أثر غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) الكبرى في تكامل المجتمع المسلم
أثر غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) الكبرى في تكامل المجتمع المسلم
أ. علاء إبراهيم رزوقي
المبحث الأول: الغاية الإلهية من خلق البشرية
خلق الله تبارك وتعالى الخلق متفضلاً، ولم يخلقهم عبثاً ولم يتركهم هملاً. بل خلقهم وهو غني عنهم، لأجل حصولهم على مصالحهم الكبرى ووصولهم إلى كمالهم المنشود، المتمثل بإخلاص العبادة لله تعالى. قال (عزّ وجل): ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56).
إن الآية واضحة في أن الغاية الأساسية والغرض الأصلي من إيجاد البشرية هي العبادة والوصول إلى الكمال وهو الهدف الوحيد المنحصر الذي لا شيء وراءه من خلقة البشرية، المعبر عنهم بالإنس. وهذا الهدف ملحوظ ومخطط بشكل خاص منذ بدء الخليقة، ويبقى -بطبيعة الحال- مواكباً لها ما دامت البشرية في الوجود، ومن هنا نجد أن الله تعالى لم يخلق البشرية لأجل مصلحته، فإنه غني عن العالمين، وإنما خلقهم لأجل مصلحتهم وأي مصلحة يريدها الله لعباده غير كمالهم ورشدهم وصلاحهم الناتج عن عبادتهم المخلصة والتوجه إليه بالخيرات نحوه جل جلاله.
أننا نجد بالوجدان القطعي أن هذا الغرض الإلهي المهم الذي نطقت به الآية بالمعنى الذي فهمناه، لم يحدث في تاريخ البشرية على الإطلاق منذ وجودها إلى العصر الحاضر وذلك لأن تسليم الإنسان وإيمانه بالغرض الإلهي لا يتأتى إلّا بعدة مقدمات هي:
الأولى: إدراك العقل لأهمية طاعة الله تعالى والخضوع له والانصياع إلى أوامره ونواهيه، باعتباره مستحقاً للعبادة مع غض النظر عن أي اعتبار آخر.
الثانية: العامل الأخروي المتمثل بالطمع بالثواب الذي رصده الله تعالى للمطيعين، والخوف من العقاب الذي توعد به العاصين والمذنبين.
الثالثة: الشعور بأهمية طاعة الله تعالى، باعتبارها الضمان الحقيقي للعدل المطلق، على المستويين الفردي والاجتماعي، أو بتعبير آخر: تربية الإخلاص الذاتي لطاعة الله تعالى باعتبار المعرفة الواضحة بضمانها للعدل المطلق.
دور الأنبياء (عليهم السلام) في تحقيق الغرض الإلهي:
إن البشرية في مبدأ أمرها لا تعرف ما هو العدل الكامل، ولا هي مخلصة له أو مستعدة للتضحية في سبيل تطبيقه لو عرفته.
فكان لابد لها -كجزء من التخطيط- أن تمر بتربية طويلة الأمد فكان أن تكفل الأنبياء (عليهم السلام) هذه المهمة، وهي تربية البشرية لتكون صالحة لفهم العدل الكامل. فكان كل نبي يشارك مشاركة جزئية قليلة أو كثيرة في ذلك، سواء علم الناس، بذلك في عصره أو جهلوه. لأن المهم هو تربيتهم الفكرية، وليس المهم الفاتهم بوضوح إلى هذا التخطيط.
وهذه التربية قد انتهت بجعل البشرية قابلة لفهم دولة العدل الإلهي الكاملة، فأرسل الله تعالى إليها دولة العدل الإلهي متمثلة بالإسلام. ولم تستطع البشرية إلى حد الآن أن توفر الشرط الثاني وهو استعدادها للتضحية في سبيل تطبيق العدل، وهي على أي حال في طريق التربية على ذلك.
دور الرسول الأكرم ݕ وأهل بيته (عليهم السلام) في التخطيط الإلهي:
شارك الأنبياء السابقون (عليهم السلام) في التبشير بدولة العدل الإلهي، واستمر عليه نبي الإسلام ݕ وخلفاؤه المعصومون (عليهم السلام).
فكان أن اضطلع النبي ݕ ومن بعده من المعصومين (عليهم السلام) بتهيئة الذهنية العامة للأجيال، عن ذلك بالتركيز على ثلاثة محاور وهي:
الأول: الإخبار بوجود الغرض الإلهي الكبير، والتبشير بتحقق اليوم الموعود الذي يأخذ فيه العدل الكامل طريقه إلى التطبيق.
الثاني: التأكيد على أن القائد الرائد لإنجاز ذلك الغرض الكبير، هو الإمام المهدي (عليه السلام) كما ورد في النصوص المتواترة عن النبي ݕ والأئمة (عليهم السلام) وهي أخبار مروية ومعترف بتواترها من قبل الفريقين.
الثالث: الإخبار بما سيقع في هذا العالم من ظلم وفساد، كما وردت بذلك جملة من الأخبار.
دور الأئمة (عليهم السلام) في التمهيد لدولة المهدي (عليه السلام):
عندما نتأمل في حياة الأئمة (عليهم السلام) ومواقفهم نعرف أن لكل منهم موقفاً ينصب في الغاية القصوى التي من أجلها بعث الرسل (عليهم السلام) وشرع الدين، فنشاهد أن أدوار أئمتنا (عليهم السلام) مختلفة فكل كان يهيئ الأرضية من جانب خاص وهذا لا يعني أن الزمان والوضع لم يكن لهما أي دور في تلك المواقف بل كان للظروف دور ولكنه هامشي لا يغير في الاستراتيجية بل له تأثير في الخطة والتكتيك.
فمثلاً الإمام الحسين (عليه السلام) كان بصدد إيجاد روحية أخذ الثأر الذي هو شعار المهدي (عجّل الله فرجه) وهو جانب روحي له دور رئيسي في قيام المهدي (عجّل الله فرجه) حيث أن شعاره هو يا لثارات الحسين وخروجه يوم عاشوراء وعدوه السفياني الذي هو امتداد يزيد بن معاوية.
كما أن الإمام الرضا (عليه السلام) بهجرته التاريخية تمكن من إيجاد المدرسة الخراسانية التي لها الأثر الكبير في تعزيز جيش الإمام المهدي (عليه السلام)، فغريب خراسان (عليه السلام) بهجرته المؤلمة وتحمله الصعوبات والضغوط الروحية والجسمية كان بصدد خلق أرضية عملية لتلك الدولة المباركة التي يتحدث عنها وهو في نيسابور كما في الحديث عن الهروي قال: سمعت دعبل ابن علي الخزاعي يقول: أنشدت مولاي علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قصيدتي التي أولها:
مدارس آيات خلت من تلاوة |
|
ومنزل وحي مقفر العرصات |
فلما انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة خارج يميز فينا كل حق وباطل |
|
يقوم على اسم الله والبركات ويجزي على النعماء والنقمات |
بكى الرضا (عليه السلام) بكاءً شديداً، ثم رفع رأسه إليَّ فقال لي: «يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدرى من هذا الإمام ومتى يقوم»؟ فقلت لا يا مولاي إلّا أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً، فقال: «يا دعبل، الإمام بعدي محمد ابني، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، ولو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً»(1).
وهكذا بالنسبة إلى سائر الأئمة (عليهم السلام)، كل له موقف ينصبُّ في الغاية القصوى التي من أجلها بعث الرسل وشرع الدين وذلك لا يتحقق إلّا بظهور الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه).
المهدي (عليه السلام) يهيئ ذهنية الأمة لليوم الموعود:
لقد كان للإمام المهدي (عليه السلام) نفسه دور في تهيئة الذهنية العامة للأمة لليوم الموعود، تلك التهيئة التي توفر له شروطه الأساسية. وذلك باتخاذه خطوات ثلاث:
الخطوة الأولى: إقامة الحجة على وجوده بتكرار المقابلات مع عدد من الناس كبير نسبياً وبذلك يؤسس للمسلمين أساس الصمود ضد واجهة كبرى للشك في وجوده.
الخطوة الثانية: إعطاء الفكرة التامة لدولة العدل الإلهي من غيبته وظهوره(2).
الخطوة الثالثة: العمل على إزالة الظلم والطغيان، وحسب ما تقتضيه الحاجة من وجوده على مر التاريخ.
فالإمام المهدي (عليه السلام) في كل هذه الخطوات، يسير في خط التخطيط الإلهي العام لليوم الموعود، كما سار على ذلك الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
التمحيص الضخم:
إن الإنسان المسلم محتاج في استمراره على إخلاصه وإيمانه، إلى قوة الإرادة وشعور بالمسؤولية الإسلامية، أعلى من المستوى المطلوب. وكان الأشخاص الممثلون لهذا الإخلاص، قد نجحوا في عملية التمحيص والاختبار الإلهية، بهذا المقدار.
إلّا أن هذا المقدار غير كافٍ في إيجاد الإخلاص الذي يتطلبه القيام بمسؤولية اليوم الموعود، فكان لابد أن تمر الأمة بتمحيص ضخم وعملية غربلة حقيقية، حتى ينكشف كل فرد على حقيقته، فيفشل في هذا التمحيص كل شخص قابل للانحراف، لأجل أي نقص في إيمانه أو عقيدته أو إخلاصه.
المبحث الثاني: الإعداد الروحي لاستقبال دولة الامام المهدي (عليه السلام)
إن للتربية الروحية علاقة صميمة وارتباطاً وثيقاً بـ(استقامة المسيرة) على خط الإسلام فكرياً وعملياً لأنها تجعل المؤمن في علاقة محكمة مع الله يعبده ولا يعبد سواه، ويرجوه ولا يرجو غيره، ويخافه ولا يخاف غيره ويعمل له لا لغيره، يتأثر بوحيه، ورسالته، ويقطع صلة (التأثر) بالناس، ويقيم معهم بدل ذلك صلة (التأثير) والتوجيه.. لأن الانفصال عن الناس وحضارتهم.. وعن أهواء النفس وشهواتها لا يتم إلّا من خلال عمل تربوي جاد يبني الإنسان فيه نفسه مع الله تعالى ويقطعها به عما سواه.. وبكلمة يقطع قلبه وشعوره وكيانه عن كل شيء عدا الله تعالى وما أمر الله تعالى به (أن يوصل) بهذا وحده يمكن أن تستقيم مسيرة المؤمن وتثبت على خط الإسلام ويكون مستعداً لاستقبال دولة الإمام المهدي (عليه السلام) ويكون عضواً فعالاً فيها.
تكمن أهمية التربية الروحية في عصر الغيبة في عدة أمور هي:
1- الأثر الكبير في الحفاظ على الدين والثبات عليه والدفاع عنه في الأيام الصعبة، وامتصاص المحن والآلام التي يمر بها الإنسان المسلم في زمن الغيبة.
2- الوعي الإيماني بدولة العدل الإلهي وتعني -هنا- المدركات الذهنية التي تتمتع بالاستحضار المستمر، والمعايشة الدائمة لذكر الإمام (عجّل الله فرجه) من قبل الإنسان المؤمن وإحساسه بوجوده معه ويرى سلوكياته.
3- الوجدان الإسلامي ويشمل العواطف كحب الإمام (عليه السلام)، والخوف عليه، والرجاء من الله تعالى بتعجيل ظهوره، والغضب له.
4- تقوية الإرادة، والإخلاص، أو الدافع الديني في شخصية الإنسان المسلم، الذي ينظم حركة هذه الشخصية وتصرفاتها، ويعتبر الجهاز الحاكم فيها في زمن الغيبة.
5- توحيد المنطلق النفسي للمؤمنين في العمل (الدافع والهدف) في حب الرسالة وتطبيقها، والحرص على المصلحة الدينية وإعلائها وتفضيلها على الرغبات الشخصية والأهداف الذاتية التي تختلف عادة من شخص إلى آخر نتيجة (اختلاف الآراء، والمصالح الشخصية التي تغلب على المصلحة العامة عند بعض الناس، واختلاف المذاقات والمشاعر... إلخ).
الأهداف التربوية لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام):
إن قضية الإمام المهدي (عليه السلام) كقضية الإمام الحسين (عليه السلام) لها أبعاد كثيرة في بناء المجتمع المسلم عقائدياً وتربوياً وأخلاقياً وثقافياً ومعنوياً. والحديث فيها واسع، حيث إنها تمثّل تفسيراً للتاريخ يتطابق مع النظرية القرآنية التي ترى وراثة الأرض للصالحين من عباد الله.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذكْرِ أنّ الأرْضَ يَرِثُها عباديَ الصّالِحُون﴾ (الأنبياء: 105).
إن قضية الإمام المهدي (عليه السلام) من وجهة نظر أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم تمثّل تجسيداً حيّاً للدولة العادلة وتكامل المجتمع المسلم فيها، ليس على مستوى المستقبل غير المنظور فحسب، بل على مستوى الحاضر المعاش الذي يجسّد هذا المستقبل من خلال وجوده الشريف وحياته الفعلية.
ويعطي هذا الاعتقاد وضوحاً في الرؤية للتاريخ الإنساني، وفهماً للسنن الإلهية في التاريخ التي تحدّث عنها القرآن الكريم.
والذي يعنينا هنا هو الإشارة إلى بعض الأهداف التربوية لغيبة الإمام (عليه السلام) والتي تساهم في تكامل المجتمع المسلم بالقدر الذي يساهم في فهم منهج الأئمة (عليهم السلام) في بناء هذا المجتمع من خلال قضية الإمام المهدي (عليه السلام) ونشير بصورة إجمالية إلى أهم هذه الأهداف وهي:
أولاً: الوضوح في التكليف:
الوضوح في الإحساس بالواجب الإلهي والتكليف الشرعي عند القيام بمختلف النشاطات الإسلامية والدينية، حيث يشعر الإنسان المؤمن بوجود بالإمام المهدي (عليه السلام) معه، وأنه يؤدّي أعماله وخدماته ويمارس جهاده وتضحياته تحت رايته الشريفة ورعايته الخاصة.
ويعطي هذا الشعور زخماً معنوياً كبيراً للتحرّك والعمل، يشبه الزخم المعنوي الذي كان يحصل عليه أولئك المجاهدون الذين كانوا يقاتلون تحت راية الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، إذ كلّما ازداد الشعور بالقرب من الرعاية الإلهية، كان شعور الإنسان بتحقيق النصر وأداء الواجب أكبر، ولا شكّ أنّ الإحساس برعاية الإمام المعصوم (عليه السلام) والانتساب إليه في الحركة والنشاط، يجعل الإنسان يشعر بالقرب من الله تعالى ورعايته وامتثال أوامره شعوراً أفضل.
ثانياً: امتحان الأمة:
إن إحدى الأهداف التربوية لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام) هي امتحان الناس ليظهروا على واقعهم فتنكشف الفئة التي استبطنت السوء وعدم الإيمان، وتبدو الفئة التي تمكن الإيمان من أعماق قلوبها بانتظارها للفرج وصبرها في الشدائد واعتقادها بالغيب.
يقول الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): «إذا فقد الخامس من ولد السابع من الأئمة فالله في أديانكم لا يزيلنكم عنها أحد، يا بني أنه لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به إنما هي محنة من الله امتحن الله بها خلقه»(3).
ثالثاً: الاحتفاظ بالقيم الربانية:
ومن الأهداف التربوية للغيبة الاحتفاظ بالمبادئ والقيم والمثل الربانية في المسيرة، والسعي الدائم إلى تحقيق الكمال في المجتمع المسلم بعيداً عن مفاهيم الربح والخسارة الدنيوية والكسب المادّي، أو الوصول إلى القدرة والتسلط والهيمنة.
رابعاً: اتخاذ الإمام (عليه السلام) قدوة:
الشعور بوجود الإمام المهدي (عليه السلام) وهو يمثّل القدوة الرائعة العظيمة في الصبر والثبات على المحن التي مر بها خلال عمره الطويل يعيش الإنسان المؤمن الآلام والمحن ويتعرّض لها في حياته، ويتحسس بها ويتفاعل معها بطبيعة الحال تأسياً بإمامه (عليه السلام)، فهو صابر ممتحن في ذات الله من أجل الأهداف العظيمة، وينتظر الفرصة للقيام بدوره العظيم. وكلّ ذلك يعطي زخماً عظيماً وروحاً معنوية عالية لمسيرة التكامل في المجتمع المسلم.
خامساً: المساهمة في العدل:
اعتقاد الإنسان المؤمن بأن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) معه ويشاهده بذلك ستكون كل أعماله ونشاطاته هي مساهمة للتمهيد لقيام حكومة العدل الإلهي المطلق، التي يحققها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
وبطبيعة الحال فإن هذا الإيمان يمنح الإنسان مستوى عالياً من الروح المعنوية في التعامل مع نشاطاته وأعماله وتضحياته، حيث يصبح الهدف كبيراً وعظيماً يغطّي كلّ النشاطات والأعمال والجهود والتضحيات مهما كانت كبيرة وصعبة، أو صغيرة ومحدودة.
سادساً: الأمل الكبير:
لا شكّ أن روح الأمل هي من أعظم المعنويات التي تمدّ الإنسان بالقدرة على الاستمرار في الحركة والثبات والصبر والتضحية. فالجندي الذي يشعر بأن مسيرته سوف يكملها جنود آخرون يحققون النصر والفتح من بعده، يكون على استعداد للتضحية والفداء أكثر بكثير من ذلك الجندي الذي يشعر أنه عندما يسقط تتوقف المسيرة وتكون المعركة خاسرة.
وكذلك الجندي الذي يخوض المعركة ويشعر أن معارك أخرى يمكن أن يخوضها بنفسه لتحقيق النصر، لا يتوقف عندما يخسر المعركة الأولى، بل يستمر في الحركة. وهذا لا يتوفر إلاّ في أولئك الذين يؤمنون بفكرة الإمام المهدي (عليه السلام) الذي يقود المعركة، وسوف يستمرّ في قيادتها حتى الوصول إلى نهايتها وهذا ما جعل الانتصار ملموساً في الحرب على داعش في العراق. وهذا مما يجعل الأمل حيّاً ومتوقّداً يدفع الإنسان إلى الحركة والنشاط في كلّ الظروف.
سابعاً: الانتقام للمظلومين:
وفكرة الانتقام والثأر -بالمعنى السليم لها والذي يعني الثأر للقيم والمبادئ والحق والعدل- هي فكرة صحيحة وإسلامية تحدّث عنها القرآن الكريم في أكثر من موضع مثل قوله تعالى: ﴿قاتِلُوهُم يُعَذّبْهُمُ اللهُ بأيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدورَ قَوْم مُؤمِنينَ﴾ (التوبة: 14).
كما تحدّثت النصوص عن ذلك عندما وصفت الإمام الحسين (عليه السلام) بأنه «ثار الله»(4)، وأن الإمام المهدي يثأر للحسين (عليه السلام)، ويكون أحد شعاراته هو «يا لثارات الحسين»(5)، وكذلك ما ورد في زيارته الشريفة من قوله: «واقرن ثأرنا بثأره»(6).
وهذا الإحساس والشعور يمثّل قوة معنوية كبيرة في داخل الإنسان لأن الله تعالى أودع في الإنسان هذا اللون من الإحساس، ولذلك ينزع إليه الإنسان بشكل طبيعي في حياته ويمثّل أحد الدوافع لمسيرته وحركته التكاملية.
وقد اهتمّ الإسلام بتوجيه هذا الدافع والإحساس، لكي لا ينحرف فيتحول إلى مجرّد تعبير عن الغريزة دون أن يصب في مسيرة الكمال، فوضع الثأر والانتقام والتشفّي في طريق القيم والمبادئ -لا لمجرّد التعبير عن الإحساس النفسي والنزعة الشهوية- شأنه في ذلك شأن بقية الأحاسيس والغرائز التي اهتم بها الإسلام عاملاً محركاً باتجاه الكمال.
ومن الواضح أن مسألة الثأر والانتقام في قضية الإمام المهدي (عليه السلام) ليست انتقاماً وثأراً لشخوصهم بما هم بل لما يعتقدون، فهي انتقام وثأر من الواقع الفاسد الذي كان يعيشه الإنسان، وذلك بتغييره وتحويله إلى واقع العدل والحق والخير.
ثامناً: انتظار الفَرج
وهذا الهدف هو الأهم وتركناه آخر الأهداف لأنه يحتوي على حيثيات فنقول:
لعلّ لقضيّة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وخصوصيّة الانتظار في الغيبة الصغرى والكبرى الأثر الكبير في الجانب التربوي والأخلاقي للمجتمع. وهذا الأثر مما لا نشاهده ولا نعرفه في بقيّة المذاهب والفرق الإسلاميّة، لا لأنّها لا تؤمن بفكرة الإمام المهدي (عليه السلام) بل لأنّ الاعتقاد بوجوده وحياته (عجّل الله فرجه) عند اتباع أهل البيت (عليهم السلام) بهذا المستوى وهذا الشكل ليس موجوداً لدى الفرق الأخرى.
وقد وردت مئات من الأحاديث التي تؤكِّد على أنَّ انتظار الفَرَج هو أفضل العبادة. وذلك لأنَّ ذكر الله تعالى في أعلى مستواه وأرفع درجاته هو ذكر تلك الدولة المباركة التِّي تتصف بجميع مواصفات جنَّة آدم (عليه السلام)، تلك الدولة التي سوف يعيش فيها الإنسان في جوار ربِّه وتحت ظل بارئه وفي ساحتها تتحقق رحمة الربّ التي أشار إليها سبحانه في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود: 119) فهي إذاً الغاية العمليَّة لأصل الخلق كما مرَّ وبدونها لا يتصف الخلق بالحكمة والتكامل أصلاً.
ومن هنا صار من اللازم أن نتحدَّث عن هذه العبادة أعني الانتظار بتفصيل أكبر وذلك لأهميَّتها من بين سائر العبادات وسوف نبيِّنها ضمن عناوين مختلفة فنقول:
أهميَّة انتظار الفرج في تكامل المسلم:
عندما نبحث في الأحاديث المختلفة الصادرة عن المعصومين (عليهم السلام) نستنتج أنَّ الأعمال كلَّها مع ما فيها من الأهميَّة والاعتبار فهي في قبال الانتظار قليلة المستوى حيث إنَّ الانتظار هو: (أفضل الأعمال)(7)، بل جميع الأعمال العبادية مع ما لها من القدسيَّة والروحانيَّة فهي ليست راجحة على الانتظار حيث إنَّه (أفضل عبادة الأمَّة) (8).
والجدير بالذكر أنَّ هذه العبادة أعني الانتظار قد دخلت في ساحة أهمّ العبادات وهو الجهاد في سبيل الله وصار (أفضل جهاد الأمة) كما ورد في حديث الرسول ݕ حيث قال: «أفضل جهاد أمتي انتظار الفرج»(9).
ومن زاوية أخرى فللانتظار أيضاً مستوى رفيع من الروحانيَّة حيث صار (أحبَ الأعمال إلى الله) قال أمير المؤمنين) (عليه السلام): «انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله فإن أحب الأعمال إلى الله (عزّ وجل) انتظار الفرج ما داوم عليه المؤمن»(10) حتَّى وصل المنتظر إلى مستوى الشهيد في سبيل الله «والمنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله»(11).
بل هناك أحاديث تؤكِّد على أنَّ (انتظار الفرج من الفرج) بل (انتظار الفرج من أعظم الفرج)(12). فعن محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) قال سألته عن شيء من الفرج فقال: «أليس انتظار الفرج من الفرج إن الله (عزّ وجل) يقول: ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ﴾»(13).
وهذا المعنى من الانتظار أعني انتظار الفرج قد اكتسب قسطاً من القدسية والاعتبار بحيث صار من علائم الإخلاص الحقيقي والتشيُّع الصادق ومن مميزات الدعاة إلى دين الله تعالى سراً وجهراً وقد ورد في الحديث «أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً..»(14).
الرجاء بالله تعالى:
إنَّ من أهم نتائج انتظار الفرج تنميةَ روحيةِ الرجاء بالله تعالى في الإنسان المؤمن حيث يُشاهد أمامَه مجالاً وسيعاً من الفضل والكرم والخير الإلهي الذي سوف تظهر مصداقيَّتُها في تلك الدولة العظيمة المباركة وهي دولة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ومن الطبيعي لمن يمتلك هذه الرؤية أن يحتقر العالم الذي يعيشه بما فيه من المُغريات الخلاّبة الدنيوية والتسويلات الشيطانية، وهذا الأمر (أعني تحقير المظاهر الدنيويَّة) هو أوَّل خطوة يخطوها السالك إلى الله تعالى.
هذه الروحية إن تركَّزت في الإنسان المؤمن سوف تُعمِّق جذورَها فتزيل جميعَ الأشواك والموانع الصادَّة، لتنشرَ فروعَها الطيِّبة وثمارَها الجنيَّة في السماء حتَّى تؤتى أُكلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها. فكيف لا يكون الانتظار أفضلَ الأعمال بل أفضل العبادات؟! وهو الذي يُخيِّم على جميع الأعمال ويُلقى الضوء عليها.
أفضل الجهاد:
ما هو الأمر المتوقع من المجاهد في سبيل الله تعالى حين الجهاد؟ وما قيمة المجاهد لولا النيّةُ الصادقة التي تنصبُّ في سبيل الله تعالى؟
هذا الأمر بنفسه بل أعلى مستوى منه متوفِّر في المنتظر الحقيقي الذي يتمنَّى في كلِّ صباحٍ ومساءٍ أن يعيش في ظلِّ ذلك المعشوق (عليه السلام) ولسان حاله: «فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي مجرداً قناتي ملبياً دعوةَ الداعي في الحاضرِ والبادي..»(15).
والحديث التالي قد بيَّن السر الذي رفع مستوى الانتظار إلى هذه الدرجة: فعن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي عن على بن الحسين (عليه السلام) قال: «تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله ݕ والأئمة بعده يا أبا خالد إنَّ أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزله المشاهدة وجعلهم في ذلك الزمان بمنزله المجاهدين بين يدي رسول الله ݕ بالسيف أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً»(16).
فالانتظار إذن له نتيجتان هما:
الأولى: أنَّه بالفعل يُحقِّق (كشف الكربة) بنحو مجمل.
الثانية: أنَّه عاملٌ جذري أساسي للفرج بظهوره (عليه السلام) حيث يسود الحكمُ الإلهي الأرضَ كلّها.
ووِزانُ الانتظار وزانُ النية التي هي خير من العمل حيث جاء عن الصادق (عليه السلام): «نية المؤمن خير من عمله»(17)، لأن هذه النية من ناحية هي التِّي ترفع مستوى الإنسان ومن ناحية أخرى تلازم العمل بل توجده ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾ (الإسراء: 84).
وليعلمْ أنَّ تعجيل الفرج يتناسب مع الانتظار شدَّةً وضعفاً. ومن هذا المنطلق نشاهد أن الآية الكريمة تصرح بقولها: ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214).
فقربُ نصر الله تعالى متناسبٌ مع طلب النصر ﴿مَتَى نَصْرُ اللهِ﴾ وهذا الطلب الأكيد لا يحصل إلاّ بعد اليأس قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ﴾ (يوسف: 110).
الانتظار وجانباه الإيجابي والسلبي:
إنَّ كلمة الانتظار تدُّل على حالتين كامنتين في روح المنتظر، فمع التأمَّل في هذه الكلمة نشاهد أنَّها تدلُّ على جانبين أساسيين لكل منهما دور مهمّ في معنى الكلمة وهذان الجانبان هما:
1- الجانب المطلوب والمحبوب للمنتظِر والمتوقَّع الوصول إليه وهو الخير والبركة وتمكين الدين على الأرض كلِّه فلو لم يتوقع حدوث حالة جديدة وإيجابية في المستقبل فلا مصداقية للانتظار ولا معنى له.
2- الجانب غير المطلوب وغير المحبوب الذي يتمثَّل في الحالة الفعلية التي يعيش فيها المنتظر تلك الحالة المُؤذية التي يأمل المنتظر أن يتخلَّص منها، فلو كان الوضع الفعلي هو الوضع المطلوب فلا معنى للانتظار إذن ولا مبرر له.
وبعبارة أوضح: هناك تناسب عكسي بين أمرين هما:
1- اليأس من الحالة الفعليَّة المعاشَة.
2- الرغبة في الحالة المستقبليَّة المتوقعة.
هذا ما يستفاد من نفس الكلمة من دون النظر إلى أي أمرٍ آخر خارج الكلمة وتشهد لهذه الحقيقة الآية الكريمة التِّي وردت في هذا المجال حيث المعنى والسياق الدالَّ على ذلك قال تعالى: ﴿أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (النمل: 62) الآية الكريمة تشير إلى الجانبين المتواجدين في نفس المضطر وهما:
1- سوءٌ غير مكشوف وهو يتمثَّل في أمرٍ واحد وهو أنَّ خلافة الأرض ليست بيد المُضطَر.
2- وهناك توقُّع ورجاء ورغبة كامنة في نفس المضطر وهي أن تكون الخلافة العامَّة على جميع الأرض له ولمن يقتدي به ويخطو خطاه.
وأمّا الحديث عن شخصيَّة المضطر وأنَّه من هو؟ فهو خارج عن بحثنا ههنا.
فلا يمكن للمؤمن ممارسةُ عمليةِ الانتظار إلاّ بعد عرفان أمرين متلازمين هما:
الأول: وهو الأصل والأهم ويتمثَّل في معرفة تلك الخلافة الإلهية وهذا هو التولِّي.
الثاني: وهو تابعٌ وملازم للأصل وهو معرفة السوء الذي يتمثَّل في الواقع الفعلي ومن ثمَّ التبرِّي منه.
وكلا الأمرين يفتقران إلى الوعي والتدبُّر والدقَّة فنقول:
إنَّه من الأفضل أن نبدأ بالأمر الثاني أعني معرفة السوء ورفضه تحت عنوان الانتظار والرفض ثمَّ نتحدَّث عن الأمر الأوَّل تحت عنوان الانتظار والرجاء.
الانتظار والرفض:
إنَّه من الضروري لمن يعيش حالة الانتظار أن يعرف مدى انحراف الواقع الفعلي عن الحقيقة والصواب وينبغي أن يصل إلى مستوى من التنفُّر والرفض لهذا الواقع بحيث يحسّ بأنَّه بالفعل سجين في هذه الدنيا ومقيّدٌ بأنواع القيود التِّي لا مفكَّ منها ولا مفرّ إلاّ بظهور المنجي الحقيقي وهو الحجة بن الحسن المهدي (عجّل الله فرجه) وينبغي له أن يشعر بأنَّ المشكلة التِّي يعيشها ليست هي مُشكلةً جزئيَّةً يمكن التحرِّي عنها والتخلُّص منها بسهولة بل هي مُشكلة كبيرة ومعضلةٌ عظمى قد رسَّخت جذورَها في جميع الأرجاء ونشرت سمومَها في كافة الأنحاء، فعندما نلاحظ المجتمع نرى بشاعة الظلم وانتشار الجور وضياع الحقوق والحريات واختلاط الحق بالباطل.
وللخلاص من هذه المعضلة ينبغي لنا أن نعرف أنه لا محيص ولا مناص إلّا بظهوره (عليه السلام) ومباشرته للحل بأسلوب ملكوتي إلهي.
وعلينا أن ندرك هذه الحقيقة بجميع وجودنا، وبأرواحنا ودمائنا وأجسادنا وجوارحنا، بحيث لا تمر علينا ساعة بل لحظة واحدة إلّا ونشعر بفقدان النور وهيمنة الظلام، وهذه الحالة لا تحصل إلّا بالمعرفة، أعني معرفة الله تعالى ومعرفتهم (عليهم السلام) ودولتهم المباركة فلابد أن نكون على بصيرة من أمرنا حيث إن الأعمى لا يمكنه أن يدرك النور مهما شُرِح له، وهذه المعرفة تلازمها معرفة أخرى وهي معرفة أساليب الأعداء الشيطانيَّة ومستوى عداوتهم للحق وانحرافهم عن الواقع وبعدهم عن الله تعالى.
ثمَّ إنَّ هذه الحالة النفسية للمؤمن -أعني الرفض- سوف تكون لها آثار إيجابيَّة في أخلاقه وأعماله وتكامله تجعله يشتاق إلى ما سيحقَّق من النصر وتمكين الحق وهكذا سوف يزداد الاشتياق إلى أن ينقلبَ إلى قرارٍ حاسمٍ ومن ثمَّ إرادة جدِّية وطلب مؤكَّد وحينئذ سوف يراه المهدي (عليه السلام): «متى ترانا» ومثل هذا الإنسان سوف يتفاجأ برؤيته (عليه السلام) فلا يرى نفسَه إلاّ ويعيش دولته العظيمة وظلَّه الملكوتي المبارك: «ونراك وقد نشرت راية الحق»(18).
الرفض الاجتماعية:
إنَّ من النتائج الخبيثة والآثار السيِّئة التي نشأت جرّاء عزل الدين عن المجتمع وفصلة عن الحُكم خلال قرونٍ متواليةٍ، هو تحريف المفاهيم الدينية وتفسيرها تفسيراً مؤطَّراً بإطار الفرد لا يتخطاه قيد أنملة وكأنَّ الدين لا يمتُّ إلى المجتمع بصلة.
وهذه الآفة قد تسرَّبت بشدّة في تقييم المفاهيم الأخلاقية الواردة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، فقد فُسرَّت جميعها أو أكثرها تفسيراً فردياً وكأنها لا علاقة لها بالمجتمع ولا مساس لها بالأمَّة وكأن الغاية من بعث الرسل وإنزال الكتب هو إيصال الأفراد فحسب إلى الكمال المطلوب.
ومن المؤسف أنَّ هذا النوع من التفسير مع غاية بعده عن روح الإسلام صار كالبديهي عند أكثر المسلمين حتى عند علماء الإسلام، وقد تركزت هذه الأفكار في المجتمع -من خلال هؤلاء الجهلة- تركيزاً شديداً بحيث أصبح كلُّ من يخالفها من جملة الشاذِّين عن الدين وفي زمرة المنحرفين عن الصراط المستقيم! وبالنتيجة من المطرودين والخارجين عن ربقة الإسلام والمسلمين!
هذا والقرآن بصريح العبارة يبيِّن السرّ في بعث الرسل بقوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحديد: 25). ومن الواضح أنَّ للحديد الذي هو كناية عن القدرة دوراً مهماً وأساسياً في بناء المجتمع فهو الساعد الآخر الذي يضمن تنفيذَ قوانين الدين بعد الإيمان بالله تعالى.
ولم يكتف القرآن بذلك بل حرَّضَ كافة المؤمنين للقيام بالقسط فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ﴾ (النساء: 135).
وعلى ضوء هذا ينبغي أن لا ننظر إلى المفاهيم الإسلامية من منظار فردي فحسب، بل لابد أن يكون المنظار الاجتماعي هو الحاكم وهو المخيم عليها.
فالتقوى ليست مفهوماً أخلاقياً فردياً فحسب بل هي مفهوم اجتماعي أيضاً فهناك تقوى في الإنسان كفرد وهناك تقوى أهمّ وهي التقوى بمفهومها الاجتماعي الذي يرجع إلى الأمة المؤمنة ولكلٍ منهما أثره الخاص به ولكل جزاؤه المترتب عليه وثوابه المنسجم معه.
وكذلك مفهوم الإيثار والإخلاص والكرم والجود والغيرة والشجاعة وغيرها من القيم الإنسانية الإسلامية.
ونفس الكلام يتأتّى في المفاهيم المضادة والقيم المنحرفة الشاذة كالبخل والرياء والنفاق والخيانة والشره والجبن وغيرها.
نعم هناك بعض المفاهيم (وهي قليلة) يتغلب عليها الجانب الفردي كما أن هناك مفاهيم يتغلب عليها الجانب الاجتماعي، ولكن هذا لا يعني أن نتمسك بها كمفاهيم خاصّة فرديَّة.
والمتأمل في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة سوف يذعن بما قلناه. ولا بأس بذكر مثال واحد فنقول: قوله تعالى في سورة الشعراء في ثمان آيات عن لسان الأنبياء ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾ (الشعراء: 108-110). وكذلك في سورتي الزخرف (الآية 63) وآل عمران (الآية 50)، هو خطاب للمجتمع الذي كانوا يعيشونه، ذلك المجتمع المبتعد عن واقع الدين. وليس الخطاب متوجِّهاً إلى الأفراد خاصَّةً.
ومن هذا المنطلق نقول لو أن القيم الأخلاقية أو المفاهيم الاعتقادية رسخت في عدد من الأفراد حق الرسوخ ولكن لم تتجسد تلك المفاهيم في الأمة الإسلامية كأمة فهل يجدي ذلك نفعاً للأمة؟ وهل يرتفع الضرر عن الأمة؟
من الواضح أن ذلك لا يجلب منفعة للأمَّة كما أنه سوف لا يدفع شراً عنها بل المصيبة سوف تشمل الأفراد أيضاً مهما كانوا يتحلَّون بالصلاح والخير قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (الأعراف: 165)، وقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الأنفال: 25).
ولو دققنا النظر وتعمقنا في الأمر لوصلنا إلى حقيقة أخرى قد استترت عن الكثير وهي: أنه من الصعب أن نحكم بصلاح فرد وهو يعيش في أمة فاسدة ذلك الفرد الذي لم يوصل نفسَه إلى مستوى القيادة والإشراف على أمَّته أو لم يهجرهم هجراً جميلاً كي يسلم من آفاتهم!
وربما نستلهم هذا الأمر من الآيتين السابقتين:
ففي الآية الأولى نلاحظ أنَّ الذين نجَوا هم الذين ﴿يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾ وأمّا الذين ظلموا الذين هم الفسّاق سواء المُظْهِر فسقه أو الساكت عن الجريمة فإنَّ الله تعالى قد أهلكهم.
والآية الثانية نشاهد أنَّ غير الظالمين أيضاً قد شملتهم الفتنة حيث إنَّ استسلامهم للظلم هو ظلمٌ في القاموس الإلهي أيضاً.
صفات المنتظِر:
على ضوء ما سبق ينبغي أن نعرف بأن صفات المنتظر ليست هي صفات فرديَّة فحسب، بل ينبغي أن ينطلق الفرد منها في بادئ الأمر لتستوعب كافَّة زوايا المجتمع الذي يعيشه وتتفاعل به الأمَّة حتى تعمَّ فائدتها وتتكامل، فالانتظار وما يترتب عليه من الصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرفض للواقع الفاسد لابد أن تتجسد في المجتمع ولا تنحصر في الفرد ومع تجسُّدها في المجتمع سوف يقترب الفرج وينكشف الضرّ إن شاء الله تعالى.
ولأجل أن يتَّسم الرافض للمجتمع الفاسد بوسامٍ إلهي ينبغي له أن يمارس الأمور التالية:
الأول: البناء الفردي:
وهو السعي للتقرب إلى الله تعالى بالتلبس بلباس التقوى الذي هو خير لباسٍ حتَّى يرتفع مستوى رفضه هذا من السلب المطلق الذِّي هو (لا) إلى سلبٍ يتضمَّن إيجاباً. وعندئذٍ سوف يكون رفضُه رفضاً مقدَّساً له معنى ومفهوم رسالي عميق فليست كلُّ لاءٍ هي بالفعل لاءً، بل هذا النمط من اللاء أفضل من ملايين نعم إن صحَّ القياس بينهما.
فهذا الرفض ليس من السكوت المذموم الذي هو حالةٌ سلبيةٌ جوفاءُ تُعرقل الإنسان والمجتمع. كلاّ بل هو حالةُ صراخٍ ليس مثلها صراخاً (ويكفيك نموذجاً سكوت عليٍّ (عليه السلام) طوال خمس وعشرين سنة) وهذه الحالة هي الحالة التكاملية التِّي تبني الإنسان المسلم وترفع من مستواه إلى الأعلى وتجعله يتكامل شيئاً فشيئاً من دون الوقوف عند حدٍّ.. وكذلك تُنمِّي المجتمع وترفع مستواه وتجعله يعيش عيشة عزيزة لا يتسرب إليها ذلٌّ وهوان ولا تعتريها آفةٌ وخذلان.
إذن لِمَ لا تكون هذه الحالة أفضل العبادة؟ ولِمَ لا يكون أفضل الجهاد؟
ولم لا يصل هذا الإنسان المتحلِّي به إلى مستوى المتشحط بدمه في سبيل الله؟
الثاني: تعزيز الرفض بخصال أخلاقية أخرى وهي:
1- الصبر:
وهذه الصفة هي أهم تلك الصفات لأنَّها في الواقع الضمان لتلك الحالة، والصبر هاهنا يختلف عن الصبر في المواطن الأخرى بل الصبر الحقيقي الذي هو كالأم لسائر المصاديق هو هذا النوع من الصبر حيث اشتماله على جميع أنواع الصبر التي نطقت بها لأحاديث الشريفة وهي ثلاثة كما في الحديث الذي نقله المحدِّث الكليني ݞ بإسناده عن الإمام علي (عليه السلام) قال: «قال رسول الله ݕ: الصبر ثلاثة: صبرٌ عند المصيبة، وصبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية...»(19). وقد ذكر رسول الله ݕ درجاتٍ أخروية لكلٍّ من تلك الأصناف الثلاثة. ولكنَّ الصبر الملازم للانتظار قد استوعب هذه المراحل الثلاثة وذلك لأنَّه:
هناك أعظم مصيبة ابتلى بها المؤمن المنتظر وهي مصيبة فقدان قائده الروحي وإمامه الثاني عشر الحجَّة بن الحسن المهدي (عجّل الله فرجه)، فهو يعيش حالة اليتم وهذه المعضلة العظمى بطبيعتها تتطلَّب الصبر.
وهناك طاعة تتجسد في التبرّي من كل ما هو يزاحم هذه الروحيَّة (أعني روحيَّة الانتظار)، وهناك معاصٍ محيطة بهذا الإنسان المؤمن إحاطة كاملة، تلك الأمور التي تقصم الظهر من المُغريات المادِّية والتسويلات الشيطانية المنتشرة على مستوى وسيع بحيث لا يلتفت الإنسان يميناً أو يساراً إلاّ وهي بارزة أمامَه خصوصاً في عصرنا الحالي.
فالمنتظِر للدولة المباركة سوف يعيش كلَّ تلك المغريات طوال حياته فيشاهد بأمّ عينيه أنَّه يسير إلى جهة والعالم بأجمعه يسير إلى جهة أخرى مضادَّة له تماماً ومن ناحية أخرى يشاهد أنَّ جنود الشيطان وأهل الدنيا يمثِّلون السواد الأعظم فهم الملأ الذين يملؤون أعيُن الناس فهو إذن الشاذ بينهم.
فمن الواضح أنَّ هذا الأمر سوف يجعل المؤمن المنتظِر الصابر يعيش حالة صعبة أخرى وهي حالة: (الغربة) ولا تتلخَّص هذه الغربة في الغربة الاجتماعية بل هناك غربة أصعب من ذلك ألا وهي الغربة الفكرية والأيديولوجية التي تؤكد عليها الأحاديث الشريفة وتجعلها من صفات وعلائم المنتظر الحقيقي كالحديث الذي ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن رسول الله ݕ قال: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء»، قيل يا رسول الله ثم يكون ماذا؟ قال: «ثم يرجع الحق إلى أهله»(20).
2- التصابر:
فماذا يفعل هذا الصابر كي يستمرَّ في صبره ولا يهون؟
لابدّ وأن ينتقل من مرحلة الصبر إلى مرحلة أرقى وهي التصابر كي يخلق الصبر في الآخرين حتَّى ينسجموا معه فيستمرَّ في مسيرته ويصمد في مواقفه حتى تحقق تلك الدولة العالميَّة المباركة، وسورة العصر هي التِّي ترسم الطريق للمؤمنين المنتظرين قال تعالى: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿وَالْعَصْرِ﴾ (العصر: 1) أي قسماً بالعصر وربَّما يكون المقصود من العصر في هذه السورة هو عصر الحجَّة (عجّل الله فرجه).
﴿إِنَّ الْإنسان لَفِي خُسْرٍ﴾ (العصر: 2) هذا الإنسان الذي قد حُكم عليه بالخسران المطلق هو الإنسان الذي يعيش خارج العصر أي يعيش حالة الغيبة. والإنسان المذكور هنا يشمل جميعهم ﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (العصر: 3).
والاستثناء بطبيعته يدلُّ على النُدورة والغربة، فالنادر من الناس والقليل منهم يتَّسمون بهذه السمات الأربعة المتوالية والتِّي ترجع بالأخير إلى صفة فاردة وهي (انتظار الفرج) على ضوء ما قدمنا.
والجدير بالذكر أنَّ التواصي بالحق والتواصي بالصبر هي حالة ثابتة للمؤمن مادام هو مؤمناً.
فمن الأحرى أن يُسأل إلى متى هذا التواصي؟
وفي آخر المطاف هل لمجتمع أن يعيش الراحة والطمأنينة والهدوء؟ وإن كان الجواب سلبياً فأين حكمة الله تعالى البالغة وأين لطفه الشامل وأين كرمه الجميل؟
أقول: لابد من وصول الإنسان المؤمن المتَّسم بتلك الصفات إلى مرحلة نهائية وهي مرحلة الكمال، وهي مرحلة العيش في العصر لا خارجه على ما تدلُّ عليه السورة المباركة.
الهوامش:
(1) الصدوق، أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، عيون أخبار الرضا، صححه: حسين الأعلمي (ط1، مؤسسة الأعلمي، لبنان، بيروت، 1404ه-1984م) ج2، ص396.
(2) الأربلي، أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح، كشف الغمة في معرفة الأئمة (دار الأضواء، بيروت - لبنان، د.ت) ج3، ص338.
(3) الكليني، أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق، الأصول من الكافي، (ط3، دار الكتب الاسلامية، طهران، 1388 هـ) ج1، ص336.
(4) بن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات، التحقيق: الشيخ جواد القيومي (ط1، قم، مؤسسة نشر الفقاهة، 1417هـ) ص328.
(5) الطوسي، الأمالي، ص192.
(6) بن طاووس، رضى الدين علي بن موسى بن جعفر، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرة في السنة، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني (الطبعة الأولى 1616) ص330.
(7) المجلسي، بحار الأنوار: ج 75، ص 208 ح 77.
(8) المجلسي، المصدر السابق، ج 52، ص 122 رواية 3 باب 22 وج 52 ص 125 رواية 11 باب 22.
(9) المجلسي، المصدر السابق، ج 77، ص 143 رواية 1 باب 7.
(10) الواسطي، علي بن محمد الليثي، عيون الحكم والمواعظ، التحقيق: حسين الحسني البيرجندي (ط1، دار الحديث، قم، 1376) ص92.
(11) الحراني، أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول (عليهم السلام)، (ط3، ذوي القربى، قم، 1429هـ) ص115.
(12) الطبرسي، أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب، الاحتجاج، (منشورات دار النعمان، العراق، النجف الأشرف، 1386 ه-1966 م) ج2، ص49.
(13) المجلسي، المصدر السابق: ج52، ص128.
(14) الطبرسي، المصدر السابق، ج2، ص49.
(15) الطبرسي، حسين النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، (ط2، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، لبنان، 1409 ه-1988م) ج5، ص262.
(16) الطبرسي، ابى الفضل بن الحسن، اعلام الورى بأعلام الهدى، (ط3، منشورات المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1970م) ج2، ص196.
(17) الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام)، (ط1، تحقيق ونشر: قسم الحديث في مجمع البحوث الإسلامية، إيران، مشهد، 1414 ه. ق) ج1، ص39.
(18) بن طاووس، لإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرة في السنة، ص511.
(19) الكليني، الأصول من الكافي، ج2، ص91.
(20) الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ص217.