أبحاث العدد:
خلاصات بحوث العدد:
المسار:
الموعود » اعداد المجلة » العدد ٧ / جمادي الآخر / ١٤٤٠ هـ
لتصفح المجلة بـ Flsh
لتحميل المجلة كـ Pdf
العدد 7 / جمادي الآخر / 1440 هـ

دور الإمام الغائب (عجّل الله فرجه) في بقاء حجج الله تعالى وبيّناته وفي هداية البشر

دور الإمام الغائب (عجّل الله فرجه) في بقاء حجج الله تعالى وبيّناته وفي هداية البشر

الشيخ حسن الكاشاني

ضرورة التعريف الوحياني لمقام الإمامة:
ليس بوسع البشر أن يعرِّف مقام الإمامة تعريفاً حقيقياً يغطّي جميع المساحات والزوايا، وذلك لعدم بلوغ العقل البشري لفهم حقيقة مقام الإمامة، ومن هنا عرّفوها بما يقصر دوره على حضوره وظهوره، لكنما الإمامة في التعريف الوحياني: ملك إلهي لا يزول بإدبار الناس ويبقى فاعلاً ونشطاً في غيبته كما هو في حضوره.
عدم اقتصار دور الإمام (عليه السلام) على التصدي العلني:
في التعاريف الموجودة -سيما لدى مدرسة أبناء العامة- يقتصر دور الإمام على التصدي الظاهري المعلن، ويغيب دوره بغياب شخصه، فإنهم عرّفوا الإمامة بمقام السلطة الظاهرية التي يُحتاج إليها لإقامة الحدود والحكم بين الناس(1). وهذا الشأن كما ترى قائم بحضوره وحياته الظاهري بين الناس بل بتصديه الظاهري للمُلك وقيامه بالسلطة، وهم بذلك غيّروا مفهوم الإمامة وجعلوا مكانها مفهوم السلطة والحكومة الظاهرية، فسلبوا مقام الإمامة عمن لم يباشر إدارة الدولة، وأثبتوها لمن باشره وإن كان جائراً شقياً.
كما أن البعض عرفوا مقام الإمامة بمقام بيان الأحكام والمعارف الوحيانية وتفسير القرآن الكريم، شأن العلماء الأبرار، وهذا الدور وإن كان مما اهتم به أئمتنا (عليهم السلام) إلّا أنه لا يقتصر دور الإمام على ذلك، لتكون فاعليته منحصرةً بزمن الظهور وتتعطل إمامته في غيبته.
بينما نرى القرآن المجيد يعرّف مقام الإمامة بقوله ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ (الرعد: 7) وقد وردت روايات كثيرة تفسّر الآية بأن لكل زمان إماماً يهديهم بأمر ربهم، فالقرآن الكريم يصرّ على فاعلية دور الإمام في الهداية لكل قوم وفي كل زمان، فلو غاب دوره في الهداية بغيابه لكان نقضاً للآية الكريمة.
دور الإمام (عليه السلام) في حفظ الدين وبقاء الحجج:
فمن جملة التعاريف الوحيانية لمقام الإمامة أنه الحافظ لحجج الله، حيث عقد المرحوم الكليني باباً في أصول الكافي سمّاه (باب أن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلّا بإمام)(2) وقد أفصح عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لكميل بن زياد:
«اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لكيلا تبطل حجج الله وبيناته»(3).
وهذا يعطي أن من أدوار الإمام (عليه السلام) هو حفظ حجج الله وبيناته، وهذا الدور غير مقتصر على زمن ظهوره، وعليه تبطل حجية جميع الحجج الوحيانية في حالة فقد الإمام. وقد نبّه أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه هذا على أمر بات مرتكزاً عند جميع العقلاء وبمختلف مستوياتهم، ويمكن بيانه بعدة لغات وجملة من البراهين.
بطلان جميع حجج الله دون رعاية الإمام الحي:
امتداد آفاق الوحي وعدم استطاعة عقل البشر لاستيعاب آفاقه اللامتناهية.
القرآن الكريم يخبرنا بوجود آفاق عظيمة ومهولة للمعلومات الغيبية الوحيانية، فإنها تغطي مساحات شاسعة من عوالم الغيب، بل لا نفاد لكلمات الله تعالى ولو مُدّ جميع أشجار الأرض بسبعة أبحر من المداد، وأن منها علوماً عالية فاق بتعلمها آدم جميع ملائكة الرحمن، بل صار بها مسجوداً لهم ومطاعاً، وقد أنبأ بأن كل شيء أحصاه الله تعالى في الكتاب وأنه مشتمل للوح المحو والإثبات وملكوت كل شيء وفيه مفاتح الغيب، وحكم بهيمنة القرآن الكريم على جميع الكتب والعلوم وأنه تبيان لكل شيء.
فصار شعار الأنبياء (عليهم السلام): (الله أكبر) في حين ينادي البعض بأن العقل أكبر أو التجربة والطاقة البشرية أكبر، ومن أجل ذلك لا يكتفى بالعقل والتجربة عن الوحي والنبي وهو برهان الحاجة إلى النبي، حيث إن الطاقة البشرية تعجز عن الإحاطة بعوالم الغيب والشهادة ليعرف خالقه وما عنده من المصالح والمفاسد وأنه من أين وفي أين وإلى أين.
أنّى للعقل البشري أن يستوعب كلمات الله تعالى التي وصفها الله تعالى في كتابه بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ (الكهف: ١٠٩).
وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (لقمان: ٢٧).
وكانت الحاجة للنبي والرسول ليتوسط لنا في تنزيل ذلك الغيب لعالم الشهادة، فأساس النبوة قائم على وجود علوم إلهية لا يصل إليها العقل البشري، ولا يتيسّر الارتباط بعالم الغيب لأيّ واحد من الناس، فاحتجنا للسفير والوسيط بين الله تعالى وبين خلقه ليتلقى تلك العلوم الغيبية فينزلها لنا، وهو سيد الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) أنزل إليه القرآن وهو يحيط بجميع هذه العلوم، لاسيما بعد التصريح بذلك في قوله تعالى ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: ٨٩).
لا يحفظ الوحي إلّا بالوحي:
هل الوحي المحمدي له دوام وبقاء وخلود بعد سيد الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) أم يزول بفقده وبه تنتهي صلاحيته؟
من المعلوم أنه لا يمكن المصير للثاني، وهذا لا خلاف فيه بين السُنة والشيعة، فالكل متفقون على ضرورة بقاء واستمرار هذه العلوم الغيبية التي نزل بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
إنما الخلاف في من له شأن حفظ هذه العلوم والحجج.
فيرى أبناء العامة أن ما بقي من الوحي المحمدي هو الكتاب والسُنة الصامتان وإنما حفظا وبقيا بفضل الصحابة والتابعين، ومن هنا يتحسسون من التعرض للصحابة والتابعين، فالتعرض لهم يوجب التزعزع في الدين والوحي عندهم، لأنهم حفظة الوحي والدين حسب زعمهم.
لكننا نقول: لا يكون بقاء الوحي إلّا ببقاء الكتاب المبين وروح القدس وحاملها وهو الإمام (عليه السلام) ومن هنا صارت الإمامة عندنا أس الإسلام، لأن بزوال الإمام يزول الدين.
ويمكن أن يبرهن عليه بأمور:
1- برهان الأمن:
المسؤول عن حفظ الأمن لابد وأن يكون عالماً بجميع خفايا وأسرار ذلك الشيء، فلا يؤتمن لحفظ أمن البلد من لا يعرف شيئاً عنه، ولا يؤتمن لحفظ القرآن والوحي إلّا من يُلمّ بعلم القرآن والوحي وكلمات الله تعالى التي لا نفاد لها.
فلا يؤتمن لحفظ الشيء إلّا من يطلع على جميع ما يراد حفظه، فقد يكون شخص حافظاً لمؤسسة صغيرة أو مصرف متوسط لكنه لا يؤتمن عليه لحفظ مؤسسة عسكرية أو مركز اقتصادي رفيع المستوى، فإن الأمن علم وخبرة واطلاع واستطلاع، وليس كل إنسان عادل يمكنه إيجاد الأمن في مساحات وسيعة.
فلا يوصف الإنسان بالأمانة والحفظ والصدق بمجرد عدم تعمد الخيانة والكذب، بل لابد من الإحاطة العلمية بالذي يريد حفظه وأمانته، فمن لا يكون مطلعاً على خفايا وبواطن مؤسسة عسكرية ولا يعرف شيئاً عن علومها لا يعتمد عليه في حفظ الأمن وسلامة المعسكر، وإنما الاعتماد على القائد الخبير الميداني المطلع على علوم الأمن والعسكر، ومن هنا فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يكون أميناً على الوحي ولا حافظاً له إن كان علمه دون مستوى تلك الآفاق الوسيعة من الوحي الإلهي.
ومن هنا لا يحفظ الوحي إلّا بالوحي، لأن البشر يقصر علمه عن وعي الوحي، ومن هنا قال تعالى بصريح الكلمة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ (الحجر: ٩) وهذا برهان قاطع على أن حفظ الوحي ليس بوسع البشر.
أمين الله على وحيه وعزائم أمره صفة الإمام دون الصحابة والرواة والفقهاء:
إن الله تعالى وعد بحفظ وبقاء الوحي، وهنا يطرح السؤال أنه لو كان الحافظ للوحي والقرآن من لا يكون مطلعاً على كل تلك الآفاق الوسيعة ولا يكون مؤيداً بروح القدس -كما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)- فلا يمكن أن يعتمد عليه في الحفظ ولن يكون أميناً، وذلك ليس لتعمد الخيانة فحسب، بل لأن الإنسان لا يكون حافظاً لشيء لا يحيط به علماً، والصحابة والتابعون وغيرهم من البشر ولو أجمعوا وضمّ بعضهم إلى بعض لن يصل علمهم إلى أدنى مستويات علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهم ليسوا أمناء على الوحي، بل لا يمكن أن يكون الحافظ والأمين للوحي إلّا من يوازي علمه علم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويكون وارثاً لروح القدس.
ومن هنا صار الوصي (عليه السلام) دون غيره باباً لمدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا مدينة العلم وعليٌ بابها»(4).
فلا يكفي لصدق وصف الأمانة على الإنسان كونه صادقاً وعادلاً، ما لم يكن عنده علم بالأمن بنسبة ما ائتمن عليه.
والمسؤول عن أمن البلد أو الجيش أو المواقع الالكترونية كيف يكون أميناً حينما لا يعرف شيئاً عن علوم الأمن والعسكر والالكترونيات؟
وكيف يصدق وصف (أمين الله على وحيه) أو (أمين الله في أرضه) على الصحابة مع عدم اطلاعهم على الوحي والكتاب المبين؟
باب مدينة علم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
زعم بعض أن كل من سمع شيئاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه يكون باباً إليه في ذلك المقدار، ومن هنا قال: لا خصوصية في أمير المؤمنين (عليه السلام) ليكون هو باب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيره.
وهذا الوهم ناشئ عن ظنه أن باب الوصول إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو مجرد القناة الحسية، والحال أن أمير المؤمنين (عليه السلام) خُص من بين سائر الصحابة بتحمله للروح القدسي النازل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك أن آفاق الوحي ليست مقتصرة على الألفاظ التي خرجت من فم رسول الله المقدس (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل الوحي هو الروح الذي أوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى:
﴿وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلاَ الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى: ٥٢).
وهذا الوحي المحمدي تمتد آفاقه إلى السماوات والأرضين كما هو المنصوص في عدة من آيات الذكر الحكيم، ولا يتيسر الوصول إليه إلّا عبر من يتحمل ذلك العلم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فكل خبر أو حديث أو تأويل أو تفسير ينقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكتسب حجيته من علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو الممثل الرسمي لعلوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والحامل لذلك الروح القدسي.
فانحصر الباب للوصول إلى الغيب في شخص واحد، وهو القيّم على ما يتداوله الناس من أخبار وآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ولا حجية في من يتلقى عن الغيب دون إشراف وهيمنة الوصي، نظير ما لو فرضنا أن أحداً التقى بجبرئيل وسمع منه أو كشف له الغيب في المنام أو اليقظة فخالف مؤدى كشفه لرأي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفعله، فلو ترك كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واتبع ما كشف له، فقد أنكر نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وادعى لنفسه النبوة. وذلك لو كان هنالك طريق للارتباط بعالم الغيب دون وساطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأي حاجة تبقى إلى النبي، فهذا الفرض بنفسه مناقض لأساس النبوة والرسالة.
وهذا سدٌّ لباب جميع الفرق المنحرفة المؤسسَّة على الكشف والشهود الغيبي في المنام أو اليقظة، فإن أساس النبوة قائم على أن إنزال الغيب للشهادة من صلاحيات صاحب الروح القدسي المصطفى، ومن هنا ورد أن من تكهّن أو تكهن له فقد برئ من دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)(5).
لن يكون البشر أميناً على وحي الله ولا صادقاً إلّا بعد رعاية ممثل الدولة الإلهية وهو الإمام، ولو كان الحافظ للوحي هم الصحابة لتنزل الوحي إلى قدر الطاقة البشرية، ولكان متأثراً بالبيئة والتراب والجغرافيا والثقافة البشرية فيتضيق لضيق المسار والحافظ، ولن يكون أميناً حتى في نقل ألفاظ الوحي فضلاً عن علومه اللامتناهية، فإن من لم يحط بعلم شيء فإنه يمكن أن يموّه عليه وقد تخونه ذاكرته فلا يعتمد عليه، لاسيما بعد سعيهم إلى منع تدوين الحديث ورواج سوق الكذابين وغيره من المؤثرات التي تسلب عن الوحي صفة الحجية الوحيانية.
ففي حالة عدم الإمام المعصوم لا يكون الكتاب والسُنة إلّا بقدر العقل البشري، وهو رجوع عن الحاجة للوحي الذي يفوق عقل البشر، فبقاء الوحي بالبشر لا يفرق عن حالة عدم إرسال الرسول. وذلك للإشكال في المتلقي دون الملقي.
وفي الكتاب والسُنة أيضاً نقول: لو فرضنا أن الإمام الصادق (عليه السلام) الحي شأنه شأن سائر الناس والعلماء الذين يستفيدون علمهم بأدوات بشرية من الاستظهار والاعتماد على الرواة بعد استيضاح حالهم وغيرها، ولم يكن هناك رقيب وحياني حامل لروح القدس في حفظ الوحي، لكان مثل ما لو أوحي إلى شخص غير واجد لروح القدس ليتنزل الوحي إلى قدر سعة طاقته ويضيق بضيق فهمه ووعيه.
قال الله تعالى ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ (الحاقة: ١٢) فليس كل أذن تعي الوحي، ولو لم يكن المتلقي أو الحافظ للوحي بمستوى الوحي للزم أن لا تكون حجية الوحي إلّا حجية بشريّة ولا يمكن الاعتماد عليه لرفع الاختلاف فيما لا سبيل للعقل البشري إليه، أي فيما كانت الحاجة فيه إلى وجود الرسول.
من هنا جاء الإصرار على بيان المقامات الغيبية لأئمة الدين في الأحاديث والأخبار، إذ لو اقتصرنا على البحث الكلامي ولم نركز على الجهة القدسية وروح القدس في الإمام فإن ذلك يلازم محو الدين وبطلانه، إذ الحافظ للوحي لابد وأن يكون حاملاً لروح القدس كحامل الوحي حرفاً بحرف.
2- برهان التأويل:
إن القرآن الكريم مشتمل على التأويل وهو غير التنزيل والوحي الإلهي مشتمل عليهما معاً، والتأويل لا نفاد له والصحابة والرواة لو كانوا في أعلى درجات الصدق والوثاقة والتقوى إنما يحفظون التنزيل، فلو لم يكن إمامٌ حاملٌ لعلم التأويل لبطل الوحي وهو بطلان للرسالة.
3- برهان الصدق:
السفير المبعوث للسفارة لا يعتمد عليه إن لم يكن مستواه العلمي بقدر مستوى الجهة التي يمثّلها، فلو احتجنا لمعلم معهد علمي رفيع المستوى، فأوكلنا هذه المهمّة لرجل ليس بمستوى علم ذلك المعهد ولم يتتلمذ لديهم، بل كان مجرد سامع للألفاظ وحافظ لها ثم نقلها لنا، فهو لا يغني لسد الحاجة، بل لا يعتمد عليه، ولا يكون صادقاً في نقله عن ذلك المعهد. بل يكون إسناد نقولاته لذلك المعهد افتراء يحاسب عليه.
وذلك لأن الصدق ليس فقط بصدق اللهجة، بل إن الخبروية لها دور كبير في ذلك، فقد يكون إنسان صادقاً في أخباره عن شيء بسيط لكنه ليس بصادق في أنبائه عن معلومة خطيرة ودقيقة.
فلا يكون الراوي - بمعنى حفظة الوحي - صادقاً إذا لم يكن علمه بمستوى علم من يروي عنه أو متاخماً له، فإن الصدق يكون بالأمانة والحفظ، وحفظ المعلومة العلمية الدقيقة ليس بوسع شخص عادي جاهل، بل يمكن القول بأنه ليس صادقاً حتى في نقل الألفاظ لعدم حفظه لها بعد الاعتراف بقصور علمه.
ومن هنا إذا ذهب شخص عامي وسمع من جامعة رفيعة المستوى في العلم فرجع ونسب إليها أقوالاً سمعها منهم فلن يُصدَّق، بل يُعدّ مفترياً عليهم حتى لو كان ثقة، إلّا أنه لا يعتمد عليه في نقل ما لا خبرة له في المعلومة. فلو كان بقاء الوحي والذكر والقرآن بحفظ البشر لها لبطلت حجية القرآن والوحي ولما صح إسناد هذه الألفاظ إلى الله تعالى.
تعريف الإمام بأنه مثل العلماء الأبرار هو قضاء على الدين كتفسير النبوة بذلك، فمثلاً لو قيل إن عالماً كبيراً أسّس معهداً علمياً ومركزاً للدراسات والناس محتاجون إليه، لكنه لم يخلف من يرث علمه بتمامه وكماله، فيكون موته موتاً للمعهد العلمي، وذلك أن العلم يموت بموت حامليه كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة.
الصحابة ليسوا بذاك المستوى، فهم ليسوا أمناء على الوحي ولا صادقين عنه، وليس ذلك لتعمد الكذب فقط، بل لعدم الإحاطة العلمية وأن ما يعلمون من الوحي لا شيء بالنسبة إلى الآفاق العظيمة من علوم الوحي وبيناته.
والدليل على قصور علم البشر عن مستوى الوحي هو استمرارية المداولة والبحث والتنقيب في علوم الوحي المختلفة كما في ساير العلوم، فهنالك تسالم وارتكاز على وجود مساحات من المعلومات القرآنية والوحيانية لازالت مستورة عن البشر وهم في طورهم لاكتشاف بعض أسرارها يوماً بعد يوم. وهذا إقرار بعدم إحاطة علوم جميع علماء البشر بالوحي وآفاقه الوسيعة، فلو جمع كل ما لدى العلماء من أولهم إلى آخرهم وضم بعضها إلى بعض لن يفي بجميع علوم الوحي، بل لازال الطريق للكشف وإزاحة الستار عن تلك العلوم بحاله، ومن هنا تجد الفاعلية والحيوية والنشاط في العلوم المختلفة سيما علوم الوحي، كما ورد في الحديث وصف القرآن أنه: «يجري كما يجرى الشمس والقمر»(6) فكل يوم له إشراقة جديدة وإطلالة متميزة.
فهذا الإصرار على مداولة العلوم المختلفة ومنه تفسير القرآن الكريم يعني أنه ما زالت توجد حقائق غير مكتشفة للبشر، فالبشرية بأجمعهم ليسوا بمستوى حفظ الوحي لقصور علمهم عن الوحي، فبعد هذا الاعتراف هل يمكن أن يكون البشر بأجمعهم هم الحافظون للوحي؟
أو يقال: إن الوحي المحمدي بقي بفضل العلماء والرواة والصحابة والتابعين فقط؟
أنّى لهم ذلك وهم على ضفاف بحر عميق من علوم الوحي العظيمة ولم يرتووا من ينابيع حكمه إلّا النزر اليسير، فكيف يكون غير المحيط بشيء أميناً عليه وحافظاً له؟
وهذا كله برهان على أن صاحب الوحي شخص آخر وهو الحافظ له، ومن دون هذا الشخص ودون رعايته وهيمنته يكون الدين أمراً بشرياً عادياً لا بمستوى الوحي الإلهي.
غياب الإمام (عليه السلام) لا يضر بفاعلية دوره في حفظ الحجج والبينات:
لو كانت هنالك شركة صانعة لأجهزة بماركة معروفة ومميزة، فوُجِد لتلك الشركة فرعٌ في بلد آخر، فلا يمكن إسناد إنتاج ذلك الفرع إلى تلك الشركة إلّا إذا كان تحت رعاية وإشراف ممثل تلك الشركة، ومن دون ذلك يعد إسناد انتاجه إليها افتراءً ولا تقبل الشركة ببقاء هذا التزوير.
وليس حضور وظهور ممثل الشركة أمام أعين العمال شرطاً في صحة النسبة، وإنما إشرافه وهيمنته ولو كان غائباً عن أعينهم.
ومنه نعرف أن نسبة القرآن الكريم إلى الله تعالى ونسبة الحديث إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) مع أن الأيدي العاملة لحفظها هم الرواة والصحابة من البشر لا يمكن إلّا إذا كان عملهم تحت إشراف وتدبير ممثل الدولة الإلهية ولو كان غائباً.
اقتضاءً لمهمة حفظ الشريعة من قبله (عليه السلام).
والوجود الغيبي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام بعد وفاتهما لا يفيد في حفظ وبقاء الذكر في عالم الشهادة، كما أن الوجود النوري والغيبي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ولادته لا يغني عن خلقه الترابي ووجوده الدنيوي.
كما أنه بعد وجوده الدنيوي في عالم الشهادة لا يضر غيابه عن أعين الرعية مادام لا يغيب عن دوره في الرعاية وحفظ الوحي، ولو فرضنا غياب دوره يوماً عن الساحة فلن تبقى أية حجية لسائر الحجج، كما لو غاب الراعي لتلك المؤسسة أو الشركة يوماً ما عن تصديه للرعاية، فمن ذاك الوقت تنقطع العلاقة بين الفرع والأصل ويكون إسناد إنتاجها لتلك الجهة افتراء.
ومن هنا وردت الأخبار أن الأرض لو خلت ساعة بغير حجة لساخت بأهلها، وذلك لأن بقاءها ساعة بغير حجة يكون لغواً.
ضرورة مذهب الإمامية أن منبع حجية الحجج هو الإمام الحي:
قامت ضرورة مذهب الإمامية على أن منبع الحجية ليس هو التراث الصامت كتاباً أو سُنة، بل الحجة هو الإمام الحي، وبوجوده تضفى صفة الحجية على القرآن الكريم والسُنة الصامتين، والبعض حينما غفل عن هذه الحقيقة زعم أن الشيعة تشترك مع السُنة في الاعتماد على جهد البشر استقلالاً لحفظ وإبقاء الدين أو لبناء الدولة والحكم السياسي بفارق مائتي سنة، مع أن قوام مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ليس باستمرار تواجد المعصوم أكثر من مائتي سنة فإن ذلك وإن كان لا ينكر تأثيره في تثبيت وتبيين الدين، إلّا أن قوام المذهب بوجود الإمام الحي وتفعيل دوره الركني في مجال التشريع والحجية أو مجال الحكم والسياسة، فيكون الاستناد إليه أولاً وبالذات ثم بالرواة أو العلماء والفقهاء.
إن جعل الإجماع في مذهب الإمامية حجة في عرض حجية القرآن الكريم والسُنة أثار استغراب البعض وهو في غير محله، وذلك أن الإجماع قد يكون حجة مهيمنة على الكتاب والسُنة وهو الإجماع اللطفي بتقريب: أن الغرض من بقاء الخلق لما كان هو التكامل بالعبادة فلابد من بقاء الحجج والبينات والقرآن والسُنة، ولو حدث فيه تحريف أو انحراف كلي، لَتصرَّفَ الإمام وَمَنَع من ذلك، لأنه الحافظ لحجج الله تعالى والأمين على وحي الله تعالى، فبوجود الإمام يحصل اطمئنان ببقاء الحجج والبينات. فإن ثقتنا بالقرآن الصامت والإمام الصامت وهو التراث الباقي بجهد العلماء إنما هو لوجود الإمام الحي ورعايته، فهو الأمين على الوحي وعلى حفظه وإن كنا لا نشاهده، كما أن غياب ممثل الشركة أو الجامعة عن أعين الأيدي العاملة لا يضر بإسناد الحجية إليه دون الأيدي العاملة.
إن هذه الضرورة راجعة من أنّه تعالى ليس بمنعزل عن سلطانه، ليُنتج البشر إنتاجاً دون تقرير وتأييد حجة الله تعالى ثم لا يحرك ساكناً، فإن الإسناد إلى جهة علمية عالية المستوى دون الأذن منه افتراء وبقاءه ساكتاً يدل على عجزه وضعفه، والله تعالى منزه عن ذلك. مضافاً إلى أنه ينتفي الغرض من الخلق، لعدم بقاء الوحي فتنخسف، كما ورد في الأخبار:
«لو خلت الأرض بغير حجة طرفة عين لساخت بأهلها»(7).
نعم رعاية الإمام لحفظ الدين له مراتب، ففي عصر الغيبة إنما يحفظ السقف الأدنى وهو المسار العام للدين، دون التفاصيل والجزئيات فإن ذلك يكون في عصر الظهور.
كيف يتصرف الإمام (عليه السلام) وهو غائب؟
من الغفلة أن نقصر دور الإمام في التصرف العلني الظاهر، فإن مركز القدرة أمر خفي على البشر.
إن خليفة الله تعالى يعلم بمراكز القدرة وأنه بتغيير لبنة واحدة سوف يحدث تغيير كبير في موازنات القدرة.
والمثال الواضح لذاك: الخضر (عليه السلام)، حيث منع الظالم من أخذ سفينة المساكين، والملك زعم أنه هو الذي اختار أن لا يأخذ السفينة ولا يدري أنه عجز أمام قدرة الخضر (عليه السلام)، فالذي يتحكم هو الخضر (عليه السلام) وليس الملك، وكذلك في قتل الغلام الذي حال دون نمو الطغاة وحصول البيئة الفاسدة وعوضه الله تعالى بجارية وُلِد منها عدد كبير من الأنبياء، فضخّ هذا الكم من الأنبياء والحيلولة دون ضخّ هذا الطاغي أمر لا يأتي في حسبان من يدّعي أن بيده مركز القدرة. واليتيمان لم يدريا يوماً أن الخضر (عليه السلام) هو الذي هداهم لكنز أبيهم وزعموا أن ذلك بقدرة نفسيهما، بينما مركز التحكم بيد الخضر (عليه السلام).
كلام السيد المرتضى:
السيد المرتضى ادعى إجماع الطائفة والمذهب على أن حجية التراث الحديثي الواصل إلينا إنما هو لأجل وجود الإمام الحي الحافظ، فالحجة هو الإمام الحي وبحجيته تتم حجية الأحاديث.
قال:
(أنّ الفرقة المحقّة القائلة بوجود إمام حافظ للشريعة هي عارفة بما نقل من الشريعة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)...، من أجل كون الإمام من ورائها).
وقال أيضاً:
(... فقد بيّنا أنّ الحافظ ليس يخلو من أن يكون الأمّة أو الإمام، وأبطلنا أن تكون الأمّة هي الحافظة فلابدّ من ثبوت الحفظ للإمام وإلّا وجب أن تكون الشريعة مهملة).
بل عند السيد المرتضى لا يعول إلى النقل المتواتر لبقاء وحيانية الدين إلّا إذا كان تحت رعاية مباشرة من الإمام، قال (رحمه الله):
(فأمّا إلزامك تجويز حفظها بالتواتر على حدّ ما كانت تصل الأخبار في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى من غاب عنه فقد رضينا بذلك، وقنعنا بأن نوجب في وصول الشريعة إلينا بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ما نوجبه في وصوله إلى من غاب عنه حال حياته، لأنا نعلم أنّها كانت تصل إلى من بعد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بنقل وهو (عليه السلام) من ورائه، وقائم بمراعاته، وتلافي ما ثلم فيه من غلط وزلل، وترك الواجب، فيجب أن يكون من وراء ما ينقل إلينا بعد وفاته من شريعته معصوم يتلافى ما يجري في الشريعة من زلل وترك الواجب كما كان ذلك في‏ حياته وإلّا فقد اختلف الحال، وبطل حملك أحدهما على الأخرى.
فأمّا قولك: (لزمهم إثبات حجّة وهو (عليه السلام) حيّ) فعجيب، وأي حجّة هو أكبر من النبي المعصوم المؤيّد بالملائكة والوحي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!.
وكيف تظنّ أنّا إذا أوجبنا أن يكون وراء المتواترين حجّة أن لا نكتفي بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو سيّد الحجج في ذلك).
ثم قال:
(فأمّا هذه الطريقة التي حكيتها آنفاً فترتيب الاستدلال بها على خلاف ما رتبته وهو أن يقال: قد علمنا أن شريعة نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤبدة غير منسوخة، ومستمرة غير منقطعة، فإنّ التعبّد لازم للمكلّفين إلى أوان قيام الساعة، ولابدّ لها من حافظ، لأنّ تركها بغير حافظ إهمال لأمرها، وتكليف لمن تعبّد بها ما لا يطاق، وليس يخلو أن يكون الحافظ معصوماً أو غير معصوم، فإن لم يكن معصوماً لم يؤمن من تغييره وتبديله، وفي جواز ذلك عليه -وهو الحافظ لها- رجوع إلى أنّها غير محفوظة في الحقيقة، لأنّه لا فرق بين أن تحفظ بمن جائز عليه التغيير والتبديل والزلل والخطأ وبين أن لا تحفظ جملة إذا كان ما يؤدي إليه القول بتجويز ترك حفظها يؤدي إليه حفظها بمن ليس بمعصوم، وإذا ثبت أنّ الحافظ لابدّ أن يكون معصوماً استحال أن تكون محفوظة بالأمّة وهي غير معصومة، والخطأ جائز على آحادها وجماعتها، وإذا بطل أن يكون الحافظ هو الأمّة فلابدّ من إمام معصوم حافظ لها.
وهذا على خلاف ما ظنّه صاحب الكتاب لأنّ من أحسن الظنّ بأصحابنا لا يجوز أن يتوهم عليهم الاستدلال بهذه الطريقة مع تصريحهم في إثباتها بما يوجب الاختصاص بشريعتنا هذه على وجوب الإمامة في كلّ عصر وأوان، وقبل ورود الشرع).
وكرر (رحمه الله) أن بقاء القرآن والدين ليس بالتواتر ولا نقل الرواة إلّا بعد كون الإمام من ورائه إلى أن قال في نهاية المطاف:
(فقد بيّنا إنّا قد عرفنا أكثر الشريعة ببيان من تقدّم من آبائه (عليهم السلام)، غير أنّه لا نقضي الغنى في الشريعة من الوجه الذي تردد في كلامنا مراراً)(8).
تعريف الإمام (عليه السلام) بصاحب مقام الشهادة على الأعمال وكونه الراعي والولي:
ومن جملة تعاريف مقام الإمامة تعريفه بمقام شهادته على أعمال العباد، وهذا ما دل عليه القرآن في آيات عديدة والروايات الكثيرة، ولها مداليل مهمة في معرفة مقام الإمام. فرغم أن الله تعالى هو الشهيد الرقيب إلّا أنه لا يحسم أمر الناس يوم القيامة إلّا بعد حضور الشهداء والإدْلاء بشهادتهم.
إنها تدل على وجود فئة مختارة ومصطفاة ليسوا برتبة المؤمنين بل لهم مقام الهيمنة والإشراف على الناس في حين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مشرف ومهيمن عليهم، فهم الحلقة المتوسطة بين الرسول وبين عموم الناس، وهذه المرتبة تبقى ثابتة إلى يوم القيامة في مقام الإدْلاء بالشهادة والحساب، فحتى يوم القيامة لن يقفوا في الموقف مع ساير الناس بل في مقام الشهداء، ولعظمة دورهم يوم القيامة سمّى الله تعالى ذلك اليوم بيوم يقوم الأشهاد.
فهرس الآيات الدالة على مقام الشهادة على الأعمال:
1- البراءة ١٠٥: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ﴾.
2- النحل ٨٩: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ﴾.
أي إن مقام الشهداء متوسطة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين عموم الناس.
3- البقرة ١٤٣: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.
فإن يوم القيامة يوم القسط والفصل ولا يمكن أن تُقبل شهادة الفاسق أو غير الخبير والعالم بتفاصيل أعمال العباد ونواياهم وسيرتهم، فهل تظن أن الله تعالى يفصل يوم القيامة بشهادة شاهد قد يصيب وقد يخطئ؟ كلا إنه الحكم العادل، وليس هنالك مجال للأحكام الظاهرية كما في الدنيا، من هنا جعل الشهداء أمة وسطاً أي معصومين عن الزلل والخطأ ليكونوا شهداء على الناس.
4- الحج ٧٨: ﴿وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ﴾.
فدل على أنّ الشهداء إنما هم ثلة مختارة ومجتباة من ذرية إبراهيم (عليه السلام).
5- الرعد ٤٣: ﴿قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ﴾.
6- آل عمران ١٤٠: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ﴾.
7- المطففين ١٨-٢١: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ * كِتابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ﴾.
8- الواقعة 7-١١: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ المَيْمَنَةِ * وَأَصْحابُ المَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ المَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾.
9- النساء ٤١: ﴿فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً﴾.
10- الأعراف ٤٦: ﴿وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ﴾.
وهنالك باب عقده المرحوم الكليني في أصول الكافي أسماه (باب أن الأئمة شهداء الله على خلقه).
الإمام هو الشاهد على الأعمال سواء في غيبته أو حضوره:
ومقام الشهادة على الأعمال لا يختص بزمن الظهور بل هو يقتضي دوام الرعاية والعناية الأبوية من الإمام لآحاد الناس سيما المؤمنين، وذلك أن الله تعالى ستار ولا يطلع غير الولي المتصدي للرعاية الفعلية والتدبير الفعلي على تفاصيل أعمال العباد.
دور الإمام في الهداية الإيصالية متوقف على شهادته للأعمال:
من فوارق النبوة عن الإمامة أن الأول للهداية الإرائية والثاني للهداية الإيصالية وليس المراد منها الجبر على الهداية، بل مرافقة الإنسان في سلوكه إلى الله تعالى ليرفع العوائق ويعينه من حيث يشعر أو لا يشعر ليصل إلى المقصود. مثلاً الخضر (عليه السلام) حيث منع من حدوث الفقر والمجاعة لأرباب السفينة ومنع من ترعرع ذلك الطاغي الذي يستضعف الناس، وأوصل لليتيمين كنز أبيهما وفيها الحكمة، فهو قد رافق الطوائف الثلاث في سلوكهم فأوصلهم للغاية برفع العوائق عن المسير والعون والتسهيل والمدد وهذه هي مفاهيم الهداية الإيصالية.
وهذا النمط من الهداية لا يتيسر إلّا إذا كان الإمام شاهداً لأعمال الأمة ليهديهم وليوصلهم، ترى هل يمكن أن يكون الغائب عن أحوال السالك موصلاً له إلى المقصود؟
فمقام الشهادة مرتبطة بالهداية الإيصالية وهي من مقومات الإمامة.
ما أشهد الله تعالى الإمام على الأعمال إلّا لأجل كونه راعياً وولياً:
إن الله تعالى ستار العيوب ولا يفضح عباده، ويستر القبيح ويظهر الجميل، فكيف يطلع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) على أعمال العباد؟
والجواب: أن ولي الأمر ومن يتصدّى للتربية والرعاية لابد وأن يكون مطّلعاً على أعمال من يُولّى عليه، وإلّا كيف يقوم بالرعاية والتربية. فاطلاع الوالد على تفاصيل أعمال ولده الصغير أو المراهق من ملزومات الرعاية الأبوية والولاية التربوية، بل لو لم يطلع عليه يُعد مهمِلاً ويعاتب عليه. نعم يقبح اطلاع غير الولي والمربي على جميع تفاصيل الأعمال، ومن هنا يستر الله تعالى أعمال عباده عن ملائكته، بل يجدد كل يوم ملائكة الرقيب والعتيد كيلا ينفضح عبده عند الملائكة، لكن الولي لابد وأن يشهد لأنه المتصدّي للرعاية والتربية. وإنما أراد الله تعالى خيرهم وصلاحهم فأرسل رسوله لمقام الولاية على النفوس ورعايتها نحو التكامل فجعله شاهداً عليهم.
«إنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم»:
ورد في توقيع الإمام المهدي (عليه السلام) للشيخ المفيد:
«فإنا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنا شيء من أخباركم ومَعْرفَتِنا بالذُّلِّ الَّذي أصابَكُمْ مُذْ جَنَحَ كَثيرٌ منكُمْ إلى ما كانَ السَّلَفُ الصَّالحُ عنهُ شاسِعاً، ونَبذُوا العهدَ المأخُوذَ ورَاءَ ظُهُورِهِم كأنَّهُمْ لا يَعلمُونَ.
إنَّا غيرُ مُهمِلينَ لمُراعاتكُمْ، ولا ناسينَ لِذِكرِكُمْ، ولَولا ذلك لَنَزَلَ بكُمُ الَّلأوَاءُ واصطَلَمَكُمُ الأعدَاءُ»(9).
اللأواء: الشدة وضيق المعيشة.
اصطلمه: استأصله.
فأثبت أولاً لنفسه (عجّل الله فرجه) مقام الشهادة على الأعمال: «إنا نحيط علماً بأنبائكم ولا يغيب عنا شيئاً من أخباركم» ثم رتّب على هذا العلم والاطلاع مقام ولايته ورعايته «إنّا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم» ثم أخبر عن أنه لولا هذه الرعاية لحدث ما حدث.
كالشمس إذا سترها السحاب:
في توقيع لصاحب الزمان (عجّل الله فرجه) خرج على يد السفير الثاني محمد بن العثمان العمري:
«وَأمَّا وَجْهُ الانْتِفَاع بِي فِي غَيْبَتِي فَكَالانْتِفَاع بِالشَّمْس إِذَا غَيَّبَتْهَا عَن الأبْصَار السَّحَابُ، وَإِنّي لأمَانٌ لأهْل الأرْض كَمَا أنَّ النُّجُومَ أمَانٌ لأهْل السَّمَاءِ، فَأغْلِقُوا أبْوَابَ السُّؤَال عَمَّا لاَ يَعْنِيكُمْ وَلاَ تَتَكَلَّفُوا عِلْمَ مَا قَدْ كُفِيتُمْ وَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ بِتَعْجِيل الْفَرَج، فَإنَّ ذَلِكَ فَرَجُكُمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ يَا إِسْحَاقَ بْنَ يَعْقُوبَ وَعَلى‏ مَن اتَّبَعَ الْهُدى»(10).
وهذا ما تكرر صدوره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) لبيان دور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في غيبته، وهو تمثيل وحياني فيه مداليل عظيمة. فإن الإنسان في سلوكه لطريق معين لا يكفي أن تكون عنده الخريطة ولا يكفي كونه عالماً بالطريق، بل يحتاج لإشراق نور الشمس في كل آن ولحظة ليتمكن من السير وفق المخطط ولا يشتبه عليه الأمر. فعدم نور الشمس يجعل الخريطة لا يستفاد منها ولا حجية فيها، ففاعلية دورها تكون بالشمس وضيائها، ولا يشترط ظهور قرصها في السماء، بل حتى ولو كان وراء السحاب إلّا أن نورها الواصل إلينا هو الذي يُفعّل أدوار الحجج وينشّط الحياة.
إنّ ما أتى به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يتمثل في إعطاء الخريطة للسلوك نحو الصراط المستقيم وهذا هو دور الهداية الإرائية، لكنه لا يُكتفى بها من دون الهداية الإيصالية التي ترافق الإنسان في كل خطوة خطوة وتنير له الدرب ليتمكن من التطبيق والعمل بالوحي والدستور الإلهي وليهتدي إلى الصراط المستقيم.
وهذا الدور إنما يفعله الإمام الغائب، وغيبته لا تعطل دوره في حفظ الحجج وإبقائها والهداية الإيصالية والرقابة. ولا يمكن الاستغناء عنه بوجود الأئمة الماضين (عليهم السلام) ولا بوجود سيد الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن كل يوم نحتاج لإشراقة الشمس، فهل يا ترى يستغنى عن طلوع الشمس اليوم بطلعتها يوم أمس؟
وهل يستغنى اليوم عن الإمام الحي بوجوده في يوم أمس؟
كلا، بل كل يوم وكل ساعة نحتاج لإشراقه وإطلاله وهيمنته وقيادته، وهذا هو مؤدى قوله تعالى: ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ (الرعد: ٧) فلم يكتفِ بوجود الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الهداية، إلّا وضمَّ إليه وجود الهادي الرباني لكل قوم وفي كل زمان. وتدل الآية الكريمة على أنه بفقد الهادي يبطل سبيل الهداية وتبطل حجج الله تعالى وبيناته كما صرح بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لكميل:
«إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ- لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً... كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ اللَّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولَئِكَ؟ أُولَئِكَ وَاللهِ الْأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ قَدْراً، يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ»(11).

الهوامش:
(1) القاضي الايجي - شرح المواقف، ج‏8، ص345؛ التفتازاني - شرح المقاصد: ج‏5، ص233.
(2) الكافي للشيخ الكليني: ج١، ص١٧٧.
(3) نهج البلاغة: حكمة ١٤٧.
(4) التوحيد للشيخ الصدوق: ٣٠٧.
(5) الوسائل: باب26، ح22215.
(6) الغيبة للنعماني: ج١، ص١١؛ تفسير العياشي: ج١، ص١٩٦.
(7) كمال الدين وتمام النعمة: ج١، ص٢٠٤.
(8) الشافي في الإمامة: ج‏1، ص١٧٩ – ١٨١.
(9) الاحتجاج للطبرسي: ج٢، ص٣٢٣.
(10) كمال الدين وتمام النعمة: ج١، ص٤٨٥.
(11) نهج البلاغة: حكمة ١٤٧.

العدد ٧ / جمادي الآخر / ١٤٤٠ هـ : ٢٠١٩/٠٢/٠٦ : ٤.٠ K : ٠
: الشيخ حسن الكاشاني
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

محتويات العدد: