جدلية إظهار ولادة الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) وإخفائها
جدلية إظهار ولادة الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) وإخفائها
د. عبير بدر عبد الستار
إعداد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) من بعده الأُمَّة لاستقبال الموعود (عجّل الله فرجه):
تواترت أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أوصاف القائم وعلامات ظهوره وكثرت حتّى لم يعد لمنكر حجة، ومن أقواله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «الأئمة من بعدي اثنا عشر كلهم من قريش»(1)، ولعلمه أنه سيدَّعي ذلك بعض الناس أوضح (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أي بيوتات قريش هم، فقال: «يخرج رجل من أهل بيتي يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً»(2)، ويبيِّن (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أكثر فقال: «ليكونن من يخلفني من أهل بيتي رجل يأمر بأمر الله»(3).
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لو لم يبق في الدنيا إلّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتّى يملك رجل من أهل بيتي يظهر الإسلام»(4).
وذكرت رواية أخرى لهذا الحديث هي «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج رجل من أمتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(5).
وقد يكتفي الحديث الشريف بذكر لقب الإمام (عجّل الله فرجه) قائلاً: «أبشروا بالمهدي - قالها ثلاثاً - يخرج على حين اختلاف من الناس وزلزال شديد»(6).
ويوضح حديث آخر بدء الإمامة فيقول: «الأئمة من بعدي اثنا عشر أولهم أنت يا علي وآخرهم القائم»(7). ففي هذا الحديث تعيين لأول الأئمة لكنه قد لا يعني بالضرورة أنهم من نسله لذلك أوضح النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قائلاً: «الأئمة من بعدي اثنا عشر تسعة من صلب الحسين والتاسع قائمهم»(8)، ليدل على تحديد أكثر لمصدر النسل الطاهر.
وجاء حديث آخر للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «والذي نفسي بيده إن مهدي هذه الأمة الذي يصلي عيسى خلفه منّا»، ثم ضرب يده على منكب الحسين (عليه السلام) وقال: «من هذا من هذا»(9).
والمتتبع لهذه الأحاديث الشريفة يمكن أن يلحظ التالي:
1 - إن الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذكر أولاً أن المهدي من أمة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثم قال إنه من قريش وخصص الذكر أكثر بأن جعله من أهل بيته (عليهم السلام) إذ قال إن علياً أول الأئمة (عليهم السلام)، وأخيراً صرح بأنهم كلهم من ولد الحسين (عليه السلام)، فهناك تدرج يلزم أن يكون متتابعاً زمنياً في إشاعة خلافة المهدي بغية تهيئة الأمة لتتقبل فكرة المخلص رويداً رويداً.
وتسد الباب في وجه المدعين على مر العصور من جهة أخرى.
2 - الحديث الشريف: «الأئمة من بعدي اثنا عشر إماماً كلهم من قريش» قد تواترت على نقله كل الكتب المخالفة لمذهب الإمامية، ولكن يبقى اختلافهم في تعيين أشخاصهم دليلاً دامغاً على صحة عقيدة الإمامية في المهدي (عجّل الله فرجه).
وجاء الأئمة من بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاجتهدوا في تعريف الأمة بإمامها وتعيينه لها، قال الإمام علي (عليه السلام): «إن ابني هذا - يعني الحسين - السيد كما سماه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسيخرج من صلبه رجل باسم نبيكم»(10).
ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) عن أبيه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا تذهب الدنيا حتّى يقوم بأمر أمتي رجل من ولد الحسين»(11). فهنا قطع الحسن (عليه السلام) الطريق على مدعي المهدوية من ولده في مستقبل الأيام.
ونُقِلَ عن الباقر (عليه السلام) قوله: «إن قائمنا هو التاسع من ولد الحسين (عليه السلام) لأن الأئمة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اثنا عشر الثاني عشر هو القائم»(12).
وعن الصادق (عليه السلام): «إن الغيبة ستقع في السادس من ولد ابني موسى، وذلك ابن سيدة الإماء» وقال: «إنه الخامس من ولد ابني موسى وذلك ابن سيدة الإماء»(13). فالصادق (عليه السلام) بهذا الحديث عيَّن ابنه موسى من بعده رادّاً على من قالوا إنه ابنه إسماعيل.
وعن الكاظم (عليه السلام): «... الخامس من ولدي، له غيبة يطول أمدها خوفاً على نفسه يرتد فيها أقوام ويثبت فيها آخرون»(14). فذكر الإمام الكاظم (عليه السلام) هنا خوف السجن أو القتل وهو ما ذاقه من السلطة المتجبرة. كما أنه تلويح للأمة أنها سترتد من بعده وستقول الواقفة أنه غاب ولم يقتل ولا إمام بعده.
مما تقدم نجد أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يذكرون ترتيب الإمام بين الأئمة ولا يقتربون من تعيينه صراحة فهو التاسع أو السادس أو الخامس، ومع وجود أكثر من ولد للأئمة يضيع الأمر على الأعداء من دون أن يفقد الشيعة والموالون حقيقته والتعرف على شخصه.
جدلية الإخفاء:
كان عصر الأئمة الثلاثة قبل الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) الإمام الجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام) من أشد العصور العباسية تضييقاً على الشيعة، ومع اقتراب الولادة المباركة لصاحب الزمان (عليه السلام) كان الأئمة (عليهم السلام) يثقفون الشيعة ويكثرون الإشارة إلى صاحب الزمان (عليه السلام) في أحاديثهم؛ ولكنهم في الوقت نفسه لا يصرحون بذلك متخذين أساليب عدة حققت لهم ذلك ومنها:
الأسلوب الأول: حرص الأئمة (عليهم السلام) على بيان زمان ظهوره ومن هم أعداؤه ومن هم أتباعه وقادته ولكنهم لم يذكروا زمناً معيناً لحدوث تلك الأحداث ولا ترتيباً لها، فصفات الطواغيت يمكن أن تنطبق على طاغوت كل عصر، وهذا الأمر بقدر ما ألبس الأمر على الأعداء جعل المؤمن الموالي متأهباً مراقباً للحظة مجيء صاحب الأمر (عجّل الله فرجه) متعلقاً قلبه بذلك الوقت الذي يتحقق فيه الوعد الإلهي فيجتهد في معرفة الترتيبات التاريخية التي تبقى غير متاحة لغير المريد والموالي لأن الأعداء لا يلمسون خطر هذه العقيدة مباشرة على سلطانهم. وعلى سبيل الاستئناس بالدليل نورد هذا الحديث ونحاول تحليل مضمونه:
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لابد أن يكون قدام القائم سنة يجوع فيها الناس ويصيبهم الخوف الشديد من القتل ونقص من الأموال والأنفس والثمرات فإن ذلك في كتاب مبين، ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]».
فوجود هذه الضائقة في سنة الظهور لا يمنع أن تكون موجودة قبلها بمدة ولكنها في سنتها أشد مما سبقها ثم يكون الفرج(15).
والأمثلة على ذلك كثيرة ولاسيما في تلك الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) التي تتحدث عن الأحداث التي تحصل قبل الظهور، فليس من الضروري أن تكون العلامات متسلسلة حسب ما وردت في الرواية نظام كنظام الخرز(16). وكل ما تقدم وغيره كثير(17) يؤكد ما ذهبنا إليه.
الأسلوب الثاني: إخفاء التسمية: من يتتبع الأخبار الواردة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) يجد أنهم عرّفوا الأمة بالقائم وحرصوا على تمييزه من غيره ولكنهم أخفوا اسمه فكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لبعث الله رجلاً اسمه اسمي وخلقه خلقي»(18)، وفي حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) (ناظراً إلى الحسين (عليه السلام)): «إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله وسيخرج الله من صلبه رجلاً باسم نبيكم يشبهه في الخلق والخلق»(19).
وعن الصادق (عليه السلام): «يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته»(20)، فصار معلوماً أن اسمه اسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونهي عن تسميته باسمه وإنما يكنى عنه ويعرف بألقابه.
روي أن محمد بن إبراهيم بن إسحاق قال: سمعت أبا علي محمد بن همام يقول: سمعت محمد بن عثمان العمري (قدس الله روحه) يقول: (خرج توقيع بخط أعرفه: من سماني في مجمع من الناس باسمي فعليه لعنة الله)(21).
وكان العلماء السابقون يستشكلون كتابة اسمه (عجّل الله فرجه) فيقطعونه (م - ح - م - د). ونجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «له اسمان: اسم يخفى واسم يعلن، فأمّا الذي يخفى فـ (أحمد) وأما الذي يعلن فـ (محمد)»(22)، فكان (عليه السلام) تماماً كجده رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاسمه في التوراة والإنجيل (أحمد) وفي القرآن محمد، وبذلك تتظافر الأدلة على كونه هو الإمام الموعود الذي لولا تنصل الأمة ما أخر فرجه عمن ﴿أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37). حتّى في اسمه نجد جدلية الإخفاء والإظهار السمة المميزة لهذا الإمام (عجّل الله فرجه).
الأسلوب الثالث: استعمال الكناية والتورية في التعبير عن الصفات الخَلقية والخُلقية لصاحب الأمر (عجّل الله فرجه) وسائر أحواله وعن الأحداث التي تكون في عصر الظهور؛ إذ يصف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) من بعده الإمام الحجة (عليه السلام) بتشبيهه بالأنبياء (عليهم السلام)، وذلك عندما يعرفونه بصفاته ويؤكدون أن فيه سُنَّة من أنبياء الله تعالى آدم ونوح وإبراهيم وأيوب ويونس وموسى وعيسى (عليهم السلام) وأخيراً جدّه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فمن آدم (عليه السلام) طول العمر، ومن أيوب (عليه السلام) الفرج بعد البلوى، ومن يونس (عليه السلام) رجوعه بعد غيبته وهو شاب بعد كبر السن، ومن إبراهيم (عليه السلام) خفاء الولادة واعتزال الناس، ومن يوسف (عليه السلام) الغيبة عن خاصته وعامته، وسجنه واختفاؤه من إخوته وإشكال أمره على أبيه يعقوب النبي (عليه السلام) مع قرب المسافة بينه وبين أبيه وأهله وشيعته، ومن موسى (عليه السلام) خفاء الولادة، ومن عيسى (عليه السلام) اختلاف الناس فيه، ومن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) السيف(23) والخلق العظيم.
وهذه الطريقة في وصف الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) إلى جانب إسهامها في إبراز صفات الإمام بطريقة أبلغ، فإنها تسهم في تثبيت فكرة مفادها أن الإمام (عليه السلام) قد أحرز كل صفات الأنبياء واجتاز كل الابتلاءات التي تعرضوا لها في عوالمهم التي بعثوا إليها بما يجعله حقيقاً بقيادة العالم بأسره وإقامة دولة العدل الإلهي فيه. كما أنها تشير إلى الغاية من بعث الرسل وهي ترسيخ رسالة التوحيد وتمحيص أممهم بالابتلاءات لتصل البشرية إلى النضج الذي سيمكنها من العيش في دولة الحق.
وتكثر الأحاديث من تشبيه الإمام الحجة بالإمام علي (عليهما السلام): «إذا قام قائمنا لبس ثياب علي (عليه السلام) وسار بسيرة علي (عليه السلام)»، ولعل هذا هو المراد من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لأبي عبد الله الجدلي: «ألا أخبرك بأنف المهدي (عليه السلام) وعينه» قال: قلت: نعم، فضرب بيده إلى صدره، فقال: «أنا»(24)، فالأنف بمعنى السيد والمقتدى في الأمور أي يكون بمعنى ذات الشيء، فيكون هذا الكلام كناية عن أن المهدي يسير بسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في أفعاله فهو أنفه أي مقتداه في أفعاله وعينه أي كأنه هو في زهده وعبادته وسيرته وشجاعته وسائر خصائصه(25)، وفي ذلك تأكيد لوحدة الهدف الذي جاءت من أجله الرسالة، المحمدية، وإن الأمة لو التزمت نهج علي (عليه السلام) لوفرت على نفسها تيهاً دفعت ثمنه أجيال من البشرية وليس المسلمون فحسب.
ويجمع أحاديث تشبيهه بالأنبياء (عليهم السلام) ومن ثم بجده أمير المؤمنين قوله (عليه السلام): «كنت مع كل نبي بعثه الله باطناً ومع رسول الله ظاهراً». يعني شباهته بالأنبياء (عليهم السلام) على جلائها تعني ضمناً شباهته بعلي (عليه السلام) أخفاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) من بعده حفاظاً على الأحاديث وضماناً لانتشارها في عصر حظر فيه الولاة أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فجمعوها وأحرقوها. ولكي لا يصنع القوم سقيفة ثانية يسلبوا بها الحق من أهله.
وتنحو كثير من الأحاديث سبيل الكناية في بيانها للأحداث التي تمر بها الأمة قبيل ظهور الإمام (عجّل الله فرجه)، فعن أبي جعفر (عليه السلام)، عندما قيل له إنهم يقولون إن المهدي لو قام لاستقامت له الأمور عفواً ولا يهرقن محجمة دم، فقال: «كلا والذي نفسي بيده لو استقامت لاستقامت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين أدميت رباعيته وشج في وجهه، كلا والذي نفسي بيده، حتّى نمسح نحن وأنتم العرق والعلق ثم مسح (عليه السلام) جبهته»(26)، والعلق الذي هو الدم الجامد والعرق ما تنضحه الجبهة كناية عن شدة الفتن التي تقع فيها الأمة، ووجوب تقديم التضحيات في مقارعة الظلم ونهى عن التكاسل في انتظار فرجه فلن تستقيم له الأمور عفواً.
فهذه العبارة الموجزة حملت للأُمّة معاني عميقة على طريق إعدادها للمواجهة الحاسمة مع الإمام المهدي (عليه السلام) ضد صروح الظلم التي تكون في ساعة ظهوره في أعتى حالاتها.
وفي قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لبعث الله رجلاً اسمه اسمي وخلقه خلقي»(27) قيل عبارة (خلقه خلقي) من أحسن الكنايات عن انتقام المهدي (عجّل الله فرجه) من الكفار لدين الله تعالى، كما كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ورُدّ هذا القول بقوله تعالى في وصف رسوله الكريم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4) فليس من الصحيح قصره على الانتقام فقط فالحديث عام في جميع أخلاق النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من كرمه وشرفه وعلمه وحلمه وشجاعته وغير ذلك(28).
ووصفت الأحاديث الشريفة علم الإمام (عجّل الله فرجه) بالقول: «ألا إنه الغراف من بحر عميق»(29). الغراف: (صيغة مبالغة على وزن فعال) والبحر كناية عن العلم والدين وهو يغترف من ذاك البحر العميق الذي تتلاطم فيه لجج تؤدي بمن لا يجد من ينقذه منها إلى الغرق لا محالة، وبالتواصل مع الرمز الذي تواترت الأحاديث فيه على تشبيه أهل البيت (عليهم السلام) بسفن النجاة، لأن الرمز له وحدة متكاملة في الحضارة التي تبدعه والسفينة الأسرع والأكبر والأقوى في الأحاديث الشريفة هي رمز الإمام الحسين (عليه السلام) لأنه أعاد الدين إلى نصابه، ولابد بمن يغترف من وقوف على يابس ليتمكن من الاغتراف المطمئن الذي أوحى به الحديث الشريف، فيكون الإمام الحجة (عليه السلام) واقفاً مطمئناً في سفينة الحسين (عليه السلام) مغترفاً من الدين والعلم ما يشاء حاملاً معه الدنيا التي انقادت لدولته إلى شواطئ الأمان.
ويتكرر وصف صاحب الأمر بالشمس التي يغيبها السحاب، فقد سُئل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن كيفية الانتفاع بالإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته فقال: «إي والذي بعثني بالنبوّة، إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته، كانتفاع الناس بالشمس إذا جلّلها السحاب»(30). ويقول الحجة (عليه السلام) في أحد توقيعاته: «وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيَّبها عن الأبصار سحاب»(31).
وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرضُ بِنُورِ رَبِّها﴾ (الزمر: 69)، حدثنا محمد بن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثني القاسم بن الربيع قال: حدثني صباح المدائني قال: حدثنا المفضل بن عمر أنه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قوله ﴿وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ (الزمر: 69): «رب الأرض يعني إمام الأرض»، فقلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: «إذن يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزؤون بنور الإمام»(32).
النساء وجدلية الإخفاء:
1 - اختيار الزوجة وأثره في إخفاء ولادة الحجة (عليه السلام):
لقد بدأ الإمام الحسن (عليه السلام) بكتمان ولادة الحجة بأن تزوج من امرأة غريبة (أَمَة) اشتراها له أبوه من سوق النخاسين، عن الصادق (عليه السلام) «ابن سيدة الإماء»(33) فالأئمة (عليهم السلام) كانوا يؤكدون هذه الصفة في والدة الإمام الحجة (عليه السلام)، وقصة شرائها وزواجها من أعاجيب هذا الإمام(34)، وما نفيده من كونها أَمَة وغريبة أنه ليس لها أقارب تتزاور معهم ويعرفون من أحوالها ما لا يمكن إخفاؤه.
2 - اتخاذ والدة الإمام الحجة (عليه السلام) أسماءً متعددة:
سجلت لنا المصادر أن والدة الحجة كانت تتسمى بعدة أسماء، فهي ريحانة وسوسن وصقيل ونرجس(35) ويذكر السيد محمد محمد صادق الصدر أن السبب في ذلك هو إمعان (في الحذر وزيادة في التوقي عليها وعلى ابنها ولأجل أن يختلط في أذهان السلطان أن صاحبة أي من هذه الأسماء هي المسجونة وأي منها هي الحامل وأي منها هي الوالدة وهكذا... حيث يكون المفهوم لدى السلطان كون الأسماء لنساء كثيرات ويغفلون عن احتمال تعددها في شخص امرأة واحدة)(36).
3 - تولي عمة الإمام العسكري (عليه السلام) (حكيمة) ولادة الحجة (عجّل الله فرجه):
إن والدة الإمام الحجة عندما حملت به لم يعلم أحد أنها حامل به فمثلها مثل أم موسى (عليهما السلام)، فلم تظهر عليها علامات الحمل إلى وقت ولادتها كي لا يقتله فرعون زمانه(37) هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن عدم وجود القابلة سيضمن سرية الولادة وزيادة في إخفاء ولادته (عليه السلام) فضلاً عن أن وقت الولادة كان قبيل الفجر وهو وقت تنام فيه أعين الرقباء وتسهد أعين المتهجدين بالأسحار، ولعل القسم القرآني بالفجر جاء لأنه وقت ولادة المخلص وصاحب الغاية من التخطيط الإلهي للبشرية والغاية من خلق البشر وهو بالتالي قسم بشخصه لأنه أساس الدين(38).
لقد كانت السيدة حكيمة (رضوان الله عليها) شاهد عيان على ولادة الحجة، فكانت روايتها للواقعة مصدراً موثوقاً، ويستطيع المرء تخيل دورها في مساندة السيدة نرجس (عليها السلام) ومساعدتها على كتمان الولادة وتسليتها في وحدتها وإعانتها على ما ستلاقيه من مصاعب بعد وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
4 - إسهام والدة الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) في تضليل السلطة:
حين مات الإمام العسكري (عليه السلام) لم يكن معلوماً لدى السلطة العباسية حينها أن الإمام الحجة (عليه السلام) قد وُلد فظنوا أن إحدى زوجات الإمام ما تزال حاملاً به، فهجموا على الدار وروَّعوا النساء بحثاً عنها فما كان من أُم الإمام - صقيل - إلّا أن تقدمت وقالت إنها حامل لتغطي على الإمام، فسُلّمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبَغَتهم موت عبيد الله بن خاقان فجأة وخروج صاحب الزنج بالبصرة فشغلوا بذلك عن الجارية فخرجت من أيديهم(39).
وأخيراً لابد لنا من القول إن السعي الحثيث للإمامين العسكريين (عليهما السلام) لإخفاء ولادة الحجة (عليه السلام) حفظاً لحياة الوليد من الإبادة العباسية جعلت ذلك الخفاء إحدى العلائم المهمة التي نكتشف من خلالها زيف مدعي المهدوية الذين يزخر بهم التاريخ الإسلامي إذ لم تنطبق على أي منهم هذه العلامة لأنه لم تُحَطْ ولادة أي منهم بالخفاء كما هو الحال في ولادة القائم من آل محمد (عليهم السلام)(40).
جدلية الإظهار:
1 - إظهار ولادته (عجّل الله فرجه):
في الوقت الذي اجتهد الإمام العسكري (عليه السلام) في إخفاء ولادة ابنه صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه) هو أظهره خفية عن السلطة، وذلك بأن تعمد أن يعق عن ابنه ويوسع في ذلك فقد طلب من أحد أتباعه أن يعق عنه بثلاثمائة شاة(41)، وهو أمر له عدة أبعاد، فهو يشير بجلاء إلى حصول نعمة عظيمة في بيت الإمام (عليه السلام)، فهو إلفات للنظر ولكن من طرف خفي؛ ولنا أن نتساءل عن فعل الإمام (عليه السلام) الذي هو مراقب من السلطة العباسية مراقبة دقيقة تحصي عليه الأنفاس كانت ستعرف ما لو ذبح شاة واحدة فكيف بثلاثمائة شاة؟!
ونرى ذلك من أمر الإمام العسكري (عليه السلام) لعثمان بن سعيد أن يشتري كذا ألف من الرطل لحماً وما شاكل ويوزعه على الفقراء(42). ونوّع الإمام (عليه السلام) الأماكن التي يعق فيها عن ولده وعددها، فقد كتب الإمام (عليه السلام) إلى خواصه في قم وفي بغداد وسامراء أن يعقوا عن ولده ويخبروا الناس بأن هذه العقيقة هي بمناسبة ولادة مولود للإمام العسكري (عليه السلام). إن كل هذه الإجراءات كانت لتخبر الناس الموالين وتعلمهم بحقيقة ولادة منقد البشرية الموعود.
ومن أجل إشاعة خبر ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) اجتهد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في تعريف الخاصة بولادته بطرائق عدة منها أنه كتب إلى أحمد بن إسحاق قائلاً: «ولد لنا مولود، فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فإننا لم نظهر عليه إلّا الأقرب لقرابته، والولي لولايته، أحببنا إعلامك ليسرك الله به كما سرنا، والسلام»(43).
وفي مناسبة أخرى دخل أحمد بن إسحاق على الإمام العسكري (عليه السلام) فابتدره: «يا أحمد بن إسحاق، إن الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق الله أدم، ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة، من حجة الله على خلقه، به يرفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض»، فقلت: يا بن رسول الله، فمن الخليفة والإمام بعدك؟ نهض مسرعاً، فدخل البيت، ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأن وجهه القمر ليلة البدر من أبناء ثلاث سنين، فقال: «يا أحمد لولا كرامتك على الله (عزَّ وجلَّ) وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا...»(44).
روي الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسنده عن يعقوب بن منقوش إنه قال: ذهبت يوماً إلى الإمام العسكري (عليه السلام) في داره فرأيته (عليه السلام) جالساً على دكة في الدار وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل فقلت للإمام (عليه السلام): يا سيدي من صاحب هذا الأمر بعدك؟
فقال الإمام العسكري (عليه السلام): «ارفع الستر»، فرفعته فخرج إليه غلام خماسي بل المعنى أن عمره خمس سنوات. الإمام (عجّل الله فرجه) آنذاك ابن خمس سنوات ولكن قامته رشيدة، واضح الجبين أبيض الوجه، دري المقلتين، شثن الكفين معطوف الركبتين، في خده الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ الإمام العسكري (عليه السلام) ثم قال الإمام العسكري (عليه السلام): «هذا صاحبكم بعدي» (يعني الإمام والحجة).
ثم وثب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فقال الإمام العسكري (عليه السلام): «يا بني ادخل إلى الوقت المعلوم»، ثم قال الإمام العسكري (عليه السلام): «يا يعقوب أنظر من في البيت»، فدخلت فما رأيت أحداً(45).
وعن أبي غانم الخادم قال: ولد لأبي محمد (عليه السلام) ولد فسماه محمداً، فعرضه على أصحابه يوم الثالث، وقال: «هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تمتد إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً»(46).
حدثنا محمد بن علي ماجيلويه (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار قال: حدثني جعفر بن محمد بن مالك الفزاري قال: حدثني معاوية بن حكيم ومحمد بن أيوب بن نوح ومحمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) قالوا: عرض علينا أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) ونحن في منزله وكنا أربعين رجلاً فقال: «هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا»! قالوا فخرجنا من عنده فما مضت إلّا أيام قلائل حتّى مضى أبو محمد (عليه السلام)(47).
ونلاحظ أن أربعين رجلاً ليس بالعدد القليل وفيه إفشاء كثير على غير عادة الإمام العسكري (عليه السلام) لكن ذيل الحديث يوضح ذلك إذ أن الإمام (عليه السلام) مات بعدها بأيام فلم يتسن للرجال الأربعين نشره لدرجة تبلغ مسامع السلطة الحاكمة.
وكثيرة هي الأحاديث التي نوهت بولادة المهدي (عليه السلام) من غير ما ذكرنا وكان ذلك أمراً متعمداً من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لتعريف الخاصة من الشيعة بولادة إمامهم الثاني عشر (عليه السلام) فقد عرضه الإمام العسكري (عليه السلام) على أربعين من شيعته من خلص أصحابه كما تقدمت الرواية وكان يعرضه بين الحين والآخر على بعض أصحابه فرادى، وذلك كله لجعل الشيعة على يقين من وجوده الشريف، وقد صرح الشيخ المفيد بأن الإمام العسكري (عليه السلام) بجهوده وإجراءاته استطاع أن يجعل ولادة ابنه الحجة (عجّل الله فرجه) ثابتة تاريخياً بأقوى ما تثبت به ولادة إنسان(48).
2 - إثبات إمامته وعلمه (عجّل الله فرجه):
وقع على الإمام العسكري (عليه السلام) واجب إثبات إمامة ولده لأن كون الإمام العسكري (عليه السلام) قد وُلِد له وَلَد لا يعني بالضرورة أنه الإمام المنتظر (عليه السلام)، وفي ظل المصاعب التي أحاطت به من تهديدات السلطة العباسية ومراقبتها الدقيقة لتحركاته حرص الإمام العسكري (عليه السلام) على إثبات إمامة ولده، وقد أكدت روايات أهل البيت (عليهم السلام) ذلك، فقد قال العسكري (عليه السلام) في لمة من أصحابه عندما سألوه عن الحجة من بعده «هذا صاحبكم بعدي وخليفتي عليكم وهو القائم الذي تمتد له الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً»(49).
وقد سأل أحمد بن إسحاق الإمام العسكري (عليه السلام) قائلاً: يا مولاي فهل من علامة يطمئن إليها قلبي؟ فنطق الغلام بلسان عربي فصيح، فقال: «يا أحمد بن إسحاق أنا بقية الله في أرضه والمنتقم من أعدائه فلا تطلب أثراً بعد عين» فقال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فَرِحاً(50).
وقد عرضه على بعض أصحابه بعد ثلاثة أيام من ولادته قائلاً: «هذا صاحبكم من بعدي»(51).
وقد جاء وفد من الموالين لآل البيت (عليهم السلام) إلى سامراء، وحضروا بيت الإمام العسكري (عليه السلام) ليسألوه عن الحجة من بعده وفي مجلسه أربعون رجلاً فقام إليه عثمان بن سعيد بن عمرو العمري، فقال: يا بن رسول الله أريد أن أسألك عن أمر أنت أعلم به مني، فقال (عليه السلام): «... أخبركم بما جئتم»؟ قالوا نعم يا بن رسول الله، قال: «جئتم تسألوني عن الحجة من بعدي»، قالوا: نعم، فإذا بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كأنه قطعة قمر أشبه الناس بأبي محمد (عليه السلام)، فقال العسكري (عليه السلام): «هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم ألا وإنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتّى يتم له عمر، فاقبلوا من عثمان ما يقوله، وانتهوا إلى أمره وأقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه»(52).
وهذه الرواية مهمة كونها تشتمل على نص صرَّح بإمامة المهدي (عجّل الله فرجه) بعد والده الحسن العسكري (عليه السلام) وتعريف الأمة بوكالة عثمان بن سعيد للمهدي (عجّل الله فرجه) ونيابته له فكان إعداداً مسبقاً للغيبة.
وقد ذكرت بعض كتب المذاهب الإسلامية الأخرى ولادة الحجة (عليه السلام) وأكدت له الحكمة وفصل الخطاب على الرغم من صغر سِنِّه، قال ابن حجر الهيثمّي الشافعي في ذيل ترجمته للإمام الحسن العسكري (عليه السلام): (ولم يخلّف الإمام العسكري (عليه السلام) غير ولده أبي القاسم محمد الحجّة (عليه السلام)، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة)(53).
وقال الشيخ عبد الرحمن الجامي الحنفي في مرآة الأسرار، في ترجمة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه): (وكان عمره عند وفاة والده الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) خمس سنين، وجلس على مسند الإمامة، وكما أعطى الحق تعالى يحيى بن زكريا الحكمة والكرامة في حال الطفولية، وأوصل عيسى بن مريم (عليه السلام) إلى المرتبة العالية في زمن الصبا، كذلك هو في صغر السنّ، جعله الله إماماً، وخوارق العادات الظاهرة له ليست قليلة بحيث يسعها هذا المختصر)(54).
الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) وجدلية إخفاء أمره وإظهاره:
قبل وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) كان قد أعد الأمة وهيأها لتقبل فكرة غياب الإمام (عليه السلام) عن قواعده وعلى الرغم من قصر المدة التي عاشها الإمام العسكري (عليه السلام) استطاع أن يؤهل الأمة للتعامل مع الإمام الغائب ولاسيما أن فكرة غيبة الإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) كانت معروفة من خلال أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ورواياتهم التي عرضنا لبعضها في بداية البحث.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان آخر الأئمة - الهادي والعسكري (عليهما السلام)- قد عودوا الأمة على إيراد أسئلتهم مكتوبة ليجيب عنها الإمام. كما كانوا لا يخرجون لشيعتهم كثيرا وإنما يوصلون تعاليمهم إليهم من خلال الوكلاء.
كان أول ظهور للإمام الحجة بعد وفاة والده الحسن العسكري (عليه السلام) هي عند الصلاة على جنازته، جاء في حديث أبي الأديان: (لما صرنا في الدار إذ نحن بالحسن بن علي (صلوات الله عليه) على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلّي على أخيه، فلما همَّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجذب رداء جعفر بن علي وقال: «تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي»، فتأخر جعفر وقد أربد وجهه واصفر)(55).
وكان الإمام (عجّل الله فرجه) يتخذ سبيل التستر في الاتصال بمواليه فقد اختار سفراء أربعة في عهد الغيبة الصغرى هم عثمان بن سعيد العمري ومن بعده محمد بن عثمان بن سعيد العمري ثم الحسين بن روح النوبختي وأخيراً الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري الذي انقطعت السفارة بعده ووقعت الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فيكون المرجع في الدين والشرائع هم العلماء والفقهاء بأمر الإمام (عليه السلام) فإن النيابة ثابتة لهم على سبيل العموم، كما ورد في التوقيع الشريف لمسائل إسحاق بن يعقوب حيث قال (عجّل الله فرجه): «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم»(56)، وفي رواية أخرى: «مجاري الأمور بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه»(57).
الخاتمة:
لقد عاش الإمامان الهادي والعسكري (عليهما السلام) حياة تختلف عن حياة سائر أئمة الهدى (عليهم السلام) وذلك بسبب تشديد المراقبة والتضييق من السلطة العباسية التي لمست اتساع المد الشيعي حتّى بين جملة من أمرائها وقادتها، وعلى الرغم من ذلك استطاع الإمامان العسكريان (عليهما السلام) وفقاً لمعطيات الظروف المحيطة بهما أن يستثمرا تلك الظروف لإخفاء الولادة المباركة للحجة (عجّل الله فرجه) وفي الوقت نفسه إشاعتها بين الناس ليعرفوا إمامهم ويعلموهم كيفية التواصل معه في حال غيبته عنهم. وهذا ما جعلهم يتبنون طريقة جديدة في الاتصال مع قواعدهم الشعبية أسهمت بنجاح في تحقيق هدف حماية المولود عن طريق بث الأحاديث التي لا تصرح باسمه وتتكئ عليه والتلويح في الإشارة إليه وإلى صفاته وخصاله وأحواله وكل ما يتصل به وبعصره المبارك، فضلاً عن ذلك نجد أن للنساء اللائي كن حول الإمامين (عليهما السلام) مهمة في إخفاء الحجة وحمايته من الأعداء الذين جدوا في طلبه قبل أن يولد وبعد أن وُلِد.
وكان حرص الإخفاء مقروناً بضرورة اطلاع خواص الشيعة على ولادة من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً، وإثبات إمامته وعلمه وفضله لهم، فكان لابد أن يكون هذا الإعلان بشكل خفي عن السلطة جلي لمن يراد أن تصل إليه أخباره من خواص الشيعة الذين حرصوا على معرفة ولي الأمر بعد العسكري (عليه السلام) إذ نرى لهفة وفودهم التي كانت تلتقي سرّاً بالإمام على تحصيل تلك المعرفة والتأكد من حصولها، ولابد أن هذا الحرص لدى خواص الشيعة تأتّى من الدراية المسبقة بأن للإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) خصائص في الولادة وغيبة تطول وفيها تحيط بالشيعة الفتن ويقعون في اللأواء، وقد كانت الأحاديث الشريفة تبشر بها منذ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن بعده الأئمة (عليهم السلام).
الهوامش:
(1) صحيح البخاري: 4/ 175 (كتاب الأحكام)، صحيح الترمذي: 2/ 45 (باب ما جاء في الخلفاء)، صحيح مسلم (كتاب الإمارة): 2/191.
(2) المستدرك على الصحيحين: 4/ 557، منتخب الأثر: 148ح 19.
(3) منتخب الأثر: 162ح63.
(4) المصدر نفسه: 149ح19، 150 ح26، 169ح80.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه 58ح2.
(8) المصدر نفسه: 82ح4.
(9) المصدر نفسه: 199ح3.
(10) المصدر نفسه: 162ح64.
(11) دلائل الإمامة: 240، منتخب الأثر: 198ح2.
(12) كفاية الأثر: 248، منتخب الأثر: 123ح34.
(13) إكمال الدين: 345، منتخب الأثر: 239ح4.
(14) كفاية الأثر: 265، منتخب الأثر: 219ح3.
(15) المصدر نفسه: 77.
(16) المصدر نفسه: 127.
(17) ينظر: المصدر نفسه: 76 (أحداث بلاد الشام قبل خروج السفياني) التي يقول عنها الشيخ الكوراني: (يصعب استخراج الأحداث التي تكون قبل السفياني لأن الأحاديث حولها موجزة في الغالب، وفي رواياتها تقديم وتأخير في ترتيب الأحداث).
(18) المعجم الكبير للطبراني: 10/137؛ مكيال المكارم: 1/83.
(19) بحار الأنوار: 51/39ح19، مكيال المكارم: 1/83.
(20) إكمال الدين: 1/338؛ مكيال المكارم: 1/65.
(21) بحار الأنوار 51/33.
(22) المصدر نفسه: 51/35.
(23) ينظر مكيال المكارم: 1/ 154- 209.
(24) بحار الأنوار 39/243.
(25) ينظر: مكيال المكارم: 1/96.
(26) غاية المرام: 3/17.
(27) بحار الأنوار: 52/358، مكيال المكارم 1/97.
(28) بحار الأنوار: 51/103.
(29) ينظر مكيال المكارم: 1/83.
(30) بحار الأنوار 37/ 213.
(31) بحار الأنوار: 52/92.
(32) بحث مسحوب من النت.
(33) تفسير القمي: 2/253.
(34) موسوعة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)/ تاريخ الغيبة الصغرى: 242.
(35) موسوعة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)/ تاريخ الغيبة الصغرى: 243.
(36) ينظر: إكمال الدين: 2/ 426، أعلام الهداية (الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه)): 113.
(37) ينظر: الغيبة للشيخ الطوسي: 235، أعلام الهداية (الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه)).
(38) ينظر إكمال الدين: 475- 476 الجارية صقيل.
(39) ينظر: أعلام الهداية (الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه)): 114.
(40) إكمال الدين: 6/431.
(41) بحار الأنوار: 51/26،52/23.
(42) إكمال الدين: 6/431، إعلام الورى: 412، منتخب الأثر: 228.
(43) إكمال الدين: 6/430.
(44) بحار الأنوار: 51/16.
(45) إكمال الدين: 2: 435.
(46) الكافي 1/329.
(47) ينظر: بحار الأنوار: 52/123.
(48) إكمال الدين: 2/435.
(49) ينظر: أعلام الهداية (الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه)): 122.
(50) الكافي: 1/329.
(51) إكمال الدين: 2 /384.
(52) الكافي: 1/329.
(53) بحار الأنوار: 51/16.
(54) الصواعق المحرقة/ ابن حجر الهيثمي: 207.
(55) أعيان الشيعة: 2/69.
(56) النجم الثاقب في أحوال المهدي الغائب (عجّل الله فرجه): 2/ 7.
(57) تحف العقول: 238.