المستقبل وعلاقته بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
المستقبل وعلاقته بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
أ.د. عامر عبد زيد الوائلي(1)
مقدمة:
سوف نحاول في هذا البحث استعراض موضوع بحثنا الموسوم بـ(المستقبل وعلاقته بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بوصفه جهداً فكرياً في بناء رؤية استراتيجية للمستقبل من زاوية فكرية عقائدية، وبالتالي نجد أن الأمر يدخل في زاوية تفسير المستقبل من خلال تأمل فكري عقائدي، ونجد أن أطروحة البحث هي تحليل الرؤية المهدوية من زاوية فلسفة التاريخ؛ ولهذا السبب حاولنا الربط بين المستقبل والتأمل في فلسفة التاريخ التي تحاول تقديم رؤية تأملية للمستقبل، وبالتالي تحاول الربط بين الحاضر وعلاقته بالماضي من ناحية، وانفتاحه من ناحية ثانية على المستقبل.
ونجد أن الأمر يدخل في خانة التفسير الديني للتاريخ من خلال تقديم تصوُّر مستقبلي من خلال الربط بالماضي كنصوص شرعية وروائية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وآل بيته الأطهار (عليهم السلام)، وكيف حددوا الرؤية الإسلامية للمنقذ والمجدد.
فالتفسير الديني كرؤية ومنهج حاضر ومرتبط بالتأمل المعرفي والتاريخي إذ كان العامل الديني حاضراً في الفكر الإنساني القديم من العبادات القديمة القائمة على تقديس الكبار، وإلى تقسيمات التاريخ وعلاقة الحاضر بالماضي وانفتاحه على المستقبل من خلال رؤية تنظر إلى التاريخ بوصفه عصوراً وأياماً، وهو جهد نجده في الفكر اليوناني تمثّل في ما جاء به هزيود (Hesiode) (848-777ق.م) في القرن الثامن قبل الميلاد في قصيدته (الأعمال والأيام)(2) يقول هزيود: (لأننا الآن نعيش في الأيام المتأخرة زمن الجنس الحديدي، ولن يكف البشر عن العمل قط ولن تفارقهم الهموم بالنهار ولا من قبضة المهلك بالليل، وما أقسى الهجوم الذي سوف تبلوهم به الآلهة)(3)، فهذا التأمل بالتاريخ قد أخذ شكلاً دورياً.
وقد جاء بعد هذا، التأويل اليهودي للتاريخ إذ جاء في نبوءة دانيال في تفسير لحلم (نبوخذ نصَّر) كما ورد في العهد القديم إلى مملكات متتابعة من: (الذهب والفضة والنحاس والحديد والصلصال أو الطين)(4).
أمّا في المسيحية كما جاء في سفر الرؤية، فإنّ قيام القيامة ونهاية الحياة سوف يسبقه نذر على الأرض بالغة الرعب والفظاعة(5)؛ فالإنسان جاء من الله، وبنعمته سوف يعود إليه، التاريخ كله يندرج بين هذين القطبين، وكل شيء يجب أن يوصل إلى هذا الهدف الوحيد(6).
أمّا الرؤية الإسلامية:
فتعمل على إشاعة روح التفاؤل في النظر إلى المستقبل من خلال التأكيد على فكرة العناية الإلهية في التاريخ، وقد استدلّ عليها بعشرات الآيات ومئات الروايات، منها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105).
المبحث الأول: المستقبل كما يتجلّى في أطروحة فلسفة التاريخ والإستراتيجية(7):
الأولى: فلسفة التاريخ (التأويل العقلي للتاريخ):
فلسفة التاريخ (Philosophy of History) هي التأمل الذي يتطرق إلى سير الأحداث البشرية، أو هو البحث في مسيرة التاريخ البشري، وإن كان هذا التاريخ يسير على وفق خطة معدّة سلفاً.
وقد تبلور هذا البحث في القرن الثامن عشر الميلادي، وقطع شوطاً مهماً.
فقد رأى المؤرخون أنه يمكن أن يستخلص من مجموع الوقائع التاريخية قانون عام للتطور البشري. وقد اجتهد بوسي (Bossuet) مؤرخ فلسفة التاريخ وواضعها)، في كتابه الصادر عام (1688م) بعنوان (مقالة في التاريخ العالمي)، ليبين أن تاريخ البشرية بأكمله توجهه يد القدرة الإلهية.
وعلى العكس من ذلك اجتهد فولتير، في كتابه (محاولة في درس العادات) سنة (1756م)، في إثبات أن التاريخ يصدر عن أسباب إنسانية خالصة، إذ قال في تعريف التاريخ (هو البحث عن الحكمة في وقائع التاريخ وأحداثه أو هو دراسة التاريخ من وجهة نظر الفيلسوف دراسة عقلانية ناقدة)(8).
وأوضح تلك الفكرة الرئيسة التي أشار مونتسكيو إليها من قبل، والتي تتلخص في أن كل مظاهر النشاط البشري، من (سياسية ودينية وعقلية وفنية)، مرتبط بعضها ببعض، ويؤثر بعضها في بعض.
أمّا فيكو (Vuco)، وهو فيلسوف إيطالي (1668-1744م)، (فقد قام بتمهيد الطريق إلى ذلك بإدخاله بعض طرق العمل وباقتراح بعض المبادئ العامة، فهو إذن يبرز أكثر كونه أحد مؤسسي علم التاريخ)(9)، ويعدُّ من أشهر من توسّع في فلسفة التاريخ، في كتابه (مبادئ علم جديد)، إذ يستند على نتائج من فقه اللغة، ليثبت وحدة النمو البشري ووحدة القانون، الذي يسير بمقتضاه هذا النمو عند مختلف الشعوب التي يتحتم عليها أن تمرّ بالأطوار المتعاقبة في تطورها. وهذا التأويل يتضمن أيضاً التأثير والتأثر مثلما (يولد الحاضر من الماضي كذلك يولد المستقبل من الحاضر، في سلسلة من الحلقات المتلاحقة والمراحل المتصلة والعصور المتعاقبة) وكان فيكو متأثراً بفرنسيس بيكون (1561-1626م) في دراسة علم الطبيعة، ويبدو ذلك واضحاً عند حديثه عن أخطاء المؤرخين الخمسة (التي يحذِّر المؤرخين دائماً وأبداً من الوقوع فيها، وهي أخطاء شبيهة بـ(الأوهام) التي يتحدث عنها بيكون في (الأورجانون) الجديد: يقول بوجود خمسة من هذه (الأوهام) التي هي مصدر الأخطاء)(10).
ثم جاء من بعده هردر (Johan G.Herder) الكاتب الألماني (1744-1803م)، إذ كان للدين أثرهُ في منهجه فقد كان (يزيد من وعي الفرد بفردانيته واستقلاله عن الجماعة الإنسانية، وقد ظهر ذلك في نظرته إلى التاريخ، فأصبح المنهج التاريخي لديه قائماً على فكرة (فردانية التاريخ)، إذ لا تتساوى في التاريخ لحظتان تماماً)(11). فضلاً عن اهتمامات هيردر: (اللاهوتية والفلسفية والتاريخية) كما تجلّت في مؤلفاته: فلسفة أخرى في التاريخ عام(1774م) وكتاب آراء في فلسفة الجنس البشري (1784-1791م) الذي يقع في أربعة أجزاء، فحاول أن يرسم خطوطها في كتابه (لوحة تاريخية). وقد كتب عنه جوته: (أنّه لم يجد في كتابته التاريخية قشوراً وأصداف الكائنات البشرية، وأنه ليس فحسب قد استخلص التبر من التراب، بل أنبت من التراب نباتاً حياً)(12).
وقد أكّد هيغل (1770-1831م) على أنّ التاريخ هو في عملية تطور ذاتي (للروح) أو (للفكرة)، وهذه العملية تحكمها قوانين، وفي القرن العشرين، كان لنظريات أرنولد توينبي (1889-1974م) ولأوزفالد شبنغلر (1880-1936م) الأثر الكبير في تقدم هذا الموضوع من مواضيع الفلسفة(13).
الثاني: الدراسات الاستراتيجية الغربية:
البحث عن المستقبل يمكن النظر له بوصفه استراتيجية، وهي علم التخطيط بصفة عامة، وهي مصطلح يعنى بالأساس بوضع الخطط المستقبلية، سواء أكانت تلك الخطط عسكرية تعني الخطّة الحربية، أو هي خطّة أو رؤية لبناء فكر أو دولة أو سياسة ترسم لأبعاد مستقبلية. على مستوى الأهداف والغايات سواء كانت (سياسية أو عقائدية أو اقتصادية)، وهي رؤية للمستقبل يتم وضعها انطلاقاً من ممكنات الحاضر؛ لكن تأخذ بنظر الاعتبار أيضاً ممكنات المستقبل.
مثلما من الممكن أن تكون جزءاً من الماضي تأخذه بالحسبان على مستوى التأصيل والمرجعية إلّا أنها تنطلق من رسم رؤية شاملة وجدناها في فلسفة التاريخ، والآن نستعرضها على مستوى الفكر الاستراتيجي المعاصر لعلنا نتوصل من خلالها إلى توطيد مفاهيم تمكننا من فهم الخطاب السياسي المستقبلي للفكر المهدوي في الإسلام واستيعابه عامة والفكر الإمامي بخاصة بوصفه جزءاً من التحديات المعاصرة.
وهذا قد أدّى بدوره إلى أن يحرضنا إلى ضرب الأمثلة من أجل توضيح فكرتنا. إذ تعكس الإستراتيجية الخطط المحددة مُسبقاً لتحقيق هدف معين على المدى البعيد في ضوء الإمكانيات المتاحة أو التي يمكن الحصول عليها. فهي خطط أو طرق توضع لتحقيق هدف معين على المدى البعيد اعتماداً على التخطيطات والإجراءات الأمنية في استعمال المصادر المتوافرة في المدى القصير.
وإذا ما بحثنا عن تحديد مفهومي، نجد أن مفهوم الاستراتيجية عموماً: يعد من المصطلحات القديمة المأخوذ من الكلمة الإغريقية (Strato)، وتعني الجيش أو الحشود العسكرية، ومن تلك الكلمة اشتقت اليونانية القديمة مصطلح (Strategos)، وهي تعني فن إدارة الحروب وقيادتها، وهي مجموعة السياسات والأساليب والخطط والمناهج المتَّبعة من أجل تحقيق الأهداف المسطرة في أقل وقت ممكن وبأقل جهد مبذول.
وعلى وفق هذا التوصيف فإنّ مصطلح الاستراتيجية يعني أصول القيادة الذي لا اعوجاج فيه، فهي تخطيط عالي المستوى، فمن ذلك الاستراتيجية العسكرية أو السياسية التي تضمن للإنسان تحقيق الأهداف من خلال استعماله وسائل معينة، ويمكن جمع تعريف شامل لكتابات قادة القرن التاسع العشر الميلادي من العسكريين من أمثال: (فينتر، هارت، مولنكة، وبوفر) بأنها: (فن توزيع واستعمال المعارك بالوسائط والقوى العسكرية؛ لتحقيق أهداف الحرب التي حددتها السياسة)(14).
أمّا على صعيد قطاع الأعمال فيمكن تعريفها على أنها: (خطّة عمل طويلة الأجل ترمي إلى تحقيق هدف المنشأة، في معظم الأحيان يكون الفوز الذي تشمل جميع قطاعات وإدارات المنشأة، واختيار الأسواق المستهدفة وتطوير مزيج من سياسات التسويق المناسبة لكلٍ منها، وتخصيص الموارد اللازمة لتحقيق الأهداف)(15).
ويمكن القول: إنها عبارة عن مجموعة من الأساسيات المتعلقة في مجال معين، والتي يتم على وفقها اختيار القرارات الفعالة تبعاً للخطط المحكمة التي تعتمد في جوهرها على وجود استراتيجية ناجحة من أجل تحقيق الأهداف المنشودة؛ لأنها (عبارة عن مجموعة من الطرق، والأساليب والمناهج المنظمة التي يتم السير وفقاً لها من أجل الوصول لما هو مطلوب في الوقت المحدد، وفي ضوء الإمكانيات والجهود المالية والمادية المتوفرة)(16).
وقد ظهرت دراسات ومراكز بحوث تهتم بوضع الاستراتيجيات المستقبلية للدول، وهذه الدراسات أيضاً ترتبط بالواقع السياسي وما يثيره من تحديات تغير الواقع، وهو يعني بالضرورة تغير أساليب المواجهة وآليات التخطيط، فالتخطيط الاستراتيجي الغربي اليوم عاش التحولات، إذ بعد (انتهاء الحرب الباردة انتهت معها النماذج التي كانوا يفسرون بها الأحداث، وتطلب الأمر من الباحثين إيجاد أنموذج يفسرون من خلاله السياسة العالمية أو النظام العالمي الجديد)(17)، ولهذا ظهرت دراسات استراتيجية لها آليات وأهداف مختلفة.
أولاً: الخطاب الاستراتيجي كما يظهر لدى فوكوياما:
إنَّ الأحداث في هذا العالم لا تتوقف؛ إلّا أن الذي يتوقف هو الفكر الأيديولوجي عندما يتصلَّب ويتوقَّف عن التطور(18)، ومن ملامح هذا الفكر أن تجد البشرية الشكل الاجتماعي الذي يشبع حاجاتها الأكثر عمقاً والأكثر أساسية)، لكنه يتنوع بتنوع الثقافة وموجهاتها: (الأخلاقية والعقائدية والمعرفية).وهذا ما تجلى له في كتابه التصدع العظيم (The Great Disruption) وأكد على ضرورة وجود جانب من الفطرة البشرية وهو الحاجة إلى إقامة الروابط الاجتماعية مع بعضنا البعض؛ لخلق نسيج اجتماعي بإطار جديد يتناسب مع المتغيرات الحاصلة في العالم ليس في جيراننا فقط، بل في مؤسسات العمل وفي داخل الأسرة(19). في الوقت الذي استشعر فيه الخدر الذي حدث من خلال التحولات الأيديولوجية، وهذا ما تجلّى في كتابه (كتاب نهاية الإنسان) (عواقب الثورة البيوتكنولوجية بقوله: (إن أخطر ما تهددنا به البيوتكنولوجيا المعاصرة هو احتمال أن تُغيِّر الطبيعة البشرية)(20).
ففي هذين الكتابين كانت هناك مقاربة استراتيجية قائمة على تفهّم الواقع المعاش والتحولات العلمية وأثرها في المجتمع والسياسة؛ وقد جعل في كتابه (بناء الدولة) أن للدول وظيفة حماية المجتمع من تلك الأخطار إذ رسم لها أهدافاً استراتيجية تتمثل في أن تقوم الدولة بتقوية المؤسسات القائمة وبناء أخرى جديدة؛ لأن الدولة من أهدافها هو توفير الأمن والخدمات والدفاع والتعلم (ووضع السياسات الصناعية والاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، من الجهة المقابلة قوة الدولة قوة قدرتها المؤسساتية والإدارية على تصميم السياسات وسن الأنظمة والقوانين ووضعها موضع التنفيذ)(21).
ثانياً: الخطاب الاستراتيجي كما يظهر صموئيل هنتنغتون:
يمكن أن نجد تحققاً للفكر الاستراتيجي في مؤلفات صموئيل إذ انشغل في تقديم مقاربات استراتيجية في أغلب أبحاثه، ففي سنة (1957م)، قدّم مقاربة فكرية عالج بها جدلية تلك العلاقات بين المدنيين والعسكريين ووضعها في مركز صدارة التحليل السياسي حتّى من قبل أن تنتشر ظاهرة الانقلابات العسكرية بشكل كبير في دول العالم الثالث، إذ يخلص إلى تقديم إطار نظرية فيه توصيف لدراسة العلاقة بين المدنيين والعسكريين. وقد ظهر له في المسار نفسه كتابه (النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة (1968م)، في هذا الكتاب قدّم مقاربة تتجاوز الجانب العقائدي - وهو الجانب المهيمن في أغلب الدراسات في وقتها - إلّا أنَّه ركَّز في استبعاد الخلاف العقائدي على أمر آخر (هو أن هناك مجتمعات تستمتع بنوع من الاستقرار وتتميز بالفوضى السياسية، وغياب الأحزاب واضطراب قواعد اللعبة السياسية). بمعنى أنه ركّز على دور التنمية في إحداث الاستقرار في الدول التي كانت مستعمرة، مثل: المكسيك والبرازيل، ودعا إلى عدم استعجال تطبيق الديمقراطية، وإلى البدء بحزب واحد قوي، وأشاد بتجربة المكسيك إذ سيطر على الحكم حزب واحد(حزب بي أر أي) منذ أكثر من ستين سنة. إلّا أنَّه بعد التحولات العاصفة المطالبة بالديمقراطية كَتَبَ مقاربة أخرى استراتيجية كما ظهرت في كتابه (الموجة الثالثة للديمقراطية (1991م) وكان لهذا الكتاب تأثير واضح في الدراسات (التالية التي واكبت التحول الديمقراطي بعد الثورات الشعبية في دول أوروبا الشرقية وفشل الشيوعية أمام الرأسمالية)(22).
إلّا أنَّه في مقاربة أخرى جاء بها كتابه (صِدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي (1996م)(23). في هذه المقاربة جاءت هذه المرة في فكرة نجدها مهمة؛ لأنها تقارب أهمية التحول في ظل الخصوصية الثقافية التي يشغل عامل الثقافة أهمية كبيرة في تماسك الهوية وهي الفكرة المركزية في هذا الكتاب(24).
وإنّ الفكر الاستراتيجي المهم به أنه يقارب مفهوماً مركزياً هو البعد الاستراتيجي الذي تعد الهوية الحضارية رأسمالاً رمزياً مؤثراً في رسم التحول والتحريض عليه.
المبحث الثاني: المستقبل وتجلياته في أطروحة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
في هذا المبحث نحاول أن نقارب الأمرين من زاويتين: الأولى: وهي فلسفة التاريخ، والثانية: هي الرؤية الإسلامية.
أوّلاً: فلسفة التاريخ والإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
للبعد الديني أثره العميق في الثقافة وفي التاريخ، وفي تفسير التاريخ كما تحدثنا في السابق على موقف هردر (Johan G.Herder ) إذ منح الدين حضوراً كبيراً في فكره، وكان للدين أثره في منهجه(25)، فضلاً عن اهتماماته اللاهوتية(26) والفلسفية والتاريخية، فحاول أن يرسم خطوطها في كتابه (لوحة تاريخية). وهذا الحضور الديني أيضاً كان حاضراً في فلسفة (هيجل) المثالية، فقد أكّد على أنّ التاريخ هو في عملية تطور ذاتي (للروح) أو (للفكرة)، وهذه العملية تحكمها قوانين(27).
إذ هناك عتبة مهمة من الممكن النفاذ منها، وأول سماتها التفسير الديني للتاريخ وهذا ما عرضنا له آنفاً.
والأمر الثاني: هناك مفهوم فلسفة التاريخ الإسلامية وهي التي سبق الحديث عنها من كون النظرة الإسلامية متفائلة من خلال التأكيد على فكرة العناية الإلهية في التاريخ، ومن سماتها:
1- الشمولية: تمتاز النظرة الإسلامية بالشمولية وتغطية التاريخ البشري كله، فالقرآن الكريم في حديثه عن الإنسان ورسالته في الحياة يبدأ من قصة خلق آدم (عليه السلام) التي يوليها أهمية خاصة، فهي تمثّل منطلق التاريخ الإنساني ومؤشر بدء حركته في الزمان والمكان. ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (يس: 60)
2- الواقعية: حينما تتحدث الرؤية القرآنية عن التاريخ: (سننه، مراحله، غاياته، بداياته، نهاياته)، فهي تتحدث عن صورة للواقع كما هو، لا كما يتراءى لنا، فالواقعية هي السمة البارزة لهذه المدرسة الإسلامية.
3- التعالي: الوحي المتعالي هو المصدر الأساسي للنظرية الإسلامية في تفسير التاريخ، وهو يعد المرتكز المعرفي لهذه النظرية. فالتعالي: هو ضمان الواقعية، ومن دونه تحتجب عنّا الرؤية الكاملة، وتطغى علينا الرؤية الموضعية الناقصة الجزئية.
4- الموضوعية(28): إشكالية الموضوعية مسألة منهجية تطرح في كل البحوث؛ وخاصة في مجال العلوم الإنسانية التي يكون فيها الإنسان موضوع العلم.
وهنا أيضاً يمنحنا الآتي حلاً للإشكالية الموضوعية إذ الالتزام بالوعي والتقييد بالإطار المرجعي للنصوص الدينية.
5- الإنسانية: تنحاز المدرسة الإسلامية للإنسان؛ فالإنسان هو محور حركة التاريخ، وحاجاته الروحية المعنوية هي مركز الثقل في هذه الحركة(29).
والحديث عن فلسفة إسلامية في التاريخ له مصاعب لدى الباحثين المعاصرين ممن يرصد أنه ثمَة صعوبات يجدها متمثلة في وجود (نقص الباحث بصفته ممثلاً لمرحلة معينة من تطور الفكر الإسلامي). وتعليل هذا النقص بالقول:
أولاً: إن (الفكر الإسلامي بصفته مجموعة من الحقائق والتشريعات كما يعرفها الله ورسوله وأولياؤه (عليهم السلام)... وهو الفكر الإسلامي الأعلى. والأطروحة العادلة الكاملة للحياة).
وثانياً: إنّ (الفكر الإسلامي الموجود عند علماء المسلمين والمفكرين الإسلاميين على مر العصور، هو في واقعه ناقل للمستوى الأول وحاكٍ عنه ومنبثق عنه إلى حد كبير، نتيجة للتبليغات والبيانات التي قيلت من قبل المشرِّع الإسلامي المقدّس في الكتاب الكريم والسُنّة النبوية الشريفة.
والمقصود الأساسي هو تربية الأُمّة على فهم المستوى الأول والامتثال له عن طريق ممارستها ونقلها للمستوى الثاني، بصفته ممثلاً للمستوى الأول، وهي بأجيالها المتعاقبة كفيلة بأن تقوم بذلك تدريجياً. وينبغي الاعتراف بعدم وصوله إلى الكمال. وهنا إشارة إلى أنّ كل باحث ومفكِّر، هو بطبيعة تكوينه ابن الفترة التي يعاصرها والزمن الذي يمر فيه. ويتعذر عليه بالمرّة، مهما أوتي من عبقرية وطول باع، أن يسبق الزمن، فيدّعي الوصول إلى المستوى الأوّل للفكر الإسلامي، أو أنه محتوٍ على وعي الأجيال الإسلامية القادمة وثقافتها. تلك الثقافة القائمة على انكشاف ما في سوابقها من الأخطاء، وملء ما فيها من فجوات)(30).
على الرغم من هذه الصعوبة؛ إلّا أننا يمكن أن ننظر إلى موضوعة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من خلال فلسفة التاريخ الإسلامية.
فهي في موقفها من المستقبل تبقى لها خصوصية في تحديد نهاية التاريخ (بنهاية سعيدة للمسيرة البشرية، وهي نهاية حتمية لابدّ أن يصل إليها الناس بحسب ما تمليه العوامل المؤثرة في حركة التاريخ، يصلون إليها بإرادتهم واختيارهم أيضاً، نهاية التاريخ في النظرية الإسلامية ليست إلغاءً للآخر واستغراقاً في النمط الحضاري الذي ينتمي إليه)(31).
ولكن تبقى التجربة الإسلامية لها سماتها التاريخية والواقعية؛ فإذا كانت العلوم التجريبية معيارها التجربة فإنّ المقارنة هي المعيار في العلوم الإنسانية، ومن هنا يمكن الاستدلال على الفلسفة الإسلامية من خلال موضوعية التفسير فإنّ (موضوعية التفسير تكتسب أفقاً أوسع وعطاءً أرحب وأكثر من خلال انطلاقه من التجربة البشرية، يزداد غنى بما تقدمه تلك التجربة من مواد. من هنا فإنّه السبيل الوحيد للحصول على النظرية الأساسية للإسلام تجاه مواضيع الحياة المختلفة)(32).
لذا نجد أنّ القرآن الكريم قد قاوم النظرة العفوية أو النظرة الغيبية المجرّدة لتفسير الأحداث، إذ قاوم تفسير الإنسان للأحداث على أساس الصدفة والاستسلام خارج دائرة الأسباب والمسببات، ولذلك نبّه العقل البشري إلى أنّ الساحة لها سنن وقوانين. ومنها مفهوم الإنسانية فتظهر لنا ثنائية الحرية والسنن التاريخية؛ في ضوء هذه الثنائية (الحرية / السنن التاريخية) إذ أن السُنن تنقسم إلى قسمين: سُنّة إجبارية: تجري على الكائنات بما فيها الإنسان وذلك كالولادة والحياة والأوصاف الخلقية وكل ما في عالم الغيب مما اختصت به القدرة والمشيئة الإلهية من الأمور التي لا طاقة للإنسان بها. والسُنّة الاختيارية: وهي القائمة على مستوى إرادة الإنسان وما يمكن أن يناله الإنسان أو يسخره في الحياة باستعمال القدرات المختلفة التي زود بها لغرض تحقيق غاية خلقه وسبب وجوده في استعمار الأرض والاستخلاف فيها؛ فإنّ السنن التاريخية لا تجري من فوق رأس الإنسان؛ بل تجري من تحت يده(33)، ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).
كما يلاحظ هنا نجد أن رؤية فلسفة التاريخ الإسلامية تبدو واضحة المعالم في توصيف المستقبل وتحليله وتوقعه من خلال مجسّات فلسفة التاريخ التأملية التي تعتمد على فهم الروايات الدينية وتدبرها وإخضاعها إلى التأمل والتفسير من أجل رسم صورة عقلانية.
ثانياً: الرؤية الإسلامية للمستقبل والإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
وجدنا من قبل أنّ البحث عن المستقبل يمكن النظر له بوصفه استراتيجية وهي علم التخطيط بصفة عامة، مثلما وجدنا رؤية إسلامية في فلسفة التاريخ من الممكن أن تنظر إلى المستقبل من زاوية عقائدية شاملة تعتمد على الجمع بين التعالي والواقعي؛ إذ يقوم على الجمع بين المقومات الشرعية العقائدية والأخبار التي حاولت رسم ملامح لما سوف يحدث في المستقبل، وتأتي التفسيرات والتحليلات في استنتاج طبيعة هذا المستقبل بالاعتماد على تلك التوقعات، لكنّ هذا التوقع لا يخلو من صعوبات ويمكن أن نعرض إلى الصعوبات فيما يأتي:
1- قيام الأخبار الناقلة لحوادث المستقبل، على الرمزية في بعض أساليبها ونقاط عرضها، وبخاصة فيما يعود إلى شخص المهدي (عجّل الله فرجه) كقوله في بعض الروايات التالية: «إذا هزّ رأسه أضاء له ما بين المشرق والمغرب» وأنه «يضع يده على رؤوس الأنام فيجمع أحلامها» وإن «رايته ليست من قطن ولا كتان وإنما هي ورقة من أوراق الجنة»، وغير ذلك من التعبيرات. ويراد بها حقائق إسلامية واعية لكنها لم تستعمل المداليل الاعتيادية للألفاظ. وإنما استعملت الرمزية(34).
2- تعمد الإجمال في بعض من الروايات والسكوت عن بعض ما سيحدث من الأعمال والأقوال بشكل يبدو بوضوح إرادة المتكلم حذف بعض الحقائق التي لا يجد مصلحة في التصريح بها. كسكوت بعض الروايات عن ذكر تفاصيل خطبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في المسجد الحرام أول ظهوره، وسكوت الروايات عن تفاصيل خطبته في مسجد الكوفة عند وروده العراق، وسكوتها عن كثير من نصائحه وأساليب امتحانه لأصحابه. بل يقتصر على القول: وأنا أعلم بما يقوله لهم. وأمّا ماذا يقول لهم، فهذا مما لا سبيل إليه. ومثله ما ورد في عدد من الروايات عن أصحاب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه): وأنا أعرف أسماءهم وأسماء آبائهم...(35).
3- أنه في هذا التاريخ أشد تركيزاً ووضوحاً. فالحفاظ على التسلسل الزمني للعديد من الحوادث، يكاد يكون متعذراً. كما أن كثيراً من مهمات الأعمال التي سيقوم بها بعد الظهور محذوفة بالمرّة. ومن الملاحظ أنه كلما تقدّم الزمن مبتعداً قلّت الحوادث المنقولة، وازدادت الفجوات، فضلاً عن ازدياد الرمزية والإجمال أيضاً(36).
الرؤية المهدوية للمستقبل:
نجد أن ما هو مشترك بين التصورات الاستراتيجية المعاصرة والرؤية المهدوية للمستقبل أن لكل منهما بُعداً فكرياً أيديولوجياً أو عقائدياً، فالفكر الاستراتيجي الغربي كما مرّ بنا هو مصطلح (أي الاستراتيجية) يُعنى بالأساس بوضع الخطط المستقبلية سواء كانت تلك الخطط عسكرية تعني الخطّة الحربية، أو هي خطّة أو رؤية لبناء فكر أو دولة أو سياسة ترسم أبعاداً مستقبلية. على مستوى الأهداف والغايات سواء كانت سياسية أم عقائدية أو اقتصادية وهي رؤية للمستقبل يتم وضعها انطلاقاً من ممكنات الحاضر؛ لكنّها تأخذ بنظر الاعتبار أيضاً ممكنات المستقبل.
وهذا الأمر أيضاً متضمن في الرؤية العقائدية المهدوية؛ فهي رؤية عقائدية واقعية تراعي ممكنات الواقع كما وجدناها في جانبها الفلسفي؛ كونها شمولية وواقعية أي تراعي الواقع وممكناته وهي مستقبلية عسكرية وسياسية.
ومثلما مرّ بنا أن الاستراتيجية تكون جزءاً من الماضي تأخذه بالحسبان على مستوى التأصيل والمرجعية إلّا أنَّها تنطلق من رسم رؤية شاملة وجدناها في فلسفة التاريخ من الطرق، والأساليب والمناهج المنظّمة التي يتم السير على وفقها، وفي ضوء الإمكانيات والجهود المالية والمادية المتوفرة.
وسوف نجد هذا الأمر يشار إليه كون الفكرة المهدوية وإن كانت ترتفع على الخطاب المادي وتعتمد على خطاب متعالي سماوي؛ إلّا أنَّها تأخذ بالإعداد خلال مرحلة الانتظار مثلما هي رؤية تهدف إلى إحداث تحولٍ شاملٍ مستقبلي كما ترسمه العديد من النصوص والروايات والتفسيرات والدراسات الإسلامية؛ فهي بالنتيجة رؤية عقائدية تقوم على أسس وترسم استراتيجيات التحول في المستقبل؛ كونه سقفاً لأهدافها الموضوعة على مقدّمات شرعية. تجاوز الجمود والتصلب في الفكر الأيديولوجي عند الحركات السياسية والمعتمدة على رؤية مادية.
وبالآتي تنشد البشرية تحقيق تحولات تعيدها إلى حالة من العدالة والإنصاف وتتجاوز ملامح الجاهلية التي ترافق هيمنة التقنية. لكن يبقى هناك حاجة إلى فكر يستجيب إلى الحاجات المادية والروحية، وهذا يتطلب فكراً مجتهداً منفتحاً على الرهانات التي يعيشها الإنسان المعاصر وما يعانيه من مشاكل سياسية وروحية تتطلب فكراً أكثر قدرة على التجديد.
فكثير من الدراسات الإسلامية أكدت على ضرورة وجود مقاربة استراتيجية قائمة على تفهم الواقع المعاش والتحولات العلمية وأثرها في المجتمع والسياسة. وإنّ الفكر الاستراتيجي المهم به أنّه يقارب مفهوماً مركزياً هو البعد الاستراتيجي الذي تعدُ فيه الهوية الحضارية رأسمالاً رمزياً مؤثراً في رسم التحول والتحريض عليه. وقد جاءت الرؤية المهدوية منفتحة على المستقبل وتشكل مراحل المجتمع العالمي العادل، كما تظهر في بعض الدراسات الإسلامية المعاصرة التي ترى: (أن الفكرة المهدوية عند كل قائل بها ومؤمن بصدقها، تقوم على أساس كون المهدي هو مصلحة العالم في المستقبل، وهو الذي يقلب الظلم إلى العدل، ويحوِّل الظلام إلى نور ويحقق الرفاه والسعادة لكل فرد على وجه الأرض، فمن الحق أن يطمع الفرد إلى التعرف على تصرفات هذا المصلح العظيم في يومه الموعود، وعلى أسلوبه وسياسته وطريقته في التدبير والقيادة)(37).
ونجد أن توصيف هذا الأمر من الضرورة بمكان كونه يشكِّل متناً عقائدياً مشتركاً بين عموم المسلمين الذين يمتلكون تراثاً مهدوياً مشتركاً على الرغم من الاختلافات؛ إلّا أنّ الفكرة موجودةٌ في العمق وتمتلك مصداقية عند الطرفين فالمرويات متواترة عند الطرفين.
فقد جاءت عند الطرف السني، إذ قال العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي: (اعلم أنّ المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار أنَّه لابدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى (عليه السلام) ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته(38). وأيضاً هناك تكرار لهذا التوصيف للأحداث المستقبلية لدى القاضي الشوكاني في (فتح الرباني)، إذ قال: (الذي أمكن الوقوف عليه من الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر خمسون حديثاً وثمانية وعشرون أثراً)، ثم قال: (وجميع ما سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى من له فضل اطِّلاع).
وقال الإمام أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري في كتاب (مناقب الشافعي): (وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذكر المهدي وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأُمّة ويصلي عيسى خلفه)(39).
إلى جانب الروايات الشيعية التي تتحدث عن العصور فإنّها ترسم رؤية استراتيجية في تحديد النظام السياسي والاقتصادي والثقافي، في ظل هذه الصورة ذات الطابع العالمي كما جاء بتلك الدراسة (تاريخ الظهور)، فيها ثلاث عصور: (عصر الظهور، وعصر الأولياء الصالحين، وعصر المجتمع المعصوم).وهذه المراحل من توصيف هذا المجتمع تقوم على التأمل في المرويات التي تشكل سردية عقائدية ترسم رؤية عقائدية لما سوف يحدث بتوجيه متعالي سماوي تؤكد على تلك السِمات التي يتَّسم بها عصر الظهور.
فهذه الرؤية تقدم توصيفاً سردياً لما سوف يحدث في المستقبل من متن عقائدي كبير يحاول أن يرسم صورته النهائية في هذه الملامح التي يتحقق بها اليوم الموعود في الدنيا، وهو أيضاً ما هو حاضر في قلوب المؤمنين.
هنا نلمس أنّ هناك مشروعاً عقائدياً يقدم رؤية مستقبلية تستهدف إحداث تغيير على صعيد الفكر كونه مشروعاً حضارياً في مجتمع إيماني عالمي، يهدف إلى تحقيق فكرة التغيير وهي فكرة محركة للتاريخ وليست طموحات بحتة، فالتغيير كطموح من البديهيات الإنسانية وبخاصة في الرؤية المهدوية التي تقوم سرديتها في التراث الإسلامي على إحداث مغايرة جذرية في المجتمع والعقيدة بتوجيه غيبي ومشروعه بناء أُمَّة صالحة، فالتغيير كسبيل إلى النجاة من الانحراف والظلم والتحرر منه صوب العدالة والمساواة، يقوم بهذا الفعل الإمام والأُمَّة الصالحة التي تؤازر الإمام.
إذ لا يمكن لأي مشروع سياسي أو ثقافي الاستغناء عن الفكر العقائدي ذي طابع مهدوي. فكل تحول جدي ينبع من فكرة عقائدية مهدوية ورؤية مستقبلية، وهذا ما تدعمه الروايات:
«إنَّ أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدَّة، أما إنَّ ذلك إلى مدَّة قليلة وعافية طويلة»(40).
وفي الحديث القدسي عن الأوصياء (عليهم السلام): «وعزتي وجلالي لأظهِرنّ بهم ديني، ولأعلينّ بهم كلمتي وأظهرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأمكنه مشارقَ الأرضِ ومغاربها، ولأُسخِرنَّ له الرياح، ولأذلِلَنّ له السحاب الصعاب، ولأقينّهُ، في الأسباب، ولأنصُرنّه بجندي، ولأمدنّهُ بملائكتي حتّى يعلن دعوتي، ويجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمنّ ملكهُ، ولأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة»(41).
فهذه الرؤية القائمة على فكر مستقبلي فيها توصيف من خلال الحديث عن (تاريخ ما بعد الظهور): (يعني التعرف على يوم الإصلاح العام على يد القائد المنتظر (عجّل الله فرجه)، وهو يعني – بكل صراحة – التعرض إلى النتائج النهائية التي تتبناها الفكرة المهدوية ككل، ووصف البشرية المثلى في مستقبله السعيد)(42).
فهذا الفكر القائم على فكرة التغيير بوصفها عتبةً أساسية؛ إلّا أنّه أيضاً يأخذ بنظر الاعتبار الجانب التاريخي وممكنات الواقع وما يجترحه من رهانات وتحديّات تفترض قدرة على الاجتهاد والتجديد إذ يستجيب إلى روح العصر المستقبلي إذ ثمة ارتباط عضوي وثيق بين (يوم العدل الموعود، وبين الأساس العام الذي يقوم عليه الكون وأهدافه الكبرى التي خلق من أجلها. تلك الأهداف التي كانت تطبيقات من مفهوم العدل العام، والتي سار عليها التكوين والتشريع، واضطلع بالسير على طبقه موكب الأنبياء والشهداء والأولياء والمصلحين على مدى التاريخ، وسيظهر بجلاء، أن يوم الظهور ليس تاريخاً طارئاً أو قدراً مرتجلاً، وإنما هو في واقعه النتيجة الطبيعية الكبرى التي أرادها الخالق الحكيم في تخطيطه العام، والتي شارك في إعدادها الأنبياء وبذلت في سبيلها التضحيات على مدى التاريخ)(43).
يبدو في هذا النص الذي يتأمل بعمق في ممكنات هذه العقيدة التي تجلّت في القرآن والسنّة، إذ هناك أهداف وغايات من خلق الكون كما كان يريدها الخالق العظيم، هذه الغايات تكتمل بوجود اليوم الموعود كعلاقة ضرورية من أجل تحقيق تلك الأهداف الربانية المتمثلة بالعدل والإنصاف وهي غاية جاء بها كل الأنبياء والمصلحين وهي غاية كل الخطاب العقائدي بطابعه الغيبي ورغبته المهدوية في اكتمال الغاية الكلية للمشروع الإلهي، وبالآتي فهذه العقيدة ترسم ملامح خطاب نقدي للواقع الموجود وتقدم محاولة جدية من أجل إيجاد الحلول الضرورية من خلال الأفكار المهدوية التي تهدف إلى إعادة ولادة الإنسان وتجعل منه سيداً لا عبداً، تسيطر عليه الشهوات وأئمة الجور والضلالة والاستبداد. وتظهر هذه الرؤية المهدوية في (طائفة مهمة من الأخبار، وهي الأخبار المثبتة لوجود المهدي (عجّل الله فرجه) أساساً، وأنه من ولد فاطمة مع التعرض إلى اسمه وأوصاف جسمه، وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً. وهي بمجموعها تزيد على التواتر بكثير، وتثبت وجود المهدي بالضرورة...)(44). لكن التغيير على أساس الخطاب المهدوي يقوم على بعدين:
الأوّل: مواجهة خارجية مع الاستبداد والانحراف العقائدي والأخلاقي والجمود.
والثاني: مواجهة مع الذات من خلال تعميق الإيمان وإعادة فحص الإيمان للذات، وإعادة فحص حراسة الذات ضد كل من يريد اقتحامها بالقيم والمبادئ المنحرفة والأوهام والتهاويل.
فالتحرر في ظل الخطاب المهدوي سيولد تحولاً جوهرياً في حياة الناس أفراداً وجماعات، لهذا جاءت الروايات ومنها تلك التي تتحدث عن التحول السياسي: تؤكد الأحاديث على السمة البارزة للنظام السياسي والاجتماعي «لو لم يبقَ من الدهر، إلّا يوم واحد...» وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فإذا خرج أشرقت الأرض بنور ربها، ووضع الميزان العدل بين الناس فلا يظلم أحد»(45).
وعن الإمام علي (عليه السلام): «لو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم حتّى تمشي المرأة من العراق إلى الشام لا تضع قدمها؛ إلّا على النبات وعلى رأسها زنبيلها لا يهيجها سبع ولا تخافه»(46).
أمّا على الصعيد الاقتصادي: من (الأخبار المتطفلة لبيان المصالح وبعض النتائج الكبرى التي تترتب على ظهور المهدي (عجّل الله فرجه) بنفسه وعنوانه. وأوضح مثال على ذلك: ما ورد في هذه المصادر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). في مضمونه: تتنعم الأمّة في عهده نعمةً لم تتنعم مثلها قط، يرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء)(47).
ومن بين هذه الروايات: يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يأتيه الرجل والمال كدوس، فيقول يا مهدي أعطني، فيقول: خذ(48) و«إنّ في أمتي المهدي يخرج يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً فيجيء إليه رجل فيقول: يا مهدي أعطني، قال: فيحشى له في ثوبه ما استطاع أن يحمله»(49)، وجاء أيضاً «لا تقوم الساعة حتّى يكثر المال ويفيض حتّى يخرج الرجل زكاته فلا يجد أحداً يقبلها منه، حتّى تعود أرض العرب مروجها وأنهاراً»(50).
الخاتمة:
إنّ الخطاب المستقبلي كما يظهر في الرؤية المهدوية بوصفهِ خطاباً عقائدياً يحاول التغيير ويصارع ضد الفقر والموت والعلم بكل هيمنته المادية، عبر طرح تغيير بديل للواقع ويعمل على تجاوزه وإعادة التفكير في كل المباني السائدة.
الهوامش:
(1) أستاذ الفلسفة الوسيطة في جامعة الكوفة قسم الفلسفة.
(2) انظر: أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ: ص193-196.
(3) هزيود، الإعمال والأيام، نقلاً عن ارنولد توينبي، الفكر التاريخي عند اليونان، ترجمة، لمعي المطبعي، مكتبة الانجلو -مصرية، القاهرة 1966م، ص 161.
(4) نفس المصدر: ص 194.
(5) بارنز، تاريخ الكتابة التاريخية: ج1، ص242.
(6) هنري فريد صعب، قراءة في كتاب مدينة الله، موقع النهار، الإلكتروني.
(7) الدراسات الفلسفية في فلسفة التاريخ والتأمل في التحولات التاريخية والربط بين (الماضي والحاضر والمستقبل) ما يعرف بـ(فلسفة التاريخ الغربية) ومثلها الدراسات الاستراتيجية التي تتأمل في المستقبل.
(8) أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، الإسكندرية، 1975م، ص143-156.
(9) هاشم يحيى الملاح، المفصل في فلسفة التاريخ: منشورات المجمع العلمي، بغداد، 2005م، ص318.
(10) المصدر السابق: ص 319؛ وانظر: كولنجوود، فكرة التاريخ، ترجمة، محمد بكير خليل: مصر1961م، ص 156.
(11) المصدر السابق: ص 349؛ وانظر: محمود صبحي، في فلسفة التاريخ: ص349
(12) هاري المر بارنز، تاريخ الكتابة التاريخية: ج1، ترجمة، محمد عبد الرحمن، مصر1987م، ص266.
(13) كميل الحاج، الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي ناشرون: ط1، بيروت2000م، ص 412.
(14) حسين يونس، ما هي الاستراتيجية.
(15) حسين يونس، مصدر سابق.
(16) مفهوم الاستراتيجية وأهدافها.
(17) أحمد، سيد أبو ضيف، الهيمنة الأمريكية: نموذج القطب الواحد وسيناريوهات النظام العالمي الجديد، مجلة عالم الفكر، الكويت، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون، عدد3، مجلد 31 يناير - مارس 2003م، ص7.
(18) موصللي، أحمد، حقيقة الصراع، مؤسسة عالم ألف ليلة وليلة، 2003م، ص107.
(19) المصدر نفسه: ص5-6.
(20) فوكوياما فرنسيس، نهاية الإنسان عواقب الثورة البيوتكنولوجية: ترجمة أحمد مستجير، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2002م، ص31.
(21) فوكوياما، فرنسيس، بناء الدولة: ترجمة مجاب الإمام، العبيكان، السعودية، ط أولى، 2007م، ص11.
(22) ينظر: القرني، بهجت، صناعة الكراهية في العلاقات العربية الأمريكية: ص176.
(23) المصدر السابق.
(24) ينظر: هنتنغتون، صموئيل، صِدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي: ص71.
(25) المصدر السابق: ص 349؛ وانظر: محمود صبحي، في فلسفة التاريخ: ص349.
(26) هاري المر بارنز، تاريخ الكتابة التاريخية: ج1، ترجمة، محمد عبد الرحمن، مصر1987م، ص266.
(27) كميل الحاج، الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي: ناشرون ط1، بيروت2000م، ص 412.
(28) الموضوعية: هي أن تصدر أحكامك حول الواقع منزهة عن الرغبة والهوى، وبالتالي الموضوعية هي صفة للأحكام وليس صفة للواقع، لأن الواقع موضوع مستقل عن الذات.
(29) الأسعد بن علي قيدارة، نظرية المهدوية في فلسفة التاريخ: (دون مكان وتاريخ وطبعة) ص 71- 73.
(30) تاريخ ما بعد الظهور، محمد محمد صادق الصدر: ص16.
(31) الأسعد بن علي قيدارة، نظرية المهدوية في فلسفة التاريخ: ص 103.
(32) من مقدمة المحقق لكتاب السيد محمد باقر الصدر، السنن التاريخية في القرآن: دار التعارف للمطبوعات، إعداد، الشيخ محمد جعفر شمس الدين، بيروت 1989م، ص 15.
(33) محمد باقر الصدر، التفسير الموضوعي للتاريخ: ص 84.
(34) محمد محمد صادق الصدر: ص21.
(35) محمد محمد صادق الصدر: ص21.
(36) محمد محمد صادق الصدر: ص21.
(37) محمد محمد الصدر، تاريخ الظهور: ص5.
(38) عون المعبود، شرح سنن أبي داود: ج11،361-362.
(39) انظر: الموسوعة العقدية: الفرع الخامس: في نقل كلام أهل العلم في إثبات حقيقة المهدي.
(40) المجلسي، بحار الأنوار: ج64، ص213.
(41) المجلسي، بحار الأنوار: ج52، ص312.
(42) محمد محمد صادق الصدر، تاريخ الظهور: ص5.
(43) محمد محمد صادق الصدر، تاريخ الظهور: ص5.
(44) محمد محمد صادق الصدر، تاريخ الظهور: ص14.
(45) المجلسي، بحار الأنوار: ج52، ص322.
(46) المجلسي، بحار الأنوار: ج52، ص316.
(47) محمد محمد صادق الصدر، تاريخ الظهور: ص14.
(48) المصدر نفسه: ج52، ص322.
(49) مهدي الفقيه الإيمان، الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) عند أهل السنة: ص144.
(50) المصدر نفسه: ص 83.