سبب غيبته عليه الصلاة والسلام، وهو السبب المحوج للأنبياء إلى الغيبة...).
(47) مجلَّة تراثنا 29: 233 و234/ عجالة المعرفة؛ قال ما نصّه: (... وأمَّا طول حياته، فممَّا لا يُتعجَّب منه...).
(48) تمَّ تحقيق هذه الرسالة من قِبَل المحقِّق الجليل السيِّد محمّد رضا الحسيني الجلالي بتحقيق هذه الرسالة، ونُشِرَت في مجلَّة تراثنا/ العدد 34.
(49) مجلَّة تراثنا 34: 201 و202/ الخلاصة في علم الكلام.

العدد ٦ / ذو القعدة / ١٤٣٩ هـ : ٢٠١٨/٠٧/٢٦ : ٥.٠ K : ٠
: السيّد علي الحسيني
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

محتويات العدد: